قاعدة لا ضرر و لا ضرار

هوية الكتاب

هوية الكتاب:قاعدة لا ضرر و لا ضرار

المؤلف: مسلم الداوري

تحقيق: مؤسّسة الإمام الرّضا (علیه السلام) للبحث والتحقيق العلمي

الناشر: دار الأنصار

صفّ الحروف والإخراج الفنّي: مؤسّسة الإمام الرّضا (علیه السلام) - أبو حسن السماوي

الكمّية: 2000 نسخة

الطبعة: الأولى - 1429 ه- / 2008 م

عدد الصفحات والقطع: 323 صفحة - وزيري

المطبعة: سيد الشهداء

محرر رقمي:محمد المنصوري

ص: 1

اشارة

ص: 2

عکس

ص: 3

ص: 4

كلمة المؤسسة

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي جعل الحمد ثمناً لنعمائه، ومعاذاً من بلائه، والصلاة والسلام على رسوله النبي المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله الهداة المهديين، مصابيح الظلم، وعصم الأمم، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، الذين بهم ظهر الفساد في الأرض وعم.

غير خفيٍّ أنّ المتكفّل لما يتعلّق بالعمل من الأحكام هو علم الفقه، والمتكفّل لتنقيح مبانيه هو علم الأصول، فلابدّ للفقيه من البحث عنه، إمّا في مقدّمة الفقه كما كان عليه دأب الفقهاء قبل زمان الشيخ الطوسي، وإمّا مستقلاًّ كما هو المتعارف في زماننا، وليس ذلك بدعة كما توهّم.

وأوّل مَن فتح باب هذا العلم وفتق مسائله الإمامان محمد الباقر وجعفر الصادق (علیهما السلام)، فقد أمليا على جماعة منهم هشام بن الحكم الكوفي حيث صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها، ثمّ أتى بعده يونس بن عبد الرحمن ومحمد بن أبي عمير بكتابيهما (اختلاف الحديث)(1)،

والفضل بن شاذان بكتابه (رسالة في

ص: 5


1- فهرست الشيخ الطوسي:181؛ رجال النجاشي: 162

اجتماع الأمر والنهي)(1)،

وغيرهم من المصنّفين من الأصحاب إلى زمان الغيبة الصغرى، وأمّا في زمن الغيبة الكبرى فقد زاد الاهتمام بهذا العلم أكثر، وذلك قبل زمان الشيخ المفيد!؛ حيث قاموا بتأليف كتب أصولية قيّمة، منها أصول الفقه للشيخ المفيد(قدس سره)، والعدّة في أصول الفقه للشيخ الطوسي(رحمه الله)، وغيرهم من علماء الإمامية، واستمرّ الأمر إلى يومنا هذا.

وكان محمد بن إدريس الشافعي - المتوفّي سنة (204 ﻫ) - أوّل مَن صنّف في هذا العلم من علماء مدرسة أبناء العامّة.

وكلّما بعدنا عن عصر النصّ واختلطت الأمور وتداخلت المسائل وزاد الابتلاء بالمسائل المستحدثة كانت الحاجة إلى إعمال قواعد قد رسمها الأئمّة(علیهم السلام) لاستخراج الفروع منها أكثر، فهي أشبه بالدليل والميزان في معرفة الأحكام.

وعلم أصول الفقه هو علم الاستنباط أو منطق الفقه كما يع-بّر عنه بعض العلماء، وقد بلغ هذا العلم في المدرسة الإمامية - عبر القرون العديدة التي مرّ بها - غاية الرقيّ والتطوّر، وقد شهد القرن الأخير للمدرسة الأصولية نضجاً فذّاً وآراء ونظريات أصولية عملاقة برهنت على عبقرية العقل الأصولي في المدرسة الإمامية.

ومن جملة العلماء والمحقّقين الذين كان لهم الدور البارز في خدمة هذه

ص: 6


1- معجم رجال الحديث 13: 291

المدرسة الأصولية هو سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي!، والذي تزعّم الحوزة العلمية في النجف الأشرف قرابة نصف قرن، وكان من أبرز أساتذتها، وقد تخرّج على يده المئات من العلماء والمجتهدين، وبرز من بين فضلاء درسه نخبة من الأعلام الذين انتهلوا من معين علمه، منهم الأستاذ سماحة الفقيه المحقّق آية الله الشيخ مسلم الداوري دام ظلّه، الذي له السبق في تدريسه لعدّة دورات أصولية كاملة وقيّمة، وهي في طور التحرير - كما توجد لسماحته - حفظه الله - بحوث فقهية ورجالية وتفسيرية، بعضٌ منها مطبوع والآخر في حال الطبع - فإنّه حفظه الله قد سار على نهج أستاذه! في التعمّق في تلك الأبحاث.

والكتاب الماثل بين يديك - عزيزي الطالب - مستلٌّ من تلك الأبحاث الأصولية، وهي قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» التي هي من أشهر القواعد الفقهية التي يستدل بها في كثير من أبواب الفقه في العبادات والمعاملات، وبما أنّ مفادها نفي الحكم الضرري فتكون هي المدرك الوحيد لكثيرٍ من المسائل، ولذلك يترتّب على هذه القاعدة آثار وفروع فقهية مهمّة.

والجدير بالذكر أنّ قاعدة «نفي الضرر» كغيرها من القواعد الحاكمة الأخرى - مثل «نفي الحرج» بشمولها لأبواب الفقه - تعتبر من المصاديق البارزة؛ لكون شريعة الإسلام شريعة سهلة سمحة كما ثبت وأشار إلى ذلك الكتاب والسنّة الشريفة، وقد أصبحت هذه القاعدة مورداً لاهتمام علمائنا الإمامية لا سيّما في العصر الأخير، حيث تطرّق لها الشيخ الأنصاري! واهتمّ

ص: 7

بها وجعلها في كتاب رسائله، فانتظمت في سلك علم الأصول، وقد زاد الفقهاء المتأخّرون البحث حولها.

وممّن بحث حول هذه القاعدة في ضمن دورته الأصولية سماحةُ الشيخ الأستاذ حفظه الله تعالى، حيث ألقاها على ثلّة من الأفاضل وجملة من روّاد العلم وطلاّب الحوزة العلمية في قم المقدّسة، وقد حُرّرت هذه الأبحاث في كتاب يقع في مجلّد واحد سطّره يراع العلاّمة المحقّق حجّة الإسلام الشيخ عبد الشهيد الحوري.

وفي الختام لا يسعنا إلاّ أن نشكر الإخوة الذين بذلوا جهداً كبيراً في تحقيق الكتاب ومراجعته وإخراجه بهذه الصورة البهيّة، منهم المحقّقان حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ مرتضى الصالحي النجفي، وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ عبد المجيد عيسى، والأخ كمال زين العابدين الذي قام بالإخراج الفني.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يديم لنا بقاء سماحة آية الله الشيخ الأستاذ في خير وعافية، وينفعنا بعلمه تحت رعاية سيدنا ومولانا الحجّة بن الحسن العسكري «صلوات الله عليه وعلى آبائه، وعجل الله تعالى فرجه الشريف»، إنّه سميع مجيب.

قم المقدّسة 25 جمادى الأولى1440ه-

ص: 8

يدور بحثنا حول هذه القاعدة

ضمن مقامات خمسة

· الأوّل: مدرك القاعدة.

· الثاني: سند الأحاديث.

· الثالث: تحديد متن الأحاديث.

· الرابع: مفاد الأحاديث.

· الخامس: تنبيهات القاعدة.

ص: 9

المقام الأول: مدرك القاعدة

اشارة

لقد استدلّ على قاعدة «لا ضرر» بالأدلّة الأربعة: الكتاب الكريم(1)، والسنّة الشريفة، والإجماع، والعقل، إلاّ أنّ الأعلام من العلماء اقتصروا في بيان الدليل على هذه القاعدة بالتمسّك بالسنّة الشريفة؛ حيث إنّها تمثّل عمدة الأدلّة وأهمّها، فلذا أصبحت مثاراً للجدل والبحث من عدّة جهات كما سيتّضح ذلك من خلال الحديث في المقامات.

وقد وردت هذه الروايات ضمن عنواني «الضرر» و«الضرار»، وهي كثيرة جدّاً، تنقسم إلى ثلاثين طائفة تقريباً، إلاّ أنّ أكثرها - وهي أربعة وعشرون طائفة - قد وردت في موارد خاصّة، وأمّا الواردة بنحو الإطلاق - والتي يمكن استفادة قاعدة كلّية منها - فهي تنحصر في ستّ طوائف:

الطائفة الأولى: النصوص الواردة في قضية سمرة بن جندب وقد رويت ألفاظها بثلاثة أنحاء:

ص: 10


1- يمكن الاستدلال بجملة من الآيات، منها: قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (البقرة: 231)

الأوّل: ما رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق(1) في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان، وكان يمرُّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاريُّ أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصاريُّ إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وخبّره بقول الأنصاريّ وما شكا، وقال: إن أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدُّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) للأنصاريّ: اذهب فاقلعها وارم بها إليه؛ فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(2).

ورواه الشيخ الصدوق بإسناده عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) نحوه، كما رواه الشيخ أيضاً بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد مثله(3).

الثاني: ما رواه الشيخ الصدوق(رحمه الله) في الفقيه بإسناده عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «إنَّ سمرة بن جندب كان له عذق في

ص: 11


1- العذق بالفتح: النخلة بحملها. (الصحاح: 684، مادّة «عذق»)
2- الكافي 5: 292، ح 2
3- تهذيب الأحكام 7: 174، ح 36

حائط رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري فيه الطريق إلى الحائط، فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن، فقال: إنّك تجيء وتدخل ونحن في حال نكره أن ترانا عليه، فإذا جئت فاستأذن حتّى نتحرَّز ثمَّ نأذن لك وتدخل، قال: لا أفعل، هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن، فأتى الأنصاريُّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فشكى إليه وأخبره، فبعث إلى سمرة، فجاءه، فقال له: استأذن عليه، فأبى، وقال له مثل ما قال للأنصاريِّ، فعرض عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أن يشتري منه بالثمن، فأبى عليه، وجعل يزيده فيأبى أن يبيع، فلمّا رأى ذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال له: لك عذق في الجنّة، فأبى أن يقبل ذلك، فأمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) الأنصاريَّ أن يقلع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(1).

الثالث: ما رواه الكليني، عن علي بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «إنَّ سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاريّ، فقال له الأنصاريُّ: يا سمرة، لا تزال تفاجئنا على حال لا نحبّ أن تفاجئنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن، فقال: لا أستأذن في طريقي، وهو طريقي إلى عذقي، قال: فشكا الأنصاريُّ إلى رسول

ص: 12


1- من لا يحضره الفقيه 3: 233، ح 18

الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فأرسل إليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فأتاه، فقال له: إنَّ فلاناً قد شكاك وزعم أنّك تمرُّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله، أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): خلّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك اثنان، قال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق، فقال: لا، قال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا، فأبى، فقال: خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنّة، قال: لا أريد، فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): إنّك رجلّ مضارُّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثمَّ أمر بها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فقلعت ثمّ رمى بها إليه، وقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): انطلق فاغرسها حيث شئت»(1).

الطائفة الثانية: النصوص الواردة في باب الشفعة:

منها: ما رواه الكليني(رحمه الله) عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا رفّت(2) الأرف وحُدَّت الحدود فلا

ص: 13


1- الكافي 5: 294، ح 8
2- الأرفة - بالضم - : الحدّ بين الأرضين. قال الفيروزآبادي: الأرفة - بالضم - الحدّ بين الأرضين، جمع، كغرف، وأرّف على الأرض تأريفاً: إذا جعلت لها حدود وقسمت. القاموس المحيط3: 116، مادة: أرف

شفعة»(1).

ومنها: ما رواه في فقه الإمام الرضا(علیه السلام)، أنّه قال(علیه السلام): «اعلم أنّ الشفعة واجبة في الشركة المشاعة وفي المجاز المقسوم وفي المجاورة والشرب الجامع وفي الأرحية(2) وفي الحمّامات، ولا شفعة ليهودي ولا نصراني ولا مخالف، ولا شفعة في سفينة ولا طريق يجمع المسلمين، ولا حيوان، ولا ضرر في شفعة ولا ضرار، والشفعة على البائع والمشتري...»(3).

الطائفة الثالثة: ما ورد في منع فضل الماء:

منها: ما رواه الكليني(رحمه الله) عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع(4) الشيء، وقضى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع

ص: 14


1- الكافي 5: 280، ح 4
2- الأرحية: جمع رحى. قال الفيّومي: الرحى - مقصور - : الطاحون، والجمع «أرح» و «أرحاء». المصباح المنير1: 323، مادة: رحی
3- فقه الرضا(علیه السلام): 188
4- في الوافي والبحار: «نقع» . قال في الأوّل: «قال ابن الأثير في نهايته: فيه (نهی أن يمنع نقع البئر)، أي فضل مائها؛ لأنّه ينقع به العطش، أي يروى. وشرب حتى نقع: أي روي. وقيل: النقع الماء الناقع، وهو المجتمع. انتهی کلام ابن الأثير، وسيأتي مزيد من البيان في ذلك، فلاحظ ص 95 - 96

به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(1).

الطائفة الرابعة: ما ورد في هدم الجدار:

منها: ما رواه المحدّث النوري عن دعائم الإسلام: روينا عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنّه سئل عن جدار لرجل - وهو سترة بينه وبين جاره - سقط فامتنع من بنيانه، قال: «ليس يجبر على ذلك، إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحقّ أو شرط في أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل: استر على نفسك في حقّك إن شئت»، قيل له: فإن كان الجدار لم يسقط، ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضراراً بجاره، لغير حاجة منه إلى هدمه، قال: «لا يترك؛ وذلك أنّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: لا ضرر ولا ضرار، وإن هدمه كلّف أن يبنيه»(2).

الطائفة الخامسة: ما ورد في حكم الدابّة إذا جنت على أخرى:

منها: ما رواه الصدوق في المقنع بقوله: ورويت أنّه جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب ومعه رجل، فقال: إنّ بقرة هذا شقّت بطن جملي، فقال عمر: قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فيما قتل البهائم أنّهُ جبار - والجبار الذي لا دية له ولا قود -

ص: 15


1- الكافي 5: 293، ح 6
2- مستدرك الوسائل 17: 118، ح1

فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «قضى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): لا ضرر ولا ضرار، إن كان صاحب البقرة ربطها على طريق الجمل فهو له ضامن»، فنظروا فإذا تلك البقرة جاء بها صاحبها من السواد، وربطها على طريق الجمل، فأخذ عمر برأيه(علیه السلام) وأغرم صاحب البقرة ثمن الجمل(1).

الطائفة السادسة: ما ورد بنحو مستقلّ:

منها: ما رواه الصدوق، قال: قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام...»(2).

ومنها: ما رواه المحدّث النوري عن دعائم الإسلام، بقوله: وروينا عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(علیهم السلام): «أنّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، قال: لا ضرر ولا ضرار»(3).

هذه هي الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على قاعدة «لا ضرر»، والتي يمكن أن يستفاد منها قاعدة كلّية.

ص: 16


1- المقنع: 537
2- من لا يحضره الفقيه 4: 334، ح2
3- مستدرك الوسائل 17: 118، ح2

المقام الثاني: سند الأحاديث

لا إشكال في حجّية أسانيد الروايات التي استدلّ بها على قاعدة «لا ضرر»، وإنّما الخلاف والنزاع واقع بين الأعلام في بيان وجه حجّية هذه الروايات. ومن هنا تعدّدت الأقوال في المقام إلى ثلاثة:

الأوّل: القول بالتواتر الإجمالي، كما يظهر من الشيخ الأنصاري! حيث نقل دعوى فخر الدين في الإيضاح - في باب الرهن - تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار(1) من دون تعليق منه! على ذلك، ممّا يكشف قبوله لهذه الدعوى.

وممّن يظهر منه القول بهذا الوجه أيضاً المحقّق الآخوند الخراساني! حيث قال: والإنصاف أنّه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف(2).

وهذا أيضاً مختار سيدنا الأستاذ! (3).

ويترتّب على هذا القول عدم الحاجة إلى البحث السندي لإثبات اعتبار روايات «لا ضرر».

الثاني: القول باستفاضة هذه الأخبار وعمل المشهور بها، وهذا ما يظهر من

ص: 17


1- فرائد الأصول 2: 457
2- كفاية الأصول 3: 159
3- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله) 47: 600

المحقّق النائيني! (1).

ويترتّب على ذلك لابدّية البحث عن اعتبار روايات القاعدة؛ وذلك لعدم كون الاستفاضة من موجبات حجّية الخبر كما هو المشهور. نعم، اعتمد المحقّق النائيني(رحمه الله) في اعتبارها على عمل المشهور بها، إلاّ أنّه قد قرّرنا في محلّه أنّ ذلك لا يوجب حجّيتها.

الثالث: ما يظهر من بعضهم بأنّ روايات قاعدة «لا ضرر» هي أخبار آحاد؛ وذلك لعدم بلوغها حدّ الاستفاضة فضلاً عن كونها متواترة إجمالاً، خصوصاً بعد احتمال اتّحاد المرسلات مع المسانيد، ورجوع المسانيد إلى بعضها الآخر، فحينئذٍ لا يبقى منها إلاّ النزر القليل المتضمّن لمفاد القاعدة، ويترتّب على ذلك لزوم النظر والفحص في سند الروايات لإثبات اعتبارها.

هذا، والتحقيق في المقام أن يقال:

إذا لاحظنا مجموع الروايات المشتملة على قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا ضرار»، والروايات الواردة في الموارد الخاصّة مع ما ورد من طرق العامّة، حيث ذكر في نصب الراية قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا ضرار» بثمان طرق(2)، فحينئذٍ يتعيّن القول بالتواتر المعنوي.

نعم، إذا قصرنا النظر على ما ورد في الموارد الخاصّة، فلا أقلّ من دعوى

ص: 18


1- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 376
2- نصب الراية 6: 423

الاستفاضة فيها، ومع ذلك لا يكون عمل المشهور بها موجباً لحجّيتها كما بيّنا ذلك في محلّه، ومن هنا كان من اللازم علينا النظر في أسانيد روايات القاعدة، فنقول:

أسانيد الطائفة الأولی

أمّا أسانيد الطائفة الأولى؛ فلا إشكال في اعتبار الرواية الأولى وإن وقع في سندها محمّد بن خالد البرقي، أبو عبد الله، وقد ضعّفه الشيخ النجاشي(رحمه الله) بقوله: وكان محمّد ضعيفاً في الحديث...(1)، إلاّ أنّ الشيخ الطوسي(رحمه الله) قد وثّقه صريحاً في رجاله، قائلاً: محمّد بن خالد البرقي، ثقة...(2).

ومقتضى الجمع بين التضعيف والتوثيق هو أن يقال: إنّ محمد بن خالد ثقة في نفسه، إلاّ أنّه يروي عن الضعفاء كثيراً ويعتمد المراسيل، ويؤيّده ما ذكره العلاّمة(رحمه الله) في الخلاصة عن ابن الغضائري في أنّ حديثه يعرف وينكر، ويروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل(3)،

فيبقى حينئذٍ توثيق الشيخ سالماً عن المعارضة.

وأمّا عبد الله بن بكير، فهو ابن أعين بن سنسن، أبو علي الشيباني، وقد عدّه الكشي ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه(4)، كما عدّه الشيخ

ص: 19


1- رجال النجاشي: 335 / 898
2- رجال الطوسي: 363 / 5391
3- خلاصة الأقوال: 237 / 813
4- اختيار معرفة الرجال 2: 673 / 705

المفيد في رسالته العددية من الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم(1).

وقد روى الكشّي عن محمّد بن مسعود - العيّاشي - أنّ عبد الله بن بكير وجماعة من الفطحية هم فقهاء أصحابنا(2).

وأمّا الرواية الثانية فهي معتبرة من جهتين:

الأولى: وثاقة رواتها؛ فقد رواها الشيخ الصدوق عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضّال، عن عبد الله بن بكير. وهذا الطريق صحيح.

الثانية: أنّ الشيخ الصدوق! قد رواها في كتابه (من لا يحضره الفقيه)، وذكر طريقاً إلى كتاب عبد الله بن بكير، فيعلم من ذلك أنّه ينقلها من كتابه، وقد شهد الشيخ الصدوق! في ديباجة الفقيه بأنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل وإليها المرجع(3)، فبناءً على ثبوت ذلك - كما هو غير بعيدٍ - لا حاجة إلى ملاحظة سند الرواية.

وأمّا الرواية الثالثة فيظهر من الشيخ الأنصاري(رحمه الله) أنّها أصحّ روايات الباب؛ حيث صرّح قائلاً: فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصحّ ما

ص: 20


1- الرسالة العدديّة: 25 وما بعدها
2- اختيار معرفة الرجال 2: 635 / 639
3- من لا يحضره الفقيه 1: 3

في الباب سنداً...»(1)، ثمّ ذكر رواية سمرة بطولها، إلاّ أنّها ضعّفت بالإرسال؛ وذلك لأنّ محمّد بن خالد البرقي يروي عن بعض أصحابنا، وهو مجهول.

ويحتمل أن يكون المراد من بعض أصحابنا: صفوان، وابن أبي عمير؛ لأنهما يرويان كتاب عبد الله بن مسكان، كما في طريق الشيخ والصدوق، كما أنّ البرقي قد روى كتاب زرارة عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن زرارة، كما ورد ذلك في طريق الشيخ والنجاشي، ففي المقام يمكن أن يروي محمّد بن خالد عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة.

إلاّ أنّ هذا غير مفيد؛ لأنّه مجرّد استحسان لا يوجب الاطمئنان.

نعم، يمكن القول بصحّتها لوجودها في الكافي، وهو دليل على اعتبارها؛ بناءً على تمامية شهادة الكليني(رحمه الله) في ديباجة كتابه الكافي بصحّة جميع رواياته، أو يقال: بأنّ الشيخ روى جميع روايات الكافي - ومنها هذه الرواية - عن عبد الله بن مسكان، وقد ذكر في ترجمة عبد الله بن مسكان: أنّه يروي جميع رواياته بطريق صحيح، ومن جملة رواياته هذه الرواية، فيشملها الطريق الصحيح، فيتبيّن أنّ للرواية طريقاً صحيحاً.

أسانيد الطائفة الثانية

وأمّا الطائفة الثانية؛ فقد ضعّفت الأولى منها؛ لوجود محمّد بن عبد الله بن هلال، وعقبة بن خالد، وهما لم يوثّقا، وإن روى الكشّي بعض الروايات المادحة في عقبة بن خالد، إلاّ أنّه لا يمكن الاعتماد عليها؛ لكون راويها نفس

ص: 21


1- فرائد الأصول 2: 457

عقبة بن خالد.

ولكن يمكن القول باعتبار الرواية بثلاثة وجوه:

الأوّل: أنّ عقبة بن خالد ومحمّد بن عبد الله بن هلال ممّن وردا في أسانيد كتاب نوادر الحكمة في غير المستثنى(1)، وقد بنينا في أصول علم الرجال على وثاقة مَن لم يستثنَ من أسانيد نوادر الحكمة.

الثاني: أنّ هذه الرواية قد رواها الشيخ الصدوق! في الفقيه عن عقبة بن خالد، وقد شهد في أوّل الفقيه بأنّ: جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوَّل وإليها المرجع...(2)، فيعلم من ذلك: أنّ كتاب عقبة بن خالد من الكتب المعروفة المعوّل عليها. هذا، وإن لم يذكر الشيخ الصدوق! في المشيخة طريقه إلى عقبة، إلاّ أنّ للشيخ طريقاً معتبراً في الفهرست إلى كتاب عقبة، وقد توسّطه الشيخ الصدوق، والطريق هو: أخبرنا به جماعة من أصحابنا، عن محمّد بن علي بن الحسين، عن أبيه ومحمّد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عنه(3).

الثالث: أنّ الكليني(رحمه الله) روى بسنده عن عقبة بن خالد ما يدلّ على مدحه، قال: دخلت أنا والمعلّى وعثمان بن عمران على أبي عبدالله(علیه السلام) فلمّا رآنا قال:

ص: 22


1- أصول علم الرجال 1: 229 و 237
2- من لا يحضره الفقيه 1: 3
3- فهرست الطوسي: 190 / 532

«مرحباً مرحباً بكم، وجوه تحبّنا ونحبّها، جعلكم الله معنا في الدنيا والآخرة»(1)، الحديث.

وكون راويها نفس عقبة لا يمنع من الاعتماد عليها؛ وذلك لأنّ الراوي عن عقبة بن خالد هو الحسن بن علي بن فضّال المعروف بالورع والاحتياط في الحديث، فنفس روايته لهذا المدح يوجب الاطمئنان بصدورها عن الإمام(علیه السلام).

إن قلت: كيف يطمئن بصدور الحديث عن الإمام(علیه السلام)، وطريق ابن فضّال لمعرفة صدور الحديث من عدمه هو عقبة بن خالد؟!

قلت: إنّ طريق ابن فضّال لا ينحصر في عقبة؛ لتمكّنه من الاستفصال من المعلّى أو عثمان بن عمران، فتركه ذلك يوجب الاطمئنان بصدورها.

نعم، يمكن رمي هذه الرواية بالضعف؛ لوجود سهل بن زياد في سندها، وهو ممّن لم تثبت وثاقته كما ذكرنا ذلك في أصول علم الرجال(2)، ولكن ما يهوّن الخطب وجودها في الكافي، فإذا بنينا على تمامية شهادته في المقدّمة(3) بصحّة جميع رواياته فتكون دليلاً على اعتبار هذه الرواية.

إلاّ أنّ المهمّ من هذه الوجوه هو الأوّل.

وأمّا الرواية الثانية - وهي الواردة في الفقه الرضوي - فقد ذكرنا في أصول علم الرجال: أنّ الكتاب وإن كان في عداد كتب الروايات، إلاّ أنّ حكمه

ص: 23


1- الكافي 4: 34، ح4
2- أصول علم الرجال 2: 360
3- الكافي 1: 5 ، 8 ، 9

الإرسال؛ لعدم ثبوت الطريق إليه(1)، فلذا تكون هذه الرواية مرسلة، فتكون صالحة للتأييد.

أسانيد الطائفة الثالثة

وأمّا الطائفة الثالثة؛ فقد ظهر وجه اعتبار سندها بما ذكرناه في الرواية الأولى من الطائفة الثانية، فإن سندها عين السند المتقدّم، والكلام في محمّد بن عبد الله بن هلال وعقبة بن خالد ما تقدّم آنفاً، فالرواية معتبرة.

أسانيد الطائفة الرابعة

وأمّا الطائفة الرابعة؛ فقد وردت في دعائم الإسلام، ومؤلّفه القاضي أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد الله، محمّد بن منصور التميمي المغربي، وكان قاضياً في مصر في دولة الفاطميين في القرنين الثالث والرابع، وهو من الثقات، وقد شهد في مقدّمة كتابه بصحّة رواياته؛ حيث قال: وقد رأينا وبالله التوفيق عند ظهور ما ذكرناه أن نبسط كتاباً جامعاً مختصراً، يسهل حفظه، ويقرب مأخذه، ويغني ما فيه من جمل الأقاويل عن الإسهاب والتطويل، نقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا رويناه عن الأئمّة من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أجمعين، من جملة ما اختلف فيه الرواة عنهم...»(2)، فالكتاب وإن كان مشهوراً عند الإسماعيلية في زمان الدولة الفاطمية، وأنّ الإسماعيلية لا يزالون يعملون بهذا الكتاب، وهو بمنزلة الرسالة العملية عندهم، إلاّ أنّه لا طريق لنا إليه، وبما أنّ تقارن الكتاب مع الدواعي السياسية والحكومية يثير الشكّ

ص: 24


1- أصول علم الرجال 2: 92
2- مستدرك الوسائل 19: 158

والترديد في صيانته عن يد التحريف والتلاعب به، فقصور اعتبار الطريق يوجب عدم الاطمينان، ويترتّب على ذلك الحكم بعدم صحّة رواياته، إلاّ إنّها تصلح للتأييد والتأكيد كما ذهب إليه صاحب البحار(1).

أسانيد الطائفة الخامسة

وأمّا أسانيد الطائفة الخامسة - وهي ما وردت في المقنع للشيخ الصدوق! - فقد ذكرنا في أصول علم الرجال: أنّه يظهر من الشيخ الصدوق! - في مقدّمة كتابه - حكمه بصحّة جميع رواياته؛ حيث قال!: وحذفت الأسناد (الأسانيد) منه لئلاّ يثقل حمله، ولا يصعب حفظه، ولا يملّه (يملّ) قارئه؛ إذ كان ما أب-يّنه فيه في الكتب الأصولية موجوداً مبيّناً عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات رحمهم الله...(2).

فيستفاد من كلامه هذا عدّة أمور:

الأوّل: أنّ كلّ ما هو مذكور في المقنع روايات وإن ذكرت بصيغة الفتوى.

الثاني: أنّ الروايات كلّها مسندة، وإنّما أسقط أسانيدها للاختصار.

الثالث: أنّ هذه الروايات موجودة في الأصول ومب-يّنة عن المشايخ الثقات.

والمهمّ من هذه الأمور هو الأمر الثالث، وبيان مراد الشيخ الصدوق! من المشايخ في قوله!: «مبيّناً عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات»، فإنّ فيه ثلاثة احتمالات:

ص: 25


1- أصول علم الرجال 1: 260
2- المقنع: 5

الأوّل: هم مَن يروي عنهم الشيخ الصدوق مباشرة فقط.

الثاني: هم أصحاب الأصول.

الثالث: هم جميع أفراد السند.

والأقوى هو الثالث، وبذلك تكون جميع روايات الكتاب صحيحة، ورجالها كلّهم ثقات.

ثمّ إنّه على فرض التنزّل والتسليم بأنّ مراد الشيخ الصدوق - من قوله: «المشايخ... الثقات» - هو الاحتمال الأوّل أو الثاني، فلا يضرّ حذف الأسانيد في الاعتماد على رواياته؛ لما ذكرناه - غير مرّة - من أنّ الشيخ الصدوق(رحمه الله) ممّن يعتبر - في الأخذ بالرواية والاعتماد عليها - الوثاقة في الراوي(1)، فحذف السند إنّما لا يخلّ ولا يضرّ إذا كان جميع رواة السند من الثقات أو العدول، أمّا مجرّد كون الراوي الأخير أو الأوّل ثقة فحذف السند موجب للإخلال المنفي في كلامه(رحمه الله)، وبذلك يثبت أنّ جميع روايات المقنع معتبرة، إلاّ أن يقال: إنّ روايتنا هذه خارجة من تحت شهادته المدرجة في مقدّمة المقنع؛ لأنّها وردت بلفظ «رويت» المشعر بالضعف، فلذلك لا يحكم باعتبارها.

أسانيد الطائفة السادسة

وأمّا أسانيد الطائفة السادسة؛ فيمكن القول باعتبار الرواية الأولى - وهي ما رواه الصدوق(رحمه الله) مرسلاً - بأحد وجهين:

ص: 26


1- أصول علم الرجال 1: 109

الأوّل: أنّ مراسيل الصدوق على نحوين:

النحو الأوّل: ما أرسله ونسبه إلى المعصوم(علیه السلام) بلفظ «رُوي»، كقوله: روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وروي عن أمير المؤمنين(علیه السلام)، فهو مرسل.

النحو الثاني: ما أرسله ونسبه إلى المعصوم(علیه السلام) بنحو الجزم، بأن قال: قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، أو قال أمير المؤمنين(علیه السلام)، فهو مسند لا يمكن عدّه في المراسيل؛ ضرورة أنّ الناقل المتّقي العادل لا يسند شيئاً إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من دون إثبات صدق الخبر بالعلم أو بطريق معتبر، فإسناد الصدوق! الرواية إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) توثيق منه! لرواتها، وهو يكفي في حجّيتها، ويدخل في عداد الروايات الموثّقة، فلابدّ من الأخذ بها(1).

هذا، وقد بنى سيدنا الأستاذ! على هذا برهة من الزمان، إلاّ أنّه رجع عنه وحكم بعدم حجّية مثل هذه المراسيل؛ لأنّ أقصى ما يدلّ عليه تعبير «قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)» صحّة الخبر عند الصدوق!، وهذا لا يلازم صحّته عندنا؛ لاختلاف المباني في حجّية الخبر، ومعه كيف يكون اعتماد أحد على خبر مستلزماً لحجّيته عند غيره؟ ومن هنا لا يمكن الاعتماد على مراسيل الصدوق مطلقاً(2).

الثاني: أنّ الشيخ الصدوق! شهد في مقدّمة كتابه (من لا يحضره الفقيه)

ص: 27


1- انظر: الهداية في الأصول 3: 529
2- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 603

بثلاث شهادات:

الأولى: أنّ روايات الفقيه كلّها حجّة بينه وبين الله عزّوجلّ، وهذا ما يظهر من قوله!: ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحّته، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته(1).

وهذه الشهادة لا تنفع في المقام؛ وذلك لأنّ ثبوت الحجّية لرواية في نظر الصدوق(رحمه الله) لا يكشف عن ثبوت الحجّية لها عندنا؛ إذ لربّما اعتمد على بعض القرائن التي أوجبت له اليقين بصدورها بحيث لو اطّلعنا عليها لما أوجبت لنا الظنّ فضلاً عن اليقين.

الثانية: أنّ روايات الفقيه مأخوذة من الكتب المشهورة والمعروفة، كما يستفاد ذلك من قوله!: وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة(2).

وتترتّب على هذه الشهادة فائدتان:

أحدهما: عدم الحاجة إلى ملاحظة الطريق والسند إلى صاحب الكتاب المأخوذ عنه الحديث؛ وذلك لشهرة الكتاب ومعروفيته، فهو بمنزلة كتاب الكافي والتهذيبين في الشهرة والاعتبار وفي عدم الحاجة إلى تجشّم الطرق إليها. نعم، ينبغي ملاحظة السند من بعد صاحب الكتاب إلى المعصوم(علیه السلام).

ص: 28


1- من لا يحضره الفقيه 1: 2
2- المصدر نفسه 1: 3

ثانيهما: أنّه ممّا لا إشكال فيه كون هذه الشهادة حسّية، وأنّها مأخوذة من الكتب المشهورة، فلم تقع هذه الكبرى مورداً للكلام. نعم، ناقش سيدنا الأستاذ! في الصغرى، وأنّ الصدوق! لم يلتزم في الفقيه بأنّ روايات كتابه هي من كتب مَن بدأ بهم السند حتى تنطبق الكبرى عليه، بل لعلّه نقلها من كتب غيرهم من الأعلام المشهورين، كرسالة والده إليه، وكتاب شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد وأمثالها من الكتب المشهورة(1).

ويجاب عنه:

أوّلاً: أنّ نفس الصدوق! قد صرّح في المقدّمة بأنّ روايات كتابه قد أخذها من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع، مثل كتاب حريز بن عبد الله السجستاني، وكتاب عبيد الله بن عليّ الحلبيّ، وكتب عليّ بن مهزيار الأهوازيّ، وكتب الحسين بن سعيد، ونوادر أحمد بن محمّد بن عيسى... ونوادر محمّد بن أبي عمير، وكتب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي وغيرها(2).

وثانياً: بما ذكره صاحب الوسائل(رحمه الله) والعلاّمة المجلسي(رحمه الله)، وهو: أنّ كلّ مَن ذكره الصدوق(رحمه الله) في الفقيه وروى عنه فهو ينقل عن كتابه، والشاهد عليه أنّ الصدوق(رحمه الله) ذكر في مشيخته طريقاً واحداً إلى كلّ شخص، وهذا دليل على أنّه

ص: 29


1- انظر: معجم رجال الحديث 1: 77
2- من لا يحضره الفقيه 1: 3

نقل من كتابه، وإلاّ فلو كان نقله من كتب متعدّدة وأفراد كثيرين فأيّ فائدة في ذكر طريقه إلى كلّ واحد؟ لأنّ لكلّ شخص في الكتب المختلفة طرقاً كثيرة متعدّدة وليس طريقاً واحداً، إلاّ إذا كان للشخص حديث واحد أو أحاديث قليلة، كحديث أسماء بنت عميس(1) مثلاً، أو حديث: جاء نفر من اليهود(2)، فالأقوى تمامية هذه الشهادة.

الثالثة: أنّ الكتب التي استخرج منها الشيخ الصدوق(رحمه الله) روايات كتابه الفقيه معوّل عليها وإليها المرجع؛ حيث قال: وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع(3).

ويتفرّع على هذه الشهادة: أنّ روايات الفقيه تكون مورداً لعمل الأصحاب، وأنّها حجّة عندهم، ومقتضى ذلك عدم الاحتياج إلى ملاحظة السند من صاحب الكتاب إلى الإمام(علیه السلام)؛ لفرض وجود الإجماع، واتّفاق الأصحاب على العمل بها، ونتيجة هذه الشهادة القول باعتبار جميع روايات الفقيه بلا استثناء، إلاّ أنّ هذه الشهادة قد نوقشت بعدّة أمور:

الأوّل: لعلّ مراد قول الصدوق(رحمه الله) في وصفه لهذه الكتب بأنّ «عليها المعوّل» هو تعويل الأصحاب عليها في الجملة، فإذا كان أكثر روايات الكتاب معتبرة

ص: 30


1- من لا يحضره الفقيه (المشيخة) 4: 438
2- المصدر نفسه 4: 426
3- المصدر نفسه 1: 3

ويعمل بها أو مقداراً معتدّاً بها فيصحّ إطلاق قوله: «عليها المعوّل»، وبناءً عليه فلا يلزم من هذه الشهادة اعتبار كلّ رواية رواية وكونها مورداً لعمل الأصحاب، بل تكون من قبيل كتاب الكافي والتهذيبين في تعويل الفقهاء عليهما، مع أنّهم يلاحظون أسانيدها ويميّزون صحيح أخبارها من سقيمها.

ويجاب عنه: أنّ الظاهر من قول الصدوق(رحمه الله) بأنّ «عليها المعوّل»: أنّ جميع روايات الكتب معوّل عليها ومورد للاعتماد عند الأصحاب، خصوصاً أنّ هذه الكتب روائيّة، فكلّ رواية فيها تحتاج إلى سند وطريق معتبر، وعليه فحمل التعويل على العمل والاعتماد في الجملة وعلى أكثر رواياته أو مقدار معتدّ بها خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ بدليلٍ.

هذا، مضافاً إلى ما ورد في بعض الكتب التي عدّها الصدوق(رحمه الله) من المعوّل عليها ككتب الحسين بن سعيد، فقد ذكر النجاشي(رحمه الله) بأنّها حسنة معمول بها(1)، وككتاب عبيد الله الحلبي، فقد ورد فيه أنّ الإمام(علیه السلام) عرض عليه الكتاب وصحّحه، كما عن النجاشي(2).

وبذلك يظهر أنّ سائر الكتب التي اعتمد عليها معوّل عليها.

الثاني: أنّ الشيخ الصدوق(رحمه الله) قد ذكر أنّ من جملة الكتب المعوّل عليها كتاب نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري، والمحاسن، وكتب

ص: 31


1- رجال النجاشي: 58 / 137
2- المصدر نفسه: 230 / 612

الحسين بن سعيد وغيرها، ممّا يعلم أنّها ليست بأجمعها معوّلاً عليها، فقد استثنى من روايات محمّد بن أحمد بن يحيى والبرقي الروايات الضعاف، ممّا يدلّ على عدم تعويل الأصحاب على جميع رواياتهما، وبذلك يظهر أنّ مقصود الصدوق! من قوله «عليها المعوّل»: أنّها ليست بأجمعها معوّلاً عليها.

ويجاب عنه: بأنّ ظاهر كلام الصدوق! في عدّه مثل كتاب نوادر الحكمة والمحاسن من جملة هذه الكتب: أنّ مراده غير موارد الاستثناء، بمعنى أنّها معمولاً بها بعد الاستثناء والتخصيص، بل نفس الاستثناء دالّ على أنّ المراد - بأنّها معمولاً بها - جميع الكتاب، فإذا علمنا بالاستثناء تفصيلاً كما في النوادر، أو إجمالاً كما في المحاسن، فهو، وإلاّ إذا لم نعلم لا تفصيلاً ولا إجمالاً في استثناء روايتهما فيمكن التعويل على إطلاق كلامه، وأنّ جميع روايات الكتب معوّل عليها ومعمول بها عند الأصحاب.

الثالث: أنّ الصدوق(رحمه الله) قد ذكر في كتابه عدّة روايات هي مورد خلاف بين الأصحاب، من جملتها ما دلّ على أنّ شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً، فقد نسب إلى الأكثر القول بخلاف ذلك، وأنّ شهر رمضان كبقية الشهور قد يزيد وقد ينقص، ممّا يكشف عن أنّ مراد الصدوق(رحمه الله) في قوله: «عليها المعوّل»، أي في الجملة، وليس جميع روايات الكتب وقعت مورداً لعمل الأصحاب.

والجواب عنه:

أوّلاً: لعلّ عمل الأصحاب في زمان الشيخ الصدوق(رحمه الله) كان على هذه

ص: 32

الروايات، وإنّما الخلاف وقع في زمان الشيخ المفيد(رحمه الله)، ولذا علّق الصدوق(رحمه الله) على هذه الأخبار بقوله: مَن خالف هذه الأخبار وذهب إلى الأخبار الموافقة للعامّة في ضدِّها اتّقي كما يتّقى العامّة، ولا يكلّم إلاّ بالتقية كائناً مَن كان(1).

ثانياً: القول بخروج موارد التعارض تخصّصاً عن معقد شهادة الصدوق!؛ لمعلوميّة عدم تحقّق الإجماع على العمل بطائفة من الروايات.

ثالثاً: أنّ الروايات الدالّة على عدم نقصان شهر رمضان عن ثلاثين يوماً أبداً وإن وردت كلّها بلفظ «روي»، و «في رواية»، إلاّ إنّها مشمولة لشهادة الصدوق(رحمه الله) في مقدّمة كتابه (من لا يحضره الفقيه) بأنّها من الكتب المشهورة والمعوّل عليها؛ وذلك لأنّه قد تبيّن بعد الفحص والتتبّع في كلامه أنّه يستند في الأحكام على مراسيله مطلقاً، وعليه فلا يلتفت لما يقال من أنّها مرسلة، وأنّ حكمها حكم المراسيل.

والمتحصّل: الحكم بصحّة جميع روايات من لا يحضره الفقيه؛ اعتماداً على شهادة الصدوق في مقدّمة هذا الكتاب، وأنّه بناءً على القول بتماميّة الشهادتين الأخيرتين أو الشهادة الأولى فهذه الرواية معتبرة، وأمّا بناءً على عدم تماميّتها فالرواية ضعيفة بالإرسال.

وأمّا الرواية الثانية - وهي ما وردت في الدعائم - فهي ضعيفة، وقد تقدّم وجه ذلك، فلاحظ.

ص: 33


1- من لا يحضره الفقيه 2: 171

ونتيجة جميع ما تقدّم من البحث السندي في روايات قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»: أنّ روايات القاعدة على ستّ طوائف، فالأولى والثالثة والرابعة والخامسة معتبرة، وأمّا الثانية والسادسة فالمعتبر منهما الأولى - بناءً على تمامية شهادة الصدوق(رحمه الله) مع كلام في هذا المورد يأتي - دون الثانية.

ص: 34

المقام الثالث: في تحديد متون الأحاديث

والكلام فيه يقع في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في وجود كلمة «الإسلام» أو «على مؤمن» في ذيل حديث

الجهة الأولى: في وجود كلمة «الإسلام» أو «على مؤمن» في ذيل حديث «لا ضرر ولا ضرار».

الجهة الثانية: على تقدير ثبوتهما فهل يترتّب أثر عليهما؟

الجهة الثالثة: أنّ جملة «لا ضرر ولا ضرار» هل وقعت مستقلّة، أو في ضمن القضايا؟

أمّا الجهة الأولى؛ فالكلام فيها يقع تارة حول زيادة كلمة «في الإسلام»، وأخرى حول زيادة كلمة «على مؤمن». فهنا بحثان:

البحث الأول: في زيادة كلمة «في الإسلام» وعدمها، فنقول:

إنّ هذه الزيادة قد وردت في مصادر الفريقين، أمّا في مصادر الخاصّة فقد رواها الصدوق(رحمه الله) في موردين:

الأوّل: في «الفقيه» في باب ميراث أهل الملل، فقال: قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام»(1).

الثاني: في «معاني الأخبار»(2).

ص: 35


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334، ح 2
2- معاني الأخبار: 393

وقد استدلّ بها الشيخ في الخلاف في باب الشفعة في المسألة الرابعة عشرة(1)، وذكرها العلاّمة في تذكرته(2) مرسلة، كما أوردها ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي(3)، والطريحي في مجمع البحرين(4).

وأمّا في مصادر العامّة فقد وردت في مجمع الزوائد للهيثمي(5)، وكذلك في نصب الراية للزيلعي عن جابر بن عبد الله، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه «وآله»: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، كما نقلها - الزيلعي - أيضاً عن أبي داود في المراسيل، عن واسع بن حبان، عن أبي لبابة، عن النبي صلّى الله عليه «وآله» وسلّم، قال «لا ضرر في الإسلام ولا ضرار»(6).

كما وردت في كنز العمّال، عن الحجّاج بن أرطاة قال: أخبرني أبو جعفر أنّ نخلة كانت بين رجلين فاختصما فيها إلى النبي صلّى الله عليه «وآله» وسلّم، فقال أحدهما: اشققها نصفين بيني وبينه، فقال النبي صلّى الله عليه «وآله» وسلّم: «لا ضرر في الإسلام، يتقاومان فيها»(7).

ص: 36


1- كتاب الخلاف 3: 440
2- تذكرة الفقهاء 11: 68
3- عوالي اللئالي 3: 210
4- مجمع البحرين 3: 16
5- مجمع الزوائد 4: 110
6- نصب الراية 6: 433
7- كنز العمّال 5: 843 ، ح 14534

ورواها ابن الأثير في نهايته مرسلة عن رسول صلّى الله عليه «وآله» وسلّم، قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1).

وقد نوقش في وجود هذه الزيادة بوجوه:

الوجه الأول: ما عن شيخ الشريعة: أنّ كبرى تقديم الزيادة على النقيصة وإن كانت مسلّمة، ولكنّ هذا فيما إذا ثبتت الزيادة بطريق معتبر، وأمّا إذا لم تثبت هذه الزيادة بطريق معتبر فلا تجري هذه الكبرى، وما نحن فيه من هذا القبيل. قال!: فقد تفحّصت في كتبهم وتتبّعت في صحاحهم ومسانيدهم ومعاجمهم وغيرها فحصاً أكيداً، فلم أجد رواية في طرقهم إلاّ عن ابن عبّاس، وعن عبادة بن الصامت، وكلاهما رويا من غير هذه الزيادة، ولا أدري من أين جاء ابن الأثير في النهاية بهذه الزيادة؟!... فمن أين هذه الزيادة حتى نقدّمها على النقيصة ونستشهد بها على معنى الحديث ونستعين بها في بعض المقاصد والفروع؟ فما اشتهر في الكتب وتداولوه في الاستشهاد بها ليس على ما ينبغي(2).

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائيني(رحمه الله)، وقد ذكر في ذلك أمرين:

الأوّل: أنّ تقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة وإن كان أمراً مسلّماً به عند أهل الحديث والدراية، إلاّ أنّه ليس بأمرٍ تعبّديّ، بل منشأه بناء العقلاء، فمن البعيد جدّاً أن يزيد الراوي من عنده، خصوصاً مع وثاقته وتورّعه في

ص: 37


1- النهاية في غريب الحديث 3: 81
2- انظر: قاعدة لا ضرر: 12

النقل، وهذا بخلاف النقيصة فإنّها ليست بتلك المثابة من البعد؛ وذلك لتعدّد مناشئها، كالاختصار مثلاً، أو حذف - في نظر الراوي - ما ليس له دخالة في الحكم، ولذلك تقدّم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة، ويحكم بثبوتها في نفس الأمر، إلاّ أنّ هذا يتمّ لو لم يكن في المقام خصوصية توجب ترجيح عدم النقيصة على عدم الزيادة.

منها: ما لو كانت الزيادة مألوفة ومأنوسة في الأذهان، بل ولها نظائر في أقضية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، كقوله: «لا رهبانية في الإسلام»(1)، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا صرورة في الإسلام»(2) وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا إخصاء في الإسلام»(3).

ومنها: ما لو كانت الرواية متضمّنة لمجعولٍ من المجعولات الشرعية، فيتوهّم الراوي أنّ الحكم المنفي إنّما هو واقع في الإسلام، فيزيد من عنده هذه الكلمة.

وكيف كان، فمع وجود هذه الخصوصية في المقام لا مجال لتقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة.

الثاني: أنّ هذه الزيادة لم يثبت وجودها في مصادر أصحابنا الإمامية، وإنّما وردت في نهاية ابن الأثير، وهو عامي، وقد أرسلها العلاّمة في التذكرة، وهو

ص: 38


1- جامع أحاديث الشيعة 20: 21، ح71
2- النهاية في غريب الحديث 3: 22
3- السنن الكبرى 10: 24

ممّن يعتمد فيها على طرق العامّة. نعم، وردت هذه الزيادة في رواية الصدوق بناءً على نقل صاحب الوسائل في أوّل باب الميراث؛ حيث قال الصدوق(رحمه الله): قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الإسلام يزيد ولا ينقص»(1)، وقال(علیه السلام): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً»((2)،

إلاّ أنّ الصدوق(رحمه الله) قد رواها مرسلة، ولا اعتبار بمراسيله، وعليه فلم تثبت هذه الزيادة بطريق معتبر(3).

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم، وهو: أنّنا لم نجد في شيء من الروايات المعتمدة زيادة «في الإسلام» إلاّ في مرسلتي الصدوق(رحمه الله) والعلاّمة(رحمه الله)، ولا يبعد متابعة العلاّمة في النقل للصدوق(رحمه الله)، والمرسلة هي: «قال النبيّ: الإسلام يزيد ولا ينقص، قال: وقال: لا ضررَ ولا ضِرارَ في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً»، كما يحتمل أن تكون كلمة «في الإسلام» زِيدت من بعض النسّاخ ولم تكن من الصدوق(رحمه الله)؛ وذلك لأنّ أصل الرواية هكذا: «لا ضرر ولا ضرار، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً»، فكلمة «الإسلام» كانت مذكورة بعد الحديث، ثمّ وقع الاشتباه منهم وزاغ بصرهم وكرّروا كلمة «الإسلام»، فتتابعوا في نقل الرواية بصورة

ص: 39


1- وسائل الشيعة 26: 14، ح9 - 10
2- . المصدر نفسه، ح10
3- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 364 - 365

أخرى، وهي «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً». نعم، ذكر الطريحي(رحمه الله) هذه الإضافة في ذيل رواية الشفعة، وهذا اشتباه منه!؛ لأنّ رواية الشفعة قد رواها الكليني(رحمه الله) خالية منها، كما لعلّ ذكرها في نهاية ابن الأثير من سبق القلم؛ وذلك لما ارتكز في ذهنه(1).

الوجه الرابع: ما ذكره بعض السادة الأجلاء، وهو: أنّ هذه الكلمة ثابتة فيما رواه الصدوق!، إلاّ أنّه لا اعتبار لها؛ وذلك لأنّ الصدوق كان في مقام الاحتجاج بالخبر على العامّة من حيث وروده من طرقهم، فإنّ جماعة منهم قالوا بعدم التوارث بين الكافر والمسلم، بمعنى أنّ المسلم لا يرث الكافر، كما أنّ الكافر لا يرث المسلم؛ تمسّكاً بقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا يتوارث أهل ملّتين»(2)،

وهو مخالف لما عليه الإمامية من إرث المسلم من الكافر وعدم إرث الكافر من المسلم، فالصدوق في مقام المحاجّة والمخاصمة استدل عليهم بما هو وارد من طرقهم، وممّا يدعو للاطمئنان بذلك قرينتان:

الأولى: أنّ الصدوق(رحمه الله) كان في مقام الاحتجاج والردّ على العامّة في مسألة خلافية، وهي عدم التوارث بين أهل ملّتين.

الثانية: أنّ الأدلّة التي ذكرها الصدوق في مسألة إرث المسلم من الكافر على قسمين: عقلية ونقلية.

ص: 40


1- انظر: الرسائل للإمام الخميني! 1: 25
2- الكافي 7: 142، ح1

أمّا الأولى؛ فقد ذكر فيها عدّة أمور:

أوّلاً: الأصل، وهو أنّ أصل الحكم في أموال المشركين أنّها فيء للمسلمين.

ثانياً: قياساً، وهو أنّ الله عزّوجلّ إنّما حرّم على الكفّار الميراث؛ عقوبة لهم بكفرهم، كما حرّم على القاتل عقوبة لقتله.

ثالثاً: أنّ الكفّار بمنزلة الموتى، لا يحجبون، ولا يرثون.

وأمّا الثانية؛ فقد ذكر فيها أربع روايات:

الأولى: قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الإسلام يزيد ولا ينقص»(1).

الثانية: قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام»(2).

الثالثة: قوله(علیه السلام): «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(3).

الرابعة: ما روي عن أبي الأسود الدُّؤلي أنّ معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا: يهوديّ مات وترك أخاً مسلماً، فقال معاذ: سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: «الإسلام يزيد ولا ينقص»(4)،

فورَّث المسلم من أخيه اليهوديّ.

وجميع هذه الأدلّة غير حجّة لدى الإمامّية:

ص: 41


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334، ح1
2- المصدر نفسه 4: 334، ح2
3- المصدر نفسه 4: 334، ح3
4- من لا يحضره الفقيه 4: 334، ح4

أمّا الأولى؛ فلرجوعها إلى الاجتهاد بالرأي والقياس ونحوهما.

وأمّا الثانية؛ فلنقلها عن العامّة وعدم وجودها في شيءٍ من كتبنا.

والمتحصّل: أنّه من هاتين القرينتين يحصل الوثوق بأنّ رواية «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» قد نقلها الصدوق(رحمه الله) من طرق العامّة احتجاجاً بها عليهم، وعلى ذلك فهي غير مندرجة في شهادته في مقدّمة من لا يحضره الفقيه(1).

ويمكن المناقشة في جميع هذه الوجوه:

أمّا في الأوّل؛ فقد ظهر وجه المناقشة فيه ممّا ذكرناه من مصادر الخاصّة والعامّة والتي وردت فيها الرواية مذيّلة بكلمة «في الإسلام»، وعمدتها كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق(رحمه الله)، فكيف ينكر وجودها في مصادر الفريقين، وأنّها لم ترد إلاّ في نهاية ابن الأثير؟!

هذا، مضافاً إلى أنّه بناءً على القول بانجبار ضعف الرواية بعمل المشهور - كما هو مختاره! - فلابدّ من الالتزام باعتبار الرواية وثبوت كلمة «في الإسلام » في ذيلها.

وأمّا في الثاني - وهو ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) - فما أفاده في الأمر الأوّل منه ففيه موارد للنظر:

أوّلاً: بأنّ ما نحن فيه ليس من مصاديق كبرى الدوران بين الزيادة والنقيصة ليقال بأنّ تقديم عدم الزيادة يحصل فيما لو لم يكن في البين خصوصيّة؛ وذلك

ص: 42


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 92

لأنّ الكبرى الآنفة الذكر إنّما تجري فيما لو وقعت الزيادة والنقيصة في نقل واحد، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فقد وردت الرواية بطرق متعدّدة وفي موارد متعدّدة، فقد جاء بعضها في ضمن قضايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وجاء في مورد آخر بنحو مستقلّ، كما أنّ بعضها مقيّدة بكلمة «في الإسلام»، وبعضها غير مقيّدٍ بها، فيكون هذا الأمر من قبيل المطلق والمقيد، بل في مقامنا تحتمل فيه الزيادة، إلاّ أنّها مندفعة بأصالة عدم الزيادة المتّبعة عند العقلاء.

والمتحصّل: أنّ أصل تطبيق قاعدة دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة في مقامنا ممنوع.

وثانياً: على فرض التسليم بما تقدّم، فإنّ ما ذكره - من أنّ في المقام خصوصية تقتضي تقدّم أصالة عدم النقيصة على أصالة عدم الزيادة، منها: كون هذه الزيادة مأنوسة ومألوفة في الأذهان، ومنها: استنباط الراوي من جهة مناسبة الحكم والموضوع تقتضي زيادة كلمة «في الإسلام» - غير تام.

وذلك لأنّ أنس الذهن إنّما يحصل في الزمان المتأخّر عن نقل الرواية وبعد كثرة الروايات وجمعها، وأمّا في زمان نقل الرواية فلم يعلم بذلك حتى تكون الزيادة من الراوي. هذا أوّلاً.

وثانياً: أنّ الروايات الواردة بهذا النسق كثيرة، مع أنّها خالية من كلمة «في الإسلام»، كما في قوله(علیه السلام): «لا فطام بعد رضاع»(1)، و «لا رأي لمن لا

ص: 43


1- وسائل الشيعة 20: 385، ح5

يطاع»(1)، و «لا عمل إلاّ بالنية»(2).

وثالثاً: أنّ استنباط الراوي وإضافته لكلمةٍ مع أنّه لم يسمعها من المعصوم(علیه السلام) منافٍ لوثاقته فيما إذا كانت مغ-يّرة للمعنى وموجبة لتضيّقه أو توسعته. نعم، إذا لم تكن كذلك فلا بأس به عند نقل الحديث بالمعنى، ومع ذلك فهو لا يلائم حفظ الرواة للحديث مع الزيادة سماعاً أو قراءةً أو تدويناً، ولذا يتمسّك بكلّ كلمة بل بكلّ حرف من الحديث يكون مورداً للاستدلال في مقام الاستنباط.

وأمّا عن الأمر الثاني؛ فإنّ تماميته مبنيّة على ما إذا لم يكن مبناه! انجبار الرواية الضعيفة بعمل المشهور، وعدم حجّية روايات الفقيه لعدم اعتبار شهادة الصدوق! في المقدّمة، وإلاّ فهو غير تامّ.

وعن الثالث - وهو ما ذكره بعض الأعاظم في الرسائل - فهو بعيد جدّاً من جهتين:

الأولى: وهي أنّ احتمال كون هذه الزيادة من بعض النسّاخ يقتضي عدم تمامية احتجاج الصدوق بهذه الرواية على العامّة في مسألة عدم توريث المسلم من الكافر، مع أنّ صحّة استدلاله ومخاصمته في هذه المسألة الخلافية بيننا وبينهم متوقّف على ثبوت الزيادة، ومن هنا يتّضح أنّ كلمة «في الإسلام»

ص: 44


1- نهج البلاغة: 36، الخطبة 27
2- الكافي 8: 234، ح312

ثابتة فيما رواه الصدوق!.

الثانية: أنّ هذا الاحتمال إنّما يصحّ في كتب اللغة والسير والتاريخ وأمثالها، وأمّا في كتب الآيات والأحاديث المروية عن أهل بيت العصمة والطهارة - والتي هي مورد لعناية واهتمام الأعلام من العلماء والمحقّقين - فلا يكتفى فيها بالتدوين والكتابة فقط، بل تقرأ على المشايخ وتسمع منهم وتقابل عدّة مرّات عليهم، فكيف يدّعى بعد ذلك باحتمال وقوع التحريف بالزيادة من النسّاخ مع عدم التنبيه عليه؟ ومن ذلك كلّه يتّضح بُعد هذا الوجه.

وعن الرابع - وهو ما ذكره بعض السادة الأجلاّء - فيجاب عنه:

أوّلاً: بأنّ هذا المنهج - وهو كون الصدوق(رحمه الله) في مقام الردّ على العامّة والمخاصمة والاحتجاج عليهم - لا ينحصر بهذا المورد، بل إنّه! قد اتّبعه في كثير من المسائل المختلف فيها بين الفريقين، كما في مسألة العول والتعصيب والصلاة وغيرها، ومع ذلك هل يقال فيها بمثل ما قيل هنا.

ثانياً: أنّ شهادة الصدوق! في مقدّمة الفقيه عامّة، وأنّ كلّ ما أورده فيه يكون مشمولاً لشهاداته الثلاث، وهي أنّها حجّة فيما بينه وبين ربّه، وأنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، وأنّ عليها المعوّل وإليها المرجع، وعلى هذا فذكره للرواية من دون تصريح بكونها من طرق العامّة أو من دون قرينة تدلّ على ذلك يُعَدُّ من الخلط والتدليس غير المحتمل في حقّه!.

ويؤيّد ذلك: أنّه قال بعد ذلك: وروي عن أبي الأسود الدُّؤلي أنّ معاذ بن

ص: 45

جبل كان باليمن... الحديث، وهو قرينة على أنّها عامّية، مع أنّه لم يذكر فيما نحن فيه ما يشعر بكون الحديث من طرقهم.

والتحقيق أن يقال: إنّ ما ذكر من دعوى أنّ الصدوق! إنّما نقل حديث «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» من كتب العامّة، وأورده احتجاجاً عليهم تامّةٌ، ولكن بوجهٍ آخر.

وبيانه هو: أنّه بعد الفحص والتتبّع لعبارات الصدوق - عند نقله للروايات في الفقيه - نجد أنّها تنقسم إلى عدّة أقسام:

الأوّل: ما ذكره بنحو الإرسال، ويظهر منه الجزم في نسبته إلى المعصوم(علیه السلام)، كقوله: قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، أو قال الإمام(علیه السلام)، أو سُئل الإمام(علیه السلام)، أو سأله فلان فأجاب، أو كتب أبو الحسن الرضا(علیه السلام) إلى محمّد بن سنان... وأمثال ذلك، وهذا القسم كثير في الفقيه قد يصل إلى ألفي رواية أو أكثر.

الثاني: ما ذكره بلفظ «روى»، كقوله مثلاً: روى الحسن بن محبوب، أو روى ابن أبي عمير، أو روى إسحاق بن عمّار، أو روى عبد الله بن سنان، ثمّ يذكر السند متّصلاً بالمعصوم(علیه السلام)، وهذا القسم كثيراً ما يورده بعد عنوان كلّ باب.

الثالث: ما ذكره بلفظ: وفي رواية السكوني، أو في رواية ابن مسكان، أو في رواية ابن أبي يعفور، أو في رواية زرارة.

الرابع: ما ذكره بلفظ: وفي كتاب نوادر الحكمة، أو نوادر محمّد بن أبي

ص: 46

عمير، أو كتاب مروان بن زياد، أو أبي في رسالته، أو عن الكليني في كتابه، أو كتاب شيخي ابن الوليد.

الخامس: ما ذكره بلفظ: وفي خبرٍ آخر، أو في حديثٍ آخر.

السادس: ما ذكره بلفظ: روي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، أو روي عن ابن عبّاس، أو روي عن جابر، وأمثال ذلك.

والظاهر أنّ القدر المتيقّن من شهادة الصدوق! في مقدّمة من لا يحضره الفقيه شمولها للقسم الأوّل، وهو ما كان منسوباً إلى المعصوم بنحو الجزم؛ وذلك لأنّ كلّ ما ذكره! في أوّل الفقيه في الباب الأوّل من المياه كان من هذا القسم، ثمّ عدل عن هذا التعبير في الحديث الرابع والعشرين إلى قوله: وروى عن أبي بصير أنّه قال: «نزلنا في دار...»(1)، فمن البعيد جدّاً عدم شمول الشهادة لما يذكره في بداية الفقيه، وبناءً على هذا لابدّ من القول باعتبارها وإن كانت مرسلة؛ للجزم بنسبتها إلى المعصوم(علیه السلام).

ويؤيّد ذلك: أنّه! لم يناقش في شيء من هذا القسم، مع أنّه قد يناقش في بعض الروايات الواردة بتعبير آخر.

وأمّا الثاني؛ فالظاهر شمول الشهادة له أيضاً؛ وذلك لأنّه! يجعل هذا القسم سنداً ومدركاً لعنوان كلّ باب، مضافاً إلى عدم مناقشته فيها، بل قد يجمع بينها عند الاختلاف.

ص: 47


1- من لا يحضره الفقيه1: 19، ح24

وذِكرُ الصدوق طرقه لرواة هذا القسم في المشيخة لا ينافي شمول الشهادة له؛ لإمكان حمل ما ذكره من الطرق على التيمّن أو الاقتصار على بعض طرقه إليهم.

وأمّا الثالث؛ فهو وإن ورد كثيراً في الأبواب المختلفة التي ذكرها الصدوق، إلاّ أنّ شمول الشهادة له محلّ شكّ وترديد؛ لاحتمال ذكر الصدوق لهذا الصنف من باب التأييد، لا لكونه دليلاً على الحكم.

