آراء حول القرآن

هویة الکتاب

اسم الكتاب: آراء حول القرآن

المؤلف: السيد علي العلامة فاني اصفهاني

موضوع: دراسات قرآنية

تاريخ وفاة المؤلف: 1368 ش

لسان: العربية

رقم وحدة التخزين: 1

الناشر: دار الهادي

مكان النشر: بيروت

سنة الطباعة: 1411 / 1991

نشرت: اوّل

المحرر الرقمي: محمد رادمرد

آراء

سماحة آية اللّه العظمى الامام السيد على العلامة الفاني الاصفهاني

دام ظله الوارف على رؤوس المسلمين

حول القرآن

حجية ظواهره ؛ كيفية تفسيره ؛ تواتر قراء اته ؛ اختلاف القراء فى قراءته ؛ امتناع وقوع التحريف فيه؛ تخصيصه بالخبر الواحد؛ نسخه بالخبر الواحد ؛ تعدد مراتب نزوله

قم المقدسة 1399

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين واللعن على اعدائهم الى يوم الدين.

ان التدبر في القرآن الحكيم والخوض في فهم معانيه لدرك حقائقه لا يتيسر الابمعرفة امور :

الامر الاول: حجية ظواهر الكتاب

لاريب فى اختلاف المسلمين في كيفية فهم مطالب القرآن وتفسير معضلاته، اختلافا لا يرجى زواله كما لا ينبغى التأمل فى ان السبب الوحيد لذلك هو الاختلاف في مسالة الخلافة.

فمن يرى ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يخلف احدا، بل المسلمون تلبية لنداء القرآن «وامرهم شورى بينهم»، وحفظا لمصلحة العام و رعاية لاستقرار النظام، انتخبوا زعيما دينيالهم، يقول : القرآن حجة في محكماته وظواهره، وتتبين بالسنة النبوية مجملاته ومتشابهاته، والسنة عند هذه النظرية لاتخرج عن دائرة روايات الصحابة و ان كان الراوى خارجياً ولا تشمل مارواه الحسن والحسين واولادهما (عَلَيهِم السَّلَامُ)

ص: 2

بل لو كان الراوى لاخبار النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) شيعيا لا يعتنى به لكونه رافضا للسنة فكيف يؤتمن على السنة ؟.

وانشق عن هذه الجماعة فرقتان : فرقة تقول بان السنة لا تشمل روايات على (عَلَيهِ السَّلَامُ) لارتداده عن الدين بارتضائه التحكيم، ولا تشمل ايضاً روايات عثمان لارتداده كذلك بما أتى به من مخالفات للاسلام، ولهؤلاء نظرية غريبة وهي عدم الحاجة فى فهم القرآن الى التفسير لان القرآن هو الهادى وهو النور وهو البيان وهو الذكر، فكيف يحتاج الى هاد خارج عن ذاته، و شعارهم كان ولم يزل : لاحكم الا للّه، مأخوذاً من قوله تعالى : ان الحكم الاللّه، وفرقة اخرى تقول : على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ان يبين القرآن، لقوله تعالى «لتبين للناس ما نزل اليهم» فليس لاحد تفسيره الابمتابعة بيان النبى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له، نقل ذلك عن ابن تيمية، وتبعه اتباعه.

ومن يعتقد ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نص على خلافة على و اولاده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، لان الامامة عهد الهی، امرها بيد اللّه وليس لاحد من الامة حق الجعل فيها، يرى ان القرآن حجة في محكماته وظواهره ويحتاج الى التفسير الوارد عن المعصومين (النبي وخلفائه الاثنى عشر (عَلَيهِ السَّلَامُ)) فى مجملاته ومتشابهاته ولامجازفة في هذا القول، بل هو فرع لهذا الاصل الكلامي - وهو الامامة - ولامجال لتفنيد المترصد للاشكال علينا بانه لم تقولون : الراسخون فی العلم على واولاده (عَلَيهِ السَّلَامُ)، اذالجواب واضح وهوانا نرى هؤلاء خلفاء للنبى(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالنصوص والادلة، وبعد الفراغ عن هذا يكون القرآن متكئا فى ايضاحه على امرين، هما اساسان قويمان للتفسير.

الاول : القواعد العربية من اللغة والصرف والنحو و المعاني والبيان والبديع.

الثاني : الاثر الصحيح والمراد منه ما ورد بسند صحيح عن النبى او أحد ائمتنا الاثنى عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فالسنة على مذهبنا عبارة عن اقوال النبي والائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بشرط كون السند صحيحاً، ونحن نرفض بتاتاً ومن دون وسوسة ما يسمى بالسنة اذا كان الجائى به فاسقاً، اطاعة لحكم العقل الذي ارشدنا اليه قول اللّه سبحانه، فى الشريفة الربانية : «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ

ص: 3

نَادِمِينَ» (1)، ومن المدهش الغريب ان من يطرح قول عدولنا لانهم روافض كيف يطلب مناقبول قول فساقه لانهم اهل نحلته، ما هكذا تورد ياسعد الابل.

وفينا جماعة يمنعون عن حجية ظواهر الكتاب ويقولون بان اللازم ورود خبر صحيح في تفسيرها ايضاً، واليك جدول اراء الفرق الاسلامية في هذا الصدد وما يعتمدون عليه فى تفسير القرآن.

١ - الاصوليون من الشيعة الامامية، وهم القائلون بحجية ظواهر الكتاب وبان العترة مبينة لما تعسر فهمه او اجمل المراد منه، وناهيك لصحة هذا القول ما ورد عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) متواتر امن: اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتی اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا فانهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، وهذا الحديث متواتر وقد سمعه اكثر من ثلاثين صحابياً.

٢- الاخباريون من الشيعة الامامية، وهم القائلون بعدم حجية ظواهر الكتاب.

٣- اهل السنة، القائلون بحجية ظواهر الكتاب و انه قد فسرت جملة من آياته بالاخبار الماثورة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالطرق المذكورة في الصحاح الستة وغيرها.

4- الوهابية، اتباع ابن تيمية، القائلون بان النبي مبين للقرآن.

5- الخوارج، القائلون بان القرآن واضح الدلالة، منزّل للهداية، ولا يحتاج الى التفسير والبيان.

والتحقيق حجية ظواهر الكتاب كظواهر السنة وسائر الظواهر وعدم خروج ظواهر الكتاب عن قاعدة حجية الظواهر، اذ هذه القاعدة كانت ولم تزل مطردة في جميع الاعصار والامصار وعند كافة العقلاء من اى لغة كانوا ولم يردع الشارع عن هذه القاعدة فى مورد القرآن.

امابيان القاعدة فهوان البشر منذ نشوء المدنية كان ولم يزل محتاجاً في تفهيم

ص: 4


1- الحجرات 6.

مقاصده الى آلة لابرازها، من الاشارات والعلائم والنصب وترسيم الصور، الى ان وصل الى آلة لابراز مقاصده اوسع نطاقاً من الكل و أسهل تناولا من الجميع، وهو اللفظ فوضع كل لفظ خاص لمعنى مخصوص، فحكمة الوضع كانت من الاول تفهيم المقاصد، فالمتكلم باى لغة اذا كان عاقلا جاداً غير مجازف فعليه ان يستعمل كل لفظ فيما وضع له ويطبّقه على مراده الجدى (فى عالم بيان المقصد)، واذا اراد التجاوز عن الموضوع له الى معنى آخر كان عليه الاتيان بالقرينة، فقانون المحاورة موافقاً لحكمة الجعل عبارة عن بناء العقلاء بالاخذ بمقتضى الوضع اللغوى.

ولذا يكون الظاهر حجة بمعنى كونه برهاناً للمتكلم على مراده الجدى فى عالم الاحتجاج على مخاطبه وبرهاناً للمخاطب كذلك، فاذا قال المولى : ايتنى بالماء، فله ان يحتج على عبده اذا اتى بشيء آخر، بقانون المحاورة، كما انه لواتى بالماء فقال المولى: لم جئت به اذلم يكن الشيء الرطب البارد السيال مراداً لى، كان للعبدان يحتج عليه بقانون المحاورة، و انه لم لم تنصب قرينة على مرادك الذى كان خلافاً لظاهر اللفظ، ومن البديهي ان القرآن الذي نزل للتحدى والارشاد بلسان القوم، تكون ظواهره كسائر الظواهر حجة لدى العقلاء اذلم يعهد من الشارع الاتيان بطريقة جديدة فى باب الالفاظ، و تفهيم المقاصد بها ولم يردع عن الطريقة المألوفة العقلائية، وهذا المقدار كاف في حجية ظواهر الكتاب من دون حاجة الى التعبد بتلك الظواهر او غيرها، بل يكون سبيل سائر الطرق والامارات القائمة على الاحكام والموضوعات والصفات وسائر الجهات، سبيل الظواهر فى كون حجيتها ببناء العرف من دون حاجة الى التعبد الشرعى.

نعم، ذهب جمهور من علماء علم الاصول الى ان للشارع جعل الظاهر كما ان له الجعل للطريق، ولهم فى بيان مدعاهم تقریبات مختلفة ومسالك متعددة:

من تنزيل المؤدى منزلة الواقع الى تتميم الكشف (بتقريب ان الطريق الظني يكون ناقصافى جهة اراءة الواقع، والشارع انماتمم كشفه بالجعل التعبدي، فالظن الحجة شرعاً مصداق للعلم التشريعي)، ونحن قلنا بان عدم ردع الشارع لاى طريق

ص: 5

عرفي او أمارة عرفية كاف في بقاء الطريق المذكور او الامارة المذكورة على حجيتهما العرفية، بل الجعل غير متصور فى باب الطرق والامارات، وذلك لان صحة الجعل مشروطة بشرائط اربع، كلها مفقودة.

الاول : الامكان الثبوتى لجعل الطريق بان لا يكون جعله لغواً او جزافاً ومن المعلوم ان الطريق ان كان بحسب نفس الأمر والواقع طريقاً فجعله طريقا بالالزام الشرعي تحصيل للحاصل القبيح صدوراً من اى عاقل والمحال صدوراً من الحكيم جل وعلا، وان لم يكن فى الواقع طريقا فجعله طريقاً جزاف وصدور الجزاف من العاقل قبيح ومن اللّه محال.

هذا اذا اردنا التحفظ على عنوان الطريق وجعل الطريقية لشيىء ما، واما لوعد لو عدلنا عن هذا العنوان وقلنا بان المراد من جعل الطريق الأمر بالتطرق او الامر بمعاملة المؤدى منزلة الواقع او الامر بترتيب الاثر او جعله موصلا من حيث العمل ونحو ذلك، فالجواب عنه ان ذلك ان كان له ثبوت وواقعية فليس له فى الخارج عين واثر، وان شئت قلت ان جميع ماذكر عدا تتميم الكشف الذى مر الاشكال عليه خروج عن محل البحث.

الثاني : دلالة الكتاب او السنة على جعل الطريق تعبداً، وهذا كسابقه منتف بل هو توهم فاسد، وذلك لان الايات المستدل بها على حجية الطرق شرعاً ليست الامسوقة اما للاثر الخارجى المترتب قهرا على خبر المخبر من دون سوق لها للاخذ به تعبدا، كقوله تعالى : ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون، لانك ترى ان الاية مسوقة للزوم الانذار لغاية الحذر، والحذر اثر قهرى يترتب على انذار المنذر اذا كان بحيث يكون بنفسه قابلا للتأثير فلا اطلاق للاية من حيث لزوم التأثر بالانذار حتى يتوهم ان مدلوله الالتزامى حجية قوله تعبدا، وبمثل هذا يجاب عن الاستدلال بقوله تعالى : فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون، وما هو نظيره مماليس مسوقاً لجعل الحجية لخبر الواحد.

و اما معللة بعلة ارتكازية عقلية، يكون معللّها عقليا لعقلية علته وهو آية النباء

ص: 6

اذ الشارع تعالى بعد امره بالتبين فى الخبر الذى جاء به الفاسق، يقول : أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، ومن الجلى الواضح ان الاعتماد بقول الفاسق مظنة للوقوع في المفاسد.

فاصابة القوم بما لا يعلم من الفتن اثر خارجي لترتيب الاثر على قول غير المتحرز عن الكذب يعلمه كل عاقل راجع وجدانه كما ان لزوم الفحص عن صحته وسقمه حينذاك حكم عقلى يحكم به كل عاقل بارتكازه و فطرته من دون حاجة الى اعمال التعبد في ذلك فالاية ناظرة الى حكم العقل، مرشدة للعقلاء الى التثبت الكامل والتبين حول خبر الفاسق ونحن قلنابان اطلاق.

قوله تعالى فاسق في الصدر، محكوم بالتعليل في الذيل، ووجه الحكومة ان العلة لنصوصيتها في بيان ملاك الحكم أقوى من الموضوع وعلى هذا نحن نأخذ بقول الفاسق المتحرز عن الكذب حيث ان فسقه من غير جهة الكذب، والفسق اذا كان من غير جهة الكذب - كشرب الخمر - لايكون سبباً للالقاء فى المخاطر، و هذا فيما اذا احرزنا صدقه، و على هذا الاساس قلنا بان الخلل في المذهب لا يكون موجباً لضعف الخبر، والاخبار المستدل بها على حجية خبر العادل لاتكون - ايضاً _ دالة على حجية خبر العادل تعبداً، لان التعليلات الواردة فيها ناظرة طراً الى امور ارتكازية عقلائية وقد اسمعناك ان العلة اذا كانت عقلية كان المعلل عقلياً، واليك نبذ من تلك التعليلات كقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فاسمع له وأطع فانه الثقة المأمون. (1)

وقوله(عَلَيهِ السَّلَامُ): فانهما الثقتان المامونان (2)، وقوله : فان في خلافهم الرشاد، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): فان المجمع عليه لاريب فيه، وانظر الى هذا السؤال والجواب : أفيونس بن عبدالرحمن ثقة، آخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني؟.

فقال : نعم (3) : ترى ان قبول قول الثقة، كان في ارتكاز السائل ثابتاً،

ص: 7


1- الوسائل ج 18 ص100 الحديث الرابع.
2- نفس المصدر.
3- الوسائل ج 18 ص 107 الحدیث 33.

و انما سأل عن الموضوع وهو كون يونس ثقة، وراجع كتاب القضاء من الوسائل، تجد فيه ما يفيد المقصود ازيد مما ذكر. ونتيجة ماذكرنا كفاية حكم العقل على حجية خبر المخبر الموثوق به من غير حاجة الى التعبد التأسيسي.

الثالث : ملاك الجعل على مذهب العدلية القائلين بلزومه في الجعل حذراً من اللغوية الخارجة عن نطاق التشريعات الالهية ولاملاك فى جعل الطريق بعنوان انه طريق موصل الى الواقع.

و بيانه ان الطريق اما موصل الى الواقع وامالا، وعلى الاول، لاملاك الا في مؤداه، وعلى الثانى، فلاشيء حتى يكون فيه الملاك.

الرابع : الثواب على الاطاعة والعقاب على المخالفة، اذ لولاهما للزم الظلم والخلف المستحيلان على اللّه ولا ثواب على اطاعة الأوامر الطريقية لان المفروض ان الغرض منها الايصال الى الواقع محضاً ولا عصيان على مخالفتها بماهي هي لما عرفت، نعم لانتحاشى عن الثواب الانقيادى ولكن لا ربط له بباب الطريق.

و أما المانعون عن حجية ظواهر الكتاب، و هم اخواننا الاخباريون، فقد استدلوا على ذلك بامور، اهمها امران :

الاول : العلم الاجمالى بارادة خلاف الظاهر فى جملة كثيرة من تلك الظواهر، بتقريب انه لاريب في وجود الناسخ والمنسوخ و المجمل و المتشابه في الايات القرآنية، كما لا خلاف في تقييد جملة من المطلقات وتخصيص العمومات و لامجال للتشكيك فى وجود المجاز فى الحقائق القرآنية، بحيث الفوا في مجازات القرآن كتبا، و نتيجة هذا العلم الاجمالى سقوط ظواهر القرآن عن الحجية رأساً لعدم العلم التفصيلى بموارد تلك المخالفات للظواهر، والجواب عنه واضح لان العلم الاجمالى من حيث الانحلال وعدمه على اربعة اقسام :

القسم الاول : ما ينحل حكماً وهو ما اذا كان فى مورده اصل مثبت للتكليف مع قطع النظر عن العلم الاجمالي نظير ما اذا كان هناك كأسان، أحدهما مستصحب النجاسة، فوقعت قطرة دم لا يدرى هل وقعت في الكأس المستصحب النجاسة ام في الاخر،

ص: 8

فحيث ان الكأس الاول مورد للتكليف اللزومي بحيث لم يؤثر وقوع الدم فيه لايجاد تكليف آخر يقال ان الكأس الثانى مورد لجريان اصالة الطهارة فلا علم اجمالي في البين، بل هو منحل حكماً بسبب الاستصحاب الجارى فى احد الكأسين و لكننا قلنا ان العلم الاجمالي بالتكليف فى امثال المثال لا يتشكل من الاول، لان الاصل الجارى فى بعض الاطراف المثبت للتكليف مانع عن تشكيله نظير ما اذا كان احد الاطراف نهراً جاريا او خارجاً عن مورد الابتلاء.

القسم الثانى : ما ينحل علما وجدانيا او كالعلم الوجداني نظير البينة، كما اذار أينا الدم في الكأس الشرقي مثلا أو قامت بينة على ذلك، وحينذاك ان احتملنا اصابة الدم للكأس الغربي مثلا ايضا، نقول ان العلم الاجمالى انحل الى علم تفصيلى وشك بدوی، نريد بالشك البدوى احتمال النجاسة الموجودة في الكأس الغربي.

القسم الثالث : ما اذا لم نحتمل ذلك، فنقول ان الاجمال ارتفع قطعا، اذالعلم الاجمالی انقلب الى العلم التفصيلي.

القسم الرابع : ما اذا بقى الاجمال بحاله حيث ان اللازم الاحتياط بالنسبة الى جميع محتملات انطباق المعلوم معها من غير فرق بين تولد علم تفصيلى منه فى بعض محتملاته ام لا، لان التنجز الحدوثى كاف لحكم العقل بالاحتياط بقاء ولان معاملة الانحلال مع هذا القسم دورى وموجب لعدم الانحلال بدليل ان اجراء الاصل في الطرف الآخر.

وهو العدل للطرف الذى تحقق منه العلم التفصيلى فيه موجب لارتفاع العلم الاجمالي و ارتفاعه سبب لعدم تولد العلم التفصيلى منه، في الطرف الآخر، فيعود العلم مجملا كما كان - وفيما نحن فيه ينحل العلم الاجمالي بوجود مخالفات لظواهر الكتاب بالفحص عنها في مظان وجودها اذتلك المخالفات لم تبق مخزونة في علم غيب البارى.

(المنزل لكتابه المنزل) بل بينها لنبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو اداء لوظيفته - هى التي بيان للقرآن فيما يحتاج اليه من البيان - قد بين لباب مدينة علمه و هو اعلم

ص: 9

اهل الاسلام بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) باتفاق كافة المسلمين واخبارهم، على بن ابى طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو قد بينه بدوره لابنه، الحسن المجتبى (عَلَيهِ السَّلَامُ) الوصى من بعده، وهكذا سائرا لائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهؤلاء بينوها لاصحابهم رواة الاحاديث في مدة تقارب ثلاثمائة سنة وبعد نشرها من قبل رواة الاحاديث، دونها اهل التدوين وهم المشائخ الثلاثة الاقدمون المحمدون المعروفون (1)، فنحن نقول ان الفحص في روايات الثقل الاصغر عترة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوجب انحلال العلم الاجمالى المذكور بعد علمنا التفصيلي بموارد وجدان المخالفات والشك البدوى فى الموارد الاخر من الظواهر. فان قلت : ان الفحص عن معارضات ظواهر الكتاب والظفر بها بمقدار المعلوم بالاجمال لايفيد الانحلال لبقاء احتمال وجود معارضات اخرى للظواهر في الواقع ولم تظفر بها، اذ من الممكن وجود ناسخ، او خاص، او مقيد، اوقرينة مجاز، لم نجدها بعد الفحص عن المعارضات.

قلت : لا بدفى كل علم اجمالی ملاحظة دائرة تشكيله، اذ لا تعقل اوسعية دائرة التنجز من دائرة التشكيل، فاذا كانت محتملات الانطباق لمعلوم اجمالي مائة، لم يجب ترتيب الاثر - اى أثر كان مترتباً على المعلوم - الاعلى هذا المقدار من الدائرة.

واما ما يكون خارجاً عنها فلا، وفى المقام هل لمنصف غير مشكك دعوى العلم بمخالفات الظواهر للقرآن ازيد مماظفرنا عليه في اخبار اهل بيت الوحي والعصمة، خزان علم اللّه وعلم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ ! كلا، فدائرة العلم الاجمالي لم تكن اوسع مما مما بأيدينا من الاخبار و من هذا البيان يتضح جواب من قال ان القرآن باجمعه خارج عن نطاق الافهام ويحتاج الى بيان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

توضيح الجواب هو ما قلنا من ان ما يحتاج الى البيان من آيات القرآن مبین،

ص: 10


1- وهم محمد بن على بن الحسين الصدوق ومحمد بن يعقوب الكليني ومحمد بن الحسن الطوسى.

بینه خلفاء النبى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ببيان منه لهم وبيانهم لنا.

وجملة القول، ان العلم الاجمالي انما يؤثر بمقدار تشكيله، فلابد وان ينظر الى دائرته سعة وضيقاً، وبعد الفحص عن المخصصات والمقيدات أو القرائن التي توجب صرف الظهور فلا مانع من العمل بظواهر القرآن، لانه لم ينعقد لنا علم اجمالى اوسع مما يظفر به الفاحص الباحث عنها فى الاخبار، فمن الغريب ان الاخباريين سدوا الباب وقالوا لاحجية لظواهر القرآن مطلقا، وانما يعرف القرآن محكمه ومتشابهه وعامه وخاصه، اهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وفى مقابلهم الذين افرطوا في الاخذ بما في القرآن من المحكم والمتشابه معا وفتحوا باب التأويل في القرآن كبعض الصوفية لاننانرى أهل العرفان (على ما يدعونه) منهم، كلما ارادوا الاستدلال على ما يتخيلونه ويذهبون اليه من المذاهب الفاسدة، لجؤوا الى الآيات القرآنية بالتأويل والتلفيق لاثبات ما يشتهونه من اهوائهم ورغباتهم السخيفة.

ولذا نقول بان الروايات المانعة عن التفسير بالرأى ناظرة الى هؤلاء واشباههم من الذين انحرفوا عن طريق الهدى الى مسير الهوى و الردى، و عدلوا عن الصراط المستقيم الى تيه الضلال، و اعتنقوا مبادی فاضحة، و عقائد فاسدة، وتكلموا باقاويل مبهمة، واتوا باباطيل كاذبة، ليس لهم عليها من سلطان، وان العقل السليم يبرى ساحة قدس القرآن من ان تحومها تلك الشبهات السوداء والخيالات و الاهواء.

الثاني :

الاخبار الكثيرة الواردة في باب تفسير القرآن - حيث توهموا انها تفيد الردع عن حجية ظواهر الكتاب مطلقا، حتى لا يكون ظاهر آية او كلمة حجة لولا ورود الاثر الصريح و النص الصحيح عن المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) في مفاده، وقد ذكر جملة من تلك الاخبار صاحب الوسائل (رَحمهُ اللّه) فى الباب الثالث عشر من كتاب القضاء في صفات القاضى و نقل عنه القول ببلوغ الروايات المانعة عن حجية ظواهر الكتاب مأتين

ص: 11

وعشرين حديثاً، ولابد لنا اولا ان نفصل تلك الاخبار من جهة مفادها، لان مداليلها الظاهرية مختلفة، ثم تقريب الاستدلال بكل طائفة منها على مرام الاخبارى والجواب عنه فنقول، يمكن تنويع هذه الاخبار الى طوائف اربع :

الأولى : ماتمنع عن ضرب بعض القرآن ببعض، حيث ورد في الكافي وغيره بانه (1) ماضرب رجل القرآن بعضه ببعض الاكفر. و تقريب الاستدلال بهذه الطائفة ان التصرف بالتفسير فى الآيات القرآنية ضرب لبعضها ببعض، ولا اقل من شمول اطلاق هذا الكلام للتفسير والاخذ بالظاهر.

و الجواب انه قد اختلف فى معنى الحديث، فقال المجلسى (رَحمهُ اللّه) ان معناه الاستدلال ببعض الآيات المتشابهة على مذهب باطل وعقيدة فاسدة،

ثم تأويل سائر الايات بحملها على المعنى الذى اراده، وقال الصدوق (رَحمهُ اللّه) معنى ضرب القرآن بعضه ببعض ان يجيب في تفسير آية بتفسير اخرى، وقال الفيض الكاشانی (رَحمهُ اللّه) في تفسيره: لعل المراد بضرب بعضه ببعض، تأويل بعض متشابهاته الى بعض بمقتضى الهوى من دون سماع من اهله او نور وهدى من اللّه، وهكذا قال في الوافي، فيكون معناه ان يؤول آية متشابهة ويحمل الأخرى على هذا المؤول، والذي نختاره في معنى الحديث هو تقطيع الايات وتلفيقها خلطاً ومزجاً بما يوافق مذهباً فاسداً، إضلالا للناس، ويشهد لذلك مانرى فى الخارج من سيرة ارباب المذاهب الباطلة، و الاراء المضللة، كجماعة من الصوفية وجمع من الخوارج الذين لايقرعون ابواب الائمة العالمين بحقائق القرآن ويتصدون لاستخراج الفروع الفقهية وماشابهها من القرآن، فلايرون مناصاً الا بتقطيع الايات ونشر قطعاتها ثم مزج بعضها ببعض، فترى الصوفية وجمعاً من الخوارج وحتى اولى الاراء السياسية يتشبثون بكلام اللّه فيلفقون قطعة آية او تمامها بقطعة آية اخرى اوتمامها ويجعلون الملفق من الآيات وأبعاضها دليلا على مسلكهم وبرهاناً على مذهبهم، فيستدل الاشتراكي

ص: 12


1- الوسائل ج 18 الباب ١٣ الحديث ٢٢.

بقوله تعالى: والارض وضعها للانام، ويقطعه عماقبله وعما بعده، ولا يلاحظ سوق الكلام ويقول باشتراك الكل فى ملك الارض، وقد يروم بعض الغفلة بترويج هذا المسلك الوعر الضال المضل ببيان ان النضج الفكرى و الارتقاء المعنوى يقتضى مثل هذا التلفيق، وملخص القول في معنی ضرب القرآن بعضه ببعض ان معناه تركيب القرآن بعضاً مع بعض على حسب ما يهواه المركب وربما يرجع هذا المعنى الى التأويل الباطل وان لم يكن منه في الحقيقة، كما سيتبين فيما بعد ان شاء اللّه تعالى.

ثم ان هذا الحديث لا ينافى ماورد من ان القرآن يفسر بعضه بعضاً لانه ناظر الى الحكومة التفسيرية اودلالة الاقتضاء من دون اعمال شخصية فكرية او ذوقية حسب التشهى في ذلك التفسير، وبيان ذلك ان معنى الحكومة ان يكون للاية الحاكمة نظر الى الاية المحكومة ولابد فى تلك الحكومة من موافقة طباع العرف عليها، فتحكيم آية على اخرى بالحكومة التفسيرية نحو جمع عرفى حسب المحاورة لاربط له بالتفسير من تلقاء النفس وحسب تشهيها بان يجمع بين اية واخرى من دون مناسبة طبيعية ومن دون اقتضاء الجمع الدلالي ل_ه ويجعل مجموعهما ناظراً الى ما يهوى.

كما ان معنى دلالة الاقتضاء ان الجمع بين قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، وبين قوله تعالى : والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين، يقتضى عقلا ان يكون اقل الحمل ستة اشهر والجمع المذكور انما هو بالمعنى الاسم المصدري واعنى ب_ه ان اجتماع الايتين بنفسهما يقتضى ذلك لا الجمع بالمعنى المصدرى اقتراحاً من اى احد کان وای شیء اراد.

الثانية : ماتمنع عن التفسير بالرأى وهي كثيرة جداً، ففى صحيح (1) زيد الشحام يخاطب الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتادة ويقول : ويحك ياقتادة ان كنت انما فسرت القرآن

ص: 13


1- ج18 الوسائل كتاب القضاء ابواب صفات القاضي ب 13.

من تلقاء نفسك فقد هلكت واهلكت، وان كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت واهلكت.

وقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) لا بن جهم : اتق اللّه ولا تؤول كتاب اللّه برأيك.

و روى العامة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، فان اصاب الحق فقد اخطأ، وعنه ايضاً من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

وفى الحديث القدسي: ما آمن بی من فسر برأيه کلامی

وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة : من فسر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب.

و هذه الطائفة صريحة الدلالة على المنع من تفسير القرآن بالرأى وكونه موجباً للعقوبة، بل هي كبيرة من الكبائر، لان الكبيرة ما توعد عليها النار.

ثم ان جملة من تلك الاخبار صحيحة الاسناد وماضعف منها مؤيد للمطلوب، بل اعتضاد بعض الضعاف ببعض مما يرفع محذور ضعف السند، ولذا اخذجمع من علمائنا بالحديث النبوى القائل بان من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، بل مفاده موافق لمفاد الاخبار الصحيحة كصحيح الشحام.

الثالثة : ماتدل على ان فى القرآن متشابهاً وله تاويل فلا يمكن الاخذ بظاهره لان تأويل ماله التأويل عند اللّه والراسخين فى العلم وهم الائمة الاثنا عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ).

قال على (عَلَيهِ السَّلَامُ) : وجعلنامع القرآن والقرآن معنا لانفارقه ولا يفارقنا (واطلاق المعية يشمل العلمية والعملية).

وهذه الطائفة تدل على تنويع الآيات الى نوعين : المحكم والمتشابه، وللمتشابه تأويلان: صحيح وباطل، والصحيح مودع عند خزنة علم اللّه وامناء سره و وحافظی

ص: 14


1- ج 18 الوسائل كتاب القضاء ابواب صفات القاضی ب13.

وحيه (عَلَيهِم السَّلَامُ) فلابد من الرجوع الى اقوالهم للعلم بالمؤول الواقعى الصحيح وتميزه عن المؤول الباطل الخيالى.

الرابعة : ماتدل على ان فى القرآن ناسخاً و منسوخاً و عاماً وخاصاً ومطلقاً ومقيداً، وعليه فلابد فى الأخذ بالظواهر المطلقة من حيث الزمان والافراد والقيود من العلم بخلوها عن الناسخ و الخاص والمقيد، اما ترى ان الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعترض على الصوفية، المفسرين للقرآن من دون رجوع اليه وهو العالم بما في القرآن بجميع شؤونه، واحتج عليهم بقوله : ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ؟ (وبمضمونه الحديث 36 و 39 فى الباب ١٣ من ابواب صفات القاضى من الوسائل).

و اما الجواب عن تلك الطوائف من الاخبار فقد عرفت ان المراد من ضرب القرآن بعضه ببعض فى الطائفة الأولى هو تقطيع الايات ثم تلفيقها تشهيا واقتراحاً بمعنى خلق آية من الايات وجعلها مدركاً لمذهب باطل اومسلك فاسد او رأى سخيف ونحو ذلك، والافاى عاقل يمنع عن التمسك بظهور قوله تعالى : اعدلوا هو اقرب للتقوى في الاطلاق، أو بفحوى : ولا تقل لهما أف لحرمة الضرب والجرح، او بظاهر قوله تعالى : اقیموا الصلاة في الوجوب، فما دل على حرمة ضرب القرآن بعضه ببعض لا يشمل الظواهر الواردة فى القرآن الراجعة الى المعارف الحقة -كسورتي الاخلاص والحديد- او الاحكام او الاخلاق او النظم الاقتصادية او الاجتماعية.

والانصاف ان المتشابهات فى مقابل النصوص والظواهر قليلة جداً وقد بينها الائمة الطاهرون (عَلَيهِم السَّلَامُ)، لولا تعصب المعاند المانع من الرجوع اليهم في فهم معضلات القرآن.

واما الطائفة الثانية : وهى العمدة لمذهب الاخباريين والتي تدل على حرمة التفسير بالرأى، فالجواب عنها واضح بأدنى تامل في مفهوم الرأى وانه عبارة عن الظن الشخصى والاستحسان النفسى والاقتراح الانفرادي، فحرمة التفسير بالرأى

ص: 15

امر عقلائی بعد وضوح ان التفسير بالرأى عبارة عن الاخذ بالاعتقاد الظني والاستحسان الذوقى وما يشبه ذلك ممالا يكون كاشفاً عن المراد الجدى الالهى عرفا لعدم ابتنائه على القواعد العربية، وعقلا لكونه مسبباً عن الاهواء الباطلة والاغراض الزائفة، وشرعا الفرض كونه مبتنيا على النظر الفردى دون النصوص الواردة عن المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ).

ومن المعلوم ان مثل هذا التفسير ليس من العلم ولا من العلمى، بل هو عبارة عن الاحتمال الذي رجحه تشهى المفسر الحامل له الى ذلك وصولا الى غرضه الخارج عن حوصلة العقل السليم والشرع القويم بتعمل نفسانی و اختلاق فکری وضم بعض المرجحات الى بعض جاعلا لحدسياته و معتقداته الظنية و الخيالية ميزاناً لفهم القرآن العظيم كبعض تفاسير الصوفية التي اذا رجعت اليها جزمت بصدق ما نقول وحكمت بان التفسير بالرأى امر مخصوص بصاحب الرأى وليس مما يفهمه العرف العام بخلاف الظواهر التي لا يكون فهمها مخصوصاً بشخص دون آخر ولا بزمان دون زمان ولا يحتاج الى اعمال نظر و تمهید مقدمات بعيدة اغلبها باطل وان كان جملة منها صحيحة.

فتفسير القرآن بالرأى عبارة عماقاله الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) لابن الجهم اتق اللّه ولا تؤول كتاب اللّه برأيك فان اللّه يقول : وما يعلم تاويله الا اللّه والراسخون في العلم، يعني اقتراحا حسب نظرك المخصوص بك وليس منه مالا يختص به احد بل يشترك في فهمه كل ناظر فى الكلام عارف بموازين اللغة.

الاترى ان كل من يسمع قول اللّه تعالى : و لا تقل لهما اف : يفهم من كلمة اف كلما يبرز الانزجارو يشعر بالتضجر، بلا تصرف نفسى ولا تفسير شخصى لهذا المفهوم.

و لما ذكرنا قال الشيخ الانصاري قدس سره ان الاخذ بالظاهر ليس من

ص: 16


1- الحديث ٣٠ الباب ١٣ المجلد 18 من الوسائل.

التفسير لان التفسير عبارة عن كشف القناع، و لاقناع للظاهر حتى يكشف، الا ان الانصاف هو ان التفسير بمفهومه العام شامل لبيان ما يفهم من الظواهر لان التفسير في اللغة ايضاح و بیان و کشف.

والبيان يشمل ايضاح المراد من الظاهر، و يشهد بذلك صدق البيان على ما يرشد اليه الواعظ من آية قرآنية فى مقام الوعظ والارشاد في مورد ايضاح المعارف الحقة والاخلاق الفاضلة وماشاكل ذلك اذا أوضح المراد منها، فيكون كشف القناع لازم خاص للتفسير لا انه لازم مساوله او لحده التام لان معنى فسر بين واسفرت المرئة وجهها اظهرته.