هذا، مضافاً إلى أنّ تعبيره بلفظ «روى» أعمّ من روايته لها ورواية غيره، ومع ذلك لا يبعد شمول الشهادة لهذا الصنف أيضاً؛ لعدم مناقشته لكثير منه، بل حاول بقدر الإمكان أن يجمع بينها وبين غيرها من الروايات في مقام التعارض. نعم، قد علّق على رواية وهب بن وهب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه(علیهم السلام)، بقوله: جاء هذا الحديث هكذا في رواية وهب بن وهب، وهو ضعيف، والذي أفتي به وأعتمده في هذا المعنى: ما رواه الحسن بن محبوب...(1).

والمتحصّل: أنّه لا يبعد شمول الشهادة لهذا القسم إذا لم يناقش فيه الصدوق!، وإلاّ فلا.

وأمّا الرابع؛ فالظاهر أنّه مشمول للشهادة؛ لأنّ كثيراً ما يجعل الشيخ الصدوق(رحمه الله) هذا القسم دليلاً ومستنداً على مدّعاه، فقد جعل ما نقله عن نوادر الحكمة مدركاً

ص: 48


1- من لا يحضره الفقيه 4: 35

لحكم الغرامة التي تلزم في الإفضاء(1). نعم، قد علّق على موردٍ واحدٍ فقط من هذا القسم، وهو ما نقله عن الكافي للكليني(رحمه الله) في باب الوصية حيث قال: ما وجدت هذا الحديث إلاّ في كتاب محمّد بن يعقوب، وما رويته إلاّ من طريقه(2). وتعليقه هذا يدلّ على انحصار طريقه لهذه الرواية عن طريق الكافي للكليني، ولا يدلّ على تضعيفه لها كما هو واضح.

وأمّا الخامس؛ فالظاهر عدم شمول الشهادة له، بل هو خارج عنها.

وأمّا السادس؛ فالظاهر عدم شمول الشهادة له؛ لأنّ الصدوق(رحمه الله) لم ينسبه بنحو الجزم إلى المعصوم(علیه السلام)، فهو إمّا من العامّة، أو لا يعتقد الصدوق بصحّته، خصوصاً أنّ أكثر أسانيد هذه الموارد التي ذكرها عامّية، ويمكن استكشاف ذلك من خلال التتبّع لهذا القسم من الروايات، وهي عديدة:

منها: ما رواه في الباب الثامن في صفة وضوء رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، قال: وروي: أنّ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) توضّأ، ثمّ مسح على نعليه، فقال له المغيرة: أنسيت يا رسول الله ؟ قال: بل أنت نسيت، هكذا أمرني ربّي(3).

ومنها: ما رواه في الباب الرابع عشر فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه، قال: وروي: أنّ رجلاً من الأحبار أقعد في قبره، فقيل له: إنّا جالدوك مائة جلدة

ص: 49


1- من لا يحضره الفقيه 4: 149، ح1
2- المصدر نفسه 4: 223
3- من لا يحضره الفقيه 1: 37، ح2

من عذاب الله عزّوجلّ، قال: لا أطيقها، فلم يزالوا به حتى ردّوه إلى واحدة، فقال: لا أطيقها، فقالوا: لابدّ منها، قال: فبما تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك بأنّك صلّيت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيف فلم تنصره، فجلدوه جلدة من عذاب الله تعالى فامتلأ قبره ناراً(1).

ومنها: ما رواه في ارتياد المكان للحدث، والسنّة في دخوله والآداب فيه إلى الخروج منه، قال: وروي: أنّ مَن تكلّم على الخلاء لم تقض حاجته(2).

ومنها: ما رواه في أدب المرأة في الصلاة، قال: وروي: أنّ خير مساجد النساء البيوت، وصلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في صفّتها، وصلاتها في صفّتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في سطح بيتها، وتكره للمرأة الصلاة في سطح غير محجّر(3)، وغيرها.

ومن هذا كلّه يتب-يّن: أنّ ما ذكره الصدوق(رحمه الله) في باب ميراث أهل الملل يندرج تحت ما ذكرناه مفصّلاً، فبعد أن قال!: كيف صار الإسلام يزيده شرّاً؟ نقل عدّة روايات، وهي مع قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «الإسلام يزيد ولا ينقص»، ومع قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام»، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا

ص: 50


1- من لايحضره الفقيه 1: 58، ح2
2- المصدر نفسه 1: 31، ح26؛ ورواه في العلل مسنداً: 283، ح1؛ والهداية: 75، فليلاحظ
3- من لا يحضره الفقيه 1: 374، ح 8

يزيده شرّاً، ومع قوله(علیه السلام): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»... وروي عن أبي الأسود الدُّؤلي أنّ معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا: يهوديّ مات وترك أخاً مسلماً، فقال معاذ: سمعت رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقول: «الإسلام يزيد ولا ينقص»، فورّث المسلم من أخيه اليهوديّ، ثمّ عقّبها بعشر روايات من القسم الثاني، وهي ما كان التعبير فيها بلفظ «روى»، فمن جملتها: روى محمّد بن سنان، عن عبد الرحمن بن أعين، عن أبي جعفر(علیه السلام) في النصرانيّ يموت وله ابن مسلم، قال: «إنّ الله عزّوجلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً، فنحن نرثهم ولا يرثونا»(1).

ومن هذا كلّه يتب-يّن: أنّ الأحاديث الأربعة التي أوردها في بداية الباب كلّها عامّية، وإنّما ذكرها من باب الإلزام والمحاجّة بها على الخصم، ومن ذلك يظهر عدم ثبوت كلمة «في الإسلام» بسند معتبر حتى يتمسّك بها في مقام الاستدلال والاستنباط، وعلى فرض كونها مشهورة لا يعلم استناد المشهور إليها، وعلى فرض استنادهم إليها فهو غير جابرٍ.

البحث الثاني: في ثبوت كلمة «على مؤمن» في آخر حديث «لا ضرر».

فقد وقع الخلاف بين الأعلام في ثبوت كلمة «على مؤمن» في حديث «لا ضرر» وعدمه، فالظاهر من الشيخ الأعظم الأنصاري(رحمه الله) (2)، وشيخ الشريعة(3):

ص: 51


1- المصدر نفسه 4: 334، ح5
2- فرائد الأصول 2: 458
3- قاعدة لا ضرر: 12

القول بالثبوت، وذهب المحقّق النائيني(1)، والمحقّق العراقي(2)، والسيد الأستاذ! (3) إلى القول بالعدم، إلاّ أنّ صحّة القول الأوّل تتوقّف على إثبات أمرين:

الأوّل: ورود كلمة «على مؤمن» في دليل معتبر.

الثاني: في حال وقوع تعارض بين دليل مذيّل بهذه الكلمة وبين سائر الأدلّة الخالية منها يكون الترجيح للزيادة، وهو ما يعبّر عنه بكبرى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، فإذا ثبت كلا الأمرين معاً صحّ القول الأوّل، ويظهر من الشيخ الأعظم(رحمه الله) ثبوتهما معاً.

أمّا ثبوت الأمر الأوّل؛ فلما ذكره في مقام بيان مدرك قاعدة «لا ضرر» حيث قال: فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصحّ ما في الباب سنداً وأوضحه دلالة»(4)،

ثمّ ذكر رواية زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام) في قضية سمرة بن جندب المشتملة في ذيلها على كلمة «على مؤمن»، ممّا يعني أنّ الشيخ! يرى أنّ هذه الكلمة قد وردت في دليل معتبر.

ص: 52


1- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 366
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 147
3- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 603
4- فرائد الأصول 2: 457

ويمكن توجيه قوله! المذكور في اعتبار رواية زرارة بأحد وجهين:

الأوّل: ورودها في الكافي، وقد شهد الكليني(رحمه الله) بصحّة روايات كتابه؛ حيث ذكر في المقدّمة في إجابة سؤال مَن سأله تأليف «كتاب يجمع فيه من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين(علیهم السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدَّى فرض الله عزوجل وسنّة نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)... وقد يسَّر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت»(1)،

وهذه الشهادة صريحة من الكليني! بصحّة جميع روايات الكافي.

الثاني: أنّ رواية ابن مسكان عن زرارة وإن كانت ضعيفة من جهة محمّد بن خالد البرقي، ومن جهة الإرسال، إلاّ إنّها معتضدة بموثّقة ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)، فاشتمال رواية ابن مسكان على زيادة «على مؤمن» مع أصل قضية سمرة الواردة في موثّقة ابن بكير ممّا يوجب الاطمئنان بصدورها.

وأمّا ثبوت الأمر الثاني - وهو تقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة - فيقال: إنّ هذا التقديم ليس تعبّدياً صرفاً، بل هو من باب بناء العقلاء، مضافاً إلى تسالم أهل الدراية والحديث على تقديم عدم الزيادة والحكم بثبوتها في نفس الأمر.

وبناءً على ثبوت كلا الأمرين المذكورين تكون رواية ابن مسكان عن

ص: 53


1- الكافي 1: 8 - 9

زرارة معتبرة، ومن هنا نجد الشيخ! عبّر عنها بأصحّ روايات الباب وأوضحها دلالة.

ولكن قد أشكل على كلا الأمرين:

أمّا على الأمر الأوّل فقد أشكل عليه السيد الأستاذ بكلا شقّيه:

أمّا الشقّ الأوّل فبأنّ رواية عبد الله بن مسكان عن زرارة مرسلة، ومجرّد وجودها في الكافي لا يدلّ على اعتبارها؛ وذلك لعدم تمامية شهادة الكليني! في مقدّمة الكافي، لقصورها في شمولها لجميع روايات كتابه، وعلى فرض الشمول فهي غير حجّة؛ لأنّها شهادة حدسية، وعليه فلا يمكن الاعتماد على رواية عبد الله بن مسكان لكونها مرسلة.

وأمّا الشق الثاني فهو غير تامّ أيضاً؛ لأنّ الروايتين وإن اتّفقتا في أصل قضية سمرة، إلاّ إنّ سند رواية عبد الله بن مسكان عن زرارة يختلف عن سند عبد الله بن بكير عن زرارة، فلکل واحدة منهما سند مستقلّ، فلا معنى للقول بالاعتضاد، فتكون الزيادة وهي «على مؤمن» غير ثابتة؛ لعدم ثبوتها في رواية معتبرة(1).

وأمّا على الأمر الثاني فبوجهين الاول: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من المنع عن الصغرى.

ص: 54


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 603

وبيان ذلك هو أن يقال: إنّ كبرى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة والحكم بثبوت الزيادة في نفس الأمر في مقام التعارض عند أهل الحديث والدراية مسلّمة؛ لأنّ تقديمها ليس تعبّداً صرفاً، بل هو من باب بناء العقلاء، وأبعديّة الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عن الغفلة بالنسبة إلى النقيصة، إلاّ أنّ هذا البناء لا يجري في المقام؛ وذلك لوجود ميزة فيه توجب تقديم أصالة عدم النقيصة على عدم الزيادة، وهي تعدّد الراوي من جانب النقيصة مع وحدة الراوي من جانب الزيادة، فاحتمال غفلة المتعدّد عن سماع زيادة كلمة «على مؤمن» في غاية البُعد، وهذا بخلاف احتمال الزيادة من جانب الراوي الواحد، فلعلّه زادها من جهة المناسبة بين الحكم والموضوع، وأنّ المؤمن هو الذي تشمله العناية الإلهية في استحقاق نفي الضرر عنه امتناناً(1).

الثاني - ما عن بعض السادة الأجلاّء - وهو: أنّ كبرى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة في نفسها غير تامّة.

وتوضيح ذلك: أنّ مدرك ومستند هذه الكبرى إمّا من جهة كونها من جملة المرجّحات الصدورية العامّة وعليه فهي تعبّر عن وجود مزيّة نوعيّة قائمة في طرف الزيادة دائماً أو غالباً بحيث توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع، وإمّا من جهة كونها من الأصول العقلائية وأنّ بناءهم في مقام التعارض على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة.

ص: 55


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 365

وعلى كلا هذين التقديرين فالكبرى غير تامّة.

بيان ذلك:

أمّا على التقدير الأوّل؛ فإنّ أصالة عدم الزيادة إنّما تكون ذا ميزة وراجحة على أصالة عدم النقيصة فيما لو كان منشأ هذين الأمرين منحصراً في الغفلة، فتكون الزيادة حينئذٍ بالنسبة للنقيصة بعيدةً جدّاً، وهذا بخلاف الغفلة في النقيصة فهي عادة ما توجب النفي والطرح وإسقاط كلمة، فلذا تكون الغفلة في النقيصة أقرب من الغفلة في الزيادة، فالإثبات والزيادة على خلاف الطبع، بل الطبع على الإسقاط والطرح، ومن هنا يترجّح عدم الزيادة على عدم النقيصة، وكذا فيما لو كانت النسبة بين الزيادة والنقيصة نسبة العموم والخصوص المطلق، بمعنى: أنّ منشأ الزيادة ينحصر في الغفلة، ومنشأ النقيصة يعمّ الغفلة والاختصار، فحينئذٍ يترجّح عدم الزيادة على عدم النقيصة.

ولكن كلا الأمرين غير تامّين؛ وذلك لعدم انحصار منشئهما في الغفلة، كما أنّ النسبة بينهما ليست العموم والخصوص المطلق، فكما يحتمل استناد النقيصة إلى الغفلة أو الاختصار أو تصوّر كون القيد توضيحياً لا احترازياً، فكذلك احتمال الزيادة لا ينحصر في الغفلة، بل له مناشئ أخر كتحقّق الزيادة لمناسبة الحكم والموضوع، أو من أجل أنّ الراوي استفاد قيداً للكلام من القرائن المحتفّة به حسب فهمه فأثبته، ومن ذلك يتّضح: أنّ النسبة بين عدم الزيادة وعدم النقيصة ليست هي العموم والخصوص المطلق حتى يقال بتقديم أصالة

ص: 56

عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة على نحو الإطلاق، بل النسبة هي العموم من وجه، وعليه فلابدّ من ملاحظة مجموع الاحتمالات ودرجة كل احتمال بحدّ ذاته، ومن ثمّ الحكم عليه.

وعلى فرض التسليم والقول بأنّ عدم الزيادة راجحة ومقدّمة على عدم النقيصة، فهي لا توجب إلاّ الظن بوقوع النقيصة، وهو غير معتبر؛ لعدم الدليل على حجّية الظنّ الصدوري، لا تعبّداً، ولا عقلاً. نعم، لو حصل الاطمئنان والوثوق بوقوع النقيصة لكان معتبراً، وإلاّ فهو غير معتبر.

وأمّا على التقدير الثاني فنقول:

أوّلاً: نمنع ثبوت الأصل المذكور عند العقلاء مطلقاً حتى فيما لو لم تقم القرائن الموجبة للوثوق بأحد الطرفين، بل القدر المتيقّن من بنائهم هو فيما لو حصل الوثوق والاطمئنان بأحد الطرفين، ومع عدمه يتعاملون معه معاملة المتعارضين، فدعوى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة مطلقاً ممنوعة، والشاهد على ذلك هو إذا كان شخص في مقام استلام ألف دينارٍ من غيره فأمر شخصين بعدّ المبلغ، فعدّه أحدهما ألفاً، والآخر ألفاً وخمساً وعشرين، فهل يقدّم الثاني ويرجع خمسة وعشرين إلى صاحب المال؟

ومن ذلك يظهر أنّ بناءهم ليس قائماً على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة مطلقاً، بل إنّ ذلك عند حصول الوثوق والاطمئنان فقط.

وثانياً: أنّ دعوى الإجماع واتّفاق الكلّ على تقديم الزيادة على النقيصة في

ص: 57

حال التعارض غير صحيحة، بل وقعت هذه الكبرى مورد الخلاف لدى الخاصّة، كما هو كذلك عند العامّة أيضاً، فهذا المحقّق النائيني(رحمه الله) - وهو من أعيان علماء الخاصّة - يرى أنّ التقديم المذكور ليس من جهة التعبّد، بل من جهة أبعدية احتمال الغفلة في طرف الزيادة، ولكن هذا البناء لا يجري فيما إذا كانت في جانب النقيصة مزيّة مرجّحة على جانب الزيادة، كتعدّد الراوي في جانب النقيصة مع وحدته في جانب الزيادة، أو احتمال زيادة الراوي الواحد من جهة مناسبة الحكم والموضوع(1).

وأمّا من العامّة، فهذا الزيلعي - وهو من محدّثي العامّة - يحكي لنا الخلاف الواقع في هذه الكبرى بين علماء العامّة، فيقول بنص كلامه: إن قيل: قد رواها نعيم المجمر وهو ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، قلنا: ليس ذلك مجمعاً عليه، بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل، وهو: أنّها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الوثاقة... وتقبل في موضوع آخر لقرائن تخصّها(2).

أقول: يمكن الجواب عن جميع ما تقدّم:

أمّا عن الأمر الأوّل فهي مناقشة مبنائية؛ فإنّ مَن يبني على صحّة جميع

ص: 58


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 96 - 100
2- نصب الراية 1: 456

روايات الكافي - كما يظهر من شيخ الشريعة والمحقّق الميرزا النائيني! الذي حكي عنه قوله: إنّ المناقشة في أسانيد روايات الكافي حرفة العاجز(1) - فلا يتوجّه إليه الإشكال.

نعم، يتّجه هذا الإشكال على مَن يبني على عدم صحّة جميع روايات الكافي، إمّا لقصور شهادة الكليني(رحمه الله) في شمولها لجميع روايات الكافي، وإمّا لكون الشهادة حدسية وليست بحسّية؛ وذلك لأنّنا وإن احتملنا بأنّ المراد من «بعض أصحابنا» صفوان وابن أبي عمير، إلاّ أنّا لو أغمضنا النظر عن شهادة الكليني فسوف لا نجد طريقاً لتصحيح سند الرواية.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذا الاحتمال ليس إلاّ مجرّد استحسان لا يوجب الوثوق والاطمئنان، وعلى هذا يتبيّن أنّ هذه المناقشة - التي لم يتعرّض لذكرها سيدنا الأستاذ! في كلامه مفصّلاً - تامّة على مبناه.

وأمّا عن الأمر الثاني - وهي المناقشة الصغروية - فيرد على ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله): بأنّه إذا كان مراده من التعدّد بالنسبة إلى الروايات الخالية عن زيادة «على مؤمن» في غير قضية سمرة فليس بينها وبين الروايات المشتملة على هذه الزيادة تهافت أصلاً؛ وذلك لإمكان صدور الرواية في موارد مختلفة، فتصدر تارة في مورد مطلقة وبدون هذه الكلمة، وتصدر أخرى في مورد آخر مقيّدة بها، وبذلك يمكن الأخذ بجميع هذه القضايا والتعامل معها معاملة المطلق

ص: 59


1- معجم رجال الحديث 1: 82

والمقيد من دون أن يلزم التهافت والتناقض بينها، وأمّا إذا كان مراده من التعدّد هو بالنسبة للرواية الواردة في قضية سمرة بن جندب، فالتحقيق أن يقال: إنّ مجموع الروايات الواردة في هذه القضية هي ثلاث روايات:

الأولى: رواية الصدوق بسنده إلى الحسن الصيقل، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام)(1).

الثانية: رواية ابن بكير، عن زرارة(2).

الثالثة: رواية ابن مسكان، عن زرارة(3).

ومن الواضح: أنّ الأولى خارجة عن محلّ الكلام؛ وذلك لعدم كونها مذيّلة بالكبرى الكلّية، أي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا ضرار»، فتبقى حينئذٍ الرواية الثانية والثالثة، وقد وردت كلمة «على مؤمن» في الثالثة دون الثانية، إلاّ أنّ كلتيهما مرويتان عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام)، فلا يتصوّر التعدّد في طرفٍ والوحدة في طرف آخر.

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده! هو تعدّد الرواة المتأخّرين عن الراوي المباشر عن الإمام(علیه السلام)، وهو زرارة، فإنّ الرواة المتأخّرين في سند موثّقة ابن بكير عن زرارة أكثر من الرواة في سند موثّقة ابن مسكان؛ وذلك لأنّ لابن بكير كتاباً

ص: 60


1- وسائل الشيعة 25: 427، ح1
2- المصدر نفسه 25: 428، ح3
3- المصدر نفسه 25: 429، ح4

يرويه جماعة، كما أنّ الكليني! قد رواها أيضاً عن العدّة، وهذا بخلاف رواية ابن مسكان عن زرارة، فهو وإن كان له كتاب إلاّ أنّه لم يروه جماعة، كما أنّ روايته عن زرارة يرويها الكليني عن علي بن محمد بن بندار فقط.

ولكنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً عن كلامه!؛ وذلك لعدم دخالة تعدّد الرواة المتأخّرين عن الراوي المباشر في ترجيح أحد طرفي الزيادة أو النقيصة، بل غاية ما في الأمر أنّهم ينقلون الرواية إمّا عن طريق السماع أو القراءة أو غير ذلك. نعم، الراوي المباشر عن الإمام(علیه السلام) يحتمل نسبة الزيادة والنقيصة إليه، وبذلك يظهر أنّ ميزة التعدّد - التي ذكرها المحقّق النائيني(رحمه الله) لترجيح جانب النقيصة على جانب الزيادة - في غير محلّها.

وأمّا احتمال كون الزيادة من جهة فَهم الراوي لمناسبة الحكم والموضوع - وكون الحكم امتنانياً، فلا يشمل غير المؤمن - فهو بعيد؛ وذلك لأنّه بالرجوع إلى الروايتين يظهر أنّ رواية ابن مسكان عن زرارة قد بيّنت قضية سمرة بنحو من التفصيل، فلذا لم تختصّ الزيادة بكلمة «على مؤمن»، بل هي مشتملة على جمل كثيرة زائدة عمّا هو مذكور في موثّقة ابن بكير، ممّا يعني: أنّ احتمال كون زيادة الكلمة المذكورة ناشئة عن فهم الراوي بمناسبة الحكم والموضوع بعيدٌ جدّاً.

والمتحصّل هو: أنّ ما ذكره المحقّق الميرزا النائيني! في مناقشة الصغرى، وذكره ميزتين لترجيح جانب النقيصة، غير تامٍّ.

ص: 61

وأمّا ما ذكره بعض السادة الأجلاّء في مناقشة الكبرى، ففيه: أنّه لا ريب في أنّ بناء العقلاء قائم على الأخذ بأصالة عدم الزيادة في كلام المتكلّم، سواء كان ذلك في رواية أو غيرها، بل يعدّ ذلك من صغريات حجّية الظاهر، فلا يعتنون باحتمال الغفلة أو الاشتباه أو الكذب ويتعاملون معه معاملة عدم الزيادة والبناء على ثبوت الكلمة في كلام المتكلم. نعم، إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة في قضية واحدة فنقلت تارة مع زيادة وأخرى بدونها، فهل يجري هذا البناء العقلائي بحيث تقدّم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة أو لا؟

المستفاد من كلمات كثير من المحقّقين التسالم والاتّفاق على الجريان في الجملة، ولكنّ القدر المتيقّن من ذلك: ما إذا لم تكن هناك مزية مرجّحة في جانب النقيصة أو مساوية للمزية في جانب الزيادة، ومن هنا لابدّ من ملاحظة موارد جريان الأصل.

وتفصيل ذلك هو أن يقال: إنّ الدوران بين الزيادة والنقيصة له عدّة صور: فتارة تكون الزيادة والنقيصة في القضايا المتعدّدة والموارد المختلفة كقضية سمرة مع قضية الشفعة في الماء والكلاء، فإنّ قوله(علیه السلام): «لا ضرر ولا ضرار» ورد في قضية سمرة مع الزيادة، وبدونها في قضية الشفعة.

وأخرى تكون الزيادة والنقيصة متحقّقة في قضية شخصية واحدة، كما في الأخبار الواردة في قضية سمرة.

وعلى كلا التقديرين: تارة يكون نقل الرواية بنفس الألفاظ الصادرة من

ص: 62

المعصوم(علیه السلام)، وأخرى يكون النقل بالمعنى.

وعلى جميع هذه التقادير: تارة تكون الزيادة مغيّرة للمعنى بنحو الإطلاق والتقييد، وأخرى بنحو التعارض، ففي الصور التي تكون الزيادة فيها مغيّرة للمعنى بنحو التعارض، فسواء كان ذلك في قضايا متعدّدة أو في قضية شخصية واحدة، وسواء كان النقل باللفظ أو بالمعنى، فالحكم فيها واضح؛ لأنّها تدخل في باب التعارض، فيقع التعارض حينئذٍ بين الزيادة والنقيصة، فإذا أمكن الجمع الدلالي بينها فهو، وإلاّ وجب ملاحظة مرجّحات باب التعارض من المرجّحات السندية من الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، فحينئذٍ يقدّم أحدهما على الآخر.

وأمّا في سائر الصور؛ ففي الصورة الأولى، وهي فيما لو كانت الزيادة والنقيصة متحقّقة في قضايا متعدّدة، فحينئذٍ يحمل المطلق على المقيد، وهذا ممّا لا إشكال فيه؛ لعدم التنافي بين الإطلاق والتقييد، لإمكان صدورهما من المعصوم(علیه السلام)، فيؤخذ بالزيادة، فتجري أصالة عدم الزيادة بلا إشكال.

وأمّا الصورة الثانية، وهي ما إذا كان النقل بالمعنى وكانت الزيادة والنقيصة في قضيتين أو أكثر، فالمفروض ثبوت الحجّية للرواية فيما إذا توفّرت فيها شرائط الحجّية، سواء نقلت ووصلت إلينا بألفاظها الصادرة عن المعصوم(علیه السلام)، أو نقلت ووصلت إلينا بالمعنى؛ وذلك لأنّ أدلّة حجّية الخبر الواحد - كقوله(علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا

ص: 63

ثقاتنا»(1) - شاملة للمنقول من الأخبار بألفاظها الصادرة من المعصوم، وللمنقول منها بالمعنى، فلابدّ من العمل بكلا النقلين فيما إذا توفّرت شرائط الحجّية فيهما، وعلى كلّ حال حكم هذه الصورة كحكم سابقتها.

وأمّا الصورة الثالثة - والتي هي محلّ كلامنا - وهي ما إذا كانت الزيادة والنقيصة في واقعة شخصية، سواء كانت منقولة بألفاظها الصادرة من المعصوم(علیه السلام)، أم منقولة بالمعنى، كما في قضية سمرة بن جندب، فقد وردت في بعض الأخبار مذيّلة بكلمة «على مؤمن» كما في رواية ابن مسكان عن زرارة، وخلت منها معتبرة ابن بكير عن زرارة، فالظاهر من غير واحد دعوى التسالم والاتّفاق على جريان البناء العقلائي والأخذ بأصالة عدم الزيادة، كما يظهر من شيخ الشريعة(2)، والمحقّق النائيني(3)، والسيد الأستاذ(4)،

وسيد المنتقى(5)، قدّس الله أسرارهم، بل عن الكفاية في الدراية(6) بأنّه محلّ اتّفاق، ولم يختلف فيه أحد.

والوجه في هذه الدعوى هو ما يقال: من أنّ الزيادة تصريح من المتكلّم

ص: 64


1- وسائل الشيعة 27: 149، ح40
2- قاعدة لا ضرر: 12
3- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 364
4- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 602
5- منتقى الأصول 5: 388
6- مخطوط

بثبوتها ووجودها في الكلام، فهي بمنزلة النصّ، وهذا بخلافه في جانب النقيصة فهي ظاهرة في عدم وجودها وثبوتها، ومن المعروف والمتسالم عليه في حالة دوران الأمر بين النصّ والظاهر حمل الظاهر على النصّ، ولا أقلّ أنّ الزيادة أظهر في ثبوتها من عدمها، ومن المسلّم بينهم في دوران الأمر بين الأظهر والظاهر هو تقديم الأوّل على الثاني، وبذلك يقدّم جانب عدم الزيادة على عدم النقيصة، ولكنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا كان أصل ثبوت الزيادة محرزاً، وأمّا إذا كان مشكوكاً - كما إذا كان الناقل في جانب الزيادة واحداً وفي جانب النقيصة متعدّداً، أو لا أقلّ من تساوي المزية والرجحان في الجانبين - فيشكل تقديم أصالة عدم الزيادة؛ وذلك لعدم إحراز بنائهم على ذلك.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ أصالة عدم الزيادة مقدّمة حتى في حال ضعف احتمال عدم الزيادة، كما هو كذلك في تقديم الصريح والأظهر على غيره.

والمتحصّل: أنه قد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ ما نحن فيه لا يندرج في الصورة الأولى، بل إمّا أن يكون مندرجاً في الصورة الثالثة، والظاهر فيها جريان الأصل، فلا وجه للقول بتعدّد الناقل في جانب النقيصة؛ وذلك لأنّ الناقل للزيادة هو ناقل النقيصة، فهو شخص واحد في المقام، وهو زرارة في قضية سمرة بن جندب، وأمّا سائر القضايا الواردة في القاعدة فليست دخيلة في جريان الأصل كما ذكرنا، وإمّا أن تكون الزيادة من الراوي لجواز نقله بالمعنى، فيندرج ما نحن فيه في الصورة الثانية.

وعلى هذا فالمحتملات تكون ثلاثة: إمّا أنّ الراوي قد نقل ما صدر من

ص: 65

الإمام(علیه السلام) بالزيادة والنقيصة والإجمال والتفصيل فتكون كلتاهما من الإمام(علیه السلام)، وإمّا أن تكون من الراوي المباشر عن الإمام(علیه السلام) وهو زرارة، وإمّا أن تكون من الرواة المتأخّرين، وعلى جميع هذه التقادير فلا إشكال في ذلك فيما إذا كان النقل بنفس الألفاظ الصادرة من المعصوم(علیه السلام)، وأمّا إذا كان النقل بالمعنى فكون الزيادة من الرواة المتأخّرين بعيدة جدّاً؛ وذلك لما تقدّم من اقتصار دورهم في ضبط الأخبار وتدوينها وسماعها وقراءتها، فلذا من المستبعد صدور الزيادة والنقيصة في حقّهم في باب الأخبار.

وأمّا احتمال كون الزيادة من الراوي المباشر عن الإمام(علیه السلام) - وهو زرارة - فهو أيضاً بعيد في نفسه؛ وذلك لأنّه عندما يلاحظ متن الحديثين يظهر أنّ الإمام(علیه السلام) تارة كان في مقام التفصيل، وأخرى في مقام الإجمال؛ وذلك لعدم انحصار الزيادة في كلمة «على مؤمن» فقط، بل يظهر لمن راجع الحديثين أنّ هناك عدّة جملٍ زائدة ممّا يضعّف كون الزيادة صادرة من زرارة.

وعلى فرض التسليم بصدور الزيادة من زرارة وليست من الإمام(علیه السلام) فيقال حينئذٍ: إذا جاز النقل بالمعنى فلعلّ صدور هذه الزيادة من زرارة نشأ من فهمه المعتمد على القرائن، وعليه فيكون فهمه معتبر.

وكيف كان فالمزية غير متحقّقة في جانب النقيصة، وعليه فيجري الأصل في المقام.

وحاصل الجهة الأولى: أنّ كبرى تقديم أصالة عدم الزيادة على عدم

ص: 66

النقيصة مسلّمة في الجملة بين المحقّقين من الأعلام كما اعترف بذلك شيخ الشريعة(1)، والمحقّق النائيني(2)، ويظهر ذلك من السيد الأستاذ(3) أيضاً، بل عن صاحب الكفاية في الدراية(4): أنّ هذا الأصل مورد للاتّفاق بين أهل الحديث، ولم يستشكل فيه أحد. والظاهر أنّها منطبقة على ما نحن فيه، إلاّ أنّ الإشكال في ثبوت الزيادة بدليل معتبر.

الجهة الثانية: على فرض وجودهما فهل يترتب أثر عليهما؟

الجهة الثانية: على فرض ثبوت زيادة «في الإسلام» و «على مؤمن» في أدلّة قاعدة «لا ضرر»، فهل يترتّب أثر على ذلك أو لا؟

يظهر من الشيخ الأنصاري! القول بترتّب الأثر على كلمتي «في الإسلام» و «على مؤمن» في ذيل قاعدة «لا ضرر».

أمّا الأثر المترتّب على كلمة «في الإسلام» - فمضافاً لكونها مؤيّدة لما استظهره من المعنى التركيبي للحديث، وهو نفي الحكم الشرعي الملقى للعباد في الضرر، نظير قوله: «لا حرج في الدين» - هو أمران:

الأوّل: أنّ المنفي في الشريعة المقدّسة هو الحكم الذي يلزم من العمل به الضرر على العباد، سواء كان الضرر ابتدائياً أو مجازاة، وعليه فيبعد كون المراد

ص: 67


1- قاعدة لا ضرر: 12
2- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 364
3- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 602
4- مخطوط

من «لا» في الحديث هو النهي التكليفي عن الإضرار بالنفس أو بالغير، ابتداء أو مجازاة.

الثاني: أنّ أدلّة قاعدة «لا ضرر» حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّلية، تكليفية كانت كحكم الشارع بوجوب الوضوء على مَن لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير وكحرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقّف أخذ الحقّ عليه، أم وضعية كلزوم البيع مع الغبن وسلطنة الناس على أموالهم أو غير ذلك من الأحكام الأوّلية إذا كانت موجبة للضرر، فإنّه بناءً على ذلك يظهر أنّه في مقام الامتنان، ولسان القاعدة لسان الحكومة(1).

وأمّا الأثر المترتّب على كلمة «على مؤمن»، فهو اختصاص حرمة الضرر بالنسبة للغير، وهو المؤمن، فلا يشمل نفي الضرر على النفس والضرر على غير المؤمن من المخالف فضلاً عن الذمّي والمعاهد(2).

ولكن ناقش في ذلك المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله)، فنفى وجود الأثر في كلا الموردين، وأنّ وجود هاتين الكلمتين وعدمه سيّان، فلا يفرق معنى «لا ضرر ولا ضرار» بزيادتهما ونقصهما(3)،

وتبعه عليه كلّ من السيد الأستاذ وسيد المنتقى *.

ص: 68


1- انظر: فرائد الأصول 2: 461 - 462
2- انظر: رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية): 115
3- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 366

أمّا كلمة «في الإسلام» فلأنّ استظهار أحد المعنيين من النفي والنهي لا يتوقّف على وجود هذه الكلمة وعدمها، وكذلك حكومة أدلّة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية وعدمها؛ وذلك لأنّ الأثرين يدوران مدار استظهار أحد المعنيين، فإذا استظهرنا من بين المحتملات الآتية في معنى الحديث أنّ المراد به هو نفي الحكم الضرري المجعول في الإسلام، فحينئذ يترتّب عليه الحكومة، ويكون احتمال المراد من الحديث هو النهي بعيداً، وأمّا إذا لم نستظهر هذا المعنى فلا يترتّب هذان الأثران على كلمة «في الإسلام»، وعليه فوجود هذه الكلمة وعدمها سيّان بالنسبة للأثرين؛ وذلك لأنّا نجد ثبوت هذه الكلمة في بعض الموارد، ولكن مع ذلك فإنّ الأثرين غير منفيين، كما في قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا مناجشة في الإسلام»، أي إنّ تعريف السلعة أو زيادة قيمتها ليرغب إليها المشتري منفيٌّ في الشريعة، والمراد به النهي والحرمة لا نفي الحكم جزماً، وعليه فأين هذا المعنى من الحكومة ورفع الحكم الثابت وضعاً؟ وكذلك في قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا رهبانية في الإسلام»، فالمراد من كلمة «لا» النهي عن الرهبانية، ولا معنى لحملها على نفي حكمها في الإسلام، وعليه فليست له حكومة ونظر إلى أدلّة ما ليقال بعد ذلك بالحكومة.

وبالجملة: إنّ وجود كلمة «في الإسلام» وعدمه سيّان في استفادة ما ذكر من الأثرين(1).

ص: 69


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 365 - 366

وأمّا كلمة «على مؤمن»، فلا يترتّب عليها الأثر المذكور أيضاً.

أمّا بالنسبة للحكومة وعدمها فلا فرق بين ثبوت هذه الكلمة وعدم ثبوتها؛ وذلك لما ذكرناه في كلمة «في الإسلام».

وأمّا بالنسبة لعدم شمولها لحرمة الإضرار بالنفس والضرر لغير المؤمن من الذمّي والمعاهد، فيقال: إنّه قد ثبت من الأدلّة الخاصّة ما يدلّ على احترام أموالهم وأعراضهم، كما ثبت أيضاً: أنّ الإضرار بالنفس محرّم كالإضرار بالغير، فقد ورد عن الكليني بسنده إلى أبي عبد الله(علیه السلام)، قال «إنّ الجار كالنفس غير مضّار، ولا آثم»(1)، كما أنّ بعض الإضرار مندرج تحت قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(2)، وكذلك ثبت حرمة الإضرار بسائر الفرق الإسلامية وأهل الذمّة، وأنّ دماءهم محقونة، وأموالهم وأعراضهم محترمة، ولا يترتّب أثر على وجود هذه الكلمة في ذيل الحديث الشريف.

أقول: الظاهر وجود الأثر المترتّب على ثبوت الكلمتين المذكورتين.

أمّا على كلمة «في الإسلام» فيستفاد من ثبوتها أنّ هذا الحكم - سواء أريد من كلمة «لا» النفي أو النهي - من مختصّات الشريعة الإسلامية، فتدلّ بمفهومها على نفي الحكم الثابت له في الشرائع السابقة، نظير قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا رهبانية في الإسلام»، أو على نفي الحكم الثابت في القوانين المدنية،

ص: 70


1- الکافي2: 666، ح2
2- البقرة: 195

كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا مناجشة في الإسلام»، فالنجش كان متداولاً عند العرف، فنفاه الشارع.

ويترتّب على نفي الحكم أو حرمته أنّه حكم امتناني؛ لاختصاصه بالشريعة الإسلامية، وحينئذٍ يكون حاكماً على أدلّة الأحكام الأوّلية، وهذا بخلاف ما لو كان الحديث مجرّداً عن هذه الكلمة، فلا يدلّ على أنّ الحكم المنفي كان ثابتاً في الشرائع السابقة حتى يدلّ على الامتنان، وعلى هذا فثبوت «في الإسلام» فيه دلالة واضحة على الحكومة، وإن قلنا بعدم توقّف الحكومة عليها.

وأمّا كلمة «على مؤمن» فإنّه يترتّب على وجودها في ذيل الحديث حرمة الإضرار بالغير فقط، ولا يشمل الإضرار بالنفس وبغير المؤمن، كما يترتّب على عدم ثبوتها حرمة الإضرار مطلقاً، سواء كان بالنفس أو بالغير، وسواء كان الغير مؤمناً أو غير مؤمن، بل وإن كان ذمّياً.

وأمّا استفادة حرمة الإضرار بالنفس بالأدلّة الخاصّة، فهو محلّ خلاف بين الأعلام، فقد ذهب جماعة منهم إلى حرمة الإضرار بالنفس فيما إذا كان مهمّاً ومبغوضاً في الشريعة المقدّسة، كقطع الأعضاء ونحوه، ممّا يعدّ من الإلقاء في التهلكة، وعلى فرض ثبوت الأدلّة الخاصّة على حرمة مطلق الإضرار فلا معنى لكون الحديث حاكماً على الأدلّة الأوّلية، بل يكون شأنه شأن سائر الأحكام الأوّلية، وهذا بخلاف افتراض ثبوت الكلمة المذكورة، فحينئذٍ دلالتها على الامتنان وعلى حكومة الحديث على سائر الأدلّة واضحة، وعلى هذا فكيف يقال: إنّ وجود كلمتي «في الإسلام» و «على مؤمن» وعدمه سيّان في استفادة

ص: 71

الأثر على وجود هاتين الكلمتين.

الجهة الثالثة: إنّ جملة «لا ضرر ولا ضرار» هل وقعت مستقلّة، أو في ضمن قضايا؟

الجهة الثالثة: إنّ جملة «لا ضرر ولا ضرار» هل وقعت مستقلّة، أو في ضمن قضايا؟

فنقول في مقام الجواب: قد وردت جملة «لا ضرر ولا ضرار» في الروايات على عدّة أنحاء:

الأوّل: وردت هذه الجملة مستقلّة في عدّة من الروايات:

منها: روايتا الشيخ الصدوق، الأولى في الفقيه(1)، والأخرى في معاني الأخبار(2).

ومنها: رواية الشيخ الطوسي في الخلاف في باب خيار الغبن(3).

ومنها: رواية عوالي اللئالي(4).

ومنها: مرسلة العلاّمة في التذكرة(5).

الثاني: وردت هذه الجملة المذكورة في ضمن قضية سمرة بن جندب وذيلاً لها، بحيث تكون كبرى لهذه القضية، كما في رواية زرارة وموثّقته، ففي

ص: 72


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334، ح 2
2- معاني الأخبار: 393
3- كتاب الخلاف 3: 440
4- عوالي اللئالي 3: 210
5- تذكرة الفقهاء 11: 68

كلتا الروايتين وقعت جملة «لا ضرر ولا ضرار» كبرى لقضية سمرة.

الثالث: وردت هذه الجملة ذيلاً في روايات، كما في الطائفة الثانية والثالثة، وروايات الشفعة، وروايات منع فضل الماء والكلاء، ولكن وقع الخلاف في كيفية وقوع هذه الجملة في سياق هذا القسم من الروايات، فهل هي في الواقع ذيل لهذه القضايا، أو هي مستقلّة عنها؟

وبعبارة أخرى: هل كان الجمع بين الجملة المذكورة والقضية التي وقعت ذيلاً جمعاً في الرواية، أي إنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) جمع بين قضائه في الموردين وبين قوله: «لا ضرر ولا ضرار»، أو من الجمع في المروي؟ فيكون من الإمام أو من الراوي.

إنّ الاحتمالات المتصوّرة في ذلك أربعة:

الأوّل: أن يكون الجمع من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

الثاني: أن يكون الجمع من الإمام الصادق(علیه السلام).

الثالث: أن يكون الجمع من الراوي، وهو عقبة بن خالد.

الرابع: أن يكون الجمع من أصحاب الجوامع الحديثية، حيث جرت سيرتهم على تقطيع الروايات، وجمع ما يرون بينها من ارتباط في المضمون وجعلها في باب خاص.

فبناءً على الاحتمال الأوّل والثاني يكون من الجمع في الرواية، وأمّا بناءً على الاحتمالين الأخيرين فيكون من الجمع في المروي.

ص: 73

ويترتّب على هذه الاحتمالات: أنّه على الاحتمال الأوّل والثاني لابدّ من فرض ترابط بين الصدر والذيل، بأن يكون الصدر من صغريات الذيل، وهذا بخلافه على الاحتمالين الأخيرين، فلا يلزم فرض ترابط بينهما؛ لكون الترابط بينهما قائماً على أساس الاجتهاد، إمّا من الراوي، وإمّا من أصحاب الجوامع الحديثية، وهو ليس بحجّة.

ثمّ إنّ أوّل مَن أبدى احتمال استقلالية الذيل - أي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر ولا ضرار» عن الصدر - وأقام الدليل على ذلك هو شيخ الشريعة! (1)، وتبعه فيه جماعة من المحقّقين الأعلام كالمحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) (2)، والمحقّق الأصفهاني(رحمه الله) (3)، والسيد الأستاذ! (4)، واستدلّوا عليه بجهتين:

الأولى: القرينة الخارجية.

الثانية: القرينة الداخلية.

أمّا القرينة الخارجية فقد ذكر شيخ الشريعة في بيانها أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه يظهر من خلال التتبّع والفحص في متون هذه الروايات: أنّ للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أقضية معروفة ومشهورة بين الفريقين، وقد روى هذه الأقضية من

ص: 74


1- قاعدة لا ضرر: 12
2- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 369
3- نهاية الدراية 4: 449
4- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 604

طرق العامّة عبادة بن الصامت، وقد نقل عنه أحمد بن حنبل في مسنده أكثر من عشرين قضاءً، وغالبها مروية في طرقنا برواية عقبة بن خالد، وبعضها برواية غيره، وجملة منها برواية السكوني، والذي أعتقده أنّها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في موارد مختلفة، كما رويت عنه في الكتب الأربعة بسند واحد، وإذا قارنّا بين ما روي في طرقنا وبين ما روي في طرق القوم سنجد التطابق التام بينهما من غير زيادة ولا نقيصة، بل إنّ كثيراً من الأقضية التي نقلها عقبة بن خالد هي عين ما نقله عبادة، حيث قال: إنّ من قضاء رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): أنّ المعدن جبّار، والبئر جبّار، والعجماء جبّار.

والعجماء: بهيمة الأنعام، والجبّار: من الهدر الذي لا يغرم.

وقضى في الركاز الخمس، وقضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): أنّ ثمر النخل للذي أبّرها إلاّ أن يشترط المبتاع، وقضى: أنّ مال المملوك لمن باعه إلاّ أن يشترط المبتاع، وقضى: أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور، وقضى في النخلة أو النخلتين أو الثلاث فيختلفون في حقوق ذلك، فقضى: أنّ لكل نخلة من أولئك مبلغ جريدتها حيّز لها، وقضى في شرب النخل من السيل: أنّ الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين، ثمّ يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، فكذلك ينقضي حوائط أو يفنى الماء... .

وقضى: أن لا ضرر ولا ضرار، وقضى: أنّه ليس لعرق ظالم حقّ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نقع بئر، وقضى بين أهل البادية: أنّه لا يمنع

ص: 75

فضل ماء ليمنع فضل الكلاء، وقضى في دية الكبرى المغلّظة ثلاثين ابنة لبون وثلاثين حقّة وأربعين خلفة... إلى آخر الحديث(1).

وأمّا الأقضية الواردة من طرقنا والتي غالباً ما تكون مروية عن عقبة بن خالد، فقد جاءت موزّعة على أبواب مختلفة، بعضها عن السكوني، والذي أعتقده أنّها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله(علیه السلام)، كما في رواية عبادة بن صامت، إلاّ أنّ أئمّة الحديث فرّقوها على الأبواب.

ثمّ إنّ شيخ الشريعة! نقل - من قضايا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) - عدّة قضايا من طرقنا برواية عقبة بن خالد:

الأولى: ما ورد في الفقيه بإسناده عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «من قضاء رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): أنّ المعدن جُبّار، والبئر جُبّار، والعجماء جُبّار».

والعجماء: بهيمة من الأنعام، والجبّار: من الهدر الذي لا يغرّم.

وفي الكافي والتهذيب: عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): البئر جُبّار، والعجماء جُبّار، والمعدن جُبّار»(2).

الثانية: ما ورد في الكافي والتهذيب عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن

ص: 76


1- انظر: قاعدة لا ضرر: 19 - 20
2- الكافي 7: 377، ح20؛ التهذيب 10، 225، ح17

الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): أنّ ثمر النخل للذي أبّرها، إلاّ أن يشترط المبتاع»(1).

الثالثة: ما ورد في الكافي والتهذيب عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد: «أنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قضى في هوائر النخل: أن تكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الآخر فيختلفون في حقوق ذلك، فقضى فيها: أنَّ لكل نخلة من أولئك من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين بعدها»(2).

الرابعة: ما ورد في الكافي والتهذيب أيضاً عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في شرب النخل بالسيل: أنّ الأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك من الماء إلى الكعبين، ثمَّ يسرّح الماء إلى الأسفل الذي يليه كذلك حتى تنقضي الحوائط ويفنى الماء»(3).

الخامسة: ما ورد فيهما أيضاً عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال:

ص: 77


1- الكافي 5: 178، ح 178؛ التهذيب 7: 87 ، ح14
2- الكافي 5: 295، ح4؛ التهذيب 7: 144، ح26
3- الكافي 5: 278، ح6؛ التهذيب 7: 140، ح6

«قضى رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(1)، الحديث.

السادسة والسابعة: ما ورد في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل: أنّه لا يمنع نفع الشيء، وقضى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بين أهل البادية: أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(2).

ومن هنا تجد مطابقة الأقضية الواردة برواية عقبة بن خالد من طرقنا للأقضية الواردة برواية عبادة بن الصامت من غير زيادة أو نقيصة، بل بعين تلك الألفاظ غالباً، إلاّ الحديثين الأخيرين المرويين عندنا من زيادة قوله: «لا ضرر ولا ضرار»، وتلك المطابقة بين الفقرات تؤكّد الوثوق بأنّ الأخيرين أيضاً كانا مطابقين لما رواه عبادة بن الصامت من عدم التذييل بحديث «لا ضرر»، وأنّ غرض الراوي أنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال كذا وقال كذا، لا أنّه كان متّصلاً به وأسقطهما عبادة بن الصامت في نقله، ولا يتصوّر نفع له أو ضرر عليه في النقل للذيل وتركه؛ لأنّه لا يرتبط بمسألة الإمامة والولاية ليقال ذلك، بل هو من الثقات ومن أجلاّء الشيعة؛ حيث روى الكشّي في ترجمة أبي أيّوب الأنصاري: أنّ من

ص: 78


1- الكافي 5: 280، ح4؛ التهذيب 7: 164، ح4
2- الكافي 5: 294، ح6

السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) أبو الهيثم ابن التيهان، وأبو أيّوب، وخزيمة بن ثابت... وعبادة بن الصامت(1).

كما أنّه عدّ من النقباء الاثني عشر، ومن الذين شهد العقبة الأولى والثانية، وشهد بدراً وأحداً وخندقاً والمشاهد كلّها، ومن الذين مضوا على منهاج نبيّهم ولم يغيّروا ولم يبدّلوا، فمن عدم ذكر عبادة لجملة «لا ضرر ولا ضرار» ذيلاً في حديثي الشفعة ومنع فضل الماء، وذكره لها قضاءً مستقلاًّ، ومن تطابق الحديثين، يُطمأن بأنّ الجملة المذكورة قضاء مستقلّ، وإنّما وقع الجمع بينهما إمّا من الراوي وهو خالد بن عقبة، أو من أصحاب المجاميع الحديثية.

الأمر الثاني: يلزم من كون «لا ضرر ولا ضرار» ذيلاً في حديثي الشفعة ومنع فضل الماء خلوّ روايات عقبة بن خالد من هذه القضية المشهورة والمعروفة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وهذا بعيدٌ، ممّا يعني: أنّ الجملة المذكورة مرويّة بنحو مستقلّ، لا أنّها ذيل لقضية أخرى.

والمتحصّل من ضمّ الأمرين لبعضهما: أنّ الجمع بين حديثي الشفعة ومنع فضل الماء، وبين حديث «لا ضرر» في رواية عقبة، إنّما هو من قبيل الجمع في المروي، وسببه: إمّا من الراوي، أو من أصحاب المجاميع الحديثية.

هذا كلّه حول القرينة الخارجية.

وأمّا القرينة الداخلية؛ فإنّ جملة «لا ضرر ولا ضرار» وردت مستقلّة، ولم

ص: 79


1- انظر: قاعدة لا ضرر: 20 - 23

تكن ذيلاً في قضاء الشفعة ومنع فضل الماء، فقد ذكرت نكتتين في كلا القضاءين:

أمّا في قضاء حقّ الشفعة فالنكتة الأولى هي: أنّه لو كانت جملة «لا ضرر ولا ضرار» من تتمّة قضاء حقّ الشفعة، فلابدّ من تصوّر ترابط بينهما، وهو لا يخلو من أحد أمرين: إمّا بلحاظ كون القاعدة علّة لحقّ الشفعة، وإمّا بلحاظ كون القاعدة حكمة لتشريع حقّ الشفعة، وكلاهما باطلان.

أمّا الأوّل فواضح؛ لأنّ الضرر إذا كان علّة للحكم بثبوت حقّ الشفعة فلابدّ من دوران الحكم مدار العلّة وجوداً وعدماً كما هو في جميع الموارد، والحال أنّه ليس كذلك في مقامنا؛ لأنّ النسبة بين «لا ضرر» وبين حقّ الشفعة هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فربّما يتضرّر الشريك ولا يثبت له حقّ الشفعة، كما لو كان الشركاء أكثر من اثنين، وقد يثبت حقّ الشفعة من دون أن يتحقّق ضرر على أحد الشريكين، كما لو كان الشريك البائع لحصّته مؤذياً لشريكه الآخر، وكان المشتري ورعاً تقياً محسناً لشريكه الآخر. وربما يجتمعان في مورد، وعليه: حيث إنّ النسبة بينهما هي الأعم والأخص من وجه فليس نفي الضرر علّة لتشريع حقّ الشفعة.

وأمّا عدم كون القاعدة حكمة لتشريعه؛ فلأنّه يعتبر في الحكمة كونها أمراً غالبياً أو كثيرة الموارد، وأمّا وقوعها في الموارد القليلة النادرة فلا يصلح جعل حكم كلّي لها، والمقام كذلك، فإنّه قد يتّفق تضرّر الشريك الآخر وهو ليس بتلك المثابة من الأهمّية بحيث يجعل له حكم كليّ لئلاّ يقع الناس فيه.

ص: 80

وأمّا النكتة الثانية؛ فهي - على فرض التسليم والإغماض عمّا تقدّم - أنّ مدلول ومفاد القاعدة هو نفي الحكم الضرري، إمّا ابتداءً، وإمّا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وعلى كل تقدير فلا ينطبق هذا على الضرر في مورد ثبوت حقّ الشفعة؛ لأنّ منشأ الضرر في مورد حقّ الشفعة في حالة بيع أحد الشريكين حصّته لشخص آخر لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إمّا أن يكون المنشأ نفس البيع، وإمّا من جهة لزوم البيع، وإمّا من جهة جعل حقّ الشفعة لجبران الضرر وتداركه.

فعلى الأوّل يكون المرفوع هو أصل البيع، وهذا يعني الحكم ببطلان البيع، وعلى الثاني يكون المرفوع هو اللزوم، وهذا يعني الحكم بثبوت الخيار بأن يردّ المبيع إلى البائع، وعلى الثالث فالمناسب للرفع هو نقل المبيع إلى مالكه، وهو خارج عن مفاد قاعدة الضرر؛ لأنّ المستفاد منها نفي ورفع المنشأ لا إثبات حكم في البين كما هو واضح.

والمتحصّل من ذلك: عدم انطباق قاعدة «لا ضرر» في مورد حقّ الشفعة.

وأمّا حديث منع فضل الماء؛ فالنكتة الأولى من جهة عدم الترابط بين المنع عن فضل ماء البئر وبين حديث «لا ضرر»؛ لأنّ المنساق من ظاهر الحديث: أنّه لا تمنع طائفة فضل ماء البئر عن طائفة أخرى من شرب مواشيهم لأجل أن يمنعوهم عن الكلاء المباح احتفاظاً به لأنفسهم؛ لأنّ الأنعام لا تستغني عن الماء، بل إذا رعت الكلاء عطشت فتمنعهم الطائفة الأولى ليتوفّر لهم الكلاء، فلا يخلو منع هذه الطائفة من فضل ماء البئر عن أحد أمرين:

ص: 81

إمّا من جهة كونها مالكة للبئر، وإمّا من جهة ثبوت حقّ الأسبقية لها، وعلى كلا التقديرين لا تناسب بين القاعدة وبين المنع.

أمّا على الأوّل فلعدم صدق الضرر في منع المالك فضل مائه عن الغير، وإنّما هو من قبيل عدم النفع، ومن المعلوم أنّ عدم النفع لا يعدّ ضرراً.

وأمّا على الثاني فلعدم صدق الضرر عليه أيضاً؛ وذلك لعدم التنقيص في حقّه.

والنكتة الثانية: على فرض الإغماض عمّا تقدّم في النكتة الأولى، فإنّ المشهور بل من المتسالم عليه: أنّ النهي في مورد حديث منع فضل الماء تنزيهي قطعاً، بلا فرق بين كون مَن بيده منع فضل الماء مالكاً للبئر أو ثبت له حقّ الأسبقية، مع أنّ ظاهر كبرى «لا ضرر ولا ضرار» هو التحريم، فمن جهة عدم التناسب والتلائم بين الحكمين يقال بعدم الترابط بينهما أيضاً.

والمتحصّل ممّا ذكرناه: يستكشف من القرائن الخارجية والقرائن الداخلية أنّ حديثي الشفعة ومنع فضل الماء غير مذيّلين ب- «لا ضرر ولا ضرار»، بل هذه الكبرى وردت مستقلّة، وهي من الأقضية المشهورة، وإنّما كان من الجمع في المروي لا في الرواية، فهو إمّا من الراوي، أو من أصحاب الجوامع الحديثية.

إلاّ أنّه يمكن المناقشة فيما ذكر من القرائن الخارجية والداخلية التي أقاموها على أنّ القاعدة ليست ذيلاً للحديثين، وإنّما هي من الجمع في المروي.

فنقول: في المقام لنا دعويان:

ص: 82

الأولى: أنّ الجمع بين القاعدة وبين حديثي الشفعة ومنع فضل الماء جمع في الرواية من قِب-َل الإمام(علیه السلام).

الثانية: أنّ ما ذكروه من القرائن الخارجية والداخلية - على عدم كون القاعدة ذيلاً للحديثين - غير تامٍّ.

أمّا الدعوى الأولى؛ فإنّ الاحتمالات المتصوّرة في الجمع بين الحديثين أربعة:

الاحتمال الأوّل: أن يكون الجمع بينهما من قبل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وهو بعيد؛ لأنّه لو كان منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) فلا وجه لتكرار كلمة «قال» الكاشف عن الإخبار عن شخص آخر، مع أنّ الصدر والذيل صادران منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، ولذا يبعد أن يكون الجمع منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

الاحتمال الثاني: أن يكون الجمع بينهما من قبل الراوي، وهو بعيد أيضاً؛ وذلك لعدّة أمور:

الأوّل: لأنّ جعل الكبرى ذيلاً في موردين واحتمال زيادتها من الراوي بعيدٌ جداً؛ لأنّ الراوي لو كان مشتبهاً في الجمع لصحّ ذلك في موردٍ واحد، والمفروض أنّ الجمع وقع في موردين: أوّلهما في ذيل حديث الشفعة، والآخر في ذيل حديث منع فضل الماء.

الثاني: أنّ كبرى «لا ضرر» وقعت في وسط حديث الشفعة، وليس ذيلاً فيه؛ حيث وردت بهذا النحو، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بالشفعة بين الشركاء

ص: 83

في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا رفّت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة»(1).

الثالث: أنّ حديث الشفعة وقع في رواية عبادة في القضاء الثامن، وحديث «لا ضرر» وقع في القضاء الثامن عشر، فمع هذا الفصل الطويل بينهما كيف جمع الراوي بينهما وجعل كبرى «لا ضرر» ذيلاً لحديث الشفعة؟!

الاحتمال الثالث: أن يكون الجمع بينهما من قبل أصحاب الجوامع الحديثية، كالكليني(رحمه الله)، والصدوق(رحمه الله)، وهو بعيدٌ في نفسه أيضاً؛ وذلك لأنّ المطّلع على سيرتهم في تبويب الأحاديث يجد أنّهم يقطّعون الأحاديث الطويلة فيجعلون كلّ فقرة في بابها المناسب لها، ولم يكن دأبهم وعملهم قائماً على الجمع بين الروايتين بحيث تصبح الأولى صغرى للثانية الكبرى المذكورة في الذيل.

فإذا كانت هذه الاحتمالات الثلاثة بعيدة فحينئذٍ يتعيّن الاحتمال الرابع منها، وهو: أن يكون الجمع بينهما من قبل الإمام(علیه السلام)؛ تنبيهاً منه(علیه السلام) على أنّ الحكم منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ينطبق على الشفعة، ولم يكن قضاءً منه(علیه السلام)، ومن هنا عبّر(علیه السلام) بكلمة «قال»؛ لأنّ المناسب للقضاء أن يكون في موضوعٍ وموردٍ، لا أن يكون كلاماً ابتدائياً، ومن ذلك يظهر أنّ التعبير بكلمة «قال» - كما ورد ذلك في رواية عقبة - أصحّ ممّا ورد في رواية عبادة بقوله «قضى»، وبناءً على تعيين هذا الاحتمال

ص: 84


1- الكافي 5: 280، ح4

فلابدّ أن يكون بين الصدر والذيل ترابط وتناسب، كما سنذكره بعد ذلك.

وأمّا الدعوى الثانية؛ فإنّ مجموع القرائن - الخارجية والداخلية - غير ناهضة على ما ذكره.

أمّا القرائن الخارجية؛ فما ذكره في الأولى منها بقوله: «يظهر بعد التروّي والتأمّل التام في الروايات: أنّ الحديث الجامع لأقضية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وما قضى به في مواضع مختلفة وموارد متشتّته كان معروفاً عند الفريقين»، ثمّ قال!: «قد عرفت بما نقلناه مطابقة ما روي في طرقنا لما روي في طرق القوم من رواية عبادة بن الصامت من غير زيادة ونقيصة، بل بعين تلك الألفاظ غالباً، إلاّ الحديثين الأخيرين المرويين عندنا من زيادة قوله (لا ضرر ولا ضرار)، وتلك المطابقة بين الفقرات، ممّا يؤكد الوثوق بأنّ الأخيرين كانا مطابقين لما رواه عبادة من عدم التذييل بحديث الضرر»(1). مخدوشٌ من عدّة جهات:

الأولى: أنّ رواية عبادة ليست مشهورة عند العامّة، فلم ترد في أهمّ مصادرهم الحديثية عندهم وهي الصحاح الستّة. نعم، وردت في مسند أحمد بن حنبل وغيره من المعاجم الحديثية عندهم والتي لا ترقى في أهمّيتها واعتبارها إلى الصحاح الستّة.

الثانية: لو ثبتت وثاقة عبادة فلا تجدي في إمكان الاعتماد على حديثه بعد أن كان الراوي عنه إسحاق بن يحيى الذي لم تثبت وثاقته.

ص: 85


1- قاعدة لا ضرر: 19 - 22

الثالثة: كيف يدّعى اشتهار رواية عقبة بن خالد الجامعة لأقضية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مع أنّها لم ترد في الجوامع الحديثية إلاّ في ستّة أو سبعة أقضية، والحال أنّ مجموع الأقضية الواردة عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في جوامعنا الحديثية أكثر من أربعين قضاءً، كلّها عن غير طريق عقبة.

الرابعة: على فرض التسليم بكون رواية عقبة هي الجامعة لأقضية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من طريق الخاصّة، لكن لنا أن نتساءل عن وجه جعل رواية عبادة الجامعة لأقضيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من طريق العامّة مرجّحة عليها، والقول بورود الذيل مستقلاًّ، وأنّ وقوعه ذيلاً لحديثي الشفعة ومنع فضل الماء إنّما كان من باب الاشتباه من قبل عقبة، مع أنّ أحاديثنا ورواياتنا أضبط وأدقّ من روايات العامّة؛ لتأخّر تدوين الحديث عندهم عن عصر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما يزيد على مائة عام، ممّا يعني اعتماد رواتهم على الحفظ في نقل الروايات، وهذا بطبيعته موجب لنسيان بعض خصوصيات الكلام، مع أنّ هذه العلّة غير متحقّقة في رواياتنا؛ لأنّها متلقّاة عن أئمّة أهل البيت(علیهم السلام)، وقد تمّ تدوين الكثير من الأصول والكتب والمصنّفات في عصرهم (علیهم السلام)، وعلى هذا فلا وجه لتطبيق رواية عقبة على رواية عباد، بل ينبغي العكس.

وأمّا الثانية منها؛ فقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله) فيها: أنّه لو كان «لا ضرر ولا ضرار» من تتمّة قضية أخرى في رواية عقبة لزم خلوّ رواياته الواردة في الأقضية عن هذا القضاء الذي هو من أشهر قضاياه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)؛ لأنّه لو كان تتمّة

ص: 86

لقضية أخرى لا يصحّ عدّه من قضاياه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مستقلاًّ(1).

وهو ممّا لا يمكن الالتزام به؛ وذلك:

لما عرفت من كون هذا القضاء من أشهر قضاياه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فإنّ ما ذكره! أوّل الكلام. هذا أوّلاً.

وثانياً: لا يبعد ذكر عقبة لهذا القضاء، غايته لم يصل إلينا من جهة تقطيع أرباب الجوامع الحديثية لهذه الأقضية، وجعل كلّ قضاء في الباب المناسب له، إلاّ أنّ عدم وصوله لنا لا يدلّ على عدم وجوده. نعم، لو وصلت إلينا جميع أقضية عقبة وكانت خالية من القضاء المذكور لكان ما ذكر تامّاً.

وعلى هذا يظهر عدم تمامية القرينتين الخارجيتين.

وأمّا القرينة الداخلية؛ فالأولى منها هي عدم صلاحية كون «لا ضرر» علّة لحديثي الشفعة ومنع فضل الماء.

فيجاب عنه:

أوّلاً: بإمكان الالتزام بكونه علّة لثبوت حقّ الشفعة، كما يمكن الجواب عن مادّتي الافتراق بين حقّ الشفعة وبين «لا ضرر».

أمّا المورد الأوّل - وهو فيما يتضرّر الشريك مع عدم ثبوت حقّ الشفعة له، كما لو كان الشركاء أكثر من اثنين - فهو مورد للخلاف، وغير مقطوع به في

ص: 87


1- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 370

كلماتهم؛ فقد صرّح الشهيد الأوّل في الدروس بعدم ثبوت حقّ الشفعة لأزيد من شريك على الأشهر، ويكاد يكون إجماعاً، وفي مقابل ذلك ذهب جماعة منهم ابن الجنيد والشيخ الصدوق والعلاّمة إلى القول بثبوت حقّ الشعفة وإن كان الشريك أكثر من اثنين، وقد دلّت عليه بعض الروايات.

ثانياً: على فرض التسليم بما ذكر فإنّ حقّ الشفعة لم يلحظ بخصوص الشريك متعدّداً وأكثر من اثنين، فلعلّ ثبوت حقّ الشفعة موجب للتخاصم بين بقية الشركاء في إعمال حقّ الشفعة، أو في دفع الثمن للبائع ممّا يوجب عدم وصول حقّه إليه كما يريد، فدفعاً لذلك يقال بعدم ثبوت حقّ الشفعة فيما لو كان الشركاء أكثر من اثنين.

ثالثاً: أنّ القول بثبوت حقّ الشفعة فيما لو كان الشريك متعدّداً لا يرفع ضرر الشركة، كما أنّه ليس هو العلّة لثبوت حقّ الشفعة، بل المنفي من قبل الشارع هو الضرر الخاص الذي ترتفع معه أصل الشركة، فتدبّر.

وأمّا المورد الثاني؛ وهو عدم حصول الضرر على الشريك مع ثبوت حقّ الشفعة له، كما لو كان المشتري بارّاً محسناً، فيقال: إنّ نفس الشركة مع ملاحظة ما يترتّب عليها من أحكام - والتي منها عدم جواز التصرّف في مال الشركة إلاّ مع إذن الشريك الآخر - أمر ضرري وموجب للنقص، بل إنّ تعامل العرف والعقلاء مع مال الشركة أقلّ من مال غير الشركة، وهذا واضح؛ لأنّ الشركة الأولى غالباً ما تقع برضاهما، وهذا بخلاف الشركة المتجدّدة مع شخص آخر، فالغالب فيها عدم رضا الشريك لها؛ لكونها موجبة لضرره، فلذا

ص: 88

لابدّ من ملاحظة حاله.

والشاهد على ما ذكرناه: ما ورد في كلمات بعض الفقهاء، أمّا من الخاصّة کما في كلمات السيد المرتضى(رحمه الله) احتجاجاً على العامّة بشمول الشفعة لغير الأرضين بعموم العلّة، حيث قال: وممّا يمكن أن يعارضوا به: أنّ الشفعة عندكم إنّما وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع، وهذا المعنى موجود في جميع المبيعات من الأمتعة والحيوان، فإذا قالوا: حقّ الشفعة إنّما يجب خوفاً من الضرر على طريق الدوام، وهذا المعنى لا يثبت إلاّ في الأرضين والعقارات دون العروض، قلنا: في الأمتعة ما يبقى على وجه الدهر، مثل بقاء العراص والأرضين كالياقوت وما أشبهه من الحجارة والحديد، فيدوم الاستضرار بالشركة فيه، وأنتم لا توجبون فيه الشفعة، وبعد فإنّ إزالة الضرر الدائم أو المنقطع واجبة في العقل والشرع، وليس وجوب إزالتها مختصّاً بالمستمر دون المنقطع، فلو كان التأذّي بالشركة في العروض منقطعاً على ما ادّعيتم لكانت إزالتها واجبة على كلّ حالٍ...(1).

وأمّا من العامّة؛ فما ورد في كلمات ابن رشد حيث قال: لمّا كانت الشفعة إنّما المقصود منها دفع الضرر الداخل من الشركة، وكان هذا المعنى موجوداً في الجار وجب أن يلحق به، ولأهل المدينة أن يقولوا: وجود الضرر في

ص: 89


1- الانتصار: 449

الشركة أعظم منه في الجوار(1).

والمتحصّل: أنّ ما ذكر في مادّتي الافتراق بين حقّ الشفعة وبين «لا ضرر» لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا عدم صلاحية «لا ضرر» لأن تكون حكمة لتشريع الشفعة، فممنوع؛ لأنّ إعمال الحقّ ليس إلزاميّاً على الشريك، بل هو بالخيار بين إعماله، وذلك فيما لو رأى ورود الضرر عليه مع تمكّنه من أداء الثمن من دون زيادة ولا نقيصة، وبين عدم إعماله للحقّ، وذلك فيما لو لم يرد عليه ضرر من الشركة مع عدم تمكّنه من أداء الثمن، وفي جميع ذلك يرجع الأمر إلى تشخيصه وما يراه من مصلحته.

هذا كله في القرينة الأولى، وقد تبيّن عدم تماميتها.

وأمّا القرينة الثانية - وهي فيما لو كان الضرر هو المنشأ لثبوت حقّ الشفعة، فنفي الضرر إمّا يوجب الحكم ببطلان أصل البيع، وإمّا يوجب كونه جائزاً - فهي غير تامّة أيضاً؛ وذلك لعدم اختصاص موضوع الضرر بخصوص الشريك غير البائع حتى يرد ما ذكر، بل هو شامل للشريك البائع أيضاً، وذلك فيما لو اضطرّ لبيع حصّته، فالحكم حينئذٍ ببطلان أصل البيع أو القول بعدم لزومه موجب لضرره، فالقول بثبوت حقّ الشفعة للشريك غير البائع إنّما هو من باب الجمع بين الحقّين في عدم تضرّر كلّ منهما.

ص: 90


1- بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2: 207

وعلى هذا يمكن تصوير الارتباط بين حقّ الشفعة وبين «لا ضرر ولا ضرار».

وأمّا حديث منع فضل الماء؛ فقد نقله الشيخ الكليني(رحمه الله) في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بين أهل المدينة في مشارب النخيل: أنّه لا يمنع نقع البئر، وقضى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بين أهل البادية: أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاءٍ، وقال: لا ضرر ولا ضرار»(1)، إلاّ إنّ المحدّث الفيض الكاشاني(رحمه الله) قال في الوافي: إنّ النسخ التي رأيناها من الكافي «نفع الشيء» بدلاً من «نقع البئر»، وهو تصحيف، ويؤيّد ذلك ما ورد في النهاية لابن الأثير حيث قال في شرح «نهى أن يُمنَع نقع البئر»، أي: فضل مائها؛ لأنّه ينقع به العطش: أي يروي، وشَرِب حتى نَقع: أي رَويَ، وقيل: النقع: الماء النَّاقع، وهو المجتمع. ومنه الحديث: «لا يُباع نَقْعُ البئر، ولا رهو الماء»، أراد مجتمعه.

ثمّ ذكر المحدّث المذكور في بيان تعليل النهي عن منع فضل الماء لمنع فضل الكلاء احتمالات ثلاثة:

الأوّل: إمّا لأنّ طائفة منهم كانوا على الماء وأخرى على الكلاء.

الثاني: أنّ المراد به أنّ أصحاب الماء لو منعوا فضل مائهم منعهم الله فضل

ص: 91


1- الكافي 5: 293، ح6

الكلاء.

الثالث: قيل: كان بعضهم يمنع فضل الماء من مواشي المسلمين حتى لا يأكل مواشيهم العشب والكلاء الذي حول مائه، فنهى(علیه السلام) عن المنع؛ لأنّه لو منع لم ينزل حول بئره أحد، فحرّموا الكلاء المباح حينئذٍ(1).

ويؤيّد الاحتمال الأخير ما رواه الصدوق(رحمه الله) في الفقيه مرسلاً، قال: «وقضى(علیه السلام) في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماءٍ، ولا يبيعوا فضل الكلإ»(2).

إذا تبيّن المراد من حديث منع فضل الماء فحينئذٍ يمكن الإجابة عن القرائن الخارجية والداخلية الدالّة على عدم ارتباط الحديث المذكور بحديث «لا ضرر».

أمّا الجواب عن القرينة الخارجية؛ فهو كما ذكرناه في الجواب عن حديث الشفعة، غاية ما في الأمر أنّ المورد هنا يمتاز بوجود مرجّح لكون «لا ضرر» ذيلاً للحديث، كما يوجد في قباله أيضاً مبعّد لعدم كون «لا ضرر» ذيلاً للحديث.

أمّا المرجّح؛ فإنّ الذيل قد ورد في عدّة من الموارد معطوفاً بالفاء، كما في الوسائل والوافي والعوائد والرسائل، وإن ورد في موارد أخر معطوفاً بالواو

ص: 92


1- انظر: الوافي 18: 1015
2- من لا يحضره الفقيه 3: 238، ح12

أيضاً، كما في الكافي والمرآة والجامع، فعلى احتمال الصحّة يكون هذا الوجه مرجّحاً احتمالياً للقول بالارتباط.

وأمّا المبعّد؛ فلأنّ الحديث مضافاً إلى وروده من طرق العامّة خالياً من الذيل كذلك قد ورد في الفقيه بلا تذييل، فعن الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين(رحمه الله)، قال: «قضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في أهل البوادي: أن لا يمنعوا فضل ماءٍ، ولا يبيعوا فضل كلإ»(1)،

وكذا ما ورد عن ابن أبي جمهور في درر اللآلئ عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة»(2)،

وبذلك يقوى احتمال الارتباط بين منع فضل الماء وبين «لا ضرر»، ولكن مع ذلك يؤخذ برواية الكافي لأنّها الحجّة في المقام، مضافاً إلى أنّ الصدوق قد ينقل بعض فقرات الخبر ويترك بعضها لكونها موافقة لفتواه.

وأمّا القرائن الداخلية؛ فيمكن الجواب عن الأولى منها بلحاظ التفصيل الوارد في الرواية بين أهل المدينة وبين أهل البادية؛ لأنّ المراد من أهل المدينة هم المستقرّون في مكان معيّن، كما أنّ المراد من أهل البادية هم المتنقّلون من مكان لآخر طلباً للماء والعشب، ويطلق عليهم أيضاً بالأعراب الرحّل، وعلى هذا ففرض كون أهل البادية مالكين لهذه الآبار الواقعة في

ص: 93


1- المصدر نفسه 3: 420، ح3
2- مستدرك الوسائل 17: 116، ح5

البادية فرضٌ نادرٌ، بل إمّا أن تكون هذه الآبار من المباحات الأصلية، وإمّا أن تكون من الموقوفات المحدَثة لانتفاع عموم الناس بها.

وعلى هذا، فإذا وردت طائفة من أهل البادية على بئر من الآبار فلا إشكال بأنّ لهم حقّ الانتفاع منها لسقيهم وسقي دوابّهم، وأمّا الزائد فهل يجوز لهم منع فضل الماء عن الغير في الاستفادة منه أو لا؟

الظاهر عدم الجواز؛ وذلك لما ذكرناه من كون هذه الآبار إمّا من المباحات الأصلية، وإمّا لكونها من الموقوفات المعدّة لانتفاع عموم الناس بها. نعم، لهم حقّ السبق في الاستفادة منها كما هو مقتضى القاعدة في الانتفاع بالمباحات الأصلية والموقوفات العامّة، إلاّ إنّ ذلك لا يبرّر منع الغير عمّا فضل من استفادته، بل قيل: إنّ منعه للماء لا لحاجة به إلى الماء، بل حيلة منهم ليتوفّر لهم فضل الكلاء، وعلى هذا يكون المنع موافقاً ومطابقاً لكبرى «لا ضرر»؛ وذلك لصدق الضرر في المنع من سقيهم وسقي مواشيهم.

ثمّ إنّ اختصاص المنع بذلك وعدم شموله لسقي الزرع إنّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ حيث إنّ سيرة أهل البادية وعادتهم على التنقّل والترحال من مكان لآخر طلباً للعشب والماء وعدم اتّخاذهم الزراعة مهنة وحرفة لهم، وعليه فلا معنى للقول بعدم الوجه باختصاصه بما ذكر، ومنه ي-تّضح: أنّ تقييد الفقهاء المنع بسقيهم وسقي مواشيهم لا لأجل استفادتهم ذلك من الرواية المذكوره، بل استفادوه من روايات أخرى لا حاجة لذكرها هذا، مضافاً إلى أنّ المسألة وقع فيها الخلاف بينهم.

ص: 94

ومن هذا كلّه يتبيّن وجود الربط بين حديث منع فضل الماء (الصغرى)، وبين حديث «لا ضرر» (كبرى للمنع).

وأمّا الجواب عن القرينة الثانية - وهي دعوى كون النهي في حديث منع فضل الماء تنزيهياً قطعاً، فلا يناسب تذييله بكبرى «لا ضرر ولا ضرار» - فغير تامّة؛ وذلك لأنّ المسألة فيها خلاف بين فقهاء الخاصّة أنفسهم، كما هي مورد خلاف بين فقهاء العامّة، فقد ذهب جماعة من الخاصّة إلى عدم الجواز، كما نسب إلى ابن الجنيد، ويظهر أيضاً من الشيخ في الخلاف؛ حيث قال ما لفظه: إذا ملك البئر بالإحياء وخرج ماؤها فهو أحقّ بمائها من غيره بقدر حاجته وحاجة ماشيته، وما يفضل عن ذلك يجب عليه بذله لغيره لحاجته إليه للشرب له أو لماشيته، ولا يجب عليه بذله لسقي زرعه، بل يستحبّ له ذلك، وبه قال الشافعي، وقال أبو عبيد بن حربويه: يستحبّ له ذلك لسقي غيره وسقي مواشيه وسقي زرعه، ولا يجب على حال، وفي الناس مَن قال: يجب عليه بذله بلا عوض(1)، فيظهر منه القول بوجوب بذل ما يفضل عن حاجته وحاجة ماشيته، كما أنّ العلاّمة(رحمه الله) في المختلف - بعد نقله كلام الشيخ(رحمه الله) - قال: وبه قال ابن الجنيد(2).

وعلى هذا، فمن مجموع ما نقلناه يتبيّن: أنّ المسألة خلافيّة بينهم.

ص: 95


1- كتاب الخلاف 3: 532
2- مختلف الشيعة 6: 203

هذا فيما لو كان البئر مملوكاً للمانع، فضلاً عمّا إذا لم يكن مالكاً له، فلا يجوز له المنع حينئذٍ بطريق أولى عن فضل ماء البئر وفضل الكلأ كما هو صريح الرواية.

والمتحصّل: أنّ ما ذكر من القرائن الخارجية والداخلية - على عدم كون كبرى «لا ضرر ولا ضرار» ذيلاً لحديثي الشفعة ومنع فضل الماء - غير ناهضة على ذلك.

مضافاً إلى قيام الدليل على أنّ الجمع بينهما كان من قبل الإمام(علیه السلام) نقلاً لقول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

ص: 96

المقام الرابع: في فقه الحديث

اشارة

والبحث يقع حول جهتين:

الجهة الأولى: في مدلول مفردات الحديث.

الثانية: في مدلول الهيئة التركيبية.

أمّا بيان الجهة الأولى؛ فالكلام في موردين:

المورد الأوّل: في مادّة الضرر، وهو اسم من «ضّر، يضرّ، ضّراً»، وقد ذكرت المعاجم اللغويّة لهذه المادّة معانٍ عديدة، فقد وردت بمعنى الحاجة، والمشقّة، والنقص، وسوء الحال، والزَّمِن، والعلّة، والضيق، والشدّة في البدن، والمكروه، والعمى، والهزال، والقحط، والإيذاء، والفقر، وغيرها من المعاني المذكورة.

إلاّ انّه يمكن إرجاعها إلى معنى واحد جامع، وهو النقص، فتكون المعاني التي ذكرها أرباب المعاجم من مصاديق هذا الجامع، وهو النقص، والمراد به كلّ نقص واردٍ على النفس أو المال أو الحقّ الثابت له اعتباراً، سواء من العقلاء أو الشارع، كما في قضية سمرة حيث لم يراع حقّ الأنصاري، ولذلك أطلق عليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) «إنّك مضار»، وقد ذكر ابن منظور في مادّة «ض ر ر» ما هذا لفظه: «في أسماء الله تعالى: النّافِعُ الضّارُّ، وهو الذي ينفع مَن يشاء من خلقه ويضرّه، حيث هو خالق الأشياء كلّها، خيرها وشرّها، ونفعها وضرّها. الضَّرّ والضُّرّ لغتان ضدّ النفع، الضرّ المصدر، والضُّرّ الاسم، وقيل: هما لغتان كالشَّهد

ص: 97

والشُّهْد، فإذا جمعت بين الضَّرّ والنفع فتحت الضاد، وإذا أفردت الضُّرّ ضممت الضاد إذا لم تجعله مصدراً، كقولك: ضَرَرْتُ ضَرّاً؛... . أبو الدُّقيش: الضَّرّ ضدّ النفع، والضُّرّ - بالضم - الهزال وسوء الحال. وقوله عزّوجلّ: ]وإذا مسّ الإنسان الضُّرُّ دعانا لجنبه[؛ وقال: ]كأن لم يدعنا إلى ضُرّ مسّه[، فكلّ ما كان من سوء حال وفقر أو شدّة في بدن فهو ضرّ، وما كان ضدّاً للنفع فهو ضَرّ، وقوله تعالى: ]لا يضرّكم كيدهم[ من الضَّرر، وهو ضدّ النفع.

والمَضَرّة: خلاف المنفعة، وضَرَّهُ يَضُرّه ضَرّاً وضَرَّ به وأضرَّ به وضَارَّهُ مُضَارَّةً وضراراً بمعنى، والاسم الضَّرر. وروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أنّه قال: «لا ضَرَرَ ولا ضرارَ في الإسلام»،....(1).

وفي النهاية لابن الأثير قال: الضرُّ: ضدّ النفع، ضَرَّه يَضُرُّه ضَرّاً وضِراراً وأضرّ به يُضِرُّ إضراراً. فمعنى قوله: «لا ضرر»، أي: لا يَضُرُّ الرجلُ أخاه فَينَقصُه شيئاً من حقّه(2).

وفي مجمع البحرين: أضرّ به إضراراً، الثلاثي متعدّ، والرباعي متعدّ بالباء، أي: لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه...(3).

والمتحصّل من مجموع كلمات اللغويين: أنّ مادّة «الضرر» - على اختلاف

ص: 98


1- لسان العرب 3: 2300، مادّة «ضرر»
2- النهاية في غريب الحديث 3: 81 ، مادّة « ضرر»
3- مجمع البحرين 3: 16، مادّة «ضرر»

مشتقّاتها وموارد استعمالاتها - ترجع إلى معنى واحد عام جامع، وهو النقص، سواء كان في المال، أو البدن، أو في حقّ من الحقوق الثابتة عند العقلاء، أو عند الشرع كما في قضية سمرة.

وبناءً على هذا فهل النقص شامل لما لو كان المقتضي للنفع وشرطه تامّاً، بحيث كان في معرض الوصول للنفع فمنع من تحقّقه، كما لو كان لشخصٍ دكّان في نوع من الكسب وكان مقدار بيعه كثيراً ففتح شخص آخر دكّاناً قريباً منه في نفس النوع من الكسب ممّا أدّى ذلك إلى قلّة الشراء من الأوّل، فهل يُعدّ ذلك ضرراً؟ الظاهر من الإطلاقات العرفيّة صدق الضرر عليه، كما ذكر ذلك المحقّق النائيني(رحمه الله)، ولكن هل هو مشمول لدليل نفي الضرر؟ وهل النقص يشمل النفع الاستعدادي أو لا؟

الظاهر: أنّ القدر المتيقّن من الضرر هو النقص الفعلي في النفع، وشموله للاستعدادي مشكل جدّاً، فهو مورد للشكّ، فيكون شكّاً في التكليف الزائد، ومقتضى الأصل عدمه.

المورد الثاني: في مادّة «ضرار»، وهو مصدر، إمّا لثلاثي مجرّد كحساب وكتاب، وإمّا لمزيد فيه من باب المفاعلة كما يظهر ذلك ممّا تقدّم في كلمات أرباب المعاجم اللغوية، وعلى كلّ تقدير فهذه المادّة تشترك مع مادّة «الضرر» في أنّهما يدلاّن على النقص وعلى المعنى الحدثي، وتختلف هذه المادّة من حيث إنّها فيها نسبة صدورية، وهذا على خلاف اسم المصدر، فإنّه يدلّ على نفس الحدث، وهذا لا كلام فيه، وإنّما البحث في أنّ «لا ضرار» هل هي

ص: 99

متّحدة مع «الضرر» من حيث المعنى، أو هي مختلفة من جهة الخصوصيات الناشئة من الهيئة؟ فيه أقوال تسعة:

الأوّل: أنّه يدلّ على المشاركة، كما هو الأصل في باب المفاعلة.

الثاني: يدلّ على الجزاء، فالضرر فعل ابتداءً، والضرار هو المجازاة على ذلك الفعل.

الثالث: أنّ الضرر ما يُضرّ به المفعول وينتفع به الفاعل، والضرار أن تضرّ به المفعول من دون أن ينتفع به الفاعل.

وهذه المعاني الثلاثة مستفادة من كلمات اللغويين(1).

الرابع: ما اختاره السيد الأستاذ! ونسبه إلى المحقّق الأصفهاني!، وهو: أنّ الضرار بمعنى السعي والتصدّي للإضرار مع عدم الوصول إليه، وهذا بخلاف الضرر فإنّه مع الإيصال، كما في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}(2)، فإنّ معناه: أنّ المنافقين يسعون ويتصدّون لإيجاد الخدعة، ولكن لا تقع خدعتهم على الله والمؤمنين، بل تقع على أنفسهم، وعليه فقد استعملت كلمة «يخادع» في السعي لإيجاد الخدعة مع عدم وقوعها، ومن هنا عبّر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرّد «يخدعون» لبيان وقوع الخدعة على أنفسهم.

ص: 100


1- انظر: النهاية في غريب الحديث 3: 81
2- البقرة: 9

وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ ال-ْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَ-هُمُ الْ-جَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}(1)، حيث استعملت كلمة «يقاتلون» في السعي والتصدّي لإيجاد القتل، ومن هنا عبّر في الجملة الثانية بقوله: «فيقتلون ويقتلون» في تحقّق القتل(2).

الخامس: ما ادّعاه الآخوند الخراساني(رحمه الله)، من أنّ الضرار بمعنى الضرر، ولا فرق بينهما، وإنّما جيء به للتأكيد فقط(3).

السادس: ما احتمله قريباً المحقّق النائني(رحمه الله)، من أنّ الضرار بمعنى تعمّد الضرر والإصرار عليه، فإنّ أغلب استعمال اسم الفاعل من باب المفاعلة هو أن يكون صدور المبدأ نعتاً ووصفاً للفاعل، كما يقال: زيد محارب، أو مماطل، أو مقاتل. ق-ال الله تعالى: {فَضَّلَ اللهُ الْ-مُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ}(4)، وق-ال سبحانه: {مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً} (5)، وقال عزّ اسمه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْ-حَاجِّ وَعِمَارَةَ الْ-مَسْجِدِ الْ-حَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ

ص: 101


1- التوبة: 111
2- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 607
3- انظر: كفاية الأصول 3: 160
4- النساء: 95
5- النساء: 100

اللهِ}(1)، فكأنّ الإصرار على الإضرار صار بمنزلة صدور الفعل بين الاثنين(2).

السابع: ما نسب إلى المحقّق الرضي الاسترآبادي! في شرح الشافية: أنّ معنى باب المفاعلة هو معنى المجرّد، ولكن بنحو من الطول والامتداد، وهو الامتداد في نسبتها بين اثنين، فمعنى هاجر وطالب وسافر، أي: أطال الهجرة، وأطال الطلب، وأطال السفر، وهو يختلف عن هجر وطلب وسفر التي تدلّ على مجرّد المادّة من دون طول وامتداد فيه(3).

الثامن: ما اختاره بعض السادة الأجلاّء - وهو تفصيل لما نسب إلى المحقّق الرضي الاسترآبادي(رحمه الله) - من أنّ هذه الهيئة تدلّ على نسبة مستتبعة لنسبة أخرى بالفعل أو بالقوّة، وهو يختلف باختلاف الموارد، فتارة تكون النسبة الثانية كالأولى صادرة من نفس هذا الفاعل، وأخرى من المفعول كما في «ضارب»، فيعبّر عن المعنى بالمشاركة، وفي الحالة الأولى تارة يكون تعدّد المعنى من قبيل الكمّ المنفصل، فيعبّر عنه بالمبالغة كما ذكره المحقّق الرضي الاسترآبادي(رحمه الله)، أو يعبّر عنه بالامتداد، وقد يكون المعنى من قبيل الكمّ المتّصل، فيكون تكرّره بلحاظ انحلاله إلى أفراد متتالية كما في «سافر» ونحوه، وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ فإنّ إصرار سمرة على إيقاع الضرر على الأنصاري

ص: 102


1- التوبة: 19
2- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 378
3- انظر: الشافية وشرحها للرضي: 24 , 26 (كما عن قاعدة لا ضرر ولا ضرار للسيد السيستاني: 133)

بمنزلة التكرار والاستمرار(1).

أقول: الظاهر أنّ المعاني الثلاثة الأخيرة، وهي السادس، والسابع، والثامن، ترجع إلى معنى واحد، ولكن بتقريبات مختلفة، كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

التاسع: ما ذكره بعض أعاظم العصر، من أنّ الضرار بمعنى التضييق وإيصال الحرج والمكروه والكلفة إلى الغير، فإنّ استعمالها في ذلك شائع ومعروف، بل الظاهر غلبته فيها؛ فإنّ غالب استعمال هذا الباب في القرآن الكريم إنّما يكون بهذه المعاني، فإنّ قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} قد فُسِّر بذلك، فعن أبي عبد الله، قال: «لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة فيضارّ بها إذا كان لها ولد مرضع، ويقول لها: لا أقرَبُك، فإنّي أخاف عليك الحبل فتقتلي ولدي، وكذلك المرأة لا يحلّ لها أن تمتنع على الرجل، فتقول: انّي أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي، وهذه المضارّة في الجماع على الرجل والمرأة(2)»(3).

هذه هي الأقوال التسعة في هذه الهيئة.

أقول: إنّ القول الرابع - وهو ما نسب إلى المحقّق الأصفهاني(رحمه الله)، من أنّ

ص: 103


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 130
2- تفسير القمّي 1: 76
3- بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 65

الضرار بمعنى التصدّي للإضرار، سواء وقع الفعل أو لم يقع - هو الظاهر من سيدنا الأستاذ! في المصباح، إلاّ إنّ المستفاد من كلام المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية أنّه مقيّد بالوقوع.

وعلى كلّ حال، فلأجل أن ت-تّضح صحّة ما نسب إليه لا بأس بنقل كلامه!، فإنّه يشتمل على لطائف ونكات، فقد قال!: وإن كان الأصل في باب المفاعلة أن يكون بين فعل الاثنين كما هو المشهور، إلاّ إنّ ذلك لا أصل له؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: الاستعمالات اللغوية، وأنّه قد تتبّعنا موارد استعمالات هذه الصيغة في الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنية وغيرها فإنّ فيها ما لا يصحّ فيه ذلك، وفيها ما لا يراد منه ذلك، كقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}(1)، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ}(2)،و {يُرَاءُونَ}(3)، و {نَادَيْنَاهُ}(4)، و {نَافَقُوا}(5)، و {شَاقُّوا}(6)، و {مَسْجِداً ضِرَاراً}(7)، و {لا تُمْسِكُوهُنَّ

ص: 104


1- البقرة: 9
2- النساء: 100
3- النساء: 142
4- مريم: 52
5- آل عمران: 167
6- الأنفال: 13
7- التوبة: 107

ضِرَاراً}(1)، و {لا تُؤَاخِذْنِي}(2).

ومن الاستعمالات: عاجله بالعقوبة، وبارزه بالحرب، وباشر الحرب، وساعده التوفيق، وخالع المرأة، وواراه في الأرض، ففي جميع هذه الموارد الصيغة إمّا إنّها غير مستعملة بين اثنين، وإمّا لا يراد منها ذلك.

وعليه فكيف يقال: إنّ الأصل في استعمال باب المفاعلة هو أن يكون بين طرفين كما عن المحقّق الآخوند الخراساني!؟(3)

الثاني: الدليل العقلي، وهو أن يقال بالفرق بين المفاعلَة والتفاعل بعد الاشتراك في التقوّم بفعل الاثنين بالانتساب إليهما، بالصراحة وبالأصالة في الثاني، وبالأصالة إلى أحدهما والتبعية إلى الآخر في الأوّل.

مع أنّه غير معقول، والوجه فيه: أنّ كلّ هيئة لا تكون موضوعة إلاّ بإزاء نسبة خاصّة من النسب، فليس مفاد هيئة «تضارب زيد وعمرو» نسبة ضرب زيد عمراً، ونسبة ضرب عمرو زيداً، بل ضرب كلّ منهما الآخر، لوحظ نسبة واحدة بينهما، وعلى نهج مادّة واحدة إلى طرفين يعبّر عنها في الفارسية بقولهم: «بهم زدن»، فزيد وعمرو طرفا هذه النسبة الوحدانيّة، وعليه فمفاد ضارب زيد عمراً إن كان هذه النسبة الخاصّة فلا فرق بينهما وبين تضارب زيد وعمرو، فما وجه

ص: 105


1- البقرة: 231
2- الكهف: 73
3- كفاية الأصول 3: 160

انتساب المادّة إلى طرفيها كما في تضارب زيد وعمرو.

وأمّا الثاني فالتبعية إمّا ثبوتاً وإمّا اثباتاً، وكلاهما غير معقول.

أمّا ثبوتاً؛ فيلزم منه تعدّد النسبة حتى تكون إحداهما أصلية والأخرى تبعية، لا أنّ النسبة الواحدة متقوّمة باثنين؛ لعدم تعقّل الأصالة والتبعية ثبوتاً مع وحدة النسبة.

وأمّا إثباتاً؛ فإنّ التبعية في الدلالة فرع التبعية في المدلول كتبعية المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي، فليس ضرب عمرو زيداً تابعاً لضرب زيد عمراً ثبوتاً حتى تنحلّ النسبة الخاصّة إلى نسبتين إحداهما لازمة للأخرى.

والمتحصّل: أنّه على جميع التقادير لا يوجد دليل على انحلال النسبة الواحدة إلى عدّة نسب إحداهما أصلية والأخرى تبعية.

ثمّ بيّن! التحقيق في الفرق بين باب المفاعلة كضارب زيدٌ عمراً، وبين الثلاثي المجرّد بما حاصله: أنّ الفعل الثلاثي - سواء كان بنفسه لازماً أو بنفسه متعدّياً - لا يتعدّى إلى شخص آخر إلاّ بتوسّط «إلى»، وهذا بخلاف هيئة المفاعلة فإنّ حيثية التعدية ملحوظة بالأداة، أو ملحوظة في هيئة المفاعلة بنفسها، فقولنا: ضرب زيدٌ عمراً، أو خدع زيد عمراً، وإن كان متعدّياً إلى غيره، سواء كان قاصداً للخدعة أو لا، إلاّ أنّ التعدية ذاتي مفادهما، بخلاف ضارب وخادع فإنّ هذه الحيثية ملحوظة في مقام إفادة النسبة حتى يصدق عليه أنّه خادعه، وعلى هذا فالفرق هو: أنّ النسبة الصدورية في باب المفاعلة متوقّفة

ص: 106

على القصد والتصدّي، كالضرار ففيها تصدٍّ وسعي لإيقاع الضرر بالغير، وهذا بخلاف الفعل الثلاثي فقد يصدق على الغير من دون تصدٍّ وسعي(1). انتهى كلامه!.

فعلى كلامه الأخير يظهر عدم فرض عدم وقوع الفعل فيه، بل الظاهر منه! وقوع الفعل بنحو التصدّي والسعي.

ولكنّ الظاهر أنّ ما ذكره! لا يمكن المساعدة عليه:

أمّا الوجه الأوّل؛ فلأنّ الذي يظهر من كلمات اللغويين أنّ لباب المفاعلة عدّة معانٍ، وأوّل ما ذكروه أنّها تكون بمعنى المشاركة بين اثنين، كما قد ترد بمعنى التكثير كباب «فعّل»، كضاعف الشيء، وقد ترد أيضاً بمعنى المجرّد الذي يفيد المبالغة، إلاّ إنّ الذي يظهر من خلال تتبّع مصاديق هذه الصيغة أنّ كثيراً من مواردها تكون المفاعلة فيها بنحو المشاركة بين اثنين، بحيث لا يمكن سلبها عنها، من قبيل المقاتلة، المحاربة، المكالمة، المحادثة، المصادقة، المجالسة، المباشرة، المباعدة، المكارمة، المبايعة، المراودة، المزارعة، المضاربة، المقارنة، المفارقة، المشاعرة، المقاولة، المعاوضة، المصالحة، وغيرها من الأمثلة، فحينئذٍ كيف يمكن إنكار كون الصيغة بمعنى المشاركة بين اثنين؟

هذا، مضافاً إلى عدم دعوى اللغويين: أنّ الصيغة تدلّ على المشاركة دائماً.

ص: 107


1- انظر: نهاية الدراية 4: 437

وأمّا الوجه الثاني؛ فيمكن اختيار الشقّ الثاني، وهو كون النسبتين أصلية والأخرى تبعية، بحيث تكون الثانية في طول الأولى وتبعاً لها، وهذا لا محذور فيه، بل الوجدان أقوى برهان على إمكانه، ومنه يندفع عدم معقولية انحلال الصيغة إلى نسبتين أصليتين في عرض واحد.

نعم، يبقى استظهار التصدّي في الفرق بين صيغة المفاعلة وغيرها من صيغ الباب، فيقال حينئذٍ بأنّ التصدّي والسعي هو أحد مصاديق هذه الهيئة، وليس هو تمام مفاد الهيئة؛ فإنّ الذي يظهر من خلال التتبّع في موارد استعمالات هذه الصيغة أنّها تدلّ على نوعٍ من المبالغة، وهي تختلف بحسب اختلاف الموارد.

فتارة المبالغة تكون في النسبة بين اثنين، وأخرى المبالغة تكون من جهة الطول والامتداد كما في سافر وطالب ورابط وصابر وجاهد وهاجر، وثالثة المبالغة تكون من جهة التصدّي والإصرار في السعي كما في «الضرار»، وكذا «مضار» المتضمّن لمعنى التعمّد والسعي، كما ورد في الآيات والروايات.

أمّا الآيات؛ فكقوله تعالى: {وَلا تُ-مْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}(1)، وقوله عزّ شأنه: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}(2)، وغيرها.

وأمّا الروايات؛ فمنها: ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم: «إذا أعتق نصيبه

ص: 108


1- البقرة: 231
2- البقرة: 233

مضارّة وهو موسر ضمن للورثة»(1).

ومنها: ما ورد في صحيحة الحلبي: «فأعتق أحدهما نصيبه فقال «(علیه السلام)»: إن كان مضارّاً كُلّف أن يعتقه كلّه، وإلاّ استسعى العبد»(2).

ومنها: ما ورد في رواية الحسن بن زياد: «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه»(3)، إلى غير ذلك من الموارد التي يستفاد منها أنّ التصدّي والإصرار في السعي على الضرر مصداق لباب المفاعلة.

والمتحصّل: أنّ صيغة المفاعلة تدلّ على نوع من المبالغة، وهي على أنحاء مختلفة، تختلف بحسب المصاديق والموارد المستعملة فيها.

الجهة الثانية:في مدلول الهيئة التركيبية و فيه مسالك

اشارة

وأمّا بيان الجهة الثانية - والتي هي في مدلول الهيئة التركيبية - فإنّ البحث عن مفاد ومدلول الهيئة التركيبية من المباحث المهمّة والتي يعتني بها الفقيه كثيراً، ولذا وقع الخلاف بينهم في تعيين مفاد القاعدة على مسالك وأقوال ستّة، ولتوضيح المقام نذكر أموراً ثلاثة:

الأوّل: بيان منشأ الخلاف بين هذه المسالك والأقوال الستّة.

ص: 109


1- وسائل الشيعة 23: 40، ح12
2- الوافي 10: 601
3- من لا يحضره الفقيه3: 501

الثاني: دراسة هذه المسالك والأقوال.

الثالث: تقريرات هذه المسالك وما يرد عليها.

أمّا الأمر الأوّل؛ فيقال: إنّه لا شكّ في أنّ المستفاد العرفي من مدخول «لا» أو «ما» النافيتين هو الإخبار عن نفي الجنس والحقيقة، كقوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ}(1)، وقوله سبحانه: {لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ}(2).

وأمّا إذا وردت في الاستعمالات الشرعية وفي مقام التشريع فحيث لا يمكن حملها على الإخبار عن نفي الجنس حقيقةً فحينئذٍ تكون على أنحاء:

الأوّل: هو أنّ الجملة وإن كانت ظاهرة في النفي، إلاّ إنّ المراد الجدّي والمقصود الواقعي هو النهي والزجر عن ذلك الشيء بحيث يكون متعلّق النفي مبغوضاً للشارع، وبالتالي يكون الكلام نفياً أريد به النهي، وعلى هذا يكون الإخبار عن نفي شيء دالاًّ على الزجر عن ذلك الشيء، كما أنّ الإخبار عن ثبوت شيء دالّ على طلب ذلك الشيء، فلذا ذكرنا في مبحث الأوامر: أنّ الجملة الخبرية قد تستعمل في الإنشاء ويراد منها الطلب، بل دلالتها على الطلب حينئذٍ آكد من الجملة الإنشائية، كقوله(علیه السلام): «يعيد»، أو «أعاد»، بمعنى: أنّ المؤمن الذي هو في طريق امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى لابدّ أن يعيد الصلاة، فكذلك الإخبار عن النفي في لسان الشارع قد يرد بمعنى الزجر كناية

ص: 110


1- محمد: 19
2- الكهف: 39

عن مبغوضية متعلّقه، كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْ-حَجِّ}(1)، وقوله(علیه السلام): «لا غشّ بين المسلمين»(2)، فإنّها تدلّ على أنّ المؤمن لا يفعل كذا، ومعنى ذلك: كون المتعلّق في جميع الأمثلة المذكورة مبغوضاً للشارع.

الثاني: أن يدلّ الإخبار على نفي الطبيعة، لكن ليس مطلقاً، بل نفي لها في ضمن حصّة أو فرد منها، كقوله(علیه السلام): «ليس بين الوالد وولده ربا، ولا بين الزوج والمرأة ربا»(3)، وقوله(علیه السلام): «لا غيبة لمن ألقى جلباب الحياء»(4)، وقوله(علیه السلام): «لا سهو على الإمام إذا حفظ عليه من خلفه»(5)، و «لا سهو على من أقرّ على نفسه بسهو»(6)، ففي جميع هذه الموارد يراد الإخبار عن نفي الطبيعة في ضمن فرد خاص، أو حصّة خاصّة، ويقصد بذلك نفي الحكم الثابت للطبيعة، أو الحصّة التي تكون في ضمن هذا الفرد الخاص، أو تلك الحصّة الخاصّة، فيكون المراد في المثال الأوّل نفي الحرمة في مورد الربا بين الوالد والولد، وفي الثاني نفي حرمة الغيبة للمتجاهر بالفسق، وفي الثالث نفي

ص: 111


1- البقرة: 197
2- كنز العمّال 4: 60، ح9511
3- بحار الأنوار 100: 122، ح 36
4- مستدرك الوسائل 8: 461، ح4 ، وفيه: «ومَن ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له»
5- تهذيب الأحكام 3: 54، ح98
6- وسائل الشيعة 8: 229، ح 8

حكم السهو مع حفظ المأموم، وهكذا، وهذا ما يصطلح عليه أصوليّاً بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع، بمعنى: أنّ المنفي حقيقة وواقعاً هو الحكم، ولكن بنفي موضوعه، وحينئذٍ لابدّ في هذا الاستعمال من ثبوت حكم إلزامي، تكليفي أو وضعي في الشريعة المقدّسة لنفس الطبيعة ليكون هذا نافياً له عن الفرد، أو عن الحصّة بلسان نفي الموضوع، هذا فيما لو كان النفي حقيقياً.

الثالث: أن يدلّ الإخبار على نفي الطبيعة، ولكن ليس مطلقاً، بل نفي للطبيعة في ضمن فردٍ أو حصّة منها بلسان نفي الموضوع ادّعاءً، فلا يترتّب عليه إلاّ نفي الآثار المترقّبة والمرغوبة من الطبيعة المعبّر عنها بنفي الكمال.

الرابع: أن يدلّ الإخبار على نفي ثبوت الموضوع في الشريعة الإسلامية، من قبيل ما ورد في قوله(علیه السلام): «لا رهبانية في الإسلام»(1)، و «لا مناجشة في الإسلام»(2)، و «لا رأي في الدين»(3)، فالمنفي في جميع هذه الموارد هو ثبوت هذه العناوين في الشريعة الإسلامية، ولكن يراد منها نفي الحكم، وعليه فلابدّ أن يكون لهذه العناوين حكم، إمّا في الشرائع السابقة فيكون نفيها في الإسلام حينئذٍ كنَاية عن نفي حكمها وتشريعها كما في المثال الأوّل، وإمّا في العرف، سواء كان عامّاً كما في المثال الثاني، أو خاصّاً كما في المثال الثالث،

ص: 112


1- مستدرك الوسائل 14: 155، ح2
2- كنز العمّال 4: 383، ح11025
3- وسائل الشيعة 27: 51، ح34

فجميعها منفية في الإسلام.

والحاصل: أنّ الحكم المنفي في هذا النحو هو ما كان ثابتاً للموضوع في الشرائع السابقة أو في العرف، من غير فرق بين أن يكون إلزامياً، أو غير إلزامي، وهذا هو وجه اختلافه عن سابقه.

الخامس: أن يدل الإخبار على نفي الحكم ابتداءً، كما في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(1)، فالمنفي على هذا هو نفس الحكم الحرجي، وظرفه الدين الذي هو عبارة عن مجموعة من الأحكام المجعولة، فثبوت الحرج في الشريعة إنّما هو بجعل حكم حرجي، والذي ينطبق على فعل المولى حيث يصدق عليه أنّه أوقع المكلّفين في الحرج إذا كلّفهم بتكليف حرجي، فنفيه في الشريعة إنّما هو بعدم جعل حكم يلزم من امتثاله الحرج على المكلّف.

وقد تبيّن من جميع ما ذكرناه: أنّ الهيئة التركيبية مستعملة في الموارد الشرعية على أنحاء مختلفة ممّا أوجب اختلاف أنظار الفقهاء فيما يستفاد منها.

وأمّا الأمر الثاني؛ وفيه عدّة مسالك:

المسلك الأوّل:الشيخ الأنصاري

المسلك الأوّل: ما استظهره الشيخ الأنصاري! ونسبه إلى فهم العلماء(2)، وتبعه

ص: 113


1- الحج: 78
2- فرائد الأصول 2: 461 - 462

غير واحد كالمحقّق النائيني(رحمه الله) (1)، والسيد الأستاذ(رحمه الله) (2)، من أنّ المقصود من «لا ضرر» - بعد تعذّر حمل الأخبار على إرادة الحقيقة - هو نفي الحكم الضرري، إمّا على أساس المجاز في الحذف، بمعنى لا حكم ينشأ منه الضرر، وإمّا على أساس المجاز في الكلمة، بأن يكون المنفي السبب والمنشأ وهو الحكم الضرري، وإمّا من باب صحّة إطلاق الضرر على السبب وإرادة نفي المسبّب بعلاقة السببية، باعتبار أنّ المسبّب بمنزلة السبب وأنّهما شيء واحد.

ونتيجة هذا المسلك هي: أنّ كلّ حكم أو موضوعٍ موجب للضرر فهو منفي، سواء كان الحكم تكليفياً، أو وضعياً، وسواء كان إلزامياً، أو غير إلزامي، فهو يشمل جميع هذه الموارد، وأنّها منفية في الشريعة المقدّسة.

المسلك الثاني:المحقّق الخراساني

المسلك الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني! في الكفاية، من أنّ المنفي ابتداءً هو الموضوع، يعني الضرر، ولكن حيث لا يمكن حمل النفي على نفي الحقيقة والجنس كما في «لا رجل في الدار»؛ وذلك لمخالفته للواقع، فلابدّ حينئذٍ من حمله على النفي ادّعاءً بلحاظ حكمه، وهذا ما يعبّر عنه أصوليّاً بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كما هو الظاهر من مثل «يا أشباه الرجال ولا رجال»(3)، و «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(4)، فالمراد من جميع

ص: 114


1- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 379 - 380
2- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 615 - 616
3- نهج البلاغة 1: 67، الخطبة 27
4- عوالي اللئالي 1: 306

ذلك هو النفي للشيء كناية عن نفي الآثار المترتّبة على المواضيع من الأحكام التكليفية الإلزامية والوضعية(1).

وهذا المفاد قريبٌ لما ذكره الشيخ الأنصاري! في المسلك الأوّل، إلاّ إنّ الفارق بينهما هو: أنّ المنفي على المسلك الأوّل ابتداءً هو الحكم، وعلى الثاني المنفي ابتداءً هو الموضوع وبانتفائه ينتفي الحكم.

وتظهر الثمرة بين المسلكين في موردين:

الأوّل: ما لو لزم من الاحتياط العقلي الضرر أو الحرج على المحتاط، فلا تكون قاعدة «لا ضرر» حينئذٍ حاكمة على أدلّة الاحتياط؛ لعدم كون الضرر ناشئاً من متعلّق التكليف، وإنّما هو من جهة الجمع بين المحتملات، فهو غير مشمولٍ لحديث «لا ضرر». هذا بناءً على كون المنفي ابتداءً هو الموضوع.

وأمّا بناءً على كون المنفي هو الحكم الناشئ من الضرر - كما هو مختار الشيخ ومَن تبعه من الأعلام - فالقاعدة حينئذٍ حاكمة على أدلّة الاحتياط العقلي ونافية له.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني! في حاشيته على مكاسب الشيخ الأنصاري! في شرح قوله: «بأنّ انتفاء اللزوم وثبوت التزلزل في العقد لا يستلزم ثبوت الخيار في العقد»، حيث قال!: هذا إذا كان المرفوع بحديث «لا

ص: 115


1- انظر: كفاية الأصول 3: 160

ضرر» الحكم الناشئ منه الضرر، وأمّا إذا كان المرفوع ما كان للضرر من الحكم مع قطع النظر عن هذا الحديث كما استظهرناه في البحث وفيما علّقناه على البراءة، كان المرفوع في المعاملة الغبنية وجوب الوفاء بها، وهو يستلزم جوازها كما لا يخفى. نعم، لا يستلزم ثبوت الخيار(1).

المسلك الثالث: لصاحب العناوين

المسلك الثالث: ما اختاره صاحب العناوين(رحمه الله) وأصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني! (2)، وهو: أنّ المراد من النفي - كما يرشد إليه سياق الروايات - هو النهي، ومعناه: تحريم الضرر والضرار والمنع عنهما، وهذا يظهر من نظائره وشيوع استعمال النفي وإرادة النهي، كما في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي ال-ْحَجِّ}(3)، وقوله(علیه السلام): «لا مناجشة في الإسلام».

وعلى كلّ حال، فإنّ مدخول النفي إذا كان فعلاً اختيارياً للمكلّف فالظاهر إرادة النهي من النفي؛ وذلك لاعتبار القدرة في متعلّق التكليف، كما هو واضح.

وأمّا إذا لم يكن فعلاً اختيارياً للمكلّف، كما في «لا سهو لكثير السهو»، و«لا شكّ لكثير الشكّ»، فالظاهر منه إرادة نفي الحكم، ولا معنى لحمل النفي على النهي حينئذٍ؛ وذلك لخروج متعلّقه عن قدرة المكلّف، وعلى هذا فيمكن

ص: 116


1- حاشية المكاسب: 183
2- العناوين 1: 311؛ قاعدة لا ضرر: 24- 25
3- البقرة: 197

تقرير النهي بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المراد من النفي هو النهي ابتداءً، وبالتالي تكون الجملة الخبرية المنفية قد استعملت في النهي والزجر عن الإضرار.

الثاني: أنّ النفي قد استعمل في معناه الحقيقي، بمعنى الإخبار عن نفي الضرر حقيقة، ولكن تنبيهاً لذهن المخاطب في إرادة لازمه، وهو النهي، نظير ما يقال في «زيد كثير الرماد»، كناية عن كثرة إطعامه، أو «زيد جبان الكلب»، كناية عن كثرة وفود الضيف عليه، ونظائر ذلك في القضايا الشرعية كثيرة، منها: قوله تعالى: ]فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي ال-ْحَجِّ[، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا خصاء في الإسلام»، وقوله: «لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام»، وقوله: «لا غشّ بين المسلمين»، وقوله: «لا جنب ولا شغار في الإسلام».

وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ فإنّ النفي قد استعمل في معناه حقيقةً وأريد به تنبيه المخاطب إلى لازمه، وهو: أنّ المنفي منهي ومزجورٌ عنه.

الثالث: أنّ النفي قد استعمل في الإخبار حقيقة، إلاّ إنّ النهي مستفاد من الخبر المحذوف، تقديره «مستساغ، جائز، مباح».

وعلى كلّ تقدير، سواء قلنا بأنّ المراد من النفي هو النهي ابتداءً، أو كناية، أو من جهة حذف الخبر، فحديث «لا ضرر» يدلّ على الحرمة التكليفية.

المسلك الرابع: للفاضل التوني

المسلك الرابع: ما عن بعض الفحول، كالفاضل التوني والنراقي "، من أنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك، بمعنى نهي الشارع عن الضرر غير المجبور

ص: 117

بشيء من الضمان والأرش ونحوهما، ولكن غير المتدارك قد يكون لمحذوفٍ، وهو الحكم، بمعنى: لا حكم ضرري غير متدارك، وعلى هذا فينزّل الضرر المتدارك بحكم الشارع منزلة العدم، أو نفي خصوص هذه الحصّة، بمعنى: أنّ الضرر المتدارك ليس بضرر حقيقة وواقعاً(1).

المسلك الخامس: لبعض أعاظم العصر

المسلك الخامس: ما ذكره بعض أعاظم العصر، من إرادة النهي من النفي، ولكن ليس المراد به النهي الإلهي حتى يكون حكماً إلهياً، بل بمعنى النهي السلطاني الذي صدر عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) - كما ورد في رواية عبادة بن الصامت - بما أنّه رئيس الدولة وسائسها، لا بما أنّه مبلّغ أحكام الشرع من الله عزّوجلّ حتى يكون النهي إلهياً كحرمة شرب الخمر والقمار ونحوهما من المحرمات الإلهية.

وبيان ذلك يتوقّف على بيان أمرين:

الأوّل: أنّ لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في الأمّة ثلاثة مناصب:

أحدها: منصب النبوّة والرسالة، أي: تبليغ الأحكام الإلهية، من أحكام تكليفية ووضعية حتى أرش الخدش. فأوامره بالنظر إلى هذا المنصب إرشاد إلى أوامر الله ونواهيه، بحيث لو خالف المكلّف لم تكن مخالفةً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، بل تكون مخالفته لله تعالى؛ لأنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مبلّغ ومخبر عن الله عزّوجلّ.

ص: 118


1- انظر: الوافية في أصول الفقه: 194

ثانيها: منصب السلطنة على الأمة، فإنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) سلطان من الله تعالى على الأمّة، وهم رعيّته، وهو سائس البلاد ورئيس العباد، فأوامره ونواهيه بالنظر إلى هذا المنصب مولوية لا إرشادية، فامتثالها إطاعة له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، كما لو أمر سريّة أن تذهب إلى قطرٍ من الأقطار، فإنّه تجب إطاعته بما أنّه سلطان وحاكم.

ثالثها: منصب القضاء وفصل الخصومات عند تنازع الناس في حقٍّ أو مالٍ، فإذا رفع الأمر إليه وقضى فيه فإنّ حكمه نافذٌ لا يجوز التخلّف عنه بما هو قاضٍ وحاكم شرعي.

وهذه المناصب كما هي ثابتة للرسول الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ثابتة أيضاً للأئمّة الهداة المعصومين (علیهم السلام) بالبراهين القاطعة الواضحة.

الثاني: كلّ ما ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأمير المؤمنين(علیه السلام) بلفظ «قضى»، أو «حكم»، أو «أمر»، فليس المراد منها بيان الحكم الشرعي، ولو أريد منها ذلك فهو إمّا مجاز، أو إرشاد إلى حكم الله عزّوجلّ؛ وذلك لظهورها في قضائه وحكمه بما أنّه قاضٍ أو سلطان، وما ورد بلفظ «قال»، أو «أمر»، يحمل بقرينة الحال أو المقام على الحكم المولوي السلطاني، أو القضائي، وإلاّ يحمل على الأحكام الأوّلية الإلهية، وحديث «لا ضرر» - بناءً على نقل العامّة في رواية عبادة بن الصامت - وقع عقيب «قضى»، وعدّة من أقضية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) ظاهرة في النهي القضائي.

وبناءً على وقوعه عقيب لفظ «فإنّه، وقال» - كما في رواياتنا عن زرارة - فهي

ص: 119

ظاهرة - بعد التدقيق فيها - في النهي السلطاني، وبما أنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) سلطان الأمّة ودافع الظلم عن الرعية.

والمتحصّل: أنّه لا يمكن القول بأنّ «لا ضرر» كبرى كلّية حاكمة على أدلّة العناوين الأوّلية(1).

المسلك السادس: لبعض الأعلام الأجلاّء

اشارة

المسلك السادس: ما اختاره بعض الأعلام من السادة الأجلاّء، بأنّ حديث «لا ضرر» يتكوّن من فقرتين:

الأولى: وهي «لا ضرر» الدالّة على نفي الحكم الضرري.

الثانية: وهي «لا ضرار» الظاهرة في النهي التحريمي، منعاً للمكلفين عن هذا العمل، بمعنى: يحرم الإضرار بالغير، وهذا الحكم يدلّ على عدم تحقّق هذا العمل من خلال أمور ثلاثة:

الأوّل: جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل، وهو الحرمة، وهذا الحكم يستبطن الوعيد على الفعل، ويترتّب عليه:

أوّلاً: العذاب الأخروي في عالم الآخرة.

ثانياً: العقوبة الدنيوية بالتعزير ونحوه حسب رأي وليّ الأمر بالحدود المستفادة من الأدلّة الشرعية.

ثالثاً: الضمان في موارد الإتلاف، وكون الشيء المتلف ذا مالية لدى

ص: 120


1- انظر: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 105

العقلاء.

الثاني: تشريع اتّخاذ وسائل مانعة عن تحقّق الإضرار بالغير خارجاً، كتجويز إزالة وسيلة الإضرار وهدمها، كالأمر بإحراق مسجد ضرار، والحكم بقلع نخلة سمرة، وهذا يتمّ عبر قوانين ثلاثة:

1- النهي عن المنكر.

2- تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس.

3- حماية القانون القضائي فيما إذا كان منع الإضرار حكماً قضائياً من قبل الوالي بعد رجوع المتخاصمين إليه، كما في قضية سمرة.

ويلاحظ عليه: أنّ ولاية اتّخاذ وسيلة لمنع الإضرار إنّما هي للحاكم الشرعي دون عامّة المسلمين، كما أنّ قانون تحقيق العدالة الاجتماعية من شؤون الولاية في الأمور العامّة الثابتة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأئمّة الهدى (علیهم السلام) والفقهاء في عصر الغيبة، وكذا حماية القضاء إنّما هي من وظيفة المتصدّي للحكومة والقضاء.

الثالث: تشريع أحكام رافعة لموضوع الإضرار، من قبيل جعل حقّ الشفعة لرفع الشركة التي هي موضوع لإضرار الشريك.

والحاصل: أنّ الحديث بجملة «لا ضرر» يدلّ على نفي جعل الحكم الضرري، وبجملة «لا ضرار» يدلّ على تحريم الإضرار وتشريع الصدّ عنه

ص: 121

خارجاً، وهو الحكم السلطاني الولائي(1).

أقول: إنّ هذا المسلك في الحقيقة يجمع بين عدّة مسالك، ففي الفقرة الأولى يوافق المسلك الأوّل للشيخ الأنصاري، وفي الفقرة الثانية موافق لمسلك شيخ الشريعة الأصفهاني، كما أنّه في القانونين الأخيرين - أي قانون تحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية الحكم القضائي - موافق لمسلك بعض أعاظم العصر.

هذه هي أهمّ المسالك المذكورة في المقام.

وأمّا الأمر الثالث - وهو بيان تقريرات المسالك وما يرد عليها - فنقول:

تقرير المسلك الأوّل

أمّا تقرير المسلك الأوّل؛ فبعد أن بيّن الشيخ الأنصاري! الاحتمالات الواردة في الحديث ذكر وجوهاً أربعة تثبيتاً لمختاره، حيث قال ما نصّه: والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأوّل(2)، وقال في توضيح الوجه الأوّل: إنّ المعنى - بعد تعذّر إرادة الحقيقة - عدم تشريع الضرر، بمعنى: أنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد، تكليفياً كان أو وضعياً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فينفى بالخبر، وكذلك وجوب الوضوء على مَن لا

ص: 122


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 150 - 152
2- فرائد الأصول 2: 461

يجد الماء إلاّ بثمن كثير(1).

وهذا البيان الأخير ليس ذا أهمّية بالغة في نفسه؛ فإنّه لم يبيّن! مراده ممّا ذكره في الفقرة الأولى، كما أنّنا لم نجد في كلام أحد من تلامذته توضيحاً لما ورد فيها. نعم، ورد توضيح الوجه الأوّل منه في كلام سيدنا الأستاذ! وبعض تلامذته من السادة الأجلاّء.

أمّا بيان سيدنا الأستاذ! فهو: أنّه إذا تعلّق النفي بعنوان ينطبق على فعل المكلّف وفعل المولى، كالحرج، فالظاهر في مثل هذا العنوان عدم كونه مجعولاً في عالم التشريع؛ فإنّه نفي حقيقي لا يرتكب فيه تكلّف مجاز. وعنوان الضرر من هذا القبيل؛ فإنّه كما يصدق أنّ المكلّف أوقع نفسه في الضرر بارتكابه ما يوجب الضرر، كذلك يصدق أنّ المولى ألقى عبده في الضرر إذا كلّفه بتكليف ضرري، وكما أنّ جعل الحكم الناشئ منه الضرر جعل للضرر على المكلّف حقيقة، كذلك نفي الحكم الضرري نفي للضرر عن المكلّفين حقيقة بلا عناية أصلاً، فمفاد «لا ضرر» بعينه مفاد: ما جعل عليكم في الدين من حرج...(2).

وأمّا بيان بعض السادة الأجلاّء، فهو: أنّ «لا ضرر» اسم مصدر، بمعنى المنقصة الحاصلة من الفعل، وهذا المعنى بطبعه مرغوب عنه لدى الإنسان، بل

ص: 123


1- المصدر نفسه 2: 460
2- انظر: الهداية في الأصول 3: 544

يتنفّر منه ولا يتحمّله أحدٌ عادةً إلاّ بتصوّر تسبيب شرعي إليه، فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات بمعنى نفي التسبيب إليها بجعل شرعي، وعلى ضوء هذا كان مفاد «لا ضرر» طبعاً: نفي التسبيب إلى الضرر، بجعل حكم شرعي يستوجب له(1).

هذا ما ذكر في توضيح الوجه الأوّل للشيخ الأنصاري!.

الوجه الثاني: وهو ملاحظة نظائره، فقد ذكر الشيخ نظيراً لها في «رسالة لا ضرر» بقوله: وإنّما المناسب الحكم الشرعي الملقى للعباد في الضرر في نظير قوله: «لا حرج في الدين»(2)، كما أنّ السيد الأستاذ! ذكر مثل ذلك(3).

الوجه الثالث: هو ملاحظة موارد ذكرها في الروايات:

منها: قضية سمرة، فقد ورد فيها - بعدما قال سمرة: «لا أفعل، هو مالي أدخل ولا أستأذن»، حيث كان يرى لنفسه الحقّ في الدخول بلا استئذان - قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنّك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار»، فمن جهة مناسبة جواب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لاحتجاج سمرة يتبين: أنّ المراد من النفي هو نفي الحكم الضرري؛ لأنّ سمرة كان يرى له الحقّ في الدخول على الأنصاري بدون إذنه، وحيث إنّ دخوله بلا استئذان موجب لضرر الأنصاري فهو مرفوع، وليس

ص: 124


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 134
2- رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية - تراث الشيخ الأعظم) 23: 115
3- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 616

بمجعول في الشريعة المقدّسة. نعم، تصرّف الإنسان في ماله حقّ ثابت له فيما إذا لم يلزم منه الإضرار بالغير، وأمّا إذا لزم منه الإضرار فهو حينئذٍ منفي في الشريعة المقدّسة، وعليه فالمناسب بين ما قاله سمرة وبين جواب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) يقتضي كون المنفي هو الحكم الضرري.

وهذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ المراد من النفي هو النهي السلطاني، فحينئذٍ يبقى احتجاج سمرة بلا جواب، وعليه فمن جهة التناسب بين الحديث وبين المورد يقتضي أن يكون المعنى هو نفي الحكم الضرري.

ومنها: حديث الشفعة، فإنّ بيع الشريك حصّته للأجنبي ليس بمحرّم، بل هو حكم وضعي يترتّب عليه الفساد وعدم كونه نافذاً فقط.

ومنها: حديث منع فضل الماء والكلاء، فإنّه بعد ثبوت حقّ الانتفاع للآخرين فالحكم بأنّ الطائفة الأولى لهم الحقّ في منع الآخرين ليس مجرّد نهي حتى يقال: إنّه تنزيهي، بل هو حكم ضرري منفي في عالم التشريع.

والمتحصّل هو: أنّ ملاحظة الملابسات ومناسبات الموارد التي ورد فيها الحديث تقتضي أن يكون المنفي هو الحكم الضرري.

الوجه الرابع: فهم العلماء، فيمكن أن يقال في تقريبه: إنّ العلماء قد تمسّكوا بهذا الحديث للقول بالحرمة في موارد كثيرة، ولم يقصروه على خصوص الأحكام التكليفية، بل تعدّوا بذلك إلى موارد كثيرة في باب الأحكام الوضعية، حتى إنّ صاحب العناوين - السيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي - قد ذكر

ص: 125

خمسين فرعاً - تقريباً - تمسّك فيها الفقهاء بحديث «لا ضرر»(1)، كما أنّ هذا لا يختصّ بفهم علماء الخاصّة، بل إنّ علماء العامّة فهموا ذلك أيضاً، ويكفي في بيان أهمّيته عندهم وتمسّكهم به في مقام الاستنباط ما ذكره السيوطي، من أنّ الفقه يدور على خمسة أحاديث، هذا أحدها(2).

فمن جهة مناسبة فهم العلماء يوجب كون المنفي هو الحكم الضرري، ومن هنا قالوا: إنّ حديث «لا ضرر» حاكم على أدلّة الأحكام الأوّلية.

هذه هي الوجوه الأربعة التي ذكرها الشيخ الأنصاري! لتثبيت المسلك الأوّل، وما يمكن أن يقال في تقريرها.

أمّا الوجه الأوّل؛ فقد أورد عليه عدّة إيرادات:

الأوّل: ما أورده شيخ الشريعة: أنّ ظاهر حديث «لا ضرر» إرادة الحكم التكليفي، فلم يعهد استعمال مثل هذا التركيب في نفي المسبّب وإرادة السبب، بل المعهود استعماله في نفي الحكم التكليفي، أو نفي الكمال، كما في قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»، أو «لا علم إلاّ ما ينتفع به»، أو «لا سفر إلاّ مع رفيق»، أو «لا كلام إلاّ ما أفاد»، وأمثال ذلك، وأمّا استعمالها لنفي المسبّب وإرادة السبب فهو غير معهودٍ في مثل هذا التركيب(3).

ص: 126


1- انظر: العناوين الفقهية 1: 304
2- تنوير الحوالك في شرح موطّأ مالك: 556
3- انظر: قاعدة لا ضرر: 25

وقد اتّضح جوابه ممّا ذكرناه في التقريرين والتوضيحين في الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة التي ذكرها الشيخ لإثبات مراده.

فالأوّل من التقريرين هو: أنّ الفعل المنفي الوارد في لسان الخطاب الشرعي كما يصلح انطباقه على فعل المكلّف يصلح أن ينطبق على فعل الشارع أيضاً، وفي حال التردّد بينهما فالظاهر حمله على نفي فعل الشارع؛ لوروده في مقام التشريع، فإذا ورد مثلاً قوله: «لا ضرر ولا ضرار» فإنّ ظاهره: أنّ المنفي هو الضرر المسبّب من قبل الشارع، فيكون النفي حينئذٍ حقيقياً بلا حاجة إلى تكلّف مجازٍ وادّعاء، ويكون نظير قوله: «لا حرج في الدين» الظاهر في نفي الفعل الحرجي حقيقة، المسبّب من أمر الشارع، وهذا بخلاف نفي الفعل بلحاظ انطباقه على فعل المكلّف، سواء استفيد منه النهي والحرمة أو لا؛ فإنّه بحاجة إلى تكلّف دعوى المجازية والادّعائية.