وعلى اى حال، فالتفسير يشمل بيان الظواهر الا ان الممنوع منه شرعا بل وعقلا انما هو ابداء رأى لا يساعد عليه العرف العام و قوانين المحاورة و الاصول العقلائية والحدود الشرعية، فهو اخذ بما لايكون كاشفا عن المراد بحسب النوع.

و اما الطائفة الثالثة فنحن نقول بموجبها لان الاخذ بالمتشابه يكون على خلاف سيرة العقلاء اذالمتشابه اما ان يكون بحسب ذات اللفظ كالمجمل و اما ان يكون بحسب التطبيق على ما فى الخارج كالمبهم بان لايدرى ماهو المصداق له بنظر المتكلم كما اذا تكلم بمفهوم عام واراد حصة خاصة منه من دون نصب قرينة عليها او قيام القرينة على عدم امكان ارادة ما ينصرف اليه هذا المفهوم بعمومه وبالنظر الى تبادره الاطلاقي فمع عدم العلم بمصداقه الحقيقى القابل للانطباق عليه الذي طبق المتكلم هذا المفهوم عليه كيف يمكننا الجزم بمراد المتكلم الجدى.

ولنا ان نمثل للمتشابه بقوله تعالى : الرحمن على العرش استوى (وهذا بغض النظر عن القرينة العقلية على ما نقول فى مفاده)، حيث ان كل ذى وجدان سليم يمنع عن الأخذ بما ينصرف اليه لفظ الاستواء بحسب التبادر الاطلاقي وهو استقرار جسم على جسم واستيلاؤه عليه، اذ هذا المعنى محال بالنسبة الى ذات اللّه المنزهة عن الجسم والجسمانيات، فاذن لا مناص الاللحمل على حصة من الاستواء تناسب الذات الواجبة غير المحدودة ولا المتشكلة، فعدم امكان الاخذ بالمتشابه لعدم العلم

ص: 17

بالمراد الجدى للمتكلم من دون رجوع الى عيبة علمه ووعاء حكمته لا يستلزم المنع عن صحة التمسك بظواهر الكتاب على نحو العموم والاطلاق لان الردع عن الاخذ بالمتشابه مخصوص بالمتشابه، ولا يمتزج الظاهر مع المتشابه حتى يسقط ظهور الظاهر بتوهم عدليته للمتشابه.

واما الطائفة الرابعة، الدالة على ان فى القرآن ناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ونحو ذلك وتمنع عن تفسيرها لاجل ذلك فهى تؤكد حجية الظواهر، وذلك لان المنع اذا كان لجهة عامة لجميع الظواهر ولم تكن مختصة بظواهر القرآن وكانت قابلة للارتفاع لم يكن هذا المنع مانعاً عن حجية الظواهر بل وجب التنبه له و التصدى لرفعه.

اما ان جهة المنع المذكور ليست مختصة بالقرآن فلانه لا ريب في ان لكل لغة وفي لسان كل متكلم من افراد الانسان عاماً وخاصاً ومطلقاً ومقيداً فوجدان كل عاقل شاهد صدق على وجود العام والخاص والمطلق والمقيد في كافة اللغات، كما ان كل عاقل يعلم بنفسه ان بيان المقاصد لا يكون دفعياً في جميع الاحيان، فللآمر أن يقول لخادمه یوم الاحد : اصنع طعاماً يوم الجمعة لضيوفنا، ثم يبين فى الايام القادمة قبل مجيء يوم الجمعة قيود الطعام وخصوصياته

واما ان هذه الجهة تؤكد الظهور ولا تمنع عنه فلانه فرق بين قولك: افحص عن الخاص، وبين قولك: اترك العام بتاتا، والأول تمهيد للعمل بالعام، وبالجملة العلم الاجمالي بوجود العام والخاص والمطلق والمقيد فى القرآن ليس الانظير هذا العلم فى كلام كل متكلم من حيث اقتضائه لزوم الفحص عن المخصص والمقيد، ولا يوجب ذلك عدم حجية ظهور العام فى العموم بل توارد الخصوصات على عام واحد لا يمنع حجيته فى الباقى وان قبلنا بان العام المخصص مجازفى الباقي فكيف اذالم نقل بذلك كما هو مقتضى التحقيق الذي نشير اليه هنا، ونقول:

ذهب اعاظم علم الاصول الى ان للعام صيغة تختص به و مثلواله بامثلة منها الجمع المحلى باللام كالعلماء ونحن اذ رأينا ان كلمة - العلماء _ تنحل الى امور

ص: 18

ثلاثة : (1) حرف التعريف، وشأنه الاشارة اما الى مدخوله من حيث المفهوم و اما الى مطابق (بفتح الباء) مفهومه المعهود ذهناً و هو الوجود الخارجي للمفهوم بشرط عدم لحاظ خصوصیات مصاديق ذلك المفهوم العام وهو الذى يعبر عنه في علم الاصول بوجود السعى باعتبار سعته الخارجية تقول : ادخل السوق واشتر اللحم، واما الى مصداق مفهومه المذكور سابقاً، واما الى مصداقه الخارجي وليس شأنه ازيد من ذلك. (2) مبدأ الجمع وهو فى المثال -ع-ل-م- ومن الواضح ان مفهوم هذه الحروف المترتبة بشرط تهيئتها بهيئة المصدر، عبارة عن صفة وجدانية من دون افادة السريان والشمول. (3) هيئة الجمع وهى : العارضة على ع-_ل_-م وهذه وظيفتها ليست الا الاشارة الى ازيد من واحد وهى المحققه لوصف عنوانی بسيط يطبق على ازيد من واحد او اثنين على اختلافهم في مفاد الجمع، ولذا فقد ذهبنا الى عدم وضع صيغة خاصة للعموم من ناحية وضع الواضع

ثم رأينا ان العرف يستفيد السريان والعموم من مثله ومع ذلك اذا خصص بخاص و خرج منه لم يحكم بخلل في موافقة الوضع بل يحكم بعدم التجاوز عن المعنى الموضوع له، فقلنا بان السريان انما يفهم من المقام واعنی به مقام بیان المرام بتقريب ان قانون المحاورة يحكم بلزوم بيان ما هو المراد التطبيقى الجدى اذالم يكن ماهو لازم المفهوم من حيث الانطباق، وهو الشمول والسريان مراداً، فاذا تكلم المتكلم بعام ولم يبين المطبق عليه الزمناه ارادة الشمول حذراً من الاغراء بالجهل القبيح المخالف لكيفية تفهيم المقصد.

ثم اذا أتى هذا المتكلم بالخاص نقول بأنه بين مراده التطبيقي من دون اى تصرف في المدلول اللغوى للفظ، وعلى هذا الاساس قلنا بأن من انحاء الحكومات حكومة الخاص على العام والمقيد على المطلق و الناسخ على المنسوخ وهى الحكومة على المقام، واعنى به مقام البيان وانه بين مالم يبين اولا، ولاجل ذلك نقول بأن تأخير البيان لولا المانع عنه كتقية او نحوها و لولا الجبران بمصلحة اقوى يكون قبيحاً خارجاً عن طريقة العقلاء المتجنبين عن الاغراء و الايذاء،

ص: 19

فالتصرف فى العام بالاتيان بالخاص ليس تصرفاً مانعا عن ظهوره المقامي في السريان بدواً وبعداً، بل لو قلنا بالمجازية، فباب المجاز واسع، و لابد من الاخذ بدواً بالعموم لاصالة العموم وباقرب المجازات بعد الظفر بالخاص فالعام انما ترفع اليد عنه بمقدار الخاص واما بالنسبة الى ما عداه فيبقى ظهوره اللفظى او المقامى على حاله من الحجية.

الامر الثانى :

في نزول القرآن لهداية الناس ووجوب التدبر فيه : لاشك في ان اللّه انزل القرآن على نبيه دليلا على نبوته و برهانا لصدقه في دعوته و جامعاً لما بعثه لتلبيغه فهو المعجز في اسلوبه والهادى للانسان بمضامينه، يسير مع الخلود وينادى بنداء : فأتوا بسورة من مثله، تحديا على المنكرين الشاكين في كونه كلام رب العالمين ومزيداً لایمان ارباب اليقين، ولم يشهد التاريخ فى طول اعصاره من اجترأ على الاقدام باتيان مثله الارجع خائبا واعترف بعجزه.

و اما مضامينه فتتضح يوماً بيوم وتتبلور في الاذهان بتطور العلوم فظاهره انيق وباطنه عميق، يتحير العاقل بان يقرع اىّ باب من ابواب علومه المتنوعة وان ينظر الى اى جانب من جوانبه المتعددة، فهل ينظر الى هذا السبك البديع المعجز لكل بليغ عن مباراته مع ان اللغة عبارة عن سلسلة من المواد وجملة من الهيئات منتظمة بقواعد نحوية، وهى معلومة لكل انسان عربى ومعروضة على كل طالب اجنبى فمن عرف اللغة العربية بموادها وهيئاتها وقواعدها لم يعسر عليه تركيب الجمل، فلم لم يقدم أحد على معارضة القرآن ؟ و هلايكون هذا الا الاعجاز، وهل يبقى مجال للوسوسة في كونه كلام الرحمن ؟.

ثم لايدرى العاقل هل يتامل فى فصاحته وبلاغته وتمثيلاته واستعاراته و تلميحاته و ترشيحاته ؟ أم يتدبر فى معانيه العميقة و مطالبه الراقية الدقيقة أويدقق النظر في كيفية رعايته لسعادة الانسان فى عيشته العائلية والنظامية، ومعالجته لمشاكل الحياة

ص: 20

مقروناً بما يسعده في الاخرة، فالقرآن هو الكفيل الوحيد لسعادة النشأتين من دون تعطيل قانون من قوانين الحياة المادية او تعطيل غريزة من الغرائز البشرية.

أم هل يتعمق في معارفه الحقة واحكامه العادلة ونظامه السياسي و الاقتصادي وامره بالاخلاق الفاضلة ونهيه عن الصفات الرذيلة ؟ أو هل ينظر الى ماقص علينا من قصص الغابرين تذكرة وموعظة لنا في سيرتنا و سريرتنا لنأخذ منهم ما مكنهم من الارتقاء الى المدارج العالية ونتجنب ما ورطهم فى المهالك ؟ فالقرآن هو الكافل الجوامع الكمال والشامل لموازين الاعتدال و الجامع لقوانين العدل والاحسان والمعيار التام للاخلاق الفاضلة والمقياس العام للخصال النازلة، وهو الهادي للبشر الى الصراط الأقوم والمرشد لهم الى الشرع الاتم وهو المشرع الاحكام والجاعل لهم رسوم العبادة وطرق السير الى اللّه سبحانه.

وهو الداعي الى السعادتين و المصباح للنشأتين، المبين للحكم والحقائق والموضح للرموز والدقائق، ينبوع العلوم والفنون و الصنايع، وعيبة النواميس والودائع والبدايع، موقظ الخلف بما جرى على السلف، كي يعتبر المعتبر ويتيقظ المستبصر فيعمل صالحا ولا يعيش ظالما.

الجمال فهذا الكتاب دائرة للمعارف الربانية، و خزينة للجواهر السماوية، يجب على كل انسان فطن نابه أن يتدبر في آيات القرآن لاستكشاف كنوزه و استخراج جواهره مستضيئا بانوار أئمة الهدى ومصابيح الدجى واعلام الورى.

ويدل على ان القرآن هاد و يجب التدبر فيه الكتاب والسنة.

اما الكتاب، فيدل على كونه هاديا قول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة : (1) «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ».

وفيها ايضا (2) : «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»، و فى سورة الاسراء (3)، «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي

ص: 21


1- الآية 3
2- الاية 185
3- الآية -9.

هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ»، وفى سورة القمر (1) : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»

و يدل على لزوم التدبر في القرآن قوله تعالى في سورة القمر كما مرفهل من مدكر؟ وفى سورة النساء (2) : «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»، وفي سورة محمد (3) : «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا».

و اما السنة فيدل على الأمرين (ان القرآن ها دوانه يجب التدبر فيه) مارواه الكلينى فى الكافي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : ان هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فان التفكر حياة قلب البصير كما يمشى المستنير فى الظلمات بالنور.

وما رواه في الكافي ايضا عن ابی عبد اللّه عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ايها الناس انكم فى دار هدنة وانتم على ظهر سفر و السير بكم سريع وقدرأيتم الليل والنهار و الشمس والقمر يبليان كل جديد و يقربان كل بعيد فأعدوا الجهاز لبعد المجاز. قال : فقام المقداد بن الاسود فقال يا رسول اللّه ومادار الهدنة ؟ فقال : دار بلاغ وانقطاع فاذا التسبت عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفع و ما حل مصدق من جعله أمامه قاده الى الجنة و من جعله خلفه ساقه الى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان و تحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر و بطن فظاهره حکم و باطنه علم ظاهره انیق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه ولاتبلى غرائبه فيه مصابيح الدجى ومنار الحكمة و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجل جال

ص: 22


1- الايات 17 - 22-32-40
2- الاية 84.
3- الآية 24.

بصره وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويخلص من نشب، فأن التفكر حياة قلب البصير كما يمشى المستنير فى الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.

بیان - التخوم : المصاديق الخفية و ما تحدث بمرور الزمان وتنطبق عليها عمومات القرآن.

ويدل على لزوم الرجوع فى غوامض معاني القرآن وعويصات بطونه العميقة الى اهل بيت النبى صلوات اللّه عليه وعليهم، اخبار كثيرة منها خبر الثقلين الذى رواه اكثر من ثلاثين صحابياً عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) انه قال : اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتى اهل بیتی ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابدأ فانهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض. و انکار سنده (وهو متواتر) كانكار دلالته - وهى نص في كونهم أمناء على علم القرآن- الدالة صريحا على لزوم التمسك بعروتهم بالسؤال عن معضلاته كما أن تبديل كلمة عترتى بسنتى و ان كان سهلا على المتعصب المعاند الا اننافى غنية عن قبول المتعنتين، ثبتنا اللّه بالقول الثابت.

ثم انه على فرض تسليمنا ان الكلمة الواردة فى لسان النبی (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هی وسنتی نقول ان السنة الصحيحة غير المكذوبة على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) انما هي عند وصيه وحامل علمه على واولاده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ولا نقبل السنة من امثال أبى هريرة الذي تعرفه اذا راجعت كتاب ابى هريرة تاليف العلامة السيد شرف الدين العاملي _ (رَحمهُ اللّه) _، وقد ظهر مما ذكرنا بطلان قول الخارجين عن طاعة على (عَلَيهِ السَّلَامُ) كفانا كتاب اللّه، لوضوح الحاجة في شرح مجملات القرآن ومأولاته وبطونه وغوامضه اليهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وظهر ايضا لزوم تحصيل العلم بقواعد توجب التمكن من تفسير القرآن، فعلم التفسير من العلوم اللازمة المفيدة خلافا لمن يقول ان القرآن واضح ولا يحتاج الى البيان.

تبصرة

الهداية فى اللغة الارشاد، البيان، التعريف، الايصال يقال: ارشده الطريق اوالى الطريق، بينه له وعرفه به، ويقال : هدى او اهدى العروس الى بعلها، زفها اليه

ص: 23

و الظاهر من التبادر الذاتى ان للّهداية مفهوماً عاماً قابلا للانطباق على الارشاد والايصال معاً فهو مشترك معنوى لالفظى والتبادر المذكور ايضا شاهد على عدم كون الايصال معنى مجازيا للّهداية، وعلى هذا يصح لنا القول بان الهداية التي يقال لها بالفارسية - راهنمائي - حقيقة ذات مراتب ربما تجتمع و ربما تفترق وربما تستلزم مرتبة منها مرتبة اخرى، فبالنسبة الى هداية اللّه سبحانه لعباده يمكن ان نجعل لها مراتب اربع، وان شئت قلت مصاديق اربعة :

الأولى : اعطاء ما يهدى الانسان و انعامه به، و هو العقل الموهوب للانسان وهو الهادى له والحجة الباطنة، قال اللّه تعالى (1) : ... «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»، وهذا الهادى لاينفك عن الانسان مادام حيا (لولا العارض ).

الثانية : اعطاء ما به يهتدى الانسان و اعنى به آيات التوحيد، قال اللّه تبارك وتعالى (2) : «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ»، تشمل الاعضاء والجوارح ومما يهتدى به الانسان اسلوب القرآن المعجز للبلغاء عن معارضته بالمثل، حيث ان العاقل يقطع بكونه كلام اللّه فيعتقد بجميع العقائد الحقة.

الثالثة : بعث الرسل الهادين الى القوانين الالهية وانزال الكتب بمضا مينها العالية المرشدة للانسان الى المعارف والاحكام، والى هذه المرتبة يشير قوله تعالى(3): «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»، وقوله تعالى (4) : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»، وقوله تعالى (5) : «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ».

ص: 24


1- الذاريات الايه 21.
2- سورة الانسان الآية ٣.
3- الجمعة الآية ٣.
4- الاسراء الآية ٩.
5- الذاريات الآية ٢٠.

الرابعة : الايصال الى المقصود، ويشير الى هذه المرتبة قوله تعالى (1): «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»، وقوله تعالى (2) : «هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ»، وقد تجمعت المراتب ماعدا الأولى فى القرآن كما يظهر بادنى تامل.

(1) انه لسبب سبكه المستحيل مماثلته يدل على كونه منزلا من اللّه على نبيه المرسل.

(2) و بسبب معارفه وحقائقه واحكامه يهدى الناس للتي هي اقوم.

(3) ولسبب اهتداء المتقين به واتخاذهم له دليلا على اعمالهم في السلوك الى السعادة الابدية يكون موصلا لهم الى الجنة - آخر أمنية العاقل _ و ذلك و ذلك معنى : «هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ».

والمرتبة الثانية من مراتب هداية القرآن تحتاج الى التدبر الذي امر اللّه به وهو يحتاج الى امور تذكر فى التفسير، ومن هنا جاء دور التفسير.

الامر الثالث :

التفسير : التفسير في اللغة : الكشف، الايضاح، البيان.

واما في الاصطلاح فقد اختلفوا في حقيقته اختلافا كثيرا وذكروا الفوارق العديدة بينه وبين التأويل.

ونحن نقول ان التفسير يطلق على امورستة وبالاحرى له موارد ستة:

الأول : شرح الالفاظ المفردة والتفقه فى موارد اللغة وهيئاتها.

الثانى : شرح الجمل بمالها من الهيئة التركيبية وهذا يحتاج الى العلم بقواعد اللغة صرفاً ونحواً مع الدقة في تطبيقها على الموارد.

الثالث : ايضاح المصاديق وتطبيق المفاهيم العامة عليها فيما اذا كانت مختفية على العرف العام وهو على ضربين : الأول : بيان المصاديق الحقيقية التي

ص: 25


1- العنكبوت الآية 69.
2- البقرة الآية ٢.

لا يعلمها العامة، وبيان هذا القسم انما هو مو كول الى خزنة علم اللّه الراسخين في العلم وهو التأويل الصحيح.

الثاني : اختراع المصاديق لعمومات القرآن اقتراحا وهذا ما اشار اليه في القرآن بقوله تعالى :(1)

«فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»، صدق اللّه العلى العظيم، حيث نرى ان ارباب الاهواء الفاسدة والمذاهب الباطلة والاغراض الخبيثة والمسالك المضلة كبعض الصوفية والخوارج وذوى السلطات الجائرة واولى السياسات الظالمة الغاشمة، كل يتمسك بالقرآن ترويجاً لكاسده واشاعة لفاسده فيطبق مفهوما على مصداق خیالی.

الرابع : بيان شأن نزول الآيات .

الخامس : بيان ماورد عن الأئمة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) في تفسير معضلات القرآن ومؤولاته.

السادس : بیان ما انطبقت عليها العمومات من المصاديق المستحدثة كانطباق أصغر من ذلك على ماكشف عنه العلم الحديث مما سمى ب_ «اتوم»، اما وجه الحاجة الى فهم المعانى لمفردات الالفاظ لغة او من حيث التفاهم العرفى فلان كثرة الطوائف المنتشرة في البلدان المترامية الاطراف سببت الأوضاع المتعددة من الواضعين الكثيرين وأوجب ذلك سعة اللغة واشتبه على اثر الاوضاع العديدة التباين بالترادف مثلا، فقد يقال بان قسورة مرادف لاسد، وقد يقال بأن لكل من اللفظين من حيث المدلول خصوصية ليست فى الاخر وكثيراً ما يشتبه التطبيق بالاستعمال فيتوهم الاشتراك اللفظى فى المشترك المعنوى وأمثلة هذا النوع كثيرة جداً، فترى اللغوى يقول اللام للملك والاختصاص وللصلة فيتوهم انه يذكر الاوضاع المتعددة للفظة اللام حيث أنه يذكر موارد الاستعمالات لللام فى تلك المعاني، فلابد وانه يريد

ص: 26


1- آل عمران الآية ٧.

من الاستعمال ما يوافق الوضع لامن جهة ان الاصل في الاستعمال هو الحقيقة كما اختاره السيد المرتضى (قدّس سِرُّه) من القدماء حتى يجاب عنه بان الاستعمال أعم بل بزعم ان فن المغوى يقتضي توافق الاستعمال مع الحقيقة رغم ان اللغوى تتبع موارد تفهیم معنی - مامن لفظ ما- كان استعمالا للفظ في مفهوم عام ثم تطبيقه على مصداق خاص او كان استعمالا في المعنى الخاص - وهذا ايضاً كان على نحو الحقيقة او كان على نحو المجاز.

والغالب ان تكون الموارد المذكورة في كتب اللغة من القسم الاول، اعنى تطبيق المفهوم على المصداق، ففى المثال حيث يكون الجامع القريب وهو مطلق الربط موجوداً في المعاني المذكورة لللام، نقول ان اللام موضوع له وانما يطبق على الربط الملكي تارة وعلى الربط الاختصاصى أخرى وهكذا، وانما تفهم التطبيقات المذكورة من المناسبات الموجودة في المقامات، كمناسبة ربط الدار بزيد مع الملك فيفهم من قولك الدار لزيد الربط الملكي، وكمناسبة ربط الجل للفرس مع الاختصاص فيفهم من قولك الجل للفرس الربط الاختصاصي، وهكذا.

فعلى المفسر ان يستفرغ وسعه و ان يتعب نفسه و ان ينهي جهده في فهم معانى الالفاظ المفردة وتشخيص حقائقها و مجازاتها و تمييز المشترك المعنوى عن اللفظى.

بل يجب عليه التفكيك بين المجاز العقلى والمجاز فى الكلمة بل بينها وبين المجاز في الاسناد، مضافاً الى ما هو المهم ايضا لو لم يكن أهم وهو الدقة في سعة المفهوم وضيقه من حيث الوضع أو المتفاهم العرفى، فترى ان الصعيد اذا كان موضوعاً لمطلق وجه الارض كان أمر التيمم سهلا و اما اذا كان موضوعاً للتراب الخالص كان امره صعبا، اضف اليه لزوم التفقه فى ان تعنون الأرض بسبب انقلابها من حال الى حال باى عنوان يكون موجبا لخروجها عن صدق الارض كالذهب والفضة و بأى عنوان لا يكون كذلك كتعنونها بعنوان العقيق و الفيروزج والمرمر، اذ من الواضح ان تحقيق ذلك يؤثر فى باب التيمم والسجدة فالذي يرى امكان تصادق

ص: 27

عنوان العقيق والارض على قطعة من الارض له ان يفتى بجو از هما على العقيق، والذي يرى خروج الارض عن عنوان الارضية، بصيرورتها عقيقا لايفتى بذلك بل نقول بان من الدقة في معانى الالفاظ المفردة هو الاخذ بظهوره الانسباقي الاولى.

مثال ذلك لفظ الرجل «بكسر الراء» الموضوع العضوخاص معروف من اعضاء البدن فاذ الف بجورب او تلبس خفالم تكن الرجل الا مافى الجورب والخف واما الجورب والخف بما هما هما فلم يكونا برجل قط، ولو اطلق الرجل على الرجل الذي في الجورب حال تلبسه به وقيل مدّ رجلك مثلا كان ذلك للتغليب أو عدم الاعتناء بالجورب.

و لذا نحن الشيعة نقول بعدم جواز المسح على الخف، ونرى صحة استدلال مولانا على (عَلَيهِ السَّلَامُ) على ذلك بقوله سبق الكتاب المسح على الخفين مريدا بذلك ان جلد المعز مثلا ليس رجلا امر اللّه تعالى بمسحه.

ثم لا ينحصر وجه الحاجة الى فهم مفردات اللغة على ما ذكرنا، ولكننا نكتفى بما قلنا لكفايته في التصديق بالحاجة الى فهمها.

وقد ظهر مما بينا عدم حجية قول اللغوى فى باب الاوضاع لعدم علمه بها و تمحض فنه في جمع موارد الاستعمالات من دون اشارة بل ولا اطلاع على كونها نفس الموضوع له او المطبق عليه الموضوع له، ولذا قلنا : يجب الجهد التام في فقه اللغات لتوقف فهم الاحكام الشرعية عليه.

و اماوجه الحاجة الى قواعد النحو وخصوصيات الجمل من تقديم كلمة على أخرى او العكس او الاتيان بضمير المتصل بين المبتدا والخبرو رعاية القرائن و المناسبات، فلان تلك الامور دخيلة دخالة تامة في فهم المرادات على ما هي عليه، و نأتى بمثال واحد وهو ان العلم بكيفية العطف وحسن الانسجام فيه له ربط بالاحكام الشرعية فالسياق اذا حكم بالعطف على القريب لم يجز العطف على البعيد، ولاجل ذلك يكون قوله تعالى (1): وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»، ظاهرا في عطف

ص: 28


1- المائدة الآية 6.

الارجل على الرؤوس.

مضافا الى ان التفكيك بين تلك الجملة والجملة الأمرة بغسل الوجوه والايدى وهى قوله تعالى (1) «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»، ايضاً يقتضى عطف الارجل على الرؤوس اذلولاه للزم عدم حسن الانسجام.

ولذا نفتى نحن الشيعة بوجوب المسح على الرجلين مستدلين بما عليه عرف المحاورة من رعاية القرب والبعد في باب العطف وحينئذ فهل لنا ان نتعجب ممن يعترض علينا بعدم المسح على الخفين وعدم غسل الرجلين ؟

واما وجه الحاجة الى العلم بالمصاديق الواقعية للمتشابهات فللحذر عن الوقوع في ورطة الضلال والاضلال بسبب التأويل الباطل في المتشابهات.

و للخروج عن ابتغاء الفتن و ترويج الاراء الباطلة والاهواء الزائفة واشاعة المسالك الخيالية، و المذاهب الشيطانية، شأن بعض الصوفية و سائر الفرق المبتدعة، وليعلم ان العلم بالمؤولات مخزون عند الائمة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ).

واماوجه الحاجة الى شأن نزول الايات فلان الخطأ في ذلك يفضى الى اتهام البرىء و تبرئة الخائن، كما ترى ان بعض الكتاب القاصرين عن درك الحقائق الراهنة يذكرون ان شأن نزول آية الخمر انما هو اجتماع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع جماعة في مجلس شرب الخمر، مع ان التاريخ يشهد بكذب ذلك، و ترى بعضهم يقول بان قوله تعالى (2) : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ»، انما نزلت في شأن ابن ملجم.

و اما وجه الحاجة الى العلم بالانطباقات القهرية للعمومات بعد تحققها فلان اعجاز القرآن ينكشف بهذا العلم واخباره عن الملاحم والمغيبات، وهنا تجدر الاشارة الى بعض ماقيل في التفسير :

١ - التفسير، كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتاويل رد احد المحتملين

ص: 29


1- المائدة الآية 8.
2- البقرة الآية 207.

الى ما يطابق الظاهر، وعليه فبيان الظاهر ليس بتفسير، ويرجع الى هذا ما نقلناه عن الشيخ الانصاري (رَحمهُ اللّه) من أن التفسير كشف للقناع ولاقناع للظاهر.

٢- وقال ابو العباس : التفسير والتأويل واحد، وجعل فى المنجد التأويل من معانى التفسير.

٣ - وعن ابن عباس : التفسير على اربعة اوجه (روى عنه ابن جریر).

الاول : وجه تعرفه العرب من كلامها، ای ما توضحه القواعد العربية.

الثاني : وجه لا يعذر احد بجهالته، ای ما وجب العلم به ولو بالرجوع الى اهله

كالعلم بآيات الاحكام والعلم بالعقائد الحقة. الثالث : وجه يعرفه العلماء، اى ما يعرفه العلماء من الحكومات والتخصيصات و نحوها.

الرابع : وجه لا يعلمه الا اللّه، اى العلم بالمؤول.

وقد قال الذهبي فى - التفسير والمفسرون - ان مالا يعذر بجهالته احد عبارة عمالا يخفى على احد، ولكنه لم يتفطن بان النسبة بين الواضح واللامعذور جهالته عموم من وجه.

و قد ظهر مما ذكرنا ان الايات القرآنية على انحاء اربعة : (١) منها ما يكون ظاهر المفاد، غير محتاج الى البيان، كقوله تعالى (1): «لَا َتقْرَبُوا الزِنَى»، (2) ومنها ما يكون مبين المفاد مجمل المصداق، وهنا يحتاج العلم التفصيلي بمصداقه الى الرجوع الى المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كقوله تعالى (2) : «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ»، وقوله تعالى (3) : «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»، ولا ينبغي الريب فى وجوب اخذ المصداق واجزائه وشرائطه وموانعه في تلك الامور عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والامام ال، فمن المدهش توهم الخوارج عدم الحاجة في تفسير القرآن الى

ص: 30


1- الاسراء الآية 32.
2- آل عمران 97.
3- البقرة الآية ٣٣.

غير القرآن،

(3) ومنها ما يكون مبين المفاد ومحتمل المصداق وهو قد يتبين ببركة القرائن وان كانت عقلية كقوله تعالى (1) : «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»، حيث حمل جمع من الصوفية، اليقين على الايمان وقالوا ان السالك الواصل الى اللّه لم تجب عليه الصلاة كما نقل عنهم المحدث الجزائرى فى الانوار النعمانية، و اللازم في فهم المراد من لفظة اليقين في هذه الآية الرجوع الى القرائن حتى يفهم ان المراد منه الموت.

ومن هذا القبيل ما بين مصداقه الكامل المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما ورد في قوله تعالى(2): ومن أحياها، ان تأويلها الاعظم هو تعليم المعارف الالهية ففى _ البرهان عن فضيل بن يسار قال قلت لابي جعفر التلال قول اللّه عز وجل فى كتابه : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، قال من حرق او غرق، قلت من اخرجها من ضلال الى هدى ؟ قال ذلك تأويلها الاعظم

ومنه ظهران في محتمل المصداق تارة لايمكن ارادة غير مصداق واحد، واخرى يمكن ارادة كل مصداق من مصاديقه،

(4) ومنها ما يكون مشتبه المفهوم والمصداق معاً وهذا هو المتشابه الذى لو طبقه احد على ما يستهويه من دون الرجوع الى الراسخين في العلم يكون ضالا ومضلا فراجع من التفاسير تفسير - ملا سلطان _ وتفسير السيد ابي القاسم الذهبي، حتى ترى ان الاخذين بالهوى كيف يلعبون مع كلام اللّه باسم التفسير.

شكاية :

و لبعض كتاب العصر كتاب حول هذا الموضوع اسماه (التفسير والمفسرون) ذکر اختلاف المفسرين في معنى التفسير ومصطلحاتهم والفرق بينه و بين التأويل

ص: 31


1- الحجر الآية 99.
2- المائدة الآية ٣٢.

وكيفية التفسير فى ادوار التاريخ ولدى اولى المذاهب المختلفة، وحينما ذكر الشيعة الامامية كشف عن عقدة النفسية وأنهى الغاية فى تعصبه الاعمى وأبان بعده الروحى الشاسع عن ادراك مكانة الشيعة الامامية العلمية واظهر فى الملا الاسلامي قصور اطلاعه عن مؤلفات الشيعة في جميع العلوم والفنون أو تعاميه عنها فتارة اسند اليهم اعتمادهم في التفسير على اخبار مكذوبة عن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) واخرى الى الجفر والجامعة وثالثة نسب اليهم التعصب والتقشف بتأويل الايات المتعلقة بالفقه واصوله تطبيقاً على آرائهم ورابعة أرجعهم فى المعارف الى مثل الجاحظ.

وتحسر وتأسف عليهم لانهم لم يفتوا بالمسح على الخفين ولم يدر المسكين ان جلد الحيوانات ليس من الرجل في شيء، وعلى فرض صحة الاطلاق فالمسح على الرجل لو لم يكن احوط فهو اولى و لااقل من التساوى،فما هذا الصراخ ؟ أو انهم لم يفتوا بغسل الرجلين ولم يتفطن بان القاعدة تقتضى العطف على القريب لولا القرينة على الخلاف.

وبناء على تلك القاعدة فلا بد من عطف وارجلكم على برؤوسكم، أو انهم كيف يفتون بجواز المتعة مع أنه يعلم ان القرآن ينص صراحة على حليتها.

و من الغريب انه قال : ان للشيعة تفسيرا منسوبا الى الامام الحسن العسكرى (عَلَيهِ السَّلَامُ) و حينذاك رأى فرصة ذهبية لافراغ سمه الطائفي بالتحامل على الشيعة بل تجاوز الحد و تجاسر على الامام العسكرى (عَلَيهِ السَّلَامُ) الاانه خوفاً من الفضيحة الكبرى اتى بكلمة (لو) غفلة او تغافلا من ان كافة علماء الشيعة المدققين انكر واصحة استناد التفسير المذكور الى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) واغرب من الكل انه ذكر تفسير السيد الشبر(رَحمهُ اللّه) في عداد تفاسير الشيعة _ وهو كنز ثمين للادب العربي ولم يتكلم حوله و لو بشطر كلمة تغطية للتهم التي اوردها على الشيعة من الجهل والتأويل المتناقض والاخذ باراء الجاحظ والتمسك بالاخبار المكذوبة على على (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتعصب و التقشف والبدع الى غير ذلك. وانت اذا رأيت يوماً هذا الكتاب عساك ان تلعن الكاذبين

ص: 32

المفترين الذين اذا كالوا الناس أو وزنوهم يخسرون.

وما أبعد بين هذا المتعصب العنيد، و الاديب المنصف استاذ كرسى الادب العربي بالقاهرة الدكتور حامد حفنى داود المعترف بنبوغ الشيعة في العلوم و براعتهم في التفسير ولاسيما تفسير السيد الشبر (رَحمهُ اللّه) الذى أخمل ذكره صاحب كتاب - التفسير و المفسرون، ومهد له الاستاذ حامد تمهيداً لطيفا، معترفا بفضل مؤلفه ومتانة تفسيره.

و من هنا نعلم أن فى كل طائفة كتابا منصفين وغير منصفين، فعلى الباحث ان يكون على وعى كامل في فحصه عن الحقائق.

الامر الرابع :

«فى القراءات وما يتعلق بها».

وهناك أسئلة لابد من الجواب عليها.

الاول : انه هل ثبت تواتر القراءات السبع المعروفة او أزيد منها ام لا ؟.

الثاني : هل ثبت تواتر الموجود بين الدفتين، ام لا ؟.

الثالث : لو سلمنا بثبوت تواتر القراءات السبعة المشهورة أو العشرة، فهل هي كلهامن عند اللّه سبحانه ام لا ؟

الرابع : لوسلمنا انها ليست من عند اللّه تعالى فهل هي حجة باجمعها بحيث اذا تحقق التعارض بين قرائتين كان من قبيل ورود الخبرين المتعارضين، وجب ان نتعامل معهما معاملة التعارض من الرجوع الى المرجحات ثم التساقط والرجوع الى الأصل الجارى فى المسألة وذلك مثل يطهرن» بالتشديد والتخفيف، ام لا؟.