وأمّا الثاني؛ فإنّ الضرر اسم مصدر يعبّر عنه بالمنقصة، وهو بطبعه مرغوب عنه لدى الناس، بل تتنفّر منه الطباع، وعلى هذا فلا معنى للزجر عنه وجعل الجملة النافية إخباراً عن المنع والحرمة؛ لأنّه يعتبر في النهي عنه أن يكون مرغوباً ومطلوباً للمكلّف حتى يتسنّى للشارع النهي والزجر عنه، وبذلك يكون نفي الشارع له ظاهراً في نفي الحكم الموجب للضرر.

ولا يخفى عليك في كون التقرير الأوّل أدقّ وأبلغ من الثاني؛ لأنّه - بالتقرير الثاني - تترجّح إرادة النهي من النفي، ولكن لا يعيّنها في المسلك الأوّل، وهذا بخلاف التقرير الأوّل؛ فإنّه يعيّنه في المسلك الأوّل، وكيف كان فبهذين

ص: 127

التوجيهين ظهر عدم تمامية ما ذكره شيخ الشريعة!.

الثاني: ما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني!.

وحاصله: أنّ ما ذكره الشيخ! على خلاف ما تقتضيه قواعد البلاغة.

وتوضيح ذلك: أنّه لمّا تعذّر إرادة المعنى الحقيقي من نفي الضرر وذلك لوجوده خارجاً، فنفيه لابّد أن يكون بلحاظ حكمه، والمصحّح لتعلّق النفي بنفس الضرر مع وجوده خارجاً هو ادّعاء عدمه لأجل عدم ترتّب آثاره عليه، كما في «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»، و «يا أشباه الرجال ولا رجال»، فنفي طبيعة الصلاة والرجال حقيقة أو ادّعاءً بلحاظ آثار تلك الطبيعة؛ إذ انتفاء آثارها المطلوبة منها يصحّح نفي نفس تلك الطبيعة؛ تنزيلاً لوجودها - الذي لا يترتّب عليه الأثر المرغوب منه - منزلة عدمه، وهذا أوفق بالبلاغة من نفي الحكم ابتداءً، أو من نفي الصفة غير المتداركة؛ وذلك لبشاعة استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه، ولأقربية نفي الحقيقة ادّعاءً إلى المعنى الحقيقي من سائر المعاني، وهي توجب ظهور الكلام فيه، وبُعد إرادة غيره من المعاني المذكورة؛ لخلوها عن قرينة توجب حملها عليه(1).

ويمكن الجواب عنه: أنّه بعد فرض تمامية ما ذكره! من إيراد نقول: إنّ هذا يتمّ بناءً على ما تقدّم من أنّ المقصود من «لا ضرر» في كلام الشيخ هو نفي

ص: 128


1- كفاية الأصول 3: 160 - 161

الحكم الضرري، إمّا على أساس المجاز في الحذف، بمعنى: لا حكم ينشأ منه الضرر، وإمّا على أساس المجاز في الكلمة، بمعنى الحكم الضرري، ولكنه لا يتمّ بناءً على صحّة إطلاق الضرر على السبب ونفي المسبّب، والمصحّح لذلك علاقة السببية، واعتبار أنّ المسبّب والسبب بمنزلة الشيء الواحد.

الثالث: ما ذكره جماعة، منهم المحقّق المشكيني(رحمه الله) في حاشيته على الكفاية، وهو: أنّ إطلاق السبب وإرادة المسبّب إنّما يصحّ في الأسباب والمسبّبات التوليدية كالإلقاء والإحراق، والرمي والقتل، فيصحّ على الإلقاء بأنّه إحراق، وعلى الرمي بأنّه قتل، وأمّا في الموارد التي ليس فيها السبب والمسبّب توليديين، بل كانا من الأسباب المعدّة والتي يحتاج فيها وجود المسبّب إلى الإرادة والاختيار، فلا يصحّ إطلاق السبب وإرادة المسبّب. ومن الواضح: أنّ نسبة التكليف إلى الفعل الضرري ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسبّبه؛ لأنّ حكم المولى بالنسبة إلى الفعل الضرري ليس علّة تامّة، كما أنّه ليس بجزء أخير لها، بل ولا شرطاً، ولا عدم مانع، ولا معدّاً، بل ولا سبباً مادّياً، ولا صورياً، ولا سبباً فاعليّاً، بل ولا سبباً غائياً. نعم، قد يكون حكم المولى داعياً إلى إيجاد الفعل المؤثّر في الضرر، كما لو كان حكماً طلبياً، ولم يكن للفاعل داعياً آخر للفعل، بل تمام داعيه امتثال أمر المولى، فحينئذٍ كيف يصحّ إطلاق السبب وإرادة المسبّب، فيقال: إنّ قوله: «لا ضرر» يراد منه نفي الحكم. فيا

ص: 129

عجباً كيف صدر هذا منه مع أنّه في الجودة بمرتبة تقرب من شقّ القمر؟!(1)

ويمكن أن يجاب عنه:

أوّلاً: بأنّ ما ذكر من أنّ نسبة التكليف إلى الفعل نسبة الداعي، وإن كان صحيحاً بحسب الدقّة العقلية، ولكنّ العرف لا يرى أيّ منافاة في نسبة الفعل إلى المولى؛ وذلك لأنّ إرادة المكلّف فيما إذا كانت في مقام الامتثال والإطاعة مقهورة لإرادة المولى بحيث تكون إرادته تجاه إرادة المولى ضعيفة، صحّ حينئذٍ نسبة القتل إلى المولى إذا أمر عبده بقتل شخص؛ لكون إرادة العبد مندكّة في إرادة مولاه، فيقال: إنّ المولى قتله، فمن هذه الجهة صحّ أن يكون حكم المولى سبباً لوقوع العبد في الضرر، فنفيه للضرر نفي لسببه.

وثانياً: على فرض التسليم بتمامية هذا الإيراد، فهو إنّما يتم بناءً على صحّة إطلاق الضرر على السبب ونفي المسبّب، وأمّا بناءً على المقصود من «لا ضرر» هو نفي الحكم على أساس المجاز في الحذف، بمعنى: لا حكم ينشأ منه الضرر حتى ينتقل ذهن المخاطب والسامع لإرادة نفي السبب، فلا يتمّ.

الرابع: ما عن المحقّق الأصفهاني!، من أنّ الضرر اسم مصدر يع-بّر به عن نفس المبدأ، وهي المنقصة التي لم يلحظ فيها النسبة الصدورية، بخلاف الإضرار، فهو يحكي عن المبدأ متضمّناً للنسبة الصدورية، فالضرر كالوجود، والإضرار كالإيجاد، وعلى هذا فلا يصحّ إطلاق الضرر ونحوه ممّا لا يتضمّن

ص: 130


1- انظر: كفاية الأصول (مع حواشي المشكيني) 4: 354- 355

نسبة صدورية على السبب التوليدي، فلا يقال للإلقاء: إنّه حرقة، ولكن يقال: إنّه إحراق؛ لتضمّنه نسبة صدورية، وعليه فلا يقال للحكم: إنّه ضرر، وإن صحّ أن يقال: إنّه إضرار(1).

أقول: قد اتّضح جوابه ممّا تقدّم أيضاً؛ فإنّ هذا الإيراد إنّما يتمّ بناءً على أنّ المقصود من نفي الحكم الضرري هو صحّة إطلاق السبب ونفي المسبّب، وأمّا بناءً على أساس المجاز في الحذف، بمعنى: لا حكم ينشأ منه الضرر، أو على أساس المجاز في الكلمة، وأنّ المنفي هو السبب والمنشأ وهو الحكم الضرري، فلا يتمّ هذا الإيراد.

ومن هنا يتّضح عدم تمامية الإيرادات المذكورة على الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرها الشيخ!، وأنّ ما أفاده! فيه قويّ جدّاً.

وأمّا الوجه الثاني - وهو ملاحظة النظائر - فقد أورد شيخ الشريعة عليه بقوله: وأمّا نظائرها؛ فقد قدّمنا عدم النظير لهذا المعنى في هذا التركيب(2).

ثمّ إنّه! بيّن مراده من قوله هذا: أنّ المعنى الثالث من نفي المسبّب وإرادة السبب لم يعهد في مثل هذا التركيب أبداً، وإنّما المعهود النهي أو نفي الكمال في: لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد، ولا علم إلاّ ما نفع، ولا سفر إلاّ

ص: 131


1- انظر: منتقى الأصول 5: 408
2- قاعدة لا ضرر: 27

برفيق، ولا كلام إلاّ ما أفاد(1).

ويمكن الإجابة عنه: بأنّ المراد من النظائر لا يخلو من أحد أمرين:

الأوّل: إمّا أن يكون المراد بها محتوى الصيغة، أي: النظائر التي يكون محتواها محتوى هذه الصيغة، بأن يكون الواقع تلو «لا» النافية للجنس إمّا مجعولاً شرعياً وتناله يد الجعل إثباتاً أو نفياً كالوجوب والحرمة، فيقال: «لا وجوب»، أو «لا حرمة».

وإمّا من المخترعات الشرعية كالصلاة والصوم وغيرها، فيقال: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، أو «لا صلاة إلاّ بطهور»، أو «لا صيام لمن لا يبيّت الصيام بالليل».

وإمّا من الأمور العقلائية الشائعة بينهم والتي تحتاج إلى إمضاء شرعي كالبيع والعتق والسبق، فيقال: «لا بيع إلاّ في ملك»، أو «لا عتق إلاّ في ملك»، أو «لا رهن إلاّ مقبوض»، أو «لا سبق إلاّ في حافر أو خفّ أو نصل».

ويمكن إرجاع هذه الأقسام الثلاثة إلى عنوان جامع، فيقال: إنّ مدخول «لا» النافية للجنس ممّا تناله يد الشرع، إثباتاً، أو نفياً، أو إمضاءً، أو تأسيساً.

والمتحصّل: أنّه إذا كان مدخول «لا» النافية أحد هذه الأمور الثلاثة صحّ النفي الحقيقي، لكن بلحاظ وعاء عالم التشريع، بمعنى: عدم وجود هذه

ص: 132


1- قاعدة لاضرر: 25

الأشياء في عالم التشريع فيقال: «لا حكم ضرري»، كما هو كذلك في «لا حرج»؛ حيث إنّ النفي حقيقي في عالم التشريع، وعلى هذا فيصحّ أن يقال: إنّ «لا ضرر» لها نظائر.

الثاني: أن يكون المراد بها الجمود على هذه الصيغة، فحينئذٍ يتمّ ما ذكره شيخ الشريعة من إيرادٍ؛ فإنّ النظير المذكور في كلام الشيخ وكذا في كلام سيدنا الأستاذ" هو «لا حرج في الدين» فقط، وهو ليس بكثير، بل مورد واحد فقط.

هذا، مضافاً إلى أنّ أصل وجود هذه الصيغة في المصادر الروائية غير ثابت؛ فإنّا قد تتبّعنا في المعاجم والمصادر الحديثية فلم نعثر على حديثٍ بهذه الصيغة. نعم، هذا التركيب ورد في بعض الكتب الفقهية والأصولية كالمستند والرياض وكشف اللثام والقوانين وغيرها.

وأمّا الوجه الثالث - وهو ملاحظة موارد ذكرها في الروايات - فقد أورد عليه شيخ الشريعة بقوله: مضافاً إلى ما عرفت: من أنّ الثابت من صدور هذا الحديث الشريف إنّما هو في قضية «سمرة بن جندب»، وأنّه ثبت فيها «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن»، ولا شكّ أنّ اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي، على أنّ قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لسمرة: «إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» - كما في رواية ابن مسكان عن زرارة - إنّما هو بمنزلة صغرى وكبرى، فلو أريد التحريم كان معناه: إنّك رجل مضارّ، والمضارّة حرام، وهذا هو المناسب لتلك الصغرى. لكن لو أريد غيره ممّا يقولون صار معناه: إنّك رجل مضارّ، والحكم

ص: 133

الموجب للضرر منفيّ، أو الحكم المجعول منفيّ في صورة الضرر، ولا أظنّ بالأذهان المستقيمة ارتضاءه(1).

ويمكن الجواب عنه:

أمّا عمّا ذكره في حديثي «الشفعة، والناهي عن منع الفضل»، فقد قلنا: الظاهر أنّهما مذيّلان بحديث «لا ضرر»، فراجع لتعرف حقيقة ما ذكرناه، وحينئذٍ فالمناسب منه إرادة نفي الحكم، لا إرادة التكليف التحريمي أو التنزيهي، وقد اعترف! بذلك في كلامه.

وأمّا بالنسبة لرواية سمرة بن جندب؛ فما استظهره إنّما يتمّ في رواية ابن مسكان، وأمّا في غيرها فلم ترد الصغرى، وهي قوله: «إنّك رجل مضار»، مضافاً إلى أنّه قد تقدّم وقلنا: إنّها مرسلة وغير معتبرة على مبناهم. هذا أوّلاً.

وثانياً: قد ذكرنا أنّه بناء على موثّقة ابن بكير أنّ الأنسب هو نفي الحكم الضرري؛ لأنّه لو كان المنفي هو الحكم المولوي بتحريم الضرر لبقي اعتراض سمرة في قوله: «هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن» بلا جواب.

وثالثاً: على فرض التسليم والقول باعتبار رواية ابن مسكان، يمكن القول بأنّ تحريم الضرر مستفاد من الفقرة الثانية، وهي قوله: «لا ضرار»، وليس من الفقرة الأولى «لا ضرر»، وعليه: فإن بنينا على التفكيك بين الفقرتين في المعنى فيكفي استفادة النهي والحرمة من الفقرة الثانية، وبذلك لا يرد ما ذكره! من إيرادٍ.

ص: 134


1- قاعدة لا ضرر: 26

وأمّا الوجه الرابع - وهو فهم العلماء - فقد أورد عليه شيخ الشريعة أيضاً بقوله: فهو أيضاً ممنوع، ولم نجد للمتقدّمين والمتأخّرين ما يعيّن أنّهم فهموا هذا المعنى إلاّ عن قليل نادرٍ، ولا يكفي فهمهم في تعيين المعنى... وقد ذكر في حديث «الدعائم» تعليلاً لحرمة الترك(1).

ويجاب عنه: أنّه قد تقدّم أنّ كثيراً من الفقهاء قد تمسّكوا بحديث «لا ضرر» في موارد كثيرةٍ لنفي الحكم الوضعي، كما أنّه سيأتي الكلام فيما ذكره من فهم أهل اللغة في تقرير المسلك الثالث.

تقرير المسلك الثاني

وأمّا تقرير المسلك الثاني - وهو ما اختاره الآخوند الخراساني(رحمه الله) - فقد استدل عليه بأربعة أمورٍ، كما يستفاد ذلك من كلامه في الكفاية:

الأوّل: بعد تعذّر حمل النفي على الجنس حقيقة فالأوفق بقواعد البلاغة حمله على أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي، وهو نفي الحقيقة ادّعاءً.

الثاني: بشاعة حمل النفي على إرادة نفي الحكم الضرري، أو على الضرر غير المتدارك؛ لأنّه يكون نفياً للجنس وإرادة نفي حصّة أو صفة منه، ويكون الضرر عامّاً وشاملاً للحكم وغيره، فإرادة الحكم الضرري فقط، أو الصفة بلا قرينة يكون من الاستعمالات البشعة المستنكرة.

الثالث: أنّ الغالب والشائع في استعمال مثل هذا التركيب - كما في «لا

ص: 135


1- قاعدة لا ضرر: 27

صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»، و «يا أشباه الرجال ولا رجال» - إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً لأجل عدم ترتّب آثار الحقيقة المترقّبة منها، وكلّ شيء لا يترتّب عليه أثره المترقّب منه ينزّل منزلة العدم(1).

الرابع: ما ذكره في الحاشية على الفرائد: من أنّ حمل النفي على إرادة الحقيقة ادّعاءً أسلم من حمله على نفي السبب وإرادة المسبّب؛ وذلك لعدم ورود محذور تخصيص الكثير أو الأكثر على الأوّل، ووروده على الثاني، كما تأتي الإشارة إليه(2).

وقد أورد على هذا المسلك بعدّة وجوه:

الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله): من أنّ النفي على قسمين:

أحدهما: النفي بنحو السلب البسيط.

ثانيهما: النفي بنحو السلب المركّب.

والأوّل: هو ما كان النفي فيه وارداً لسلب ذات الشيء، كما في قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا رهبانية في الإسلام»، فالنفي وارد لسلب أصل الحكم بعد نفي ثبوت الرهبانية في الإسلام.

والثاني: وهو ما كان النفي فيه وارداً لسلب شيء عن شيء، بمعنى: أنّ النفي

ص: 136


1- انظر: كفاية الأصول 3: 160 - 161
2- انظر: درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 282

كان وارداً لإخراج فردٍ عن الموضوع العام أو المطلق، فإنّ قوله(علیه السلام): «لا شكّ لكثير الشكّ»، و «لا شكّ في نافلة»، و «لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام»، ونحو ذلك ممّا ورد لإخراج مصداقٍ عن موضوع العام أو المطلق - البناء على الأكثر - لولاه لكان مندرجاً في العموم أو الإطلاق.

والحاصل: أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يصحّ في النفي البسيط بقيود ثلاثة:

أوّلهما: كون الموضوع ذا حكم، إمّا في الجاهلية، وإمّا في الشرائع السابقة، وإلاّ فلا معنى لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

ثانيهما: لابدّ أن يكون عنواناً اختيارياً كالرهبانية والإخصاء مثلاً حتى يكون نفيه التشريعي موجباً لنفيه التكويني، فلذا لا يصحّ نفي الموضوعات الخارجة عن قدرة المكلّف لنفي أحكامها.

ثالثهما: لابدّ أن يكون الحكم المنفي هو الجواز قبل ورود النفي؛ لأنّه لو كان حكماً تحريمياً فلا يدلّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على نسخه، بل يدلّ على إمضائه، كما لو قيل: لا ختان ولا طلاق ولا تعدّد زوجات في الإسلام.

وعلى هذا، فإنّ قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر»، وإن كان نفياً بسيطاً، والضرر وإن كان عنواناً اختيارياً، إلاّ إنّ حكمه السابق حيث لم يكن إباحة كان إمّا تحريماً وإمّا قبيحاً على ما يستقلّ به العقل، فإرادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع

ص: 137

ينتج ضدّ المقصود في بعض المقامات، كما في مورد إتلاف مال الغير؛ فإنّه لو ورد في هذا المقام قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر»، فمفاده: أنّ هذا الفرد الصادر خارجاً من المتلف لا حكم له، كما أنّ هذا مفاد قوله(علیه السلام): «لا سهو في سهو»، أي: السهو الصادر من الساهي لا حكم له.

ثمّ هذا القسم - وهو السلب البسيط - لا يصحّ فيه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وأمّا القسم الثاني - وهو السلب التركيبي - فلا يستقيم في المقام أيضاً؛ لعدم كون السلب في «لا ضرر» سلباً تركيبياً(1).

الثاني: ما ذكره المحقّق المزبور أيضاً، وهو: أنّه لو كان المراد من «لا ضرر» هو أنّ الفرد الضرري لا حكم له، فمقتضاه بطلان نفس العقد؛ لأنّ العقد الغبني لو لم يكن له حكم فرفع خصوص اللزوم لا وجه له، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من «لا ضرر» الحكم الناشئ منه الضرر ليس بمجعول؛ لأنّه لابدّ أن يلاحظ أنّ المجعول الذي ينشأ منه الضرر هل هو الصحّة، أو اللزوم؟ ولا إشكال أنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة هو اللزوم لا الصحّة، فيجب أن يتعلّق الرفع به لا بالصحّة(2).

الثالث: ما ذكره السيد الأستاذ!، من أنّ المنفي هو عنوان الضرر، لا الفعل الموجب للضرر؛ لأنّ من الواضح: أنّ أحدهما غير الآخر، فالضرر مسبّب

ص: 138


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 392
2- المصدر نفسه 3: 394

ومترتّب على الفعل، لا أنّه نفسه حتى يصحّ إطلاقه عليه من باب العنوان والمعنون، فإذا كان المراد منه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يلزم منه حينئذٍ نفي حرمة الإضرار بالغير. نعم، لو كان المنفي في المقام هو الفعل الضرري لأمكن القول بأنّ المراد منه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كالوضوء الضرري مثلاً، وعلى هذا فما هو المنفي في المقام لا يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي موضوعه، وما يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي الموضوع غير منفي في المقام(1).

الرابع: ما ذكره! أيضاً، من أنّ الضرر بالنسبة للحكم إمّا أن يكون تمام الموضوع، أو جزءه، أو قيده، وفي جميع هذه الأحوال يكون الموضوع «لا ضرر» مقتضياً للحكم، فكيف يعقل أن يكون مانعاً عن تحقّقه بأن يقال بنفي الحكم بلسان نفي موضوعه؟!(2)

الخامس: ما ذكره المحقّق القمّي(رحمه الله) في حاشيته على الكفاية، وهو: أنّ هذا القسم من النفي - أي: نفي الحكم بلسان نفي الموضوع - لابدّ وأن يكون للموضوع المنفي آثار، شرعاً أو واقعاً، بأن تكون الآثار أحكاماً شرعية أو واقعية لهذا الموضوع، كما في قوله(علیه السلام): «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»؛ حيث إنّ للصلاة آثاراً وأحكاماً ينفيها الشارع بلسان نفي الموضوع،

ص: 139


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 612
2- انظر: المصدر نفسه: 612

وكذا قوله(علیه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال»؛ حيث إنّ للرجولية آثاراً ولوازم ينفيها بنفي الموضوع ادّعاءً. وما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّ الضرر ليس موضوعاً لأحكام ولوازم شرعية حتى ينفيها بنفي الموضوع ادّعاءً، كما أنّه ليس له أوصاف ثابتة معلومة ينفيها الشارع بنفي موضوعها، بل لو كانت له آثار كذلك فليس المراد من نفي الضرر بلحاظ نفيها؛ لأنّ الغرض نفي الأحكام الموجبة للضرر من حيث تولّد الضرر منها، لا نفي الأحكام الثابتة للضرر من حيث كون الضرر موضوعاً لها؛ فإنّ تلك الأحكام ثابتة قطعاً في الشريعة، والأحكام المنفية ليست هي الأحكام الثابتة للضرر حتى يمكن نفيها بنفي الموضوع ادّعاءً، بل المنفي على هذا التقدير هو الأحكام الثابتة للعناوين الواقعية من حيث هي هي، ولا يمكن نفيها بنفي الضرر ادّعاءً.

وقد يذكر إيراد آخر للمحقّق الأصفهاني!، ولكنّه في الحقيقة مؤيّد لما ذكره الآخوند الخراساني!؛ فإنّه ذكر بأنّ النفي ليس نفياً للحقيقة ادّعاءً، بل نفي للحقيقة حقيقة، فراجع(1).

والمتحصّل: أنّ الإيرادات الواردة على مسلك الآخوند الخراساني! خمسة إيرادات، إلاّ إنّه بعد التأمّل فيها يظهر بأنّ ما ذكره السيد الأستاذ! في الوجه الثالث هو عين ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) في الوجه الأوّل، ولكن بتقريب آخر، وهو: أنّ السيد الأستاذ! قد جعل النفي في الحديث بسيطاً، والمنفي هو

ص: 140


1- انظر: نهاية الدراية 4: 440

الضرر، وحيث إنّ النفي قد تعلّق بالضرر بلحاظ نفي حكمه وهو الحرمة، فحينئذٍ يلزم ما ذكره من المحذور.

كما أنّ ما ذكره المحقّق القمّي! في صدر كلامه يتّحد مع ما ذكره النائيني في الوجه الأوّل من أنّ الضرر بنفسه مورد للنفي، فيكون من السلب البسيط، ومن هنا أورد عليه المحقّق القمّي!: بأنّ الضرر لا حكم له، مع أنّه يعتبر في الموضوع المنفي أن يكون ذا حكم، مع أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) قد فرض حكمه الحرمة شرعاً، والقبح عقلاً. هذا أوّلاً.

وثانياً: أنّ ما ذكره المحقّق القمّي! في ذيل كلامه متّحد مع ما ذكره سيدنا الأستاذ! في الوجه الرابع، من أنّ الضرر إذا كان موضوعاً فهو مقتضٍ للحكم، فكيف يعقل رفعه؟

والحاصل: أنّ هذه الإيرادات الخمسة ترجع في حقيقتها إلى ثلاثة ايرادات، والظاهر: أنّ أحسن هذه التقريبات الثلاثة لهذا الإشكال هو ما ذكره المحقّق القمّي!، حيث قال بعدم بثبوت حكم للضرر، بخلاف ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله)، حيث قال: إنّ حكمه الحرمة شرعاً، والقبح عقلاً.

ووجه الأحسنية هو:

أوّلاً: أنّ الضرر ليس حكمه الحرمة دائماً، بل قد يكون حكمه الوجوب، كما في الجهاد والزكوات والكفّارات وغيرها.

وثانياً: لو كان حكم الضرر الحرمة للزم من حمل النفي على إرادة النهي -

ص: 141

كما في المسلك الثالث - محذور اللغوية، مع أنّه لم يستشكل في ذلك أحد حتى المحقّق النائيني نفسه!.

وثالثاً: أنّ القول بأنّ حكم الضرر هو الحرمة مخالف لما ذكره شيخ الشريعة من كون المراد من النفي في المقام هو النهي، بمعنى: أنّ الحديث مؤكّد للحرمة، وليس نافياً لها.

وهذا الوجه لم يذكر في كلام العلَمين (المحقّق النائيني وسيدنا الأستاذ!).

والمتحصّل: أنّ العمدة من الوجوه التي أوردت على هذا المسلك ثلاثة: وجهان للمحقّق النائيني، ووجه للسيد الأستاذ!.

ثمّ إنّه ينبغي ملاحظة هذه الوجوه الثلاثة من جهة تماميتها وعدمها، فنقول:

أمّا الوجه الأوّل؛ فيمكن الجواب عنه، بأن يقال: إنّ ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) إنّما يتمّ بناءً على كون المراد من النفي بنحو السلب البسيط، وأمّا بناء على كون المراد من النفي هو السلب التركيبي فلا يتمّ ما ذكره!، والظاهر من كلام الآخوند(رحمه الله) هو الثاني؛ وذلك لعدة قرائن:

الأولى: أنّ الآخوند الخراساني! قد مثّل لذلك بقوله(علیه السلام): «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»، ومن الواضح: أنّ النفي في الحديث بنحو السلب التركيبي، بمعنى: الصلاة في غير المسجد ليست بصلاة(1).

ص: 142


1- انظر: كفاية الأصول 3: 160

الثانية: ما ذكره في حاشيته على الفرائد: من كون مختاره أسلم من مختار الشيخ؛ حيث لا يرد عليه محذور تخصيص الكثير أو الأكثر، ولا محيص عن هذا المحذور على مختار الشيخ الأنصاري إلاّ بتكلّف(1).

الثالثة: ما صرّح به في الكفاية بقوله: ثمّ الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها أو المتوهّم ثبوته لها كذلك في حال الضرر، لا الثابت له بعنوانه؛ لوضوح أنّه العلّة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه، بل يثبته ويقتضيه(2).

وهو صريح في كون المنفي هو الفعل الموجب للضرر الذي يكون النفي فيه بنحو السلب التركيبي، وعلى هذا فلا يرد عليه محذور خلاف المقصود كما ذكر ذلك المحقّق القمّي(رحمه الله). نعم، يبقى أنّه هل هو من السلب البسيط، أو التركيبي؟ وهذا ما سنتعرّض إليه إن شاء الله في محلّه.

وأمّا الوجه الثاني؛ فلا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنّ العقد الغبني وإن كان هو موضوع الضرر، إلاّ إنّ له حكمين في عرض واحد، أحدهما الحكم بنفوذه وصحّته، والآخر وجوب الوفاء به ولزومه، والموجب للضرر إنّما هو الثاني لا الأوّل؛ لكونه الجزء الأخير للعلّة، وحينئذٍ فالموضوع المرفوع هو اللزوم، حيث أوجب الضرر، ولا يرفع الموضوع من جميع جهاته حتى من

ص: 143


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 282
2- كفاية الأصول 3: 162

جهة الصحّة.

وأمّا الوجه الثالث؛ فهو إنّما يرد فيما لو كان النفي بنحو السلب البسيط، وأمّا لو كان النفي بنحو السلب التركيبي - وهو ما كان مخرجاً لبعض الأفراد من تحت العموم والإطلاق - فلا يرد، خصوصاً مع التفات المحقّق الآخوند إلى أنّ الموضوع لا يكون مانعاً عن حكمه، وأنّ الحكم غير مترتّب على الموضوع بعنوانه، بل مترتّب عليه بنحو الإطلاق، فلذا قال! ما لفظه: ثمّ الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها... لا الثابت له بعنوانه؛ لوضوح أنّه العلّة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه، بل يثبته ويقتضيه(1). فالعجب من سيدنا الأستاذ! كيف غفل عمّا ورد في كلام المحقّق الآخوند في الكفاية وأورد عليه الإيراد المتقدّم؟!

ومنه يتّضح: أنّ الإيرادات الثلاثة كلّها مدفوعة وغير واردة على هذا المسلك.

ثمّ إنّ ها هنا إيراداً آخر قد ذكره بعض السادة الأجلاّء، وهو: أنّ صحّة ما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني(رحمه الله) - من أنّ المراد من النفي في «لا ضرر» هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع - متوقّفة على أن يكون المراد من الموضوع هو الأعمّ من الموضوع الاصطلاحي ومن متعلّق الحكم، وعليه: فإذا أريد منه الاصطلاحي - وهو ما فرض وجوده ورتّب عليه الحكم ك- «المستطيع» في

ص: 144


1- كفاية الأصول 3: 162

قوله: «يجب الحج على المستطيع» - فهو تامّ؛ لأنّ علاقة الموضوع بالحكم علاقة العلّة بالمعلول، فهو متقدّم عليه رتبة، فلذا يصحّ نفيه بلسان نفيه، وإذا أريد منه متعلّق الحكم الذي هو فعل المكلف والمعلول والناشئ من الحكم، فلا يكون وجوده وعدمه كاشفاً عن وجود الحكم وعدمه، بل وجود المتعلّق مسقط للحكم، كما أنّ عدمه لا يوجب عدم الحكم، ولذا لو عصى المكلف ولم يأتِ بالمتعلّق في الخارج فلا يوجب ذلك عدم الحكم، ومن هنا قيل: إنّ عدم المتعلّق لا يكشف عن عدم الحكم، فلذا لا يصحّ نفي الحكم بنفي متعلّقه.

وما نحن فيه: المنفي هو الفعل - أي المتعلّق - الموجب للضرر كالصوم الضرري أو البيع الضرري وأمثال ذلك، والتي يكون المنفي فيها المتعلّق لا الموضوع(1).

وهذا الإيراد قابل للدفع؛ فإنّه وإن كان هناك فرق بين الموضوع والمتعلّق، إلاّ إنّه لا أثر له هنا، أي في باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه؛ لأنّه كما يلزم من رفع الموضوع رفع الحكم كذلك من رفع المتعلّق يلزم رفع الحكم، إلاّ إنّ رفع الحكم برفع متعلّقه تارة يكون الرفع فيه تكوينياً كما في عصيان المكلّف وعدم إتيانه بالمتعلّق، وأخرى تشريعياً كما لو فرض الشارع المتعلّق في مقام التشريع معدوماً فقال: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»، أو «لا صيام لمن لم يبيّت نية الصوم بالليل»، فلا معنى حينئذٍ أن يبعث المولى المكلّف نحو إيجاد المتعلّق بعدما فرضه معدوماً دائماً؛ لخروجه عندئذٍ عن

ص: 145


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 191- 192

قدرة المكلّف، فلا يستقيم جعل الحكم بداعي البعث والامتثال نحوه، وعلى هذا فكما يصحّ رفع الحكم بلسان رفع موضوعه، كذلك يصحّ رفع الحكم بلسان رفع متعلّقه؛ لعدم الفرق بينهما فيما نحن فيه.

هذا، مضافاً إلى ورود روايات كثيرة وقع النفي فيها على المتعلّق، كقوله: «لا طلاق لمن لم يرد الطلاق»، أو «لا سبق إلاّ في خفّ أو حافر أو نصل»، أو «لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام»، أو «لا غشّ بين المسلمين»، أو «لا مناجشة في الإسلام»، أو «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق»، أو «لا رضاع بعد فطام»، أو «لا عتق إلاّ بعد ملك»، وغيرها من الموارد التي ورد فيها النفي على المتعلّق.

تقرير المسلك الثالث

وأمّا تقرير المسلك الثالث - وهو مختار شيخ الشريعة الأصفهاني!، وهو: أن يراد بالنفي النهي عن الضرر - فقد تقدّم بيان أصل المسلك، وإنّما الكلام في مثبتاته وما يرد عليها، والذي يظهر من شيخ الشريعة: أنّ هناك عدّة وجوه تثبت هذا المسلك:

الأوّل: ورود النظير لهذا التركيب في الكتاب والسنّة ممّا يدلّ على إرادة النهي منه.

أمّا في الكتاب، فنظيره قوله تعالى: {لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي

ص: 146

الْ-حَجِّ}(1)، وقوله تعالى: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْ-حَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ}(2).

وأمّا في السنّة، فنظيره قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا جنب ولا شغار في الإسلام»، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا إخصاء في الإسلام، ولا بنيان كنسية»، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا سبق إلاّ في خفٍّ أو حافر أو نصل»، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا صمات يوم إلى الليل»، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا غشّ بين المسلمين»، ثمّ قال!: ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظماً ونثراً لطال المقال وأدّى الملال، وفيما ذكرنا كفاية في إثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب، وفي ردّ إرادة غيره من المعاني(3).

الثاني: التبادر؛ فإنّ المنسبق إلى الأذهان الصافية والفارغة عن الشبهات العلمية من مثل هذا التركيب هو النهي، فلذا قال!: فلا إشكال أنّ المتبادر إلى الأذهان الخالية من أهل المحاورات قبل أن يورد عليها شبهة التمسّك بالحديث في نفي الحكم الوضعي ليس إلاّ النهي التكليفي(4).

الثالث: أنّه قد ثبت في رواية ابن مسكان عن زرارة قوله(علیه السلام): «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن»، ولا شكّ أنّ هذا اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي، ولا

ص: 147


1- البقرة: 197
2- طه: 97
3- انظر: قاعدة لا ضرر: 24
4- المصدر نفسه: 26

معنى لحمله على سائر المعاني الأخرى(1).

الرابع: أنّ قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) لسمرة: «إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» كما في رواية ابن مسكان عن زرارة، إنّما هو بمنزلة صغرى وكبرى، فلو حمل على إرادة الحرمة لصار معناه: إنّك رجل مضارّ، والمضارّة حرام، وهو المناسب لتلك الصغرى، وهذا بخلاف حمله على المعاني الأخرى المذكورة، فحينئذٍ يكون معناه: إنّك رجل مضارّ، والحكم الموجب للضرر منفي، أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر، وهذا لا يتناسب مع الصغرى المتقدّمة، بل لا أظن بالأذهان المستقيمة ارتضاءه(2).

الخامس: اتّفاق أئمّة أرباب اللغة على أنّ المراد من النفي في قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) «لا ضرر ولا ضرار» هو النهي التكليفي. قال!: ولنذكر بعض كلمات أئمّة اللغة ومهرة أهل اللسان تراهم متّفقين على إرادة النهي لا يرتابون فيه ولا يحتملون غيره.

ففي النهاية الأثيرية: قوله «لا ضرر»، أي: لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه، والضرار: فعال من الضرّ، أي: لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه.

وفي لسان العرب: معنى قوله «لا ضرر»، أي: لا يضرّ الرجل أخاه، وهو ضدّ

ص: 148


1- انظر: قاعدة لاضرر: 26
2- انظر: المصدر نفسه: 26

النفع، وقوله «لا ضرار»، أي: لا يضارّ كلّ منهما صاحبه.

وفي الدرّ المنثور - للسيوطي - «لا ضرر» أي: لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه، و «لا ضرار» أي: لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه.

وفي تاج العروس، مثل هذا بعينه، وكذا الطريحي في المجمع(1).

السادس: ما يظهر منه! في التنبيه الثالث من عدم ورود محذور تخصيص الأكثر أو الكثير على القاعدة، بناءً على كون المعنى المراد من «لا ضرر» هو النهي التكليفي، وأنّ هذا المحذور يبتني على إرادة المعنى الذي رجّحوه من التعميم للتكليفي والوضعي، وللضرر الناشئ من أركان المعاملة وشروطها وما يترتّب عليها ممّا هو خارج عنها(2)، فلذا تصدّوا لردّ هذا المحذور، ممّا يشكّل قرينة على بطلان ما قالوه في تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري وتعيّن إرادة المعنى الذي اختاره!.

ولكن جميع هذه الوجوه قابلة للمناقشة:

أمّا الأوّل؛ فإنّ دلالة هذا التركيب على النهي في الجملة غير قابلة للإنكار؛ وذلك لأنّ مدخول «لا» النافية تارة يكون من الأعيان، كقوله(علیه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال»، وهذا لا إشكال في عدم دلالته على النهي.

وأخرى يكون من الأفعال غير الاختيارية الخارجة عن قدرة المكلّف،

ص: 149


1- قاعدة لا ضرر: 27
2- المصدر نفسه: 29

كقوله(علیه السلام): «لا شكّ لكثير شكّ»، و «لا سهو للإمام مع حفظ المأموم»، و «لا سهو في سهو»، و «لا سهو في نافلة»، ونظائرها ممّا لا يكون متعلّق «لا» النافية فعلاً اختيارياً، فلا يراد حينئذٍ من النفي النهي؛ وذلك لاعتبار القدرة في المتعلّق.

وثالثة يكون من الأفعال الاختيارية للمكلّف، كقوله تعالى: ]لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي ال-ْحَجِّ[، أو قوله(علیه السلام): «لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام»، أو قوله(علیه السلام): «لا غشّ بين المسلمين»، فهي وإن دلّت على النهي والحرمة، إلاّ أنّه قد ورد بعض الأمثلة التي تدلّ على نفي الحكم، أو على نفي الموضوع، كقوله(علیه السلام): «لا يتم بعد احتلام، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يمين لولد مع والده، ولا للمملوك مع مولاه، ولا للمرأة مع زوجها، ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة»(1).

وقوله(علیه السلام): «لا يمين في غضب، ولا في قطيعة رحم، ولا في جبر ولا إكراه»(2)، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا طلاق إلاّ على كتاب الله، ولا عتق إلاّ لوجه الله»(3)، و «لا طلاق إلاّ لمن أراد الطلاق»(4)، و «لا طلاق إلاّ ببيّنة»(5)، و «لا

ص: 150


1- وسائل الشيعة 23: 217، ح1
2- المصدر نفسه 23: 235، ح1
3- المصدر نفسه 23: 232، ح9
4- المصدر نفسه 22: 31، ح4 - 5
5- المصدر نفسه 22: 29، ح13

طلاق إلاّ على السنّة، ولا طلاق إلاّ على طهر من غير جماع»(1)، و «لا صيام لمن لا يبيّت الصيام بالليل»(2)، و «لا نكاح إلاّ بولي مرشد وشاهدي عدل»(3)، و «لا شفعة في سفينة، ولا في نهر، ولا في طريق»(4)، و «لا قطع إلاّ من حرز»(5)، و «لا رهن إلاّ مقبوضاً»(6)، و «لا ظهار إلاّ ما أريد به الظهار»(7)، وغير ذلك من الموارد التي لو أردنا استقصاءها لطال المقال، وأدّى الملال.

فبأيّ وجه تُرجّح إرادة النهي من هذا التركيب وتُجعل دليلاً على هذا المسلك؟

ومن هنا يظهر أيضاً عدم تمامية ما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني! من عدم معهودية استعمال هذا التركيب في النهي(8)).

والمتحصّل: أنّ شيوع هذا التركيب في الكتاب والسنّة لا يدلّ على إرادة

ص: 151


1- المصدر نفسه 22: 24، ح3
2- عوالى اللئالي 3: 132، ح5
3- المصدر نفسه: 313، ح148
4- وسائل الشيعة 25: 404، ح1
5- مستدرك الوسائل 18: 136، ح9
6- وسائل الشيعة 18: 383، ح1
7- المصدر نفسه 22: 308، ح1
8- انظر: كفاية الأصول 3: 161

النهي منه ما لم يحتف بقرينة معيّنة.

وأمّا الوجه الثاني؛ فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى؛ فلما تقدّم من شيوع مثل هذا التركيب في غير النهي أيضاً، فكيف يصحّ حينئذٍ دعوى التبادر في إرادة النهي منه؟!

وأمّا الكبرى؛ فإنّ التبادر المعتبر - والذي يكون علامة على الحقيقة - هو ما كان لتحصيل المعنى الاستعمالي، وأمّا ما كان منه لتطبيق المعنى التفهيمي على المعنى الاستعمالي، أو ما كان لتشخيص المعنى التفهيمي في حال تردّده بين محتملات متعدّدة، فغير معتبرٍ.

ومن الواضح: أنّ حمل النفي فيما نحن فيه على النهي إمّا من باب التطبيق، وإمّا من باب التعيين للمعنى التفهيمي بعد التسليم بمخالفته للمعنى الاستعمالي، والمناط فيهما وجود القرينة المعيّنة لأحد الوجوه.

هذا، مضافاً إلى أنّ مقتضى أصالة تطابق الإرادتين الاستعمالية والجدّية: إرادة النفي من «لا»، وليس النهي.

وأمّا الوجه الثالث؛ فممنوع لأمرين:

الأوّل: أنّ هذه الزيادة (على مؤمن) وردت في رواية ابن مسكان عن زرارة، وقد تقدّم أنّها ليست بحجّة؛ لكونها مرسلة، وعليه فلم يقم دليل معتبر على ثبوت هذه الزيادة.

الثاني: على فرض التسليم بثبوت هذه الزيادة في دليل معتبر، والأخذ بها

ص: 152

أيضاً في حالة الدوران بين الزيادة والنقيصة، فيمكن المنع من دلالة هذه الزيادة على النهي التحريمي أيضاً، بأن يقال: إنّ المحتملات في الحديث أربعة، وهي:

أوّلاً: أن يراد من النفي نفي الحكم الضرري، ويدل قوله «على مؤمن» على اختصاص نفي الحكم الضرري بالمؤمن.

ثانياً: أن يراد به نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، يعني: نفي الفعل الضرري، والمقصود منه نفي حكمه، وهذا ما اختاره الآخوند الخراساني! (1).

ثالثاً: أن يراد به النهي التحريمي، فالمنفي حينئذٍ الجواز، بمعنى: عدم جواز الإضرار بالمؤمن، وهذا ما اختاره شيخ الشريعة(2).

رابعاً: أنّ الحديث يشتمل على بيان حكمين في عرض واحد: الأوّل نفي الحكم الوضعي، والثاني نفي الحكم التكليفي، وهذا ما ذهب إليه سيد المنتقى(رحمه الله) (3)، أو على نحو التفكيك بين الفقرتين الواردتين في الحديث، فالأولى - وهي «لا ضرر» - تدلّ على نفي الحكم الضرري، والثانية - وهي «لا ضرار» - تدلّ على النهي التحريمي، وهذا ما اختاره بعض السادة الأجلاّء(4)،

ص: 153


1- كفاية الأصول 3: 160
2- قاعدة لا ضرر: 26
3- منتقى الأصول 5: 412
4- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 151

وعلى هذا: فكيف يكون لفظ «على مؤمن» قرينة معيّنة للوجه الثالث بالرغم من صحّة استعماله في جميع هذه المعاني الأربعة؟! وهذا ممّا لم يظهر لنا وجهه.

والحاصل: أنّ ما ذكره شيخ الشريعة - من كون لفظ «على مؤمن» قرينة على إرادة النهي من النفي - بلا وجه ظاهر.

وأمّا الرابع؛ فقد ظهر جوابه ممّا تقدّم؛ فإنّ قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «إنّك رجل مضار»، لم يرد في دليل معتبر، وإنّما ورد في رواية ابن مسكان عن زرارة، وهي غير معتبرة؛ لكونها مرسلة، إلاّ أن يقال باعتبارها من الوجهين اللذين تقدّما في نقل الروايات. نعم، هذه الجملة وردت في رواية أبي عبيدة الحذّاء، إلاّ إنّها غير متعرّضة لبيان الكبرى الكليّة - وهي «لا ضرر ولا ضرار» - حتى يمكن التمسّك بها في المقام.

ثمّ على فرض ثبوتها في دليل معتبر فليس هذا وجهاً معيّناً للمعنى الثالث بعدما ذكرنا: أنّ المستفاد من الاحتمال الرابع حكمان: الأوّل نفي الحكم الوضعي، والثاني النهي التحريمي، فحينئذٍ لا يبقى وجه للمعنى الثالث.

وأمّا الخامس؛ فقد أجيب عنه:

أوّلاً: بأنّ المعاجم الخمسة التي ذكرها! ترجع في حقيقتها إلى مصدرٍ واحد وهو النهاية لابن الأثير، ففي جزء منها تجميع لكتاب غريبي الحديث والقرآن لأبي عبيد أحمد بن محمّد الهروي، وكتاب الغيث في تهذيب القرآن والحديث للحافظ أبي موسى محمّد الأصفهاني، وقد جعل لكلّ منهما علامة

ص: 154

تدلّ عليه، وأمّا سائر المعاجم الأخرى فهي تنقل عن ابن الأثير، فحينئذٍ كيف يدّعى اتّفاق أئمّة اللغة ومهرة أهل اللسان على إرادة النهي من قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر»؟!

ثانياً: على فرض التسليم بما ذكره!، فلا دليل على اعتبار فهم أرباب اللغة، على أنّ تفسيرهم «لا ضرر» بإرادة النهي ليس إلاّ مجرّد حدس واجتهاد منهم؛ لعدم نقلهم ذلك عن العرف. نعم، نقلهم لمعاني المفردات لا ريب في كونه مرجّحاً دون معاني المركّبات.

ثالثاً: على فرض التسليم والقول باعتبار قول اللغويين، إلاّ إنّه معارض بفهم الفقهاء؛ فإنّ المشهور عنهم عدم استفادة النهي من «لا ضرر»، فلذا يتمسّكون به في موارد الأحكام الوضعية والتكليفية، ومن الواضح: أنّه في حال التردّد بين القولين يقدّم قول الفقهاء على اللغويين؛ لكون فهمهم للروايات مستنداً لملاحظة النكات والملابسات المكتنفة بالروايات، فيكون فهمهم أقرب للواقع من غيرهم.

وأمّا السادس؛ فيجاب عنه:

أوّلاً: بأنّ دعوى عدم لزوم محذور تخصيص الأكثر أو الكثير لا تختصّ بالمعنى الذي اختاره شيخ الشريعة، بل تقدّم من المحقّق الآخوند الخراساني! أنّه تمسّك بهذا الوجه لإثبات صحّة دعواه أيضاً.

ثانياً: سيأتي إن شاء الله تعالى - في تنبيهات القاعدة - أنّ محذور تخصيص

ص: 155

الأكثر أو الكثير غير وارد، وأنّه مدفوع من رأس.

والحاصل: أنّ جميع الوجوه التي استدلّ بها شيخ الشريعة غير ناهضة لإثبات مدّعاه.

هذا، مضافاً إلى أنّه قد أورد على هذا المسلك بوجوه، أهمّها وجهان:

الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقي!: بأنّ ما ذكره شيخ الشريعة لا يناسب التخفيف على الأمّة الموجب للامتنان عليهم، بل كان حينئذٍ تحميلاً آخر وإلزاماً زائداً عليهم، وهو ينافي بناءهم على سوقه الوارد مساق حديث الرفع وعمومات نفي الحرج من حيث التخفيف على الأمّة بشهادة تصريحهم بعدم شمول عمومه للمقدّم على الضرر في المعاملات الغبنية(1).

الثاني: ما ذكره السيد الأستاذ!: بأنّ إرادة النهي من الحديث وإن كان ممكناً في نفسه، إلاّ إنّه لا يمكن الالتزام به في المقام.

أمّا بناءً على اشتمال الرواية على كلمة «في الإسلام» - كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير - فواضح؛ لأنّ هذا القيد كاشف عن أنّ المراد هو النفي في مقام التشريع لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر.

وأمّا بناءً على عدم ثبوتها - كما هو الصحيح؛ لكون رواية الفقيه مرسلة، وما ذكره ابن الأثير رواية عامّية - فتحتاج إرادة النهي من النفي إلى قرينة صارفة،

ص: 156


1- مقالات الأصول 2: 304

والفرض عدمها، فلا موجب حينئذٍ لرفع اليد عن الظهور وحمل النفي على النهي؛ لإمكان حمل القضيّة على الخبرية(1).

إلاّ إنّ ما ذكر من وجهي الإيراد لا يمكن المساعدة عليهما؛ لأنّهما يتمّان فيما إذا أريد من النفي - في الحديث - النهي، وكان استعمال نفي الضرر خارجاً بداعي الزجر، فحينئذٍ لا يتناسب هذا مع ظهور الحديث في الامتنان، واشتماله أيضاً على لفظ «في الإسلام» الكاشف عن نفي الحكم في عالم التشريع، وأمّا لو أريد منه نفي الحكم الضرري، أو نفي الحكم بلسان موضوعه ابتداءً لإفهام نفي جواز الضرر في الشريعة، فحينئذٍ لا يتنافى مع ما ذكر في وجهي الإيراد.

وظاهر ما أفاده شيخ الشريعة وإن كان يوهم إرادة الأوّل، إلاّ إنّه! عمّم ذلك في كلامه، فقال: وليعلم: أنّ المدّعى أنّ حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه، سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداءً، أو أنّه استعمال في معناه الحقيقي، وهو النفي، ولكن لينتقل منه إلى إرادة الغير(2).

ومنه يظهر: عدم تمامية ما ذكره المحقّق العراقي والسيد الأستاذ ".

تقرير المسلك الرابع

وأمّا تقرير المسلك الرابع - وهو ما اختاره الفاضل التوني والفاضل النراقي": بأنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك - فيمكن بيانه بنحوين:

الأوّل: أن يراد منه نفي الحصّة الخاصّة من الضرر، أعني: الحصّة غير

ص: 157


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 611
2- قاعدة لا ضرر: 28

المتداركة، فيكون قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر» إخباراً عن نفي هذه الحصّة الخاصّة، ولازمه أنّ كلّ ضرر متدارك.

الثاني: أن يراد منه نفي الضرر مطلقاً بلحاظ أنّ الضرر الواقع في الخارج متدارك ويثبت به الضمان، فينزّل الضرر منزلة العدم خارجاً.

والفرق بين هذين النحوين واضح؛ إذ بناءً على النحو الأوّل يكون المنفي مقيّداً بغير المتدارك، بخلاف النحو الثاني فإنّ المنفي مطلق، وفيه عناية وتسامح بتنزيله منزلة العدم، كما أنّ النافي في النحو الأوّل أصالتا الإطلاق وعدم الحذف، وفي النحو الثاني أصالتا الحقيقة والتطابق بين الإرادتين، ويشترك كلا النحوين في أنّ لازمهما هو: أنّ كل ضرر يوجب التدارك والضمان فيما لو كان الضرر صادراً من الغير؛ إذ لا معنى أن يتدارك أو يضمن الإنسان الضرر الذي أدخله على نفسه.

والوجه في تعيين هذا المعنى هو: أنّ الضرر المنفي فيه احتمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المنفي هو مطلق الضرر والنقص، الأعمّ من كونه متداركاً في الخارج، أو غير متداركٍ، أو محكوماً بالتدارك أو لا.

الثاني: أن يكون المنفي هو الحصّة الخاصّة من الضرر، أي: النقص غير المتدارك خارجاً، بلحاظ أنّ الضرر والنقص المتدارك ليس مصداقاً للضرر كبذل المثل أو القيمة عوضاً عمّا تلف من الأموال، فلذا لا يقال في العرف: إنّه تضرّر، بل لم يخسر شيئاً؛ لأنّه أخذ عوض ما خسره وتدارك الضرر والنقص،

ص: 158

فكأنّما لم يتضرّر.

الثالث: أن يكون المنفي هو الضرر والنقص غير المحكوم بلزوم تداركه شرعاً فيما لو كان في القانون قوّة واستعداد لتنفيذ الحكم تضمن تحقّق التدارك، فيعدّ هذا النقص حينئذٍ بمنزلة المعدوم عرفاً وعادة، فيصحّ عندئذٍ نفي الضرر والنقص.

هذه هي المحتملات الثلاثة في المنفي، بناءً على هذا المسلك، وحيث إنّ الاحتمال الأوّل والثاني غير صحيح؛ لكون الأوّل مخالفاً لوجود الضرر والنقص في الخارج غير المتدارك قطعاً، ولعدم تدارك كلّ نقص وضرر تحقّق في الخارج حتماً في الثاني، فيتعيّن حينئذٍ إرادة الاحتمال الثالث، فيكون مفاد «لا ضرر»: نفي النقص غير المحكوم شرعاً بالضمان، ولازمه إثبات حكم شرعي بالتدارك والضمان على كلّ مَن أدخل الضرر والنقص على الغير.

إلاّ إنّ الأعلام قد ناقشوا هذا المسلك بعدّة مناقشات:

المناقشة الأولى: ما ذكره الشيخ الأنصاري! من أنّ التدارك الموجب لانتفاء الضرر إنّما هو التدارك الفعلي الخارجي، فمَن خسر مالاً ثمّ ربح بمقداره صح، أن يقال - ولو تسامحاً- : إنّه لم يتضرّر، وأمّا مجرّد حكم الشارع بوجوب تداركه مع عدم تعقّبه بالتدارك فعلاً لا يصحّح تنزيله منزلة العدم، فمن سرق ماله فهو متضرّر وإن حكم الشارع بوجوب ردّه عليه؛ لعدم صدق الضرر عليه.

ص: 159

فمنشأ هذا الاحتمال هو الخلط بين الضرر المتدارك فعلاً والضرر المحكوم بلزوم تداركه، والمناسب للمعنى الحقيقي - أعني نفي الماهية - هو الأوّل(1).

المناقشة الثانية: ما ذكره المحقّق النائيني!، وبما أنّ كلامه يتضمّن مناقشة جواب الشيخ، فلا بأس ببيان ما أفاده! ملخّصاً، فإنّه قال: إذا لم يكن المنفي عنواناً اختيارياً كما في مثل «لا ضرر في الإسلام»، وتعذّر حمله على النفي الحقيقي التكويني، فعندئذٍ لابدّ من حمله على النفي التشريعي، وهو على مراتب أربع:

الأوّلى: نفي الحكم الضرري.

الثانية: نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، أي نفي الأثر.

الثالثة: إرادة النهي.

الرابعة: تنزيل الموجود - بلحاظ لزوم تداركه وضعاً، أو بلحاظ حكمه تكليفاً - منزلة العدم.

وهذه المراتب الأربع طولية، لا يتنزّل من كلّ سابق إلى لاحقه إلاّ بعد تعذّر السابق، وأمّا مع إمكانه فلا وجه لإرادة هذا المعنى الذي هو أردأ الوجوه إلاّ على توجيه، وهو: أنّه قد ذكر الفقهاء في باب الضمان: أنّه لو تلفت العين المضمونة فيجب على الضامن تداركها، إمّا بالمثل أو القيمة، وذكروا: أنّ أداء

ص: 160


1- انظر: رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية - تراث الشيخ الأعظم) 23: 114- 115

المثل أو القيمة بمنزلة أداء نفس العين التي يجب أداؤها بمقتضى قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

ومقتضى ذلك: أنّه إذا حكمنا باشتغال ذمّة الضارّ وضعاً صحّ تنزيل الضرر الموجود منزلة المعدوم، كما يصحّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود في العين التالفة، وهذا التنزيل في العرف شائع؛ ولذا يخسرون الأموال لجلب المنافع، وإذا حصل لهم النفع فلا يعدّون ما خسروه ضرراً.

نعم، مجرّد وجود التدارك تكليفاً لا يقتضي صحّة تنزيل الضرر المفروض وجوده منزلة عدمه.

وحاصل الفرق: أنّ مجرّد الجعل الشرعي لا يرفع الضرر الخارجي إذا كان تكليفياً محضاً.

وأمّا إذا انتقلت قيمة العين التي أتلفها المتلف إلى ذمّته، فيصحّ أن يقال: لا ضرر، كما يصحّ أنّ يقال: أدّى العين إذا أدّى مثلها أو قيمتها.

فما أفاده شيخنا الأنصاري! في تعليل كون هذا الوجه أردأ الاحتمالات بقوله: لأنّ الضرر الخارجي لا ينزّل منزلة العدم بمجرّد حكم الشارع بلزوم تداركه، وإنّما المنزّل منزلته الضرر المتدارك فعلاً(1).

يرد عليه: أنّه لا وجه لجعل النفي كناية عن وجوب التدارك تكليفاً، بل إذا

ص: 161


1- انظر: رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية - تراث الشيخ الأعظم) 23: 114

وصل الأمر إلى هذا فيجعل كناية عن اشتغال ذمّة الضارّ وضعاً، فينزّل منزلة العدم بهذا الاعتبار، فما جعله وجهاً لكونه أردأ الاحتمالات لا يصلح إلاّ معيناً لما يستكشف من هذا التنزيل، لا دليلاً على الامتناع، فوجه الامتناع أنّه لا تصل النوبة إلى فرض الموجود منزلة المعدوم؛ إذ بعد كون الضرر من العناوين الاختياريّة الصالحة لتعلّق الأحكام بها، فإخراجه عن هذه الصلاحيّة - بفرض وجوده، وكذلك إخراج النفي الوارد عليه عن كونه حكماً شرعيّاً بجعله مسوقاً لإفادة حكم آخر، وهو اشتغال ذمّة الضارّ - في غاية البُعد، ونهاية الغرابة، مع أنّك قد عرفت: أنّه لم يجعل أحد من الفقهاء الضرر من أسباب الضمان، إلاّ إذا دخل تحت عنوان الإتلاف، ويرجع إليه قوله(علیه السلام) في صحيح الكناني، ومثله: مَن أضرّ بشيء في طريق المسلمين فهو له ضامن(1)، انتهى ما أفاده!.

والجدير بالذكر: أنّ كلامه! يشتمل على ثلاث نقاط:

الأولى: إيراده على الشيخ الأنصاري(رحمه الله) تامّ؛ فإنّ المراد بالحكم المتدارك إذا كان مجرّد الحكم التكليفي فلا يصلح أن يجعل الضرر بمنزلة المعدوم في لسان الشرع والعرف، وأمّا إذا كان المراد به الحكم الوضعي واشتغال ذمّة الضارّ بتداركه مِثلاً أو قيمة، فحينئذٍ يصحّ التعبير عنه بنفي الضرر، كما ورد ذلك في لسان الرواية والعرف.

والظاهر من كلام الفاضل التوني إرادة المعنى الثاني، وأنّ حكم الشارع

ص: 162


1- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 390 - 392

بالضمان وتدارك الضرر بمنزلة المعدوم.

الثانية: ما ذكره! من أنّ الوجه في صحّة هذا المعنى هو طوليّة مراتب النفي شرعاً، بمعنى: أنّ نفي الضرر تشريعاً وإرادة الحكم الوضعي باشتغال ذمّة الضارّ بالتدارك والضمان يقع في المرحلة الرابعة، فلا تصل النوبة لإرادته إلاّ بعد عدم إمكان إرادة نفي الحكم الموجب للضرر شرعاً، أو نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، أو النهي والحرمة من النفي، وحيث إنّ المعنى الأوّل والثاني ممكن، فلا يصحّ هذا المعنى.

أقول: إنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) وإن أتعب نفسه الشريفة في بيان وتوضيح هذا الوجه، إلاّ إنّه! لم يأتِ بدليل تركن إليه النفس ويمكن الاعتماد عليه، ومع ذلك يمكن أن يقال: إنّ هذا الوجه وإن لم يوجب تعيين المعنى الأوّل أو الثاني، إلاّ إنّ إمكانه كافٍ في عدم تعيين المعنى الرابع، وإرادته من الحديث بحاجة إلى قرينة معيّنة، وهي مفقودة في البين، على أنّه بعيدٌ عن الأذهان والفهم العرفي المحاوري.

الثالثة: ما ذكره! من أنّ عدم تمسّك الفقهاء بقاعدة لا ضرر وجعلها مدركاً ودليلاً في أسباب الضمان، وعدم غفلتهم عمّا ورد في صحيح الكناني من جعل الإضرار سبباً للضمان وتمسّكهم في ذلك بقاعدة الإتلاف وجملة من الوجوه الدالّة على ذلك، ممّا يدلّ على بُعد هذا المعنى، وعدم صلاحيته لتفسير حديث «لا ضرر».

ص: 163

أقول: إنّ هذا الوجه وإن تطلّب منّا التتبّع في الموارد المختلفة في أبواب الضمان، ولكن لا بأس به؛ لأنّ المتفاهم العرفي من مدلول الحديث هو النفي، لا إثبات الضمان والحكم بالتدارك.

المناقشة الثالثة: ما ذكره بعض السادة الأجلاّء: من أنّ هذا المعنى لا يناسب موارد تطبيق الحديث، من قبيل قضية سمرة؛ فإنّه لم يحكم فيها بتدارك الضرر الواقع على الأنصاري، لعدم كونه قابلاً للتدارك كما هو واضح(1).

ويمكن الجواب عنه: بأنّ التدارك يختلف بحسب الموارد والمقامات، فقد يكون التدارك بأداء العوض مِثْلاً أو قيمة كما في إتلاف الأموال، وقد يكون بجعل الخيار كما في الشفعة والغبن، وقد يكون بالاسترضاء وإجابة طلب المتضرّر كما في قضية سمرة، فإن لم يرضَ فيكون بقلع النخلة وحسم مادّة الضرر.

المناقشة الرابعة: أنّ هذا المعنى أخصّ من المدّعى، ولازمه تأسيس فقه جديد(2)؛ وذلك لأنّ مقتضى هذا المعنى هو: أنّ كلّ ضرر خارجي محكوم بالتدارك، فلو كان الضرر الواقع على شخص صادراً من الغير فيجب على الضارّ التدارك، كما يستفاد هذا من الفقرة الثانية في قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرار»، وإن لم يكن صادراً من الغير، وكان الضرر مطلقاً كما يستفاد من الفقرة الأولى

ص: 164


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 197
2- فرائد الأصول 2: 465

في قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر»، فهو محكوم بالتدارك أيضاً، وعلى هذا: لو فرض أنّ إنساناً عثر وكسرت رجله، أو احترقت داره أو كتبه، أو مرض وانحرفت صحّته، أو مات وتضرّر أفراد أسرته، أو فرض أنّ تاجراً يملك متاعاً عزيز الوجود غالي الثمن فاستورد تاجر آخر نفس المتاع فنزل ثمنه لكثرة وجوده، أو كان كتاب غالياً سعره لقلّة وجوده فطبعه آخر فصار رخيصاً لكثرة وجوده، فهل يمكن لفقيه أن يفتي بوجوب التدارك في جميع هذه الموارد؟ إنّنا لا نظن بأنّ أحداً يفتي بذلك حتى القائل بهذا المعنى ولزوم تدارك الضرر.

ويمكن دفعه، بأن يقال: إنّ هذه الموارد المذكورة خارجة عن مفهوم الضرر بمعنى النقص، وإن أطلق عليها ذلك تسامحاً، بل هي من مصاديق عدم النفع، خصوصاً في المثالين الأخيرين، على أنّ هذين المثالين إذا لزم منهما الضرر فيلزم أن يبنى على تحريمه كما هو مقتضى المسلك الثالث، ونفي حكمه من الصحّة واللزوم والقول بالجواز كما هو مقتضى المسلك الأوّل والثاني.

وأمّا سائر الموارد التي ينفق فيها الإنسان أمواله على تحسين مزاجه النفسي أو وضعه الاقتصادي، أو لحفظ صحّته، فلا يعدّ ذلك ضرراً، بل يرى العرف لابدّية إنفاق المال في هذه الموارد من دون عدّها ضرراً.

نعم، فيما لو انكسرت رجله بحيث لم يمكنه كسب قوته، أو انهدمت داره ولم يتمكّن من إعادة بنائها، أو احترقت ولم يمكنه تعميرها، وأمثال ذلك، فحينئذٍ لا مانع من شمول الحديث لها، ما لم تكن من موارد الإتلاف الموجبة

ص: 165

للضمان والتدارك، وتكون مضمونة في بيت مال المسلمين، فعلى الإمام أو نائبه تدارك هذه الأضرار الطبيعية، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات.

ففي الصحيح عن عبدالله بن سنان وعبدالله بن بكير جميعاً، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «قضى أمير المؤمنين(علیه السلام) في رجل وجد مقتولاً لا يدرى مَن قتله، قال: إن كان عرف وكان له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين، ولا يبطل دم امرئ مسلم؛ لأنّ ميراثه للإمام(علیه السلام)، فكذلك تكون ديته على الإمام»(1).

وكذلك ما ورد عن أبي عبد الله(علیه السلام): أنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، وعليّ أولى به من بعدي، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): من ترك دَيناً أو ضياعاً فعليَّ، ومَن ترك مالاً فلورثته»، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجرِ عليهم النفقة، والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأمير المؤمنين(علیه السلام) ومن بعدهما ألزمهم بهذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم، وما كان سبب إسلام عامّة اليهود إلاّ من بعد هذا القول من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) «أنّهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم»(2)، وغيرهما من الروايات الدالّة على أنّ المتضرر إذا

ص: 166


1- الكافي 7: 354، ح1
2- الكافي 1: 406، ح 6

لم تكن له حيلة فضرره متدارك من الإمام(علیه السلام).

المناقشة الخامسة: ما ذكره سيد المنتقى!، من: أنّ العمدة في دفع هذا الوجه أن يقال: إنّ الضرر له نسبتان وارتباطان: نسبة إلى الفاعل الصادر منه الضرر ونطلق عليه الضارّ، ونسبة إلى المفعول الواقع عليه الضرر ونطلق عليه المتضرّر. ومن الواضح: أنّ التدارك ينفي صدق الضرر عرفاً بالنسبة إلى المتضرّر، فيقال له: إنّك لم تتضرّر، ولا ينفى صدقه على الضارّ؛ فإنّه لا يقال له عرفاً: إنّك لم تضرّ زيداً، بل يقال: له إنّك أضررته، فتدارك... ومن الظاهر: أنّ المنفي في الحديث هو الضرر بقول مطلق الضرر، لا الضرر بالنسبة الى المتضرّر فقط، خصوصاً بملاحظة تطبيق المضارّ على سمرة، فقد لوحظ فيه الضارّ، فحمل نفي الضرر بلحاظ لزوم التدارك فقط غير تامّ(1).

ويمكن الجواب عنه: بأنّه إذا كان التدارك بمنزلة النقص والضرر فكأنّما لم يقع ضرر ونقص، فإذا كان بمنزلة العدم فيصحّ نفي جميع الأطراف من المتضرّر والضرر.

وبعبارة أخرى: أنّ النقص والضرر متقوّم بأمرين: الفاعل والمفعول، فإذا انتفى فيقال حينئذٍ: إنّ وجوده كعدمه من جهة التدارك والعوض، فلا معنى لنفيه نسبياً بأن يقال: إنّه منفيّ بالنسبة للمتضرّر دون الضار؛ فإنّه ليس أمراً

ص: 167


1- انظر: منتقى الأصول 5: 406

إضافياً حتى يصحّ ذلك، بل هو أمر متقوّم بطرفين، فلا معنى لنفيه من طرف دون طرف آخر، فلاحظ.

تقرير المسلك الخامس

وأمّا تقرير المسلك الخامس - وهو ما اختاره بعض أعاظم العصر! - من أنّ المراد من نفي الضرر هو النهي السلطاني الذي صدر من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)(1)، والفرق بينه وبين سائر المعاني المتقدّمة: أنّه بناءً على المعنى الأوّل والثاني والرابع هو: أنّ الحكم فيها يكون حكماً إلهياً كليّاً، ويمكن التمسّك به في الموارد المختلفة التي تنطبق عليها القاعدة، وأمّا بناءً على هذا المعنى فهو يختصّ بمورده، ولا يمكن التمسّك به بنحو القاعدة العامّة في جميع الأبواب الفقهية، كما يختلف هذا المعنى عمّا اختاره شيخ الشريعة في المعنى الثالث؛ فإنّ النهي فيه حكم كلّيّ أنبأ عنه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما هو مبلّغ ومبيّن للأحكام الكلّية الإلهية، فتكون أوامره ونواهيه إرشاداً لأوامر الله ونواهيه، وهذا بخلاف معنى النهي هنا فإنّه نهي سلطاني صادر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما هو سائس البلاد ورئيس العباد، فتكون أوامره ونواهيه حينئذٍ مولوية؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(2). نعم، هما يشتركان في كونهما حكمين كلّيين، بمعنى: عدم اختصاصهما بزمان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

وعلى كلّ حال فقد استدلّ على هذا المسلك - على ما يستفاد من كلامه! -

ص: 168


1- انظر: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 86
2- النساء: 59

بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ حديث نفي الضرر قد نقل برواية عبادة بن الصامت بلفظ «وقضى: أن لا ضرر ولا ضرار»، الظاهر في كونه حكماً مولوياً سلطانياً.

وتوضيح ذلك يتمّ ببيان عدّة أمور:

الأمر الأوّل: أنّ للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمّة الأطهار (علیهم السلام) مناصب ثلاثة:

أحدها: منصب النبوّة والرسالة، أي إنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مُنصّب من قبل الله في تبليغ وتبيين الأحكام الكلّية الإلهيّة من الوضعية والتكليفية، فكلّ ما صدر عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بهذا العنوان فهو إخبار وإرشاد عن أمر الله ونهيه، فلو خالف المكلّف لم تكن مخالفته مخالفة لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، بل مخالفته لله تعالى، فإنّ أوامر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من هذه الجهة كأوامر الفقهاء لمقلّديهم، فالإفتاء إرشاد إلى الحكم الإلهي، ومخالفة هذا الأمر مخالفة لله تعالى وليس للفقيه.

ثانيها: منصب السلطنَة والحكومة؛ فإنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) سلطان من قبل الله تعالى على هذه الأمّة ورئيسهم ومدبّر أمورهم وسائس البلاد، فأوامره من هذه الجهة كأوامر الله واجبة الإطاعة، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ ل-ِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَ-هُمُ الْ-خِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}(1) ناظر إلى تلك الأوامر والنواهي الصادرة عن الرسول وأولي الأمر بما أنّهم سلاطين وأولياء على الناس وبما أنّهم ساسة العباد.

ص: 169


1- الأحزاب: 36

وعلى هذا: فلو أمر سريّة أن تذهب إلى قطر من الأقطار، أو جعل الإمارة لشخص على الجيش، أو أمر بتجهيز الجيوش كتجهيز جيش أسامة، أو أمر بقتل المشركين واستحياء شيوخهم وصبيانهم، فإنّه تجب إطاعته؛ لكونه رئيساً على الأمّة.

ثالثها: منصب القضاء وفصل الخصومات عند تنازع الناس في حقّ أو مال، فإنّه يحكم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بموازين القضاء والعدل، فلذا ورد عنه أنّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قال: «إنّما أقضي بينكم بالبينّات والأيمان»(1)، فلذا يكون حكمه نافذاً، ولا يجوز التخلّف عنه، لا بما أنّه رئيس وسلطان، بل بما هو قاضٍ وحاكم شرعي، وقد يجعل السلطان الإمارة لشخص، فينصبه لها، والقضاء لآخر، فيجب على الناس إطاعة الأمير في إمارته لا في قضائه، وإطاعة القاضي في قضائه لا في أوامره، وقد يجعل كلا المقامين لشخص واحد.

الأمر الثاني: أنّ كلّ ما ورد عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأمير المؤمنين(علیه السلام) بلفظ «قضى»، أو «حكم»، أو «أمر»، فهو ظاهر من حيث إنّه قاضٍ وحاكمٍ شرعي، لا من حيث إنّه مبلّغ للحرام والحلال؛ لما عرفت من أنّه ليس للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأوصيائه (علیهم السلام) أمر في الأحكام الإلهية.

ويرشد إلى هذا: أنّه قلّما ترى ورود هذه التعابير من غير رسول الله وأمير المؤمنين من سائر الأئمّة؛ لأنّ الأعداء حالوا بينهم وبين مناصبهم الشرعية من

ص: 170


1- وسائل الشيعة 27: 232، ح1

السلطنة والقضاء.

وبالجملة: إنّ الألفاظ المذكورة - مع قطع النظر عن القرائن - ظاهرة في الحكم والأمر منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

ويمكن أن يقال: إنّ قوله: «أمر بكذا» ظاهر في الأمر المولوي السلطاني، كما أنّ قوله: «قضى بكذا» ظاهر في فصل الخصومة، وقوله: «حكم بكذا» مردّد بينهما يحتاج إلى قرينة معيّنة، وأمّا لفظ «قال» فدلالته على القضاء أو الأمر المولوي يحتاج إلى قرينة حال أو مقال. نعم، صيغ الأمر في حدّ نفسها ظاهرة في الأمر المولوي، وكونها إرشادية تحتاج إلى قرينة.

الأمر الثالث: نقل بعض الروايات المؤيّدة لما تقدّم والواردة بالألفاظ المتقدّمة، وبعض ما يكون بقرينة المقام دالاًّ على أنّ الأمر الصادر مولوي سلطاني أو حكم قضائي، وإن لم يرد بلفظ «قضى»، أو «أمر»، أو «حكم»، ومن هذا يتّضح: أنّ حديث نفي الضرر قد نقل برواية عبادة بن الصامت - وهو من الثقات الأجلاّء - بلفظ «وقضى: أنْ لا ضرر ولا ضرار»، وكذلك لفظة «قضى، حكم، أمر» ظاهرة في كون المقضيّ به من أحكام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما أنّه سلطان وسائس الأمّة ورئيس الملّة وأميرهم.

وأمّا ما ثبت من طرقنا كقضية سمرة بن جندب التي لم تصدّر بلفظ «قضى»، أو «أمر»، أو «حكم» فإنّ المتأمل في صدرها وذيلها وشأن صدور الحديث ممّا يكاد أن يشرف الفقيه بالقطع بأنّ «لا ضرر ولا ضرار» حكم صادر

ص: 171

من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما هو سلطان ودافع للظلم عن الرعيّة؛ فإنّ الأنصاري لمّا ظُلم ووقع في الحرج والضيق بدخول سمرة بن جندب على أهله من غير استئذان منه، شكا إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، فأرسل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) إليه فأحضره وكلّمه كما هو في الأخبار، فلمّا تأبّى حكم بالقلع ودفع الفساد، وحكم بأنّه لا يضرّ أحد أخاه في حمى سلطاني وحوزة حكومتي، فليس المقام بيان حكم الله، وأنّ الأحكام الواقعية ممّا لا ضرر فيها، وأنّه - تعالى - لم يشرّع حكماً ضررياً، فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن المقام، فليس فيهما شبهة حكمية ولا موضوعية، بل لم يكن شيء إلاّ تعدّي ظالم على مظلوم، وتخَّلف طاغٍ عن حكم السلطان بعد أمره بالاستئذان، فلمّا تخلّف حكم بقلع الشجرة، وأمر بأنّه «لا ضرر ولا ضرار»، أي: الرعيّة ممنوعون عن الضرر والضرار، دفاعاً عن المظلوم، وسياسة لحوزة السلطان وحمى حكومته.

الوجه الثاني: أنّ مورد الحديث يتناسب مع الحكم السلطاني؛ وذلك لأنّ المقام لمّا كان مقام عرض الأنصاري شكواه على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وأنّ سمرة بن جندب يدخل على أهله من غير استئذان منه، وفي حالة يكره دخوله عليه وهو فيها، فليس النزاع حينئذٍ عن الحكم الشرعي، وأنّه شبهة حكمية أو موضوعية، فإنّ سمرة كان فاسقاً عاصياً، فأيّ فائدة في تبليغ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) للحكم الإلهي مع عدم إطاعته وامتثاله؟

الوجه الثالث: أنّ تفسير حديث «لا ضرر» بالنهي المولوي السلطاني لا ترد عليه الإشكالات الواردة على التفاسير الأخرى التي ذكرها القوم.

ص: 172

الوجه الرابع: أنّ الأنسب في التعليل الوارد في ذيل رواية ابن بكير عن زرارة، حيث قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) للأنصاري: «اذهب فاقلعها، وارم بها إليه؛ فانّه لا ضرر ولا ضرار»، كون الحكم مولوياً سلطانياً صادراً منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما هو سلطان، أي: إنّ الضرر لابدّ وأن لا يكون في حمى سلطاني وحوزة حكومتي، ولمّا كان سمرة مضارّاً، ومتخلّفاً عن حكم السلطان، فاقلع نخلته وارم بها إليه، وهذا أنسب من تعليل القلع بالنهي الشرعي، أو رفع الحكم الضرري؛ لعدم التناسب حينئذٍ بين العلّة والمعلول أبداً، فإنّ تعليل حكمه بالقلع - بأنّ الشارع لم يشرّع حكماً ضررياً، أو أنّه تعالى نهى عن الضرر والضرار، مع أنّ نفس القلع ضرر، والحكم به ضرريّ - تعليل باطل، يحتاج إلى تأويل.

إن قلت: الظاهر من الذيل كونه تعليلاً لوجوب الاستئذان.

قلت: هذا بعيد جدّاً؛ لأنّ قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «اذهب فاقلعها...» ظاهر في أنّه كلام مستأنف ومستقلّ مع الأنصاري، فحينئذٍ كيف يمكن أن يكون تعليلاً للوجوب المستفاد من كلام مستقلّ مع سمرة مع هذا الفصل الطويل؟ وهل هذا إلاّ خروج عن طريق المحاورة وقانون التكلم؟(1)

إلاّ إنّه يمكن المناقشة في جميع الوجوه المذكورة:

أمّا الوجه الأوّل؛ فهو ممنوع صغرى وكبرى.

ص: 173


1- انظر: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 105 - 126

أمّا الصغرى؛ فإنّه بناءً على ما ورد في رواياتنا من كون الأنصاري في مقام الشكاية عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وطلب فصل وحلّ النزاع بينه وبين سمرة، فمن المناسب في هذا المقام هو أن يتمسّك في ذلك بالحكم الكلّي الإلهي كما هو الغالب في حلّ النزاعات والخصومات، فلذا ورد عنهم(علیهم السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه من أصحابك»(1)، فيظهر منه: أنّ الحاكم ينظر دائماً إلى المستند والحكم الكلّي، ومن ثمّ يطبّقه على الموارد التي بين يديه، هذا هو المتعارف في حلّ الخصومات والنزاعات، وأمّا بالنسبة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والإمام(علیه السلام) فالمستكشف من المقبولة هو التمسّك بالحكم الكلّي أيضاً، بل الظاهر أنّ مَن يخبر عن الله تعالى ويطبّقه على مورده كون الحكم تكليفياً إلهيّاً، وحينئذٍ لا مجال للقول بالحكم السلطاني.

هذا، مضافاً إلى أنّ المستفاد من بعض الآيات والروايات: أنّ حرمة الإضرار بالغير من جملة الأحكام التكليفية، كما ورد: أنّ حرمة ماله كحرمة دمه، ومن وجوب حفظ حرمات الناس وحقوقهم وحرمة هتكهم، فمجموع هذه الأدلّة أيضاً تدلّ على نفي الضرر والإضرار بالغير.

وأمّا الكبرى؛ فإنّه لا شكّ في ثبوت المناصب الثلاثة المذكورة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمّة (علیهم السلام)، ولكنّ دعوى أنّ كلمة «قضى، حكم، وأمر» ظاهرة في الحكم

ص: 174


1- الكافي 1: 67 - 68، ح10

السلطاني ممنوعة؛ وذلك لأنّه قد ورد التعبير بهذه الألفاظ في الروايات الكثيرة الواردة في مقام بيان الأحكام الكلّية الإلهيّة، ومن جملتها ما استشهد به المستدلّ!، وهي رواية عبادة بن الصامت الواردة من طرق العامة، فقد ورد فيها بيان كثير من الأحكام الكلّية الإلهيّة المصدّرة بلفظ «قضى»، كقضائه بالشفعة، وعدم جواز تصرّف الزوجة في مالها بدون إذن الزوج، ودية الكبرى المغلّظة والصغرى، وأنّه ليس لعرق ظالم حقّ، وأنّ للجدّتين السدس من الميراث، وأنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنّ في الركاز الخمس، وغيرها(1)، فإنّ جميع هذه الموارد هي أحكام كليّة إلهية وقعت بعد لفظ «قضى»، ومع كونها مستعملة كثيراً في بيان الأحكام الكلّية لا يبقى مجال لدعوى ظهورها في الحكم المولوي السلطاني.

هذا، مضافاً إلى أنّ مقتضى الأصل الأوّلي أنّ كلّ ما بيّنه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) هو الحمل على الإخبار والإنباء عن الحكم الكلّي المنزّل عليه؛ وذلك لأنّ منصب الرسالة والنبوّة غالب على منصبي الولاية والحكومة والقضاوة.

هذا، وقد ورد في الآية الكريمة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْ-هَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}(2).

والحاصل: أنّ كثرة استعمال لفظ «قضى، حكم، أمر» في الروايات الدالّة على بيان الأحكام الإلهية مانعة من انعقاد ظهورها في الأحكام السلطانية أو

ص: 175


1- انظر: نخبة الأزهار في أحكام الخيار: 171
2- النجم: 3 - 4

القضائية، وحديث «لا ضرر» وإن صُدّر ب- «قضى»، إلاّ إنّه لا يدلّ على الحكم السلطاني أو القضائي.

والنتيجة: أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان معاً.

وأمّا الوجه الثاني؛ فيمكن أن يقال: إنّ المورد من موارد الشبهات الحكمية؛ لدلالة قول سمرة بن جندب في معتبرة ابن بكير - بعد ذكر طلب الأنصاري من سمرة أن يستأذن إذا دخل - : «لا أفعل، هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن». هذا، مضافاً إلى أنّ المورد كما يتناسب مع كون الحكم سلطانياً صادراً من الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، كذلك يتناسب مع كونه حكماً كلّياً إلهياً.

أمّا الأوّل؛ فيصحّ من جهة أنّ سمرة كان مضارّاً ومتخلّفاً عن حكم السلطان، فكان أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقلع النخلة حكماً سياسيّاً تأديبيّاً صادراً منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بما هو سلطان، أي: إنّ الضرر والضرار لابدّ أن لا يكون في حمى سلطاني وحوزة حكومتي.

وأمّا الثاني؛ فيصحّ أيضاً من جهة أنّه بعد بيان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) للحكم الكلّي الإلهيّ، وهو «لا ضرر ولا ضرار»، وبعد إباء سمرة عن الامتناع والانزجار به، وصلت النوبة إلى الزجر والمنع العملي، فأمر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أن تقلع الشجرة وترمى في وجه سمرة؛ لأنّها هي السبب في الإضرار بالأنصاري، وعلى هذا فلا فرق في التناسب بين كون الحكم مولوياً سلطانياً وبين كونه حكماً كليّاً إلهياً، بل قد يقال: إنّ إسناد الحكم إليه تعالى في مقام الزجر والردع أولى من إسناده إلى نفسه المقدّسة (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) من حيث ولايته وحاكميته؛ لكونه أوقع في التأثير وترك

ص: 176

المنكر والانتهاء والانزجار عنه.

وعند الشكّ في كون النهي مولوياً سلطانياً أو مولوياً إلهيّاً، فمقتضى الأصل - كما تقدّم - هو الثاني.

وأمّا الوجه الثالث؛ فقد تقدّم الجواب عنه في مناقشة المسالك السابقة، فراجع.

وأمّا الوجه الرابع؛ فالظاهر أنّه لا فرق في صدق الضرر على نفس القلع بين كون النهي حكماً سلطانياً، وبين كونه حكماً إلهياً، وحينئذٍ فالأحرى بنا عطف البحث في توجيه ذلك، فنقول:

إنّ أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقلع الشجرة وعدم اعتباره ضرراً في حقّ سمرة لأجل أنّ هذا الملعون حيث إنّه لم يرتدع ولم ينزجر بالنهي، سواء كان حكماً سلطانياً، أم كلّياً إلهيّاً، بل كان مصرّاً في إيذائه وظلمه للأنصاري، فلا يبقى لماله حرمة على كلا التقديرين؛ لأنّه صار منشأ للفساد والإضرار، فحسماً لمادّة الفساد أمر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقلع الشجرة ورميها إليه. نعم، المال يتّصف بكونه محترماً ما لم يكن مادّة للفساد والإضرار بالغير.

وعلى هذا: يتّضح لزوم تقييد سلطنة الناس على أموالهم وكونها مضمونة بما إذا لم تكن موجبة للإفساد والإضرار بالغير.

والحاصل: أنّ التعليل إنّما يناسب كون «لا ضرر ولا ضرار» حكماً كلّياً إلهيّاً، لا حكماً سلطانياً؛ لأنّ الإضرار بالغير ظلم قبيح، فكيف يدّعى خلوّ

ص: 177

صفحة التشريع عن مثل هذا الحكم الفطري؟

والنتيجة هي: أنّه لا يمكن الالتزام بهذا المسلك.

تقرير المسلك السادس

وأمّا تقرير المسلك السادس - وهو ما اختاره بعض السادة الأجلاّء - من أنّ حديث «لا ضرر» يشتمل على فقرتين: الأولى وهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر»، والمستفاد منها نفي الحكم الضرري، والثانية هي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرار»، والمستفاد منها تشريعان: الأوّل الحرمة التكليفية في الإضرار بالغير، والثاني تشريع الوسائل الإجرائية حماية لهذا التحريم.

وبهذا يتّضح واقع هذا المسلك؛ حيث يجمع في محتواه وطيّاته مسالك ثلاثة.

الأوّل: مسلك الشيخ الأنصاري!، حيث فسّر قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) نفي الضرر في الفقرة الأولى بنفي الحكم الضرري.

الثاني: مسلك شيخ الشريعة!، حيث فسّر الفقرة الثانية - وهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرار» - بالحرمة التكليفية.

الثالث: مسلك بعض أعاظم العصر!، حيث فسّر الفقرة الثانية - وهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرار» - بالحكم المولوي السلطاني.

وعلى كل حال فقد ذكر - دام ظلّه - في توضيح ما اختاره وجهين: إجماليّ، وتفصيليّ.

وخلاصته: أنّ المعنى - الذي اختاره في تفسير حديث لا ضرر - مطابق

ص: 178

لمنهج التفسير النفسي للفقرتين الواردتين في الحديث.

وبيان ذلك يتوقّف على توضيح مقدّمة، وهي: أنّه إذا أريد تفسير كلامٍ ما فلابدّ من ملاحظة نكتة عامّة، سواء كان الكلام من قبيل صيغة الأمر، أو النهي، أو النفي، أو الإثبات، وهي: أنّ الكلام يتألّف من عنصرين: عنصر شكلي يتمثّل في مدلوله اللفظي، وعنصر معنوي كامن تحت المدلول اللفظي، يكون هو المحتوى للصيغة والمصحّح لاستعمالها، وهذان العنصران لا يتّحدان دائماً، وإن كان لابدّ بينهما من وجود تسانخ وعلاقة، ولذلك تكون الصيغة الواحدة ذات محتويات متعدّدة بحسب اختلاف الموارد، كاستعمال صيغة الأمر والنهي في المعاني المتعدّدة الكثيرة، فإنّ هذه المعاني ليست هي المدلول الاستعمالي للكلام، ولا هي مجرّد دواعٍ وأغراض لاستعماله، وإنّما هي محتويات الكلام وباطنه، واختلاف مفاد النفي يرتبط بالعنصر المعنوي الكامن للكلام كما هو واضح لوحدة العنصر الشكلي.

ومعرفة الضابط العام لتشخيص محتوى الكلام يتوقّف على التعرّف المسبق على العوامل المختلفة التي تؤثّر في تعيين محتواه وتحديده لكي يتمّ استخراج هذا الضابط على أساسها؛ وذلك لأنّ تفسير الكلام في حدّ نفسه عملية معقّدة لا تكفي فيها معرفة الجهات اللفظية من المفردات اللغوية والهيئات العامّة فحسب، بل يمكن أن يقال: إنّ العوامل اللفظية بالنسبة إلى سائر الجهات المؤثّرة في معنى الكلام مثل ما يظهر من الجبل الثابت في البحر بالنسبة إلى ما كان منه كامناً تحت الماء؛ لأنّ الكلام بما أنّه ظاهرة حيّة من الظواهر النفسية

ص: 179

أو الاجتماعية فإنّه يتفاعل بحسب محتواه مع جميع الملابسات التي تحيط به من محيط وشائعات وأعراف وغير ذلك.

فإذا أريد تفسير كلامٍ ما فلابدّ من ملاحظة جميع الخصوصيات التي تقترن به من الأطار الذي ألقي فيه، ومن طبيعة الموضوع الذي يتحدّث عنه، ومن الصفات النفسية للمتكلّم والمخاطب وغيرها، فربّما تختلف الكلمة الواحدة من زمان إلى زمان، أو من موضوع إلى موضوع، أو من متكلّم إلى متكلّم، أو من مخاطب إلى مخاطب.

فإذا لاحظنا الجهات المختلفة التي تحتضن الكلام، وقدّرنا نوع التفاعل المناسب معها، أمكننا تفسير الكلام في ظلّ مجموع تلك الجهات، وقد عبّرنا عن هذا المنهج في تفسير الكلام ب- «منهج التفسير النفسي».

والنتيجة هي: أنّه إذا لاحظنا هذه المقدّمة نرى أنّ الفقرة الأولى - وهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر» - حيث إنّها اسم مصدر يعبّر عن المنقصة النازلة بالمتضرّر من دون احتوائها على نسبة صدورية، وهذا المعنى بطبعه أمر مرغوب عنه لدى الإنسان، ولا يتحمّله أحدٌ عادةً إلاّ بتصوّر تسبيب شرعي إليه؛ لأنّ من طبيعة الإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه ويتجنّبه، كما أنّه ليس ذا أثرٍ حتى يكون النفي بلحاظ نفي ذلك الأثر، فلا محالة يكون مفاد النهي في مثل ذلك نفي التسبيب المتوهّم، فيكون ذلك قرينة داخليّة على التجوّز المذكور.

وأمّا الفقرة الثانية؛ فحيث إنّ الإضرار هو الإضرار المتكرّر أو المستمر كما

ص: 180

تقدّم في تفسير المفردات، وهو عمل يمارسه الإنسان بطبعه، وليس مرغوباً لأجل إرضاء القوّة الشهوية أو الغضبية، فإذا نهي عنه كما في جملة من الآيات فهو ظاهر في النهي التحريمي؛ زجراً للمكلفين عن هذا العمل، فإذا نفي عنه - كما في هذا الحديث - فإنّه يدلّ على التسبيب إلى عدم تحقّق هذا العمل، وذلك من خلال أمور ثلاثة:

الأوّل: جعل حكم تكليفي، وهو الحرمة.

الثاني: تشريع اتّخاذ وسائل مانعة عن تحقّقه خارجاً، وهذه الوسائل ثلاثة:

1- قانون النهي عن المنكر بمراتبه المتعدّدة.

2- قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس.

3- حماية الحكم القضائي مثل قلع الشجرة إذا لم يخضع أحد المتخاصمين للقانون، ولا يلاحظ أنّ ولاية اتّخاذ وسيلة إجرائية لمنع الإضرار، إنّما هي للحكم الشرعي دون عامّة المسلمين، كما هو مبنى تعليل الأمر بقلع النخلة في قضية سمرة بهذه الكبرى.

الثالث: تشريع أحكام رافعة لموضوع الإضرار، من قبيل جعل حقّ الشفعة لرفع الشركة التي هي موضوع لإضرار الشريك، أو عدم جعل إرث الزوجة في العقار لعدم الإضرار بالورثة كما في الحديث.

ثمّ إنّ هذه الأمور الثلاثة كلّها مستفادة من فقرة «لا ضرار»، وهذا هو منهج التفسير النفسي.

ص: 181

والحاصل: أنّ المستفاد من مجموع كلامه - دام بقاه - : أنّ ما اختاره يوجّه بوجوه:

الأوّل: أنّ مقتضى الملابسات والمقتضيات المتفاعلة مع السياق اللفظي في الفقرتين مطابق لمنهج التفسير النفسي.

الثاني: ما ذكره من مناقشة سائر الوجوه والمسالك.

الثالث: بناءً على هذا التفسير ينطبق التعليل الوارد في ذيل الرواية كمال الانطباق على قلع النخلة ورميها في وجه سمرة بلا حاجة إلى تكلّف في التوجيه، وهذا بخلاف سائر المعاني المذكورة في المسالك المتقدّمة فإنّها بحاجة إلى تكلّفات وتخريجات.

ويمكن الملاحظة على جميع ما ذكره:

أمّا على الوجه الأوّل؛ وهو المهمّ في كلامه، وحاصله: أنّ هذا المعنى على وفق منهج التفسير النفسي للحديث، وقد ذكر في بيانه نكتة عامّة مهمّة ينبغي الالتفات إليها والسير عليها في جميع الموارد التي يراد فيها تفسير كلام ما، سواء كانت من الهيئات أو الصيغ، من الأمر أو النهي أو غيرها، فإنّ التفسير أمر معقّد في حدّ نفسه، لا يكفي فيه معرفة معاني المفردات والهيئات فقط... الخ.

أقول: إنّ ما ذكره واصطلح عليه ب- «منهج التفسير النفسي» ليس بأمر جديدٍ خافٍ عن الأعلام من العلماء، بل هو داخل فيما ذكروه في مؤلّفاتهم من أنّ استخلاص المراد الواقعي والجدّي من كلام المتكلّم يتوقّف على ملاحظة

ص: 182

القرائن الحالية والمقالية وتفسير كلامه على ضوئها، وهذا أمر غير قابل للإنكار؛ وذلك لأنّه لا يصحّ تفسير الجمل والهيئات التي يتضمّنها كلام المتكلّم من دون ملاحظة القرائن المكتنفة بالكلام، سواء كانت قرائن متعلّقة بالمتكلّم، أو بالمخاطب، أو بالموضوع، أو بالزمان، أو بالمكان، أو غيرها من الملابسات والمقتضيات الحافّة بالكلام، وهذا أمر شائع ومتعارف به عند الأصحاب وغيرهم، ولكنّ المهمّ هو تشخيص هذه القرائن وتطبيقها على موردها، وعلى هذا لابدّ أن نرى بأنّ ما ذكره من ضابطة هل تنطبق على الحديث بفقرتيه أم لا؟

أمّا الفقرة الأولى - وهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر» - فقد ذكر في تطبيق الضابطة عليها بأنّ الضرر اسم مصدر بمعنى المنقصة النازلة بالمتضرّر، والتي لم يلحظ فيها الجهة الصدورية، وهذا المعنى بطبعه أمر مرغوب عنه لدى الإنسان، ولا يتحمّله عادة إلاّ بتصوّر تسبيب شرعي إليه، ومقتضى نفيه هو نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له.

أقول: إنّ هذا المعنى قد ذكره الشيخ الأنصاري!، وقد تقدّم منّا بيان تقريره، وذكر مناقشات الأعلام حوله، والجواب عليها، وسنتعرّض له فيما يأتي، فانتظر.

وأمّا الفقرة الثانية - وهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرار» - فقد ذكر في تطبيق الضابطة عليها: أنّ الضرار مصدر يشتمل على النسبة الصدورية من الفاعل، ومقتضى «منهج التفسير النفسي» ظهوره في التسبيب إلى عدم تحقّق هذا العمل خارجاً

ص: 183

والتصدّي له، ومقتضى ذلك أنّه يتكفّل بيان تشريعات ثلاثة:

الأوّل: تشريع الحكم التكليفي، وهو الحرمة.

الثاني: تشريع وسائل مانعة عن تحقّقه معتمداً على ثلاثة أمور.

1- قانون النهي عن المنكر بجميع مراتبه.

2- قانون تحقيق العدالة الاجتماعية.

3- حماية القانون القضائي.

الثالث: تشريع أحكام رافعة لموضوع الإضرار، كجعل حقّ الشفعة لرفع الشركة التي موضوعها الإضرار بالشريك.

فيقال: إنّ المراد بالنفي إذا كان هو النهي فاستعمل النهي في الإنشاء، فحينئذٍ لا مجال لاستفادة تشريعات ثلاثة من صيغة واحدة؛ فإنّه لا يجتمع في الإنشاء الواحد إرادة الحكم التكليفي والحكم الوضعي والحكم السلطاني، وذلك لأنّ الأوّلين منهما حكمان مولويان من قبل الله تعالى، والثالث حكم صادر من الرسول بما هو حاكم وسلطان، فكيف يمكن استفادتهما من إنشاءٍ واحد مع تغاير المنشأ؟

وإذا كان المراد به الإخبار، بمعنى: أنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أخبر عن عدم تحقيق وإيجاد هذا العمل خارجاً، كناية عن عدم رضا الشارع بإيجاد الضرر على الغير، ولازمه استفادة التشريعات الثلاثة المتقدّمة.

فيقال: لا ريب في دلالة الجملة الخبرية على الإنشاء، بل هو أبلغ وآكد في

ص: 184

الدلالة، سواء كانت بنحو النهي أو الإيجاب، كما في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْ-حَجِّ}(1).

ولكنّ الكلام في إمكان استفادة الحكمين الآخرين (الوضعي والسلطاني) معاً في عرض استفادة الحكم الأوّل من بطن هذه الهيئة بحيث يمكن التعدّي عنها لسائر الموارد، أو أنّ ذلك مختصّ بمورده، بمعنى: أنّ الحكمين الوضعي والسلطاني غير مستفادين من الهيئة، بل من نفس عمل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في المورد.

ذكر دام بقاه في وجه ذلك: أنّه إذا استعملت صيغة الإثبات أو النفي في مقام الإنشاء فحينئذٍ يكون للكلام محتويان: عامّ وخاصّ، أمّا المحتوى العام فهو الوعيد على الفعل أو الترك، فإذا كان إثباتاً فالوعيد يكون على الترك، ويكون الفعل واجباً تكليفياً، وإن كان نفياً فالوعيد يكون على الفعل، ويكون الفعل حراماً تكليفياً.

وأمّا المحتوى الخاص؛ فهو تشريع اتّخاذ الوسائل الإجرائية على اختلاف مراتبها لتحقيق مقتضى الحكم، كإعمال القدرة في المنع عن الحرام أو الإكراه على فعل الواجب فيما إذا كان المورد مقتضياً لمثل هذا التشريع، وهذا عبارة أخرى عن الحكمين الآخرين(2).

فيرد عليه:

ص: 185


1- البقرة: 197
2- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 138 - 140

أوّلاً: أنّ القدر المتيقّن من الصيغة - سواء كانت مثبتة أو منفية - أنّها تدلّ في مقام الإنشاء على التسبيب إلى الفعل أو إلى الترك بالطريق المتعارف شرعاً وعقلائياً، بأن تجعل القوانين إمّا بنحو الوجوب، وإمّا بنحو الحرمة، غاية ما في الأمر أنّ جعل القانون قد يكون بصيغة الأمر أو النهي، وقد يكون بالإخبار عن الوجود بالعدم، وهو أبلغ وآكد في الدلالة؛ لأنّه يفرض الموجود الخارجي بمنزلة العدم، وأمّا أن يكون هناك جعلٌ آخر - وهو تشريع اتّخاذ وسائل إجرائية لحماية الحكم - فهو خارج عن الطريقة المتعارفة والمألوفة عند العقلاء، بل لا دليل على ذلك. نعم، يمكن للمشرّع أن يجعل قانوناً بديلاً عن قانون آخر كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنحو العامّ أو الخاص، أو غير ذلك.

وثانياً: بناء على ما ذكره من استفادة الحكمين - الوضعي والسلطاني - من الصيغة، ينبغي استفادتهما أيضاً في سائر الجمل الواردة بصيغة الإثبات أو النفي، مع أنّه لم يقل بذلك أحد حتى القائل بذلك، وتعليق ذلك بما إذا كان مقتضياً لمثل هذا التشريع - كما ذكره في كلامه - تعليقٌ على أمر مبهم لا ضابط له أساساً.

وثالثاً: لو سلّمنا ما ذكره في الحكم الوضعي كجعل حقّ الشفعة لرفع الشركة التي هي موضوع لإضرار الشريك، وعلى فرض كون المحتوى الخاص لحديث «لا ضرر» تشريع قانون لاتّخاذ وسائل مانعة عن تحقّقه خارجاً، فحينئذٍ يقال: إنّ رفع الموضوع يتحقّق أيضاً بالحكم ببطلان بيع الشريك، ولا ينحصر

ص: 186

في جعل حقّ الشفعة.

ونتيجة جميع ما تقدّم هو عدم تمامية ما ذكره في الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني؛ وهو أنّ جميع المسالك السابقة مناقش فيها، فقد تقدّم الكلام في ذلك، كما أنّه سنتعرّض لها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا الوجه الثالث؛ فإنّ التعليل الوارد - بعد أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقلع الشجرة ورميها في وجه سمرة - كما يتناسب مع المسلك السادس، كذلك يتناسب مع المسلك الرابع والخامس، فحمل النفي على النهي وإرادة التحريم - سواء كان حكماً كلّياً إرشادياً أو مولوياً سلطانياً - يدلّ على أنّ العمل حرام، وحيث إنّه حرام فلا تبقى حرمة لماله، فحينئذٍ يجوز بيعه، إمّا من ناحية أدلّة النهي عن المنكر، وإمّا من ناحية أدلّة التعزير، وعليه تكون دلالة «لا ضرار» على الحرمة جزء العلّة، ومن ضم أدلّة النهي يجوز قلع الشجرة والإضرار به، ولا محذور في ذلك، ولا يوجب كون «لا ضرار» متضمّناً لحكمين.

والحاصل: أنّ هذا المسلك أيضاً لا يمكن المساعدة عليه.

هذه هي أهمّ المسالك المذكورة في تفسير معنى الحديث وتقريراتها، وما يرد عليها، وما يمكن الإجابة عنه، قد بيّناها بنحو الاستيعاب الخالي من التطويل المملّ، والإيجاز المخلّ.

والتحقيق أن يقال: إنّ حديث «لا ضرر» قد ورد في موارد متعدّدة، تارة بنحو التعليل كما في قضية سمرة وحديث الشفعة وحديث منع فضل الماء

ص: 187

والكلاء، وأخرى بنحو مستقلّ، وعلى هذا فلابدّ أن يكون له معنى ينطبق على جميع هذه الموارد بحيث تلغى فيها خصوصيات المورد، ويكون المعنى بمنزلة الكبرى الكلّية.

والذي يبدو في النظر: أنّ الأظهر في تفسير الحديث هو أن يقال: إنّ معنى الفقرة الأولى منه - وهي «لا ضرر» - نفي الفعل الموجب للضرر، سواء كان على النفس أو على الغير، والمقصود منه هو نفي الحكم الموجب للضرر شرعاً، سواء كان حكماً إلزامياً أو غير إلزاميّ، تكليّفياً كان أو وضعياً.

كما أنّ معنى الفقرة الثانية - وهي «لا ضرار» - نفي الفعل الموجب للإضرار الخاص بالغير.

ففي المقام لنا دعويان:

الأولى: أنّ مقتضى ظهور الحديث - بكلتا فقرتيه - هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

الثانية: عدم المانع من الأخذ بهذا المعنى، وما قيل بكونه مانعاً يمكن الجواب عنه.

أمّا بيان الدعوى الأولى؛ فيقال: إنّ هذا المعنى هو مقتضى التحفّظ على عدّة ظواهر موجودة في الحديث، وهي:

1- إنّ ظهور كلمة «لا» في الإخبار عن عدم وقوع المنفي في الخارج بحسب المدلول الاستعمالي.

ص: 188

2- ظهورها في أنّ المراد التفهيمي والجدّي هو وقوع المنفي في عالم التشريع من جهة كلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) وإخباره بما هو مشرّع ومقنّن.

3- الظاهر أنّ معنى «لا» النافية للجنس في فقرتي الحديث واحد.

4- الظاهر من كلمة «الضرر» أنّه اسم مصدر بمعنى مطلق المنقصة، سواء كانت نازلة على نفسه أو على غيره، وأمّا «الضرار» فهو مصدر لوحظ فيه جهة صدوره من فاعل، فهو ظاهر في الضرر على الغير، إمّا مع الإصرار والتأكيد، وإمّا مع التعمّد. وعلى هذا: يكون الضرار معنى خاصّاً قد ذكر بعد العام.

5- إنّ الظاهر من الضرار والضرر هو الفعل المصدري، فحيث إنّ الضرار هو الفعل الموجب للضرر على الغير فكذلك الضرر هو مطلق الفعل الموجب للضرر، سواء كان على نفسه أو على غيره.

6- الظاهر عدم وجود حذف في الحديث، ككلمة غير المتدارك، أو غير جائز، أو ارتكاب عناية كاستعمال المسبّب وإرادة السبب.

وعلى ضوء تفسير الحديث طبقاً لهذه الظهورات يستفاد منه عدّة أمور:

الأوّل: أنّ المراد من الفقرة الأولى من الحديث نفي الفعل الموجب للضرر في عالم التشريع مطلقاً، سواء كان على النفس أو على الغير، وأنّ المراد من الفقرة الثانية نفي الفعل الموجب للإضرار الخاص بالغير.

وهذا المعنى مطابق لما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني! من أنّ نتيجتهما هو نفي الفعل الضرري فيما لو كان حكم الفعل من الأحكام الأوّليّة،

ص: 189

بلا فرق بين كونه تكليفياً إلزامياً كوجوب الوضوء والصوم، وبين كونه ترخيصياً كجواز دخول سمرة إلى عذقه، وبين كونه وضعياً كجواز البيع بالنسبة للمال المشترك، كما يستفاد منه حرمة الإضرار بالغير.

وبهذا يتّضح: أنّ القول بهذا المعنى - من جهة التحفّظ بهذه الظهورات المتعدّدة وعدم رفع اليد عنها إلاّ بقرينة على خلافها - موافق ل- «منهج التفسير النفسي».

الثاني: أنّ هذا التفسير ينطبق على المواضيع والموارد المختلفة من الأحكام الإلزاميّة الأوّلية والترخيصية أو الوضعية.

الثالث: أنّ سنخ هذا التركيب يتعلّق دائماً بالموضوع دون غيره، فقد ورد نظيره كثيراً في أقوال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) والأئمّة (علیهم السلام)، كقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ربا بين الوالد والولد»، «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»، «لا صيام لمن لا يبيّت الصيام بالليل»، «لا سهو للإمام مع حفظ المأموم»، «لا سهو على مَن أقرّ على نفسه بالسهو»، «لا طلاق إلاّ بعد نكاح، ولا عتق إلاّ بعد ملك»، بل يمكن القول بذلك في جميع الموارد حتى في قوله تعالى: {لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْ-حَجِّ}(1)، بمعنى عدم كون الرفث والفسوق والجدال من أفعال الحجّ، فحينئذٍ تكون موجبة للفساد والحرمة، كما أنّ هذا

ص: 190


1- البقرة: 197

التركيب لم يرد بمعنى نفي الحكم أو النهي مباشرة، أو غير المتدارك.

والحاصل: أنّه بهذا الوجه تتمّ الدعوى الأولى من كون المراد من الحديث بكلتا فقرتيه نفي الفعل وإرادة نفي الحكم.

وأمّا بيان الدعوى الثانية؛ فعمدة ما قيل في خلاف ذلك بحيث يكون مانعاً عنه إشكالات ثلاثة:

الإشكال الأوّل: ما ذكره السيد الأستاذ!، من أنّ الضرر بنفسه ليس موضوعاً لحكم من الأحكام كالربا أو الصلاة والصيام حتى يكون رفعه بمعنى رفع حكمه، بل إذا كان موضوعاً فلا يمكن رفع حكمه؛ لأنّه مقتضيه ولازمه، وبناءً على هذا المعنى يكون الموضوع هو حال الضرر وظرفه وزمانه، وعليه يكون معنى الحديث: لا يحكم بالوضوء في ظرف الضرر، وهذا ليس نفياً لوجوب الوضوء بلسان نفي موضوعه، بل نفي له بلسان نفي ظرف موضوعه، ومثل هذا خارج عن قواعد المحاورات العرفية، فلا يصحّ في مقام نفي حكم الصوم في حال السفر أن يقال: «لا سفر»، بل يقال: «لا صوم في السفر»(1).

ويمكن الجواب عنه:

أوّلاً: أنّ قياس الضرر بالظرف قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ الضرر مسبّب ونتيجة الفعل، والظرف حصّة خاصّة من الزمان.

ص: 191


1- انظر: الهداية في الأصول 3: 545

وثانياً: أنّه إذا أريد من ذلك الموضوع الخاص في ظرف معيّن كالصوم في حال السفر مثلاً، فيصحّ أن يقال: «لا صوم في السفر»، وإذا أريد من ذلك نفي جميع موضوعات الأحكام الأوّلية في ظرف خاص فيصحّ - طبقاً لمقتضى الضوابط والقواعد في الاستعمالات العرفية - نفي تلك الحصّة حتى تكون ناظرة إلى جميع تلك الموضوعات المقيّدة بذلك الظرف وحاكمة عليها.

وبذلك يظهر: أنّ ما ذكره أوّلاً بقوله: «إنّه ليس للضرر بنفسه حكم»، ليس في محلّه؛ إذ لو لا الحديث الحاكم والمقيّد لإطلاقات الأدلّة الأوّلية لكان مقتضاه إطلاق المتعلّق كالوضوء والصوم وغيرهما من الموضوعات الواجبة حتى لظرف الضرر، وكذلك الأمر بالنسبة للأحكام الترخيصية والوضعية.

ومنه يتّضح: أنّ حديث «لا ضرر» رافع للحكم المتوهّم من إطلاقات أدلّة الأحكام الأوّلية لحال الضرر.

الإشكال الثاني: عدم انطباق ضابط نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على حديث «لا ضرر»؛ لأنّ ضابطه هو نفي الحكم الثابت للطبيعة، إمّا عن نفسها كما في «لا رهبانية في الإسلام»؛ فإنّ الرهبانية كانت موضوعاً للحكم في الشرائع السابقة، وهذا الحكم قد نفي بلسان نفي موضوعه، أي الرهبانية، وهذا ما يعبّر عنه بالنفي البسيط، وإمّا عن بعض أنواعها وأصنافها كما في «لا ربا بين الوالد والولد»، أو «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»؛ فإنّ الربا والصلاة لهما حكم في الشريعة، فنفي الحكم عن بعض أنواعهما وأصنافهما، وهذا ما يعبّر عنه بالنفي المركّب، ولا يشمل الضابط المذكور حكماً ثبت لموضوعٍ

ص: 192

طرأ عليه عنوان الضرر اتّفاقاً كما في مورد بحثنا؛ فإنّ الضرر غير متعلّقٍ للحكم حتى يكون نفي الضرر من القسم الأوّل، كما أنّه ليس من القسم الثاني؛ ضرورة أنّ الأحكام فيه ثبتت لعناوين خاصّة كالوضوء والصوم، وإن كان أفرادهما وأصنافهما ضررياً، إلاّ إنّ الضرر مسبّب عن هذه العناوين ومترتّب عليها، وعليه فلا يكون مقامنا من صغريات قاعدة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

والحاصل: أنّ مقامنا لا يمكن الالتزام فيه بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع؛ لعدم تعلّق النفي بالحكم، وما يمكن الالتزام فيه بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع ليس متعلّقاً للحكم، ولذلك عدل بعض الأساطين عن هذا المسلك(1).

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المقصود من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع هو القسم الثاني، أي: نفي الحكم الثابت بطبعه للموضوع عن بعض أنواعه وأصنافه، وهو ما يعبّر عنه بالنفي التركيبي، فالقول بأنّ الضرر مترتّب على الفعل ولا يصدق عليه الضرر في غير محلّه؛ لأنّ إطلاق المسبّب على السبب كثير في الاستعمالات والمحاورات العرفيّة، خصوصاً في الأسباب التامّة، فيقال للضرب بالسيف: إنّه قتل، وللوضوء: إنّه نور وطهارة، وللصلاة: إنّها قربان كلّ تقيّ، أو معراج المؤمن، والمصحّح له في كلّ ذلك هو علاقة السببية والمسبّبية،

ص: 193


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 612

أو المبالغة في حتمية وجود المسبّب عند وجود السبب، فيصدق حينئذٍ على الفعل الموجب للضرر أنّه ضرر، أو الموجب للعسر، أو الحرج أنّه عسر وحرج، وأمثال ذلك.

الإشكال الثالث: ما عن المحقّق الأصفهاني!، وهو: أنّ النفي ادّعاءً كالإثبات ادّعاءً لا يصحّ إلاّ بلحاظ عدم ترتّب الأثر المترقّب من الشيء، فيصحّ نفيه ادّعاءً؛ لكونه بمنزلة العدم، لعدم ترتّب الأثر عليه، كما أنّه لا يصحّ الإثبات ادّعاءً إلاّ بلحاظ ترتّب أثر الحقيقة على شيء آخر.

ومن الواضح: أنّ المصالح والمفاسد هي الآثار المترقّبة من حقائق الواجبات والمحرّمات، فالصلاة التي لا تترتّب عليها المصلحة المترقّبة منها ليست بصلاة ادّعاءً، وهكذا، وأمّا الحكم التكليفي فليس من آثار حقيقة الفعل في الخارج حتى يصحّ نفي الموضوع بلحاظ عدم ترتّب الحكم عليه، إلاّ مثل اللزوم والصحّة من الأحكام الوضعية، فإنّها تعدّ أثراً للمعاملة، فيصحّ نفيها بنفيها.

فمع عدم ترتّب الملكية على المعاطاة شرعاً يصحّ نفي البيع حقيقة؛ إذ ليس حقيقة البيع إلاّ التمليك المتّحد مع الملكية ذاتاً، واختلافهما اعتباراً.

مضافاً إلى أنّ الفعل الخارجي ليس موضوعاً للحكم التكليفي حتى يصحّ نفيه ادّعاءً بعنوان نفي الحكم بنفي موضوعه، وبلحاظ وجوده العنواني يصحّ نفيه حقيقة لا ادّعاءً(1).

ص: 194


1- نهاية الدراية 4: 440

ويمكن الجواب عنه:

أمّا عن الأوّل - وهو قوله: «إنّ المصالح والمفاسد...الخ» - فنقضاً وحلاًّ.

أمّا النقض؛ فبما ورد من قوله(علیه السلام): «لا ربا بين الوالد والولد»، وقوله(علیه السلام): «لا سهو لكثير السهو»، ونظائر ذلك والتي يراد منها نفي الحكم واقعاً وليس نفي المصالح والمفاسد.

وأمّا الحلّ؛ فبالقول: إنّ المصالح والمفاسد كما هي من آثار الموضوع كذلك الأحكام التكليفية هي من آثار الموضوع؛ لوجود التلازم بينهما، وحيث إنّ القائل بأنّ نفي الموضوع لنفي الأثر هو النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) أو الإمام(علیه السلام) فيكون الأثر المنفي هو ما يترتّب عليه الأثر الشرعي في عالم التشريع، فهو كما يصدق على المصالح والمفاسد يصدق أيضاً على الأحكام التكليفية، فيمكن حينئذٍ أن يراد من نفي الموضوع نفي المصالح والمفاسد، كما يمكن أن يراد نفي الأحكام التكليفية أيضاً؛ لصدق كونهما من آثار الموضوع.

وأمّا عن الثاني - وهو قوله: «مضافاً إلى أنّ الفعل الخارجي...» - فيقال: إنّ موضوع الحكم التكليفي وإن كان هو الفعل بلحاظ وجوده العنواني، ولكن ليس بما هو عنوان، بل بما هو مرآة عن الخارج، فمن هذه الجهة يمكن أن يراد من نفي الموضوع نفي الحكم المترتّب عليه.

والمتحصّل: أنّه قد تبيّن تمامية المقتضي - وهي الظهورات المتقدّمة - لهذا المسلك في تفسير الحديث بهذا المعنى، كما أنّ المانع منه - وهو الدليل على خلاف هذه الظواهر - مفقود في البين، وعلى هذا يكون هذا المسلك في تفسير

ص: 195

الحديث هو الأقوى، بل الأظهر من بين سائر المسالك الأخرى، كما اتّضح أيضاً بأنّ ما اخترناه من المسلك مطابق لما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني!، إلاّ إنّ بينهما بعض الفوارق:

منها: أنّ المحقّق الآخوند(رحمه الله) قد ذكر بأنّ الفقرة الثانية - وهي «لا ضرار» - سيقت لتأكيد الفقرة الأولى، فهما بمعنى واحد(1)، إلاّ إنّ ذلك خلاف الظاهر، فلا داعي لارتكابه، ولذا فسّرنا ذلك بأنّه من باب عطف العام على الخاص، ووجه تخصيصه بالذكر لأهمّيته.

ومنها: أنّ الحديث - على ما بيّناه - يشمل الحكم التكليفي والوضعي، وبالملازمة يستفاد حكم تكليفي كلّي، وهو حرمة الإضرار بالنفس وبالغير، وهذا ممّا لم يتعرّض له المحقّق الآخوند(رحمه الله) في كلامه.

ثمّ إنّ هنا إشكالين:

أحدهما: أورد على تفسير الحديث بنفي الحكم ابتداءً، أو بلسان نفي الموضوع.

وثانيهما: على جعل هذا المعنى كبرى كلّية.

أمّا الأوّل؛ فإنّ أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) في قضية سمرة بقلع النخلة ورميها لصاحبها لا يكاد ينطبق عليه حديث نفي الضرر؛ وذلك لأنّه ورد في غير واحد من الروايات أنّ لسمرة الحقّ في الدخول إلى نخلته وعذقه، ولكن حيث إنّ دخوله على الأنصاري بغير استئذان موجب لضرره، فحديث نفي الضرر يدلّ على

ص: 196


1- انظر: كفاية الأصول 3: 160

جواز منع دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان؛ لأنّ الضرر في هذه القضية لم يكن إلاّ من دخوله بلا استئذان، فيسقط حقّه في ذلك، وأمّا حقّه في بقاء نخلته وعذقه في البستان فليس بضررٍ على الأنصاري أصلاً حتى يقال بسقوطه، بل إنّ قلع النخلة والعذق ضرر وإضرار بصاحبها؛ لعدم قابليته حينئذٍ للإثمار، فكيف يعلّل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قلع النخلة ورميها لصاحبها بهذا الحديث؟ فمن هذه الجهة لا يتناسب هذا التعليل مع تفسير الحديث بنفي الحكم بلسان نفي موضوعه، أو بنفي الحكم مباشرة، ممّا يكشف عن إجمال الحديث وعدم ظهوره في التفسيرين المذكورين، وسقوطه عن صلاحية الاستدلال به كقاعدة كلّية(1).

وقد أجيب عنه بوجوه:

الأوّل: بما ذكره الشيخ الأنصاري!: من أنّ عدم انطباق التعليل على المورد لا يخلّ بالاستدلال(2)؛ فإنّ اجمال المورد وعدم فهم التطبيق لا يسري إلى ظهور العلّة والأخذ بها وتطبيقها على الموارد المعلومة.

الثاني: بما ذكره المحقّق النائيني!:

أوّلاً: أنّ المستفاد من الحديث حكمان:

أحدهما: منع دخول سمرة على عذقه من دون استئذان.

ثانيهما: قلع النخلة ورميها إلى صاحبها، وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر» علّة لوجوب

ص: 197


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 616
2- انظر: رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية - تراث الشيخ الأعظم) 23: 111

الاستئذان، وليس علّة لقلع النخلة ورميها لصاحبها؛ لأنّ سمرة بإصراره على الإضرار بالأنصاري قد أسقط احترام ماله، فأمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقطع مادّة الفساد من باب ولايته العامّة على الأموال والأنفس.

أقول: إنّ هذا الوجه قد ارتضاه سيدنا الأستاذ!.

وثانياً: يمكن أن يقال: إنّ حديث نفي الضرر يصلح أن يكون تعليلاً لكلا الحكمين.

أمّا الأوّل - وهو دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان - فلا إشكال في كونه ضرراً على الأنصاري ومرفوعاً بحديث نفي الضرر بمنعه عن الدخول بلا استئذان.

وأمّا الثاني - وهو بقاء عذقه في بستان الأنصاري - فهو مرفوع أيضاً؛ لكونه علّة لجواز دخوله بلا استئذان، فحديث نفي الضرر كما يرفع جواز الدخول بلا استئذان كذلك يرفع علّته، وهو ثبوت الحقّ لسمرة في إبقاء عذقه في البستان، وهذا كما لو كان على المكلف غسل ولم يكن الغسل بنفسه موجباً للضرر عليه، ولكن كانت مقدّمته كالمشي إلى الحمّام مثلاً ضررياً، فلا إشكال في رفع وجوب ذي المقدّمة وهو الغسل، كرفع وجوب المقدّمة وهي المشي إلى الحمّام، فلا مانع حينئذٍ من سقوط حقّ سمرة استناداً إلى نفي الضرر؛ لكون معلوله ضررياً، وهو الدخول بلا استئذان(1).

ص: 198


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 397 - 399

إلاّ إنّ هذه الأجوبة الثلاثة أصبحت مثاراً للإشكال بين الأعلام:

أمّا الجواب الأوّل للشيخ الأنصاري!؛ فبعدما استغرب منه المحقّق النائيني(رحمه الله) أشكل عليه بقوله: إنّ ذلك يرجع إلى أنّ خروج المورد لا يضرّ بالعموم، فيتمسّك به في سائر الموارد، مع أنّك خبير بأنّ عدم دخول المورد في عموم العلّة يكشف عن عدم إرادة ما تكون العلّة ظاهرة فيه، وهذا مرجعه إلى الاعتراف بإجمال الدليل، فكيف لا يخلّ بالاستدلال؟(1)

وقد أوضح بعض السادة الأجلاّء ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) في جواب الشيخ الأنصاري(رحمه الله) بقوله: إنّ معنى الكلام إنّما يستقرّ ويتحدّد في ظلّ تفاعله الدلالي مع جميع ما يتّصل به من ملابساته وشؤونه، فلابدّ في تعيين معنى كتفسير للكلام من ملاحظة مجموع هذه العوامل، ومن المعلوم أنّ التعليل والحكم المعلّل به - أو الكبرى والتطبيق - ليسا معنيين مستقلّين في الكلام حتى ينفصل مصيرهما الدلالي، ويقتصر إجمال أحدهما على نفسه من دون أن يتجاوز إلى الآخر، فلا يتمّ لأحدهما معنى أو تحديد إذا لم يكن ذلك منسجماً مع الثاني، ولذا يكون عموم العلّة وخصوصها موجباً لعموم الحكم وخصوصه، وعلى هذا فإذا كان الحكم المعلّل به لا ينسجم مع تفسير التعليل على وجه، فإنّه ينتهي إلى عدم ظهور التعليل في ذلك المعنى، وإن كان ظاهراً فيه في

ص: 199


1- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 399 - 400

نفسه لولا تطبيقه في المورد(1).

ولكن مع ذلك التزم السيد الأستاذ! بما ذكره الشيخ الأنصاري! كبروياً، إلاّ إنّه ناقش في الصغرى، فقال!: بأنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ إنّ المقام ليس كذلك، أي: مجهول الانطباق على المورد، بل معلوم الانطباق عليه؛ فإنّ ما يستفاد من الرواية الواردة في قصّة سمرة أمران: أحدهما عدم جواز دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان. ثانيهما حكمه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقلع العذق. والإشكال المذكور مبنيّ على أن يكون الحكم الثاني بخصوصه أو منضمّاً إلى الأوّل مستنداً إلى نفي الضرر، وأمّا إن كان المستند إليه خصوص الحكم الأوّل، وكان الحكم الثاني الناشئ من ولايته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) على أموال الأمّة وأنفسهم، دفعاً لمادّة الفساد، أو تأديباً له لقيامه معه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) مقام العناد واللجاج... فتلخّص: أنّ حكمه لم يكن مستنداً إلى قاعدة نفي الضرر، فالإشكال مندفع من أصله(2).

وأمّا الإشكال على كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) بكلا وجهيه؛ فقد أشكل على الأوّل منه سيد المنتقى!: من أنّ توجيه التعليل وانطباقه على دخول سمرة بلا استئذان إنّما يتأتّى في رواية عبد الله بن مسكان، حيث ورد فيها بيان «لا ضرر» بعد الأمر بقلع الشجرة، فيمكن القول: إنّ الأمر بالقلع حكم مستقلّ لا من باب نفي الضرر، إلاّ إنّ هذه الرواية ضعيفة السند، فلا يعتمد عليها. وأمّا الرواية

ص: 200


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 206
2- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 617 - 618

المعتمدة - وهي رواية ابن بكير - فقد ورد فيها الأمر بالقلع، ثمّ علّله بنفي الضرر بقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «فإنّه لا ضرر ولا ضرار»، وظاهر الرواية أنّه لقلع الشجرة، وليس علّة لتحريم دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان، بل ليس لهذا التحريم عين ولا أثر حتى يقال: إنّ التعليل راجع إليه(1).

كما أشكل السيد الأستاذ! على الوجه الثاني ممّا ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) بقوله: إنّ كون المعلول ضررياً لا يوجب إلاّ ارتفاع نفسه، فإنّ رفع علّته بلا موجب، فإذا كانت إطاعة الزوج في عمل من الأعمال ضرراً على الزوجة لا يرتفع به إلاّ وجوب الإطاعة في ذلك العمل، وأمّا الزوجية التي هي السبب في وجوب الإطاعة فلا مقتضي لارتفاعها، وكذا إذا اضطرّ أحد إلى شرب النجس، فالمرتفع بالاضطرار إنّما هو الحرمة دون نجاسته التي هي علّة الحرمة. وقياس المقام بكون المقدّمة ضررية موجبة لارتفاع وجوب ذي المقدّمة قياس مع الفارق؛ لأنّ كون المقدّمة ضررية يستلزم كون ذي المقدّمة أيضاً ضررياً... فإنّ المشي إلى الحمّام لو كان ضررياً كان الغسل بنفسه ضررياً مع فرض توقّفه على المشي إلى الحمّام، فكيف يقاس المقام به(2).

ويمكن الملاحظة على جميع ما ذكر من الإشكالات:

أمّا الإشكال الأوّل المذكور على جواب الشيخ الأنصاري(رحمه الله)؛ فيلاحظ عليه:

ص: 201


1- انظر: منتقى الأصول 5: 423
2- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 617

الظاهر أنّ المتّبع هو ظهور العلّة، وهذا لا يتوقّف على وضوح كيفية تطبيقه على مورده وعدمه، فإنّ التعليل المذكور في الكلام لا يخلو أمره من صور ثلاث:

الأولى: أن يكون تطبيقه على مورده واضحاً من دون لبس وغموض كما هو الغالب.

الثانية: أن لا يكون تطبيقه على مورده واضحاً بسبب الإجمال فيه.

الثالثة: أن يكون عدم تطبيقه على مورده واضحاً ومعلوماً، وهذه الصورة موجبة لخروج المورد عن التعليل، وهو مستهجن ولا يصدر من المولى الحكيم.

أمّا الصورة الأولى والثانية؛ فلا إشكال فيهما عند الأعلام، والقول بشمول الحكم للمورد وعدم خروجه عنه، وهو لا يتوقّف على فهم كيفية تطبيق الحكم على مورده بدعوى عدم معلومية ووضوح التطبيق، كما لا يكون المورد قرينة على تفسير التعليل.

والوجه في ذلك هو: أنّ التعليل بمنزلة الكبرى العقلية أو الشرعية للحكم، فهو نظير حدّ الوسط في البرهان، فإذا قيل: العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث، فلا يتوقّف ظهور الكبرى على كيفية تطبيقه على: العالم متغيّر؛ فإنّ الحجّة معلوم تصديقي يتوصّل من خلالها إلى مجهول تصديقي، فلابدّ أن يكون في نفسه - مع قطع النظر عن الصغرى - معلوماً وواضحاً.

نعم، إذا كان التعليل بأمر غير واضح وغير مركوز في الأذهان فيتوقّف

ص: 202

تفسيره ومعناه التفهيمي على التتبّع والفحص عن القرائن، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ فهم كيفية التطبيق بل فهم نفس مورده لهما دخالة في تفسير التعليل، ولكن ظاهر كلام المستشكل عدم إرادة هذه الصورة.

فالظاهر: أنّ جواب الشيخ تامّ، وعليه فلا وجه للاستغراب، خصوصاً قد ورد نظير ذلك في الشرع كما في قضية: الفقّاع حرام، المعلّل بالكبرى الكلّية الواردة في رواية الوشّاء في قوله(علیه السلام): «كلّ مسكر حرام»(1)، فإنّ هذا التطبيق غير واضح لدى العرف، ومع ذلك يحكم بكلّية التعليل؛ لأنّ الشارع قد طبّقها على الصغرى.

والحاصل: أنّ دعوى توقّف ظهور التعليل على فهم المورد وكيفية تطبيقه عليه ممّا لا يمكن المساعدة عليها.