وقبل الخوض فى الجواب عن هذه الاسئلة يعجبنى أن أبين جدول القراء وهو هذا :

ص: 33

الاسم، الكنية، تاريخ الموت (واللقب)، البلد،من السبعة ام لا ؟، (المشائخ)، الرواة

1) نافع ابن عبد الرحمن ابن ابى نعيم، ابورويم، الليثي توفی فی 169، المدنيّ من السبعة، (1- ابو جعفر يزيد القعقاع 2- شيبة بن نصاح 3- عبد الرحمن بن هرمز الاعرج 4- عبداللّه بن عباس، تلميذ ابي بن كعب، تلميذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ))، (1- عثمان بن سعيد المعروف ب_ (ورش)، المولود 110 المتوفى ١٩٧، 2- عيسى بن مينا المعروف ب_ ( قالون)، المولود 120 المتوفى 220، 3- اسمعيل بن جعفر).

2) عبداللّه بن كثير، ابو معبد، القاري المولود 45؛ المتوفی 120 من الهجرة، المكّيّ، من السبعة، (1- عبد اللّه بن السّائب 2- در باس مولی ابن عباس 3- مجاهد بن جبر المكّي 4- تلميذ ابن عباس)، (1- احمد البزىّ 2- محمد بن عبد الرحمن المخزومى (قينبل) قرأ على 3- ابو الحسن القوّاس) ، تبصرة : إذا اجتمع المكّي والمدنىّ يقال حجازى

3) عاصم بن أبي النّجود الاسدي التّابعی، ابوبكر، بهدلة المتوقى 127-او-128، الكوفى، من السّبعة، (1- ابو عبد الرحمن السّلمي تلميذ على بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، زر بن حبيش تلميذ عبد اللّه بن مسعود، 3- عثمان بن عفان 4- زید بن ثابت 5- ابي بن كعب عن النبيّ ( 1- شعبة بن عبّاس 2- ابو عمر و حفص بن سليمان البزاز بن المغيرة الاسد الكوفی، وروى عند اربعة اشخاص، هُم: ابو شعيب القواس وهبيرة التّمّار وعبيد بن الصبّاح وعمرو ابن الصباح 3- ابوبكرين عياش وروی عنه ثلاثة اشخاص هم : ابو يوسف الاعمش وابوصالح البرجي و يحيى بن آدم).

ص: 34

4)حمزة جبب بن عمار بن اسمعیل، ابو عمارة، الزّيّات المتوفى 156، الكوفى، من السّبعة، (1- الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، 2- سليمان بن مهران الاعمش تلميذ يحيى بن وثاب تلميذ علقمه مسروق و الاسود بن يزيد، تلامذة عبد اللّه بن مسعود، 3- حمران بن امین تلميذ ابو الاسود الدوئلي تلمیذ علیّ بم ابی طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ))، (1- عبد اللّه بن صالح العجلى 2- رجاء بن عيسى 3- حمّاد بن احمد 4- خلاد بن خالد بواسطة سليم 5- ابوعمر الدورى 6-محمد بن سعدان النحوى 7- خلف بن هشام - بواسطة سليم

5) على بن حمزة النحوي، ابو الحسن، النّحوی الکسائی، المتوفی 189، الکوفی، من السبعة، (1- حمزة 2- ابان بن تغلب 3- عیسى بن عمر 4- ابن ابی لیلی)، (1- قتيبة بن مهران 2- نصير بن يوسف النحوي ٣- ابو الحارث 4- ابو حمدون الزاهد 5- حمدون بن ميمون الزجاج 6- ابو عمر والدّورى حفص).

ابو عمرو بن العلاء المازني امام البصرة و مقرئها يقرء اهل الشّام ومصر بقرائته ابو عمر و زبان بن العلاء بن عمار بن العریان بن عبداللّه بن الحصين بن الحارث الماني البصري، ابو عمرو المازني ولد في 70-او- 68 تونى في 155-او- 154، البصري، من السبعة (1- ابو جعفر يزيد بن القعقاع 2- یزید بن رومان ٣- شيبة بن نصاح 4- عبداللّه بر كثير 5- مجاهد بن جبر 6- حميد بن قيس الاعرج المكّی 7- عبد اللّه بن ابى اسحق الحضرمي 8- عاصم بن ابى النجود الكوفي 9- ابو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصرة تلميذ ابن عباس وابیّ)، (1-شجاع بن ابى بصير 2- عباس بن الفضل 3- يحيى بن المبارك اليزيدي- وروى عن اليزيدي : (1) ابو عمر والدورى (٢) اوقية (3) ابو نعیم غلام ابى سجاده (4) ابو ایوب الخياط (5) ابو حمدون الزاهد (6) ابو شعيب السوسي)

ص: 35

7) عبداللّه بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربیعه، ابو عمران، الحیصبي ولد في 21 و توفی بدمشق عاشوراء 118، الدمشقيّ (الشامی)، من السبعة، (1- المغيرة بن إلى شهاب المخزومي تلمیذ عثمان بن عفان عن النبی (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ))، (1- عبداللّه بن ذكوان المتوفّی 202، 2- هشام بن عمار المتوفى 240).

8) يزيدين القعقاع ابو جعفر، المخزومي المتوفّی 130، المدنيّ، ليس من السبعة، (1- عبداللّه بن عباس مولاه 2- عبد اللّه بن عیاش بن ابی ربیعة تلميذ أبيّ بن كعب تلميذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ))، (1- عیسی بن وردان 2- سليمان بن جماز)

9) سهل بن محمد، ابوحاتم السجستانی، البصری واذا اجتمع الكوفى والبصری یقال: عراقی، ليس من السبعة، -،-.

10) خلف بن هشام، ابو محمد، البزّاز المتوفّی 229، لیس من السبعة ،- ، (1- اسحق الوراقّ 2- ادريس الحدّاد)

11) يعقوب بن اسحق، ابو محمد، الحضرمى المتوفی 205، البصری، ليس من السبعة، -، (1- رویس 2 روح).

ص: 36

وبعد ذلك اقول.

الجواب عن السؤال الأول يحتاج الى بيان مطالب لها ربط تام بالسؤال.

الاول : انه لاخفاء فى ان النبى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان امياً ولم يكن كاتبا بل اللّه سبحانه نهاه عن الكتابة بقوله : ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون، و لذا كانت كتابة الوحى (القرآن) و الرسائل موكولة الى الكتاب، ثم ان كتاب الوحى كانوا تسعة اشخاص و كان لكل واحد منهم طريقة خاصة فى جمع القرآن و ترتيبه حتى ان علياً واللا كان يذكر شأن نزول كل آية مع بيان ما يفسر الآية على ما علّمه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

الثانى : ان من المعلوم ان تنزيل القرآن كان متدرجا واوجب ذلك امكان اختلاف كتاب الوحى في ترتيب الآيات، نعم القطع حاصل بان ما بين الدفتين الموجود في جميع انحاء العالم وحى سماوى باسره مادة وصورة كلمة بكلمة من دون اى تحريف.

الثالث : قد يظهر بادنى تأمل بان قواعد النحو ليست قهرية الانطباق على الموارد بحيث لم يمكن ان يختلف اثنان في تطبيقها على الجمل بل التطبيق على الموارد انما هو بنظر المطبق نحويا ام مقريا، ومن هنا يأتى دور الاختلاف بين النحاة والقراء فی اعراب الجمل من التراكيب الكلامية، لاختلاف انظارهم في تميز الفاعل عن المفعول وفى متعلقات القيود وفي رجوع الاستثناء الى اى جملة وفي كيفية العطف وان - ماذا - مثلا كلمتان او كلمة واحدة مركبة و غير ذلك و لذا ترى اختلاف ابن كثير مع غيره فى اعراب: فتلقی آدم من ربه کلمات، رفعا لادم و نصباً لكلمات وبالعكس، وترى أن الشيخ الرضى نجم الائمة يعترض على قولهم : و اذا عطف على المجرور اعيد الخافض، بأنه على مذهب الكوفيين لانه قراءة حمزة و هو کوفى ولا نسلم بتواتر القراءات السبع، وليس هذا الخلاف مقصورا على القواعد النحوية بل هو جار فى قواعد الصرف ايضا كادغام ( يضار) او عدم ادغامه ( يضارر).

الرابع : مما يجب الانتباه له اختلاف البيئات والطوائف المختلفة في كيفية

ص: 37

أداء الكلام والتلفظ بحروف الهجاء واعراب الجمل اختلافا فاحشا، فالهذلي يقرىء عتى حين بدلا من حتى حين، والاسدى يقرىء يعلمون وتعلم (بالكسر) بدلامن يعلمون وتعلم بالفتح، ويتزايد هذا الاختلاف بسبب حدوث قواعد اجادة الاداء و هو علم التجويد ولا سيما مع ملاحظة ان هذا العلم انما يعتمد على الاستحسان والذوق في الاغلب و ان الاذواق تختلف جدا فترى ان كيفية اداء القاف او الطاء مشروطة عند اهل التجويد بشروط وترى ان الادغامين - الكبير والصغير - كيف يؤثران في حالة التلفظ و أن الروم والاشمام والامالة والترقيق والتفخيم والمد والاستطالة والنبرة والصفير و الاشباع لها دوربين فى اختلاف القراءات بل نرى ان اشباع الاشباع ربما يولد الحرف من الحركة فيقرى القارىء المشبع لكسرة -ك - في (مَالِكِ يَومِ الدِّينِ) مالكى يوم الدين، وهذا لحن واضح يوجب بطلان القراءة و به تبطل صلاة المتعمد العالم باللحن و لكن المشبع يراه اجادة للقراءة لكونه اشباعا للكسرة،اذا عرفت هذه الامور الاربعة علمت ان الاختلافات التي نذكرها عن قريب نشأت في الغالب اما عن اشتباه التفسير بالتنزيل او الاختلاف فى الاعراب اوفى كيفية الاداء مما لا يوجب وهنا (والعياذ باللّه منه) فى القرآن المجيد فمن المدهش أننار أينا بعض المستشرقين بالغوا في امر الاختلاف في القرآن حتى جعلوا الاختلاف في الادغام و الاظهار اختلافا في القرآن فى مثل نعم ما و - نعما - بل جعلوا الاختلاف في رسم الخط اختلافا فيه في مثل كل ما وكلما فلتكن على بصيرة من امثال ذلك.

الخامس : اختلفت الاقوال فى تواتر القراءات السبع بل العشر، فذهب الشهيد الثانى فى شرح الالفية الصفحة - 137 - الى تواترها فقال ما زجا للمتن بالشرح :

الثاني : مراعاة اعرابها والمراد به ما يشمل الاعراب و البناء وتشديدها لنيابته مناب الحرف المدغم على الوجه المنقول بالتواتر وهى قراءة السبعة المشهورة وفى تواتر تمام العشرة باضافة ابى جعفر ويعقوب وخلف خلاف اجوده ثبوته وقد شهد المصنف في الذكرى بتواترها وهو لا يقصر عن نقل الاجماع بخبر الواحد واعلم

ص: 38

انه ليس المراد ان كل ماورد من هذه القراءات متواتربل المراد انحصار المتواتر الان فيما نقل من هذه القراءات فان بعض ما نقل من السبعة شاذ فضلا عن غيرهم كما حققه جماعة من أهل هذا الشأن والمعتبر القراءة بما تواتر من تلك القراءات وان ركب بعضها في بعض مالم يترتب بعضه على بعض بحسب العربية فيجب مراعاته کتلقى آدم من ربه كلمات فانه لا يجوز الرفع فيهما ولا النصب وان كان كل منهما متواترا بأن يؤخذ رفع آدم من غير قراءة ابن كثير و رفع كلمات من قراءته فان ذلك لا يصح لفساد المعنى ونحوه وكفلها زكريا بالتشديد مع الرفع اوبالعكس وقد نقل ابن الجزري في - النشر - عن اكثر القراء جواز ذلك ايضاً و اختار ما ذكرناه.

اما اتباع قراءة الواحد من العشرة فى جميع السورة فغير واجب قطعا بل ولا مستحب فان الكل من عند اللّه نزل به الروح الامين على قلب سيد المرسلين(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تخفيفا على الامة وتهوينا على اهل هذه الملة وانحصار القراءات فيما ذكر أمر حادث غير معروف في الزمن السابق بل أنكر ذلك كثير من الفضلاء خوفا من التباس الامر وتوهم ان المراد من السبعة هى الاحرف التي ورد فى النقل ان القرآن انزل عليها والامر ليس كذلك فالواجب القراءة بما تواتر منها فلو قرأ بالقراءات الشواذ و هي في زماننا ماعدا العشرة ومالم يكن متواترا بطلت الصلاة الى ان قال : لان الشاذليس بقرآن ولادعاء الخ.

ويظهر من كلامه أن الشهيد الاول قائل بتواترها ايضا ونفى الباس عن تواتر القراءات العشر المحقق الكركي (رَحمهُ اللّه) حيث علق على قول الشهيد الاول في الالفية الشواذ وهو جمع شاذ والمراد به مالم يكن متواتراً وقد حصر بعضهم التواتر في القراءات السبع المشهورة وجوز المصنف العشر باضافة ابى جعفر و يعقوب وخلف لانها متواترة و لاباس به.

وذهب جمع من العامة الى تواتر القراءات العشر، منهم العلامة قاضى القضاة ابونصر عبدالوهاب ابن السبكى الشافعى حيث اجاب عن استفتاء ابن الجزري

ص: 39

بالتواتر بمايلي واليك نصهما :

(الاستفتاء)

ما يقول السادة العلماء أئمة الدين فى القراءات العشر التي يقرىء بها اليوم هل هي متواترة اوغير متواترة ؟ وهل كل ما انفرد به واحد من العشرة بحرف من الحروف متواتر ام لا ؟ واذا كانت متواترة فما يجب على من جحدها او حرفا منها.

ثم قال ابن الجزري : فاجابنى ومن خطه نقلت : الحمد للّه، القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي والثلاث التي هي قراءة ابى جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة انه منزل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يكابر في شيء من ذلك الاجاهل وليس تواتر شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات بل هي متواترة عند كل مسلم يقول اشهد ان لا اله الا اللّه واشهدان محمداً رسول اللّه ولو كان مع ذلك عاميا جلفاً لا يحفظ من القرآن حرفاً ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لايسع هذه الورقة شرحه وحظ كل مسلم وحقه ان يدين اللّه تعالى و يجزم نفسه بان ماذكرناه متواتر معلوم باليقين ولا يتطرق الظنون ولا الارتياب الى شيء منه واللّه اعلم، كتبه عبدالوهاب بن السبكي الشافعي.

و قال جفرى فى مقدمته على كتاب المصاحف الصفحة الثامنة : وحتى الان يعتمد كثير من العلماء قراءة القراء العشرة ويثبتون ان كل قراءة : رويت عن العشرة هي قراءة متواترة، انتهى.

وقد منع التواتر جماعة من علماء الفريقين (الخاصة والعامة).

فقال السيد السند، صاحب المدارك (رَحمهُ اللّه) في تعليقه على كلام الشهيد :

نقل جمع من الاصحاب الاجماع على تواتر القراءات السبع وحكم المصنف في - ذكرى - (1) بتواتر العشر ايضاً وذكر المحقق الشيخ على (رَحمهُ اللّه) ان حكم

ص: 40


1- ذكرى احد كتب الشهيد (رَحمهُ اللّه).

المصنف بذلك لا يقصر عن ثبوت الاجماع بخبر الواحد فتجوز القراءة بها وهو غير جيد لان ذلك رجوع عن اعتبار التواتر، ونقل جدى (قدّس سِرُّه) عن جماعة من القراء انهم قالوا : ليس المراد بتواتر السبع و العشران كل ما ورد من هذه القراءات متواتر بل المراد انحصار المتواتر الآن فى ما نقل من هذه القراءآت فان بعض ما نقل عن السبعة شاذ فضلا عن غيرهم، وهو مشكل جدا، لان التواتر لايلتبس بغيره كما يعلم بالوجدان.

وقال نجم الائمة في بحث واذا عطف على المضمر المجرور أعيد الخافض والظاهر ان حمزة جوز ذلك على مذهب الكوفيين لانه كوفي ولانسلم تواتر القراءات السبع وقال البلاغي في مقدمة آلاء الرحمن ما ملخص مضمونه ان القرآن الموجود بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل متواتر قطعاً مادة وصورة والقراءات المتخالفة من القراء السبع لم توثر على قرائته المستمرة على النحو المرسوم ثم ان هذه الاختلافات في القراءات ترجع في الاغلب الى الخلاف في قراءة مثل _ كفوا او شأى او أرأيتم – أو الى كيفية الاداء امالة واشماما واشباعاً ونحو ذلك ومع ذلك فانماهي روايات احاد عن احاد لاتوجب اطمئنانا و لا وثوقا فضلا عن وهنها بالتعارض و مخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة الخ.

وقد منع التواتر ايضا الشيخ الطوسى في - التبيان _ والسيد بن طاووس في سعد السعود والسيد الجزائرى والمولى جمال الدين الخونسارى، ومن العامة منعه جمع كثير كالزمخشري والزركشي والحاجبي والرازي والعضدي.

قال اسماعيل بن ابراهيم بن محمد القراب فى اول كتاب _ الشافى _ على مافى - النشر فى القراءات العشر -.

ثم التمسك بقرءاة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه اثر ولاسمة وانما هو من جمع بعض المتأخرين لم يكن قرأباكثر من السبع فصنف كتاباً وسماه - السبع فانتشر ذلك فى العامة و توهموا أنه لا يجوز الزيادة على ما ذكر في ذلك الكتاب لاشتهار ذكر مصنفه وقد صنف غيره كتبا في القراءات وبعده و ذكر لكل امام من

ص: 41

هؤلاء الأئمة روايات كثيرة وانواعاً من الاختلاف ولم يقل احدانه لاتجوز القراءة بتلك الروايات من اجل انها غير مذكورة فى كتاب ذلك المصنف ولو كانت القراءة محصورة بسبع روايات لسبعة قراء لوجب ألا يؤخذ عن كل واحد منهم الارواية وهذ الاقائل به وينبغى ان لايتوهم متوهم في قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) انزل القرآن على سبعة احرف انه منصرف الى قراءة القراء السبعة الذين ولدوا بعد التابعين لانه يؤدى الى ان يكون الخبر متعريا عن الفائدة الى ان يولد هؤلاء الأئمة السبعة فيؤخذ عنهم القراءة ويؤدى ايضا الى ان لايجوز لاحد من الصحابة ان يقرأ الابما يعلم ان هؤلاء القراء اذا ولدوا وتعلموا اختاره والقراءة به وهذا تجاهل من قائله وانما ذكرت ذلك لان قومامن العامة يقولونه جهلا ويتعلقون بالخبر ويتوهمون ان معنى السبعة احرف المذكورة في الخبر، اتباع هؤلاء الأئمة السبعة و ليس ذلك على مايتوهموه بل طريق اخذ القراءة ان تؤخذ عن امام ثقة لفظاً عن لفظ اماما عن امام الى ان يتصل بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، واللّه اعلم بجميع ذلك.

ونقل ابن الجزرى عن ابي شامة فى - المرشد الوجيز - قوله : فان الاعتماد على استجماع تلك الاوصاف (وسيأتى مراده منها) لاعمن تنسب اليه فان القراءات منها المنسوبة الى كل قارىء من السبعة وغيرهم منقسمة الى المجمع عليه والشاذ غيران هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه فى قرائتهم تركن النفس الى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم.

السادس : اتفق علماء السنة (على الظاهر) على صحة الحديث المنقول عن النبى(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بان القرآن انزل على سبعة احرف واختلفوا في معناه.

قال ابن الجزري في - النشر فى القراءات العشر- : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ان هذا القرآن انزل على سبعة احرف فاقرؤا ما تيسر منه، متفق عليه و هذا لفظ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن عمر.

و في لفظ للترمذى ايضا عن ابى قال : لقى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جبرئيل عند احجار المرا، قال فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لجبرئيل انى بعثت الى امة اميين فيهم الشيخ الفاني

ص: 42

والعجوز الكبيرة والغلام، قال فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة احرف، وفي رواية عن ابي ما ملخصه ان احدا افتتح النحل فقرأ على خلافه ثم قرأ اخر على خلافه:

و خلاف الأول فاخذهما الى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلما قرعا قال لكل منهما احسنت أو ما بمعناه فنزل جبرئيل و قال ان اللّه يأمرك ان تقرأ القرآن على حرف واحد، فقال اللّهم خفف عن امتى ثم عاد فقال ان ربك عز وجل يأمرك ان تقرأ القرآن على حرفين فقال اللّهم خفف عن امتى فنزل جبرئيل وأمره عن اللّه بان يقرأ على سبعة احرف.

ونقل ابن الجزرى هذا الحديث عن تسعة عشر صحابيا وقال : قال الامام الكبير ابو عبيد القاسم بن سلام ان هذا الحديث تواتر عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقال ابن الاثير في نهايته في الحديث نزل القرآن على سبعة احرف كلها كافشاف اراد بالحرف : اللغة، يعنى على سبع لغات من لغات العرب اى انها مفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل ويعضه بلغة هوازن و بعضه بلغة اليمن وليس معناه ان يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه على انه قدجاء في القرآن ماقرءى بسبعة وعشرة كقوله : مالك يوم الدين و عبد الطاغوت و ممايبين ذلك قول ابن مسعود اني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم انما هو كقول احدكم : هلم وتعال و اقبل وفيه اقوال غير ذلك هذا أحسنها، قال صاحب الوافى قال فى القاموس مثله، وقيل المراد من السبعة ليس معناه الحقيقى بل هو كناية عن السعة في التلفظ.

وقيل : المراد لغات العرب لان اصول قبائل العرب تنتهى الى سبعة وقيل اللغات الفصحى سبع و قال ابو الفضل الرازى ان السبعة هي عبارة عن:

1 - اختلاف الاسماء من الأفراد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث والمبالغة وغيرها.

2 اختلاف تصاريف الافعال من الماضى والمضارع والامر والاسناد الى مذكرا ومؤنث او متکلم او مخاطب او فاعل او مفعول.

3- اختلاف الاعراب.

ص: 43

4- الاختلاف بالزيادة والنقيصة.

5 - الاختلاف بالتقديم والتأخير.

6 - تبدیل كلمة او حرف بآخر.

7 - الاختلاف بالادغام والاظهار والترقيق والتفخيم والفتح والامالة مثلا.

وقيل حرف كل شيء طرفه و وجهه و حافته وحده و ناحيته و القطعة منه والحرف ايضاً واحد حروف التهجى كانه قطعة من الكلمة، وقيل الحرف هو الوجه كما في قوله تعالى (1):

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» و على الأول المراد من السبعة احرف القراءات السبعة تسمية للشيء باسم جزئه وماهومنه، و على الثانى سبعة اوجه من اللغات كما قاله ابو عمرو الدانی وابو عبيد واكثر العلماء، فقال ابو عبيد قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم ويمن، وقيل بان خمس لغات تكون في اكناف هوازن ولغتين اخريين في جميع ألسنة العرب، وقال ابو عبيد الهروى ان تلك اللغات السبعة متفرقة فى القرآن بمعنى ان بعضه قرشی و بعضه هوازني وهكذا.

واستشكل على هذا التوجيه باننا نرى ان هشام بن حكم وعمر كلاهما قرشيان ويختلفان في القراءة.

وقال ابن قتيبة ان العرب تختلف فى كيفية الاداء وكل واحد من ارباب اللّهجات المختلفة اذا ارادان يزول عن لغته و ماجرى عليه اعتیاده طفلا و ناشئاً وكهلا لاشتد عليه ذلك وعظمت المحنة فيها فاراد اللّه ان يجعل لهم متسعاً في اللغات، ومراده من هذا البيان الاختلاف في كيفية اداء – اف- و جبرئيل - و-ارجه _ و _ هيهات و- هيت - و عليهم - الذى يقرءی عليهموا -، مثلا- و - موسى _ و _ عيسى - بالامالة او بدونها واشمام الضم مع الكسر فى مثل - قيل لهم - وغيض الماء _، اوعدمه- وخبيراً - وبصيراً - بالترقيق او بدونه، وان التميمي يهمز و القرشي لا يهمز، وان الهذلي يقرىء: - عتى حين - بدلا عن - حتى حين -، والاسدى يقرىء: - تعملون

ص: 44


1- الحج الآية ١١.

يعلم - يسود - ألم اعهد -، بالكسر فى حرف المضارع، بل ترى ان اللبناني يبدل القاف همزة فيقول : - أم -، بدلا عن - قم - ونحو ذلك مما هو كثير في جميع اللغات وفوق الكثرة في لغة الضاد.

و قد يحمل سبعة احرف على مقاصد القرآن، لما في رواية الحاكم في مستدر که عن ابن مسعود عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نزل القرآن من سبعة ابواب على سبعة احرف زجراً وأمراً وحلالا وحراماً ومحكماً ومتشابهاً وامثالا، فاحلوا حلاله.

وروى ابن جرير عن أبي قلابة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): انزل القرآن على سبعة احرف امر وزجر و ترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل، و روى عن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) عشرة : بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه وحلال وحرام، و عن ابن عباس اربعة.

وانت جد خبير بان التقسيم يختلف باختلاف الانظار في القسمة، مع انه لا اهميةلبیان اقسام مقاصد القرآن.

ومن الغريب ما ورد في بعض اخبارهم من ان جبرئيل لما بلغ سبعة احرف قال كلها شاف كاف مالم تختم آية عذاب برحمة واية رحمة بعذاب وفي خبر نحو قولك : تعال واقبل و هلم واذهب واسرع واعجل وفى خبران قلت غفوراً رحيماً او قلت سميعاً عليماً او عليما سميعاً فاللّه كذلك مالم تختم آية عذاب برحمة اورحمة بعذاب.

وقيل السبعة عبارة عن :

١- الحلال .

٢- الحرامية.

٣ – المحكم.

4 – المتشابه.

5 – الامثال.

6- الانشاء.

ص: 45

7 - الأخبار.

وقيل : الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمجمل والمبين والمفسر .

وقيل : الامر والنهى والطلب والدعاء والخبر والاستخبار والزجر.

وقيل : الوعد والوعيد والمطلق والمقيد والتفسير والاعراب والتأويل.

وقد ذكر ابن حيان خمسة وثلاثين معنى لسبعة احرف، بل قالوا الاقوال فيه اربعون.

ولك ان تسأل القوم عن امكان الجمع بين المعنيين في كلام واحد بان تجعل المراد من الاحرف اللفظ، وتقول : المراد سبعة لغات وفي نفس الوقت المعنى ايضاً وتقول : المراد الامر والزجر الخ.

ولك أن تسأل ايضاً بان الشاهد على صدق - سبعة احرف _ على كل واحد من تلك المعانى موجودام لا ؟

و لك ان تسأل أيضاً هل انه لا يكون فرق بين نزول القرآن وهو فعل اختيارى توقيفى لمنزله وهو اللّه تعالى وبين الارجاع فى القراءة الى اختيار القارىء بشرط واحد فقط و هو عدم ختم رحمة بعذاب أو عذاب برحمة، ثم ان الاتيان بالمترادفات بمعنى النقل بالمعنى ان كان جائزاً خرج القرآن عن كونه معجزافي اسلوبه وأمكن الاتيان بمثله، و الطريف انه جاء في لفظ لعمرو بن العاص : فاى ذلك قرأتم فقد اصبتم ولاتماروا فيه فان المراء فيه كفر، و ليت شعرى ما المراد من المراء فهل الدقة فى القراءة ورعاية النظم والتركيب و التجنب عن الاخلال في أسلوب الوحى، مراء، وهل التصرف بالتشهى و الاقتراح في الكلام الالهى اصابة للحق وليس من الضوضاء في شيء، وسيأتى تحقيق الحال فانتظر.

السابع : وجوه الاختلاف في القراءات

اختلاف القراءات يتنوع الى انواع عديدة وقبل بيان الاقوال فيها نقول : تختلف التقسيمات - على وجه العموم - بالوجوه والاعتبارات فلنا نظراً الى ماهو

ص: 46

المهم عندنا من الاحكام المتعلقة بافعال المكلفين أن نقسم الاختلاف في القراءة الى أربعة أقسام :

الاول : الاختلاف المؤدى الى الاختلاف فى الحكم الشرعي كالاختلاف في قراءة يطهرن بتشديد الهاء وتخفيفه الموجب لاختلاف الحكم لان القراءة الاولى دالة على حرمة وطء الحائض الى ان تغتسل بعد النقاء والقراءة الثانية دالة على كفاية النقاء فى ارتفاع حرمة الوطء وفى مثله نقول بلزوم الرجوع الى المرجحات كما يأتي.

الثانى : الاختلاف المؤدى الى الاختلاف في المعنى غير المربوط بالحكم الشرعي، كقوله تعالى ننشرها الذى قرءى ننشزها ايضاً وقوله تعالى : وتلقى آدم من ربه كلمات، على القرائتين و _ تلقونه _ على القرائتين ايضاً او طلح التي قرئت طلع ايضاً

الثالث: الاختلاف المغير للصورة غير المغير للمعنى كقوله تعالى - صيحة - التي قرئت زقية - ايضاً، أو قوله : وماعملت ايديهم التى قرئت _ عملته-. ايضاً، ونظيره الاختلاف في التقديم والتأخير نظير سكرة الموت بالحق التي قرئت : سكرت الحق بالموت.

الرابع : الاختلاف فى الاداء واصناف هذا القسم كثيرة جداً كالادغام والاظهار والروم والاشمام، وقراءة - هيت - وارجه وكفواً و نحو ذلك على انحاء مختلفة، و اليك بيان جملة من الأقوال.

بهذا الصدد قال ابن قتيبة : الاختلاف فى القراءة على سبعة اقسام : الاول : الاختلاف في الاعراب غير المغير للصورة وللمعنى كقراءة - أطهر لكم - بالضم و - بالفتح - وقراءة - هل يجازى الا الكفور - و هل يجازى الا الكفود - وقراءة - ميسرة - بكسر السين - و - مسيرة - بضمها - و - فيضاعفه - و - فيضاعفه - بفتح الفاء وضمّها.

الثانى : الاختلاف في الاعراب غير المغير للصورة والمغير للمعنى كقراءة

ص: 47

ربنا (بفتح الباء) باعد دعاء وربنا (بضم الباء) باعد اخباراً، وتلقونه وتلقونه بالتشديد والتخفيف وحتى يطهران وحتى يطهرن (بالتخفيف والتشديد).

الثالث : الاختلاف فى الحروف، غير المغير للصورة و المغير للمعنى كقراءة : كيف ننشرها (بالراء) وكيف ننشزها (بالزای).

الرابع : الاختلاف المغير للصورة فى الكلمة وغير المغير للمعنى كقراءة صيحة واحدة _ و _ زقية واحدة.

الخامس : الاختلاف فى الكلمة المغير للصورة و المعنى، كقراءة : - والعهن المنفوش - و - والصوف المنفوش.

السادس : الاختلاف با لتقديم والتأخير كقراءة : وجاءت سكرة الموت بالحق - وجاءت سكرة الحق بالموت.

السابع : الاختلاف بالزيادة والنقيصة، كقراءة - وما عملت ايديهم - و - وما عملته ايديهم - او وان اللّه هو الغنى الحميد - و - ان اللّه الغنى الحميد. وهذا أخى له تسع وتسعون نعجة - و - هذا اخى له تسع وتسعون نعجة انثى.

وقال بعضهم : اقسام الاختلاف في القراء ات هكذا:

١ - الاختلاف بالحركة (غير المغير للصورة و للمعنى) وذلك كقراءة : النحل على اربعة انحاء، ويحسب على نحوين.

٢- الاختلاف بالحركة (غير المغير للصورة و المغير للمعنى) نظير قوله تعالى : فتلقی آدم من ربه كلمات وقوله تعالى : واذكر بعد امة.

3 - الاختلاف بالحروف (غير المغير للصورة والمغير للمعنى) كقوله تعالى تبلوا - وتتلوا، وننحيك ببدنك و. ننجيك ببدنك.

4- الاختلاف بالحروف (المغير للصورة وغير المغير للمعنى) كالصراط و السراط - وبسطة و بصطة.

5 - الاختلاف بالحروف (المغير للصورة والمعنى معاً )كقوله : اشد منكم او- اشد منهم ويأتل و- يتأل.

ص: 48

6 - الاختلاف في التقديم والتأخير، مثاله: فيقتلون ويقتلون، وجاءت سكرة الحق بالموت، اوجاءت سكرة الموت بالحق.

7- الاختلاف بالزيادة والنقصان، نظير وأوصى ووصى.

8 - الاختلاف فى القواعد التجويدية كالروم والاشمام و التفخيم والترقيق و الادغام والاظهار والمد و القصر والفتح والتسهيل والابدال والنقل وهي ليست اختلافاً فى اللفظ ولافي المعنى.

وختاما نلفت انظار النابهين الى جملة من الاخطاء التي ربما تكون جملة منها عمدية صدرت من الاجانب المسيحيين تمس كرامة القرآن، وهذه الجملة تتلخص في ثلاثة أقسام :

الاول : ما لا يكون اختلافاً ولكن الخصم ابرزه بصورة الاختلاف.

الثانى : ما لادليل على تحققه خارجاً.

الثالث : الزيادات المنافية لما نقول من عدم التحريف.

فمن الأول : يضارر و يضار و فنعم ما و نعما المختلفين من حيث الاظهار و الادغام ونظير كل ما وكلما المختلفين من حيث رسم الخط وهذا كماترى ليس من المضر بكرامة القرآن.

ومن الثاثى : خمراً و عنباً، وثريداً وخبزاً، و آل عمران و آل محمد، والرفث و الرفوت، و عدل وسواء، والحنيفية والاسلام، ولا ينبغي للعاقل ان يعترف بصدق هذا النحو من الاختلاف لانه مضافاً الى عدم الدليل عليه كيف يشتبه على كاتبين من كتاب الوحى او المقرئين من القراء كلمة آل عمران : - آل محمد _ او الرفث ب_ -الرفوت - ولاسيما بالنسبة الى جملة من الكلمات التى دخلت في آيات لا تناسبها كالمثال الاخير وهو الرفوت، الكلمة التى لم نرهيئتها فى اللغة وليس معناها و هو الدق والكسر مناسبا مع المقام، وان قلت هي كناية قلت فما اقبحها.

ومن الثالث: اثر الرسول واثر فرس الرسول، ولا تخافت بها ولاتخافت بصوتك ولاتعال به، ومشوافيه ومروافيه و مضوافيه، وسفينة غصباً وسفينة صالحة غصباً، وتسع

ص: 49

وتسعون نعجة وتسع وتسعون نعجة انثى، و - واما الغلام فكان ابواه مؤمنين و- واما الغلام فكان كافراً و كان ابواه مؤمنين، وقد توجد جملة وافرة من هذا القسم في القراءة التي جمعها الخزاعى ونقلها الهذلي وقال ابو العلاء الواسطى ان الخزاعي وضع كتاباً في الحروف نسبه الى ابي حنيفة فاخذت خط الدار قطني وجماعة ان الكتاب موضوع لا أصل له، اقول ان التنافر بين الطوائف المختلفة من المسلمين سنياً وشيعياً وصل الى حد جعلوا القرآن سلاحاً للغلبة، فتوهيناً لابي حنيفة وضعوا الكتاب المذكور، راجع - النشر في القراءات العشر-.