وأمّا على الثاني، فيلاحظ عليه: أنّ ما ذكر إنّما يتمّ بناءً على عدم اعتبار رواية عبد الله بن مسكان، فيكون حينئذٍ قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» ظاهراً في كونه تعليلاً لأمره بقلع النخلة، وأمّا بناءً على اعتبار رواية ابن مسكان - كما هو مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي يرى اعتبار جميع روايات الكافي - فلا يعلم حينئذٍ بوقوع التعليل لأجل الأمر بالقلع، بل مقتضى رواية ابن مسكان كون التعليل راجعاً إلى نهي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) عن دخول سمرة بلا استئذان، فلا يرد عليه ما ذكره!، ولكن مع ذلك أيضاً لا يمكن الالتزام بدعوى المحقّق

ص: 203


1- وسائل الشيعة 25: 360، ح3

النائيني(رحمه الله) بأنّ أمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) بقلع الشجرة حكم سلطاني ولائي؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّه يلزم من ذلك أن لا يكون للشارع حكم مجعول في الشريعة في هذا المورد.

الثاني: أنّ ظاهر قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» هو الاستدلال بالقاعدة الكلّية المجعولة عند الشارع كما هو في سائر أقضيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، ومع احتمال وفرض كونه تعليلاً لحكمه بالقلع يضعف كونه حكماً ولائياً.

وأمّا على الثالث، فيلاحظ عليه: أنّ ما ذكره! - من أنّ المعلول إذا كان ضررياً فلا يوجب ذلك إلاّ ارتفاع نفسه كإطاعة الزوجة مثلاً دون علّته وهي الزوجية - إنّما يصحّ فيما إذا أمكن رفع المعلول بدون رفع علّته، كما في مثال إطاعة الزوجة الموجب للضرر، وأمّا إذا لم يمكن رفع المعلول إلاّ برفع علّته، فحينئذٍ لا مناص من رفع العلّة الموجبة للضرر بأن يقال - كما في المثال المتقدّم - : إنّه لا يتحقّق خارجاً ترك إطاعة الزوج مع بقاء الزوجية، فمقتضى القاعدة حينئذٍ شمولها للعلّة أيضاً، بحيث ترفع الزوجية الموجبة للضرر، والمقام من قبيل الثاني؛ حيث إنّ رفع حقّ دخول سمرة على شجرته المعلول لبقاء الشجرة في بستان الأنصاري لم يتحقّق لوحده فقط، لأنّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) نهى سمرة عن الدخول بلا استئذان، فأبى ذلك، فساومه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) على نخلته، فامتنع أيضاً كما ورد ذلك في غير واحد من الروايات، فحينئذٍ بما أنّ المعلول لم يتحقّق رفعه إلاّ برفع علّته انحصر حسم مادّة الفساد بقلع الشجرة ورميها لصاحبها، وبهذا يكون تطبيق القاعدة على موردها تامّاً وواضحاّ بلا حاجة

ص: 204

للقول بالحكم الولائي.

نعم، تطبيق القاعدة على هذا المورد كان بيد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ).

ومن هنا يظهر: أنّ تطبيق القاعدة على كلا الموردين تامّ، وإن أبيت إلاّ القول بالإجمال في التطبيق فيمكن القول حينئذٍ بمقالة الشيخ الأنصاري! من أنّ عدم العلم بكيفية التطبيق غير قادحٍ في الأخذ بظاهر التعليل.

وأمّا الإشكال الثاني - وهو جعل هذا المعنى كبرى كلّية - فهو: أنّ مدلول حديث لا ضرر بناءً على عموم نفي الحكم الضرري أو الموضوع الضرري يشمل نفي كلّ حكم ضرري أو موضوع ضرري، سواء كان حكماً تكليفياً أو وضعياً، وعلى هذا فلابدّ من تخصيصه؛ لما ثبت من وجود أحكام ضررية كثيرة في الشريعة، إلاّ إنّ هذا التخصيص يلزم منه محذور تخصيص الأكثر، وقد ذكر بتقريبين:

التقريب الأوّل: ما ذكره الشيخ الأنصاري! من أنّه قد ثبت في الشريعة وجود أحكام ضررية أكثر ممّا هو منفي بقاعدة لا ضرر، كما هو ثابت في الضمانات والكفّارات والديّات والأروش والقصاص والحدود والجهاد والزكاة والخمس والحجّ ووجوب شراء الماء للوضوء، والتجنّب عن ملاقي النجس، وإن كان كثيراً كما في الدهن والمرق، وغير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبّع للأحكام الشرعية، فيلزم من ذلك إمّا محذور تخصيص الأكثر المستهجن، وإمّا أن لا يراد من الحديث أحد المعنيين - أي: نفي الحكم الضرري أو الموضوع الضرري - حتى لا يلزم ذلك، بل يكون معناه مجملاً،

ص: 205

وهذا موجب للوهن وضعف دلالة الحديث، ممّا يعني الاقتصار في العمل به على المقدار الذي عمل به المشهور بناءً على كونه جابراً لضعف الدلالة والسند، والمقدار الزائد على ذلك لا يمكن التمسّك به لإجماله(1).

وأجاب عنه الشيخ الأنصاري! بمنع الصغرى والكبرى:

أمّا منع الصغرى؛ فلعدم صدق تخصيص الأكثر المستهجن على هذه الموارد المذكورة. نعم، يصدق عليها تخصيص الكثير، وهو غير مستهجنٍ؛ لكون الباقي تحت العام بعد التخصيص أكثر من الموارد الخارجة.

وأمّا منع الكبرى؛ فلأنّ تخصيص الأكثر إنّما يكون مستهجناً فيما لو كان بتخصيصات كثيرة وبعناوين متعدّدة، وأمّا لو كانت الموارد الكثيرة عن العام خرجت بعنوان واحد جامع لها فهو غير مستهجن، كما إذا قيل: أكرم الناس، ودلّ دليل على خروج الفسّاق منهم، فهو وإن شمل خروج أكثر الناس، إلاّ إنّ العرف لا يستهجن ذلك؛ لكون الاعتبار بالمخصّص(2).

إلاّ إنّ هذا الوجه - أي: الجواب عن الكبرى - أصبح مورداً للإشكال بين الأعلام.

فقد أشكل عليه المحقّق الآخوند الخراساني!: بأنّ ضابط الاستهجان هو ملاحظة العام لا المخصّص، فإذا كان العام مستوعباً للأفراد بالعناوين المتعدّدة

ص: 206


1- انظر: فرائد الأصول 2: 465
2- انظر: فرائد الأصول 2: 465

التي يعمّها لا نفس الأشخاص المندرجة تحتها، فلا يلزم تخصيص الأكثرية بإخراج عنوانٍ أو عنوانين، وأمّا إذا كان العام مستوعباً للمصاديق والأفراد فحينئذٍ يكون إخراج الأكثر بعنوانٍ جامع مستهجناً؛ للزوم تخصيص الأكثر، وهذا هو الملاك في الاستهجان(1).

أقول: مقتضى كلامه!: أنّ المعيار والمناط في الاستهجان هو ملاحظة العام لا المخصّص، ومنه يظهر: أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري! غير دافع للإشكال؛ لكون الحديث من القسم الثاني، لا القسم الأوّل.

ثمّ إنّ المحقّق الآخوند الخراساني! التزم بوجه آخر لدفع الإشكال، وهو مبنيّ على ما اختاره في تفسير الحديث من نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، بأنّ هذه الموارد ضررية من ناحية الأحكام لا من ناحية الموضوعات، وهذا يكفي في كونه مرجّحاً لتعيين هذا المعنى، وإن لم يكن هناك مرجّح آخر سواه(2).

وقد اعترف كلّ من المحقّق النائيني(رحمه الله) والسيد الأستاذ! بتمامية ما ذكره المحقّق الخراساني في جواب الشيخ الأنصاري!، كما اعترفا أيضاً بصحّة جواب الشيخ! في منع الصغرى من إنكار لزوم تخصيص الأكثر(3).

ص: 207


1- انظر: درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 284
2- انظر: درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 282
3- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 402؛ مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 624 و 627

فلهما في المقام دعويان:

أمّا الدعوى الأولى، فحاصلها: أنّ شمول الحكم وعمومه تارة يكون بنحو القضية الحقيقية، بأن يكون الحكم فيها ثابتاً للعنوان والطبيعة لا للأفراد الخارجية، وأخرى يكون بنحو القضية الخارجية، بأن يكون الحكم فيها ثابتاً لكلّ شخص شخص من الأفراد الخارجية ابتداءً وإن ذكرت هذه الأفراد بلفظ وقالب واحد، كقوله مثلاً: قتل مَن في العسكر، أو نهب ما في الدار، فإنّ الحكم فيهما وارد على الأفراد وإن كانت داخلة تحت لفظ واحد.

فإن كان العام من قبيل الأوّل، فما أفاده! من أنّ التخصيص إذا كان بعنوان وجامع واحد لا يلزم منه الاستهجان - وإن كان الخارج منه أكثر - صحيح؛ وذلك لأنّ التصرّف يكون حينئذٍ في الكبرى، وهي مدخولة الأداة الدالّة على استعياب مدخولها، وأمّا كيفية المدخول وكلّيته ما هي؟ فليست الأداة موضوعة لتعيينها، فكلّ ما أريد من المدخول فالأداة دالّة على عمومه، فهي من هذه الجهة نظير المطلق في احتياجه إلى مقدّمات الحكمة، فإن تمّت فهي تدلّ على كلّية المدخول، وتدل الأداة على استعياب مدخولها، فحينئذٍ إذا ورد المخصّص أوجب تقييد المدخول من دون تصرّف في الأداة.

ولا فرق بين تقييد المدخول ابتداءً، كما لو قيل: أكرم كلّ عالم عادل، وبين تقييده بدليل منفصلٍ، كما لو قيل: لا تكرم فسّاقهم، فعلى كلا التقديرين يكون موضوع الحكم مركّباً من جزءين: أحدهما الموضوع (العالم)، والآخر القيد (العادل)، فلذا قلنا: لا يصحّ التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لكون

ص: 208

التخصيص لا يوجب التصرّف في الأداة ومدخولها، وإنّما يوجب التصرّف في كلّيته، ومن هذه الجهة لا فرق بين الكثير والأكثر، وأمّا في القضايا الخارجية فحيث إنّ الأفراد لا جامع بينها فلا كبرى في البين حتى يرد التخصيص عليها، فلا محالة يرجع التخصيص إلى التصرّف في أداة العموم، وحينئذٍ لو خرجت أفراد كثيرة من قوله: نهب ما في الدار، لصار مستهجناً، بلا فرق في ذلك بين كثرة الإخراج وكثرة الخارج.

وبعبارة أخرى: أنّ ثبوت الحكم في القسم الأوّل ليس بلحاظ الأفراد حتى يكون الخارج أكثر من الباقي، وهذا بخلاف ثبوت الحكم في القسم الثاني، فإنّه بلحاظ الأفراد، وعليه فيكون إخراج الأكثر حينئذٍ موجباً للاستهجان، فلو قيل: قتل جميع مَن في العسكر إلاّ بني تميم، بحيث لم يبق من العام من غير بني تميم إلاّ رجل أو رجلان، لكان ذلك مستهجناً، فيكون كما لو أخرجهم بنحو الأفراد، كما في: قتل جميع العسكر إلاّ زيداً، وإلاّ عمراً، وإلاّ بكراً...، وهكذا حتى لا يبقى إلاّ رجل أو رجلان مثلاً، فلا فرق في ذلك بين كون التخصيص بعنوانٍ عامّ وبين التخصيص الأفرادي، وحيث إنّ قاعدة «لا ضرر» من قبيل القضايا الخارجية الواردة على الأفراد؛ إذ إنّها ناظرة إلى الأحكام التي بلّغها الله سبحانه وتعالى إلى الناس بلسان نبيّه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، وإنه لم يشرّع في هذه الأحكام ما يكون ضررياً، فالحقّ حينئذٍ صحّة ما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني! من عدم الفرق في قبح تخصيص الأكثر بين أن يكون التخصيص

ص: 209

بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة(1).

هذا كلّه حول الدعوى الأولى.

وأمّا الدعوى الثانية، فهي اختيار ما ذكره الشيخ الأنصاري! في منع الصغرى وإنكار لزوم تخصيص الأكثر؛ وذلك لأنّ الموارد المذكورة تنقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأوّل: الموارد غير المشمولة لحديث نفي الضرر من أول الأمر، كموارد الضمانات والأروش؛ وذلك لورود الحديث في مقام الامتنان، والحكم في هذه الموارد موجب للضرر على المالك، كما أنّه موجب للضرر على المتلف، فكلاهما منافيان للامتنان وخارجان عن مدلول الحديث من دون حاجة إلى التخصيص، ولأنّ الدليل الامتناني لا يشمل كلّ موردٍ يكون منافياً للامتنان على أحدٍ من الأمّة؛ ولذلك كان بيع المضطرّ محكوماً بالصحّة بخلاف بيع المكره، وذلك لأنّ بيع المضطرّ منافٍ للامتنان عليه، بخلاف الحكم بعدم صحّة بيع المكره، مع أنّهما مندرجان في حديث الرفع.

القسم الثاني: الموارد الخارجة عن حديث «لا ضرر» تخصّصاً، وهي الأحكام المجعولة في أبواب الديّات والحدود والقصاص والحجّ والجهاد، فهي قد جعلت ضررية من أوّل الأمر لمصالح أهمّ فيها، كما قال عزّوجلّ:

ص: 210


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 400 - 402؛ مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 623 - 624

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1)، وحديث «لا ضرر» ناظر إلى العموم والإطلاقات الدالّة على التكاليف التي قد تكون ضررية، وقد لا تكون ضررية، ويقيدها بصورة عدم الضرر على المكلّف، فكلّ حكم جعل ضررياً بطبعه ومقتضاه فهو غير مشمولٍ للحديث، بل هو منصرف عنه.

القسم الثالث: الموارد التي لا يصدق عليها الضرر، بل يصدق عليها عدم النفع، كالخمس فإنّ تشريعه ليس فيه ضرر على أحد؛ لأنّ الشارع لم يعتبره مالكاً لمقدار الخمس حتى يكون وجوب إخراجه ضرراً عليه، وأوضح منه الغنائم أو المعادن والكنوز والمال المختلط بالحرام والغوص، فإنّ تملّك هذه الأمور يكون بحكم الشارع، فلولا حكمه لما تحقّقت الملكية لأربابها، فحينئذٍ حكم الشارع بملكية أربعة أخماس منها، وجعل خمسها لأشخاص آخرين يوجب عدم النفع، لا أنّه يوجب الضرر، وكذلك الكلام في أرباح التجارة.

نعم، بالنسبة للزكاة حيث إنّها داخلة في ملكه من أوّل الأمر فالحكم بإخراجها من الأنعام والغلاّت موجب للضرر على مالكها، إلاّ إنّ هذا المورد مندرج في القسم الثاني، وهو ما كان بطبعه ومقتضاه موجباً للضرر، فخروجه من حديث نفي الضرر من باب التخصّص.

القسم الرابع: الموارد التي يلتزم فيها بالتخصيص؛ وذلك لورود النصوص

ص: 211


1- البقرة: 179

الخاصّة فيها، وهي ثلاثة موارد:

المورد الأوّل: الحكم بنجاسة الملاقي للنجس، مع أنّه موجب للضرر على المالك، كمثال وقوع الفأرة في الدهن أو المرق.

المورد الثاني: وجوب الغسل على المريض المجنب نفسه عمداً، وإن كان الغسل ضرراً عليه، كما ورد به النص، وإن أعرض المشهور عنه.

المورد الثالث: وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته، فإنّه ضرر ماليّ عليه، ولكنّه منصوص(1).

والتحقيق في المقام: أنّ هنا أموراً ثلاثة لابدّ من التكلّم فيها:

الأوّل: هل الصحيح ما ذكره الشيخ الأنصاري! في جوابه الثاني، أو ما ذكره المحقّق الآخوند! ومَن تبعه؟

الثاني: هل جواب الشيخ الأنصاري! في منع الصغرى والمتسالم عليه بين الأعلام تامّ أو لا؟

الثالث: هل الإشكال الذي تفرّد به المحقّق الآخوند(رحمه الله) في جواب الشيخ الأنصاري! تامّ أو لا؟

أمّا الأمر الأوّل؛ فالظاهر أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره الشيخ الأنصاري!، وكذا ما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني!.

فالأوّل؛ لأجل ما تقدّم من مناقشة المحقّق الآخوند(رحمه الله) والمحقّق النائيني(رحمه الله)

ص: 212


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 624 - 625

من عدم الفرق في استهجان تخصيص الأكثر بين إخراج أكثر الأفراد بعنوان واحد جامع وبين تخصيصه الأفرادي.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ ما ذكره - من أنّه بناءً على كون العام بنحو القضية الحقيقية لا يلزم التخصيص في الأداة، وإنّما يكون تقييداً في المدخول - وجيهٌ فيما إذا كان الموضوع الذي تعلّق به الحكم هو الطبيعة من حيث هي هي، وأمّا إذا كان الموضوع الذي تعلّق به الحكم هو الطبيعة بما هي مرآة وكاشفة عن الأفراد الخارجية - كما هو الصحيح، وعليه بنى المحقّقان المذكوران - فلا محالة حينئذٍ من لزوم تخصيص الأكثر المستهجن، فإنّ إلقاء العام وإرادة فرد أو فردين منهما أمر مستهجن وغير مستحسن عرفاً.

وأمّا الأمر الثاني؛ فالظاهر أنّ جواب الشيخ الأنصاري(رحمه الله) في منع الصغرى - والذي أيّده الأعلام من المحقّقين - تامّ. نعم، قد يقرّر بتقرير آخر، فيقال:

إنّ أكثر الموارد المذكورة غير مندرجة تحت قاعدة نفي الضرر من أوّل الأمر حتى يقال بعد ذلك بلزوم تخصيص الأكثر، بل يمكن القول بعدم صدق الضرر في كثير منها؛ وذلك لما تقدّم من أنّ معنى الضرر في المال مثلاً هو النقص، وصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، فلا يصدق الضرر على صرف المال فيما يعدّ من مؤونة الشخص وشؤونه كتعمير داره أو مؤونة عياله وأقربائه وسائر أموره العامّة، العرفية منها والعقلائية، والتي ينتفع بها بنفسه، أو التي ينتفع منها الآخرون، كالضمانات والديّات والجهاد والحجّ والزكاة والخمس، بل وحتى الاجتناب عن ملاقي النجس، حيث اكتشف من حكم الشارع بأنّ الملاقاة توجب سراية

ص: 213

الميكروبات المضرّة بالإنسان الملاقي لها، فصرف المال في هذه الموارد لا يصدق عليه ضرر حتى يقال بخروجها تخصيصاً أو تخصّصاً.

وأمّا الأمر الثالث؛ فإنّ ما ذكره المحقّق الآخوند الخراساني! بأنّ المنفي إذا كان هو الموضوع الضرري بلسان نفي حكمه، فلا يرد هذا الإشكال، أي: لزوم تخصيص الأكثر، وأمّا إذا كان هو الحكم الضرري ابتداءً، فحينئذٍ يرد الإشكال، وعلى هذا فلو لم يكن هناك مرجّح آخر على المعنى الذي اخترناه في تفسير الحديث لكفى هذا الوجه لتعيين مختارنا، فهذا المطلب لم نتحقّق معناه.

وذلك لأنّ نفس جعل الحكم لا يوجب الضرر؛ لكونه أمراً اعتبارياً، وهو ممّا لا يلزم منه الضرر، بل إنّ وجوده وعدمه سيّان في ذلك. نعم، إنّما يترتّب الضرر في مقام الامتثال والإتيان بالمتعلّق؛ لأنّ الضرر دائماً ينشأ من ناحية الموضوع كما في الجهاد وإعطاء المال بعنوان الزكاة أو الخمس، وهكذا، فلا فرق في لزوم محذور تخصيص الأكثر حينئذٍ بين كون المنفي هو الحكم الضرري وبين كونه الموضوع الموجب للضرر، فلا معنى للقول باختصاص المحذور المزبور بقولٍ دون آخر، ولكن قد تقدّم منا القول بمنع الصغرى.

هذا كلّه حول التقريب الأوّل.

التقريب الثاني: ما ذكره بعض أعاظم العصر!: من أنّ حديث نفي الضرر دليل امتناني على العباد، ومفاده: أنّه تعالى لعنايته بالعباد لم يوقعهم في الضرر، ولم يشرّع الأحكام للإضرار بهم، فلسانه كلسان حديث الرفع ودليل رفع

ص: 214

الحرج، وما هذا شأنه يكون آبياً عن التخصيص، قلّ أو كثر(1).

وأجيب عنه بوجهين:

أوّلاً: بأنّه لم يتّضح كون العام الامتناني آبياً عن التخصيص إذا كان التخصيص في سياق الامتنان أيضاً.

وثانياً: أنّه على تقدير ثبوت ذلك فبالإمكان أن يكون خروج ما خرج منه على سبيل الحكومة دون التخصيص، بأن تعتبر الزكاة مثلاً حكماً غير ضرري فيجب دفعها، ولسان الحكومة لا يمسّ باللسان الآبي عن التخصيص؛ لأنّ صيغتها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فهو لسان مسالم للعامّ، على خلاف لسان التخصيص(2).

أقول: يمكن منع الكبرى والصغرى.

أمّا منع الكبرى؛ فيقال: إنّه إذا كان الضرر والخسارة أمراً مرغوباً عنها ومنّة فكيف يتصوّر عامّ يقتضي الامتنان فيه رفع التكليف عن أفراده، ويقتضي الامتنان فيه أيضاً ثبوت التكليف على بعض أفراده؟ فهل يتصوّر تحقّق فرد من نفس هذا الضرر والخسارة المرغوب عنها ومع ذلك يكون في تحقّقه ووجوده عناية ومنّة؟

نعم، يمكن ذلك فيما إذا كان ذا جهتين، فمن جهة كونه ضرراً يقتضي رفع

ص: 215


1- انظر: بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 89
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 218

التكليف، ومن جهة كونه نفعاً يقتضي ثبوت التكليف، فيقال حينئذٍ: إنّه لا يخلو من إحدى حالتين:

الأولى: أن يكون في ثبوت التكليف نفع وامتنان مساوٍ للضرر.

الثانية: أن يكون في ثبوت التكليف نفع وامتنان غالب على الضرر.

فعلى الأولى؛ لا وجه حينئذٍ للقول بخروجه من العام تخصيصاً.

وعلى الثانية؛ يرد الإشكال، فيقال: إنّ عدم التكليف خارج تخصّصاً؛ لعدم صدق الضرر عليه عرفاً، بل يصدق على تركه عدم النفع.

نعم، يمكن القول: إنّ الضرر والخسارة وإن كان في نفسه مبغوضاً ويتنفّر منه الطبع، ولكنّه يوجب في بعض الأحيان وفي بعض الأفراد التوجّه إلى الله سبحانه وتعالى والانقطاع إليه، وما يكون هذا شأنه لا يصدق عليه عرفاً عنوان الضرر، بل هو في الحقيقة نفع، فيكون خروجه حينئذٍ تخصّصاً، لا أنّه ضرر منفي بالحديث.

ومن ذلك يظهر الإشكال في الوجه الثاني - أي كون الخروج بنحو الحكومة - : فإنّ معنى الحكومة هو النظر إمّا بنحو التوسعة وإمّا بنحو التضييق للموضوع تعبّداً، مع أنّه - أي الموضوع - في الواقع من أفراد العام، وعليه يكون الضرر ثابتاً في الحقيقة، ولكن منفيّ عنه اعتباراً، فيقال: إنّه ليس من أفراد الضرر، وهذا ينافي الامتنان بلا إشكال.

وأمّا منع الصغرى:

ص: 216

فأوّلاً: أنّ محلّ الكلام هو جواز تخصيص الدليل الامتناني وعدمه، وعليه فالجواب عنه بإمكان جواز ذلك على سبيل الحكومة خروج عن محلّ الكلام.

وثانياً: على فرض التسليم بذلك، فإنّ التخصيص بنحو الحكومة لا ينطبق على الموارد المذكورة في مقامنا من وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته، ووجوب الغسل على مريض أجنب نفسه عمداً وإن كان الغسل ضرراً عليه، والحكم بنجاسة الملاقي للنجس والاجتناب عنه، والحكم بالاجتناب عن اللحوم المشتبهة، وغير ذلك، فليست هذه الموارد داخلة في أحد هذين الفرضين.

والحاصل: أنّ هذا الجواب ممنوع كبرى وصغرى.

والصحيح في الجواب: إمّا أن يقال بمنع كون قاعدة «لا ضرر» دليلاً امتنانياً. نعم، لو ثبتت زيادة كلمة «على مؤمن»، أو «في الإسلام» بدليل معتبر لكانت دلالة القاعدة على الامتنان واضحة وقويّة، ولكن حيث إنّ هاتين الكلمتين وردت إحداهما في مرسلة ابن مسكان والأخرى في مرسلة الصدوق!، فلا يمكن القول بالامتنان، وإن كان ظاهر الشيخ الأنصاري والمحقّق الآخوند والمحقّق الميرزا النائيني(1) البناء على ذلك.

وإمّا أن يقال بخروج الموارد المذكورة تخصّصاً؛ لعدم صدق الضرر عليها،

ص: 217


1- فرائد الأصول 2: 462؛ كفاية الأصول 3: 163؛ قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 424

وإنكار التخصيص في هذه الموارد وتوجيه مسألة وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته، فإنّه مضافاً إلى أنّ عدم الشراء في هذا المورد يوجب حرمان المكلّف من نيل الثواب الجزيل كما يوجب أيضاً القذارة وعدم تطهير وجهه ويديه ورجليه، فصرف المال في ذلك صرف له في شؤونه، ولا يعدّ ضرراً عليه.

وأمّا مسألة وجوب الغسل على مريض أجنب نفسه عمداً؛ فالمشهور أعرضوا عنه وحكموا بعدم وجوب الغسل عليه.

وأمّا مسألة الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ووجوب الاجتناب عنه؛ فإنّ عدم التجنّب موجب للضرر، وغير ذلك.

والحاصل: أنّ الإشكال الثاني - بالتقريبين المتقدّمين - غير وارد على المعنى الذي اخترناه في تفسير حديث نفي الضرر.

هذا تمام الكلام في المقام الرابع.

ص: 218

المقام الخامس: في تنبيهات القاعدة

التنبيه الأول: نسبة قاعدة لا ضرر مع أدلّة الأحكام الأوّلية

إنّ نسبة قاعدة «لا ضرر» مع أدلّة كلّ حكم من الأحكام الأوّلية هي العموم من وجه؛ فإنّ أدلّة الأحكام المثبتة أو النافية تقتضي وجوب متعلّقها مطلقاً، سواء كان ضررياً أو لا، ومقتضى قاعدة «لا ضرر» نفي الضرر، سواء كان هذا الحكم أو غيره، فيجتمعان في الحكم الضرري.

فمثلاً مقتضى إطلاق دليل وجوب الوضوء شموله لحال الضرر، وإطلاق دليل «لا ضرر» نفي وجوبه حال الضرر، فيكون الوضوء الضرري مورد اجتماعهما، كما أنّ مورد افتراق الأوّل هو الوضوء غير الضرري، ومورد افتراق الثاني هو الضرر في غير الوضوء.

والظاهر: أنّه لا إشكال في تقديم قاعدة نفي الضرر على سائر الأدلّة الأوّلية في مادّة الاجتماع، ولكن وقع الخلاف في وجه تقديم القاعدة، فقد نقل الشيخ الأنصاري(رحمه الله) وجوهاً أربعة في ذلك، وناقش في الثلاثة الأولى منها، وقوّى الرابع، وتبعه في ذلك كلّ من المحقّق الميرزا النائيني! والسيد الأستاذ!، واختار المحقّق الآخوند الخراساني(رحمه الله) وجهاً خامساً.

أمّا الوجوه الأربعة التي نقلها الشيخ الأنصاري(رحمه الله)؛ فهي:

الأوّل: ما يظهر من غير واحد من وجود التعارض بين العمومات المثبتة

ص: 219

للتكليف وبين القاعدة، فترجّح القاعدة إمّا بعمل الأصحاب، وإمّا بالأصول كالبراءة في مقام التكليف، وغيرها في غيره.

الثاني: ترجيح القاعدة؛ لوقوعها في مقام الامتنان، وهذا يكفي في تقديمها على العمومات.

الثالث: ترجيح القاعدة من جهة أنّ الحكم بسقوط المتعارضين في مادّة الاجتماع، أو تقديم أدلّة الأحكام الأوّلية يوجبان عدم بقاء موردٍ للعمل بقاعدة نفي الضرر، ويلزم منه إلغاء هذا الدليل بالمرّة، وقد تقرّر في محلّه: أنّه إذا دار الأمر بين العامّين من وجه، وكان العمل بأحدهما مستلزماً لطرح الآخر، يكون الآخر هو المقدّم ويرجّح على غيره، وهذا بخلاف تقديم دليل نفي الضرر، فإنّه لا يستلزم إلغاء أدلّة الأحكام بشمولها لموارد عدم الضرر، كما أنّ تقديم بعض أدلّة الأحكام الخاصّة ترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ نسبتها إليها على حدٍّ سواء.

الرابع: أنّ دليل نفي الضرر حاكم على أدلّة الأحكام، فيقدّم عليها، ولا تلاحظ النسبة بينهما، فإنّ مقتضى التدبّر في نظائرها - من أدلّة «رفع الحرج»، و «رفع الخطأ والنسيان»، و «نفي السهو على كثير السهو»، و «نفي السبيل على المحسنين»، و «نفي قدرة العبد على شيء» ونحوها - هو ذلك(1).

وقد ناقش! في كلٍّ من الأوّل والثاني، وقوّى الرابع، ولم يتعرّض للثالث منها.

ص: 220


1- انظر: فرائد الأصول 2: 462

الخامس: ما ذكره الآخوند الخراساني! من تقديم دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوّلية بمقتضى الجمع العرفي، فإنّه يجمع بين كلّ دليلين يتكفّل أحدهما لبيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الأوّلية، ويتكفّل الآخر بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الثانوية، فيحمل الأوّل على الاقتضائي والثاني على الحكم الفعلي(1).

هذه هي الوجوه التي ذكرت في المقام، والمهم هو بيان الوجهين الأخيرين منها؛ لأنّ سائر الوجوه الأخرى إنّما يترتّب عليها الأثر في حالة عدم ثبوت هذين الوجهين.

أمّا بيان الوجه الرابع؛ فقد ادّعى الشيخ الأنصاري! بأنّ وجه تقديم القاعدة هو الحكومة من دون حاجة لملاحظة المرجّحات الدلالية والسندية بينها، بل يقدّم الدليل الحاكم مطلقاً وإن كان أضعف دلالة وسنداً من الدليل المحكوم، ووافقه عليها كلّ من المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) والسيد الأستاذ!، فهذه الدعوى تحتاج إلى بيان أمرين قد ذكرهما المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) في كلامه:

الأمر الأوّل: في بيان ضابط الحكومة.

الأمر الثاني: في بيان وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم مطلقاً.

ص: 221


1- انظر: كفاية الأصول 3: 162

أمّا الأمر الأوّل؛ فإنّ القرينة تارة تكون للمجاز أي للتصرّف في المراد الاستعمالي، كما في قولك: رأيت أسداً يرمي، فإنّ «يرمي» قرينة على أنّ المراد من كلمة الأسد في هذا الكلام بالدلالة التصديقية هو الرجل الشجاع، وأخرى تكون القرينة للتخصيص أو التقييد أي للتصرّف في المراد الجدّي، وهي على قسمين:

القسم الأوّل: تكون قرينة على التصرّف في المراد الجدّي بمعونة حكم العقل، كما هو في التخصيص والتقييد، فإنّ بين قوله: أكرم كلّ عالم، وبين قوله في المخصّص: لا تكرم زيداً العالم، أو: لا تكرم الفسّاق، تعارض العموم والخصوص بحسب الظاهر؛ لأنّ مفاد الأوّل وجوب إكرام جميع أفراد العلماء الشامل لزيد أيضاً، ومفاد الثاني عدم إكرام زيد، ولكن حيث إنّ العقل يعلم بصدور الخاص والعام من العاقل الملتفت، فهو يحكم بأنّ الملتفت لا يحكم واقعاً بوجوب إكرام جميع أفراد العلماء مع حكمه في زيد العالم بخلاف حكمه في سائر الأفراد، وبعد نصوصية الخاص أو أظهريته من العموم في شموله له يحكم بأنّ المتكلّم لم يقصد من العموم هذا الفرد.

القسم الثاني: تكون قرينة على التصرّف في المراد الجدّي، ولكن بمدلولها اللفظي، وهي على قسمين أيضاً:

فتارة تكون قرينة بالدلالة المطابقية وبمفاد «أعني»، و «أردت»، فتكون كقرينة المجاز، كقوله(علیه السلام): «إنّما عنيت بذلك الشك بين الثلاث

ص: 222

والأربع»(1)، بعدما سئل: فأين ما روي أنّ الفقيه لا يعيد الصلاة؟

وأخرى تكون قرينة بالدلالة الالتزامية كأغلب الحكومات، فإنّ مثل قوله(علیه السلام): «لاشكّ لكثير الشكّ»، يبيّن بنفس مدلوله اللفظي موضوعَ قوله(علیه السلام): «إذا شككت فابن على الأكثر»، ويضيّق دائرة الموضوع.

فالفرق بين التخصيص والحكومة هو: أنّ بيانية الخاص للعام إنّما هو بحكم العقل، وبيانية الحاكم للمحكوم إنّما هو بنفس مدلوله، كما أنّ الحكومة تتوقّف على ورود المحكوم أوّلاً، ثمّ ورود الحاكم؛ وذلك لأنّه مسوق لبيان حكمه ومتفرّع عليه، بخلاف التخصيص الذي هو أحد أقسام التعارض.

وبالجملة: إذا لم يرد حكم من الشارع لاعموماً ولا خصوصاً، فلا مجال لورود قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا حرج في الدين»، أو «لا ضرر في الإسلام»، وهذا بخلاف مثل: «لا تكرم زيداً»؛ فإنّه غير متفرّع على ورود أكرم العلماء.

ثمّ إنّ الحكومة على أربعة أقسام:

الأوّل: ما يتعرّض فيه الحاكم لموضوع المحكوم، إمّا بنحو التوسعة، وإمّا بنحو التضييق، ومثال الأوّل قوله(علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»، وقوله(علیه السلام): «الفقّاع خمر»، ومثال الثاني قوله: «لا ربا بين الوالد والولد».

ص: 223


1- انظر: وسائل الشيعة 8: 188، ح5، وفيه: إنّما ذلك في الثلاث والأربع. (دراسات في علم الأصول 3: 515)

الثاني: ما يتعرّض لمتعلّق الحكم الثابت في المحكوم، كما لو قيل: إنّ الإكرام ليس بالضيافة، مثلاً.

الثالث: ما يتعرّض لنفس الحكم، كما لو قيل: إنّ وجوب الإكرام ليس في مورد زيد.

الرابع: ما يتعرّض لجهة الصدور، كما إذا ورد دليل ظاهر في بيان الحكم الواقعي ثمّ ورد دليل آخر على أنّ الدليل الأوّل إنّما صدر عن تقية، أو لغرض آخر، لا لبيان الحكم الواقعي، كما يظهر ذلك في كثير من الروايات.

وأمّا الأمر الثاني - وهو في بيان وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم مطلقاً - فوجه التقديم في القسمين الأوّلين واضح؛ لأنّ كلّ دليل مثبت للحكم لا يتكفّل لبيان موضوعه، فإنّ الأحكام الأوّلية مجعولة بنحو القضية الحقيقية، وهذا معناه: أنّ الحكم ثابت على تقدير وجود الموضوع وتحقّقه، ولا يتكفّل الحكم الأوّلي كيفيةَ وجوده، فإذا دلّ دليل على إضافة فرد لموضوع، أو على إخراج فرد من موضوع، أو أنّ هذا الفرد للمتعلّق، أو أنّه ليس من المتعلّق، فلا يوجد تعارض بينهما ولا تنافٍ، بل بينهما كمال الملاءمة والمسالمة؛ لأنّ دليل الحكم لا يتكفّل لبيان كيفية الموضوع وحدوده، فلا يكون الدليل الحاكم ممانعاً ومعارضاً للدليل المحكوم حتى يحتاج إلى لحاظ الترجيح أو القوّة والضعف.

وأمّا في القسمين الأخيرين؛ فالوجه في تقديم الدليل الحاكم هو: أنّ حجّية

ص: 224

الظهور وحجّية جهة الصدور ثابتتان ببناء العقلاء، وسيرتهم على كون الظاهر هو المراد الجدّي، وكون الداعي إلى التكلّم هو بيان الحكم الواقعي، ومورد هذه السيرة وموضوعها هو الشكّ في المراد، والشكّ في جهة الصدور، فإذا دلّ الدليل على بيان المراد وجهة الصدور لا يبقى شكّ حتى يعمل بالظهور، أو جهة الصدور، فيكون الدليل الحاكم مبيّناً للمراد من الدليل المحكوم، ومبيّناً لجهة الصدور، وبه يرتفع الشكّ، ولا يبقى مورد للعمل بأصالة الظهور أو بأصالة الجدّ، وهذا هو السرّ في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم من دون ملاحظة النسبة والترجيح بينهما بعد إحراز حجّية الحاكم.

وقد ظهر من هذا البيان:

أوّلاً: أنّ دليل نفي الضرر بمدلوله الالتزامي موجب للتصرّف في أدلّة الأحكام الأوّلية، ويدلّ على نفي الحكم الضرري في الشريعة، إمّا ابتداءً بناءً على مقالة الشيخ الأنصاري!، وإمّا من جهة الموضوع بناءً على مقالة الآخوند الخراساني!، وأنّ المقصود من الأحكام الثابتة على الموضوعات غير الحكم الموجب للضرر، فيكون بياناً للتصرّف في المحمول، أو الموضوع، فيكون بمنزلة القرينة والبيان على المراد الجدّي، وهذا ما يوجب تقدّمه.

وثانياً: يظهر أيضاً ما في كلام المحقّق الآخوند الخراساني! - كما في المنتقى - من منع كون دليل نفي الضرر ناظراً إلى أدلّة الأحكام الأوّلية، فإنّه يصحّ إذا كان مقصود الشيخ من النظر هو القسم الأوّل، أي: متعرّضاً لدليل المحكوم بالمدلول اللفظي المطابقي، وأمّا إذا كان مقصوده هو القسم الثاني،

ص: 225

أي: متعرّضاً لدليل المحكوم بالمدلول الالتزامي، فلا يتمّ حينئذٍ ما ذكره!، بل ما ذكره! من الجمع العرفي: بأنّ كلّ حكم ثانوي جامع الحكم الأوّلي، فيكون الحكم الثانوي بالنظر العرفي مانعاً عن الحكم الأوّلي، أو المتوهّم، وأمّا نفس الحكم الثانوي فلا معنى لكونه مانعاً عن نفسه؛ لأنّه علّة ومثبت له، فإنّ الحكم إن كان موضوعاً للضرر فيكون الضرر علّة لثبوته، فكيف يمكن أن يكون مانعاً؟ بل لابدّ وأن يكون مانعاً عن الحكم الأوّلي في غير ما يقتضي الضرر، أو الحكم المتوهّم ثبوته حتى يكون الضرر مانعاً عن ثبوته، فحينئذٍ يفهم العرف بأنّ الحكم الأوّلي كان بنحو الاقتضاء، والحكم الثانوي بنحو المانع، ومن الواضح: أنّ كونه مانعاً يقتضي أن يكون ناظراً إلى الحكم الأوّلي الذي هو على نحو الاقتضاء؛ فإنّ الإنشاء المانع لا معنى له بدون لحاظ المقتضي.

والحاصل: أنّ ما أفاده بكلامه هذا يرجع إلى أنّ دليل المانع يكون مقدّماً على دليل الاقتضاء من دون ملاحظة -، فيرجع كلامه! لبّاً إلى ما ذكره الشيخ من الحكومة بالمدلول الالتزامي، وإن كان بحسب اللفظ مختلفا معه(1).

التنبيه الثاني: حكومة دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الترخيصية

لا إشكال في حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّلية إذا كانت إلزامية،

ص: 226


1- انظر: منتقى الأصول 5: 437

سواء كانت وجوبية أو تحريمية، وأمّا إذا كانت ترخيصية - كالاستحباب والكراهة والإباحة - فهل تكون حاكمة عليها أو لا؟

الظاهر من المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) والسيد الأستاذ!: اختصاص دليل نفي الضرر بالأحكام الإلزامية من الوجوب والحرمة، فهي التي توجب وقوع العبد في الضرر، فعلى تقدير كونها ضررية يكون وقوع العبد في الضرر مستنداً إلى الشارع لجعله الحكم الضرري، وأمّا الترخيص في شيء فلا يُلزم المكلّف بارتكابه حتى يكون الترخيص ضررياً، بل العبد ارتكبه باختياره وإرادته، فيكون الضرر مستنداً إليه لا إلى الترخيص المجعول من قبل الشارع، فنفي الضرر كنفي الحرج المستفاد من أدلّة نفي الحرج، فكما أنّ المنفي بها هو الحكم الإلزامي دون الترخيصي، فكذلك المقام، بلا فرق بينهما، ويترتّب على ذلك: أنّه لا يستفاد من الحديث حرمة الإضرار بالنفس أو بالغير من قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) «لا ضرر». نعم، يمكن استفادة حرمة الإضرار بالغير من قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) «لا ضرار»(1).

ولكن هذا يتمّ بناءً على تفسير معنى نفي الضرر بنفي الحكم الضرري كما هو رأي الشيخ الأنصاري(رحمه الله)، وأمّا بناءً على تفسيره بنفي الموضوع الموجب للضرر فالظاهر عدم الفرق بين أن يكون الحكم إلزامياً، أو ترخيصياً، فكلّ موضوع موجب للضرر يكون مرفوعاً، بمعنى: حكمه مرفوع، ولا يتوقّف ذلك

ص: 227


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 619

على أن يكون الموجب للضرر جعل الشارع وحكمه، فلو كان الموضوع وضوءاً أو صياماً استحبابياً مع علمه بإيجابهما للضرر، فلا يوجب ذلك بطلانهما أو سقوطهما عن الاستحباب، بل يكونان محرّمين، وكذلك إضراره بنفسه مع العلم بالضرر موجب لكون الفعل الذي يورده على نفسه محرّماً.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ حديث نفي الضرر ورد في مقام الامتنان، فلا يشمل موارد إقدام المكلّف على ضرر نفسه؛ لعدم الامتنان في رفع الحكم بالنسبة إليه.

فيقال: إنّ عنوان الامتنان يصدق حتى في حالة إقدامه على ذلك، وكذلك الأمر أيضاً فيما لو كان المراد من النفي النهي كما هو مبنى المسلك الثالث، فيشمل حينئذٍ الأحكام الإلزامية، كما يحكم أيضاً بحرمة الموارد المذكورة وعدم صحّة العبادة وحرمة الإضرار بالنفس.

والحاصل: إذا قلنا بكون دليل نفي الضرر حاكماً على أدلّة الأحكام الترخيصية - كما هو في الأحكام الإلزامية - فلابدّ من القول ببطلان الوضوء أو الغسل أو الصوم وغيرها من الأحكام الاستحبابية الموجبة للضرر؛ لانتفاء الحكم الاستحبابي، فيتّصف حينئذٍ المستحب بكونه مبغوضاً للشارع، ولا يمكن التقرّب للمولى بما هو مبغوض كما هو واضح.

وقد نوقش ذلك بوجهين:

الأوّل: أنّ دليل نفي الضرر امتناني، فهو من قبيل دليل «ما لا يعلمون»،

ص: 228

و «لا حرج»، فيختصّ الامتنان حينئذٍ فيما لو لم يكن الضرر بإقدام المكلّف واختياره، كما في الأحكام الإلزامية الوجوبية والتحريمية، وأمّا إذا كان ارتكاب الضرر بإرادته واختياره ومن دون إلزام من الشارع - كما في الأحكام الترخيصية - فلا تجري القاعدة.

الثاني: أنّ القدر المتيقّن من حرمة الضرر ومبغوضيّته للشارع فيما لو أدّى إلى هلاك النفس أو تلف عضو أو قطعه، وأمّا مطلق الضرر فليس بحرام ومبغوض للشارع، ألا ترى أنّ التملّي بالطعام والشراب الزائدين عن المقدار المتعارف ضرر على النفس، ومع ذلك لم يلتزم أحد بحرمته تمسّكاً بدليل نفي الضرر، وعليه فليس مطلق الضرر محرّماً حتى يوجب سقوط الرجحان والاستحباب من الفعل، وعلى هذا يصحّ الإتيان بالأفعال المستحبّة وإن كانت ضررية؛ لعدم ارتفاع رجحانها وإمكان التقرّب بها.

ثمّ إنّ هذين الوجهين قد أشير إليهما في كلمات الأعلام، إلاّ إنّه لا بأس من التعرّض لهما بشيءٍ من التفصيل؛ وذلك لما يترتّب عليهما من آثار وفوائد جمّة في المقام كما لا يخفى.

أمّا الوجه الأوّل - وهو امتنانية القاعدة - فإنّه يظهر من كلمات جماعة من الأعلام كالشيخ الأنصاري(رحمه الله)، والمحقّق الآخوند الخراساني(رحمه الله)، والمحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله)، والسيد الأستاذ!، ولكن مع ذلك قيل بعدم كونها امتنانية(1)،

ص: 229


1- منتقى الأصول 5: 427

كما في كلمات بعض الأعلام.

فحينئذٍ تظهر الثمرة في عدّة موارد:

منها: موارد إقدام المكلّف على ارتكاب الضرر بإرادته واختياره، فعلى الأوّل لا تجري في حقّه القاعدة، بخلاف الثاني فتجري في مورده.

ومنها: موارد تحمّل المكلّف الضرر المتوجّه إلى الغير لدفعه عنه، فعلى الأوّل لا يجب عليه تحمّل الضرر وإن كان أخفّ من الضرر الوارد على الغير، وهذا بخلافه في الثاني.

والظاهر: أنّ الامتنان يطلق على معنيين:

الأوّل: بمعنى التخفيف ورفع الكلفة والمشقّة؛ وذلك لأنّ امتثال التكاليف الإلهية فيها نوع من الكلفة والمشقّة والتعب، فيمنّ الشارع المقدّس على عباده برفع تلك الكلفة والمشقّة بأن يرفع المقتضي الثابت في ذلك الحكم من جهة التخفيف والتسهيل عليهم، وهذا من قبيل «لا حرج» والبراءة الشرعية وغيرهما.

الثاني: بمعنى أنّ الحكم المجعول من قبل الشارع موافق للحكمة والمصلحة الراجعة إلى المكلّف، وأنّه تعالى قد جعل هذه التكاليف في ذمّة المكلّف وفقاً لما يراه من حكم ومصالح في متعلّقاتها وإن خفيت على العباد، فيكون الامتنان حينئذٍ من الباري عزّوجلّ على عباده من جهة وضع هذه التكاليف ورفعها عنهم.

فمن هنا ينبغي تشخيص ما هو المراد من الامتنان والمنّة في المقام، فهل

ص: 230

يراد به المعنى الأوّل، أو المعنى الثاني؟

فإذا كان المراد به المعنى الثاني فحينئذٍ لا فرق بين إقدام المكلّف وإتيانه بالفعل الضرري بإرادته وعدمه في ثبوت وتحقّق الامتنان، وأمّا إذا كان المراد به المعنى الأوّل فلابدّ من التفريق بين إقدامه على الفعل الضرري بإرادته فلا يشمله دليل الامتنان؛ وذلك لأنّه يكون ممّن ألقى نفسه في المشقّة والتعب، فحينئذٍ لا معنى للمنّة عليه.

والظاهر: أنّ المراد من الامتنان في أدلّة نفي الضرر هو المعنى الثاني، وليس الأوّل؛ وذلك لأمرين:

أوّلاً: أنّ الضرر عبارة عن الخسارة والخسران، وهو أمر واقعي، ومن الملاكات والمصالح الواقعية للأحكام، وليس عدم التكليف في مورد الخسارة من جهة التخفيف والتسهيل.

وثانياً: ما ورد في بعض روايات الباب من تطبيق القاعدة على صغرياتها - كالشفعة، ومنع فضل الماء والكلاء، وعدم سلطنة سمرة من الدخول إلى عذقه، وغير ذلك - خير شاهد على أنّها من الملاكات الواقعية، وليس لمجرّد التسهيل والتخفيف، فهي ليست نظير رفع العسر والحرج، وكذلك «رفع ما لا يعلمون» وأمثالهما، وبذلك يصحّ منع هذا الأمر، أي: ما هو متسالم عليه في كلماتهم من كون المراد من المنّة في أدلّة نفي الضرر هو المعنى الأوّل.

نعم، لا تجري القاعدة في بعض الموارد، سواء قلنا بكونها واردة في مقام

ص: 231

الامتنان، أو لم نقل بذلك، فلا يقال فيها برفع الحكم التكليفي في موارد إقدام المكلّف على ارتكاب ما يوجب ضرراً مالياً على نفسه، وقد ذكر لذلك عدّة أمثلة:

منها: ما إذا زرع المكلّف أرض الغير بدون إذنه، فإنّ لمالك الأرض قلع الزرع وإن خرج بذلك عن المالية، ولا تجري فيه قاعدة نفي الضرر عن الزارع حتى لا يتسلّط مالك الأرض على قلعه؛ حيث إنّ الضرر نشأ عن سوء اختيار مالك الزرع، لا عن حكم الشارع أو الموضوع، فجريان القاعدة في ضرر صاحب الزرع ينافي المنّة على مالك الأرض، فلا تجري فيه، بل تجري في ضرر مالك الأرض.

ومنها: إذا أذن المالك في دفن الميّت في ملكه، أو في الصلاة فيه، فإنّه ليس للمالك الرجوع عن إذنه بعد الدفن وبعد الشروع في الصلاة تمسّكاً بقاعدة نفي الضرر؛ حيث إنّ المنشأ للضرر ليس هو الحكم الشرعي، ولا الموضوع، بل إذنه الناشئ عن إرادته واختياره، فجريان القاعدة ينافي الامتنان بالنسبة إلى الميّت للزوم نبش قبره، وكذا المصلّي فإنّ جريانها في ضرر المالك ينافي المنّة على المصلّي.

ومنها: إذا أذن في رهن ماله، فإنّه بعد تحقّق الرهن ليس له الرجوع عن الإذن؛ لأنّ إذنه في الرهن - مع لزومه من طرف الراهن - إقدام على ضرره باختياره.

ومنها: إذا نصب لوحاً مغصوباً في السفينة، أو خشباً مغصوباً في جدار داره،

ص: 232

فإنّ لمالكهما إخراجهما عن السفينة والجدار وإن تضرّر مالك الجدار والسفينة ضرراً فاحشاً ما لم يبلغ تلف النفس المحترمة، فإنّ إقدام الغاصب هو الجزء الأخير من علّة الضرر دون الحكم الشرعي، فلا تشمله قاعدة نفي الضرر وغير ذلک من الامثله.

هذا كلّه بالنسبة إلى الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني، وهو: هل الإضرار بالنفس حرام؟ وعلى فرض كونه محرّماً فهل يوجب رفع الرجحان والقول ببطلان الوضوء والغسل المستحبّين، أو لا؟

والتحقيق: هو أنّه يمكن منع ذلك كبروياً وصغروياً.

أمّا منع الكبرى فواضح؛ وذلك لأنّ بطلان الوضوء والغسل غير متوقّف على حرمة الإضرار بالنفس، بل يتوقّف ذلك على ثبوت الدليل على الاستحباب والرجحان، فمع رفع حكم الاستحباب والرجحان بقاعدة نفي الضرر فلا محالة يحكم بالبطلان، سواء كان الإضرار بالنفس حراماً أو لم يكن.

نعم، هناك وجه آخر للحكم بالبطلان، وهو اجتماع الحرمة مع الرجحان، إلاّ إنّه شيء آخر يختلف عمّا نحن بصدد إثباته.

وأمّا منع الصغرى؛ فقد نسب إلى المشهور من المتأخّرين القول بحرمة الإضرار مطلقاً؛ حيث ذكر الشيخ الأنصاري! في رسالته المعمولة في «لا

ص: 233

ضرر»: أنّه استفيد من الأدلّة العقلية والنقلية حرمة الإضرار بالنفس(1).

أمّا الدليل العقلي؛ فيقرّب: بأنّ العقل يحكم بقبح الإضرار بالنفس، وكلّ ما يكون قبيحاً عقلاً فهو محرّم شرعاً. هذا، مضافاً إلى أنّ بناء العقلاء وسيرتهم قائمة على الاحتراز والتجنّب عن كلّ ما يضرّ بالنفس، وهي سيرة ممضاة من قبل الشارع الأقدس؛ لعدم ردعه عنها.

والمتحصّل من ذلك: هو حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً.

وأجاب عنه سيدنا الأستاذ!: بأنّ حكم العقل غير ثابت على إطلاقه؛ فإنّ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الإنسان ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي، بل جرت سيرة العقلاء على الإضرار بالنفس نوعاً ما في مثل تجارتهم؛ فإنّهم يتحمّلون في ذلك الحرّ والبرد والجوع والعطش ولم نر مَن يجتنب عن ذلك لزعمه حرمته(2).

وأمّا الدليل النقلي؛ فقد استدلّ بالكتاب والسنّة على ذلك:

أمّا الكتاب؛ فبالآيات الدالّة على النهي عن الظلم، ومن الواضح: أنّ الإضرار بالنفس من أجلى مصاديق الظلم المنهي عنه، فيكون حينئذٍ محرّماً مطلقاً.

وفيه: أنّه خروج عن محلّ الكلام؛ وذلك لأنّ الكلام في الموارد التي لا يصدق عليها عنوان الظلم عرفاً.

ص: 234


1- انظر: رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية - تراث الشيخ الأعظم) 23: 116
2- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 637

وأمّا السنّة الشريفة؛ فقد استدلّ على ذلك بعدّة روايات:

منها: حديث نفي الضرر، فإنّ قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ): «لا ضرر» - بناء على استفادة جعل تحريم الضرر منه - بعمومه يشمل حرمة ضرر النفس.

وفيه: عدم ثبوت حرمة مطلق الضرر بالنفس في غير ما يؤدّي إلى هلاكها، أو تلف عضو منها، فالحديث ينصرف إلى حرمة هذه الأفراد؛ لأنّها القدر المتيقّن الذي يعتدّ به العقلاء.

ومنها: معتبرة المفضّل بن عمر الواردة في الكافي، قال: قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): أخبرني جعلت فداك، لِمَ حرّم الله تبارك وتعالى الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال: «إنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلّ لهم سواه رغبةً منه فيما حرّم عليهم، ولا زهداً فيما أحلّ لهم، ولكنّه خلق الخلق وعلم عزّوجلّ ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه؛ تفضّلاً منه عليهم به تبارك وتعالى لمصلحتهم، وعلم ما يضرّهم، فنهاهم عنه وحرّمه عليهم... ثمّ قال: أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلاّ ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوّته وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلاّ فجأة...»(1).

بتقريب: أنّ قوله(علیه السلام): «وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه» يدلّ على حرمة ما

ص: 235


1- الكافي 6: 242، ح 1

ذكرته الرواية من إضرار المحرّمات بالنفس كما لا يخفى، ومقتضى عموم العلّة: حرمة كلّ ما يؤدّي إلى الإضرار بالنفس.

وقد أجاب عنه سيدنا الأستاذ!: بأنّ المستفاد من ظاهر الرواية: أنّها في مقام بيان حكمة التشريع من تحريم المذكورات، وهي كونها مضرّة نوعاً، لا أنّ الضرر موضوع للتحريم فيها؛ وذلك:

أوّلاً: لأنّه لو كان الضرر علّة للتحريم يلزم حرمة الميتة من نفس هذه الرواية، فإنّ المذكور فيها هو ترتّب الضرر على إدمان أكل الميتة، فلو كان ذلك علّة للزم منه عدم حرمة الميتة مع عدم الإدمان؛ وذلك لترتّب الحرمة في الرواية على إدمانها، لا على أصل أكلها، ولا يلتزم بذلك فقيه.

ثانياً: أنّا نقطع بعدم كون الميتة بجميع أقسامها مضرّة للبدن، فلو ذبح حيوان على غير جهة القبلة، فهل يحتمل أن يكون أكله مضرّاً بالبدن مع التعمّد في ذبحه إلى غير جهة القبلة، وغير مضرّ مع عدم التعمّد في ذلك؟ أو يحتمل أن يكون مضرّاً في حال التمكّن من الاستقبال، وغير مضرّ في حال العجز عنه؟

ثالثاً: قد ورد في جملة من الروايات ترتّب أثر الضرر على أكل بعض الأشياء، كتناول الجبن في النهار، وإدمان أكل السمك، وأكل التفّاح الحامض، إلى غير ذلك، مع أنّه لم يقل أحد بحرمة أكلها.

رابعاً: لو كان الضرر علّة للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار الضرر، ولازم ذلك أن لا يحرم أكل قليل من الميتة بحيث نقطع بعدم ترتّب الضرر عليه،

ص: 236

وهذا خلاف الضرورة من الدين.

ومنها: رواية الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول عن الصادق(علیه السلام) بعد تقسيم ما أخرجته الأرض إلى ثلاثة أصناف، من قوله(علیه السلام): «كلّ شيء من الحبّ ممّا يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله، وكلّ شيء تكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه فحرام أكله، إلاّ في حال الضرورة»(1).

وكذلك في المستدرك عن دعائم الإسلام مثله.

وعن فقه الرضا(علیه السلام) أيضاً قريب منه.

وأجاب عنها أيضاً سيدنا الأستاذ!:

أوّلاً: أنّها ضعيفة الإسناد، لا يعتمد عليها.

وثانياً: أنّها ضعيفة الدلالة؛ وذلك لأنّها في صدد تقسيم الحبوب والثمار إلى قسمين: فما كان مضرّاً للإنسان بنوعه فهو حرام إلاّ في حال الضرورة كالتداوي، وما كان منها نافعاً للإنسان بنوعه فهو حلال، فتدلّ على أنّ المضرّة والمنفعة النوعية حكمة في الحرمة والحلّية، لا أنّهما تدوران مدار الضرر وجوداً وعدماً.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه لا دليل على حرمة الإضرار بالنفس

ص: 237


1- تحف العقول: 337

مطلقاً في غير ما يوجب التهلكة، أو تلف عضو من الأعضاء.

ومن ذلك ي-تّضح: صحّة الإتيان بالمستحبّات في حال كونها موجبة للضرر.

هذا ما ذكره سيدنا الأستاذ! (1)، وللكلام فيه مجال نرجئه إلى محلّه من مباحث الفقه.

التنبيه الثالث: شمول القاعدة للأحكام العدمية

لا إشكال في شمول حديث نفي الضرر للأحكام الوجودية، تكليفية كانت، أو وضعية.

وإنّما الكلام في شموله للأحكام العدمية، أي في الموارد التي يلزم الضرر فيها من عدم الحكم، وقد ذكرت لذلك جملة من الفروع:

منها: ضمان حابس الحرّ ظلماً حتى شردت دابّته، أو أبق عبده، أو طار طيره، فإنّ عدم حكم الشارع فيها بالضمان ضرر على المحبوس.

ومنها: ضمان منافع العبد المحبوس على الحابس.

ومنها: جواز تطليق الحاكم زوجة مَن لا يتمكّن من النفقة لفقره، أو لغيبته مع عدم صبر زوجته على هذه الحالة؛ فإنّ عدم الحكم بجواز طلاقها للحاكم الشرعي، أو لعدول المؤمنين ضرر عليها، فهل مقتضى حديث نفي الضرر جواز طلاقها للحاكم الشرعي، أو لعدول المؤمنين؟

ص: 238


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 638

الظاهر من جماعة من الأعلام - كالمحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله)، والسيد الأستاذ(رحمه الله)، وسيد المنتقى(رحمه الله) - عدم جريان حديث نفي الضرر في الأحكام العدمية.

وقد استدلّ عليه المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) بوجوه ثلاثة، بعضها يرجع إلى منع الكبرى، وبعضها يرجع إلى منع الصغرى.

أمّا ما يرجع إلى منع الكبرى، وهي أنّ دليل لا ضرر حاكم على الأحكام العدمية فنقول:

أوّلاً: أنّ قاعدة «لا ضرر» ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات، فيكون شأن القاعدة هو: نفي الأحكام المجعولة التي نشأ منها الضرر، وعدم الحكم ونحوه من الأمور العدمية، وليس من الأحكام المجعولة من قبل الشارع.

ودعوى: أنّ عدم الحكم في بعض الموارد وإن لم يستند إلى الشارع حدوثاً إلاّ إنّه بحسب البقاء مستند إليه، غير مسموعة؛ لإمكان أن تناله يد الجعل، بأن يرفعه الشارع أو يبقيه على حاله، فإذا أبقاه على حاله صحّ إسناده إليه، فإنّ صحّة إسناد هذا العدم إلى الشارع إنّما هو بالمسامحة والعناية، وأمّا حقيقة فلا يقال: إنّه مجعول للشارع، لا إثباتاً ولا نفياً، حتى يعدّ من الأحكام الشرعية التي يكون الحديث ناظراً إليها.

ثانياً: لو سلّمنا صحّة إسناد العدم إلى الشارع، بأن يقال: كان للشارع أن يحكم، إمّا بالضمان، أو بعدم الضمان، فإذا لم يحكم فعدم الحكم أيضاً من

ص: 239

أحكامه، فيلزم أن لا يكون هذا الضرر مرفوعاً إلاّ إذا كان معنى حديث نفي الضرر هو: أنّ الضرر غير المتدارك ليس مجعولاً، وهذا المعنى يرجع إلى الوجه الرابع الذي اختاره الفاضل التوني، والذي هو من أردأ الوجوه، ولا تصل النوبة إليه إلاّ بعد تعذّر المحتملات الأخرى، ولو التزمنا بهذا فلا معنى لحكومته على الأحكام الثابتة؛ لأنّه لا جامع بين هذا المعنى والمعنى الأوّل الذي اخترناه، وهو نفي الحكم الضرري.

وأمّا ما يرجع إلى منع الصغرى - وهي تطبيق القاعدة على الأمثلة المذكورة - فإنّه يلزم من القول بجريان القاعدة فيها تأسيس فقه جديد؛ لأنّه لو وجب تدارك كلّ ضررٍ، فلو كان هناك إنسان صار سبباً له فالضمان عليه، وإلاّ فمن من بيت المال، ويلزم كون أمر الطلاق بيد الزوجة فيما لو كان بقاؤها على الزوجية مضرّاً بها، كما إذا غاب عنها زوجها، أو لم ينفق عليها لفقر أو عصيان، ونحو ذلك، وكالعبد الواقع تحت الشدّة، ولكان مقتضاها رفع بقاء علاقة الزوجية وعلاقة الرقّية، والمفروض أنّهم لا يلتزمون بذلك، بل يجعلون طلاق الحاكم بمنزلة طلاق الزوج، وهذا مرجعه إلى إثبات الحكم بالقاعدة، ولازمه أن يتدارك ضرر كلّ متضرّر، إمّا من بيت المال، أو من غيره، وهذا فقه جديد(1).

وأجيب عن الوجوه الثلاثة:

ص: 240


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 418 - 421

أمّا عن الوجه الأوّل؛ فبما ذكره سيدنا الأستاذ!: من أنّ عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل جعلٌ لعدم ذلك الحكم، فيكون العدم مجعولاً، لا سيّما بملاحظة ما ورد من أنّ الله سبحانه لم يترك شيئاً بلا حكم(1)، فحينئذٍ عدم حكم الشارع بالضمان في المقام حكم بعدم التكليف(2).

وأمّا عن الوجه الثاني؛ فبما ذكره سيد المنتقى(رحمه الله): بأنّ المستهجن هو أن يكون مفهوم الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك بهذا المفهوم، وأمّا أن يكون المفهوم نفي الحكم الضرري الذي يتّفق في النتيجة والأثر في بعض الأحيان مع نفي الضرر غير المتدارك لإثبات التدارك في بعض الموارد فهذا ممّا لا استهجان فيه أصلاً، والذي يلزم من تعميم الحديث وشموله للأحكام العدمية هو ذلك، لا أنّ معنى الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك(3).

وأمّا عن الوجه الثالث - وهو منع الصغرى - فقد أجيب عنه:

أمّا في الموردين الأوّلين - من ضمان حابس الحرّ ظلماً حتى شردت دابّته، أو أبق عبده، أو طار طيره، ومن ضمان منافع العبد إذا كان كسوباً - فإنهما يندرجان في الضرر المالي، والعقلاء يرون ذلك إتلافاً للمال، فثبوت الضمان إنّما هو من باب قاعدة الإتلاف الممضاة من قبل الشارع، ولا يبتني على

ص: 241


1- انظر: وسائل الشيعة 27: 52، ح38
2- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 649
3- منتقى الأصول 5: 451 - 452

حديث نفي الضرر؛ لأنّه ينفي الضرر المستند إلى الشارع، وأمّا الضرر غير المستند إلى الشارع فلا يدلّ الحديث على نفيه حتى يلزم منه فقه جديد.