الثامن : فى ذكر الاخبار الواردة من طرقنا في مورد اختلاف القراءات وقد رواها محمد بن يعقوب الكلينى فى الكافى فقال على بن ابراهيم عن ابيه ابراهيم بن هاشم عن محمد بن ابی عمیر عن عمر بن اذينة عن الفضيل بن يسار قال قلت لا بي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة احرف فقال كذبوا أعداء اللّه ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد، والسند صحيح او حسن بابراهیم بن هاشم و هو من مشايخ النشر و الاجازة، و الدلالة واضحة فى نفى نزول القرآن على سبعة احرف.

وعن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الوشاء عن جميل بن دراج عن محمد ابن مسلم عن زرارة بن اعين عن ابی جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: ان القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيىء من قبل الرواة، والحسين هو الاشعرى الثقة، وقالوا في معلی بانه مضطرب الحديث و قال المجلسيان لم نر اضطرابا في حديثه ولا فساداً في مذهبه و هو شيخ للاجازة و للنشر و ليس محتاجاً الى التوثيق، و التحقيق في محله فالسند قابل للاعتبار والدلالة واضحة، على ان رواة القراء اختلفوا في النقل، والشاهد على ذلك ان لكل قارءى رواة وقد اختاروا من كل منهم راويين وتراهما مختلفين فى الرواية عن شيخهما ولعل اختلافهما كان في التلقى عن الاستاذا و لمزج الرواية بالدراية بمعنى تطبيق قواعد الاعراب على المسموع من الاستاذ و كيف كان فلاشبهة فى اختلاف روايتي حفص وشعبة عن عاصم وقالون وورش عن

ص: 50

نافع وقنبل و بزی عن ابن کثیر و ابی عمر و و ا بن شعیب عن اليزيدي عن ابي عمرو وابن ذكوان وهشام عن ابن عامر وخلف وحماد عن سليم عن حمزة وابي عمرو وابي الحارث عن الكسائي.

وعن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن علی بن الحكم عن عبد اللّه بن فرقد والمعلى بن خنيس قالا : كنا عند ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعنار بيعة الرأى فذكر القرآن فقال ابو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان كان ابن مسعود لا يقرعى على قرائتنا فهو ضال، فقال ربيعة: ضال؟؟، فقال : نعم ضال.

ثم قال ابو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أما نحن فنقرءى على قراءة أبى، قال في الوافي : المستفاد من هذا الحديث ان القراءة الصحيحة هي قراءة ابى بن كعب و ربما يجعل المكتوب بصورة أبى فى هذا الحديث الاب المضاف الى ياء المتكلم هو بعيد جداً، وانا اقول : اما استبعاده فهو فى محله لان ابي بن كعب كان من تلامذة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في القراءة وكان معروفاً بها.

واما الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم يكن ذافن قرائى واحد يعرف به وبتعبير أو فى لم تكن له قراءة خاصة تضاف اليه، ثم ان عبد اللّه بن فرقد مجهول والمعلى بن خنيس مرمى بعدم اطاعته لامر الصادق الملا بكتمان السر حتى قتل ونحن قلنا بان المعلى كان ثقة فى القول وهذا يكفى فى قبول أخباره مضافاً الى ان الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما أخبر بقتله بكي وترحم عليه، مضافاً الى انه لم يعلم كون نهيه عن اذاعة السر مولوياً فلعله كان ارشادياً بل الشاهد على الاخير موجود وهو تعليل النهي عن الاذاعة بانه لو أذاع يقتل، و من الذى يجزم بان قتله لم يكن قتلافى سبيل اللّه اذلو لم يكن فى كل زمان ومكان امثال المعلى ممن يضحي بنفسه في سبيل الدعوة الالهية الحقة لاندرست احكام الدين ولاباد الطغاة عساكر الحق واليقين فنرجو من اللّه أن يحشر هؤلاء في زمرة الشهداء والصديقين، فالخبر بالاضافة اليه معتبر واما الدلالة فهى ناظرة الى لزوم الدقة في تطبيق قواعد الاعراب على المقروء وعلى ان قراءة أبي كانت على وفقها، على انه لم تكن لهم قراءة خاصة فكيف باختصاصهم بقرآن خاص.

ص: 51

فكلمة بقرائتنا - فى صدر الحديث ناظرة الى القراءة المتعارفة الجارية على قواعد الاعراب، بشهادة الذيل ولايفهم من الخبر بطلان قراءة ابن مسعود وهو تلميذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فى القراءة كأبى بل هو ناظر الى لزوم الاتحاد فى القراءة وعدم خصوصية لقراءة على الاخرى الا بالا وفقية مع القواعد، وهناك اخبار اخرى ضعيفة الاسناد نذكرها للاشارة الى مافيها.

منها ما رواه في الكافي عن العدة عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن بعض أصحابه عن ابى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال قلت له : جعلت فداك انا نسمع الايات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن ان نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم ؟ فقال : لا، اقرؤوا كما تعلمتم، فسيجيؤ كم من يعلمكم، وهذا الخبر انما يدل على الاختلاف في كيفية الاداء والاتفاق فى المادة والصورة ولا اقل من عدم دلالته على ازيد مما ذكر مع ان السند ضعيف لا يمكن الركون اليه لجهالة بعض اصحاب ابن سليمان والجهل بوثاقته بنفسه.

ومنها ماعن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن عبد الرحمن بن ابی هاشم عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وانا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مه، كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرءى الناس حتى يقوم القائم، واذا قائم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قرأ كتاب اللّه تعالى على حده واخرج المصحف الذى كتبه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال اخرجه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم هذا كتاب اللّه تعالى كما انزله اللّه على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد جمعته بين اللوحين فقالوا هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لاحاجة لنافيه فقال اما و اللّه ما ترونه بعد يومكم هذا ابدا انما كان على ان أخبركم حين جمعته لتقرؤوه، ويتمسك بهذا الخبر لامور :

الأول : ان المصحف الذي جمعه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو القرآن الكامل النازل من السماء على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

الثاني : وقوع التحريف في القرآن.

ص: 52

الثالث : اننا مأمورون فى زمن الغيبة بقراءة ماعند الناس من القرآن مادة وصورة واعراباً ولكن السند ضعيف بسالم بن سلمة، و اما دلالته على التحريف فنجيب عنها فيما سيأتي.

ومنها ما عن على بن محمد عن بعض اصحابه عن البزنطی قالدفع الى ابو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مصحفاً وقال لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه : لم يكن الذين كفروا، فوجدت اسم سبعين رجلا من قريش باسمائهم و اسماء آبائهم قال فبعث الى ابعث الى بالمصحف.

وقد يستدل بهذا الخبر على وقوع التحريف بالنقيصة في القرآن ولكن الخبر ضعيف اذلو قلنا بوثاقة على بن محمد لكونه من مشايخ الكليني فلاريب في ان بعض اصحابه مجهول فالسند ضعيف لا محالة واما الدلالة فيرد عليها.

اولا انه ما وجه دفع الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) المصحف الى من ينهاه عن النظر فيه مع انه موضع سره.

و ثانياً ما السبب فى عصيان البزنطى (وهو من الثقات الاجلاء ومن بطانة الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)) لنهى الامام المفترض طاعته على الجميع، وثالثاً انه هل كانت أسماء المنافقين الموجودة في المصحف جزءاً من الوحى او بياناً لمصاديق المنافقين، وخلاصة الكلام ان هذا الخبر ضعيف سندا ودلالة، ولا يخفى عليك ان القول بأن القرآن المنزل من اللّه على نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له الوحدة من حيث المادة والصورة والهيئة ليس مختصا بالشيعة واخبارهم لان الظاهر من بعض اخبار اهل السنة واقوالهم ايضاً وحدة القرآن في الامور الثلاثة اى المادة والصورة والهيئة (الاعراب)، فراجع جامع البيان عن ابي عمرو الداني قوله : ائمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الافشى فى اللغة والأقيس فى العربية بل على الاثبت فى الاثر والاصح في النقل والرواية اذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية و لافشو لغة لان القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير اليها انتهى.

ات الا ان يقال بان كلام الدانى لايدل الا على التوقيف لا الوحدة فالاحسن ان نتمسك بما نقل عن عبد الرحمن السلمى من أنه قال كانت قراءة ابي بكر وعمر وعثمان

ص: 53

وزيد بن ثابت والمهاجرين والانصار واحدة انتهى.

اضف الى ذلك أن المدار على البرهان لاعلى كثرة انصار قول وقلتها.

التاسع : في بيان امور ثلاثة.

الاول : في تأسيس الاصل فى المسألة فنقول ان قراءة القرآن اما واجبة تكليفاً ووضعاً كما في الصلوات الخمسة وصلاة الطواف او وضعاً كمافى صلاة العيدين واما مستحبة كقراءة القرآن بماهي قراءة له.

وفى الاول ان ثبتت صحة القراءة بالطرق الموجبة للعلم الوجداني كالتواتر او الموجبة للاطمئنان كخير الواحد الموثوق به فهو، والا فاصالة الاشتغال بوجوب القراءة الصحيحة : كالفاتحة والسورة في الصلوات اليومية تكليفا ووضعاً تقتضى وجوب تحصيل العلم أو ما هو بمنزلته بالقراءة الصحيحة، لانه اذا أتى بالصلاة مع القراءة المشكوكة لم يتيقن باداء الواجب.

وفى الثانى تجرى اصالة عدم القرانية وعدم مشروعية القراءة المشكوكة.

الثاني : التواتر عبارة عن اتفاق جماعة كثيرة على امر اخباراً عنه بحيث لم يمكن تواطؤهم على الكذب، فاذا كان الخبر ذا واسطة واحدة كاخبار جماعة كثيرة بوقوع الزلزلة في الزمان الحاضر في البلد الفلاني، وجب أن يمتنع اتفاقهم على الكذب، حتى يصدق على خبرهم عنوان المتواتر.

و لكن اذا أخبروا عن جماعة اخرى و جب ان يمتنع اتفاق كل واحدة من الطائفتين على الكذب وهكذا بالنسبة الى اى طبقة طبقة من الطبقات المتصاعدة _ ان تصاعدت الطبقات.

الثالث : ان القراءات السبعة ليست متواترة بالمعنى المذكورلان العمدة في اثباته الاجماع المنقول، والاجماع المنقول ليس بحجة مع ان التواتر أمر محسوس والاجماع المنقول منقول ولا يثبت المحسوس بالمنقول فلقد أعجب من قال بان نقل التواتر لا يقصر عن الاجماع المنقول بالخبر الواحد، زعماً منه بأنا نسلم الحكم

ص: 54

في المقيس عليه ويشهد على عدم تواتر القراءات السبع وعدم انحصار القراءات بها مصنفات القوم من القراءات الثلاثة الى القراءات الثلاثة عشرة، واليك أسماء جملة منها : «الكفاية فى القراءات الست» «الاقناع فى القراءات السبع »و«الشفعة في القراءات السبعة» «وعقد اللئالى فى القراءات السبع» و «الشرعة في القراءات السبعة» «والمبهج فى القراءات الثمان» و- «التلخيص فى القراءات الثمان» «والتذكرة فى القراءات الثمان» و - «النشر فى القراءات العشر» لابن الجزري وهو كتاب لطيف، و«الجامع» و «المستنير» و «المهذب» و«التذكار» و«المصباح» و «الکامل» «والمنتهى» «والاشارة» «والكنز» و «الكفاية» وغيرها في القراءات العشرو «الجامع في العشر» وقراءة أعمش «والروضة فى القراءات الاحدى عشرة» و «البستانفى القراء ات الثلاث عشر».

والغرض من ذكر هذه الكتب ان القراءات لا تنحصر بالسبع ولا معنى لتواترها بالخصوص، نعم القراءات السبع أوفق بالقواعد وأبعد عن الاستحسان ولذا قيل بأن الخلف انما اقتدوا بهؤلاء السبعة لامرين :

الاول : ان هؤلاء تجردوا لقراءة القرآن مع العناية الشديدة بها و وفور العلم بقواعدها و اما من عداهم فلم يكونوا بتلك المكانة من العلم و التجرد اذ كانوا ذوى فنون مختلفة.

الثانى : انه كانت قرائتهم مسندة حرفاً بحرف عن السلف بمعنى بعدها عن التصحيف وسلامتها عن اختلاف الرواة والنساخ، وان شئت جعلت اول الامرين انحصار فنهم بالقراءة و اشتغالهم طول حياتهم بها مع وفور العلم خلافاً لمن تعد قرائته من الشواذ حيث ان رتبته انزل فى ما ذكر من هؤلاء وثانيهما معروفية قرائتهم لفظا وسماعا حرفا بحرف من اول القرآن الى آخره، ثم ان ارقى كل هذه القراءات قراءة عاصم الكوفى برواية حفص الكوفى و هي الرسم الخطى الموجود في العالم بأسره حيث ان كمالها الأدبي فاق القراءات ولذا قل من احب

ص: 55

الاطلاع على غيرها الا لازدياد الدقة و المعرفة، ولك ان تجعل التاريخ شاهداً على صدق ماقلنا بان تلاحظ بدء نشوء قواعد الاعراب ثم تطورها الى بلوغ ذروتها الادبية ونبوغ الفطاحل وعظماء الادب العربي فيها، فترى ان عليا اللاهو صاحب مكتب النحو وتلميذه الاول كان أبا الاسود الدؤلى، و ترى ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان اول استاذ لقراءة القرآن وكان من تلامذته أبي بن كعب و عثمان و عبداللّه ابن مسعود و عبد اللّه بن عباس وزيد بن ثابت.

ثم استمرت دراسة القرآن مقرونة بدراسة النحوالى أواسط القرن الثاني و هو زمان تلامذة السبعة ففى خلال هذه السنين المتمادية شغل النحو ودراسة القرآن جميع المحافل العلمية والمذهبية للجامعة الاسلامية وكانت عوامل حصر الهمم في دراسة القرآن كثيرة جداً اذ أن القرآن کتاب دینی الهی واسلوبه معجز ولم يكن للعرب سعة اطلاع وطول باع فى العلوم والفنون الفلسفية والرياضية والكيمياوية والصناعية وغيرها، وكان اول فن العرب وربما آخره ما يجرى على السنتهم من الخطابة و الشعر وما يبدعه خيالهم من التمثيلات والاستعارات والأقاصيص ولذلك جعل اللّه القرآن المجيد وهو كلام ملفوظ معجزة لنبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و سيبقى اعجازه خالدا ما بقى الدهر.

ولاتظن ان المشركين قد سكتوا عن مقابلة تحديات القرآن ولم يعارضوا تلك التحديات المخزية لهم بل اجتمعو او تشاوروا وتعاضدوا و تكاتفوا ولكن فشلت عزماتهم حينما عثروا على الآيات الالهية الباهرة و الكلمات السماوية النيرة من قوله تعالى : (1) «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»، ومن قوله تعالى (2) : «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ

ص: 56


1- سورة هود الاية (43).
2- طه الاية ٣٩.

عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»، وقد وازن مدققوهم (على ما نقل) بين قوله تعالى : ولكم فى القصاص حياة و بين قول بعض العرب المجيب الذين أجابوا عبثاً دعوة القرآن للتحدى - القتل انفى للمقتل- فوجدوا الفروق الادبية بين الكلامين بالغة الى اثنتى عشرة فرقا فالكلام لغة و صرفا و نحواً وفصاحة وبلاغة كان تاج العلوم في العرب و ربما كانت العلوم منحصرة به على ما كان عليه من الشؤون الادبية (ماعدا الكهانة والقيافة والعرافة وهي لاتعد علوماً بالحقيقة) وقد جاء القرآن متفوقا على الكلام العربي خلوداً و لقد كان لزاماً على معتنقى مبادىء الاسلام الالمام بالقرآن قراءة وحفظا وكتابة ودراسة وتعلماً لمعارفه وحكمه ومواعظه فكثر الحفاظ والكتاب والمشائخ للقراءة ومؤلفوا الكتب المتعلقة بشؤون القرآن.

ومن الواضح ان لكل فن اهل خبرة واهل الخبرة لفن القراءة كانوا على وعى شامل ويقظة كاملة فانتخبوا هؤلاء السبعة و لم يراعوا حتى اساتذة هؤلاء في الاحصاء والعد فذكروا (نافع) اول السبعة و اهملوا ذكر استاذه ابی جعفر، و لذلك لم يكتف جمع كثير بهذا العدد وزادوا ابا جعفر ويعقوب وخلف ولم يكن هذا الانتخاب ايضاً جزافاً بل كان لما رأ واعند هؤلاء الثلاثة من كثرة القواعد النحوية والتجويدية الهائلة ومن الاسس المتينة فى الفنون الادبية والقواعد العلمية فضبطوا قواعدهم واثبتوا قرائتهم الى ان اجتمعت واتفقت آراء جمهور الفصحاء والبلغاء و ارباب النحو على قراءة عاصم الكوفى وحيث ان أدق رواته هو حفص أخذوا بروايته دون سائر تلامذته، وبعد استقرار رأى هذه الجماعة الكثيرة على ذلك تفطن آخرون الى ان جعل القراءة منحصرة فى قراءة عاصم يؤدى الى القول ببطلان قراءة من قرأ بغير قرائتهم و ان كان من كبار الصحابة والتابعين فشق ذلك عليهم وقالوا بأن المدار فى صحة القراءة على الاوصاف الثلاثة لاكونها من السبع او العشر، بل شنعوا على من قال بتواتر القراءات السبع وشددوا القول على من حمل حديث سبعة احرف على تلك القراءات وقالوا بان نزول القرآن كان قبل

ص: 57

ولادة هؤلاء فهل القراءة تابعة للنزول او النزول تابع للقراءة ؟ هذا اولا، واما ثانيا فانه يلزم من ذلك بطلان قراءة من سبق زمانه من الصحابة والتابعين زمان ولادة هؤلاء القراء، واما ثالثاً فان قرائتهم كانت مبتنية على اسس علمية وبراهين كلامية من قواعد الاعراب والتجويد ولم تكن ناشئة عن ابداعهم واقتراحهم وعلى ماذكرنا فجميع القراء على شرع سواء من جهة القواعد. نعم الاعلم الاتقن اولى من غيره و اما الاوصاف الثلاثة التى جعلوها شرطاً للقراءة الصحيحة فهى الموافقة للعربية والموافقة لاحد المصاحف العثمانية وصحة السند.

قال ابن الجزرى فى كتابه - النشر فى القراءات العشر كل قراءة وافقت العربية- ولو بوجه _ و وافقت احد المصاحف العثمانية - و لو احتمالا _ وصح سندها فهى القراءة الصحيحة لايجوز ردها و لا يحل انکارها بل هي من الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الائمة السبعة ام عن العشرة ام عن غيرهم من الأئمة المقبولين ومتى اختل ركن من هذه الاركان الثلاثة اطلق عليها ضعيفة او شاذة او باطلة سواء كانت عن السبعة ام عن العشرة ام عن اكبر منهم، الى ان قال نقلا عن ابي شامة فى - المرشد الوجيز المرشد الوجيز - : فان الاعتماد على استجماع تلك الاوصاف لاعمن تنسب اليه فان القراءات المنسوبة الى كل قارىء من السبعة وغيرهم منقسمة الى المجمع عليه و الشاذ، غير ان هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه فى قرائتهم تركن النفس الى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم الخ.

ويظهر من كلامهما امران:

الأول : عدم انحصار القراءة الصحيحة بالقراءات السبع.

الثاني : ان في القراءات السبع يوجد الشاذ فأين التواتر؟!! نعم يرد على ابن الجزري ان ماقاله من نزول القرآن على سبعة احرف خطأبل لنا أن نقول بعدم المعقولية، لان القادر المطلق الواهب للعقل و العلم، كيف ينزل القرآن على كيفيات مختلفة عارضة على مادة واحدة وصورة واحدة فينزل – هيت - على سبعة

ص: 58

اوجه اوینزل فتلقی آدم من ربه كلمات على كيفيتين.

ونحن حيث قد دحضنا صحة اسناد هذا القول الى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقلنا ببطلانه وبينا انه لا يمكن المصير الى معنى صحيح لسبعة احرف، نقول زيادة للتوضيح ان جعلت هذا الكلام كناية فالمكنى عنه مجهول ولا دليل لنا عليه، وحينذاك نكتفى بهذا المقدار فى الجواب عن السؤال الاول.

وأما الجواب عن السؤال الثانى، وهو أن ما بايدينا من القرآن الموجودهل هو متواتر ام لا ؟

فهو أنه نعم، متواتر قطعاً بل قلما يتفق مصداق للمتواتر يكون مثله في صدق عنوان المتواتر عليه فهو أولى فى تطبيق عنوان المتواتر عليه من غيره لان الموجود الحالي بين المسلمين انتشر فى البلاد الاسلامية منذ جمع عثمان له، وكان سنداً للاحكام والمعارف الاسلامية وكان و لم يزل حفظه على ظهر القلب مما يتقرب به الى اللّه تعالى ولم يزل ولايزال كتاب القرآن يتقربون بكتابته الى اللّه تعالى و المسلمون بقرائته واطفالهم بتعلمه و شبانهم بمعرفة حقائقه ودقائقه وشيوخهم باستخراج كنوزه وجواهره من دون فرق في جميع ماذكر بين العرب والعجم والترك والديلم وسائر الملل المسلمة في أطراف العالم.

فترى من لم يعرف اللغة العربية وانحصرت معرفته بلغة امه _ غير العربية يحفظ القرآن لانه كلام اللّه ويرجو في حفظه رضى اللّه والجنة، فلا يعقل التفوه بعدم تواتره بل لنا أن نستدل بتواتر الموجود على عدم وقوع التحريف فيه بالزيادة والنقيصة.

وأما الجواب عن السؤال الثالث، فهو أن هذا السؤال من العجائب وان اشتبه في مورده الامر على بعض علماء السنة وبعض علماء الشيعة، اذ القراءات المتاخرة لسنين متمادية بعد نزول القرآن كيف تكون مؤثرة فى كيفية اعراب النازل من اللّه تعالى على نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فالقول بان كلامن تلك القراءات نزل بها الروح الامين على قلب سيد المرسلين، من غرائب الكلمات مضافا الى ما بيناه من ان تطور

ص: 59

القواعد و لدت القراءات مع تكاملها تكاملها و الدقة المستمرة من المشائخ يوماً بعد يوم في تطبيقها على الآيات وصلت الى القراءات الرئيسية من الثلاث الى السبع ثم أو جبت على نحو الاجتماع والانضمام وصول تشكيل القرآن اعجاماً واعرابا الى الكيفية الفعلية المعتبرة عند كافة اهل الادب العربي اذ لم ينكر أحد حسن هذه الكيفية واتقانها و كمالها الادبى.

وبالجملة لو سلمنا بتحقق التواتر من زماننا هذا الى زمان هؤلاء السبعة فلا نسلم بتواترها الى ماقبل نزول القرآن حتى ينزل القرآن عليها كافة و على نحو المجموع من حيث المجموع الذى ارى التفوه به خطأ و عذرى فيه شوقى الى التفهيم و الافاى عاقل لا يعلم بان قراءة القارىء متاخرة بحسب الطبع على نزول المقروء مع أن قرائته تابعة القواعد لاان القرآن تابع للقراءة، فلقد اعجب من قال بجواز الكل ولو على نحو التركيب بمعنى اخذ كيفية من قارىء وكيفية اخرى من آخر مالم يترتب احدى القرائتين على الاخرى نظير : فتلقى آدم من ربه كلمات، الذي قد عرفت اختلاف ابن كثير مع الجماعة في رفع آدم ونصبه، وبالعكس في -كلمات حيث منعوا عن اخذ رفع آدم من بعض، ورفع كلمات من آخر، حذراً من الغلط وهذا نظير التبعيض فى التقليد الذى اشترط القائل بحوازه عدم استلزامه حصول العلم التفصيلي ببطلان العمل، مثاله ان مجتهداً يفتى بعدم وجوب السورة وان التسبيحات الاربع ثلاث مرات، ومجتهدا آخر يفتى بوجوب السورة ولكنه يقول بكفاية التسبيحات الاربع مرة واحدة، وحينئذ فليس للعامي أن يركب الفتوائين فى صلاته ويأخذ بالترخيص في ترك السورة من احدهما وكفاية المرة من الاخر وذلك لحصول العلم التفصيلى له ببطلان صلاته لان كلامن المجتهدين يحكم ببطلان تلك الصلاة الفاقدة للسورة و المأتى فيها بالتسبيحات مرة.

ومما ذكرنا تبين الجواب عن السؤال الرابع، وهو انه على فرض عدم التواتر فهل القراءات المختلفة حجة حتى تعامل مع المتعارضين منها معاملة حجتين متعارضتين أم لا ؟

ص: 60

والجواب منفى، لانه بعد انكارنا لتواتر القراءات وانكارنا على فرض التواتر كونها جميعاً من عند اللّه تعالى، كيف نتعامل مع القراءتين المختلفتين معاملة الحجتين المتعارضتين، بل اللازم معاملة الحجة مع اللاحجة معهما، بمعنى لزوم الرجوع الى المرجحات الموضوعية وما يعين قرآنية احدى القرائتين، ففى مثل يطهرن بالتشديد والتخفيف، يجب احراز ماهو النازل من اللّه وهو احداهما لامحالة لاهما معا ومع العجز عن ذلك فلابد من الرجوع الى الاصل وهو في المورد استصحاب بقاء الحكم بالاعتزال على ما هو الحق في مثل المقام من كونه مورد اللرجوع الى استصحاب حكم الخاص لا الرجوع الى عموم العام، وهو جواز الوطء، ولابأس بالاشارة الاجمالية الى المسألة حذراً من ابهام الامر على بعض الطلبة، فنقول :

اذا ورد عام ثم خصص بخاص ودار امره بين الطول والقصر فيقال بأنه هل المقام مقام الرجوع الى حكم الخاص بتقريب ان الخاص قد خرج من حكم العام وحيث ان الشك انما هو في بقائه وارتفاعه فنحكم ببقائه بحكم الشارع بعدم جواز نقض الشك الاباليقين، اومقام الرجوع الى العام حيث ان التخصيص بقدر ما ثبت ففيما عدا مورد العلم به نأخذ بأصالة العموم، وقد فصل بعضهم بين ما اذا كان العموم استمرارياً او افرادياً، ونحن نقول بأن فى المقام بخصوصه وجب استصحاب حكم الخاص لان المستصحب هو الحالة المانعة عن الوطء، أعنى الحدث الحيضى الا ان يستشكل بأن الشبهة مفهومية، بمعنى الشك فى ان الحالة المانعة هل هي السيلان او الحدث الحيضى ؟، مستشهداً بنفس الشك فى قراءة - حتى يطهرن- (بالتشديد) الحاكم بالثانى و حتى يطهرن – (بالتخفيف) الحاكم بالاول فالمرجع عموم العام.

ولكننا بحمد اللّه فى غنية عن ذلك بعد ورود النص الصحيح الصريح بجواز الوطء بعد النقاء المعين للقراءة الثانية، ورجوعاً الى ما ابتدأنا به الكلام، نقول : التحقيق ان كل ما يتعلق بكيفية الاداء الصوتية من الروم والاشمام والغنة والامالة والترقيق والتفخيم يجوز في أداء القراءة أخذاً من اى عالم بقواعد التجويد مالم يكن غناء محرماً، اذ حينذاك يكون حراماً من جهة الغناء لا الاختلاف في القراءة، فالعوارض

ص: 61

الصوتية الطارئة على القراءة حيث لاتغير المادة ولا الصورة ولا الهيئة - واعنى بها اعراب الجمل و الكلمات - فلا بأس بها، اللّهم الا اذا أثرت في تغيير الكلمة من حيث المادة، كما اشرنا اليه سابقاً من ان الاشباع المفرط ربما يوجب تبديل الحركة الى الحرف اذا اشبعت كسرة - ك - في - مالك يوم الدين - الى حد توليد الياء، و اما ما يتعلق بالحركات والحروف من الاختلافات، فالتحقيق باقسامه لزوم الرجوع الى المتيقن قرآنيته لما عرفت من عدم نص أو قاعدة تقتضى جواز الاخذ بكل قراءة مشهورة كانت ام شاذة، لان القرآن و هو كلام اللّه المخلوق للتحدى بماهو فعل اختيارى للّه تعالى واحد قطعاً ولا معنى لتغايره النفس الامرى من حيث الاعراب والحروف جزماً، فان الواحد الشخصى لايتثنى مادة ولا يختلف صورة لخروجه بذلك عن الوحدة وهو خلف فرض وحدته، فلنعما عبر المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنه واحد من عند الواحد، ثم ان هذا بحسب الوظيفة الادبية عقلا و عرفاً، و اما من حيث الوظيفة الشرعية فالاختلاف المؤدى الى الاختلاف فى الحكم سبب لوجوب الفحص عن الصحيح من القرائتين كشفاً عما هو الحكم الشرعى فى المورد.

ومع اليأس من الظفر به وجب الرجوع الى ما يقتضيه الاصل العملى الجارى في المسألة، وليس في المسألة بطولها بعد اتفاق علماء الاسلام على القراءة بقراءة عاصم برواية حفص و وجود اخبار اهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فى الاحكام الشرعية اعضال واشكال بلطف اللّه وحسن منه.

الأمر الخامس: هل اعتصم القرآن من التغيير ؟

توضیح:

اختلفت الاقوال في تغيير القرآن بالزيادة والنقصان، وعنوان البحث تحريف القرآن، ولنا ان نحقق في المقام بالجواب عن اسئلة سبعة.

ص: 62

السؤال الاول: قد وردت لفظة - التحريف - فى القرآن، فقال تعالى (1) : «مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»، وقال سبحانه (2) : «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

و لسائل أن يسأل عن معنى التحريف، فنقول : ان التحريف في اللغة تغيير القول، يقال حرف القول أى غيره عن مواضعه، و حرف الشيء عن وجهه أى صرفه واماله، وفى العرف يطلق على أمور ثلاثة :

الاول : قلب مضمون الجملة وتطبيقه على مصداق جعلی علی خلاف ما اراده المتكلم، فهو نوع من الكذب والافتراء مستمسكاً بكلام المكذوب عليه، وهذا كان شأن اليهود اذ كانوا يحرفون تارة ما انزل على موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) و اخرى كانوا يحرفون البشائر الواردة في حق نبينا محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وثالثة كانوا يحرفون كلام نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقد ورد فى الاخبار ان الآيتين قد نزلنا فى شان اليهود المحرفين لما ذكر، فراجع ولاحظ.

الثاني : تطبيق مجمل او مشترك لفظی او معنوى على مصداق جعلی بعنوان انه المراد الجدى للمتكلم، وهذا القسم من التحريف داخل في التأويل.

الثالث : تغيير الكلام لفظاً بالزيادة و النقيصة و تغيير المواضع ترتيباً، و البحث في المقام هو عن وقوع مثل هذا التحريف اى التغيير اللفظي في القرآن و عدمه.

السؤال الثاني : هل هذا البحث مثمر ام لا ؟

ولا بد من الاشارة قبل الجواب عن هذا السؤال الى ان التحريف المبحوث عنه في القرآن غير التحريف الموجود في العهدين، اذ التحريف الاخير عبارة عن اختراع القصص والايات والاحكام واختلاق التهم والاكاذيب، كاتهام الأنبياء بشرب الخمر وصنعه وسقيه للمريدين وغسل ارجلهم والزنى بالبنت وايجاد النسل

ص: 63


1- النساء الآية 46.
2- البقرة الآية 75.

من أولاد البنت المتحققين من الزنى، وكذا نسبة التجسيم الى اللّه و نسبة عدم علم اللّه بمكان آدم في الجنة حين فرار آدم منه، والقول بان اللّه صارع يعقوب فألقاه مرات على الارض وألقاه يعقوب مرة على الارض و جلس على صدره وطلب منه البركة فأعطاه البركة فى النسل وجعل الانبياء من صلبه وانه تعالى _ كما في الآية السادسة من الفصل السادس من سفر التكوين فى التوراة _ لما خلق الدنيا ندم على ذلك وتغيرت ارادته الى غير ذلك مما هو كثير، فراجع العهدين ان شئت الزيادة.

واما التحريف الذى يقول به شرذمة في القرآن، فهو عبارة عن حذف بعض ما يتعلق بمناقب ائمتنا الاثنى عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ) أو ما يتعلق بالمنافقين و أسمائهم، أو ما يكون تفسيراً لبعض الآيات، فتوهم أنه من القرآن كجملة - حق آل محمد- بعد قوله تعالى (1) : «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا»، و من البديهى ان مثل هذا التحريف لايضر بما هو موجود بين الدفتين ولايوجب افحام المخالفين لنا و الزامهم علينا.

و اذن فالجواب عن هذا السؤال انه ليست له ثمرة عملية الادراسة الاخبار المذكورة في هذا هذا المقام سنداً ومفاداً.

قال الشيخ الطوسى (رَحمهُ اللّه) في - التبيان - : وامّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لايليق به أيضاً، لان الزيادة فيه مجمع على بطلانها و النقصان منه فالظاهر ايضا من مذهب المسلمين خلافه وهوا لاليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذى نصره المرتضى (رَحمهُ اللّه) وهو الظاهر من الروایات غیرانه رویت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آی القرآن و نقل شيء منه من موضع الى موضع، طريقها الاحاد التي لا توجب علما ولاعملا، والأولى الاعراض عنها وترك التشاغل بهالانه يمكن تأويلها، و لوصحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين،

ص: 64


1- الشعراء الآية ٢٢٧.

فان ذلك معلوم صحته لا يعترضه احد من الامة ولا يدفعه، انتهى المقصود من کلامه.

ويظهر من هذه العبارة امور :

الأول : الاختلاف في التحريف كان من القديم.

الثانى : لم يكن احد قائلا بالزيادة.

الثالث : كان بعض الخاصة قائلا بالنقيصة.

الرابع : ورود الاخبار الظاهرة في التحريف.

الخامس : ان ما بين الدفتين - اللوحين على حد بعض التعابير - قرآن كله، وهو الذى لا ينبغى الارتياب فيه بتاتاً، اذ القول بالنقيصة لايدعم ببرهان، و على فرض تسليم النقيصة فليست مانعة عن صحة الاحتجاج بالموجود الفعلى وكونه معجزاً ومستنداً للاحكام الشرعية، بل لاقائل بوقوع النقص في آيات الاحكام لان القائل به من الشيعة يقول بالنسبة الى فضائل اهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) و مثالب أعدائهم دون غيرهما، أضف الى ذلك بأننا نقول ان سدنة الوحى الالهى وخزنة علوم اللّه قد بينوا الاحكام ووصلت الينا بحمد اللّه ومنه بواسطة أصحابهم الامناء _ رضى اللّه عنهم _، فهذا البحث لاثمرة فيه ابداً، نعم لابد من النظر فى الاخبار الظاهرة فى التحريف سنداً ودلالة حفظاً للاذهان من شوب الانحراف.

السؤال الثالث : هل يترتب على القول بالتحريف مفسدة ام لا ؟.