وأمّا في المورد الثالث - وهو طلاق المرأة - فقد التزم جمع من الفقهاء بثبوت ذلك للحاكم الشرعي، كالسيد الطباطبائي في ملحقات العروة؛ تمسّكاً بقاعدة «لا ضرر»، و «لا حرج»، مضافاً إلى الروايات الخاصّة، وكالعلامة في المختلف في بحث اعتباره اليسار في الأكفاء؛ حيث قال: نعم، أثبتنا لها الخيار؛ دفعاً للضرر عنها، ورفعاً للمشقّة اللاحقة بها بسبب احتياجها مع فقره إلى مؤونة يعجز عنها، ولا يمكنها التزوّج بغيره، فلو لم يجعل لها الخيار كان ذلك من أعظم الضرر عليها، وهو منفي إجماعاً(1).

ونقل العلاّمة أيضاً عن ابن الجنيد القول بالخيار؛ للزوم الضرر، ولروايةٍ عن الصادق(علیه السلام)، وقد ذكر المحدّث البحراني! ميل السيد السند في شرح النافع إلى ما نقل عن ابن الجنيد، كما نقل التوقّف أيضاً عن ظاهر الشهيد الثاني في المسالك.

فظهر من مجموع هذه الكلمات: أنّ دعوى لزوم فقه جديد غير مسموعة.

ولكن حيث إنّ الكتاب والروايات في هذا الباب دالّة على أنّ وظيفة الزوج أحد أمرين: إمّا الإمساك بالمعروف، وإمّا تسريح بإحسان، وأنّ العلقة الزوجية لا تزول بفسخ الزوجة، وإنّما بيد الزوج؛ لقوله(علیه السلام): «الطلاق لمن أخذ

ص: 242


1- مختلف الشيعة 7: 299

بالساق»(1).

نعم، إذا امتنع عن الطلاق في هذه الحالة بعد مراجعة الحاكم الشرعي فحينئذٍ يكون هو ولي الممتنع، فيتصدّى لطلاق المرأة، فالضمان من هذه الجهة، لا من جهة حديث «لا ضرر».

وقد ذكر المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) - لعدم شمول حديث نفي الضرر للأحكام العدمية - وجهاً رابعاً، وهو: أنّ حديث نفي الضرر - كما تقدّم - لا يشمل الأحكام الواردة مورد الضرر، كالضمان والحدود والديّات، وبما أنّ الحكم العدمي في مورده ضرري كعدم الضمان فإنّه ضرري على الحرّ المفوّت عمله، ولم يثبت بإطلاق دليل كي تكون له حالتان، بل ثبت بالإمضاء الثابت في كلّ مورد بخصوصه، فهو ثابت في مورد الضرر رأساً(2).

وأجيب عنه أيضاً: بأنّ ما تقدّم - من عدم شمول الحديث - إنّما هو فيما إذا كان المورد قد حكم فيه الشارع بعنوان الضرر، كالقصاص، أو إعطاء الزكاة، وأمّا إذا لم يكن الحكم ضررياً بل مورده ضرري كما في العدميات فهو خارج عن عموم حديث نفي الضرر تخصيصاً، لا تخصّصاً، وفي كلّ موردٍ يشكّ أو يتوهّم مثل ذلك الحكم فلابدّ من الرجوع إلى عموم حديث نفي الضرر كما هو الحال في مورد الشكّ في التخصيص.

وقد ذكر سيد المنتقى(رحمه الله) وجهاً خامساً، وهو: أنّ استناد الضرر إنّما يتحقّق

ص: 243


1- عوالي اللئالي 1: 234، ح137
2- انظر: نهاية الدراية 4: 252 و 456 - 457

بالتسبيب إليه وإيجاد ما يستلزمه، وأمّا عدم إيجاد المانع عن الضرر فهو لا يحقّق إسناد الضرر، فمثلاً: إذا فعل شخص ما يستلزم ورود الضرر على آخر، استند إضراره إليه، وأمّا إذا رأى ضرراً متوجّهاً إلى الآخر وكان متمكّناً من دفعه فلم يدفعه، فلا يستند الضرر إليه أصلاً، وبناءً على ذلك إذا كان المنفي بالحديث هو الضرر المستند إلى الشارع، فحينئذٍ يختصّ النفي بما إذا كان مترتّباً على الحكم الوجودي، فإنّه يصحّ معه إسناد الضرر إلى الشارع، وأمّا المترتّب على عدم الحكم - بحيث كان الشارع متمكّناً من جعل الحكم الوجودي المانع عنه، فلا يستند إليه - فلا يتكفّل الحديث رفعه(1).

ويمكن المناقشة فيه، بأن يقال: إنّ هذا الوجه إنّما يتمّ فيمن لم يكن من شأنه الحكم في كلّ واقعة، وأمّا مَن كان الحكم وعدمه من شؤونه ومختصّاته بحيث لا يحقّ لغيره التشريع في الوقائع، فحينئذٍ لو وقع المكلّف في الضرر لعدم حكمه صحّ حينئذٍ إسناد الضرر إليه.

والحاصل: أنّه يظهر من حديث نفي الضرر شموله للأحكام العدمية؛ وذلك لعدم تمامية الوجوه الخمسة المانعة عن الشمول، وإن توقّف في ذلك الشيخ الأنصاري!؛ حيث قال: وأمّا الأحكام العدمية الضررية ففي نفيها بهذه القاعدة إشكال(2)، فلاحظ.

ص: 244


1- انظر: منتقى الأصول 5: 452
2- رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية - تراث الشيخ الأعظم) 23: 118

التنبيه الرابع: هل المنفي هو الضرر المعلوم أو الواقعي؟

الظاهر: أنّ المراد من الضرر المنفي في الحديث هو الضرر الواقعي، فلا دخل للعلم والجهل فيه، كما هو مقتضى كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية دون المعاني المعلومة، ولكن يظهر من الفقهاء أنّهم أفتوا في بعض الفروع على خلاف ذلك؛ حيث إنّهم لم يعتمدوا على الضرر الواقعي على الرغم من وجوده، وهذه الفروع هي:

الأوّل: في الوضوء، فقد اشترطوا علم المكلّف بكون الوضوء ضررياً في جريان دليل نفي الضرر، فلو توضّأ وهو يعتقد بعدم ضرره ثمّ تبيّن ضرر الوضوء كان وضوؤه صحيحاً.

الثاني: في الصوم، فقد اشترطوا أيضاً علم المكلّف بكونه ضررياً في جريان دليل نفي الضرر، فلو صام معتقداً بعدم ضرره ثمّ انكشف الخلاف كان صومه صحيحاً.

الثالث: في خيار الغبن، فإنّهم قيّدوه بجهل المغبون؛ لجريان دليل نفي الضرر، فلو علم بالغبن لم يثبت الخيار.

الرابع: في خيار العيب، فإنّهم قيّدوه أيضاً بجهل المشتري؛ لجريان دليل نفي الضرر، فلو علم بالعيب لم يثبت الخيار.

هذا، ولم يعتبروا في بعض الموارد: العلم والجهل؛ لجريان نفي الضرر:

منها: لو حفر شخص بئراً في داره واستلزم ذلك ضرر الجار، فيكون حينئذٍ

ص: 245

ضامناً، سواء كان عالماً بذلك، أم جاهلاً.

وكذلك في قضية استطراق سمرة وتضرّر الأنصاري، فإنّهم لم يعتبروا فيها العلم وعدمه.

ومن هنا تصدّى غير واحد من الأعلام لدفع إشكال اعتبار العلم بالضرر في الوضوء والصوم، واعتبار الجهل في مورد خيار الغبن والعيب، وعدم اعتبار العلم ولا الجهل في الموارد الأخرى:

منهم: المحقّق الميرزا النائيني!، فقد ذكر وجهين في الجواب عن الوضوء والصوم:

الأوّل: أنّ مقتضى كون الحديث مسوقاً للامتنان هو نفيه للضرر المعلوم في مثل الوضوء والصوم، وإلاّ لزم إعادتهما على مَن تضرّر بهما ولو لم يعلم بالضرر، وهذا خلاف الامتنان.

الثاني: يعتبر في المنفي بدليل نفي الضرر أن يكون الحكم الشرعي هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر من جهة إطلاق الحكم الشرعي، وأمّا إذا كان من قبيل المقدّمات الإعدادية، فلا يكون مشمولاً لدليل نفي الضرر، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ ليس الضرر مستنداً إلى الحكم الشرعي، بل مرجعه إلى جهل المكلّف واعتقاده عدم تضرّره.

وبعبارة أخرى: الحكم الفعلي على المتضرّر العالم بالضرر موجب للضرر، وأمّا الحكم الواقعي - الذي لا يتفاوت وجوده وعدمه في إقدام المكلّف على هذا الفرد - فليس هو الجزء الأخير من العلّة للضرر. نعم، لو كان المراد من

ص: 246

الحديث: أنّ الفرد الضرري لا حكم له، فالتقييد بالضرر المعلوم لا وجه له، وأمّا بناءً على كون المنفي هو الحكم الضرري - كما هو الصحيح؛ لأنّ الضرر بمعنى نفي العلة (الحكم) الملازم لنفي المعلول (الضرر) هو المستفاد من الحديث - فلابدّ وأن يكون الحكم الضرري منفياً، وهذا غير متحقّق في المقام؛ فإنّ مع نفي الحكم لا ينتفي المعلول، بل يقع في الضرر، لعدم علمه به، فمقتضى ما ذكرنا أنّه يعتبر فيه أمران: الضرر الواقعي، والعلم به، فإن انتفى العلم فلا يوجب البطلان، كما أنّه لو اعتقد الضرر ولم يكن ضرر في الواقع وصلّى متيمّماً أعاد صلاته.

وأجاب! عن مسألتي خيار الغبن والعيب: بأنّ منشأ تقييدهم ثبوت الخيار للمغبون بالجهل هو تخلّف الشرط الضمني الذي هو عبارة عن اشتراط تساوي المالين في المالية إلاّ بمقدار يسير يتسامح فيه، فإذا كانت المعاملة غبنية، فمضافاً إلى أنّها توجب الخيار من جهة تخلّف الشرط يصحّ الاستدلال على عدم لزومها بأدلّة نفي الضرر أيضاً؛ لأنّ فقد الشرط الضمني ضرر على مَن له الشرط؛ فإنّ الضرر عبارة عن نقص ما كان المتضرّر واجداً له، وعلى هذا: فلو أقدم على الغبن، فمرجعه إلى عدم اشتراط التساوي في المالية، فإذا لم يكن مشترطاً له فلا يكون متضرّراً؛ لأنّ مرجع المعاملة إلى الإقدام بها على أيّ وجه اتّفق، وما ذكرناه هنا يجري في خيار العيب أيضاً(1).

ص: 247


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 410 - 413

ولكنّ التحقيق في هذه المسائل يقع في مقامين:

الأوّل: في مسألتي الوضوء والصوم.

الثاني: في مسألتي خيار الغبن والعيب.

أمّا المقام الأوّل؛ ففي مسألة الوضوء توجد فروع ثلاثة:

الفرع الأوّل: إذا توضّأ أو اغتسل المكلّف باعتقاد عدم الضرر ثمّ انكشف وجوده.

الفرع الثاني: إذا توضّأ أو اغتسل مع اعتقاد الضرر.

الفرع الثالث: إذا اعتقد الضرر أو خوفه فتيمّم وصلّى ثمّ انكشف الخلاف وعدم الضرر(1).

وإذا أردنا البحث في هذه الفروع الثلاثة بنحو التفصيل لخرجنا عمّا نحن بصدد إثباته، فلذا نحيله إلى باب الفقه، إلاّ إنّه لا بأس بالتعرّض إلى حكمها بنحو الاختصار والإجمال، فنقول:

أمّا الفرع الأوّل، وهو لو توضّأ أو اغتسل جاهلاً بالضرر ثمّ انكشف وجوده، فهذا الفرع وإن لم يتعرّض له القدماء من الأصحاب في كلماتهم، إلاّ إنّ المتأخّرين قد ذكروه في باب مسوّغات التيمّم، كما صنع السيد الفقيه الطباطبائي صاحب العروة، واستظهر صحّة الوضوء والغسل، واحتاط بالإعادة، ولم نرَ من المحشّين من الأعلام مَن علّق على هذا الحكم، ممّا يدلّ على أنّه

ص: 248


1- انظر: العروة الوثقى 2: 171

موضع وفاق بين المتأخّرين، وإن احتاط بعضهم بالإعادة، إلاّ إنّ الفتوى على الصحّة. نعم، وقع الكلام في وجه ذلك، مع أنّ المنفي في القاعدة هو الضرر الواقعي، وقد ذكر أنّ عمدة الدليل على ذلك أمران:

الأوّل: ما أشار إليه المحقّق الميرزا النائيني! من التمسّك بامتنانية دليل«لا ضرر»، وقد قرّر ذلك في كلماتهم بوجوه أربعة:

الوجه الأوّل: ما نسب إلى السيد الفقيه الطباطبائي في العروة: بأنّ دليل نفي الضرر ورد للامتنان على الأمّة، ومقتضى الامتنان هو دفع مجرّد الكلفة والإلزام والوجوب دون أصل الرجحان والمشروعية والمحبوبية، وعلى هذا فالجواز باقٍ على حاله، فيكفي ذلك في صحّة الوضوء من دون إعادة الوضوء أو الغسل؛ ضرورة أنّ الحكم ببطلانهما وإيجاب التيمّم عليه وإعادة الصلاة خلاف الامتنان.

وقد أشكل عليه المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله): بأنّ هذا مبنيّ على كون الوجوب مركّباً من الطلب والإلزام، وأمّا بناءً على كونه بسيطاً، وهو الطلب الشديد، وأنّ مجعول الشارع ليس إلاّ جعل واعتبار الحكم في ذمّة المكلّف مع إبراز ذلك، وأمّا الإلزام فمستفاد من إدراك العقل المستقلّ بوجوب الطاعة على العبد وبعثه نحوه ما لم يرخّص المولى في ذلك، فإذا رخّص فهذا معناه رفع ذلك الاعتبار عن ذمّة المكلف، فحينئذٍ لا يبقى في البين شيء حتى يتوهّم بقاؤه، فيحتاج إثبات أصل المطلوبية والأمر إلى دليلٍ، ولا يقاس باب التكليف على الخيار؛ لكون العقد فيه مشتملاً على أمرين معاً هما الصحّة واللزوم، وكلّ

ص: 249

منهما ثابت بخطابٍ يخصّه، وملاك يختصّ به، فإذا رفع اللزوم فلا وجه لرفع الصحّة، خلافاً لباب التكليف(1).

الوجه الثاني: ما يظهر من صاحب المستمسك: بأنّ دليل نفي الضرر إنّما ينفي الإلزام دون الملاك، ومعه يتّصف الوضوء والغسل بالصحّة؛ وذلك لأنّ الأدلّة الدالّّة على وجوب الوضوء والغسل لها دلالتان: مطابقية وهي كونهما مأموراً بهما، ودلالة التزامية وهي كونهما ذا ملاك كما هو مقتضى تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فإذا علمنا بسقوط الدلالة المطابقية عن الحجّية بأدلّة نفي الضرر لدلالتها على نفي الوجوب والإلزام، فلا وجه لسقوط الدلالة الالتزامية، بل تبقى على حالها وحجّيتها، فتدلّ على اشتمال الفعل على الملاك(2).

وبتعبير آخر: أنّ نفس كون الحكم امتنانياً يقتضي وجود الملاك، وإلاّ لو لم يكن المقتضي للحكم باقياً لما كان الحكم امتنانياً، ولكان مرفوعاً من أصله.

وأجاب عنه غير واحدٍ من الأعلام - كالمحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) والسيد الأستاذ! - بأنّ ما ذكر من دلالة أدلّة وجوب الوضوء والغسل التزاماً بثبوت الملاك، وإن كان صحيحاً، إلاّ إنّها تتّبع الدلالة المطابقية في الحجّية بقاءً كما كانت تابعة لها ثبوتاً وحدوثاً، ولا تنفكّ عنها في الحجّية، فلو قامت البيّنة على ملاقاة شيء من النجاسات للماء، أو على كون مال ملكاً لزيد، فمدلولها

ص: 250


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 412
2- انظر: مستمسك العروة الوثقى 4: 204

المطابقي هو الملاقاة، وملكية المال لزيد، ومدلولها الالتزامي نجاسة الماء، وعدم ملكية المال لعمرو، فلو سقطت البيّنة عن الحجّية في مدلولها المطابقي؛ للعلم بعدم الملاقاة، أو لاعتراف زيد بنفي المال عن ملكه، فلا يمكننا الحكم بنجاسة الماء، أو عدم كون المال لعمرو، بدعوى ثبوتها بالدلالة الالتزامية، وكذلك بعد رفع الإلزام والأمر بالوضوء بدليل نفي الضرر لا يمكننا الحكم بثبوت الملاك؛ لأنّ الدالّ عليه وجود الإلزام والأمر، والفرض أنّه مرفوع بدليل نفي الضرر، فحينئذٍ لا نعلم بوجوده وبقائه(1).

الوجه الثالث: ما يظهر من المستمسك أيضاً: أنّ مقتضى الامتنان أن يكون دليل نفي الضرر دالاًّ على الترخيص حتى وإن قلنا ببساطة الوجوب؛ وذلك لأنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب إنّما هو بالترخيص وعدمه، فإذا تحقّق طلب من المولى وإن كان ضعيفاً فإنّ ذلك يوجب حكم العقل بموافقته ما لم يرد ترخيص من قبل المولى في مخالفته، وحينئذٍ لا ترفع أدلّة نفي الضرر شيئاً من الطلب، ولا مرتبة منه، بل تكون بمنزلة الترخيص المقترن بالطلب، فيكون الطلب حينئذٍ باقياً على حاله بلا نقص فيه أصلاً، فيصحّ التقرّب به وإن لم نقل بصحّة التقرّب بالملاك(2).

ويجاب عنه بما يظهر من المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله): بأنّ مقتضى حكومة

ص: 251


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 412؛ التنقيح (موسوعة الإمام الخوئي) 10: 118
2- انظر: مستمسك العروة الوثقى 4: 205

دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوّلية هو التخصيص بلسان الحكومة، وخروج الفرد الضرري عن عموم أدلّة الأحكام الأوّلية، فيكون حكمها حكم التخصيص، فتكشف الحكومة حينئذٍ عن عدم شمول العام للفرد الضرري لخروجه عنها، لعدم بقاء الطلب بحاله فيه، كما لا تكون أدلّة نفي الضرر بمنزلة الترخيص في هذا الفرد، بل هو خارج عن العام أساساً(1).

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الأستاذ!: من أنّ مقتضى امتنانية قاعدة «لا ضرر» اختصاصها بالأحكام الإلزامية؛ لما في رفعها من امتنان على الأمّة، ولا تشمل الأحكام الترخيصية؛ لكون المكلّف غير ملزم في الإتيان بها، فلا يكون رفعها منّة عليه.

إذا تبيّن ذلك يقال: إنّ للطهارات الثلاث حيثيتين:

الأولى: كونها قيداً للواجبات المشروطة بالطهارة، وهو مورد الإلزام من هذه الجهة؛ لكونها شرطاً في الواجب، فلا مانع من الحكم بسقوطها عن القيدية بأدلّة نفي الضرر؛ لأنّه في رفعها منّة على العباد، فيحكم ببركتها بعدم تقييد الواجب بها.

الثانية: كونها مستحبّة في نفسها، فمن هذه الجهة لا معنى لكون قاعدة «لا ضرر» حاكمة على هذه الأدلّة؛ لما تقدّم من عدم شمولها للأحكام الترخيصية، ومن هذه الجهة يكون الوضوء أو الغسل باقياً على استحبابه، فإذا أتى المكلّف

ص: 252


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 412

بهما وقعا مستحبّاً، فلو صلّى معهما وقعت صلاته صحيحة؛ لكونها واجدة لشرط الطهور(1).

ولعلّ الوجه الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) - من كون دليل لا ضرر امتنانياً، ولا يوجب إعادة الصلاة؛ لأنّها كلفة - ناظر إلى هذا الوجه.

أقول: إنّ صحّة هذه الوجوه كلّها مبنيّة على أمرين:

الأوّل: القول بأنّ حديث «لا ضرر» وارد في مقام الامتنان، فحينئذٍ يمكن التمسّك بهذه الوجوه الأربعة المتقدّمة، وأمّا بناءً على إنكار امتنانية الحديث - كما تقدّم ذلك - فلا تتمّ جميع هذه الوجوه.

الثاني: أنّ الوجه الرابع من هذه الوجوه بخصوصه يبتني على إنكار حكومة حديث «لا ضرر» للأدلّة الترخيصية، ولكن بناءً على عدم الفرق في شمول الحديث للأحكام الإلزامية والترخيصية، وأنّ المنفي فيها هو كلّ ما أوجب ضرراً على المكلّف، أعمّ من كونه حكماً إلزامياً أم ترخيصياً كما تقدّم ذلك، فلا يتمّ هذا الوجه أيضاً.

والحاصل: أنّ الأقوى من بين هذه الوجوه هو الثاني والرابع، وصحّتهما متوقّفة على الأمرين المتقدّمين، ومع إنكارهما لا يتمّ منهما شيء، وحينئذٍ يكون الإشكال مبنائياً، وعلى كلّ حالٍ: لا يهمّنا تحقيق هذه الوجوه الآنفة الذكر والتعرّض لما يرد عليها من إيرادات ونقوض وما يمكن أنّ يقال في

ص: 253


1- انظر: التنقيح (موسوعة الإمام الخوئي) 10: 118 - 119

الجواب عنها بعدما عرفت من كون الإشكال فيها مبنائياً.

والمتحصّل: على ما بنينا عليه تصبح جميع هذه الوجوه غير تامّة.

ومع ذلك فقد اعتبروا في صحّة الوضوء أمرين آخرين لتمامية هذه الوجوه المتقدّمة:

الأمر الأوّل: أن يكون لأدلّة الوضوء إطلاق شامل لحال الضرر وغيره حتى يقال: إنّ قاعدة «لا ضرر» تنفي الحكم الضرري، فحينئذٍ يمكن التمسّك بأصل الجواز أو بالملاك أو غيرها من الوجوه للحكم بالصحّة أو استحبابه، وأمّا إذا لم يكن لأدلّة الوضوء إطلاق شامل لحال الضرر، فلا يبقى موضوع لهذه الوجوه؛ لأنّ قاعدة لا ضرر إنّما تكون حاكمة ورافعة لأدلّة الأحكام الأوّلية فيما لو ثبت هناك إطلاق أو عموم لأدلّة الوضوء، وإلاّ فلا دليل على صحّة الوضوء في حال الضرر؛ وذلك لعدم ثبوت المقتضي، والفرض أنّ الإطلاق مفقود في البين؛ وذلك لأنّ الظاهر من الآية الشريفة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْ-مَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}(1)، هو أنّه سبحانه وتعالى قسّم العباد والمكلّفين إلى

ص: 254


1- المائدة: 6

قسمين: الأوّل الواجدين للماء والمتمكّنين منه، الثاني الفاقدين للماء وغير المتمكّنين منه من جهة المرض أو عدم وجدان الماء واقعاً، فحكم بأنّ وظيفة القسم الأوّل وجوب الوضوء، ولا يسوغ له التيمّم في هذه الحالة، كما حكم بوجوب التيمّم في القسم الثاني، ولا يسوغ له الوضوء كما هو مقتضى التفصيل القاطع للشركة.

فبناءً على ذلك: إذا قلنا بأنّ المراد بالواجد هو المتمكّن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً وعادةً، كما أنّ المراد من الثاني هو غير المتمكّن من استعمال الماء واقعاً أو شرعاً وعادةً، فحينئذٍ إذا صدق على الضرر الناشئ من استعمال الماء - سواء كان واقعياً أم معلوماً - عنوان عدم التمكّن من استعمال الماء، فلا يشرع الوضوء في حقّه؛ لعدم تحقّق موضوعه، فلا معنى حينئذٍ للقول بحكومة دليل نفي الضرر والقول برفع الموضوع لكونه ضررياً، بل هو مرفوع ابتداءً وغير شامل لهذا الفرد، وبناءً على هذا لا تتمّ جميع الوجوه المتقدّمة.

وأمّا إذا صدق عليه عنوان التمكّن من استعمال الماء، فحينئذٍ يشرع في حقّه الوضوء، ولا مجال لنفيه بأدلّة نفي الضرر وإثبات وجوب التيمّم؛ لأنّ عنوان الواجد للماء موضوع للوضوء، وليس موضوعاً للتيمّم.

ولكن من الواضح: أنّ هذا الشرط إنّما يتوقّف عليه صحّة الوجه الثاني وهو التمسّك بالملاك، فإنّه مع عدم الإطلاق لا يبقى مجال للقاعدة، وأمّا بناءً على الوجه الرابع - وهو التمسّك في صحّة الوضوء باستحبابه النفسي - فلا يتوقّف على اعتبار وجود الإطلاق في الآية كما لا يخفى.

ص: 255

الأمر الثاني: أن لا يكون الضرر على النفس محرّماً بنحو الإطلاق، وأمّا على القول بحرمة الإضرار بالنفس مطلقاً - سواء أوجب هلاك النفس أو إتلاف أحد الأعضاء وتعطيلها أو لا - فحينئذٍ يشكل التمسّك بالملاك أو بالاستحباب النفسي؛ وذلك لعدم صلاحية التقرّب بما هو مصداق للحرام، فكيف يمكن عندئذٍ التقرّب بما هو مبغوض إلى المولى عزّوجلّ؟ وهذا الشرط إنّما يصحّ في الجملة، وهو فيما إذا كان موجباً للضرر المحرّم كالتهلكة وإتلاف أحد الأعضاء، وأمّا مطلق الضرر فهو مبنيّ على القول بالحرمة، وهو محلّ إشكال عند جماعة من الأعلام كما تقدّم بحثه مفصّلاً.

والحاصل: أنّ هذين الأمرين لا يوجبان أيضاً القول ببطلان الوضوء ورفع اليد عن صحّته، ولكن على ما بنينا عليه - من عدم امتنانية القاعدة وشمولها للأحكام الترخيصية - لا يبقى مجال للتمسّك بهذه الوجوه للحكم بصحّة الوضوء.

نعم، هناك وجه آخر يمكن الاستناد إليه للحكم بصحّة الوضوء الضرري في حال الجهل، وهو أن يقال: من المعلوم أنّ الآية الشريفة قد قسّمت المكلّف إلى قسمين: الأوّل الواجد للماء والمتمكّن من استعماله، فحكمت بأنّ وظيفته الوضوء، الثاني الفاقد للماء وغير المتمكّن من استعماله، فحكمت بأنّ وظيفته التيمّم، وعلى هذا فمن يعتقد بعدم كون الوضوء ضررياً في حقّه لا يصدق عليه عرفاً عنوان عدم التمكّن وعدم الوجدان، فيندرج حينئذٍ في القسم الأوّل ممّن تكون وظيفته الوضوء، وبذلك يحكم بصحّة وضوئه بلا حاجة في ذلك

ص: 256

للقول بوجود الملاك أو القول بامتنانية القاعدة أو غيرها من الوجوه المذكورة لتصحيح الوضوء، كما أنّه لو اعتقد الضرر مع وجوده واقعاً يصدق عليه عرفاً بأنّه غير متمكّن وغير واجد للماء، فيندرج حينئذٍ في القسم الثاني، وبذلك يحكم بصحّة تيمّمه، وعلى ذلك فلا يتوقّف الحكم بالصحّة في كلا الفرعين على قاعدة «لا ضرر»، بل غير مرتبط بها.

وأمّا ما ذكره المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) وحاصله: في مورد الضرر الواقعي ليس الموجب للضرر الحكم الشرعي، بل الموجب له فعله وجهله، بل لا فائدة في رفع الحكم عنه، ولا منّة؛ لأنّه لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع هذا في الضرر لجهله واعتقاده عدم تضرره - فغير مفيد في المقام؛ لأنّه إنّما يتمّ بناءً على المسلك الأوّل، وهو أن يكون المنفي ابتداءً في حديث «لا ضرر» هو الحكم الضرري، وأمّا بناءً على المسلك الثاني، وهو كون المنفي فيه الموضوع الضرري، فحينئذٍ لا فرق في كون الموضوع ضررياً حال العلم أو الجهل به، فالفرد الضرري مرفوع حكمه بالقاعدة.

والمتحصّل: أنّ الوجه في القول بصحّة الوضوء هو ما ذكرناه.

وأمّا الفرع الثاني - وهو إذا تحمّل الضرر وتوضّأ أو اغتسل مع اعتقاده بالضرر - فهل يحكم بصحّة وضوئه أو غسله أم ببطلانه؟

فيه أقوال ثلاثة:

الأوّل: ما يستفاد من صاحب العروة وأكثر المحشّين من القول بالبطلان.

ص: 257

الثاني: ما يظهر من السيد الشيرازي! والسيد الأستاذ! من القول بالصحّة إذا لم يكن الوضوء موجباً للتهلكة أو لنقص في أحد الأعضاء(1).

ولكنّ هذا في خصوص الطهارات من الوضوء والغسل، وأمّا في سائر العبادات وأجزائها - كالقيام والسجود وأمثالها - فيحكم بالفساد.

الثالث: ما ذكره صاحب العروة - وقد اختاره جماعة - من القول بالتفصيل بين العلم بالضرر فلا يصحّ، وبين العلم بالحرج والمشقّة فيصحّ، وإن كان يجوز معه التيمّم؛ وذلك لأنّ نفي الحرج من باب الرخصة لا من باب العزيمة، إلاّ إنّ المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) قد ذهب إلى بطلانهما(2).

وقد أفاد السيد الأستاذ! في وجه الحكم بالصحّة في القول الثاني بأنّ الطهارات حيث إنّها مستحبّات نفسية فهي من هذه الجهة لا تشملها أدلّة نفي الضرر والحرج؛ لكونها من الأحكام الترخيصية، والضرر في موردها مستند إلى اختيار المكلّف وإرادته، لا إلى الشارع، فهي إذن باقية على استحبابها في موارد الضرر والحرج، فيصحّ حينئذٍ الإتيان بالوضوء أو الغسل بقصد الاستحباب النفسي، وتتحقّق له الطهارة من الحدث، وبعد حصولها يحكم بصحّة الصلاة الواقعة معها؛ لكونها واجدة لشرطها، أي الطهارة، ولكنّ هذا الوجه لا يتأتّى في غير الطهارة من سائر أجزاء العبادات كالقيام حال القراءة

ص: 258


1- انظر: العروة الوثقى 2: 171
2- العروة الوثقى 2: 171

فيما لو كان ضررياً أو حرجياً؛ فإنّه تجب الصلاة جالساً، فلو قام في الصلاة مع العلم بالضرر أو الحرج نحكم ببطلان الصلاة في كلا المقامين، وإن لم نقل بحرمة الإضرار بالنفس؛ وذلك لأنّ عدم الأمر كافٍ في الحكم بالبطلان، ولا فرق بين الضرر والحرج؛ لأنّه معها يكون الحكم منفياً ومرفوعاً عنه، ومع عدم الأمر لا يبقى مقتضٍ للصحّة، ووجود الملاك غير محرز أيضاً؛ لأنّه لا سبيل لإحرازه إلاّ من جهة الأمر، والفرض أنّه منفيّ بأدلّة «لا ضرر»، أو «لا حرج»، فكيف يحرز الملاك حينئذ؟

ولازم هذا القول: أنّ الأجزاء التي تكون مستحبّة في نفسها - كالركوع والسجود أو القراءة أو الأذكار - حكمها أيضاً حكم الوضوء والغسل، فلو قصد المكلّف أمرها الاستحبابي حال كونها ضررية أو حرجيّة لوقعت مستحبّة، وبذلك يحكم بصحّة الصلاة(1).

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا يتمّ بناءً على عدم شمول قاعدة «لا ضرر» للأحكام الترخيصية، وأمّا بناءً على شمولها فلا يمكن التعويل على هذا الوجه في الحكم بصحّة الوضوء أو الغسل، وقد ذكرنا عدم تماميته.

ثانياً: على فرض كون قاعدة «لا ضرر» امتنانية على تفسيرهم، وكذلك قاعدة «لا حرج»، فمقتضى الامتنان أنّ المنفي والمرفوع هو الحكم من باب

ص: 259


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 641

التسهيل والتخفيف مع بقاء الملاك على حاله، وهو - أي الامتنان - بنفسه كاشف عن وجود الملاك وبقائه، وإلاّ لما كان نفي الحكم ورفعه امتنانياً، بل كان من باب عدم المقتضي، وعلى هذا لا فرق حينئذٍ بين الطهارات وغيرها من سائر أجزاء العبادات، وعلى ذلك فلابدّ من الحكم بالصحّة في جميع هذه الموارد، سواء كان موجباً للضرر أو الحرج.

وأمّا وجه الحكم بالفساد في كلا الموردين - كما هو قول المحقّق الميرزا النائيني - فقد أفاد! في ذلك بوجهين:

الأوّل: أنّ مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلّة الوضوء والغسل، وعدم ثبوت الملاك له؛ لعدم وجود كاشف له، ولا معنى لاحتمال الرخصة في المقام؛ فإنّ التخصيص بلسان الحكومة كاشف عن عدم شمول العامّ للفرد الخارج، ولا معنى لرفع اللزوم دون الجواز؛ فإنّ الحكم بسيط لا تركيب فيه حتى يرتفع أحد جزئيه ويبقى الجزء الآخر.

ولا فرق بين نفي الحرج ونفي الضرر؛ فإنّ كلاًّ منهما حاكمان على أدلّة الأحكام، ولا فرق بين الحكومة والتخصيص وكون الامتنان حكمة أو علّة لا يقتضي صحّة الوضوء والغسل إذا كان حرجيّاً أو ضرريّاً.

الثاني: أنّه يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرض الشيء، وهذا خلف؛ لأنّ التكليف لا ينتقل إلى التيمّم إلاّ إذا امتنع استعمال الماء خارجاً أو شرعاً.

وإذا كان مرخّصاً شرعاً في الطهارة المائيّة فلا يدخل في مَن لا يجد الماء

ص: 260

حتى يشمله قوله عزّ من قائل: {فتيمّموا}، فإقدام المتضرّر في باب التكاليف على الضرر لا يكون موجباً لعدم جريان أدلّة نفي الضرر بالنسبة إليه، فيلزم على القول بصحّة الوضوء دخوله في الواجد والمتمكّن من الماء، وهو يشبه الجمع بين المتناقضين؛ فإنّ الأمر بالتيمّم مشروط بعدم وجدان الماء، والأمر بالوضوء - بقرينة المقابلة - مشروط بالوجدان، فالحكم بصحّة الوضوء والتيمّم يستلزم القول ببطلان الطهارة المائية، بلا فرق بين العلم بالضرر والعلم بالحرج(1).

وقد ناقش سيّد المنتقى(رحمه الله) في كلا الوجهين:

أمّا في الوجه الأوّل؛ بأنّ مقتضى الحكومة وإن كان هو خروج الفرد عن حكم العام أو الإطلاق، ولكن هذا لا يقتضي عدم بقاء الملاك؛ وذلك لأنّه على مبناه من الالتزام بأنّ حديث نفي الضرر وارد مورد الامتنان، ولازم ذلك هو ثبوت الملاك؛ إذ لو لم يكن للحكم ملاك فعدم جعله يكون لعدم الملاك، لا لأجل الامتنان، فلا منّة في رفعه حينئذٍ، فكونه في مقام الامتنان قرينة على ثبوت الملاك، وبذلك يمكن تصحيح العمل(2).

وهذه المناقشة هي التي ذكرناها في الفرع السابق أيضاً، وقلنا: بناءً على القول بالامتنان يمكن تصحيح الطهارة من جهة وجود الملاك وإتيانها بداعيه، ولكن بناءً

ص: 261


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 412
2- انظر: منتقى الأصول 5: 442

على ما قوّيناه من عدم كون القاعدة امتنانية لا يتمّ هذا الوجه.

وأمّا الوجه الثاني؛ فقد نقله السيد الأستاذ! وناقش فيه: بأنّ الآية الشريفة لا تدلّ على انحصار حكم الوضوء في حقّ الواجد للماء، وانحصار التيمّم في حقّ الفاقد، بل أثبتت وجوب الوضوء تعييناً على الواجد، وكذلك التيمّم تعييناً على الفاقد، وهذا لا ينافي ورود دليل آخر مثل «لا ضرر» أو «لا حرج» يثبت حكم الفاقد على الواجد مع القول باستحباب الوضوء له بدليل آخر، فهذا النوع من الواجد الذي يكون الوضوء ضرراً أو حرجاً عليه يجوز له التيمّم إرفاقاً وامتناناً من قبل الشارع، ويجوز له الوضوء أيضاً نظراً إلى استحبابه النفسي، فتكون النتيجة هي التخيير بين الوضوء والتيمّم، ولا نقول بأنّ هذا المكلف واجد للماء وفاقد له حتى يلزم اجتماع النقيضين، بل نقول: هو واجد للماء ولكن أجاز له الشارع أن يتيمّم إرفاقاً من جهة كون الوضوء ضرراً أو حرجاً عليه. وقد ثبت جواز التيمّم في بعض الموارد:

منها: إذا آوى إلى فراشه فذكر أنّه غير متوضّئ، يجوز له التيمّم مع أنّه واجد للماء.

ومنها: ما إذا أراد أن يصلّي على الميت فيجوز له التيمّم مع وجدان الماء.

ومنها: صاحب القروح والجروح إذا لم تكن عليها جبيرة ويريد أن يغتسل، فإذا كانت عليها جبيرة فلا إشكال في وجوب المسح عليها، وأمّا إذا لم تكن جبيرة فالأخبار مختلفة، فبعضها يدلّ على أنّ عليه التيمّم، وبعضها أنّه يغتسل

ص: 262

ويغسل ما حول القرح أو الجرح، ومقتضى الجمع بين الطائفتين هو التخيير بين الغسل والتيمّم، فيجوز له التيمّم مع كونه واجد الماء، فانفكاك أحدهما عن الآخر واقع في موارد كثيرة، فمع كونه واجداً للماء إلاّ إنّه قد رخّص له التيمّم(1).

نعم، إذا قلنا: إنّه مع العلم بالضرر يتّصف الوضوء والعمل بكونه محرّماً؛ لأنّه إضرار بالنفس، وهو حرام بنحو الإطلاق، فحينئذٍ لا يمكن الوضوء أو الغسل؛ لأنّ ما يكون مصداقاً للحرام ومبغوضاً لدى الشارع لا يصلح أن يكون عبادة يتقرّب بها إليه، فحينئذٍ لابدّ من القول بالبطلان، ولعلّ السرّ في قول المشهور - بالتفصيل بين الضرر والحرج - هو: أنّ الإضرار بالنفس حرام مطلقاً، ولمّا كان الوضوء أو الغسل ضرريّين فهما مبغوضان للشارع، والمبغوض لا يمكن أن يقع محبوباً ومقرّباً، فيبطلان.

وهذا بخلاف الوضوء أو الغسل الحرجيين؛ فإنّه لم يدلّ دليل على حرمته، وعليه: فلو تحمّل المكلّف الحرج والمشقّة في الوضوء فحينئذٍ يحكم بصحّته؛ لعدم اقتضاء نفي الحرج من جهة كونه وارداً في مقام الامتنان إلاّ نفي الإلزام، وأمّا أصل الجواز فباقٍ على حاله، فيكون الوضوء الحرجي - مثلاً - جائزاً أو مأموراً به، وحينئذٍ يحكم بصحّته.

ولكن على ما ذكرناه مراراً، من أنّ الإضرار بالنفس ليس بحرام مطلقاً، بل

ص: 263


1- انظر- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 642

الثابت حرمته هو خصوص الإلقاء في التهلكة، كما هو مقتضى قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)، وهكذا قطع اليد والرجل وأمثال ذلك ممّا يقطع بحرمته، وأمّا الإتيان بفعل يوجب شدّة وجع العين، أو الحمّى يوماً أو يومين وأمثال ذلك، فممّا لا يدلّ على حرمته عقل ولا نقل، بل جواز الإضرار بالنفس في الجملة من بديهيات الفقه.

وعلى هذا فيمكن للمكلّف الإتيان بالوضوء والغسل بداعي الاستحباب النفسي، وبذلك يتحقّق شرط الصلاة، وهي الطهارة، وبها تكون الصلاة صحيحة.

ويفترق ما أفاده المحقّق النائيني! من إشكال عمّا أفاده سيدنا الأستاذ!: أنّ الأوّل قد افترض أنّ المكلّف مع علمه بكون وضوئه ضررياً مندرج في غير الواجد للماء، وقد فسّر غير الواجد بأنّه الفاقد للماء واقعاً أو شرعاً أو عادةً، فيصدق على المكلّف أنّه فاقد للماء عادةً، فيندرج حينئذٍ في القسم الثاني ممّن ذكرته آية التيمّم، وهذا بخلاف ما أفاده السيد الأستاذ! من عدّه واجداً للماء، فهو داخل في القسم الأوّل، إلاّ إنّ قاعدة «لا ضرر» من جهة كونها واردة في مقام الامتنان ترفع الإلزام وتسوّغ له التيمّم؛ إرفاقاً له من قبل الشارع، وامتناناً عليه.

ولكنّ الظاهر: أنّ الحقّ ما ذهب إليه المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله)؛ وذلك لأنّه إذا كان استعمال الماء ضررياً فالعرف يحكم عليه بالاجتناب عنه، وبذلك يعدّ

ص: 264


1- البقرة: 195

في حكم الفاقد للماء عادة وحكماً، فيندرج حينئذٍ في القسم الثاني، لا الأوّل، ومع ذلك يؤخذ على ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) بأنّه بناء على اعترافه بكون قاعدة «لا ضرر» امتنانية، وأنّها لا تشمل الأحكام الترخيصية وتختصّ بالأحكام الإلزامية فقط، لماذا لا يصحّ الوضوء والغسل فيما لو أتى بهما المكلّف بداعي الاستحباب النفسي؟

نعم، إذا التزم بمقالة المشهور - من حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً - فحينئذٍ يتمّ ما أفاده!؛ وذلك لعدم إمكان التقرّب بالعبادة التي هي مصداق للحرام.

والمتحصّل: أنّ مقتضى ما أفاده المحقّق الميرزا النائيني(رحمه الله) هو بطلان الوضوء والغسل في حال العلم بكونهما ضرريين، ولا فرق في ذلك بين الضرر وبين الحرج.

كما أنّ مقتضى ما أفاده سيدنا الأستاذ! صحّة الوضوء والغسل، بلا فرق بين الضرر وبين الحرج، وبذلك تتحقّق شرطية الطهارة، ويحكم بصحّة الصلاة.

نعم، بناءً على مقالة المشهور - من أنّ مطلق الضرر حرام - يكون التفصيل في محلّه، ولكن على ما بنينا عليه في الفرع السابق - من أنّ القاعدة ليست في مقام الامتنان، ومن شمول القاعدة للأحكام الترخيصية كشمولها للأحكام الإلزامية - لابدّ من القول بالبطلان فيما إذا كان الوضوء والغسل ضررياً؛ لعدم بقاء الملاك والاستحباب، كما يلزم القول بالصحّة في موارد الحرج؛ لكون الحكم فيها من باب الرخصة.

ص: 265

وأما الفرع الثالث - وهو إذا تيمّم باعتقاد الضرر فصلّى ثم انكشف عدم الضرر - فهل يحكم بصحّة ما أتى به أو لا؟

هنا أقوال ثلاثة:

الأوّل: ما نُسب إلى المشهور وهو القول بالصحّة، فلا تجب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه، واختاره صاحب العروة(رحمه الله) والميرزا النائيني(رحمه الله) أيضاً(1).

والثاني: ما يظهر من المحقّق العراقي! من القول بعدم الصحّة، فتجب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه، واحتاط فيه السيدان: الأصفهاني والبروجردي*(2).

الثالث: ما يظهر من سيدنا الأستاذ! من القول بالتفصيل بين الانكشاف في الوقت وبين خارجه، فتجب الإعادة في الأوّل، دون الثاني(3)).

وممّا ينبغي التنبيه عليه: أنّ مورد هذه الأقوال الثلاثة فيما لو كان الانكشاف بعد الدخول في الصلاة، وإلاّ فلا إشكال في عدم صحّة التيمّم ووجوب

ص: 266


1- العروة الوثقى 2: 171؛ قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 411
2- انظر: تعاليق الأعلام على العروة الوثقى 2: 171 - 172
3- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 647 ، ويظهر من تعليقه! على العروة الوثقى القول بالاحتياط بالإعادة مطلقاً، وهذا نصّ عبارته!: «فيه إشكال، والاحتياط بالإعادة لا يترك». (العروة الوثقى 2: 171)

الوضوء أو الغسل.

أقول: إنّ وجه القول الأوّل هو: أنّ موضوع التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء واقعاً أو شرعاً أو عادةً، فإذا كان المراد من عدم الوجدان في الآية الشريفة هو عدم التمكّن من استعمال الماء، إمّا لعدم وجوده، وإمّا لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عادي، فالمعتقد بالضرر يصدق عليه عدم التمكّن من استعمال الماء، فهو حينئذٍ محرز لموضوع التيمّم، وعندئذٍ لا إشكال في صحّة التيمّم، ومعه تصحّ صلاته؛ وذلك لإتيانه بالوظيفة الفعلية، فلا وجه للحكم ببطلانه ووجوب الإعادة عليه(1).

وأمّا وجه القول بالتفصيل، فهو: أنّ المراد من عدم الوجدان في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} عدم التمكّن من استعمال الماء واقعاً أو شرعاً، وهو متحقّق في صورة فقدان الماء؛ فإنّ المكلّف إذا بحث وفحص عن الماء ولم يجده في رحله أو مكانه أو لم يظفر به، صدق عليه حينئذٍ عنوان عدم التمكّن، ومن المعلوم: أنّ الاعتقاد بالعدم يكفي في صدق عدم التمكّن، فإنّ الإنسان ربّما يموت عطشاً والماء في رحله، بل قد يقال: إنّ جوف الأرض لا يخلو من الماء دائماً، إلاّ إنّه غير متمكّن من استعماله.

وأمّا في صورة الاعتقاد بالضرر مع عدمه في الواقع، فلا يصدق عليه عدم التمكّن إلاّ على القول بحرمة الإضرار بالنفس؛ لأنّ المنع الشرعي كالمنع

ص: 267


1- انظر: قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 411

العقلي، وإلاّ مجرّد الاعتقاد بكون استعمال الماء مضرّاً لا يصيّره عاجزاً وغير متمكّن، بل يجعله معتقداً بالترخيص في عدم استعمال الماء والاجتزاء بالتيمّم؛ إرفاقاً وامتناناً، فإذا تبيّن عدم وجود الضرر في الواقع تبيّن بطلان التيمّم؛ لعدم ثبوت الترخيص من قبل الشارع فيه من أوّل الأمر، ومن هنا لابدّ من التفصيل بين صورة الاعتقاد بفقدان الماء، وبين الاعتقاد بالضرر مع عدمه واقعاً فيما إذا انكشف الخلاف، فيقال بصحّة التيمّم في الصورة الأولى، وعدمها في الثانية، وهذا هو مقتضى القاعدة.

إلاّ إنّ المستفاد من روايات الباب: أنّ موجب التيمّم وموضوعه هو مجرّد الخوف، فحينئذٍ يكون اعتقاد الضرر موجباً للتيمّم بالأوّلوية القطعية، فإذا تحقّق موجب التيمّم وموضوعه وهو الخوف أو الاعتقاد فيحكم بصحّته.

هذا كلّه فيما لو تبيّن الخلاف في خارج الوقت.

وأمّا إذا تبيّن الخلاف بعد الصلاة وقبل خروج الوقت، فحينئذٍ لابدّ من التفصيل - في صحّة الصلاة وعدم وجوب الإعادة - بين القول بجواز البدار إلى العمل مع التيمّم، وبين عدمه، فإذا قلنا بجواز البدار وعدم توقّف صحّة العمل على الإتيان به في آخر الوقت، أو على العلم بعدم زوال العذر، فلابدّ من القول بصحّة العمل وعدم إعادته.

وأمّا إذا قلنا بعدم جواز البدار، ولابدّ من تأخير العمل إلى آخر الوقت إلاّ مع العلم باستمرار العذر إلى آخر الوقت، فحينئذٍ إذا تيمّم وصلّى ثمّ انكشف

ص: 268

الخلاف فلابدّ من القول بعدم صحّة الصلاة؛ وذلك لعدم إجزاء الأمر الظاهري أو التخيّلي عن الأمر الواقعي، ونتيجة ذلك: وجوب إعادة الصلاة بعد انكشاف الخلاف؛ لبطلان التيمّم(1).

هذا، ويمكن أن يقال في المقام: إنّ قوله تعالى في الآية الشريفة: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمّمُوا} إمّا أن يرجع إلى جميع الأمور المذكورة والمتقدّمة، وهي المرض، والسفر، والمجيء من الغائط، ولمس النساء كما هو ظاهر الآية والمشهور، فحينئذٍ يكون معنى عدم الوجدان في الآية الكريمة هو عدم التمكّن.

وإمّا أن يكون راجعاً إلى الثلاثة الأخيرة فقط دون المرض؛ وذلك لأنّه لو كان قيداً للمرض أيضاً لما بقي موضوع للمرض، لأنّ غير المتمكّن موضوع لوجوب التيمّم، فحينئذٍ لا موضوعية للمرض، ولكان قيداً مستدركاً، وهذا بخلاف الأمور الأخرى.

وعلى كلّ تقدير: إمّا أن يكون عدم وجدان الماء في الآية الشريفة بمعنى فقدان الماء، وإمّا بمعنى عدم التمكّن من استعمال الماء واقعاً أو شرعاً أو عادةً.

فإذا كان راجعاً إلى جميع الأمور الأربعة التي ذكرتها الآية الكريمة، وكان المراد هو عدم التمكّن مطلقاً، فحينئذٍ نفس الاعتقاد بالضرر يدرج المكلّف في غير المتمكّن عادةً وشرعاً، وفي هذه الصورة لا تتوقّف صحّة التيمّم على

ص: 269


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 646 - 648

التمسّك بقاعدة «لا ضرر»، بل يكفي في ذلك التمسّك بظهور الآية المباركة.

وأمّا إذا قلنا: إنّ معنى عدم الوجدان في الآية المباركة هو الفقدان واقعاً، وكان راجعاً إلى الثلاثة الأخيرة، فالآية حينئذٍ لا تتكفّل بيان صحّة التيمّم في هذه الصورة.

ولكن يمكن مع ذلك استفادة صحّته من الروايات الدالّة على أنّ موضوع التيمّم هو خوف الضرر من استعمال الماء، وحينئذ - من خلال ضمّ قاعدة «لا ضرر» إلى الروايات الدالّة على أنّ موضوع التيمّم هو خوف الضرر - يمكن القول بصحّة التيمّم، وصحّة الصلاة.

ولكنّ هذا كلّه مبنيّ على القول بإجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، وكيف كان فهذا بحث طويل الذيل يأتي توضيحه في الفقه إن شاء الله تعالى.

التنبيه الخامس: هل المراد بالضرر المنفي هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

لا إشكال في أنّ المراد بالضرر هو ما يصدق عليه الضرر عرفاً، لا كلّ ضرر وإن كان قليلاً جدّاً، كما أنّه لا فرق في الضرر المنفي بين الضرر المالي، سواء كان في العين أو المنفعة أو الحقوق المالية، وبين الضرر العرضي أو النفسي، فالقاعدة شاملة لجميع هذه الموارد. نعم، وقع الكلام في أنّ الضرر المنفي بالقاعدة هل هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

والمراد بالضرر الشخصي هو: أنّ المناط في رفع الحكم ترتّب الضرر الشخصي الخارجي عليه، فمن الممكن أن يكون الحكم ضرريّاً في حقّ

ص: 270

شخصٍ دون شخصٍ آخر، بل لشخص واحد في مورد دون مورد آخر.

كما أنّ المراد من الضرر النوعي هو ما يترتّب بالنسبة إلى غالب المكلّفين، أو ما يترتّب على غالب أفراد الفعل.

هذا، وقد تردّد وتأمّل في ذلك الشيخ الأعظم!، وربّما ظهر منه

التفصيل بين العبادات والمعاملات، فاعتبر النوعي في الثاني، دون الأوّل(1).

ولكن ظاهر الروايات وكلمات الفقهاء: أنّ المعتبر هو الضرر الشخصي، وقد استدلّ على ذلك بعدّة وجوه:

الأوّل: أنّ مقتضى الأصل في انحلالية الأحكام الشرعية وكونها على نهج القضايا الحقيقية هو: أنّ الحكم في وجوده تابع لموضوعه، فكلّما تحقّق الموضوع تحقّق الحكم، فهما بمثابة العلّة والمعلول، وعليه: إذا صدق الضرر الشخصي تحقّق نفي الحكم، إلاّ إذا قامت قرينة على كون الضرر المأخوذ في الموضوع نوعياً.

الثاني: أنّ مقتضى امتنانية القاعدة في نفي الأحكام الضررية هو كون الضرر شخصياً؛ حيث إنّ ضرر شخصٍ غير مرتبط بضرر الآخرين، فإذا صدق الضرر في حقّ شخص فمقتضى الامتنان هو رفعه عنه، سواء صدق عليه عنوان الضرر بالنسبة لنوع الأشخاص أو لم يصدق.

ص: 271


1- انظر: فرائد الأصول 2: 466

الثالث: أنّ مقتضى ظاهر الروايات الواردة في نفي الحكم الضرري - كما في باب الوضوء والغسل والصوم وغير ذلك من موارد الضرر - هو ملاحظة الضرر الشخصي لا النوعي، كما أنّ الفقهاء قد طبّقوا القاعدة في الموارد التي يكون الضرر فيها شخصياً، دون النوعي، فلذا ذكروا بأنّه إذا توقّف الوضوء على شراء الماء أو اقتراضه وجب ولو بأضعاف العوض ما لم يضرّ بحاله، وأمّا إذا كان مضرّاً بحاله فلا، وليس ذلك إلاّ لملاحظة الضرر الشخصي لا النوعي.

هذا، وإن كان في الوجه الثاني كلام، وقد تقدّم، لكنّ الظاهر أنّ هذه الأدلّة تامّة من حيث المجموع.

وقد استدلّ الشيخ الأنصاري! على التفصيل بين العبادات والمعاملات: بأنّ ظاهر الفقهاء في المعاملات - كما في الغبن والشفعة - هو الضرر النوعي، ولذلك حكموا بشرعية خيار الغبن؛ نظراً إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه، وإن فرض عدم تضرّره في مقامٍ، كما إذا لم يوجد راغبٌ في المبيع وكان بقاؤه ضرراً على البائع لكونه في معرض الإباق أو التلف أو الغصب، هذا بالنسبة للبائع، وكذلك بالنسبة للمشتري فيما لو ارتفعت قيمة المتاع بعد البيع، فحينئذٍ لا ضرر على المشتري، وكذلك في الشفعة فيما لو كان في البين شركاء وأمثال ذلك؛ فإنّه لا شفعة مع وجود الضرر، فالنسبة بينهما عموم من وجه كما هو واضح، وكما إذا لم يترتّب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع، ففي جميع هذه الموارد لا يكون الضرر مطّرداً، ومع ذلك يكون الحكم ثابتاً، وبذلك يتبيّن: أنّ المعتبر هو الضرر النوعي لا الشخصي، وهذا

ص: 272

بخلاف العبادات فإنّها مطّردة، فيكون المعتبر فيها هو الضرر الشخصي(1).

وقد أجيب عنه: بأنّ أدلّة خيار الغبن وحقّ الشفعة غير قاعدة «لا ضرر»؛ فإنّها أجنبية عنها، وقد تقدّم الكلام في التعليل بلا ضرر بالنسبة إلى الشفعة والغبن وأمثال ذلك، وقلنا: إنّها ثابتة بالأدلّة الخاصّة، وإنّها لا تتوقّف على القاعدة، بل تكون القاعدة مؤيّدة لها.

وبعبارة أخرى: في خصوص هذين الموردين خرجنا عن عموم أدلّة «لا ضرر» لأجل الأدلّة الخاصّة.

ولكن في هذا الجواب نظر؛ حيث إنّ هذا لا يصحّ فيما إذا كان لزوم الضرر شخصياً. نعم، هذا ينفع فيما لو كان الضرر نوعياً.

اللهمّ إلاّ أن يقال: قد استفدنا في هذه الموارد من الخارج: أنّ الموضوع هو الضرر النوعي، فيلزم تخصيص القاعدة في الموردين، ويصحّ كلام الشيخ على نحو الإطلاق.

التنبيه السادس: هل تشمل القاعدة الضرر الاختياري وغير الاختياري؟

لا إشكال في جريان قاعدة «لا ضرر» فيما لو تحقّق موضوع الضرر قهرياً وبلا اختيار من المكلّف، وأمّا إذا كان تحقّقه بيد المكلّف واختياره، كما لو شرب دواءً يوجب عدم تمكّنه من الصوم، أو الصلاة قائماً، أو الحجّ مباشرة،

ص: 273


1- انظر: فرائد الأصول 2: 466

أو غير ذلك، فهل تجري القاعدة في هذه الموارد أو لا؟

الظاهر - كما عن الشيخ الأنصاري(1)

وغيره - جريانها، بلا فرق بين كون عمله مباحاً وجائزاً شرعاً، وبين كونه محرّماً، كما لو أجنب نفسه مع العلم بتضرّره بالغسل؛ وذلك لأنّ الحكم تابع لموضوعه، فكلما تحقّق الموضوع ترتّب عليه الحكم، فإنّهما بمثابة العلّة والمعلول، فسواء وجد الموضوع باختيار المكلّف كتبديل السفر بالحضر، أو بالعكس كوجوب الصلاة تماماً، أو الصوم، في الحكم بالقصر ووجوب الإفطار عليه، أو بلا اختيار منه كما في الأمثلة المتقدّمة، وسواء كان هناك مسوّغ شرعي أو لم يكن. نعم، إذا كان ذلك مستلزماً لتفويت مقدار معتدّ به من المصالح والملاكات الموجودة في الأحكام والموضوعات الأوّلية فمع العلم بذلك يوجب كون العمل محرّماً، ولكنّ هذا لا يوجب عدم جواز تبديل الموضوع وعدم ترتّب الحكم، وهو نفي الموضوع، إلاّ أن يقوم دليل خاص على ذلك، كما قد يقال: بثبوته في وجوب ردّ الغاصب المال المغصوب إلى صاحبه وإن كان ذلك موجباً لتضرّره، وإن كان الغاصب هو السبب لتحقّق موضوع الضرر عليه، ومع ذلك فالقاعدة لا تجري في حقّه؛ وذلك لما ورد في معتبرة عبد العزيز بن محمّد الدراوردي المشهورة، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام): عمّن أخذ أرضاً بغير حقّها وبنى فيها؟ قال: «يرفع بناؤه، وتسلّم التربة إلى صاحبها، ليس لعرق ظالم

ص: 274


1- انظر: رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية): 123

حقّ»، الحديث(1).

فإنّ الغاصب بما أنّه ظالم لا يلاحظ الضرر الوارد عليه، ولذلك يجبر بقلع كلّ شيء بناه على المال المغصوب وإن كان ذلك موجباً لتضرّره.

وعلى فرض القول بعدم اعتبار الرواية المذكورة لعدم اعتبار «نوادر الحكمة»، فحينئذٍ يتعارض الضرران: ضرر الغاصب الناشئ من رفع بنائه عن المال المغصوب وردّه إلى صاحبه، وضرر المغصوب الناشئ من بقاء المال تحت الغاصب واستمرار يده عليه الموجب لضرر المال، فحينئذٍ يقدّم ضرر الغاصب؛ لأنّه ظالم، ولا يستحقّ الإرفاق والمنّة، وهذا بخلاف المغصوب منه.

ثمّ على فرض عدم القول بالترجيح والتساقط، لابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى العمومات التي مقتضاها حرمة الإضرار بالغير، والنتيجة: يجب على الغاصب ردّ المال إلى صاحبه وإن تضرّر بإرجاعه.

التنبيه السابع: نسبة دليل لا ضرر مع أدلّة أحكام العناوين الثانوية:

إنّ النسبة بين دليل «لا ضرر» وبين أدلّة أحكام العناوين الثانوية على أقسام:

فتارة تكون بين أدلّة «لا ضرر» وحكم ثانوي آخر، كأدلّة «لا حرج» مثلاً، وأخرى تكون بين ضررين، وعلى التقدير الثاني: تارة يكون الدوران بين ضررين بالنسبة لشخص واحد، إمّا على نفسه، أو على غيره، وأخرى يكون

ص: 275


1- وسائل الشيعة 25: 388، ح1

الدوران بين ضررين بالنسبة لشخصين.

وعلى الأخير: تارة يكون الدوران بين ضرر نفسه وضرر غيره بسبب أحدهما، وأخرى يكون الدوران بين ضرر نفسه وضرر غيره بسبب شخص أجنبي، وثالثة يكون الضرر بآفة سماويّة.

فمجموع هذه الأقسام خمسة، والكلام يقع في بيان حكمها التكليفي والوضعي:

أمّا القسم الأوّل؛ فالكلام فيه: تارة يقع في بيان موضوعه، وأخرى في بيان حكمه.

فأمّا موضوعه؛ فقد يعبّر عنه بالدوران بين الحكمين الثانويين، كالدوران بين دليلي نفي الضرر ونفي العسر، وقد يعبّر عنه - كما في كلمات المحقّق الآخوند الخراساني(رحمه الله) - بتوارد دليلي العارضين، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلاً(1).

والفارق بين التعبيرين هو: أنّ العنوان الذي رتّب عليه الحكم:

تارة يكون واقعياً، وهو نفس أفعال المكلّفين، والحكم مترتّب وعارض عليها بدون توسّط عنوان آخر.

وأخرى يكون عارضاً على أفعال المكلّفين، ولكن بتوسّط عنوان آخر،

ص: 276


1- كفاية الأصول 3: 163

كالمنذورية والمشروطية مثلاً، فإنّ النذر والشرط قد تعلّق بالأفعال بواسطة العناوين الأوّلية، كالوضوء والصلاة والحج وغيرها، والتي غالباً ما تكون راجحة في نظر الشرع.

وثالثة يكون الحكم مترتّباً على العنوان الواقعي، لكن ليس في جميع الأحوال، بل في بعضها، كالعسر والحرج، والضرر العارض على أفعال المكلّفين مباشرة من دون دخل عنوان آخر، فنفس استعمال الماء يكون ضررياً أو حرجياً، سواء كان بعنوان الوضوء أو لا، فالأوّل يصطلح عليه بالحكم الأوّلي، والثاني بالحكم الثانوي، والثالث بالحكم العارضي، وقد ورد في كلام صاحب الكفاية كلا التعبيرين، فقد عبّر تارة بالحكمين الثانويين، وأخرى بالحكمين العارضين ولم يذكر شيئاً، ولكنّ الظاهر: أنّ «لا ضرر» إذا كان نفياً للحكم بدون النظر إلى الموضوع فهو من العارض، وإذا كان المنفي هو الموضوع فيكون من الحكم الثانوي.

وعلى كلّ تقدير: لا إشكال في تقدّم دليل الحكم العارضي والثانوي على أدلّة الأحكام الأوّلية وإن كانت جهة التقدّم مختلفة فيها، ولذلك قد يعبّر عنه تارة بالثانوي، وأخرى بالعارضي، كما في المقام، إلاّ إنّه لا يهمّنا بيان هذه الجهة؛ لأنّها خارجة عن محلّ البحث، كما أنّه لايعنينا تشخيص هويّة المتقدّم، ومن أيّ القسمين هو، وإن كان يقوى في النظر أنّهما (الثانوي والعارضي) من الأحكام الثانوية الناظرة والمترتّبة على موضوعات أدلّة الأحكام الأوّلية ولو بنحو الإجمال كما تقدّم.

ص: 277

ثمّ إنّ ما ذكرناه - من اختلاف موضوعهما - كان بناءً على مسلك المحقّق الآخوند الخراساني(رحمه الله)، وأمّا بناءً على مسلك الشيخ الأنصاري! - من كون النفي في حديث «لا ضرر» بمعنى النهي - فهو من الحكم العارضي.

وأمّا بيان حكمه؛ فالظاهر من صاحب الكفاية(رحمه الله) كون هذا القسم من باب التزاحم؛ لثبوت المقتضي في كلا الحكمين غالباً، فلابدّ حينئذٍ من تقديم الأهمّ، أو محتمل الأهمّية، والتخيير مع عدم إحراز أهمّية الملاك أو احتماله في أحدهما.

وإذا دار الأمر بين وقوعه في الحرج وبين الضرر على آخر، فلابدّ حينئذٍ من ملاحظة الأهمّ، أو محتمل الأهمّية، ومع عدم إحرازه فالتخيير أو القرعة.

وما يقال - كما احتمله الشيخ(رحمه الله) - من تقديم دليل نفي الحرج على دليل نفي الضرر ولم يذكر وجهه، أو العكس كما قيل؛ لأنّ كلّ ضرر حرجي ولا عكس، فلو قدّم دليل نفي الحرج لما بقي مورد لدليل نفي الضرر، لم يثبت ذلك، وبما أنّ هذا البحث لم ينقّح في الأصول فلابدّ من التنقيح أكثر من ذلك، ولكنّ الظاهر: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية هو الأقوى؛ حيث إنّهما في مرتبة واحدة، وإنّ حكمهما حكم الضررين.

وأمّا القسم الثاني - وهو الدوران بين الضررين على شخص واحد، إمّا على نفسه، أو على غيره - فصوره ثلاث:

الأولى: ما إذا دار أمره بين ضررين مباحين.

ص: 278

الثانية: ما إذا دار أمره بين ضررين مختلفين، كما لو كان أحدهما مباحاً والآخر محرّماً.

الثالثة: ما إذا دار أمره بين ضررين محرّمين.

أمّا الصورة الأولى؛ فإذا كان الضرر على نفسه فلا إشكال في جواز اختيار أيّهما شاء بلا محذور، كما لو كان الضرران على المال أو على النفس بناءً على عدم حرمة الإضرار بالنفس. نعم، إذا كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع، فلابدّ من ارتكاب غير الأهمّ، هذا بالنسبة إلى نفسه، وأمّا بالنسبة لغيره فمن جهة التكليف يكون الأمر كذلك.

وأمّا من جهة الحكم الوضعي، فهل يكون موجباً للضمان أو لا؟

الظاهر هو الضمان؛ لأنّ جواز التصرّف لا يبرّر عدم الضمان في إتلاف مال الغير، فإنّه يجوز أكل مال الغير في المخمصة والاضطرار، ومع ذلك يثبت الضمان في ذمّته، إلاّ أن يقوم دليل على عدم الضمان، فلا إشكال في هذه الصورة.

وأمّا الصورة الثانية؛ فمن جهة الحكم التكليفي لا ريب في لزوم ارتكاب المباح دون الحرام، ومن جهة الحكم الوضعي فقد تب-يّن حاله ممّا تقدّم.

وأمّا الصورة الثالثة؛ فيندرجان في باب التزاحم؛ لوجود المقتضي في كلّ منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، ومن جهة الحكم التكليفي ينبغي عليه أن يختار أقلّهما ضرراً، والاحتراز عن أشدّهما وأقواهما ضرراً، بل الاحتراز عمّا هو محتمل الأهمّية، ومع العلم بالتساوي أو احتمال أهمّية كلّ منهما فهو

ص: 279

مخيّر في ارتكاب أحدهما، أو الرجوع إلى القرعة.

وأمّا من جهة الحكم الوضعي - وهو الضمان إذا كان للغير - فهو كما تقدّم فيما إذا اختار الأقل، سواء كان سبب الضرر هو أو شخص أجنبي، وأمّا إذا كان الأجنبي سبب الضرر واختار الأشدّ ضرراً، أو اختار الضرر المحرّم - كما في الصورة المتقدّمة - فحينئذٍ هل يكون الأجنبي ضامناً لتمام

القيمة، أو مقدار الجامع دون الزائد، أو هي تمامها على المضطرّ؟ وجوه، قد ذكرها بعض السادة الأجلاّء، واختار الأخير منها في صورة العلم بذلك دون الجهل بالحرمة أو بالأشد والأكثر ضرراً؛ لقاعدة متمّم الجعل التطبيقي، كما يأتي بيانها إن شاء الله(1).

وأمّا القسم الثالث؛ وهو عكس المسألة الثانية، ومثاله المعروف: ما إذا دخل رأس الدابّة في قدر يملكه غير مالك الدابّة، ولم يمكن التخلّص إلاّ مع تلف أحدهما، فيتوجّه الضرر إلى مالكي الدابّة والقدر معاً؛ وذلك لأنّ تخليص الدابّة منوط بكسر القدر، كما أنّ تخليص القدر منوط أيضاً بذبح الدابّة، وقد ذكرت لهذا القسم صور ثلاث؛ لأنّ منشأ الضرر وسببه: تارة يكون أحد المالكين، وأخرى يكون غير المالكين، وثالثة يكون آفة سماوية.

أمّا الصورة الأولى - وهي ما إذا كان منشأ الضرر وسببه أحد المالكين - فحكمها وجوب إتلاف ماله وتخليص مال الآخر؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بلا

ص: 280


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 311

إذنه، ولذلك يضمن له ماله، إمّا لقاعدة اليد فيما إذا كان المال تحت يده، أو لقاعدة جعله في موضع التلف والعيب، فحينئذ لا يجوز إتلاف مال الغير ودفع قيمته أو مثله مع التمكّن من ردّ العين؛ فإنّ دفع القيمة فرع اشتغال الذمّة بها، ومع وجود العين لا معنى لاشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة.

هذا كلّه إذا لم تثبت أهمّية أحدهما عند الشارع بحيث لا يرضى الشارع به، كما إذا أدخل رأس عبده في القدر؛ لعدم جواز قتل العبد وإبقاء القدر، كما لا يلاحظ أقلّ الضررين قيمةً، فلا إشكال في وجوب كسر القدر وردّ مثله أو قيمته لمالكه.

وقد ذهب بعض السادة الأجلاّء إلى أنّ مالك المال الآخر - وهو الغير - إمّا أن يأذن بإيقاع الضرر المادّي على ماله ولو بشرط الضمان، أو لا يأذن له في ذلك.

فعلى الأوّل يلحق هذا الفرع من ناحية الحكم التكليفي بالصورة الأولى، وهي ما إذا كان الضرر يدور بين مالين لشخص واحد، ولابدّ من ملاحظة أنّ إتلاف كلّ من المالين هل هو في نفسه عمل مباح فيتخيّر، أو أنّ إتلاف أحدهما مباح والآخر حرام ولو من جهة صدق الإسراف ونحوه، فيتعيّن اختيار المباح، أو أنّ إتلاف كلّ منهما محرّم، فيجوز ارتكاب المضطرّ إليه منهما، وهو في المتساويين ما اختاره المضطرّ، وفي المختلفين ما كان أخفّ محتملاً، وأضعف احتمالاً، كما سبق بيانه؟

ص: 281

وعلى الثاني؛ حيث لا يأذن مالك المال الآخر بإيقاع الضرر على ماله ويطالب بدفع النقيصة الحاصلة من الحالة الطارئة على ماله بسبب محلّ الآخر.

فإن كان إيقاع الضرر على مال نفسه مباحاً، فلابدّ من إيقاع الضرر عليه دون مال الغير؛ وذلك لا من جهة قاعدة اليد، فإنّه ربّما لا يكون تحت يده، بل مقدّمة لدفع العيب الطارئ على مال الآخر، ولا يجوز إيقاع الضرر بمال الغير؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، وأمّا إذا كان الضرر على مال نفسه محرّماً، فيندرج في باب تزاحم الحكمين، ويلحقه أحكام هذا الباب(1).

أقول: يمكن أن يلاحظ عليه: بأنّ قوله: «وفي المختلفين يلاحظ ما كان أخفّ محتملاً»، أي بمعنى أقلّ قيمة أو حرمة، ففيما هو أقلّ قيمة يشكل: بأنّه إذا كان المضطرّ هو السبب، فكيف يجب عليه إيقاع الضرر على الغير إن كان الضرر على ماله أخفّ؟ بل الظاهر أنّه لابدّ من إيقاع الضرر على ماله دون مال الغير، أو أنّه مخيّر، وكذلك يأتي الإشكال فيما إذا لم يأذن وكان الضرر على ماله محرّماً.

وأمّا الصورة الثانية - وهي ما إذا كان سبب الضرر بفعل شخص ثالث غير المالكين - فقد يظهر من المحقّق صاحب الكفاية(رحمه الله) ارتكاب أقلّ الضررين، ومع التساوي التخيير بينهما(2)، كما عن السيد الأستاذ! القول بالتخيير في إتلاف مال

ص: 282


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 318
2- انظر: كفاية الأصول 3: 163

أيّهما يشاء أيضاً(1)، ولكن عن بعض السادة الأجلاّء: التفصيل في ذلك، بأنّ الظاهر ولو بحكم العقل استئذان كلّ من المالكين في التصرّف في ماله.

فإن أذن أحدهما دون الآخر فيتعيّن إيقاع الضرر على ماله، وإن كانت إباحته مشروطة بإعطاء قيمته أو مثله أو الأرش، فلابدّ من بذله له.

وإن أذن كلّ منهما، فلا مانع من هذه الجهة في إيقاع الضرر على أيّهما شاء.

وإن لم يأذن له كلّ منهما وطالبه برفع الحالة الطارئة الموجبة لنقص ماله فلا محالة يقع النزاع بينهما وبين الأجنبي، فيرجع في حلّ النزاع إلى الحاكم الشرعي، وهو يرجع في الأمر بإيقاع الضرر على أحدهما إلى القرعة؛ لأنّها مرجع عقلائي عند تزاحم الحقوق إن لم يكن مرجّح في البين، كما هو المفروض، لأنّ كلاًّ من الشخصين يريد إرجاع نفس ماله إليه، ولا يريد إيقاع الضرر وإتلافه.

وأمّا القول بالتخيير للجاني في إيقاع الضرر على مال كلّ منهما أراد وضمانه، فليس له وجه يعتمد عليه، وربّما يكون له غرض خاص في إتلاف مال أحد المالكين، كما إذا كانت البقرة حلوباً وتعلّق غرض شخصي منه بذبحها(2).

أقول: ما ذكره من التفصيل وجيه، ولعلّ مراد صاحب الكفاية(رحمه الله) والسيد الأستاذ! هي الصورة الأخيرة؛ فإنّ ظاهر الحال: أنّ المالكين لا يرضيان بإتلاف

ص: 283


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 653
2- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 319 - 320

مالهما، ولكن هنا لابدّ من الرجوع إلى الحاكم الشرعي وهو يعيّن له ذلك، أو يختار الأجنبي إيقاع الضرر على أحدهما، وهو أخفّهما إذا كان، ومع التساوي القرعة، وهذا له وجه.

وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي؛ فقد ذكر: بأنّ الضمان لا يترتّب على الجامع بين الضررين، ولا على غير المعيّن، بل على أحدهما المعيّن، ولكن في مثل هذه الموارد التي طرأ الإبهام على موضوع الحكم أو متعلّقه تدعو الحاجة لأجل بيانه ورفع الإبهام عنه إلى جعل واعتبار آخر يسمى ب- «متمّم الجعل التطبيقي»، والذي طبّقه الفقهاء كثيراً على موارد متعدّدة من المباحث الأصولية والفقهية.

منها: في مورد قاعدة الاضطرار، فقد ورد في الحديث الشريف «وكلّ شيء اضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله»، فإذا فرضنا اضطرار المكلّف إلى أحد المحرّمين، فحينئذٍ نحتاج إلى متمّم الجعل التطبيقي؛ وذلك لأنّ ارتكاب كلا الأمرين معاً غير جائز، لعدم رفع الحرمة عنهما معاً، وارتكاب الجامع بينهما غير مقدور؛ لكونه غير موجود في الخارج، فمن هنا لابدّ من متمّم الجعل التطبيقي لتعيين المضطرّ إليه ليتيسّر رفع حرمته بقاعدة الاضطرار، وذلك بأن يقال: إذا كان في أحد الضررين مزيّة ورجحان - احتمالاً أو محتملاً - فينطبق عليه المهمّ، وهو أحد الأمرين، فيؤخذ به.

وإذا كانا متساويين، فلابدّ من القول بالتخيير، أو القرعة، أو الرجوع إلى الحاكم الشرعي، وفي هذا المورد إذا كان ارتكاب المضطرّ إليه موجباً

ص: 284

للضمان فلا يضمن كلا الأمرين معاً، كما لا يضمن أحدهما بنحو الجامع؛ وذلك لعدم تشخّصه في الخارج، فلذا لابدّ أن يكون متعلّق الضمان معلوماً، ولذلك قلنا: إنّ تعيين الضمان وتطبيقه على أحد الضررين يحتاج إلى متمّم الجعل التطبيقي، سواء كان في التكليف، أو في الضمان، كما هو مقتضى حكم العقلاء، وهذا ما اصطلحوا عليه بموارد التخيير العقلي، ومقامنا يندرج تحت هذه القاعدة أيضاً؛ فإنّه إذا كان أحد الضررين المتوجّه لأحدهما أقلّ ضرراً من الآخر، فلابدّ من ارتكابه، لأنّ الفرض أنّ الضرر المتوجّه إليه أحد أمرين، فتطبيقاً لقاعدة متمّم الجعل هو الأقلّ، وأمّا إذا كانا متساويين، أو لم يكن التفاوت مورداً لاعتناء العقلاء ويتسامح فيه العرف، فالتخيير(1).

وتوضيحاً لكلامه دام بقاه، نقول: إنّه قد ذكر قاعدة متمّم الجعل التطبيقي في القسم الثاني، وهو ما إذا دار أمر شخص بين ضررين، وكان منشأ ذلك بفعل شخص أجنبي، فقد اختار وجوب ارتكاب الأضعف محتملاً، أو احتمالاً، ثمّ قال: إذا كان الضرران مختلفين وارتكب المضطرّ الأكثر والأشدّ، فهل يكون الضمان على الأجنبي، أو على المضطرّ؟ فيه وجوه:

الأوّل: يكون الضمان على الأجنبي؛ لأنّه المسبّب للضرر.

الثاني: يضمن الأجنبي مقدار الجامع بين الضررين، والمقدار الزائد على المضطرّ؛ لارتكابه بسوء اختياره.

ص: 285


1- انظر: قاعدة لا ضرر: 313 - 315

الثالث: إذا كان المضطرّ عالماً بأشدّية أحد الضررين على الآخر فارتكبه، فالضمان عليه دون الأجنبي؛ لأنّه ليس سبباً لهذا الضرر أصلاً، بل كان هذا باختيار المضطرّ؛ وذلك لقاعدة متمّم الجعل التطبيقي، كما فسّرناه.

ثمّ ذكر في القسم الثالث، وهو ما إذا دار أمر الضررين بين شخصين، فالظاهر منه: أنّه في الصورة الأولى منه، وهي ما إذا كان سبب الضرر أحد المالكين، وكذلك إذا كان شخصاً أجنبياً، سواء كان الضرران مباحين أو محرّمين، فإنّه لابدّ من إعمال المرجّح الطبيعي، وهو الأقلّ قيمة أو حكماً، وعلى فرض التساوي فالقرعة، صرح به في الثاني، وأشار إليه في الأوّل، فعلى ذلك إذا ارتكب المضطرّ في جميع هذه الصور الأكثر والأشدّ فيحكم عليه بالضمان، وليس على المسبّب شيئاً، وتمسّك في ذلك بقاعدة متمّم الجعل التطبيقي(1).

والظاهر: أنّ الصحيح هو القول بأنّ الضمان الزائد يكون على المرتكب المضطرّ، وضمان الباقي على الأجنبي؛ لكونه هو المسبّب للضرر، وذلك لأنّ القول بكون تمام الضمان على المضطرّ دون الأجنبي بعيد، وعلى خلاف الذوق الفقهي. هذا أوّلاً.

وثانياً: أنّ القاعدة التي عبّر عنها بقاعدة «متمّم الجعل التطبيقي» غير تامّة؛ وذلك لأنّ انطباق الكلّي والجامع على كلا الفردين أو الأفراد أمر قهري وجداني، والقول بانطباقه على فرد خاصّ كالأهمّ أو الأخفّ نقض لكلّيته

ص: 286


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 311

وصلاحيته في كونه جامعاً، وعلى هذا لا يحتاج الانطباق إلى قاعدة متمّم الجعل التطبيقي أصلاً؛ لأنّ كلّ فرد من الفردين - في صورة الاضطرار مثلاً - يصدق عليه عنوان المضطرّ إليه، كما هو كذلك أيضاً في صورة إنقاذ أحد الغريقين، وعلى هذا: فإنّ ما هو ثابت شرعاً في المقام هي قاعدة التطبيق العملي والامتثالي، وذلك بأن يقال: إنّ الشارع قد يجعل قاعدة في بعض الموارد، كما هو المستفاد من الخطابات الشرعية صريحاً أو تلويحاً ومذاقاً، وهي: أنّه لا يرضى بارتكاب المهمّ مع وجود الأهمّ في الواجبات، أو العكس في المحرّمات عند الاضطرار إليها، وهذا أمر آخر لا ربط له بالانطباق وعدمه.

والظاهر: أنّ الانطباق في المقام يتحقّق بارتكاب أحد الأمرين، سواء كان هو الأخفّ، أم الأشدّ، ويصدق أنّ الأجنبي هو السبب في الضرر، فحينئذٍ مقتضى القاعدة هو كون الضمان على الأجنبي، ولكن حيث إنّ المقدار الزائد على الأقلّ وقع بسوء اختيار المضطرّ ولم يرخّص فيه الشارع فيكون الضمان عليه دون الأجنبي، كما هو مقتضى ما ذكرناه من قاعدة التطبيق العملي والامتثالي.

ثمّ إنّه - دام بقاه - قد فرض في القسم الثاني - وهو ما إذا دار الضرران على شخص واحد، وكان سببه الغير - أنّه على ثلاثة فروع: فتارة يكونا مباحين، وأخرى مختلفين، وثالثة محرّمين، فيقال: كيف يتصوّر أن يكون الضرران مباحين أو مختلفين مع أنّه ضرر في مال الغير، وهو محرّم دائماً؟

وهذا يجري أيضاً فيما فرضه في القسم الثالث، فيقال: كيف يتصوّر الضرر

ص: 287

على شخصين بسبب الأجنبي مع كونهما مباحين أو مختلفين؟

هذا، مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ مقتضى كلامه أنّه في الصورة الأولى من القسم الثالث - وهي ما إذا دار الأمر بين ضررين على شخصين، وكان السبب أحد المالكين - هو أنّه إذا كان الضرر على المالك المسبّب أكثر من المالك الآخر، فلا يجوز الضرر عليه، بل لابدّ من الضرر على الأقلّ، وهو المالك غير المسبّب، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

هذا تمام الكلام حول الصورة الثانية.

وأمّا الصورة الثالثة - وهي إذا كان الضرر بآفة سماوية - فقد نسب إلى المشهور لزوم اختيار أقلّ الضررين، وأنّ ضمانه على مالك الآخر، واختار السيد الأستاذ! أنّه إذا تراضى المالكان على إتلاف أحد المالين بخصوصه ولو بتحمّلهما الضرر على نحو الشركة فهو، وإلاّ إذا لم يتراضيا فلابدّ من رفع الحكم إلى الحاكم الشرعي، وله إتلاف أيّهما شاء، ويقسّم الضرر بينهما بقاعدة العدل والإنصاف، هذا إذا تساوى المالان في القيمة، وأمّا إذا كان أحدهما أقلّ قيمة من الآخر فليس للحاكم إلاّ إتلاف ما هو أقلّ قيمة؛ لأنّ إتلاف ما هو أكثر قيمة سبب لزيادة الضرر على المالكين بلا موجب(1).

أمّا وجه قول المشهور - من أنّ الضمان يكون على الآخر - فقد ذكر لذلك وجهان:

ص: 288


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 654

الأوّل: أنّ نسبة جميع الناس إلى الله تعالى نسبة واحدة، والكلّ بمنزلة عبد واحد، فالضرر المتوجّه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجّه إلى شخص واحد، فلابدّ من اختيار أقلّ الضررين.

وهذا الوجه قاصر عن إثبات أنّ تمام الضرر يكون على أحد المالكين، وهو مَن كانت قيمةُ ماله أكثر من قيمة مال الآخر، ولا وجه لإلزامه بتحمّل تمام الضرر من جهة كونِ ماله أكثر من مال الآخر مع كون الضرر مشتركاً بينهما بآفة سماوية.

الثاني: أنّ إيقاع الضرر على مال الآخر - وهو الأقل - إنّما هو فداء لمال الآخر وتخليصه، فتكون الخسارة عليه.

وهذا الوجه أيضاً غير تامّ؛ لأنّ الخسارة التي طرأت من عامل طبيعي قد وقعت على كلا المالين لا خصوص الأقلّ، وقد نقصت قيمة كلّ واحد منهما، والمفروض أنّ كلَّ واحد من المالكين يطالب بتخليص ماله، فتوجّه الخسارة على خصوص أحدهما دون الآخر، بلا وجه.

وأمّا الوجه فيما ذكره السيد الأستاذ! من التفصيل بأنّ المالكين إذا تراضيا بإتلاف أحد المالين بخصوصه ولو بتحمّلهما الضرر على نحو الشركة، فلا إشكال، وإلاّ فإذا تخاصما وكلّ واحد يطالب بماله يرفع الأمر إلى الحاكم، وله إتلاف أيّ منهما شاء، ويقسّم الضرر بينهما بقاعدة العدل والإنصاف الثابتة عند العقلاء، ويؤيّدها ما ورد في تلف درهم عند الودعي من الحكم بإعطاء درهم

ص: 289

ونصف لصاحب الدرهمين، ونصف درهم لصاحب الدرهم الواحد، فإنّه لا يستقيم إلاّ على قاعدة العدل والإنصاف، هذا إذا كان المالان متساويين من حيث القيمة، وأمّا إذا كان أحدهما أقلّ قيمة من الآخر فليس للحاكم إلاّ إتلاف ما هو أقلّ قيمة؛ لأنّ إتلاف ما هو أكثر قيمة سبب لزيادة الضرر على المالكين بلا موجب(1).

فهذا الوجه قد ناقش فيه بعض السادة الأجلاّء بعدّة مناقشات:

المناقشة الأولى: أنّ مقتضى قاعدة العدل والإنصاف في مورد تلف الدرهم في يد الودعي ليس هو التنصيف، ولم يستقرّ على الحكم بالتنصيف بناء من العقلاء، بل يقتضي العدل عندهم إعطاء صاحب الدرهمين درهماً وثلث درهم، وإعطاء صاحب الدرهم ثلثي درهم؛ لأنّ احتمال التلف من صاحب الدرهمين ضعف الاحتمال من صاحب الدرهم، ويتّضح ذلك فيما لو فرض أنّ رجلاً استودع تسعة وتسعين درهماً عند رجل، واستودع الآخر درهماً واحداً، وتلف أحدهما عند الودعي من دون تفريط، فإنّ احتمال كون التالف من الأوّل بنسبة 99 بالمائة، ومن الثاني بنسبة 1 بالمائة.

وأمّا الرواية فهي ضعيفة سنداً؛ لعدم ثبوت وثاقة النوفلي، بسبب عدم العبرة بوروده في كامل الزيارات، وعلى تقدير صحّتها فهي تشتمل على حكم

ص: 290


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 654

تعبّدي غير موافق للقاعدة(1).

أقول: الظاهر أنّ هذه المناقشة غير تامّة.

أمّا سند الرواية؛ فإنّ طريق وثاقة النوفلي لا ينحصر بوجوده في كامل الزيارات، مع أنّ السيد الأستاذ(رحمه الله) قد رجع عنه أخيراً، وخصّ شهادة ابن قولويه بمشايخه، والنوفلي ليس منهم، بل لأجل وجوده في تفسير القمّي، وكذلك في نوادر الحكمة، وهذا أيضاً طريق للتوثيق، مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ دعوى الشيخ(رحمه الله) في العدّة - بأنّ الأصحاب يعملون بروايات السكوني ولم يستثن منها - تشمل روايات النوفليّ، مع أنّ جلّ رواياته عنه، بل قلّ الانفكاك بينهما.

وأمّا من جهة الدلالة؛ فالظاهر أنّ بعض الأجلاّء خلط بين الضرر والنفع الحاصل من المالين بنحو الإشاعة، وبين الضرر أو النفع الحاصل بنحو الوجود الخارجي، ففي الفرض الأوّل كما ذكره، وأمّا في الفرض الثاني إذا كان درهم خارجي ضاع وهو مردّد بين أن يكون من صاحب الدرهم الواحد، أو من صاحب الدرهمين، وكذلك في المثال الذي ذكره إذا ضاع درهم مردّد بين الدرهم من صاحب الدرهم الواحد، أو من صاحب التسعة والتسعين درهماً، ففي هذه الموارد يقتضي بناء العقلاء وقاعدة العدل والأنصاف أن يقسّم بينهما نصفين، فيوفّى لصاحب الدرهم نصف درهم، ولصاحب الدرهمين درهم ونصف، أو لصاحب التسعة والتسعين درهماً ثمانية وتسعون درهماً ونصف،

ص: 291


1- انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 323

فينقص من كلّ منهما نصف درهم.

المناقشة الثانية: أورد على ما قال السيّد الأستاذ: بأنّ هذه القاعدة - أي: قاعدة العدل والإنصاف - مبنية على تقديم الموافقة القطعية - في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك - على الموافقة الاحتمالية في تمام المال، فإنّه لو أعطي تمام المال في هذه الموارد لأحدهما للقرعة مثلاً، احتمل وصول المال بتمامه إلى مالكه، ويحتمل عدم وصول شيء منه إليه، بخلاف التنصيف فإنّه يعلم وصول بعض المال إلى مالكه جزماً، ولا يصل بعضه الآخر كذلك، فيكون التنصيف مقدّمة لوصول بعض المال إلى مالكه، ويكون من قبيل صرف مقدار من المال مقدّمة لإيصاله إلى مالكه الغائب حسبَة، إلاّ إنّه من باب المقدّمة الوجودية، والمقام من باب المقدّمة العلمية(1).

وقد ناقشه: بأنّ وجه عدم جريانه في المقام واضح؛ إذ ليس هنا مال مردّد بين الشخصين حتى يكون التقسيم بالنسبة مقدّمة لإيصاله إلى مالكه من باب المقدّمة العلمية، بل الكلام في الخسارة الواقعة على أحد المالين لابدّ وأن تقسّم بينهما بالنسبة، فهذا غير داخل في القاعدة على التقريب الذي ذكره لها(2).

أقول: الظاهر أنّ هذه المناقشة أيضاً لا ترجع إلى شيء؛ وذلك:

ص: 292


1- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 67
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 323

أوّلاً: أنّ المناط في قاعدة العدل والإنصاف - وهو تقديم الموافقة القطعية في الجملة على الموافقة الاحتمالية - لا يختصّ بالمنفعة، بل يأتي في الخسارة أيضاً؛ فإنّه يقال: إنّ الخسارة واقعة على أحد المالين، ومع عدم العلم بوقوعه على أيّ من المالين فمقتضى القاعدة التقسيم على كليهما حتى تحصل الموافقة القطعية في الجملة، وإذا خصّصنا الخسارة بأحدهما فتحصل موافقة احتمالية؛ لأنّه يمكن أن تكون الخسارة واقعة عليه، كما يمكن أن تكون واقعة على المال الآخر، وفي المقام: وإن كانت الخسارة لم تقع بعد، ولكنّ وقوعها حتمي على أحدهما غير المعيّن، فيأتي فيها نفس المناط.

وثانياً: أنّ مسألة الودعي أيضاً مآلها إلى توزيع الخسارة على صاحبي المالين، وإن كان في الظاهر تقسيم الدرهم بينهما، ولكنّ هذا الدرهم الموجود ليس منفعة بالنسبة إليهما حتى يقال: إنّه من باب إيصال بعض المال إلى صاحبه مع صرف بعضه الآخر مقدّمة للإيصال، بل هو في الواقع تقسيم للضرر الحاصل من تلف الدرهم الذي ضاع، يقسّم بينهما بتقسيم الدرهم الموجود نصفين حتى تكون الخسارة عليهما بقاعدة العدل والإنصاف.

المناقشة الثالثة: أنّه بنفسه قد أنكر ثبوت القاعدة في محلّ آخر، وناقش في التقريب الذي سبق عنه، فقال: إنّ القاعدة في نفسها غير تامّة؛ إذ لم يثبت بناء ولا سيرة من العقلاء على ذلك حتى تكون ممضاة لدى الشارع... وإلاّ فجريان السيرة على ذلك بالتعبّد من العقلاء، أو الشارع؛ استناداً إلى قاعدة

ص: 293

العدل والإنصاف، لا أساس له، وإن كان التعبير حسناً...(1).

فهذه المناقشة واردة على السيد الأستاذ(رحمه الله)، فإنّه ذكر ذلك في باب الخمس، وإذا كان حكمه في المقام يبتني على ذلك فالإشكال في محلّه، ولكن نحن فصّلنا الكلام هناك، واخترنا ثبوت السيرة، واستدللنا على صحّة القاعدة بوجوه، وقد أفردنا في رسالة القواعد البحث حول هذه القاعدة.

ثمّ إنّ الظاهر من بعض السادة الأجلاّء ثبوت القاعدة، ولكن يرى بأنّ مقتضاها أخذ النسبة بين المالين أو الضررين؛ حيث قال: الصحيح في تقريب المدّعى، أن يقال: إنّ الحالة الطارئة بسبب طبيعيّ على كلّ من المالين لمّا أوجبت نقصاً في مالية كلّ واحد منهما؛ إذ ليست قيمة البقرة بعد دخول رأسها في القدر متساوية مع قيمتها بدون ذلك، ولا القدر الذي فيه رأس البقرة تساوي قيمته لو لم يكن كذلك، وإرجاع كلّ منهما إلى حالته الطبيعية غير ممكن، وإرجاع أحدهما إليها يستلزم إيقاع الضرر بالنسبة إلى الآخر، والمفروض لزوم إيقاعه على ما هو أقلّ قيمة، فحينئذ يكون النقصان الموجب لزوال ماليته أو نقصانه مسبّباً عن الحالتين غير الطبيعيّتين الطارئتين على كلٍّ منهما.

فلابدّ من ملاحظة: أنّ الخسارة الحاصلة بأيّ نسبة معلولة لحصول تلك الحالة في القدر، وبأيّ نسبة معلولة لحصولها في البقرة، وبحكم العقلاء يكون ثلثا الخسارة على صاحب البقرة، وثلثها على صاحب القدر على ما فرضناه سابقاً من

ص: 294


1- المستند في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 25: 147

أنّ التفاوت بين البقرة في حالتها الطبيعية وبين البقرة المذبوحة هو عشرة دنانير، والتفاوت بين القدر على حاله الطبيعي والقدر المكسور خمسة دنانير، فالحالة الطارئة عليهما تدعو إلى إيجاد ما يوجب الخسارة المالية بأدنى مستوياتها الممكنة يقتضي تقسيم الخسارة على المالين بملاحظة النسبة بين الضررين لو فرض وقوع الضرر مع كلٍّ منهما(1)،

وهذا الكلام مفاده ثبوت قاعدة العدل عنده، وحاصل كلامه أمران:

الأوّل: أنّ العامل الطبيعي صار سبباً لحدوث الخسارة في كلّ من المالين لمّا أوجب نقصاً في مالية كلّ منهما.

الثاني: أنّ إيقاع الضرر على أحدهما - وهو الأقل - مسبّب عن الحالتين غير الطبيعيتين الطارئتين على كلّ منهما، فلابدّ من ملاحظة أنّ الخسارة بأيّ نسبة معلولة لحصول تلك الحالة في القدر، وكذلك بأيّ نسبة معلولة لحصولها في البقرة، ويؤخذ من كلّ منهما بهذه النسبة.

ولكن يمكن أن يقال: هذا الكلام وإن كان في الواقع ونفس الأمر كذلك، ولكن بحسب الظاهر: أنّ الخسارة الحاصلة في الأقلّ سببها أمر الحاكم لرفع النزاع، فلا يبقى وجه لملاحظة النسبة على نحو المزج والإشاعة، بل هو ضرر مستقلّ وارد عليهما، والحاكم قد عيّنه في أحدهما، ومقتضى قاعدة العدل والإنصاف تقسيم الخسارة عليهما بالسوية.

ص: 295


1- قاعدة نفي الضرر والضرار: 324

ثمّ إنّ ما نسب إلى السيد الأستاذ(رحمه الله) - من أنّه إذا لم يكن الضرر مساوياً فيؤخذ بالنسبة - لم نجده في كلامه في الفقه، ولا في الأصول، فتأمّل.

وأمّا القسم الرابع - وهو دوران الضرر بين نفسه وبين غيره - فله صورتان:

الأولى: أن يكون سبب الضرر هو تصرّف المالك في ملكه الموجب لتضرّر جاره، كما لو أراد المالك أن يحفر بئراً أو بالوعة مع كون الحفر مضرّاً بالجار.

الثانية: أن يكون السبب هو الأجنبي، وكان مكرهاً على فعل ذلك، كما إذا أكرهه الجائر على أخذ مال من الغير، وإلاّ أخذه من نفسه.

وحيث إنّنا قد تعرّضنا للصورة الثانية في أبحاثنا في التقية(1)، فلذا نعرض عنها صفحاً، ونقصر الحديث حول الأولى؛ لأهمّيتها وكثرة الابتلاء بها، فنقول: إنّ تصرّف المالك في ملكه يقع على وجوه:

الأوّل: أن يكون المالك قاصداً بتصرّفه في ملكه الإضرار بجاره من دون أن يكون فيه نفع له، أو في تركه ضرر عليه.

الثاني: الوجه الأول بعينه مع كون داعيه في التصرّف مجرّد العبث والميل النفساني، لا قصد الإضرار بالجار.

الثالث: أن يكون الداعي إلى التصرّف هو النفع وتركه موجب لفوات منفعته.

الرابع: أن يكون الداعي التحرّز عن الضرر، بأن يكون في تركه ضرر عليه.

ص: 296


1- التقية في فقه أهل البيت(علیهم السلام) 2: 187

والظاهر أنّ الوجهين الأوّلين وقعا مورداً للتسالم في القول بالحرمة والضمان، والوجه في ذلك واضح؛ لأنّه يوجب الإضرار بالغير، خصوصاً باعتبار أنّه محرّم، كما أنّه ليس في مقابله نفع للمالك لكي يوجب ارتفاع حرمته، بل قد يظهر ذلك أيضاً من بعض الروايات الخاصّة في الباب(1).

وأمّا الوجهان الأخيران؛ فقد وقع الخلاف فيهما على أقوال:

الأوّل: ما نسب إلى المشهور من جواز التصرّف وعدم الضمان مطلقاً، سواء كان ضرر المالك أقلّ، أو مساوياً، أو أكثر.

قال في الجواهر ما هذا نصّه: أمّا ما يعمل في الأملاك المعمورة فلا (أي لا حريم له)، بلا خلاف أجده، كما عن الشيخ وابني زهرة وإدريس الاعتراف به، بل في الكفاية نسبته إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه... ومن هنا صرّح في القواعد وغيرها بأنّ لكلّ منهم التصرّف في ملكه بما شاء، وإن تضرّر صاحبه، وأنّه لا ضمان عليه لو جعل ملكه بيت حدّاد، أو قصّار، أو حمّام، على خلاف العادة، ثمّ نقل! عن التذكرة قوله: والأقوى أنّ لأرباب الأملاك التصرّف في أملاكهم كيف شاؤوا؛ إذ لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر الجار لم يمنع منه، ولا ضمان... وتبعه في الدروس والمسالك في جميع ذلك، لكن قال في الأخير: نعم، له منع ما يضرّ بحائطه من البئر والشجر ولو ببروز أصلها إليه والضرب المؤدّي إلى ضرر الحائط ونحوه... .

ص: 297


1- وسائل الشيعة 12: 126، ح2

ثمّ نقل عن الرياض القطع بما عليه الأصحاب، فيما إذا كان ضرر المالك أشدّ من ضرر الجار أو مساوياً أو أقلّ بحيث لم يتفاحش معه ضرره، وأمّا فيما عداها فالظاهر أيضاً ذلك؛ لما ذكر، وإن كان الأحوط عدم الإضرار على الإطلاق(1).

وقد تبعه الشيخ الأنصاري! في ذلك، فقال: الأوفق بالقواعد تقديم المالك؛ لأنّ حجر المالك عن التصرّف في ماله ضررٌ يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة «السلطنة»، و «نفي الحرج»(2).

كما يظهر ذلك من المحقّق النائيني(رحمه الله) أيضاً في آخر كلامه، فراجع(3).

الثاني: ما يظهر من صاحب الجواهر، من المنع وعدم الجواز مطلقاً؛ حيث قال: وبالجملة، فالغرض أنّ المسألة لم يكن فيها إجماع محقّق على جهة الإطلاق، فيمكن أن يقال بمنع التصرّف في ماله على وجه يترتّب عليه الضرر في مال الغير مثلاً بتوليدية فعله بحيث يكون له فعل وتصرّف في مال الغير وإتلاف له يتولّد من فعله فعل في مال الغير، لا تلف خاصّة بلا فعل منه، وخصوصاً مع زيادته بفعله عمّا يحتاج إليه وغلبة ظنّه بالسراية، وقاعدة التسلّط على المال لا تقتضي جواز ذلك، ولا رفع الضمان الحاصل بتوليد فعله. نعم، لو

ص: 298


1- جواهر الكلام 38: 49 - 51
2- فرائد الأصول 2: 470
3- قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب) 3: 432

كان تصرّفه في ماله لا توليد فيه على الوجه المزبور، وإن حصل الضرر مقارناً لذلك لم يمنع منه(1).

وكذلك ما نقلناه عن المسالك بمنعه ما يضرّ بحائط الجار من البئر أو الشجر(2)،

وعن التذكرة - كما في جامع المقاصد - التردّد في ذلك(3)،

وعن المحقّق السبزواري(رحمه الله) الإشكال في ذلك(4)،

وقد تبعه في ذلك بعض السادة الأجلاّء(5).

الثالث: ما اختاره السيد الأستاذ(رحمه الله) من القول بالتفصيل: بين صورة عدم النفع فيحكم بعدم الجواز، وبين صورة الضرر فيحكم بجواز التصرّف. وعلى كلّ تقدير يحكم بالضمان، هذا ما ذكره في الهداية(6).

وأمّا ما ورد في المصباح(7)

- من الحكم بعدم الجواز في الصورة الأولى، والحرمة في الثانية - فلعلّه من هفوات قلم المقرّر.

الرابع: ما يظهر من سيد المنتقى(رحمه الله) من الحكم بالجواز مطلقاً مع الحكم

ص: 299


1- جواهر الكلام 38 : 52
2- مسالك الأفهام 12: 416
3- جامع المقاصد 7: 27
4- كفاية الأحكام 2: 556
5- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 335
6- الهداية في الأصول 3: 581 - 582
7- مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 657 - 658

بالضمان(1).

أمّا القول الأوّل - وهو المنسوب إلى المشهور - فيمكن الاستدلال له بوجوه:

الوجه الأوّل: إطلاق قاعدة السلطنة؛ حيث ورد عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ) قوله: «الناس مسلّطون على أموالهم»، ويمكن تقريبه بوجوه:

التقريب الأوّل: ما يظهر من صاحب مفتاح الكرامة، وهو: أنّ الأمر دائر بين الضرر على الجار والضرر على المالك أو عدم نفعه، فمقتضى قاعدة «لا ضرر» عدم جواز الإضرار بالغير مطلقاً، كما أنّ مقتضى قاعدة السلطنة جواز تصرّف المالك في ملكه، الأعمّ من الإضرار بالغير، إلاّ إنّ أدلّة «لا ضرر» لا تقاوم أدلّة السلطنة سنداً ودلالة.

أمّا الأوّل؛ فلكون رواياتها متواترة معمول بها بين المسلمين، والحال أنّ بعض روايات «لا ضرر» ضعاف لا تكافئ أدلّة السلطنة.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ ظاهر قاعدة «لا ضرر» إنّما تجري فيما لو قصد المتصرّف الإضرار بالغير، ومع عدم قصد ذلك يكون إطلاق قاعدة السلطنة محكماً؛ فإنّها تدلّ على سلطنة المالك في ملكه بأيّ نحو من أنحاء التصرّف، سواء أضرّ بحال غيره، أو لا(2).

التقريب الثاني: ما يظهر من الشيخ الأنصاري!: من أنّ قاعدة «لا ضرر»

ص: 300


1- منتقى الأصول 5: 473
2- انظر: مفتاح الكرامة 19: 68

وإن كانت شاملة للمقام، إلاّ إنّ المانع من التمسّك بها هو لزوم تعارض صدرها مع ذيلها؛ إذ إنّ مقتضى صدرها (لا ضرر) عدم حرمة التصرّف، لكون ترك التصرّف موجباً لتضرّر المالك، كما أنّ مقتضى الذيل (لا ضرار) حرمة الإضرار بالغير وعدم جوازه للمالك؛ لأنّه موجبٌ لتضرّر الجار، فيقع التعارض بينهما، والمرجع حينئذٍ عموم قاعدة السلطنة، وعلى فرض عدم ثبوتها فالمرجع هو الأصل العملي، وهو في المقام أصالة البراءة عن حرمة التصرّف، فحينئذٍ يجوز للمالك التصرّف في ملكه بنحو الإطلاق(1).

وقد يقال: إنّه يلزم من شمول خصوص الصدر للمالك الحكم بالمتناقضين، وبعبارة أخرى: وقوع التعارض في نفس الفقرة الأولى (لا ضرر)؛ وذلك لأنّ تصرّف المالك في ملكه موجب لتضرّر جاره، فيلزم الحكم بحرمته بمقتضى «لا ضرر»، كما أنّ عدم تصرّفه في ملكه ضرر على نفسه، فنفيه بمقتضى الصدر موجب لجواز تصرّفه، وهذا معنى دلالة الصدر على الحكمين المتناقضين (الحرمة والجواز).

التقريب الثالث: ما يظهر من السيد الأستاذ!: من أنّ قاعدة «لا ضرر» لا تشمل المقام أصلاً، لا صدراً ولا ذيلاً؛ لأنّها واردة مورد الامتنان على الأمّة الإسلامية، فلا تشمل مورداً كان شموله له منافياً للامتنان، ومن المعلوم: أنّ حرمة التصرّف في ملكه بما يضرّ الجار منافٍ للامتنان عليه، كما أنّ الترخيص

ص: 301


1- انظر: فرائد الأصول2: 467

وجواز التصرّف في ملكه خلاف الامتنان على الجار، فلا يكون شيء منهما مشمولاً للقاعدة، فتكون مجملة في المقام، فيرجع إلى العمومات، ومقتضى إطلاق «الناس مسلّطون على أموالهم» جواز التصرّف في ملكه مطلقاً، وكذلك مقتضى أصالة البراءة عن الحرمة(1).

الوجه الثاني: ما يظهر من الشيخ الأنصاري!: من التمسّك بقاعدة «لا حرج»؛ حيث قال: الأوفق بالقواعد تقديم المالك؛ لأنّ حجر المالك عن التصرّف في ماله ضررٌ يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة «السلطنة»، و«نفي الحرج»...، والظاهر: عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرّف أشدّ من ضرر الغير، أو أقلّ؛ إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلّة الضرر كما سيجيء، وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر، فإنّ تحمّل الغير على الضرر - ولو يسيراً لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيراً - حرج وضيق، ولذا اتّفقوا على أنّه يجوز للمكره الإضرار بما دون القتل لأجل دفع الضرر عن نفسه، ولو كان أقلّ من ضرر الغير(2).

الوجه الثالث: التمسّك بقاعدة نفي الاضطرار؛ فإنّ منع تصرّف المالك في ملكه يوجب الضرر، وكلّ ما يلزم منه الضرر فصاحبه مضطرّ إلى ارتكابه، وبمقتضى قاعدة نفي الاضطرار يحكم بجواز تصرّفه.

ص: 302


1- انظر: مصباح الأصول (موسوعة الإمام الخوئي) 47: 657
2- فرائد الأصول 2: 470 - 471

هذه هي الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على قول المشهور، وقد أجيب عن جميع هذه الوجوه، ونحن نتعرّض إلى المهمّ منها، وهو الأوّل بتقاريبه الثلاثة، ونحيل التحقيق في سائر الوجوه إلى بحث الفقه.

فنقول: قد أشكل على الوجه الأوّل تارة من جهة الكبرى، وأخرى من جهة الصغرى.

أمّا الكبرى؛ فقد أورد عليها: بأنّ حديث السلطنة لم يرد في شيء من جوامعنا الروائية. نعم، قد ذكره صاحب عوالي اللئالي مرسلاً في عدّة موارد(1)، كما ذكره الشيخ الطوسي(رحمه الله) في خلافه(2)،

ومع ذلك ليس للحديث سند معتبر، فضلاً عن كونه متواتراً، وأمّا الشهرة العملية فهي غير ثابتة، كما أنّ الشهرة العملية المتأخّرة لا اعتبار بها.

ولكنّ الظاهر: أنّ القاعدة ثابثة وتامّة؛ فإنّه وإن لم يرد حديث السلطنة في الكتب المعتبرة بهذه الصيغة، بَيد أنّ مضمونها ورد في عدّة روايات - كما ورد في باب منجّزات المريض وغيره بأسانيد معتبرة (3)- مفادها: أنّ صاحب المال

ص: 303


1- عوالي اللئالي 2: 138، ح383؛ وج 3: 208، ح49
2- كتاب الخلاف 3: 176
3- لا يخفى أنّ سند الرواية الأولى - وكذا الثانية والرابعة والخامسة والحادية عشرة، المذكور في وسائل الشيعة 19: 296 - 300 - معتبر، وإن وقع في بعض أسانيدها ممّن لم يوثّق صريحاً في كلمات الرجاليين، كيحيى بن المبارك في الأولى، وأبي الحسين الساباطي وهو عمر بن شداد الأزدي في الرابعة والخامسة أيضاً، إلاّ إنّه يمكن توثيقهم من جهة وقوعهم في أسانيد نوادر الحكمة

يعمل في ماله كيف يشاء، أو هو ماله يصنع ما شاء به(1).

هذا، مضافاً إلى أنّ السيرة العقلائية جارية على ذلك قطعاً، وهي متّصلة بزمان المعصوم(علیه السلام)، ولم يردع عنها، فثبوت هذا الحقّ للمالك يعدّ من البديهيات.

والمتحصّل: أنّه لا إشكال في ثبوت القاعدة.

وأمّا الصغرى؛ فقد أورد عليها: بأنّه على فرض التسليم بثبوت القاعدة إلاّ إنّها غير شاملة لمورد كون تصرّف المالك في ملكه موجباً للإضرار بالغير؛ لعدم وجود إطلاق فيها، لكون مدركها السيرة، وهي دليل لبّي ليس فيه إطلاق يؤخذ به، وعلى فرض التسليم بها فهي من القواعد الأوّلية، والأحكام الثانوية حاكمة على القواعد الأوّلية.

والظاهر: أنّ ما ذكر في الإيراد الثاني في محلّه، وأمّا ما ذكر في الأوّل فلا يمكن المساعدة عليه؛ فإنّ مقتضى ما ورد من الروايات - من قوله(علیه السلام): «هو ماله يصنع ما شاء به»(2)،

أو قوله(علیه السلام): «إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّاً»(3)،

وغيرها - هو الإطلاق، فحينئذٍ في صورة دوران الأمر بين عدم النفع والإضرار بالجار، فالذي يبدو في النظر هو التفصيل بين صورة

ص: 304


1- انظر: وسائل الشيعة 19: 296 - 297، ح1و2
2- وسائل الشيعة 19: 296، ح6
3- وسائل الشيعة 19: 297، ح2

عدم نفع المالك وإضرار الجار، وبين صورة تضرّر المالك لتركه التصرّف في ملكه والإضرار بالجار، ففي الصورة الأولى نقول بعدم الجواز؛ وذلك لأنّ دليل حرمة الإضرار بالغير حاكم على الأدلّة الأوّلية.

وأمّا في الصورة الثانية؛ فالظاهر أنّ دليل نفي الضرر بالنسبة إلى المالك والجار على حدّ سواء، فحينئذٍ إذا كان كلا الضررين متساويين في الأهمّية أو المالية، فإذا تصالحا وتوافقا على إدخال الضرر على أحدهما وجبران الآخر فذاك، وإلاّ فالحاكم يحكم بإدخال الضرر على أحدهما، وإجبار الآخر بالضمان؛ لأنّ ذلك وقع لتخليص ماله وسلامته من الضرر.

وأمّا إذا اختلفا في الأهمّية أو المالية، فيقدّم الأقلّ، سواء كان لصاحب الدار أو للجار، ويضمن الآخر جبران ذلك.

والحاصل: أنّ الحكم في المقام هو الحكم في الصورة الثالثة من القسم الثالث، فإنّه يكون من باب دوران الضرر بين شخصين، فبعد تعارض الضررين - أو عدم شمول القاعدة لهذه الصورة وإجمالها - فإنّ مقتضى قاعدة العدل والإنصاف هو الأخذ بالأقلّ والحكم بالضمان على الآخر، وهذا الوجه هو ما احتمله صاحب الكفاية في ذيل كلامه(1).

وبعبارة أخرى: في صورة تضرّر المالك والجار معاً، فإنّ حديث «لا ضرر» إمّا أنّه غير شاملٍ لهما معاً؛ لأنّه لا يشمل مورداً كان شموله له منافياً للامتنان،

ص: 305


1- انظر: كفاية الأصول 3: 163

وإمّا لأجل وقوع التعارض بين الصدر والذيل، ولا يمكن العمل بأحدى الفقرتين، فلابدّ من الرجوع إلى العمومات أو الإطلاقات، والفرض أنّ لنا في المقام إطلاقين:

أحدهما: إطلاقات أدلّة أنه «يعمل بماله ما شاء»، و«الناس مسلّطون على أموالهم»، سواء كان فيه ضرر على الآخرين، أو لا.

والآخر: إطلاق أدلّة حرمة الإضرار بالغير، وما يوجب النقص والضرر في ماله، سواء كان موجباً للضرر على المالك، أو لا.

فيتعارضان ويتساقطان، فيرجع حينئذٍ إلى قاعدة العدل والإنصاف، فإذا تراضيا وتصالحا فهو، وإلاّ فالحكم هو ما ذكرناه.

ص: 306

فهرس المصادر

1. اختيار معرفة الرجال

الشيخ الطوسي، تصحيح وتعليق: المعلّم الثالث ميرداماد الاسترآبادي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث.

2. أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق

تقرير بحث آية الله الشيخ مسلم الداوري، بقلم الشيخ محمّد علي صالح المعلّم، مؤسّسة الإمام الرضا(علیه السلام) للبحث والتحقيق العلمي، الطبعة الرابعة، 1434ﻫ - 2012م.

3. الانتصار

السيّد الشريف المرتضى، تحقيق: لجنة التحقيق في مؤسّسة النشر الإسلامي، نشر مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1415ﻫ ، قم المقدّسة.

4. بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر

السيد الإمام الخميني، تحقيق ونشر: مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، الطبعة الثانية، 1414 ﻫ ، قم المقدّسة.

ص: 307

5. بداية المجتهد ونهاية المقتصد

ابن رشد الحفيد، تحقيق: خالد العطّار، نشر دار الفكر، 1415ﻫ ، بيروت.

6. تحف العقول

الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة السابعة، 1425، قم المقدّسة.

7. تذكرة الفقهاء

العلاّمة الحلّي، تحقيق: مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1420 ﻫ .

8. تفسير القمّي

علي بن إبراهيم القمّي، تحقيق: السيد طيب الموسوي الجزائري، الطبعة الثالثة، 1404 ﻫ ، قم المقدّسة.

9. التقية في فقه أهل البيت(علیهم السلام)

تقرير بحث آية الله الشيخ مسلم الداوري، بقلم الشيخ محمّد علي المعلّم، تحقيق: مؤسّسة الإمام الرضا(علیه السلام) للبحث والتحقيق العلمي، نشر فاروس، الطبعة الأولى 1395ﻫ - 2017م.

10. تنوير الحوالك في شرح موطّأ مالك

جلال الدين السيوطي، تحقيق: الشيخ محمّد عبدالعزيز الخالدي، منشورات

ص: 308

محمد علي بيضون - دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418ﻫ - 1997م، بيروت.

11. تهذيب الأحكام

الشيخ الطوسي، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى للناشر، 1386 ش، طهران.

12. جامع أحاديث الشيعة

تحت إشراف آية الله العظمى السيد حسين البروجردي، 1409، قم المقدّسة.

13. جامع المقاصد

المحقّق الثاني، الشيخ علي بن الحسين الكركي، تحقيق مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، نشر مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 1429ﻫ - 2008م.

14. جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النجفي، تحقيق: الشيخ محمود القوجاني، نشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1367 ش، طهران.

15. حاشية المكاسب

الشيخ محمّد كاظم الآخوند الخراساني، تصحيح وتعليق: السيد مهدي شمس الدين، الطبعة الأولى، 1406 ﻫ .

ص: 309

16. خلاصة الأقوال

العلاّمة الحلّي، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، مؤسّسة نشر الفقاهة، الطبعة الثانية، 1422ق.

17. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد

الشيخ محمّد كاظم الآخوند الخراساني، تحقيق: السيد مهدي شمس الدين، انتشارات شفق، الطبعة الأولى للناشر، 1384، قم المقدّسة.

18. رجال الطوسي

الشيخ الطوسي، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1428ق، قم المقدّسة.

19. رجال النجاشي

الشيخ أحمد بن علي النجاشي، تحقيق: الحجّة السيد موسى الشبيري الزنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثامنة، 1427 ق، قم المقدّسة.

20. الرسالة العددية (مطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد)

الشيخ المفيد، تحقيق: الشيخ مهدي نجف، نشر المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد، الطبعة الأولى، 1413.

21. رسالة في قاعدة لا ضرر (المطبوعة ضمن رسائل فقهية) الشيخ مرتضى الأنصاري، تحقيق: لجنة التحقيق لتراث الشيخ الأعظم، نشر

ص: 310

مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة 1426.

22. الرسائل

السيد الإمام الخميني، نشر مؤسسة إسماعيليان، الطبعة الثالثة، 1410 ﻫ ، قم المقدّسة.

23. السنن الكبرى

البيهقي، دار الفكر، بيروت.

24. الصحاح

إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق: خليل بن مأمون شيحا، دار المعرفة، الطبعة الثالثة 1429 ﻫ - 2008م، بيروت.

25. العروة الوثقى

السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي.

26. علل الشرائع

الشيخ الصدوق، تقديم: السيد محمّد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، 1385 ﻫ - 1966م، النجف الأشرف.

27. العناوين الفقهية

السيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى 1417، قم المقدّسة.

ص: 311

28. عوالي اللئالي

ابن أبي جمهور الأحسائي، انتشارات سيد الشهداء، 1405 ﻫ ، قم المقدّسة.

29. فرائد الأصول

الشيخ الأنصاري، تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثامنة، 1428 ق، قم المقدّسة.

30. فقه الرضا(علیه السلام)

المنسوب إلى الإمام الثامن علي بن موسى الرضا(علیه السلام)، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1431 ﻫ ، قم المقدّسة.

31. فهرست الطوسي

الشيخ الطوسي، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، مؤسسة نشر الفقاهة، الطبعة الثانية، 1422.

32. قاعدة لا ضرر ولا ضرار

تقرير أبحاث آية الله العظمى الشيخ ضياء الدين العراقي، تأليف آية الله السيد مرتضى الموسوي الخلخالي، تحقيق: السيد قاسم الحسيني الجلالي، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1418 ﻫ ، قم.

33. قاعدة لا ضرر ولا ضرار

شيخ الشريعة الأصفهاني، تحقيق: يحيى أبو طالبي عراقي، مؤسسة النشر

ص: 312

الإسلامي، الطبعة الأولى، 1410 ﻫ ، قم المقدّسة.

34. قاعدة لا ضرر ولا ضرار

محاضرات آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظلّه، دار المؤرّخ العربي، الطبعة الأولى، 1414 ﻫ ، بيروت - لبنان.

35. قاعدة نفي الضرر (المطبوعة مع منية الطالب)

بقلم الشيخ موسى النجفي الخونساري، وهو ما استفاده من أستاذه المحقّق النائيني، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1427 ﻫ ، قم المقدّسة.

36. الكافي

الشيخ الكليني، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، الطبعة السابعة، 1383 ش، طهران.

37. كتاب الخلاف

الشيخ الطوسي، تحقيق: السيد علي الخراساني والسيد جواد الشهرستاني والشيخ مهدي نجف، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1429 ﻫ ، قم المقدّسة.

38. كفاية الأحكام

المحقّق السبزواري، تحقيق: الشيخ مرتضى الواعظي الأراكي، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى 1423، قم المشرّفة.

ص: 313

39. كفاية الأصول

الشيخ محمّد كاظم الخراساني، تحقيق وتعليق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1428 ق، قم المقدّسة.

40. كنز العمّال

المتّقي الهندي، تحقيق: الشيخ بكري حياني، مؤسّسة الرسالة، 1409 ﻫ - 1989 م، بيروت.

41- لسان العرب

ابن منظور الأفريقي المصري، تحقيق: يوسف البقاعي، إبراهيم شمس الدين، نضال علي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1426 ﻫ - 2005م، بيروت.

42. مجمع البحرين

الشيخ فخر الدين الطريحي، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408 ﻫ .

43. مجمع الزوائد

علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتب العلمية، 1408 ﻫ - 1988م، بيروت.

44. مختلف الشيعة

العلاّمة الحلّي، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1418ﻫ ، قم المقدّسة.

ص: 314

45. مسالك الأفهام

الشهيد الثاني، تحقيق ونشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى 1417، قم المقدّسة.

46. مستدرك الوسائل

الميرزا الشيخ حسين النوري، تحقيق: مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الرابعة، 1429 ﻫ - 2008 م، بيروت.

47. مستمسك العروة الوثقى

السيد محسن الطباطبائي الحكيم، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى للناشر، 1430 ﻫ - 2009م، بيروت.

48. المستند في شرح العروة الوثقى

تقرير أبحاث الإمام السيد الخوئي، بقلم الشهيد الشيخ مرتضى البروجردي، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الثالثة 1428 ﻫ - 2007م، قم.

49. مصباح الأصول

تقرير بحث آية الله العظمى السيد الخوئي، بقلم السيد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، موسوعة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الثالثة، 1428 ﻫ -2007م، قم المقدّسة.

50. المصباح المنير

الفيومي، نشر مؤسسة دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1414 ﻫ ، قم.

ص: 315

51. معاني الأخبار

الشيخ الصدوق، تحقيق: الأستاذ علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة السادسة، 1431 ﻫ ، قم المقدّسة.

52. معجم رجال الحديث

آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، الطبعة الخامسة، 1413 ﻫ - 1992م.

53. مفتاح الكرامة

السيد محمّد جواد الحسيني العاملي، تحقيق: الشيخ محمّد باقر الخالصي، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1421 ﻫ ، قم المقدّسة.

54. مقالات الأصول

الشيخ ضياء الدين العراقي، تحقيق: الشيخ مجتبى المحمودي والسيد منذر الحكيم، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1420 ﻫ ، قم المقدّسة.

55. المقنع الشيخ الصدوق، تحقيق: مؤسّسة الإمام الهادي(علیه السلام)، الطبعة الثانية، 1426 ق، قم المقدّسة.

56. مَن لا يحضره الفقيه

الشيخ الصدوق، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر

ص: 316

الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1426 ق، قم المقدّسة.

57. منتقى الأصول

تقرير أبحاث آية الله السيد محمّد الروحاني، بقلم الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، الطبعة الأولى 1414 ﻫ .

58. نخبة الأزهار في أحكام الخيار

تقرير بحث المحقّق شيخ الشريعة الأصفهاني، بقلم الشيخ محمّد حسين السبحاني، طبع عام 1398.

59. نصب الراية، عبدالله الزيلعي

تحقيق: أيمن صالح شعبان، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1415 ﻫ - 1995م، القاهرة.

60. نهاية الدراية في شرح الكفاية

الشيخ محمّد حسين الأصفهاني، تحقيق: الشيخ أبو الحسين القائمي، مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 1429 ﻫ - 2008م.

61. النهاية في غريب الحديث

ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمّد الطناحي، مؤسّسة إسماعيليان، الطبعة الرابعة، 1364 ش، قم المقدّسة.

ص: 317

62. نهج البلاغة

مجموعة من خطب وحكم وكلمات قصار للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)، جمعها الشريف الرضي، دار الذخائر، الطبعة الأولى، 1412 ﻫ ، قم المقدّسة.

63. نهج البلاغة

كلام الإمام علي(علیه السلام) جمعه السيد الشريف الرضي، الطبعة الأولى للناشر، 1414 ﻫ، نشر مؤسسة نهج البلاغة، قم.

64. الهداية

الشيخ الصدوق، تحقيق ونشر: مؤسّسة الإمام الهادي(علیه السلام)، الطبعة الأولى، 1418 ﻫ .

65. الهداية في الأصول

تقرير أبحاث آية الله العظمى السيد أبي القاسم الخوئي، تأليف آية الله الشيخ حسن الصافي الأصفهاني، تحقيق ونشر: مؤسّسة صاحب الأمر الطبعة الأولى، 1418 ﻫ ، قم المقدّسة.

66. الوافية

الفاضل التوني، تحقيق: السيد محمّد حسين الرضوي الكشميري، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى المحقّقة، 1412 ﻫ .

67. الوافي

محمّد محسن الفيض الكاشاني، تحقيق: ضياء الدين الحسيني الأصفهاني،

ص: 318

نشر مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي(علیه السلام)، الطبعة الأولى، 1406 ﻫ ، أصفهان.

68. وسائل الشيعة

الشيخ محمّد بن الحسن، الحرّ العاملي، تحقيق: مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الثالثة، 1429 ﻫ - 2008م، بيروت.

ص: 319

فهرس المحتويات

كلمة المؤسسة. 5

المقام الأوّل: مدرك قاعدة لا ضرر. 10

الطائفة الأولى: النصوص الواردة في قضية سمرة بن جندب... 10

الطائفة الثانية: النصوص الواردة في باب الشفعة. 13

الطائفة الثالثة: ما ورد في منع فضل الماء. 14

الطائفة الرابعة: ما ورد في هدم الجدار. 15

الطائفة الخامسة: ما ورد في حكم الدابة إذا جنت على أخرى.. 15

الطائفة السادسة: ما ورد بنحو مستقل.. 16

المقام الثاني: سند الأحاديث... 17

أسانيد الطائفة الأولى.. 19

أسانيد الطائفة الثانية. 21

أسانيد الطائفة الثالثة. 24

أسانيد الطائفة الرابعة. 24

ص: 320

أسانيد الطائفة الخامسة:. 25

أسانيد الطائفة السادسة. 26

المقام الثالث: تحديد متون الأحاديث وفيه جهات:. 35

الجهة الأولى: في وجود كلمة «الإسلام» و «على مؤمن» في ذيل الحديث وعدمه. 35

الجهة الثانية: على فرض وجودهما فهل يترتب أثر عليهما؟. 67

الجهة الثالثة: جملة «لا ضرر ولا ضرار» هل صدرت مستقلّة أو في ضمن القضايا؟. 72

المقام الرابع: مفاد الأحاديث وفيه جهتان: 97

الجهة الأولى: في مدلول مفردات الحديث... 97

الجهة الثانية: في مدلول الهيئة التركيبية وفيه مسالك:. 109

المسلك الأوّل: للشيخ الأنصاري.. 113

المسلك الثاني: للمحقق الخراساني.. 114

المسلك الثالث: لصاحب العناوين.. 116

المسلك الرابع: للفاضل التوني.. 117

المسلك الخامس: لبعض أعاظم العصر. 118

المسلك السادس: لبعض الأعلام الأجلاّء. 120

ص: 321

بيان تقرير المسالك وما يرد عليها:. 122

تقرير المسلك الأوّل.. 122

تقرير المسلك الثاني.. 135

تقرير المسلك الثالث... 146

تقرير المسلك الرابع.. 157

تقرير المسلك الخامس.... 168

تقرير المسلك السادس.... 178

المقام الخامس: تنبيهات القاعدة. 219

التنبيه الأوّل: نسبة القاعدة مع أدلة الأحكام الأوّليّة. 219

التنبيه الثاني: حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام الترخيصيّة. 226

التنبيه الثالث: شمول القاعدة للأحكام العدميّة. 238

التنبيه الرابع: هل المنفي هو الضرر المعلوم أو الواقعي؟. 245

التنبيه الخامس: هل المراد بالضرر المنفي هو الضرر الشخصي أو النوعي؟. 270

التنبيه السادس: هل تشمل القاعدة الضرر الاختياري وغير الاختياري؟. 273

التنبيه السابع: نسبة دليل لا ضرر مع أدلة أحكام العناوين الثانوية:. 275

ص: 322

فهرس المصادر. 307

فهرس المحتويات... 320

ص: 323

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.