والجواب عنه : لا، لان الزيادة وهى الموجبة لسد باب التحدى غير معقولة ولا مأثورة، والقائل بها لا يعتنى بقوله لضعفه ووهنه، والنقيصة على فرض التسليم بها لاتضر بالموجود، وهو الحجة الالهية الفعلية مضافاً الى فساد القول بها، نعم نفس هذا النزاع ربما يجرىء الخصم بان يقول : اذا كان العهدان محرفين فالقرآن كذلك و لكنه باطل، اذا لعاقل النبيه يرى الفوارق الشاسعة بين كلام معجز اسلوبه - وان قيل بأنه كان ازيد مما يكون - وبين كتابين اجتمعت فيهما او هام بالية وقصص خيالية وافتراءات

ص: 65

فاضحة على انبياء اللّه و رسله من شرب الخمر والزنى بالبنات وما شاكل ذلك، فما اشبه مطالبها المدسوسة وأكاذيبها المجعولة بحكايات تنسج لترويح الخاطر واتحاف السامر و ايناس الساهر، فالانصاف أن الخصم لا يمكنه التمسك بذيل هذا النزاع تغطية لتحريفات عهديه المحرفين.

السؤال الرابع : انه هل الاعتقاد بالتحريف مخل بالمذهب ام لا ؟.

والجواب انه لايضر القول بالتحريف بمذهب القائل به لان الاسلام يطلق تارة على الإسلام الصورى النظامى وهو يتحقق بأداء كلمتى الشهادتين بشرط ان لا ينقضهما في مرحلة الظاهر باظهار ما يخالفهما، و أخرى على أدائهما مع الاعتقاد القلبى بمضمونهما و ما جاء به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع العمل بالوظائف الدينية، والقول بالتحريف لا يخل بالاول قطعاً لادلالة له بالمطابقة أو بالالتزام على ابطال الشهادتين، ولا يخل بالثانى ايضاً لانه لادليل على لزوم الاعتقاد بعدم وقوع التحريف في القرآن، فالقول بالتحريف او القول بعدمه لاربط لهما بالاسلام بالمعنى الثاني، ولذا نقول بأن جملة من الاختلافات العقائدية لا توجب الكفر اصلا كنفى بعض المناقب (علم الغيب مثلا) عن الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) او الاعتقاد بعدم مقام الشفاعة لهم يوم القيامة أو عدم رجوعهم الى الدنيا حين ظهور قائمهم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما ان اثبات بعض المناقب لهم لا يوجب الكفر، فلا يجوز رمى القائل به بالغلو وطرح خبره لذلك.

فيجب علينا ان لانبادر بالتجاسر على القائل بالتحريف، بل القائل به انما ترجح بنظره التحريف لاجل الروايات الاتية الناظرة بنظره اليه من دون نظر ثاقب الى أسانيدها ومداليلها تورّعاً فى الدين وحذراً من التشكيك في الاخبار الواردة عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)! وان ضعفت اسانیدها و حفظاً لظواهرها وان خالفت العقل، فتجد في كلام القائلين بالتحريف أنه لو لم نأخذ بتلك الاخبار فبأي شيء نثبت الامامة والاحكام الشرعية الخ. نعم علينا - نحن - ايضاح الحق بما يقتضيه المنطق الصحيح والبرهان الصريح.

فقد نشأ القول بالتحريف استناداً الى الاخبار واستظهاراً منها فالقول بأن هذا

ص: 66

الرأى خرافة افراط في التعبير اذ الخرافة عبارة عن الخيالات الفاسدة التي لا اساس لها أبداً، والقول بالتحريف وان كان اشتباهاً الا أن له منشأ وهو الاخبار، فاللازم، تحليلها سنداً ودلالة لارمى القائل به بالخرافة.

السؤال الخامس : من هم القائلون بالتحريف وماهى ادلتهم ؟.

والجواب ان جماعة من المحدثين وحفظة الاخبار استظهروا التحريف بالنقيصة من الاخبار، ولذلك ذهبوا الى التحريف بالنقصان.

وأولهم فيما اعلم على بن ابراهيم في تفسيره، فقد وردفيه قال ابو الحسن على ابن ابراهيم الهاشمى القمى : فالقرآن منه ناسخ و منسوخ ومنه منقطع ومنه معطوف ومنه حرف مكان حرف ومنه محرف ومنه على خلاف ما انزل اللّه عز وجل، الى أن قال : واما ما هو محرف منه فهو قوله : لكن اللّه يشهد بما انزل اليك فى على، كذا انزلت. انزله بعلمه والملائكة يشهدون، وقوله : يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك فى على فان لم تفعل فما بلغت رسالته

وقوله : ان الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن اللّه ليغفر لهم وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم اى منقلب ينقلبون، وقوله : ولوترى الذين ظلموا آل محمد حقهم فى غمرات الموت، ومثله كثير نذكره في مواضعه، انتهى المقصود من كلامه، ويظهر ذلك من الكليني حيث روى الاحاديث الظاهرة في ذلك ولم يعلق شيئا عليها، وذهب السيد الجزائرى الى التحريف في - شرحيه على التهذيبين وأطال البحث في ذلك في رسالة سماها - منبع الحياة -.

وقال الشيخ محمد حسين الاصفهاني النجفى والدشيخنا في الرواية ابي المجد الشيخ - آغارضا النجفي (قدّس سِرُّهما) في تفسيره : والاحاديث الظاهرة في تغيير القرآن وتبديله والتقديم والتأخير والزيادة والنقيصة وغير ذلك كثيرة، حتى نقل بعض العارفين المحدثين عن السيد نعمة اللّه الجزائرى انه ذكر فى - الرسالة الصلاتية - ان الاخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث، وذكر انه لم يقف على حديث واحد يشعر بخلاف ذلك، وقال : القرآن الموجود الآن ستة الاف آية وستمأة وست

ص: 67

وستون آية تقريباً، والمروى فى صحيحة هشام الجو اليقى ان القرآن الذي نزل على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سبعة عشر الف آية وفى رواية ثمانية عشر الف آية.

و نقل عن سعد بن ابراهيم الأردبيلي من علماء العامة في كتاب - الاربعين - انه روی باسناده الى المقداد بن الاسود الكندى قال : كنت مع رسول اللّه متعلقاً باستار الكعبة و يقول : اللّهم أعنى وأشدد أزرى واشرح صدري وارفع ذکری فنزل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال له : اقرأ «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ*وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ» بعلى صهرك، فقرأ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علی ابن مسعود فألحقها في تأليفه وأسقطها عثمان، انتهى المقصود من كلامه، ولعل المراد من ألفى حديث، الطرق المتعددة من الشيعة وأهل السنة الى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ).

ورأينا من بعض السادة الاجلة من الجامعين للاخبار رسالة فيها مباحث روائية وبالغ في ذكر الاخبار التي يظهر منها وقوع التحريف ولاسيما بالنقيصة، وقال السيد صدر الدين في شرحه على قول المولى فى الوافية : وقد وقع الخلاف في تغييره (1)

اقول ان السيد نعمة اللّه (قدّس سِرُّه) قد استوفى الكلام في هذا المطلب في مؤلفاته كشرح التهذيب والاستبصار ورسالته منبع الحياة، وأنا أنقل ما فى الرسالة لان فيه كفاية، قال (رَحمهُ اللّه) : ان الاخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلت على وقوع الزيادة والنقصان والتحريف فى القرآن، منها ماروى عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما سئل عن التناسب بين الجملتين فى قوله تعالى : وان خفتم الاتقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فقال : لقد سقط من بينهما اكثر من ثلث القرآن.

ومنها ماروى عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى : كنتم خيرامة، قال كيف تكون

ص: 68


1- الف الوافية المولى عبد اللّه بن محمد البشروئى التونى الخراساني المتوفى 1071 وشرحها السيد صدر الدین محمد بن میر محمد باقر الرضوى القمى الهمداني الغروى بعد 1150.

هذه الامة خيرامة وقد قتلوا ابن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليس هكذا نزلت وانما نزلت خير ائمة الى الأئمة من اهل البيت.

ومنها الاخبار المستفيضة فى ان آية الغدير هكذا نزلت : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ في على فان لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، الى غير ذلك مما لو جمع لصار كتاباً كبير الحجم، واما الأزمان التي ورد على القرآن فيها التحريف والزيادة والنقصان فهما عصران : العصر الأول عصره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأعصار الصحابة وذلك من وجوه.

أحدها : أن القرآن كان ينزل منجما على حسب المصالح والوقائع، وكتاب الوحى كانوا اربعة عشر رجلا من الصحابة وكان رئيسهم امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكانوا في الاغلب لا يكتبون الاما يتعلق بالاحكام والا ما يوحى اليه في المحافل والمجامع.

وأما الذى كان يكتب ما ينزل عليه في خلواته ومنازله فليس هو الا امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لانه كان يدور معه كيفما دار فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف. ولما مضى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الى لقاء حبيبه وتفرقت الاهواء بعده، جمع امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) القرآن كما انزل و شده بردائه واتی به الى المسجد وفيه الاعرابيان واعيان الصحابة فقال لهم : هذا كتاب ربكم كما أنزل، فقال له الاعرابى الجلف : ليس لنا حاجة في هذا، عندنا مصحف عثمان، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لن يراه احد حتى يظهر ولدى القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيحمل الناس على تلاوته والعمل باحكامه ويرفع اللّه سبحانه هذا المصحف الى السماء، ولما تخلّف ذلك الاعرابي احتال في استخراج ذلك المصحف ليحرقه كما احرق مصحف ابن مسعود فطلبه من امير المؤمنين فابی.

وهذا القرآن كان عند الأئمة يتلونه في خلواتهم وربما اطلعوا عليه بعض خواصهم كما رواه ثقة الاسلام الكليني عطر اللّه مرقده باسناده الى سالم بن سلمة قال قرأ رجل على ابی عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وانا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال ابو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مه، كف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرىء الناس حتى يقوم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاذا قام قرأ كتاب اللّه على حده و اخرج المصحف الذي كتبه

ص: 69

على (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وهذا الحديث وما بمعناه قد اظهر العذر فى تلاوتنا في هذا المصحف والعمل بأحكامه.

وثانيها : ان المصاحف لما كانت متعددة لتعدد كتاب الوحى عمد الاعرابيان الى انتخاب ما كتبه عثمان وجملة ما كتبه غيره وجمعوا الباقي في قدر ماء حارو طبخوه ولو كانت تلك المصاحف كلها على نمط واحد لما صنعوا هذا الشنيع الذي صار عليهما من اعظم المطاعن.

وثالثها : ان المصاحف كانت مشتملة على مدائح اهل البيت صريحاً ولعن المنافقين وبني امية نصاً وتلويحاً، فعمدوا أيضا الى تزييفه ورفعوه من المصاحف حذراً من الفضائح وحسداً لعترته.

ورابعها : ماذكره الثقة الجليل على بن طاووس فى كتاب _ سعد السعود- عن محمد بن بحر الرهنى من اعاظم علماء العامة فى بيان التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان الى اهل الامصار، قال اتخذ عثمان سبع نسخ فحبس منها بالمدينة مصحفاً وارسل الى اهل مكة مصحفا والى اهل الشام مصحفاً والى اهل البحرين مصحفا ثم عد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات والحروف مع انها كلها بخط عثمان و اذا كان هذا حال اختلاف مصاحفه التي هي بخطه فكيف حال غيرها من مصاحف كتاب الوحى والتابعين.

واما العصر الثانى فهو ازمان القراء، وذلك ان المصحف الذى وقع اليهم خال من الاعراب و النقط كما هو الان موجود في المصاحف التي هي بخط مولانا امير المؤمنين و اولاده المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وقد شاهدنا عدة منها في خزانة الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

نعم ذكر جلال الدين السيوطى في كتابه الموسوم ب_ -المطالع السعيدة _ ان ابا الاسود الدؤلى اعرب مصحفا واحداً في خلافة معاوية، وبالجملة لما وقعت اليهم المصاحف على ذلك الحال تصرفوا فى اعرابها و نقطها و ادغامها وامالتها ونحو ذلك

ص: 70

من القرائين المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم فى اللغة العربية كما تصرفوا في النحو وصاروا الى ماد و نوه من القواعد المختلفة بينهم قال محمد بن بحر الرهنی ان كل واحد من القراء قبل ان يتجدد القارىء الذى بعده كانوا لا يجيزون الاقرائته.

ثم لما جاء القارى الثانى انتقلوا عن ذلك المنع الى جواز قراءة الثاني وكذا في القراء السبعة، فاشتمل كل واحد على انكار قرائته ثم عادوا الى خلاف ما انكروه ثم اقتصر و اعلى هؤلاء السبعة مع انه قد حصل فى علماء المسلمين والعاملين بالقرآن ارجح منهم، مع ان زمان الصحابة ما كان هؤلاء السبعة ولا عدداً معلوماً من الصحابة للناس يأخذون القراء ة عنهم، ثم ذكر قول الصحابة لنبيهم على الحوض اذا سألهم كيف خلفتموني في الثقلين من بعدى.

فيقولون اما الاكبر فحرفناه وبدلناه واما الاصغر فقتلناه ثم يذادون عن الحوض الى ان قال : قال السيد بعد مامر : ومن هذا التحقيق يظهر الكلام والقدح في تواتر القراءات السبع من وجوه.

اولها : المنع من تواترها من القرآن لانهم نصوا على أنه كان لكل قارىء راویان یرویان قرائته، نعم اتفق التواتر في الطبقات اللاحقة.

وثانيها : سلمنا تواترها من القراء لكن لايقوم حجة شرعية لانهم من آحاد المخالفين استبدوا بآرائهم كما تقدم، وان حكموا في بعض قرائتهم الاستناد الى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لكن الاعتماد على روايتهم غير جائزة كرواية الحديث بل الامرهنا اجل وأعلى.

وثالثها : ان كتب القراءة والتفسير مشحونة بقولهم قر أحفص أو عاصم كذا، وفى قراءة على بن أبى طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) واهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كذا، بل ربما قالوا وفى قراءة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كذا، كما يظهر من الاختلاف المذكور في قراءة المغضوب عليهم ولا الضالين، والحاصل انهم يجعلون قراءة القراء قسيمة لقراءة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) فكيف تكون القراءات السبع متواترة عن الشارع تواترا يكون حجة على الناس، وقد تلخص من تضاعيف هذا الكلام امران.

احدهما : وقوع التحريف و الزيادة والنقصان في المصحف.

ص: 71

وثانيهما : عدم تواتر القراءات السبع عمن يكون قوله حجة.

أما الاول: فقد خالف فيه الصدوق والسيد المرتضى وأمين الاسلام الطبرسي، حيث ذهبوا الى أن القرآن الذى نزل به جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو ما بين دفتي المصحف من غير زيادة ولا نقصان.

اما السيد (رَحمهُ اللّه) فلم يعتمد على أخبار الاحادمع تعويلهم على ماروى من ان القرآن واحد نزل من عند واحد علی نبی واحد وانما الاختلاف من جهة الرواة، وعند التامل يظهر أن هذا الخبر دليل لنا عليه لأعلينا ويدل على ما قلنا من الأمرين، فان قوله القران واحد ينفي تكثر القراءة.

واما اثبات الاختلاف من جهة الرواة اى حفاظ القرآن و حامليه، فيشمل الاختلاف فى التحريف وفي تكثر القراءة، وعلى انه يجوز ان يكون الوجه فيما صاروا اليه التحرز من طعن أهل الكتاب وجمهور الجمهور وعوام المذهب لانه ربما يتوهم منه الكلام على اعجاز القرآن وعلى استنباط الاحكام من منه بسبب ما وقع فيه من الزيادة والنقصان، وجوابه أن ما وقع فيه لم يخرج اسلوبه عن الفصاحة والبلاغة وان خزان علمه (عَلَيهِم السَّلَامُ) بينوا مافيه من التحريف على وجه لايقدح في أخذ الاحكام من منه اذهم المخاطبون به على ما تقدم الكلام فيه.

واما الثاني : فقد خالف فيه الجمهور ومعظم المجتهدين من أصحابنا، فانهم حكموا بتواتر القراءات السبع، وتجوز القراءة بكل واحدة منها فى الصلاة، فقالوا ان الكل ممانزل به الروح الامين على قلب سيد المرسلين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وربما استدلوا عليه بماروى من قوله نزل القرآن على سبعة احرف وفسروها بالقراءات مع انه ورد في الاخبار عن ابى الحسن الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) رد هذا الخبروان القرآن نزل على حرف واحد، على ان جماعة من العلماء فسروا الاحرف السبعة باللغات السبع كلغة يمن وهوازن و اهل مصر ونحوها، لان فى الفاظه ما يوافق ما اشتهر من هذه اللغات في اصطلاح اربابها.

و اما الاعتراض بأن ما ذكرتم من وقوع التحريف فيه لو كان حقا لازاله

ص: 72

امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في خلافته، فهو اعتراض في غاية الركاكة لانه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما تمكن من رفع بدعهم الحقيرة، كصلاة الضحى م المتعتين وعزل شريح عن القضاء ومعاوية عن امارة الشام، فكيف بهذا الأمر العظيم لتغليط الاعرابيين بل تكفيرهم لان حبهما قد اشرب فى قلوب الناس حتى أنهم رضوا ان يبايعوه على سنة الشيخين فلم يرض (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعدل عنه الى عثمان، و اما الموافقون لنا على صحة هاتين الدعويين، فعلى الاولى معظم الاخباريين خصوصاً مشائخنا المعاصرين، وأما الثانية فقد وافقنا عليها سيدنا الاجل على بن طاووس (رَحمهُ اللّه) في مواضع من كتاب - سعد السعود _ وغيره وصاحب الكشاف عند تفسير قوله تعالى (1) : «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ»، و نجم الائمة الرضى في موضعين من شرح الرسالة، احدهما عند قول ابن الحاجب واذا عطف على الضمير المجرور اعيد الخافض انتهى.

وقال العلامة التقى المجلسى الاول في شرحه (الفارسي) على _ من لا يحضره الفقيه _ فى باب ما يسجد عليه و مالايسجد عليه، ما تعريبه : أو كان في قرآن القوم لانهم لم يذكروا اكثر الايات والعامة ايضا معترفون فى اكثر كتبهم، الا انهم يقولون بأنها منسوخة، وروى الكليني بسند صحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأن قرآن نزله جبرئيل على سيد المرسلين كان سبعة عشر الف آية، و تواترت الاحاديث على ان علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) جمع القرآن بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعرضه على الصحابة وقال هذا قرآن انزله اللّه على الترتيب الذى نزله، فقال المنافقون : لا حاجة لنا الى قرآنك نحن نجمع القرآن، فاجتمع منهم جمع جمعوا قرائين سبعة بسبع لغات من قريش، واودعها عمر في زمن خلافته الى حفصة، ولم يلتفت الناس الى القرآن لا بتلائهم بالحرب الى زمن عثمان حيث ارسل الى حفصة وأخذه منها واختار من السبعة لغة وكتب ستة اوسبعة قرائين و أرسلها الى اطراف العالم و امربا حراق كل قرآن ليس بقرآنه، و روی بانه احرق أربعين الفأمن القرآن، منها قرآن عبد اللّه بن مسعود حيث

ص: 73


1- انعام الآية 46.

طلب منه فامتنع من اعطائه وقال بأني قرأته على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مكرراً، فضربوه الى ان عارضه الفتق، فأخذوا منه القرآن واحرقوه، ولذا لما احصي الصحابة مطاعنه وكتبوها، كان من جملتها احراقه للمصاحف، ومنها مصحف ابن مسعود الذي نقلوا احاديث كثيرة في فضله في الصحاح الستة فافتوا - بعد الاستفتاء عن حكم من اتى بهذه الجرائم - بقتله فقتلوه، و من جملتهم كانت عايشة وتقول : اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا، و بعد قتله ادعت ان قتله كان بأمر من أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وصار ذلك سبباً لقتل ستة عشر آلاف من الصحابة انتهى.

وقال المحدث الجليل المولى ابو الحسن الشريف الفتوني العاملي الاصفهاني في مقدمة تفسير - مرآة الانوار - فى المقدمة الثانية : اعلم ان الحق الذي لا محيص عنه بحسب الاخبار المتواترة الاتية وغيرها ان هذا القرآن الذي في أيدينا قدوقع فيه بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) شيء من التغييرات و أسقط الذين جمعوه بعده كثيراً من الكلمات والايات وان القرآن المحفوظ عماذكر الموافق لما انزله اللّه تعالى ما جمعه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) و و وحفظه الى ان وصل الى ابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهكذا الى ان انتهى الى القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) و هو اليوم عنده صلوات اللّه عليه، ولهذاورد صريحاًفي حديث سنذكره لما ان كان اللّه عز وجل قد سبق فى علمه الكامل صدور تلك الأفعال الشنيعة من المفسدين فى الدين، و انهم بحيث كلما اطلعوا على تصريح بما يضرهم ويزيد في شأن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذريته الطاهرين، حاولوا اسقاط ذلك رأساً او تغييره محرفين.

وكان فى مشيئته الكاملة ومن الطافه الشاملة محافظة او امر الامامة و الولاية ومحارسة مظاهر فضائل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بحيث تسلم عن تغيير اهل التضييع و التحريف و يبقى لاهل الحق مفادها مع بقاء التكليف، لم يكتف بما كان مصر حابه منها في كتابه الشريف، بل جعل جل بيانها بحسب البطون وعلى نهج التأويل وفى ضمن بیان ماتدل عليه ظواهر التنزيل، واشار الى جمل من برهانها بطريق التجوز و التعريض والتعبير عنها بالرموز والتورية و سائر ما هو من هذا

ص: 74

القبيل حتى تتم حججه على الخلائق جميعا و لو بعد اسقاط المسقطين ما يدل عليها صريحا بأحسن واجمل سبيل، ويستبين صدق هذا المقال بملاحظة جميع ما نذكره في هذه الفصول. ثم ذكر اخبارا من طرق الخاصة والعامة نذكر جملة منها فيما يأتى ان شاء اللّه، فنقول :

لنا ان نقسم الاخبار التي استدلوا بها على التحريف الى انواع خمسة :

الاولى : مايدل على أن علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) جمع القرآن

الثانية : مايدل على ان القرآن الموجود هو كله قرآن.

الثالثة : مايدل على التحريف بالنقيصة أو بالتغيير.

الرابعة : مايدل على احراق عثمان للمصاحف.

الخامسة : ما يدل على أن المراد من التعبير بنزول القرآن هكذا، التأويل الصحيح والتطبيق الواقعي

الطائفة الأولى :

1- فى الباب السابع من كتاب القرآن من البحار للمجلسى الثانى (1) عن كتاب سليم بن قيس راوياً عن سلمان : فلما رأى على (عَلَيهِ السَّلَامُ) غدرهم يعنى الصحابة وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في المصحف والشظاظ و الاشار والسرقاع فلما جمعه كله وكتبه بیده تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ فبعث اليه ابو بكر أن اخرج فبايع، فبعث اليه انى مشغول فقد آليت على نفسى يميناً أن لا أرتدى برداء الا للصلاة حتى اؤلف القرآن وأجمعه فسكتوا عنه أياماً، فجمعه فى ثوب واحد وختمه ثم خرج الى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فنادى على بأعلى صوته : أيها الناس انى لم ازل منذ قبض رسول اللّه مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في

ص: 75


1- في الاحتجاج و فى رواية سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي رضى اللّه عنه.

هذا الثوب فلم ينزل اللّه على نبيه آية من القرآن الاوقد جمعتها وليست منه آية الا وقد أقرأنيها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعلمني تأويلها، ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ما تقولوا غداً انا كنا عن هذا غافلين.

ثم قال لهم على (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لا تقولوا يوم القيامة انى لم أدعكم الى نصرتى ولم أذكركم حتى ولم أدعكم الى كتاب اللّه من فاتحته الى خاتمته، فقال له عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا اليه ثم دخل على (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيته، أقول : راجع الاحتجاج لان فيه بعض التفاوت.

ثم أقول : أما سند كتاب سليم فلا ذكر له في الاحتجاج، نعم قال الشيخ الامام العلامة ابو منصور أحمد بن أبى طالب الطبرسي _ طاب ثراه __ في ديباجة كتاب الاحتجاج : ولا نأتى فى أكثر ما نورده من الاخبار باسناده اما لوجود الاجماع عليه أو لموافقته لما دلت عليه العقول أو لاشتهاره فى السير و الكتب من المخالف والموالف الخ... ولكن هذا المقدار لا يكفى لصحة الاستناد الى جميع مافي الكتاب لعدم اثبات هذه الكليات :

1 - الاجماع.

٢ - موافقة العقول.

٣ - الاشتهار في الكتب، لكل واحد من الروايات المذكورة فيه سنداً موثوقا به.

واما تقريب الاستدلال بهذه الرواية على التحريف فهو أن الجمع الصحيح للقرآن الشامل لكل آية منه على النحو النازل فمخصوص بعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وماعدا جمعه فهو مشتمل على التغيير والتحريف.

و فيه أن هذه الرواية تنص على أن جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) للقرآن كان جمعاً تأليفياً مشتملا على النازل من اللّه حرفيا وعلى مفاده ومعناه ومقصوده ومؤوله، وهذا وان دل على ان جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان جمعاً مفيداً للامة الاسلامية كافلا للمعارف و الاحكام وسائر الشؤون المتعلقة بالتشريع الاسلامى الا أنه لايدل على الزيادة

ص: 76

أو النقصان فيما هو الموجود من القرآن الذي جمعه عثمان ثم اعلم اننا عمدنا الى كل رواية واجبنا عنها بما يلائمها من الجواب.

2 - و عن كتاب سليم (1) قال طلحة لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا ابا الحسن، شيء اريد ان اسألك عنه رأيتك خرجت بثوب مختوم فقلت ايها الناس انى لم ازل مشتغلا برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بغسله وكفنه و دفنه ثم اشتغلت بكتاب اللّه حتى جمعته فهذا كتاب اللّه عندى مجموعاً لم يسقط عنى حرف واحد، ولم أرذلك الذى كتبت و ألفت وقد رأيت عمر بعث اليك أن ابعث به الى فأبيت ان تفعل فدعا عمر الناس فاذا شهد رجلان على آية كتبها واذا لم يشهد عليها غير رجل واحد أرجأها فلم يكتب فقال عمر وأنا أسمع أنه قدقتل يوم اليمامة قوم كانوا يقرؤون قرآناً لا يقرؤه غيرهم فقد ذهب، وقد جاء ت شاة الى صحيفة وكتاب يكتبون فأكلتها وذهب مافيها والكاتب يومئذ عثمان وسمعت عمراً وأصحابه الذين الفواما كتبوا على عهد عمر و على عهد عثمان يقولون ان الاحزاب كانت تعدل سورة البقرة وان النور نيف (2) ومأة آية و الحجر تسعون و مأة آية فما هذا وما يمنعك يرحمك اللّه أن تخرج كتاب اللّه الى الناس وقد عهد عثمان حتى (حين - الاحتجاج) أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة فمزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار، فقال له على (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا طلحة ان كل آية أنزلها اللّه جل (عز - الاحتجاج) وعلا على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عندى باملاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و خط يدى وتأويل كل آية أنزلها اللّه على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و كل حلال و حرام وحد أو حكم او شيء محتاج اليه الامة الى يوم القيامة مكتوب باملاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و خط يدى حتى أرش الخدش، قال طلحة : كل شيء من صغير أو كبير أو خاص اوعام كان أو يكون الى يوم القيامة فهو عندك

ص: 77


1- وفى الاحتجاج للطبرسى روى عن سليم بن قيس الهلالى.
2- وفى الاحتجاج ستون بدلا عن نيف.

مكتوب ؟ قال نعم وسوى ذلك أن رسول اللّه أسر الي في مرضه مفتاح ألف باب

من العلم يفتح كل باب الفباب ولو أن الامة منذ قبض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اتبعونی واطاعونى لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وساق الحديث.

الى أن قال : ثم قال طلحة لا أراك يا أبا الحسن أجبتنى عما سألتك عنه من أمر القرآن الاتظهره للناس ؟ قال : يا طلحة عمداً كففت عن جوابك فاخبرني عما كتب عمر وعثمان أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن ؟ قال طلحة : بل قرآن كله، قال : ان أخذتم بما فيه نجوتم من النار و دخلتم الجنة فان فيه حجتنا (و بيان حقنا _ الاحتجاج ) و فرض طاعتنا، قال طلحة : حسبى اما اذا كان قرآناً فحسبى، ثم قال طلحة : فأخبرني عما في يدك من القرآن وتأويله و علم الحلال والحرام الى من تدفعه ومن صاحبه بعدك، قال : ان الذى أمرني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن أدفعه اليه وصبى وأولى الناس بعدى ابنى الحسن ثم يدفعه ابنى الحسن الى ابنه الحسين ثم يصير الى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم على رسول اللّه حوضه، هم مع القرآن لا يفارقونه والقرآن معهم لايفارقهم، الخ..

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على التحريف، فهو أن القرآن الذي جمعه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو القرآن الجامع الكامل الذى لا يشذ عنه شيء من الآيات القرآنية، الا ترى ما نقله طلحة عن عمر و أصحابه بان الاحزاب كانت تعدل سورة البقرة وأن النور نيف (1) ومأة آية والحجر تسعون ومأة آية.

ويرد عليهم اشکالات أربع :

الاشكال الاول : أن كتاب سليم مورد للاختلاف تارة من حيث ثقة وضعف الراوى وهو سليم، وأخرى من حيث الراوى عنه وهو أبان بن أبي عياش الذي اتهمه بعض بانه وضع هذا الكتاب و نسبه الى سليم، مع أنهم قالوا بأن سليما هو الذي ناول أبانا الكتاب، ونرى فى الحديث العاشر من الباب الرابع و العشرين من -

ص: 78


1- وفى الاحتجاج استون بدلا عن نيف.

اكمال الدين - للصدوق (رَحمهُ اللّه) أن أبان بن أبي عياش يروى عن ابراهيم بن عمر الصنعاني وهو عن قيس بن سليم مضافا الى بعض ماروى عن غيرأبان مع عدم ذكر منه في السند، والى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع، وثانية من ناحية الكمية اذنرى أن نسخ هذا الكتاب مختلفة من جهة الزيادة والنقيصة اختلافا فاحشا، مثاله نفس هذه الرواية بسبب أنها مروية في - اكمال الدين-، الحديث الخامس، والعشرين من الباب الرابع و العشرين الى قوله يصدقونه و يشهدون أنه حق بهذا السند، حدثنا أبى و محمد بن الحسن (رضیَ اللّهُ عنهُ) قالا حدثنا سعد بن عبد اللّه قال حدثنا يعقوب بن يزيد عن حماد بن حسين عن عمر بن أذينة عن أبان ابن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، ويذكر المجلسى السند وفيه بدلا عن حماد بن حسين حماد بن عيسى وليس في روايته ذكر لطلحة ومحاورته عليا بشأن القرآن.

فما أبعد بين ما نقله المجلسى عن نسخة قديمة من أنه روى عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال : من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من أمر ناشيء ولا يعلم من أسبابنا شيئا و هو أبجد الشيعة و هو سر من أسرار آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وبين ماقاله الشيخ المفيد في شرح اعتقادات ابن بابويه، وأما ما تعلق به أبو جعفر من حديث سليم الذي رجع فيه الى الكتاب المضاف اليه برواية أبان بن أبي عياش، فالمعنى فيه غير صحيح، غير أن هذا الكتاب غير موثوق به ولايجوز العمل على أكثره وقد حصل فيه تخليط وتدليس فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل مافيه ولا يعول على جملته والتقليد لروايته، وقد وافقه العلامة على ذلك وعبر عن بعض مافي الكتاب المذكور : - الفاسد-، وكذا الشهيد الثاني.

الاشكال الثانى : ان مافي الرواية من القول بالنقصان منقول عن عمر و أصحابه وليس قولهم بحجة علينا.

الاشكال الثالث : وهو العمدة في الجواب، أن قرآن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يكن مقصوراً على النازل من السماء وحيا الهيا للتحدى بل كان فيه بشهادة هذه الرواية وسائر الروايات التأويلات الكثيرة والتفسيرات العديدة وبيان الاحكام بأسرها حتى أرش

ص: 79

الخدش و أين ذلك مما تصدى اليه هؤلاء من دلالة هذه الرواية وقريناتها على التحريف بالنقيصة.

الاشكال الرابع : و هو العمدة من حيث الثمرة العملية أن الرواية ناصة على أن ما هو الموجود قرآن كله وذلك من وجهين :

الأول : ارتكاز طلحة حيث انه أجاب عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأن مافيه قرآن كله.

الثاني : تصريح على (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك وانه _ ان اخذتم بمافيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة -،ولذا نقول بأنه لافائدة تترتب على هذا البحث، اذ بعد ثبوت أن ما فى أيدينا قرآن كله فما بالنا نأسف على النقص الموهوم مع انه لم يعلم كونه مربوطا بالاحكام، ومع التسليم لم يعلم عدم تبليغ الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في مدة نشرهم للاحكام ماكان منه متضمنا لحكم من الاحكام.

3- في تفسير القمى باسناده عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : مااحد من هذه الامة جمع القرآن الأوصى محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وتقريب الاستدلال و الجواب عنه واضحان اذ الاستدلال مبنى على ان المراد ان غير الوصى لم يجمع النازل، والجواب ان المراد من الجمع هو الجمع بجميع المراتب حروفا وحدوداً ولفظاً وتفسيرا.

4- في المصدر السابق باسناده عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا على القرآن خلف فراشى فى المصحف و الحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه و لا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق على (عَلَيهِ السَّلَامُ) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه فى بيته وقال لا ارتدى حتى اجمعه فان كان الرجل ليأتيه فيخرج اليه بغير رداء حتى جمعه، قال : وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لو ان الناس قرؤوا القرآن كما انزل ما اختلف اثنان، والجواب واضح اذلم يدل الخبر على ان جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان عبارة عن اثبات ما نقصه القوم من القرآن النازل وحيا للتحدى والمراد من قوله كما أنزل ما أراد اللّه من القرآن فالمراد من الكيفية المعنى المقصود من القرآن.

5 - في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب

ص: 80

عن عمرو بن أبى المقدام عن جابر قال سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : ما ادعى احد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل الاكذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله اللّه الا على بن أبى طالب و الائمة من بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و هذه الرواية تدل على أن الجمع بجميع مراتبه لفظاً و معنى مخصوص بخزنة علم اللّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولا ربط لها بالتحريف زيادة ونقيصة.

6 _ فى تفسیر فرات بن ابراهيم باسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه قال في حديث له، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا على لا تخرج ثلاثة أيام حتى تؤلف كتاب اللّه كى لايزيد فيه الشيطان فلم يزد فيه الشيطان شيئاً ولم ينقص منه شيئاً، وهذه الرواية لاتدل على أن ما هو الموجود فعلا بأيدى المسلمين كافة ممازاد فيه الشيطان شيئاً أو نقص منه شيئاً، واعلم اننا لم نتعرض للاسانيد المذكورة عدا سند كتاب سليم لعدم الحاجة الى سند الرواية بعد ضعف الدلالة، فتلخص أن ماورد من جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) للقرآن لا يدل على التحريف لكون جمعه تأليفاً للقرآن وتفسيراً له معاً، فلا نطيل باستيعاب ما بمضمون المذكورات من سائر الاخبار

الطائفة الثانية

1 - الرواية الثانية من الطائفة الأولى وفيها سؤال على (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن طلحة عما هو الموجود بأنه هل هو قرآن كله أم لا ؟، وبعد جواب طلحة له بأنه قرآن كله قال على (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ان اخذتم بمافيه نجوتم.

2- مافى روضة الكافى، رسالة أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى سعد الخير، عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن اسماعيل بن بزيع عن عمه حمزة بن بزيع والحسين بن محمد الاشعرى عن أحمد بن محمد بن عبداللّه عن يزيد بن عبداللّه عمن حدثه قال : كتب أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى سعد الخير الى أن قال : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم بتركهم للرعاية الخ... وهذه الرواية تدل على ان التحريف في القرآن معنوى لا لفظى.

ص: 81

فان خفتم ألا تقسطوا الآية، فهو ما قدمت ذكره من اسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص اكثر من ثلث القرآن الخ.. وهذه الرواية ضعيفة السند فلا اعتداد بها مضافاً الى ان المراد من الاسقاط فيها هو الخلاف في الترتيب بين الايات الذي حصل في القرآن بسبب جمع عثمان وعدم اطلاعه على خصوصيات الايات و ارتباط بعضها ببعض، مضافاً إلى أن الظاهر مما ورد في تفسير القمى ان ترتيب النزول كان على خلاف ترتيب جمع عثمان، قال بعد قوله تعالى (1) : «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ»، نزلت مع قوله : «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ * فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»، فنصف الآية في أول السورة و نصفها على رأس المأة وعشرين آية الخ..

فانظر الى الروايتين وقايس بينهما كى تعرف أن المراد من الاسقاط خلاف الترتيب بضميمة المقدمات المطوية لارتباط الجمل والمطالب ويكفى ضعف سندهما لعدم حجيتهما معاً.

2 - ثواب الاعمال ص 137، ثواب من قرأ سورة الاحزاب، بهذا الاسناد عن الحسن عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : من كان كثير القراءة السورة الاحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأزواجه ثم قال : سورة الاحزاب فيها فضائح الرجال و النساء من قریش و غیرهم، یابن سنان ان سورة الاحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقصوها وحرفوها، ومراده من الاسناد ما ذكره قبل ذلك وهو حدثني محمد بن موسى بن المتوكل (رضیَ اللّهُ عنهُ) قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن أحمد عن محمد بن حسان عن اسماعیل بن مهران قال حدثنى الحسن بن على عن عبد اللّه بن سنان

ص: 82


1- النساء الآية 3.

وهذه الرواية تنص على النقيصة، ولكنها من حيث السند في غاية الضعف والسقوط لان الحسن بن على الراوى عن ابن سنان هو ابن أبي حمزة البطائنى الذى طعن عليه على بن الحسن بن فضال على مافى رجال النجاشي، وفيه ورأيت شيوخنا رحمهم اللّه يذكرون أنه من وجوه الواقفة. وذكر له كتبا منها كتاب فضائل القرآن، ثم ان القرينة الداخلية التي تدل على كذب هذه الرواية أن السورة فضحت نساء قريش، و أنت خبير بأن هذه الجملة القاسية فى نساء طائفة فيهم المعصومون بهذه القسوة والخشونة و الدلالة على مساوىء نسائية لاتصدر عن الامام، و لاعجب من الفاضل النورى ومن يضاهيه فى الاخذ بالضعاف ان يتمسك بأمثال تلك الرواية ويقول بالتحريف بعد مانرى فى سيرته من عدم الاعتناء بسيرة العقلاء الفطرية من لزوم التثبت فيما ياتى به الفاسق من النبأ، أو المجهول حاله ثقة وضعفاً، نعم الذي لا يغفر منه رضاؤه بهذا التعبير، كما قال في فصل الخطاب، وعندى أن الاخبار فى هذا الباب لا يقصر عن أخبار الامامة وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الاخبار رأساً الخ..

وعليك أن تتأمل بدقة كافية في اسناد الروايات ودلالاتها واحدة بعد أخرى حتى تعرف ضعف ما تخيله هذا الفاضل وموافقوه فى العقيدة وركاكة قوله، ولعمرى كيف يجترؤون على التكلفات الركيكة فى تلك الاخبار مثل ماقيل من أن الايات الزائدة عبارة عن الاحاديث القدسية، اذ الزيادات المزعومة هي ما وصلت الينا من عدة روايات مروية فى كتاب «دبستان المذاهب» و غيره بأسناد ضعيفة جداً من طرق العامة نظير ما عن عائشة من روايتها ما هو منسوخ الحكم والتلاوة من القرآن كماياتي في بحث النسخ، ولقد عجل بنا الكلام الى مالم نرض بالتفوه به بسبب خطورة المقام، عفا اللّه عن زلات الاقدام والاقلام.

٣ - أصول الكافى باب النوادر من كتاب فضل القرآن على بن الحكم الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : ان القران الذى جاء به جبرئيل الى محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سبعة عشر ألف آية، وهذه الرواية ضعيفة سنداً ودلالة، أما السند فلكونه منقطعا اوله، لان على بن الحكم وهو الانبارى بقرينة روايته عن هشام بن سالم

ص: 83

انما هو من تلامذة محمد بن أبي عمير، وقدلقى كثيرا من أصحاب أبى عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو من رواة الرضا والجواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وقد استشهد الاخير سنة ٢٢٠.

وأما الكلينى فقد توفى سنة 339، فكيف يمكن والحال هذه أن يروى عن على بن الحكم بلاواسطة مضافاً الى عدم تعاهد ذلك بل رواياته عنه انماهی بوسائط، فالرواية ضعيفة سندا ولا اعتبار لها أصلا، وأما الدلالة فلان القرآن الموجود الفعلى سبعة الاف آية، وعلى هذا فكيف يعقل سقوط عشرة الف آية من القرآن من دون اعتراض أى أحد من المسلمين، وهل هذه العشرة ألف كانت بأجمعها في فضائح رجال قريش ونسائهم أو الثلاثة وأتباعهم أو كانت فيها آيات الاحكام أيضا فالفطن النابه لابد وأن لا يعتنى بمثل هذه الرواية.

4- على بن محمد عن بعض أصحابه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : دفع الى أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مصحفا وقال : لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه : لم يكن الذين كفروا فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش باسمائهم واسماء آبائهم قال فبعث الى : ابعث الى بالمصحف.

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن ما فى المصحف كان من أجزاء القرآن النازل من السماء، ولما لم يكن فيما بأيدينا من القران أسماء هولاء فلابد من القول بحذفها وهذا هو النقصان، ويرد عليه اشكالات ثلاثة :

الاول : ضعف الرواية، اما باشتراك على بن محمد بين من وثق وبين من لم يوثق، وان أمكن الجواب عن هذا بأن مشايخ الكليني كلهم ثقات ولا يحتاجون الى النقد والتوثيق، واما بالجهل عن بعض أصحابه فالسند لا محالة ضعيف.

الثاني : أن فى الرواية ما يمنع من الاعتقاد بصحة صدور متنها :

1- ان المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كيف يدفع مصحفاً الى شخص ويمنعه عن النظر فيه، اذ لا داعى عقلائياً بحسب الظاهر فى هذا الدفع المقرون بالمنع مع أن المدفوع اليه من خواص الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأمنائه.

ص: 84

2- وكيف يخالف البزنطى هذا النهى وينظر فى المصحف وهو من عرفته من كونه من خواص الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأمنائه.

3- ان الرواية قاصرة عن اثباب أن الاسماء كانت مسطورة في المصحف الكذائى بعنوان الجزئية للقرآن لا بعنوان بيان المصاديق للمنافقين تفسير اللقرآن.

5- رجال الكشي ص 29 الرقم 511، خلف بن حامد قال: حدثني أبو محمد الحسن بن طلحة عن ابن فضال عن يونس بن يعقوب عن بريد العجلى عن أبى عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : أنزل اللّه فى القرآن سبعة باسمائهم فمحت قريش ستة و تركوا أبا لهب، وسئلت عن قول اللّه عز وجل (1) : «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ َنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ»، قال هم سبعة، المغيرة بن سعيد وبيان وصايد (وبنان وصايد النهدى خ ل) والحارث الشامى وعبد اللّه بن الحارث وحمزة بن عمارة البربرى وأبو الخطاب، والدلالة واضحة الاأن السند ضعيف لان خلف بن حامد والحسن ابن طلحة مهملان فى كتب الرجال، ورواية هذا سندها لا يمكن الركون اليها في الحكم بالتحريف القرآنى مضافاً الى ذلك أمران آخران :

الاول : أن اثبات اسم أبى لهب لو كان فيه شيء من الازراء بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما ورد في غيبة النعماني عن ابن نباتة، قال سمعت علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : كأنى بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلمون الناس القرآن كما أنزل، قلت : يا أمير المؤمنين أوليس هو كما أنزل ؟ فقال : لا، محى منه سبعون من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم وماترك أبو لهب الا للازراء على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لانه عمه، وبالجملة لو كان فى اسم أبي لهب ازراء على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما أنزله اللّه في كتابه يتلى ليلا ونهاراً في جميع الازمنة والأمكنه.

الثاني : ان الاسماء التي محت قريش كيف نسيها كل من سمعها ولم نرمنها أثراً فى التاريخ الا فى مثل هذه الرواية الضعيف سندها.

ص: 85


1- الشعراء الآية ٢٢٢.

6- قرب الاسناد ص 9، محمد بن عیسی قال حدثني ابراهيم بن عبد الحميد في سنة 198 في مسجد الحرام قال : دخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخرج الى مصحف قال فتصفحته فوقع بصرى على موضع منه فاذا فيه مكتوب : هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان فاصليا فيها لاتموتان فيها ولا تحييان، یعنی الاولين، ولا يظهر من هذه الرواية كون الجملتين آيتين من القرآن، ثم هل هما غير ما في سورة يس من قوله تعالى: هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون، اوهما بدلان عنهما.

7 - بصائر الدرجات ص246، حدثنا احمد بن محمد بن أبي نصر قال : استقبلت الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى القادسية فسلمت عليه فقال لى : اكترلى حجرة لها بابان باب الى الخان وباب الى الخارج فانه أستر عليك قال وبعث الى بزنفيلجة فيهادنانير صالحة و مصحف و كان يأتيه رسوله فى حوائجه فاشترى له و كنت يوماً وحدى ففتحت المصحف لاقرأ فيه فلما نشرته نظرت فى - لم يكن _ فاذا فيها أكثر مما في أيدينا أضعافه فقدمت على قرائتها فلم اعرف منها شيئا فأخذت الدواة والقرطاس فأردت ان اكتبها لكى اسأل عنها فأتانى مسافر قبل ان أكتب منها بشيء ومنديل وخيط وخاتمه، فقال مولاى يأمرك أن تضع المصحف في منديل وتختمه وتبعث اليه بالخاتم قال ففعلت ذلك.

والظاهر أن هذه الرواية موافقة لما رواه الكلينى (رَحمهُ اللّه) راجع الحدیث 4-، وقد رايت فى الاخيرة ان البزنطى وجد فى المصحف اسم سبعين رجلا، وفى هذه الواقعة يقول : رأيت فى - لم يكن - اكثر مما في أيدينا أضعافه، ثم انه كيف لم يعرف منها شيئاً، فهل يمكن للعربى أن لا يفهم الكلام العربي ؟ فماهو المراد ياترى من الذى كان فى المصحف ولم يفهمه البزنطى، و هو رجل عظیم تعرف ایمانه وعلمه وصفاته التى قربته الى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجعلته من خواص شيعته ومواليه، وكيف كان فلايظهر من هذه الرواية مع قطع النظر عما في الكافي أن الزائد في - لم يكن - هل كان من الوحى أو تفسيره وتأويله.

8 - محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن عبدالرحمان بن أبي هاشم عن

ص: 86

٣ - في الكافي باب النوادر من كتاب العلم، على بن ابراهيم عن أبيه عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد قال سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : ان رواة الكتاب كثير وان رعاته قليل وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية والجهال يحزنهم حفظ الرواية فراع يرعى حياته وراع يرعى هلكته فعند ذلك اختلف الراعيان وتغاير الفريقان.

والاشكال في سندالرواية بان طلحة بن زيد بترى أو عامى مدفوع بأن الشيخ الطوسى قال ان كتابه معتمد مضافاً الى أن رواية جمع من الاجلاء عنه، منهم عبد اللّه بن المغيرة وصفوان بن يحيى وهما من اصحاب الاجماع كاف للوثوق به، بل ناهيك فى اعتبار اخبار الرجل رواية هذا الاخير عنه حيث انه ممن اجمعت الصحابة على تصحيح ما يصح عنهم وانه لايروى الاعن ثقة.

وسنوافيك بما يدل على أن ما هو الموجود قرآن كله من دون زيادة ولا نقيصة ان شاء اللّه تعالى.

4 - الكافى عدة من اصحابنا عن سهل بن زياد عن على بن الحكم عن عبد اللّه بن جندب عن سفيان السمط قال : سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن تنزيل القرآن، قال : اقرؤوا كما علمتم، وهذه الرواية تدل بالمطابقة على جواز الاكتفاء بالقراءة الموجودة، وبالالتزام على كون ما هو الموجود هو القرآن بما هو كتاب الهى وقانون سماوى.

الطائفة الثالثة :

1 - روى الطبرسي في الاحتجاج (مرسلا بقوله : جاء بعض الزنادقة الى امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)) في جملة احتجاج امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الزنديق الذي جاء اليه مستدلا بأى من القرآن متشابهة تحتاج الى التأويل الى أن قال - يقول (1): «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ»، وليس شيء يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء ولاكل النساء أيتام فما معنى ذلك، الى ان قال :

ص: 87


1- النساء، الآية ٣.

سالم بن سلمة قال قرأ رجل على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وانا أسمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال ابو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرىء الناس حتى يقوم القائم (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) فاذا قام القائم قرأ كتاب اللّه عز وجل على حده وأخرج المصحف الذى كتبه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال أخرجه على (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم هذا كتاب اللّه عز وجل كما أنزله على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد جمعته (من خ ل) بين اللوحين فقالوا هوذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لاحاجة لنافيه، فقال اما و اللّه لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً انما كان على أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه.وهذه الرواية تدل على أن رجلا كان يأتى بحرف عن كيفية مغايرة لما يأتى الناس بتلك الحروف و أن المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) منعه عن ذلك ثم قال بانه اذاقام القائم يقرأ القرآن على حده وأن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جمع القرآن ولم يقبله الناس، وقال بانه لايرى أبداً وهذه مطالب أربع :

والمطلب الأول منها لايدل على التحريف لا بالزيادة ولا بالنقيصة لان استماع حروف على خلاف ما يقرؤها الناس انما يدل منحصراً على الاختلاف في كيفية القراءة، والدليل على ذلك أن السالم لايقول بان الحروف المسموعة ليست في المصحف الموجود بل يقول : ليس على ما يقرؤها الناس وضمير يقرؤها يرجع الى الحروف، وهذا كالنص في الاختلاف فى الكيفية لا الكمية.

والمطلب الثانى ان الامام منعه عن مخالفة الناس في كيفية الاداء.

والمطلب الثالث انه يبشره بقيام القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وان الكتاب يتلى على حده حينذاك ومن المعلوم ان قراءة القرآن مع فهم مطالبه العالية انما هي حدمن حدود القرآن والدليل على ذلك المطلب الثالث وهو الاخبار عن جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) للقرآن الذى قد عرفت بأنه كان عبارة عن جمع القرآن بماله من التفسير والتأويل.

والمطلب الرابع ان هذا القرآن لا يظهر ولا يراه أحد في المجتمع الاسلامي، ولو أغمضنا عن ذلك كله، فالسند ضعيف بسالم بن سلمة لما قاله النجاشي في حقه من ان حديثه ليس بنقى وان كنا لا نعرف منه الا خيراً.

ص: 88

٩- في الاحتجاج وفى رواية أبي ذر الغفارى أنه لما توفى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) القرآن وجاء به الى المهاجرين والانصار وعرضه عليهم لماقد أوصاه بذلك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلما فتحه ابو بكر خرج في اول صفحة فتحها فضائح القوم فوثب عمر وقال يا على اردده فلاحاجة لنافيه فأخذه على فانصرف ثم أحضر زيد بن ثابت و كان قارئا للقرآن فقال ان عليا جاءنا بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين و الانصار وقد أردنا أن تؤلف لنا القرآن وتسقط عنه ماكان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والانصار فأجابه زيد الى ذلك ثم قال فان انا فرغت من القرآن على ما سألتم و وأظهر على (عَلَيهِ السَّلَامُ) القرآن الذى الفه أليس قد بطل كلما عملتم قال عمر : فما الحيلة؟ قال زيد : انتم أعلم بالحيلة، فقال : ما الحيلة دون أن نقتله و نستريح منه فدبروا في قتله على يد خالد بن الوليد ولم يقدروا على ذلك، فلما استخلف عمر سأل عليا أن يدفع اليهم القرآن ليحرفوه فيما بينهم، فقال : يا أبا الحسن ان كنت جئت به الى أبى بكر فأت به الينا حتى نجتمع عليه، فقال : هيهات ليس الى ذلك سبيل انما جئت به الى أبى بكر لتقوم الحجة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة انا كناعن هذا غافلين أو تقولوا ما جئتنا به ان القرآن الذى لا يمسه الا المطهرون و الاوصياء من ولدى، فقال عمر : فهل وقت لاظهاره معلوم ؟، قال على (عَلَيهِ السَّلَامُ) نعم اذا قام القائم من ولدى يظهره ويحمل الناس عليه فيجرى السنة به (عَلَيهِ السَّلَامُ)

و هذه الرواية ضعيفة سنداً غير دالة على كون ما فى قرآن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) من اسماء القوم من التنزيل اللفظى دون التأويل المعنوى، بل قد عرفت أن جمع على (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان جمع تنزيل وتأويل مقرونا أحدهما بالاخر، فلا تغتر بامثال تلك الروايات وان اشتملت على كلمة التحريف الا ان المرادمنه التغيير و لو بحذف التفسير، بل المراد من المس في قوله تعالى (1) : «لَا يَمَسُّهُ اِلَّا المُطَهَّرُونَ». ليس عدم المس الظاهرى لمسا او سمعا - لضرورة كون ذلك خلافا للحس والوجدان -، بل المراد منه درك حقائقه وفهم غوامضه، فهذه الرواية على خلاف مطلوب القائل بالتحريف أدل.

ص: 89


1- الواقعة الآية 79.

10 - الروضة من الكافىی طبع الحیدری ص 50، سهل بن زياد عن محمد بن سليمان الديلمى المصرى - البصرى - كما عن الطوسى، او _ النصري - كما عن ابن داود عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قلت له قول اللّه عزوجل (1): «هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ»، فقال : ان الكتاب لم ينطق ولن ينطق ولكن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو الناطق بالكتاب، قال اللّه عز وجل : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، قال قلت : جعلت فداك انا لا نقرؤها هكذا، فقال : هكذا واللّه نزل به جبرئيل على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولكنه فيما حرف من كتاب اللّهو

قال الفيض في الصافي : كأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قرأ ينطق - بضم الياء وفتح الطاء-، أقول: في تفسير القمى حدثنا محمد بن همام قال حدثنا جعفر بن محمد الفرازى عن الحسن ابن على اللؤلؤى عن الحسن بن أيوب عن سليمان بن صالح عن رجل عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه العلا قال : قلت هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، قال له : ان الكتاب لم ينطق ولا ينطق ولكن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو الناطق بالكتاب، قال اللّه : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، فقال : انا لانقرؤها هكذا، فقال : هكذا واللّه نزل بها جبرئيل على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولكنه مما حرف من كتاب اللّه.

أقول : يرد على الاستدلال بهذه الرواية للتحريف أمور :

الأول : ان المراد من الرواية أن المصداق الاكمل للناطق بالحق الجامع لجميع المعارف والعلوم الالهية والخازن لوحى اللّه وحكمته وعلمه هو النبى(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، حيث ان للنطق مراتب عديدة، فبمرتبة يكون كل شيء ناطق، كما ورد في الحديث حينما تتكلم جوارح الانسان، كما نص عليه القرآن (2) : «وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، ان الانسان يعاتب الاعضاء بأنه لم شهدتم علينا ؟ فيجيبون بأنه انطقنا اللّه الذي انطق كل شيء، وقد ورد في القرآن ايضاً (3) : «عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ».

ص: 90


1- الجاثية : الآية 29.
2- یس : الآية 64.
3- النمل : الآية 16.

وبالجملة، النطق له مراتب عديدة، ولا أقل من صحة جعله كناية عن البيان والهداية والذكر، وهى التى تكون من الصفات البارزة للقرآن، فاذن لا محيص عن القول بأن المراد من نفى النطق للكتاب - وهو القرآن - النطق بجميع المراتب، أو طرح الرواية للكذب المدلولى الذى يبعد صدورها عن المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلى الأول التحريف عبارة عن عدم المعرفة بالمصداق الاكمل للناطق بالحق.

الثاني : ان سندى الرواية فى الكافي والتفسير ضعيفان

الثالث : ان عدم المعرفة بالمشار اليه بكلمة - هذا _ ليس من التحريف في شيء اذا لتحريف المدعى للقائلين به هو التغيير بالزيادة والنقصان وليس عدم المعرفة

بما يشار اليه بأسماء الاشارات من التحريف كما هو واضح، ولذا قال في الوافي بان المراد - ينطق - بضم الياء وفتح الطاء، وان كان يرد عليه أمران:

الاول : ان عدم المعرفة باعراب كلمة أو كلمات وقرائتها على خلاف النازل ليس من التحريف يقيناً اذنری اختلاف القراء فى اعراب جملة وافرة من الكلمات ولا يعد ذلك منهم تحريفاً للقرآن.

الثانى انه لم يكن القرآن من الأول معربا بالاشكال المتعارفة فعلا، فلامعنى لما ورد في الرواية أنه مما حرف من كتاب اللّه، وملخص الكلام انه لابد من أحد أمرين على سبيل منع الخلو، اما طرح الرواية لضعف السند وكذب المدلول واما حملها على المعنى المؤول للكتاب و النطق معاً، و يشهد لكون المراد المصداق الاكمل للكتاب و النطق مافى- البرهان - (1) عن محمد بن العباس بعد سؤال أبي بصير عن الاية قوله ان الكتاب لا ينطق و لكن محمد واهل بيته لكن محمد واهل بيته هم الناطقون بالكتاب، ومحمد بن العباس -هذا _ هو ابن الحجام الذي وثقة النجاشي وروى عنه التلعكبرى وغيره، نعم في بعض نسخ تفسير القمي - بكتابنا - وهو خطأ حتماً لعدم مساعدة الذوق ولاختلاف النسخ.

ص: 91


1- ج 4 ص 169.

11 - في الاحتجاج وروى سليم بن قيس قال سمعت عبد اللّه بن جعفر بن ابی طالب فنقل كلاماً طويلا جرى بينه وبين معاوية في محضر جماعة منهم الحسن ابن على (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ثم نقل من جملة كلام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): وتزعم ان عمرا ارسل الى ابى انى أريد ان اجمع القرآن واكتبه في مصحف فابعث الى بما كتبت من القرآن فأتاه وقال تضرب واللّه عنقى قبل أن يصل اليك، قال ولم ؟ قال لان اللّه تعالى قال (1) : «لَا يَمَسُّهُ اِلَّا المُطَهَّرُونَ»، قال اياى عنى و لم يعنك ولا أصحابك فغضب عمر وقال ان ابن أبي طالب يحسب أن أحداً ليس عنده علم غيره من كان يقرأ شيئاً من القرآن فليأتني به فاذا جاء رجل وقرأ شيئاً وقرأ معه رجل آخر فيه كتبه والالم يكتبه، ثم قال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): وقد قالوا ضاع منه قر آن كثير بل كذبوا واللّه بل هو مجموع محفوظ عند أهله، ثم قال : ثم ان عمر أمر قضاته وولاته أن اجتهدوا بارائكم واقضوا بماترون أنه الحق فما يزال هو وولاته قد وقعوا في عظيمة فيخرجهم منها أبي ليحتج بما عليهم، فتجتمع القضاة عند خليفتهم وقد حكموا في شيء واحد بقضايا مختلفة فأجازها لهم لان اللّه لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب.

وهذه الرواية كسابقتها في ضعف السند والدلالة، ولتوضيح المقام والاشارة الى لزوم الدقة في فهم المطالب من الاخبار ورعاية القرائن العقلية وغيرها في جميع الموارد، نشير الى الامور التالية :

(1) - دلت رواية سالم بن سلمة على أن القوم أجابوا عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأن عندنا مصحف جامع، فلنا أن نسأل أنه كيف يمكن المصير الى أن عمر بعد يأسه من الظفر بما جمعه الامام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) طلب من الناس رجلين رجلين أن يأتوا بالايات كي يجمع قرآناً من رأس ؟!.

(2) - اوليس النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتى،وأوليس المراد من ضمير -كم - الخطاب الى الجمع _ المسلمون كافة __، وهلا

ص: 92


1- الواقعة الاية 79.

يدل هذا الكلام المنقول منه متواترا من طرق الفريقين على وجود كتاب اللّه في أيدى الناس وجودا فعليا يشار اليه بأنه كتاب اللّه، المصحف، القرآن، وهل يجوز لاحد أن يقول المراد منه ما هو مبعثر فى الاوراق المتعددة عند أشخاص معدودين أو ماهو الموجود عند الامام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) وولده (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف).

(3)- دلت رواية طلحة - بنقل سليم - على أن علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قرر ارتكاز طلحة بأن ما هو موجود قرآن - کله -، و من البديهي أن المس الظاهري للقرآن، واعنی به مباشرة القرآن بالأعضاء او كتابته او رؤيته او استماعه ممكن لكل احد مطهر أ كان أم غير مطهر.

فلابد وأن يكون المراد من المس الذى لا يناله غير المطهر المس النورى والدرك الواقعى لمعانی القرآن و دقائقه كما اشرنا اليه فى الجواب عن سابقة هذه الرواية.

(4) _ قد ترى في هذه الرواية ان عمر بعد يأسه من الظفر بجامع على(عَلَيهِ السَّلَامُ) التجأ الى القضاة والولاة وامرهم بأخذ الاراء - الاهواء _ في القضاء الشرعي و تنظيم الامور الاجتماعية، وذلك يدل بوضوح على ان قرآن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان كلام اللّه المنزل وكلام نبيه ووصى نبيه المفسرين له.

(5) - ان القول بضياع كثير من القرآن انما هو كلام مختلق عندهم بعد حرمانهم من قرآن على (عَلَيهِ السَّلَامُ) وزعمهم أن مافيه كان زائداً على ماعندهم بما هو قرآن نازل من عند اللّه تعالى لا بما هو هو مع تفسيره.

(6)- لاحظ التناقض الواضح بين روايات جمع القرآن من قبل القوم فترى فى رواية طلحة أنهم قالوا هو ذاعندنا مصحف جامع ولاحاجة لنا الى جامعك، وفي رواية أبي ذر - الرقم - 8-، يأمر عمر زيد بن ثابت بتأليف قرآن ليسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والانصار، وفي رواية سليم يأمر عمر كل من يقرأ شيئاً من القرآن أن يأتى به.

(7) - الحافظة العمومية تأبى بوضوح عن اختصاص رجل أو رجلين بآية

ص: 93

أو آيات من كلام اللّه مخصوصاً علمها به او بهما.

وهناك أمر هام جداً، وهو أنه ربما يتوهم التواتر الاجمالي للروايات الجابر لضعف أسانيدها، بتقريب أن الاشكال السندى انما يمنع عن الاخذ بالمتن اذا لم يرتفع بتعاضد الروايات بعضها ببعض، اذكيف يمكن رفع اليد عن الروايات البالغة حد التواتر بمجرد القول بأن كتاب سليم كذا، والحسن بن على بن أبي حمزة البطائنى ضعيف، وأن سالم بن سلمة ضعيف، وأن كثيرا من رجال تلك الروايات مهملون فى كتب الرجال، ونحو ذلك من المناقشات السندية.

والجواب أن التواتر اذا لم يكن لفظياً ولم يكن معنوياً فلا بد من أن يكون اجمالياً و معنی ذلك أن تتفق الروايات فى جامع واحد وان اختلفت في الخصوصيات، وحينئذ تكون حجة على هذا الجامع، ومن البديهي أن الأمر ليس كذلك لان الروايات المستدل بها على التحريف على اختلاف كثير.

١ - فيظهر من جملة منها بوضوح السقوط اللفظى، كرواية ثواب الاعمال بنقل البطائنى.

2 - ومن جملة منها التأويل المعنوى، وأن المراد مما أنزل اليك في على (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو أن خير من اللّهو ومن التجارة _ للذين اتقوا _ أى ليس للجميع، فراجع تفسير القمى، أو أن تجعلون رزقكم أنكم تكذبون - شكركم - كناية عن المسبب بالسبب، ففى تفسير القمى، على بن الحسين عن البرقى عن أبيه عن ابن ابی عمیر عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله وتجعلون رزقكم انكم تكذبون، قال : بل هي وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، اذالسؤال كالنص في استفسار المعنى المقصود من الاية والجواب كالنص فى أن المراد جعل التكذيب شكر النعم أو أن سورة الاحزاب، فضحت رجالا ونساء من حيث التطبيق، أو أنه ليس فى قوله تعالى (1) : «أُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَیء»،- من - والمراد أن كلمة _ من _ زائدة لانه : اوتينا كل شيء، (کمافی بصائر

ص: 94


1- النمل، الآية 16.

الدرجات بسند ضعيف)، أو أن كلمة _ أمة - تنطبق من حيث المراد الجدى على الائمة الذين هم فى حد الاعتدال الحقيقى، وانما يكون الاستواء الواقعي و الوسطية في العقائد والاحكام والاخلاق والاعمال بل المزاج ثابتاً لهم خاصة، والا فتلك الطائفة تناقض ما ورد فى نفس الروايات المستدل بها على التحريف من الأمر بقراءة القرآن على ما هو عليه من الالفاظ و الحروف فكود المعصومين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أئمة وسطاً صحيح من حيث الواقع، وكون الامة الباغية على أسباط النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليسوا بوسط صحيح حتماً، ولكن ذلك انما هو بحسب المراد الجدى لا التلفظ الصورى.

٣- ويظهر من جملة منها الاختلاف فى الاعراب المربوط بالقواعد النحوية غير المضرة بألفاظ القرآن، ففى روضة الکافی (1) محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن على بن الحكم عن على بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : تلوت التائبون العابدون، فقال : لا، اقرأ التابعين الى الاخر، فسئل عن العلة في ذلك فقال : اشترى من المؤمنين التائبين العابدين، مضافاً الى ضعف السند ومخالفة هذه الرواية مع ما ورد منهم من الأمر بمتابعة الناس في القراءة.

4 - و يظهر من بعضها أن العلم بمطالب القرآن مخصوص بأوصياء النبي كما بينا ذلك في توضيح قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) مستشهداً بقوله تعالى (2) : «لَا يَمَسُّهُ اِلَّا المُطَهَّرُونَ».

ويتلخص من ذلك انه لا جامع بين الروايات يمكننا الاخذ به والحكم لاجله بالتحريف، عفا اللّه عنا وعمن سلف من المحدثين الورعين الذين زعموا أن اللازم الاخذ تعبداً بالاخبار جموداً على الظواهر الموهومة لها، وان دلت القرائن العقلية على خلافها أو سبب ذلك وهنا على المسلمين وكتابهم الاسلامى المجيد نعم التحريف بالمعنى المضر (التحريف بالزيادة) لاقائل به كما اشرنا ونشير اليه، ثم ان هناك روايات اخرى مذكورة في تفسير العياشي وغيره اعرضنا عنها لضعف اسانيدها

ص: 95


1- ص377 طبع تهران.
2- الواقعة : الآية ٧٩.

و امكان حمل جل منها على مرادات الايات ومؤولات المتشابهات، واماماورد عن طرق اهل السنة فليس جامعاً لشرائط الحجية.

الطائفة الرابعة :

١ - كتاب سليم بن قيس الهلالي عن سلمان، الرواية الثانية من الطائفة - الاولى، وفيها : وقد عهد كذا في النسخة، والظاهر (عمد عثمان حتى أخذما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة فمزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار، الخ.. و هذه الرواية تدل على أن عثمان أحرق المصحفين وقد مضى البحث السندى حول هذه الرواية، وأما الدلالة فقد يتوهم بأن احراق المصاحف بالنار أو محوها بجعلها في قدر ماء حار و طبخها أو ما يشبه ذلك مما صنعه عثمان لمحو المصاحف دون مصحفه انما یدل بوضوح على اختلاف المصاحف بحسب الترتيب و من حيث المقدار زيادة و نقيصة، و الجواب أن الاختلاف المتيقن الذى كان بين المصاحف انما هو في الترتيب فقط، وذلك لان عثمان ليس موافقا لترتيب النزول، وأما الزيادة والنقيصة فليس عليهما جمع دليل.

2 - خصال الصدوق، محمد بن عمر الحافظ البغدادي المعروف بالجعابي قال حدثنا عبد اللّه بن بشير قال حدثنا الحسن بن الزبرقان المرادي قال حدثنا ابوبكر ابن عياش عن الاجلح عن أبي الزبير عن جابر، قال سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: يجيىء يوم القيامة ثلاثة يشكون الى اللّه عز وجل المصحف و المسجد و العترة، يقول المصحف یارب حرفونی و مزقونى، و يقول المسجد : يارب عطلوني وضيعونى، وتقول العترة : يارب قتلونا وطردونا وشردونا فأجثو اللركبتين للخصومة فيقول اللّه جل جلاله لى، أنا أولى بذلك، وقد يتوهم دلالة هذه الرواية على التحريف بوجهين :

الاول : أن احراق المصحف - غير مصحف عثمان _ يدل على اختلاف المصاحف، وهو يدل على الزيادة والنقصان.

ص: 96

الثانى : أن التحريف عبارة عن الميل عن الحق، وهو عين الزيادة والنقصان، ويرد على هذا التوهم أمور :

1- السند ضعيف كما يعلم بمراجعة كتب الرجال.

2 - الاحراق لايدل الاعلى الاختلاف في الترتيب اذمن المعلوم كما مضى ويأتى عدم موافقة جمع عثمان لترتيب النزول.

3 - التحريف كما قاله المتوهم عبارة عن الميل عن الحق ولكنه أعم من اللفظي والمعنوى، والمراد من هذه الرواية انما هو الاخير ولا أقل من عدم دلالتها على الاول.

٣ - وقد وردت روايات من طرق العامة تدل على احراق عثمان للمصاحف فمنها ماروى الحاكم فى - المستدرك - من كتاب الفردوس باسناده عن جابر قال سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : يجيؤنى يوم القيامة ثلاثة يشكون، المصحف والمسجد والعترة، يقول المصحف : يارب حرقونی و مزقونی، و يقول المسجد : يارب خربونی و عطلوني وضيعوني، وتقول العترة : يارب قتلونا وطردونا وشردونا و جثوا باركين للخصومة، فيقول اللّه جل جلاله : ذلك الى وأنا أولى بذلك.

4 - و فى صحاح البخاري و الترمذى والنسائى و غيرها من الكتب عن الزهرى عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغزو أهل الشام وأرمنية وأذربيجان مع أهل العراق، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن فقال لعثمان : أدرك هذه الامة قبل أن يختلفوا فى الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى، فأرسل الى حفصة أن ارسلى الى بالمصحف تنسخها من المصاحف، فأرسل عثمان الى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام وعبد اللّه بن الزبير أن انسخوا المصحف من المصاحف، و قال للرهط القرشيين الثلاثة ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فانما نزل بلسانها، حتى اذا نسخوا المصحف عن المصاحف بعث عثمان الى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف وأمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق.

ص: 97

و وجه الاستدلال بما ذكر على التحريف واضح، وهو أن الباعث لعثمان على احراق المصاحف لم يكن الا الاختلافات الموجودة بينها، وهي انما تكون بالزيادة والنقصان، و قدمر الجواب عنه بأن الاختلاف فى الترتيب أيضاً يوجب ذلك لان غرضه من احراق غير مصحفه انما كان اشاعة مصحفه وجعله مصحفاً اسلامياً رسميا، وهذا يتطلب الاتفاق حتى فى الترتيب، ولو كان غرضه حفظ المصحف عن التحريف لا اشاعة مصحفه، فلم لم يجعل مصحف أبي بن كعب مصحفاً رسمياً، أو مصحف زيد بن ثابت المعتمد عليه عند عمر و غيره، ونزيد هنا بياناً فنقول ان الاختلاف فى القراءة أيضاً لم يكن مرغوباً فيه عند عثمان، مع أنه لا يكون من التحريف المصطلح في شيء، فترى فى هذه الرواية المروية في كتب عديدة من صحاح أهل السنة وغيرها أن عثمان أمر بكتابة القرآن بلسان قريش حين اختلاف لجنة تأليف القرآن ( الاربعة)، و من المعلوم أن اللسان عبارة عن قواعد أداء الكلام، وليس المراد منه الزيادة والنقصان لانهما لا يختصان بلسان دون لسان.

الطائفة الخامسة :

١ - روضة الكافى (1)- على بن ابراهيم عن أحمد خالد بن عن أبيه عن ابی عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قوله تعالى : وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها - بمحمد _، هكذا و اللّه نزل بها جبرئيل على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). أما السند، فقال المجلسى (رَحمهُ اللّه) فى مرآة العقول : فيه ارسال، وروى العياشي عن محمد بن سليمان الدیلمی عن أبيه : و لعلهما سقطا في هذا السند، و في بعض النسخ هكذا وهو الظاهر. أقول : فالرواية ضعيفة اما بالارسال و اما بمحمد بن سليمان و أبيه سليمان، اذ النجاشي قال فى حق سليمان : قيل كان غالياً كذاباً وكذلك ابنه محمد ولا يعمل بما انفرد به من الرواية، وقال فى حق ابنه : ضعيف جداً لا يعول عليه في شيء، و أما الدلالة فالظاهر أن المراد من الآية أن المنقذ للبشر من شقاء الدنيا والآخرة

ص: 98


1- طبع تهران ص 183.

هو محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، لا أن لفظة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نزلت في الاية بل المراد الجدى من الاية في عالم التطبيق هو محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، كيف و لو كانت اللفظة من القرآن الملفوظ لامروا شيعتهم بقرائتها سراً، ولم يرد أى خبر يدل على أمرهم بقراءة اى لفظة أو كلمة أو جملة يقال انها من القرآن وحذفت، فان توهم التقية في ذلك مدفوع بأنه كيف صرحوا بحذفها ولم يأمروا بقرائتها حينمالم يكن تقية في البين، وهذه نكتة ينبغى أن يلاحظها العاقل الفطن.

2 - كشف الغمة عن رزين عبد اللّه، قال كنا نقرأ على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ان علياً مولى المؤمنين فان لم تفعل فما بلغت رسالتك واللّه يعصمك من الناس، والمراد من هذه الرواية ان ما أنزل الى محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو ولاية على بن أبى طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، يدل على ذلك مارواه ابن بابویه باسناده الى الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث : ولقد أنزل اللّه عز وجل : يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، يعنى في ولايتك ياعلى، ومارواه سعد بن عبداللّه باسناده الى أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته، قال هي الولاية، فراجع تفسير هذه الاية فى البرهان للسيد البحراني (رَحمهُ اللّه).

3- روضة الكافى (1) عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن يحيى بن المبارك عن عبد اللّه بن جبلة عن اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : هكذا أنزل اللّه تبارك و تعالى : لقدجاء نارسول من أنفسنا عزيز عليه ما عنتنا حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم، والمراد أننا مخاطبون بهذا الخطاب فلابد علينا من متابعة هذا الرسول.

4- المصدر (ص183)، على بن ابراهيم عن أبيه عن عمر بن عبدالعزيز عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، هكذا فاقرأها، وفى الروضة المطبوعة، -مما - وفي الروضة المخطوطة عندنا، -مما-، وفى مخطوطة أخرى عندنا، كتب الناسخ أولا، __ مما _، ثم شطب على

ص: 99


1- طبع تهران ص 378.

الكلمة وكتب فوقها _ ما _، وفى البرهان للبحراني نقلا عن الكافى -ما-، وعن العياشي - ما - ، وظنى أن الكلمة كانت - مما -، والظاهران مراد الامام كان مؤول الآية وان اللازم معرفة المراد مما تحبون وأنه يشمل حتى انفاق النفس في سبيل احياء الدين، وكيف كان فاما هذا، واما الاجمال غير المفيد لمن يريد الاستدلال بهذه الرواية على التحريف، اضف الى ما ذكر ضعف السند بسبب عمر بن عبد العزيز، قال النجاشي : انه مخلط.

5- المصدر (ص289)، عدة من اصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن محمد بن سلمان الازدى عن ابى اسحاق عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : و اذا تولى سعى فى الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل - بظلمه وسوء سيرته _ (بسوء سريرته، خ ل) واللّه لا يحب الفساد، و أنت ترى بانه ليس في الرواية أى اشارة الى أن جملة _ بظلمه وسوء سيرته - المسوقة لبيان العلة هل هى بيان للعلة أو جزء من القرآن ؟، والمظنون أنها تفسير تعليلى.

6 - المصدر ص 289، سهل بن زياد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : والذين كفروا أولياؤهم الطواغيت، والعجب ممن يريد الاستدلال بهذه الرواية على تحريف القرآن من كلمة الطاغوت الموجودة فى المصحف الفعلى الى كلمة الطواغيت الموجودة فى هذه الرواية، اذ ليس في الرواية أزيد من قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الكفار أولياؤهم الطواغيت (و الكلمة جمع للطاغوت).

وأما ان الامام انما كان بصدد قراءة القرآن، او انه كان بصدد بيان أن كلمة الطاغوت النازلة من السماء قرآناً، اسم جنس شامل لكل طاغوت، فالكفار اولياؤهم الطواغيت، أوان المراد من الكفار المخالفون لاولياء الدين، و الطواغيت هم المضلون لهؤلاء فتلك أمور لا تظهر من الرواية، و القول بأية و احدة منها لايخرج عن الخيال الفارغ أو الظن و نظير هذه الرواية في مجرد قراءة الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) آيات مع زوائد لايدرى هل أنها بمنزلة التفاسير للايات أو توضيح لها من الامام (عَلَيهِم السَّلَامُ)

ص: 100

روايات فمنها.

7- المصدر ص 289، على بن ابراهيم عن احمد بن محمد عن محمد بن خالد عن محمد بن سنان عن أبى جرير القمى - وهو محمد بن عبيد اللّه وفي نسخة عبد اللّه - عن أبى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : له مافي السموات ومافي الارض وما بينهما وما تحت الثرى، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، من ذا الذي يشفع عنده الاباذنه، فانظر الى هذه الرواية، ترى أنه ليس فيها الا أن الامام قرأ بين : له مافي السموات ومافى الارض وبين من ذا الذى جملة وما بينهما الى قوله : الرحمن الرحيم، و هل هذا بمعنى أن تلك الجملة المقروءة كانت من القرآن وحذفها المحرفون ؟ ! كلا !، و منها :

8- المصدر ص 290، محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سيف عن أخيه عن أبيه عن أبى بكر بن محمد، قال : سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقرأ : وزلزلوا حتى يقول الرسول، وليس فى الرواية أن كلمة ثم زلزلوا من القران أو أنها تأكيد لقول اللّه زلزلوا من قبل الامام، أضف اليه أن أبا بكر فى السند مجهول، و فى مرآة العقول : الظاهر أنه كان عن بكر بن محمد فزيد فيه - أبى - من النساخ، ومنها :

9 - المصدر ص 290، علی بن ابراهيم عن أبيه عن على بن أسباط عن على بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): واتبعوا ما تتلو الشياطين بولاية الشياطين على ملك سليمان، ويقرأ أيضاً : سل بنى اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فمنهم من آمن ومنهم من جحد ومنهم من أقر و منهم من بدل ومن يبدل نعمة اللّه من بعد ما جاءته فان اللّه شديد العقاب، وهذه الرواية أيضاً ليس فيها الا أن الامام قال بولاية الشياطين، وليس ذلك دليلا على كون ماذكر من القرآن اذلم لايجوز أن يكون بياناً لما سلف ؟. وكذا ليس فى الرواية الا ان الامام زادبين : آية بينة، ومن يبدل، - جملة فمنهم الخ – وأما أن ذلك عبارة عن كون هذه الضميمة من القرآن، وأن الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بصدد

ص: 101

بيان ذلك، أو أنها توضيح لانواع بنى اسرائيل من حيث الايمان و الجحود وغير ذلك، فلا يظهر من الرواية.

10 - المصدر ص 290، محمد بن خالد عن حمزة بن عبيد عن اسماعيل بن عباد عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ولا يحيطون بشيء من علمه الابماشاء، وآخرها وهو العلى العظيم والحمد للّه رب العالمين، و آيتين بعدها، قال في مرآة العقول: أى ذكر آيتين بعدها و عدهما من آية الكرسى، فاطلاق آية الكرسي عليها على ارادة الجنس وتكون ثلاث آيات كما يدل عليه بعض الاخبار، انتهى، أضف اليه ضعف السند.

11 - المصدر ص 378، محمد عن أحمد عن ابن فضال عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فأنزل اللّه سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها (1)، قلت هكذا ؟ قال : هكذا نقرؤها، ولم يعلم أن الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان بصدد قراءة القرآن ولم يكن بصدد بيان اقتباس المراد من الآية وبيان ما هو المقتبس منها بتطبيق الضمير على الرسول.

١٢ - المصدر ص 377، علی بن ابراهيم عن صالح بن السندى عن جعفر بن بشير عن فيض بن المختار قال : قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): كيف نقرأ : و على الثلاثة الذين خلفوا، قال لو كان خلفوا لكانوا في حال طاعة و لكنهم خالفوا عثمان و صاحباه أما واللّه ما سمعوا صوت حافر ولا قعقعة حجر الأقالوا أتينا فسلط اللّه عليهم الخوف حتى اصبحوا، الآية 118 من سورة التوبة، و هذه الرواية تدل على الاختلاف فى القراءة ولاتدل على التحريف.

قال الطبرسى : القراءة المشهورة : الذين خلفوا، وقرأ على بن الحسين و أبو جعفر الباقر و جعفر الصادق (عَلَيهِم السَّلَامُ) و أبو عبد الرحمن السلمى : وخالفوا، و قرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد : خلفوا بفتح الخاء وتخفيف اللام. انتهى. ومع ذلك فقد أمر الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بأن نقرأ القرآن بالقراءة المشهورة، ثم ان هناك

ص: 102


1- في سورة التوبة الآية 4 : فانزل اللّه سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها.

أخبار الشاذة مذكورة فى تفسير العياشي و تفسیر فرات وغيرهما مما لم نعتد بها لضعف أسانيدها، كما أننالم نشر الى جملة من الاسناد ايكالا الى تتبع الباحث، وملخص ما ذكرنا أمران :

الأول : أنه لا يوجد فى هذه الطوائف الخمس دليل له سند صحيح قابلللاعتماد ينص على التحريف بالنقيصة فكيف بالزيادة.

الثاني : أن القائلين بالتحريف أو قعهم في شبهة التحريف كمال ورعهم و جمودهم على الاخبار و عدم دقتهم في أسانيدها ودلالاتها، والافليس القول بالتحريف خرافة اذهى ما لا أساس لها كالقصص الخيالية والأوهام المنسوجة والاحاديث المفتعلة الكاذبة، وليس القول بالتحريف بهذه المثابة من الضعف والسقوط لما قلنا من نشوئه عن اخبار كثيرة.

وقد يستدل على التحريف بماورد في القرآن في سورتى النساء و المائدة من آيات ناظرة الى التحريف، ففى سورة النساء الاية 46 : «مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»، و فى سورة المائدة الآية ١٣ : «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ» و نسوا حظا مما ذكروابه، وفى الاية 41 : «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ»، وهذا النحو من الاستدلال ضعيف جدالان الايات المذكورة وردت فى شأن اليهود، والمراد من التحريف فيها التأويل الباطل اى المعنوى، فراجع التفاسير.

السؤال السادس : من هم النافون للتحريف وماهى أدلتهم ؟

الجواب : المجتهدون وعظماء العلماء كالصدوق والشيخ الطوسى والسيد المرتضى والطبرسي، ذهبوا الى عدم تحريف القرآن.

(1) قال الشيخ ابو على الطبرسى فى مجمع البيان : فاما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، واما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة ان فى القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب اصحابنا خلافه، وهو الذى نصره المرتضى - قدس اللّه روحه- واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب

ص: 103

المسائل الطرابلسيات، و ذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام و الكتب المشهورة و أشعار العرب المسطورة، فان العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله و حراسته وبلغت الى حدلم يبلغه فيما ذكرناه لان القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والاحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من اعرابه وقرائته وحروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد.

وقال أيضاً _ قدس اللّه روحه - : وان العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزنى، فان أهل العناية بهذا اللسان يعلمون من تفصيلهما ما يعلمون من جملتهما، حتى لو أن مدخلا أدخل فى كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعرف وميز وعلم أنه ملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن و ضبطه أضبط من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء.

و ذكر أيضا _ رضى اللّه عنه - : أن القرآن كان على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مجموعاً مؤلفاً على ما هو الان، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة فى حفظهم له، وأنه كان يعرض على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولامبثوث.

وذكر أن من خالف في ذلك من الامامية و الحشوية لا يعتد بخلافهم، فان الخلاف في ذلك مضاف الى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها لايرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته.

وقد ذكر نافى السؤال الثاني كلام الشيخ فى التبيان، وقد وافق السيد المرتضى

ص: 104

في ذلك حيث قال : و أما النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الاليق بالصحيح من مذهبنا كما نصره المرتضى (رَحمهُ اللّه) الخ..

٢ - وسئل الشيخ المفيد (1) رحمه اللّه فى المسائل السروية : ما قوله أدام اللّه تعالى حراسته في القرآن ؟، أهو ما بين الدفتين الذي في أيدى الناس أمهل ضاع مما أنزل اللّه تعالى على نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) منه شيء أم لا ؟ وهل هو ما جمعه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أم ما جمعه عثمان على مايذكره المخالفون؟.

والجواب : أن الذى بين الدفتين من القرآن جمیعه کلام اللّه تعالی و تنزیله وليس فيه شيء من كلام البشر وهو جمهور المنزل والباقى مما أنزله اللّه تعالى قرآنا عند المستحفظ للشريعة المستودع للاحكام لم يضع منه شيء، وان كان الذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله في جملة ماجمع لاسباب دعته الى ذلك منها قصوره عن معرفة بعضه ومنه ماشك فيه ومنه ما عمد بنفسه ومنه ما تعمد اخراجه، وقد جمع أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) القرآن المنزل من أوله إلى آخره وألفه بحسب ما وجب من تأليفه، فقدم المكى على المدنى والمنسوخ على الناسخ و وضع كل شيء منه في حقه، فلذلك قال جعفر بن محمد الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أما و اللّه لو قرىء القرآن كما أنزل لالفيتمو نافيه مسمین کماسمی من كان قبلنا الى أن قال : فصل، غير أن الخبر قد صح عن أئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنهم أمروا بقراءة ما بين الدفتين و أن لانتعداه بلا زيادة ولا نقصان منه حتى يقوم القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيقرأ الناس القرآن على ما أنزله اللّه تعالى وجمعه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونهونا عن قراءة ما وردت به الاخبار من أحرف تزيد على الثابت في المصحف لانها لم تأت على التواتر وانما جاء بالاحاد، وقد يغلط الواحد فيما ينقله، ولانه متى قرأ الانسان بما يخالف ما بين الدفتين غرر بنفسه مع أهل الخلاف و أغرى به الجبارين و عرض نفسه للّهلاك، فمنعونا (عَلَيهِم السَّلَامُ) من قراءة القرآن بخلاف ما يثبت بين الدفتين لما ذكرناه، فصل، فان قال قائل : كيف يصح القول بأن الذي بين الدفتين هو كلام اللّه على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان و أنتم تروون عن

ص: 105


1- البحار، ج 19 طبع الحجر ص 20.

الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنهم قرؤوا : كنتم خير أئمة أخرجت للناس، وكذلك جعلناكم أئمة وسطاً، و قرؤوا : يسئلونك عن الانفال، وهذا بخلاف ما فى المصحف الذي في أيدى الناس قيل له : قد مضى الجواب عن هذا، و هو أن الاخبار التي جاءت بذلك أخبار احاد لا يقطع على اللّه بصحتها، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عمافي المصحف الظاهر على ما أمرنا به حسب ما بيناه، مع انه لا ننكر أن تأتى القراءة على وجهين منزلين أحدهما ما تضمنه المصحف، والثانى ماجاء به الخبر كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على أوجه شتى، فمن ذلك قوله تعالى : و ما هو على الغيب بظنين، يريد - بمتهم -، وبالقراءة الاخرى : وماهو على الغيب بضنين، يريد به ببخيل و مثل قوله : جنات تجرى من تحتها الانهار، على قراءة، و على قراءة أخرى : تجرى تحتها الانهار، ونحو قوله تعالى : ان هذان لساحران، وفى قراءة أخرى: ان هذين لساحرين، وما أشبه ذلك مما يكثر تعداده ويطول الجواب باثباته، و فيما ذكرناه كفاية ان شاء اللّه تعالى.

أقول : قد عرفت من تنويعنا للاخبار أنه لم يوجد في شيء من تلك الكمية الوافرة من الاخبار على تنوعها مايكون له سند صحيح ودلالة واضحة - معا - على التحريف، فلا نتعرض لبعض ما يرد على شيخنا، شیخ الطائفة المفيد (رَحمهُ اللّه).

وقال في الفصل الاخير من ارشاده في سيرة القائم عجل اللّه فرجه، وروى جابر عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه قال : اذا قام قائم آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ضرب فساطيط ويعلم الناس على ما انزل اللّه عز وجل فاصعب ما يكون على من حفظه اليوم لانه يخالف فيه التاليف، و من البديهى أن هذا الخبر بماله من سند ضعيف لا يدل على ازيد من مخالفة ترتيب القرآن مع ما أنزله اللّه وهذا مما نوافق عليه ولا يضرنا شيئاً.

(3) - قال الشيخ الصدوق، باب الاعتقاد فى مبلغ القرآن، قال الشيخ: اعتقادنا أن القرآن الذى أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و هو ما بين الدفتين ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مأة واربعة عشر سورة، وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ولايلاف قريش وألم تر كيف سورة واحدة، و من نسب

ص: 106

الينا أنا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب.

وما روى من ثواب قراءة سورتين فى ركعة والنهى عن القرآن بين سورتين في ركعة فريضة، تصديق لما قلناه فى امر القرآن وان مبلغه مافى أيدى الناس، وكذلك ماروى من النهى عن قراءة القرآن كله فى ليلة واحدة وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام، تصديق لما قلناه أيضاً، بل نقول : انه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لوجمع الى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية، وذلك مثل قول جبرئيل للنبى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ان اللّه يقول لك يا محمد دار خلقی مثل ما ادارى، ومثل قوله : اتق شحناء الناس وعداوتهم، ومثل قوله : عش ماشئت فانك مفارقه واعمل ماشئت فانك ملاقيه، وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزه كف الأذى عن الناس، و مثل قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): مازال جبرئيل يوصينى بالسواك حتى خفت أن ادرد او ادره ومازال يوصينى بالجار حتى ظننت انه سيورثه و مازال يوصينى بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغى طلاقها ومازال يوصينى بالمملوك حتى ظننت انه سيضرب له اجلا يعتق فيه، ومثل قول جبرئيل حين فرغ من غزو الخندق : يا محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ان اللّه تبارك وتعالى يأمرك أن لا تصلى العصر الا ببنى قريضة، ومثل قوله : أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرنى بأداء الفرائض، ومثل قوله : انا معاشر الانبياء أمرنا أن لا نكلم الناس الا بمقدار عقولهم، ومثل قوله : ان جبرئيل أتاني من قبل ربي بأمر قرت به عینی و فرح به صدری و قلبی، قال ان اللّه عز وجل يقول : ان علياً أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، و مثل قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نزل على جبرئيل فقال : يا محمد ان اللّه تبارك وتعالى زوج فاطمة علياً من فوق عرشه وأشهد على ذلك خيار ملائكته فزوجها منه فى الارض وأشهد على ذلك خيار الارض.

ومثل هذا كثير كلمه وحى ليس بقرآن و لو كان قراناً مقروناً به و موصولا اليه غير مفصول عنه، كما قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما جمعه فلما جاء به فقال لهم : هذا كتاب اللّه ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف، فقالوا لاحاجة لنافيه،

ص: 107

عندنا مثل الذي عندك، فانصرف و هو يقول : فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون.

و قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : القرآن واحد نزل من عند واحد على نبى واحد و انما الاختلاف من جهة الرواة وكلما كان في القرآن مثل قوله : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وفى مثل قوله تعالى : ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ومثل قوله : لولا ان ثبتناك فقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلا اذاً لاذقناك ضعف الحياة وضعف المماة، وما أشبه ذلك، فاعتقادنا فيه أنه نزل على اياك أعنى واسمعى ياجارة الخ.. فراجع اعتقادات الصدوق (رَحمهُ اللّه).

4 - قال ابن الحاجب فى المختصر، مسألة : ما نقل آحاداً فليس بقرآن للقطع بأن العادة يقضى بالتواتر فى تفاصيل مثله، وقوة الشبهة في بسم اللّه الرحمن الرحيم منعت عن التكفير من الجانبين، و القطع بأنها لم تتواتر في أوائل السور قرآناً فليست بقرآن فيها قطعاً كغيرها وتواترت بعض آية في النمل، فلا يخالف قولهم مكتوبة بخط المصحف.

وقول ابن عباس سرق الشيطان من الناس آية لايفيد لان القطع يقابله: قولهم لايشترط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله ضعيف يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر وجواز اثبات ماليس بقر آن مثل ویل و فبأي آلاء، لايقال يجوز ولكنه اتفق تواتر ذلك لانا نقول لو قطع النظر عن ذلك الاصل لم يقطع بانتفاء السقوط ونحن نقطع بأنه لا يجوز و الدليل ناهض ولانه يلزم جواز ذلك في المستقبل وهو باطل.

وقال العضدى فى شرحه : مانقل آحاداً فليس بقرآن لأن القرآن مما يتوفر الدواعي على نقله لما تضمنه من التحدى و الاعجاز ولانه أصل سائر الاحكام، والعادة تقضى بالتواتر في تفاصيل ما هو كذلك، فمالم ينقل متواتراً علم أنه ليس قرآناً قطعاً وبهذا الطريق يعلم أن القرآن لم يعارض، فان قيل لو وجب تواتره و قطع بنفى مالم يتواتر لكفرت احدى الطائفتين الاخرى في بسم اللّه الرحمن الرحيم

ص: 108

واللازم منتف.

أما الاولى : فلانه ان تواتر فانکاره نفى للضرورى كونه من القرآن، والا فاثبات للضرورى عدم كونه من القرآن وكلاهما مظنة للتكفير، فكان يقع تكفير من جانب عادة كمنكر أحد الاركان أو كمثبت ركن آخر، واما انتفاء اللازم : فلانه لو وقع لنقل، وللاجماع على عدم التكفير من الجانبين.

الجواب : لانسلم بالملازمة، وانما يصح لو كان كل من الطرفين لاتقوم فيه شبهة تخرجه عن حد الوضوح الى حد الاشكال، واما اذا قوى عند كل فرقة الشبهة من الطرف الآخر فلا يلزم التكفير الخ..

ويظهر من هذه الكلمات من هؤلاء الاعاظم أدلة ثلاثة لنفى التحريف :

الاول : توفر الدواعى على ضبط القرآن وحفظه عن وقوع التحريف فيه ولا سيما بالزيادة.

الثانى : أن القرآن كان مؤلفا ومجموعاً لامبثوثاً ومتفرقاً.

الثالث : أن الاخبار الواردة فى التحريف ضعيفة و آحاد ولا يمكن الاعتماد على مثل تلك الاخبار فى مثل تلك المسألة المهمة غاية الاهمية.

وهناك نكتة في كلام هؤلاء، وهى أن ماورد مما يشبه كونه قرآناً أوقيل انه قرآن، فهو وحى لا أنه قرآن نزل تحدياً واعجازاً.

السؤال السابع : ما هو التحقيق في المقام ؟

الجواب : لنا أن نستدل على نفى التحريف بأمور :

1- عدم الدليل على التحريف وهذا يكفى للنافى، اذ قد أسمعناك أن أسناد الاخبار المستدل بها على التحريف ضعيفة جداً وما صح منها سنداً لا دلالة له على التحريف مطلقا.

و توهم بعض المحدثين أن تلك الاخبار لاتقل عن الاخبار الواردة في الامامة أو أنها متواترة يعاضد بعضها بعضا أو ان المنكرين يستدلون بأضعف منها أو مثلها أو أن القوم ربما ينكرون وجود الخبر على مطلب مع انه موجود ولكنهم لم يظفروا

ص: 109

به و أمثال تلك الدعاوى الفارغة، ولكنه مدفوع بأن العاقل بنظرته العقلائية لا يعتنى بأي خبر صادر من أى مخبر مذكور فى أى كتاب من أى مؤلف، اذ كيف نأخذ بما يرويه الحسن البطائنى من أن سورة الاحزاب فضحت نساء قريش وأنها كانت أطول من سورة البقرة، والحسن ممن لم يوثقه أحد من اهل الرجال وطعنوا فيه وما معنى فضيحة نساء قريش وكيف يمكن حذف مقدار كثير من سورة تقرأ ليلا ونهاراً وتحفظها صدور المسلمين

وبالجملة : الشرط الاساسى لحجية الخبر، هو الوثوق بالصدور غير الحاصل من الاخبار التي ينقلها رجال لانعرفهم بالوثاقة، لانهم اما مهملون في كتب الرجال واما مذكورون مع توصيفهم بالجهل، واما مذمومون بأمور تخرجهم عن الوثاقة ونحن لا نعتنى بالكثرة الا اذا بلغت حداً يوجب الوثوق بالصدور أو اقترنت بقرائن مفيدة للصدور، فنأخذ حينئذ بالجامع بينها و أنى لنا بذلك في مقامنا هذا، نعم ما ما قاله الشيخ المفيد أو ابن الحاجب بأن تلك الاخبار آحاد فلا يثبت القرآن بها غير مرضى لدينا، لان الاخبار اذا كان الذين جاؤوا بها عدولا نأخذ بها وان كانت آحادا غير أنه اذا كان الراوى البطائنى أو مثله تركنا اخباره و لكن لا لكونها من الاحاد بل لكونها ضعافاً ولم يكن المخبر موثوقا به.

الثانى : لا مجال لاى تشكيك بأن الجيل الجاهلى من العرب كان ناشئا في قلب الصحراء و لم يكن عنده من العلوم و الفنون شيء هام يذكر في التاريخ و انحصرت ثقافتهم في ذلك العصر - في الادب البدوى الاصيل النابغ من صميم العاطفة صريحاً صارما خاليا عن التكلف بعيداً عن الخيال _ نظما و نثراً _ فترى فيهم امرؤ القيس وحسان بن ثابت الذي كان يحسب من المخضرمين، نعم يضاف الى الادب العربي أمور اخرى عدها اهل التاريخ من الثقافة العربية وهى الكهانة والقيافة والعرافة، فالعربي الجاهلي كان استعداده القوى وذهنه الوقاد وقريحته الصافية مصروفا في الادب شعر او خطابة مما يتعلق بشؤون الادب لغة و نحوا وبلغ اهتمام الادباء بالشعر الى حد علقوا المعلقات السبع على الكعبة وكانت ندواتهم مختصة

ص: 110

في الاغلب بذلك وكان سوق عكاظ مؤتمرا عالميا أدبيا يحضره الادباء من كل مكان وكان من الممكن ان يثير بيتا واحدا من الشعر حربا بين قبيلتين في الحين الذي كان يمكن ان يصير سببا للصلح بينهما وان طالت مدة عداوتهما و خصومتهما و لما لم يكن لهم علم بالكتابة فى العصر الجاهلي، كانت صدورهم خزانة علومهم من اللغة والصرف والنحو والشعر و الخطابة وكان لكل شاعر ديوان شعر ناطق وهو شخص يحفظ اشعاره ويقال له الراوية، نعم انما علمهم الموالى الكتابة بعد الفتوحات الاسلامية، ونتيجة لانحصار علومهم بما تجود به القريحة وانحصار الضابط لتلك العلوم بالحفظ على ظهر القلب مع تلك الحافظة الصحراوية القوية كثر فيهم الحفاظ حتى أن الناظر في تاريخ الادب العربي يتحير من الارقام والكميات الكثيرة التي ينسبونها الى حفاظ الاشعار من الاشعار التي حفظوها، وان كان العجب في غير محله بعد ملاحظة ان ذلك كان مسبباً عن أمور كثيرة أوجب للعرب حفظ كمية كثيرة من الاشعار، وقدرأينا نحن فى العجم ايضاً حفاظا كثيرين فكان لنا صديق نقل لنا حفظه مأة الف من أشعار الخاقاني والقاآنى وأضرابهما ممن ينظم القصائد الطوال المشتملة على اللغات الصعبة و الغريبة، وكان لنا صديق آخر قال : أنا أحفظ ستين ألف بيتا من الشعر، وقد ذكر السيد الجزائرى عليه الرحمة في الانوار النعمانية نماذج من قضايا الحفظ العربي، ثم ان الحافظة الصحراوية القوية التي قلنا انها كانت بمنزلة كتاب أو ديوان أو خزانة للعلوم، لم تكن منحصرة بفرد أو فردين، بل الذهن الوقاد والحافظة القوية كانا من مزايا العرب في مستواه العام، وقد نزل القرآن في مثل هذا الوسط الأدبي والمجتمع العارف باللسان وأسلوبه والصاعد الى أعلى مدارج الكلام، وكان القرآن مع كونه كتاباً للقانون والشرع معجزة خالدة للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في فصاحته وبلاغته، مضافاً الى اشتماله على الحكم والمواعظ والعبر و القصص و الاحكام والاخلاق، وحينما سمع العرب هذا الكلام المعجز الذي تفوق على كل كلام أدبى موزون كانوا يسمعونه من ذي قبل من لدن الشعراء والخطباء اندهشوا ونظروا اليه نظر اعجاب وحيرة، اذالقرآن ليس بمنظوم ولامنثور وليس خارجاً عنهما أيضا، ولذا أخذوه برغبة تامة وحفظ شامل و بوعى كامل.

ص: 111

ثم ان القرآن تحدى المرتابين في كونه كلام رب العالمين بالاتيان بمثله أو بسورة من مثله، فلم يقدر أحد على مباراته و معارضته، بل قد نقل بأن جمعاً من المكابرين والمخالفين حاولوا ذلك، فرجعوا بخفي حنين حينما وصلوا الى قوله تعالى (1): «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ..» الآية، أو الى قوله تعالى (2) :... «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ..» الآية، وندموا على هذه المحاولة الفاشلة، وقد يقال بأنهم عارضوا قوله تعالى (3): «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ»، بقولهم : القتل أنفى للقتل، وقوله تعالى (4): «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ»، بقولهم : دنت الساعة وانشق القمر، فكان ذلك الكلام المعجز والاسلوب الخارج عن نطاق قدرة اللسان البشرى، سبباً لحفظ القرآن و انتقاشه فى الصدور وكثرة الحفاظ له والمعتنين بقراءته وتجويده، واما القراء السبعة أو الاربعة عشر فهم الذين تفوقوا على الجميع فى شؤون القرآن، فجمع كل واحد منهم القرآن بجمع استحسنه من دون رعاية الترتيب وعلى اختلاف في كيفية الضبط وربما في القراءة في مثل : ملك او مالك، أو مسكنهم ومساكنهم، أو كفواً أو كفؤاً، أو الصراط والسراط، ممالا بعد اختلافاً في عدد الاية ومادتها، ولما وصلت السلطة الى عثمان جمع المصاحف وروج مصحفه من دون دلالة هذا العمل على الاختلاف في الايات، وعلى ضوء الحافظة العمومية من العرب - مشركين كانوا أم مسلمين _ وعلى حسب رغبتهم في الكلام الموزون واقتضاء حصر ثقافتهم فى الفن الادبي حفظوا القرآن بأجمعهم بحيث لم يمكن لاحد انكار بعض منه فضلا عن دعوى سقوط عشرة آلاف من الايات القرآنية، اذكيف تسمع هذه الدعوى مع أن هذا المقدار من الاسقاط -بمرأى ومسمع منهم- مستحيل عادة ونرى هذا الكلام من أى شخص كان كلاماً باطلا غير معقول التحقق في الخارج، اذ كيف تسكت حافظة الناس باجمعهم عن بيان تلك الكثرة الهائلة من الايات التي زعمو احذفها ولااقل من أن يبين احد منهم عشر هذا المقدار أو ألف آية منه.

ص: 112


1- طه الاية 39.
2- هود الاية 44.
3- البقرة الآية 179.
4- القمر الآية ٢.

وهب أنهم كانوا في زمن عثمان خائفين من الاظهار، فهلا سكتوا في زمن مولانا على بن أبى طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولم لم يطالبوه حتى بقرآنه لو كان جامعه قرآناً أزيد من حيث الكمية من القرآن الموجود بين المسلمين - قرآن عثمان _، وأى مانع منع علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) من اظهاره أو من اعطائهم الحرية في اظهار ماحفظوه وابراز ما في خزانة حافظتهم الى الملا ؟ !

والظاهر أن المراد من توفر الدواعي على نقل القرآن وحفظه، مطلق الدواعى حتى الشاملة لما يرجع الى حب الفن والرغبة فى الاعتناء بالكلام الموزون، من قوم برعوافي الادب وامتازوا بالفصاحة والبلاغة وانشاء الخطب والاشعار والقدرة على البيان والعلم بمحسنات الكلام وبدائعه ومزاياه، مضافاً الى كون القرآن كتاباً دينياً للمسلمين و قانوناً الهيا لهم، فقياس تحريف القرآن بغسل الرجل بدلا عن مسحه أو بانكار خلافة على (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو القول بأن الدواعى كانت متوفرة على حذف مناقب على (عَلَيهِ السَّلَامُ) و أولاد (عَلَيهِم السَّلَامُ)ه و كذا اسقاط أسماء مخالفيه من القرآن، قياس باطل لان القرآن ليس فقط كتاب عقيدة و أحكام بل هو كلام معجز في أسلوبه، حكيم في مبادئه، جدير بالحفظ و القراءة و الاستشهاد بمحكماته، و دليل على النظام العائلى والاجتماعي والسياسي وماشابه ذلك، فكان من المستحيل عادة حذف آيات كثيرة منه على غفلة من الناس الحافظين للقرآن الكريم أو سكوت منهم و عدم ابرازهم لها ولو بعد حين و ان كان عند أخلص أصدقائهم سراً.

وهب أن الجامعة كانت غافلة أو خائفة، فأين كان القراء تلامذة النبى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتلامذة تلامذته ؟ وكيف سكتوا عن سورة الأحزاب التى كانت أطول من سورة البقرة، حتى أسقط المسقطون هذا المقدار الكثير منها و لم ينبس أبي بن كعب و ابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم ببنت شفة.

الثالث : قد تواتر فى كتب الفريقين قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتى، الخ.. وهذا كلام يدل بالوجدان على أن القرآن الكريم في زمانه كان مجموعاً مؤلفاً، اذكيف يعبر (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أوراق مبثوثة و آيات مبتورة غير

ص: 113

موصولة بالكتاب، علاوة على ما ورد فى الاخبار من الثواب على حفظ القرآن وختمه وقراءة كل سورة من سور القرآن، الدال كل ذلك على أن القرآن كان مؤلفاً مجموعاً كما أشار الى ذلك الشيخ الصدوق (رَحمهُ اللّه) وقد قلنا بأن المصاحف وان كانت متعددة وكثيرة الا أنها كانت متفقة من حيث الايات عدداً و مواداً، والاختلافات التي كانت فيها انماهي محصورة في جملة من الموارد المعدودة في الاعراب أو الحروف، نظير: مسكنهم ومساكنهم، وضنين وظنين، وكفؤ أو كفواً، والصراط والسراط، وهذه الاختلافات لا تضر بوحدة القرآن من الناحية المجموعيةالموافقة للحافظة العمومية التي يعاضد بعضها بعضاً، فلقد أجاد السيد المرتضى (رَحمهُ اللّه) حيث تمسك على عدم التحريف بوحدة القرآن تأليفاً وجمعاً وأنه لم يكن مبثوثاً ومبعثراً في العديد من الاوراق، وزاد الشيخ الصدوق_ (رَحمهُ اللّه) على مقاله ما أشرنا اليه انفاً من التمسك بالاخبار الواردة فى ثواب ختم القرآن، أو قراءة سوره، وظني أن القارىء في غنى عن الاطناب حول هذه المسألة، الا أن عدم اعتناء بعض المتورعين بأقوال العلماء جموداً على كل ما يسمى خبراً وان لم يكن موثوقاً به، أوما يتوهم كونه دالا مع عدم دلالته على مدعى القائل بالتحريف الزمني الاطناب.

و اعلم أن القائل بالزيادة فى السنة والشيعة نادر جداً، والقول بها مناف لكون القرآن معجزاً في أسلوبه، و وقوع الزيادة خارجاً مستحيل حسب محتوى القرآن العظيم.

ولذا نرى البحث عن بطلان الزيادة توضيحاً للواضح،وفى الختام نقول : اللّهم ارزقنا شفاعة القرآن و العترة.

الأمر السادس: هل يجوز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ام لا؟

قبل بيان الاقوال لابد من بيان جهات ترجع الى العموم و الخصوص او بالاحرى الى صيغ العموم وحقيقة التخصيص :

الأولى : اختلفوا في اختصاص العام بصيغة تخصه و لتحقيق هذه الجهة

ص: 114

وهى أم الباب نقول بأن ما يتوهم كونه من الفاظ العموم ثلاثة :

١ - الالفاظ الموضوعة للمعانى الاسمية كالموصولات - من و ما و أى- بناء على كونه اسما، فذهب جمع كثير الى كونها موضوعة للمعاني العامة، والتحقيق ان الموصولات وكذلك - اى - وضعت للمفاهيم المبهمة المجردة عن اى لحاظ في ناحية مفاهيمها من العموم والخصوص ومن الاخبارية والانشائيه وغير ذلك، فكلمة -من- انما وضعت لمفهوم اسمى مبهم، معرى عن كل قيد و خصوصية في عالم الوضع، ولكنها لما تأتى فى دور الاستعمال تختلف اغراض المستعملين في استعمالها فتارة تستعمل في نفس مفهومها الوضعى، وحينذاك يكون قيدها فى دور الاستعمال التجرد عن الخصوصيات، وان شئت قلت البشر طلائية بمعنى اشتراط مفهومها بسلب جميع القيود والخصوصيات، كقولك – من - موصول يحتاج الى الصلة، واعنى بذلك ما اذا تجردت الجملة عن قصد الاخبار وقصد الانشاء معاً وهو مورد التعليم والتدريس، اذالامثلة النحوية كلها مجردة عن قصد الأخبار وقصد الانشاء، ولذا يكون تقسيم الجمل الكلامية الى الاخبارية والانشائية منزلا على الغالب والاففيه مسامحة بينة، واخرى تستعمل في مفهومهامع التطبيق على الخارج، و من البديهى أن الكلمة بمفهومها الوضعى لاتدل على التطبيق بل لابد من ضميمة بها يفهم المطبق عليه لذلك المفهوم، ويعبر عن تلك الضميمة بالصلة لاتصالها بكلمة - من - الموصولة، ومن المعلوم أن التطبيق على الخارج انما هو بيد المتكلم بحسب ما للمفهوم من الاستعداد الذاتي للانطباق سعة وضيقاً، وكلمة - من - في مفهومها قابلة للانطباق على فردا و افراد، وكذلك الجملة التي فيها تلك الكلمة قابلة للانشائية والاخبارية، فتتكثر الاقسام بلحاظ التطبيقات المتعددة :

الاول : أكرم من اكرمك، الجملة انشائية، و هى الجملة انشائية، و هى عامة لعموم الصلة، فالمطبق عليه بالارادة الجدية عام.

الثاني : أكرم من جاء بالأمس، الجملة انشائية، و هي خاصة لان الصلة عهد خاص فالمطبق عليه ايضا خاص.

ص: 115

الثالث : قوله تعالى (1) : «يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ»، الجملة خبرية، لعموم الصلة، فالمطبق عليه عام.

الرابع : رأيت من جاءك بالامس الجملة خبرية والصلة خاصة بسبب العهد، فالمطبق عليه خاص، ثم ان المطبق عليه المعهود تارة خارجي و أخرى ذهنى، كقولك : أكرم من فى المدرسة، أوقتل من في العسكر، وفي جميع تلك الامثلة لم تستعمل كلمتى - من و ما - الموصولتين الا في معناهما البسيط الابهامي، و ليستا مشتركتين لفظيتين بين المعانى المقصودة من مفاهيمهما في الموارد المختلفة، وذلك دليل على أنهما ليستا من ألفاظ العموم بالوضع اللغوى، كيف وقد يراد منهما الخاص من دون تجوز أصلا وقس عليهما غيرهما.

الثانیه : أدوات العموم وهى -كل وأى- بناء على كونها حرفاً أو ما يرادفهما من أى لغة، حيث يقال انها وضعت للعموم، لكن التحقيق أن السعة والضيق لموارد انطباقات تلك الادوات لاترتبطان بمفادها لان المعنى الحرفى انما يكون تعلقيا، ومقتضى التعلقية قصر اللحاظ على المتعلق من حيث العموم والخصوص، والشاهد على ذلك ان النحاة قدعدوا لكلمة –أى- معانى خمسة مع أن _ أى _ ليست مشتركة لفظية لتلك المعانى الخمسة فصيرورة - أى - موصولة و موصوفة و استفهامية بل وزائدة انما هي ناشئة من موارد انطباقات - أى - من دون استعمالها الا في معناها الابهامي القابل للتطبيق على تلك الموارد أو المعانى حسب تعبيرهم، ولذا يكون المستعمل فيه فى : زيد شاعر أى شاعر، و فى : أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على، وفى : اياما تدعوا فله الاسماء الحسنى، معنى واحدا، وكذلك الكلام في -کل-، فكلمة كل في قولك : كل ما فى الكون وهم أو خيال، مساوق في المعنى لقولك : كل مافى كیسى درهم، او أكرم كل هؤلاء مع كونهم خمسة.

وملخص الكلام أن –كل- وما بمعناه سور للقضايا ومحيط بها، ومن ناحية

ص: 116


1- الجمعة الاية ٢.

احاطته بمدخوله يقال انه للعموم بمعنى الشمول لا الاستغراق ومن حيث التطبيق لا الوضع.

قال العضدى فى شرح المختصر للحاجبي : ذهب الشافعي وجميع المحققين الى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، و تحرير محل النزاع كما في الامر وحاصله راجع الى أن الصيغ المخصوصة التي سنذكرها هل هي للعموم أولا ؟، فقال الاكثر له صيغة هي حقيقة فيه، وقال قوم: الصيغة حقيقة للمخصوص، وهي في العموم مجاز، وقال الاشعرى تارة بأنها مشتركة وتارة بالوقف، وقيل بالوقف في الاخبار دون الامر و النهى، و قال القاضی با لوقف، اما على أنالا ندرى أوضع لها أم لا ؟ أو ندرى أنه وضع لها ولاندرى أحقيقة منفرداً أو مشتر كاأم مجاز ؟، ثم الصيغة الموضوعة له عند المحققين هي هذه، فمنها أسماء الشرط و الاستفهام، نحو - من وما و مهما و أيما - و منها الموصولات نحو - من وماو الذى _، ومنها الجموع المعرفة تعريف جنس لاعهد، و الجموع المضافة نحو : العلماء علماء بغداد.

ومنها اسم الجنس كذلك أى معرفة تعريف جنس أو مضافاً، ومنها النكرة في سياق النفى دون الاثبات، نحو: ما من رجل، لنا أن السيد اذا قال لعبده : لا تقرب أحداً، فهم منه العموم حتى لوضرب واحداً عد مخالفاً، و التبادر دليل الحقيقة، فالنكرة فى النفى للعموم حقيقة فللعموم صيغة، وأيضاً لنا أنا نقطع بأن العلماء لم يزالوا يستدلون بمثل : السارق و السارقة فاقطعوا، الزانية والزاني فاجلدوا، الى آخر ماقال ومنه استدلاله بفهم أبى بكر وعمر ونحو ذلك.

الثالثة : الهيئات العارضة للصيغ ببركة كلمة - ال _ التعريف، أو مع زيادة هيئة الجمع، أو اضافة الجنس أو المصدر الى شيء ما، فيقال ان الجنس المحلى باللام للعموم، أو صيغة الجمع المحلى باللام للعموم، أو المصدر المضاف يفيد العموم، والتحقيق أن اللام انما هو للتعريف، والمعرف تارة نفس مدلول المدخول و أخرى ما طبق عليه المدخول، و الثانى يكون تارة المعهود الذكرى و أخرى

ص: 117

الخارجى وثالثة الذهني، وفي جميع تلك الموارد ليست كلمة -ال- الامستعملة فيما لها من المفهوم اللغوى الموضوع له اللفظ، والخصوصيات المذكورة بأجمعها تعرف بسبب التطبيقات، وان شئت قلت القرائن الكلامية، وأماهيئة الجمع فهى موضوعة للجمع بالمعنى اللغوى لا الاصطلاحي ولذا صح أن يقال ان تلك الهيئة انماهى موضوعة للجمع المصطلح عليه بالجمع المنطقى، وأعنى به الازيد من الواحددون الجميع الاصولى أو النحوى وهو الازيد من اثنين.

وأما الاضافة فهى ربط بين المضاف والمضاف اليه، ومن البديهي أن سعة المضاف وضيقه تابعان لسعة المضاف اليه وضيقه، فلا فرق بين قولك : نقد البلد وبين قولك : نقدى، من جهة المضاف والاضافة، وانما الفرق فى المضاف اليه عموما وخصوصا، فتبين أنه لاصيغة للعام وضعاً

الثانية : اختلفوا في أن التخصيص هل هو مجاز في كلمة العام أم لا ؟ وفى أن العام المخصوص هل هو حجة فى الباقى وان كان مجازاً لانه أقرب المجازات الى العام أم لا ؟

و بعد ما عرفت أنه لاصيغة للعموم و أن المراد التطبيقى انما هو العموم المستفاد من اطلاق الكلام فالتحقيق ان هذه الابحاث سوالب لاموضوع لها، و توضيح ذلك أن من البديهي أن المدار في عالم تفهيم المقاصد على الالفاظ، ومن البديهى أيضا أن للقرائن الكلامية وان لم تكن لفظية دخلا في تفهيم المقاصد فتفهيمها ليس محصورا بالالفاظ الموضوعة لمعانيها، و على هذا فالكلام باعتبار الاختلاف في سنخ التفهيم يتنوع الى أقسام خمسة :

الاول : مايكون تفهيم المقصد بسبب اللفظ المستعمل في معناه الحقيقي : كقولك : ائتنى بالماء، مريداً به الاتيان الخارجي للجسم السيال البارد بالطبع، نعم ربما يطبق المعنى الحقيقى على فرد تنزيلى، كقولك للرجل الشجاع : هذا أسد، وهذا هو المجاز العقلي الذي حققه السكاكي.

الثاني : مايكون تفهيم المقصد بسبب اللفظ المستعمل في غير معناه الحقيقي

ص: 118

كقولك : رأيت أسداً، مستعملا كلمة الاسد فى غير الحيوان المفترس، وهذا هو المجاز فى الكلمة.

الثالث : ما اذا كان المراد الجدى من لوازم أو ملزومات أو ملازمات ما استعمل اللفظ فيه اذا كان حقيقة، بل وان كان مجازاً وهذا هو الكناية فتقول: زيد كثير الاحباب، مريداً بذلك أنه جواد أو حسن الخلق.

الرابع : ما اذا كان اللفظ مستعملا فى معناه الحقيقى ومراداً منه ذلك بالارادة الجدية ولكن أسند اليه ماليس له كقول الامام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء أبي حمزة الثمالي: وقد خفقت عند رأسى أجنحة الموت، فأثبت للموت الجناح مع أنه للطائر، و الغرض نزول الموت على الآدمى بسرعة وعلى غفلة منه، وهذا هو الاستعارة، ولها أقسام مذكورة في علم المعاني والبيان.

الخامس : ما اذا كان المراد الجدى معلوماً بسبب المقام و هذا ما يسمى بقرينة الحال أو العقل، فترى أن هيئة - افعل - انما وضعت لمفهوم عام و هو البعث نحو المادة (مبدأ افعل)، الا أن المراد الجدى للمتكلم بها انما يفهم من الخارج، كالمولوية على أنواعها من الوجوب و الاستحباب والاباحة والترخيص وكالارشادية وغيرهما، فاذا كان المتكلم بتلك الهيئة - اعنى هيئة افعل مولى افترضت طاعته وكان فى مقام اعمال المولوية، يلزم العقل العمل على وفقها، ولذا قلنا في مبحث الأوامر بأن استفادة الوجوب من الصيغة انماهى ببركة حكم العقل و ليس الوجوب مدلولا للصيغة، وفرعنا على ذلك أن قصد الوجوب وصفا وغاية غير معتبر في العبادات وذلك لانه مضافاً الى أن الوجوب ليس مدلولا للصيغة لم يدل دليل على اعتبار قيد المدلول فى المأمور به جزءاً أو شرطاً ونظير استفادة الوجوب المولوى من المقام وهو مقام المولوية من دون تأثير لهيئة اللفظ فيه استفادة العموم والاطلاق من الفاظهما، اذقد عرفت بأن العموم ليس من مقومات مدلول أى لفظ كان فى أى لغة، فيكون استناد فهم العموم الى المقام، و بيان ذلك أنه اذا قال المولى : أكرم العلماء، ولم يقيد - العلماء - بقيد من غاية أو وصف أو استثناء و لم يأت بمخصص

ص: 119

متصل او منفصل، فالمقام يقتضى العموم، بتقريب أن لفظة العلماء بمالها من الهيئة والمادة، لها مفهوم قابل للانطباق على كل فرد من العلماء، و هذا هو المراد من السريان الطبعى للمفهوم ، دون أن يكون المفهوم متقوماً في وعاء الوضع اللغوى بالسريان و الشمول، و بعد ثبوت السريان الطبعى لمفهوم هذه الكلمة اذا أتى بها المتكلم الذى يتكلم على مقتضى قوانين المحاورة ولم يقيد الكلام بقوله : الى أن يفسقوا أو العدول أو الا الفساق منهم أو لا تكرم الفساق منهم، فلابد عليه أن يريد من قوله : أكرم العلماء، كل عالم، ثم ان قيد المجموعية اوالبدلية أيضاً خارج عن صميم ذات المفهوم، فاذا كان غرضه اشتراط اكرام كل واحد منهم بالاخر، لزم عليه أن يقيد الكلام بكلمة - بشرط الاجتماع - وكذا لو كان غرضه اكرام كل واحد بدلا عن الآخر، لزمه أيضاً التقييد بقوله : أكرم العلماء واحداً بدل الاخر أو جمعاً بدل جمع، وفى مثل أكرم العالم، لزمه أن يقول : أكرم العالم أى عالم كان، فالمقام هو الذى يتكفل لافهام العموم أو الاستغراق، وحينذاك يكون تقسيم العام الى الاستغراقي والمجموعى والبدلي صحيحاً باعتبار المعنى المقصود من الكلام لالانها مدلولات للصيغة.

فتلخص أن أصالة العموم وأصالة الاطلاق انما هما أصلان مقاميان، والقول بأنهما أصلان لفظيان، نشأ من توهم وضع صيغ للعموم، و ان صح هذا التعبير بلحاظ أنه لو لم يكن اللفظ مجرداً عن القيد لم يفهم العموم، فالعموم مستند الى اللفظ لامحالة ومهما كان الأمر يكون العموم مستفادا من المقام لا اللفظ، فالتخصيص لا يوجب التصرف في اللفظ بأن يصرفه عن مدلوله اللغوى حتى يكون مجازاً، ويتفرع على هذا أيضاً أن العام حجة في الباقي لامن جهة أنه مستعمل فيما وضع له بتقريب أن الباقى أيضا عام، بل لما عرفت من أن العموم ليس جزءاًلمدلول الصيغة، فالمفهوم قابل للتطبيق على الباقى، لكونه بعد التخصيص محفوظ الاقتضاء بالنسبة الى البقية، فبحكم قانون المحاورة لابد أن يكون مرادا للمتكلم بالارادة الجدية.

الثالثة : هل التخصيص تصرف في اللفظ أو في المقام ؟

ص: 120

بعدما تبين أن أصالة العموم انماهى أصل مقامى في المحاورات والاخذ بها أخذ بما استقرت عليه طريقة العرف في باب تفهيم المقاصد، نقول : ان المتكلم له أن يبين موضوع خبره أو انشائه بألفاظ متعددة اذا كان هذا الموضوع في الواقع وعلى وفق غرضه مقيداً لا مطلقا، فله أن يأمر عبده بقوله : ائتنى بماء حار في مورد تعلق غرضه بالماء اذا كان حاراً، وبقوله : ائتنى بماء حار حلو، في مورد تعلق غرضه بالماء اذا كان حاراً وحلوا معاً، وهكذا...، ونتيجة ذلك أنه اذا كان في مقام بیان تمام مطلوبه و لم يقيده كان للمخاطب أن يأخذ باطلاق كلامه في عالم الامتثال، ولكن يبقى للمتكلم حق التصرف في كلامه بأن يقيده ولو بعد حين، مالم يتأخر البيان عن وقت الحاجة الا اذا منعه مانع عن ذلك أو عرضت له مصلحة فى التأخير، واذا صدر منه البيان لم يكن ذلك تصرفاً لفظياً في كلامه السابق، بل هو تصرف في مقام البيان، وذلك لان التقييد ليس الاضم لفظ له مدلول الى لفظ له مدلول آخر، فالماء له مدلول والحار له مدلول آخر، وضم الاخير الى الاول ليس الاضم مدلول الى مدلول آخر اقتضى ذلك ضيق دائرة المطلوب و لما عرفت أن السريان فى ألفاظ العموم ليس قيداً لمد اليلها وضعاً، فقد عرفت أن التخصيص ليس تصرفاً لفظياً في العام، بل هو اماضم وصف اليه في نحو : أكرم العلماء العدول، و اما جعل غاية للحكم في نحو : أكرم العلماء الى أن يفسقوا، واما بيان خروج نوع في نحو : أكرم العلماء الا الفساق منهم، و اما منع عن سريان الحكم الى نوع في نحو : أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم، المستلزم لقصر الحكم على من عداهم، من غير استلزام للتصرف اللفظى في العام بأن يكون العام بلفظه منقلباً عن اطلاقه الى التقييد بنقيض الخاص كما توهمه بعض فلنا أن نقول بأن الخاص حاكم مقامى بالنسبة الى العام اذا لحكومات المتصورة من دليل على آخر يكون على أقسام.

١ - الحكومة اللفظية، وهى حكومة القرينة على ذى القرينة الدالة على المجاز في اللفظ.

٢- الحكومة التعميمية، و هي حكومة دليل على آخر بازدياد فرد أو نوع

ص: 121

له، و هذه الحكومة ليست تصرفا في اللفظ، لان ازدياد الفرد أو النوع حكومة في المدلول لا الدال، كما اذا دل دليل على حرمة شرب المسكر ودل دليل آخر على ان الفقاع خمر.

3 - الحكومة التخصيصية، كما اذا دل دليل على لزوم البناء على الاكثر في الشك بين الاقل والاكثر، ودل دليل آخر على أنه لاشك لكثير الشك، وهذه أيضاً ليست تصرفا في لفظ الدليل الأول، بل بيان لمورد تطبيقه بالارادة الجدية و أن موضوع الحكم بالبناء على الاكثر ليس مطلق الشكوك بل الشك الذى صدر ممن ليس بكثير الشك، وكذلك الحال فى التخصيص، فلو جاء دليل على وجوب اكرام العلماء وجاء دليل آخر على اخراج الفساق من دائرة الموضوع وهو العلماء كان ذلك تصرفا في المقام لا اللفظ، لما عرفت بأن صيغة الجمع المحلى باللام، لم تكن موضوعة للاستغراق، بل الاستغراق انما هو في رتبة تطبيق المتكلم مفهوم الصيغة على جميع ماصح تطبيق الصيغة فى الخارج عليه، فاذا خرج الفساق من العلماء في المثال المذكور علم انه لم يطبق المتكلم الصيغة المذكورة على الفساق فلم يكن الفساق من أول الأمر مراداً له في جعل الحكم بالارادة الجدية، ولذا قالوا ان الاخراج صورى والا فالمخرج كان من أول الامر وفى -عالم الثبوت - خارجاً عن الحكم، والشاهد الاخر استقرار رأى المتأخرين على أن العام بعد التخصيص ليس مجازاً فى الباقى، و ليتهم تفطنوا بأن ذلك علامة لعدم كون العام موضوعاً للعموم اذلو كان العموم جزء لمدلول العام لكان التخصيص مستلزماً للتجاوز عن الوضع قهراً وهو المجاز قطعاً.

4 - الحكومة التفسيرية، و هى دلالة دليل على المراد من الدليل الآخر، و تنقسم الى قسمين : حكومة غير لفظية و يعبر عنها بالحكومة البيانية للموضوع، كما اذا ورد : عورة المؤمن على المؤمن حرام، ثم جاء الدليل بأن المراد سر المؤمن لاشيء آخر، وحكومة لفظية ويعبر عنها بالحكومة البيانيه للمفهوم كورود دلیل مبین بعد و رود دلیل مجمل، مثل ما اذا ورد بانه يجب عليك انفاق شيء

ص: 122

ثم ورد دليل آخر على أن الشيء درهم مثلا، و هذه الحكومة لفظية باعتبار أنها تصرف فى اللفظ ببيان ما أريد منه.

والخلاصة أن حكومة الخاص على العام، انما هي بيان لما اراده المتكلم من العام بالارادة الجدية و ليست حكومة على العام بالارادة الاستعمالية، اذ لفظ العام مستعمل في معناه الوضعى وباق على عمومه القهرى وسريانه الطبعي، خصص بخاص او أكثر، وعلى هذ افمعنى تخصيص الكتاب بخبر الواحد، بيان المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأن مراد اللّه تعالى من العام ماعدا الخاص الذى أخبر العادل بذلك و انما قيدنا البيان في تخصيص الكتاب ببيان المعصوم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، لاننا نحن الشيعة نعتقد بأن علم الكتاب عند العترة، والمسلمون قاطبة - الامن شذمنهم - يعترفون بأن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتى، ولازم ذلك أن يكون العترة هم العالمون بالكتاب وقد سبق منا تحقيق انهم هم الراسخون في العلم، بقى الكلام في اشتراط تعدد الناقل أو كفاية الواحد في نقل تخصيص الكتاب، والمختار هو الاخير بشرط أن يكون ثقة اذ لا اعتبار بخبر غير الثقة، فقد يتوهم أن الخبر الواحد ظنی، فلا اعتبار به في تخصيص الكتاب و لكنه مدفوع بأن حجية الخبر الواحد عقلائية لا تعبدية، والمدار في الحجية لدى العقلاء الوثوق بالصدور وعدم تعامل الظن غير المعتبر مع خبر الثقة، والاشكال بأن الكتاب قطعى الصدور ولا يخصص القطعى بالظنى، فموهون، لان قطعية صدور القرآن لا تنافى اخبار المعصوم ا الا بالمراد التطبيقى لعموماته، فحال تخصيص عمومات القرآن يكون كحال تقييد مطلقاته و كما يجوز تقييد مطلقات القرآن بخبر الواحد الموثوق به يجوز تخصيص عموماته به.

ولنذكر الاقوال في المسألة، فنقول :

١- قال العضدى فى شرح المختصر للحاجبي : يجوز تخصيص القرآن بالخبر المتواتر، و أما الخبر الواحد فالحق جوازه، و به قال الائمة الاربعة، و قال ابن أبان : انما يجوز ان كان العام قد خص من قبل بدليل قطعى متصلا كان

ص: 123

أو منفصلا، وقال الكرخى : انما يجوز ان كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل، سواء كان قاطعاً أوظنيا، و القاضى أبو بكر يقول بالوقف بمعنى لا أدرى أيجوز ام لا ؟.

لنا : أن الصحابة خصوا القرآن بخبر الواحد من غير نكير، فكان اجماعامنهم، الى آخر ما قال..

٢- قال السيد عميد الدين فى شرح التهذيب للعلامة الحلى : اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، فقال به الفقهاء الاربع مطلقا، ومنعه السيد المرتضى (رَحمهُ اللّه) وجماعة مطلقا، وقال عيسى بن أبان : ان كان قد خص قبل ذلك بدلیل قطعى جاز والافلا، وقال الكرخى : ان كان قد خص بدليل منفصل جازوالا فلا، وتوقف القاضى أبو بكر.

لنا وجهان :

الاول : ان عموم الكتاب و خبر الواحد دليلان متعارضان و خبر الواحد أخص، ومتى كان كذلك وجب العمل بالخبر مطلقا وبالعام فيما عدا صورة التخصيص أما الأول فلاننا نتكلم على تقديره (1).

وأما الثانى فلانه لولاه للزم اما ابطال الدليلين مطلقا أو اعمالهما مطلقا، أو اعمال أحدهما مطلقا واهمال الاخر كذلك، والكل محال.

اما الاول : فلما فيه من ابطال الدليل الخالى عن المعارض و ذلك من وجهين : أحدهما أن ماعدا الخاص من جزئيات العام لامعارض له لعدم تناول دليل الخاص اياه، وثانيهما أن ابطالهما معاً ملزوم لابطال كل منهما، فيبقى الآخر بلا معارض.

وأما الثاني : فلاستلزامه التناقض فى صورة مدلول الخاص.

وأما الثالث : فلاستلزامه ابطال الدليل الخالي عن المعارض ان كان المعمول به الخاص والملقى العام، أو تقديم المرجوح على الراجح ان كان بالعكس، لان دلالة الخاص على محله أرجح من دلالة العام عليه

ص: 124


1- یعنی کون خبر الواحد دليلا كعموم الكتاب

الثاني : ان تخصيص خبر الواحد للكتاب واقع فيكون جائزاً، ثم تمسك -(رَحمهُ اللّه)- ببعض موارد تخصيص الكتاب لكنه قال ان التخصيص واقع الا أن كون المخصص هو الخبر الواحد، فغير معلوم.

٣- قال الشيخ الطوسى (رَحمهُ اللّه) فى عدة الاصول ما ملخصه : ان اكثر الفقهاء والمتكلمين على جواز تخصيص العموم بالاخبار، والظاهر من الشافعي وأصحابه وأبى الحسين ذلك، وأجاز عيسى بن أبان اذا خص لانه صار مجملا ومجازاً، وذهب بعض الى الجواز اذا خص بالمنفصل لصيرورته مجازاً حينذاك دون ما اذا خصر بالمتصل لعدم صيرورته مجازاً.

ثم قال : والذي أذهب اليه أنه لا يجوز مطلقا، واستدل على ذلك بأن عموم القرآن يوجب العلم وخبر الواحد غلبة الظن، ولا يجوز أن يترك العلم للظن على حال فوجب أن لا يخص العموم به، الى أن قال : ليس مادل على وجوب العمل بها -يعنى الاخبار الاحاد - يدل على جواز التخصيص، كما أن ما دل على وجوب العمل بها لا يدل على وجوب النسخ بها، بل احتاج ذلك الى دليل غير ذلك، فكذلك التخصيص فلافرق بينهما، الى أن قال : ان قيل : النسخ الذى ذكر تموه قد كان يجوز أن يقع بخبر الواحد، الا انه منع الاجماع منه فبقى كونه دليلا في ماعدا النسخ، قيل لهم : خبر الواحد دليل شرعي وليس بعموم يخص منه بعضه ويبقى ما عداه، الى أن قال: مادل على عمل الطائفة المحقة بهذه الاخبار من اجماعهم على ذلك لم يدل على العمل بما يخص القرآن، ثم قال بعد أسطر. لانسلم أن الطائفة عملت بأخبار آحاد يقتضى تخصيص القرآن و على من ادعى ذلك ان يبينه الى ان قال: ورد عنهم ما لاخلاف فيه من قولهم : اذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فان وافق كتاب اللّه فخذوه وان خالفه فردوه او فاضربوا به عرض الحائط، ويظهر من مجموع كلمات الشيخ (رَحمهُ اللّه) أن للقائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد أدلة أربعة :

الاول : ان عموم الكتاب يوجب العلم واليقين، وخبر الواحد لايوجب الا الظن ولا يجوز عقلا أن يترك العلم بالظن.

ص: 125

وفيه أولا : ان عموم العام لا يوجب العلم خصوصاً بعدماقلنا من أن العام ليس موضوعاً للعموم، لان أصالة العموم أصل عقلائى محاورى مقامى، بمعنى أن مقتضى المحاورة الأخذ بالعموم، وذلك لان مفهوم العام قابل للانطباق على كل ما يصدق عليه هذا المفهوم، فعلى المتكلم تطبيقه على كل مصاديقه بالارادة الجدية، واما بعد ورود بيان المراد الجدى بلسان التخصيص أو الغاية أو الاستثناء أو النهى عن نوع من أنواع العام، يظهر بان العام ليس مراداً جدياً للمتكلم، وعلى هذا فعموم العام لا يكون قطعياً، نعم، الظاهر المقامى هو العموم ولذا نتمسك بأصالة العموم، وقد عرفت أننا لا نقول انها أصالة لفظية بل مقامية وان أمكن استنادها الى اللفظ بسبب سريان المفهوم

طبعاً لا وضعاً.

وثانياً : ان قوله : خبر الواحد لا يوجب الا الظن فمردود بأن خبر الواحدوان لم يوجب العلم الوجدانى الاان احتمال الخلاف الموجود فيه انما هو بمثابة من الضعف، بحيث لا يعتنى به العقلاء حسب فطرتهم العقلائية التي بنوا عليها جميع شؤونهم الحياتية، وهل من المعقول أن يقال بعدم حجية خبر الموثوق به لكونه واحداً أو لانه لا يوجب القطع واليقين والمعاملة معه معاملة الظنون غير المعتبرة الحاصلة من الرؤيا أو الرمل أو نحوهما، كلا.

هذا على المختار من عدم جعل الطريق تعبداً، واما القائل بحجية خبر الواحد تعبداً كالشيخ نفسه فعليه أن يعامل معه معاملة العلم من حيث ترتيب الاثر، وقد أطنب هو رحمه اللّه فى كتاب العدة _ في تحقيق ذلك، و اذا كان خبر الواحد حجة أى محرزاً لمتنه عرفاً او شرعاً أوهما معاً في غير مورد تخصيص الكتاب فليكن كذلك فيه أيضا لوحدة الدليل و عدم قابلية المسألة الاصولية للتخصيص، بمعنى تبعيض الحجية بالنسبة الى تخصيص الكتاب به أواثبات حكم منه.

فالقائل بحجية الخبر تعبداً اما أن يقول بقول الشيخ الانصاري (رَحمهُ اللّه) بأن مفاد التعبد، ألق احتمال الخلاف، واما أن يقول بأن مفاده جعل الظن تعبداً، مصداقاً للمعلم، و اما أن يقول بأن مفاده تنزيل المؤدى منزلة الواقع، أو أن

ص: 126

مفاده ايصال الواقع في رتبة العمل وعلى كل الاقوال تكون النتيجة واحدة وهى لزوم الأخذ بمؤدى الخبر، وان كنافى فسحة عن جميع هذه التمحلات لبنائنا على أن احتمال الخلاف في خبر الموثوق به مغفول عنه عرفاً غير معتنى به قطعا وان كان في قرار النفس موجوداً تمكن اثارته بالتشكيك والوسواس ولكن لا يعتنى به، ولذا يسمى الخبر الموثوق به بالعلم العادى أو الظن الاطمئناني أو العلم النظامي أو يقال بأن العلم هو سكون النفس وهو حاصل من خبر الموثوق به، فتلخص أن عموم العام ليس قطعياً وخبر الواحد ليس ظنياً بحيث لا يمكن الاعتماد عليه في بيان المراد من عمومات الكتاب.

و قال الخراسانی (قدّس سِرُّه): ان الدوران بين أصالة العموم للكتاب والسند في الخبر وكلاهماظنيان، وحينئذ يكون الخبر بسنده ودلالته قرينة على التصرف في عموم العام ولاعكس لان جعل أصالة العموم موجبة للتصرف في الخبر، مقتضاه الغاء الخبر بالمرة لان المفروض أن الخبر خاص والكتاب عام، فكيف يعقل أن يؤخذ بعموم الكتاب ويترك الخبر؟.

و فيه أنه لادوران بين أصالة العموم الكتابي وسند الخبر، اذ المخالفة انما هی في مدلول الخبر لافي نفس الخبر، لانه لو لم يكن مضمون الخبر متضمنا للتخصيص ومخالفاً لعموم العام بالعموم والخصوص لم يكن موجباً لهذا النزاع، فالدوران انما هو بين الخبر الدال على التخصيص وعموم العام، ولذا يلتزم القائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بحجيته مالم يكن مخالفاً للكتاب، فالجواب الصحيح ان الخاص حاكم على العام بالحكومة المقامية ومبين لمراد المتكلم الجدى من العام، وبذلك يظهر ما في كلام السيد عميد الدين شارح - التهذيب _ من الترديد والدوران الذى ذكره، وأن الصحيح ما ذكرنا.

الثاني : أنه لوجاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، لجاز نسخ الكتاب به ولا اشكال عند القوم بأنه لا يجوز، فكذلك لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وفيه أن موارد النسخ محددة ومعينة في الشرع وجميع تلك الموارد ثابتة بالكتاب، فلا يكون شيء من الاحكام القرآنية الاوقد علم ناسخها ومنسوخها، فلم يبق مورد

ص: 127

للنسخ حتى يتكفله الخبر الواحد، فلا نقول بانه لا يمكن أن يكون الناسخ موجوداً عند أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كما سنشير اليه ان شاء اللّه في مسألة النسخ، ولا نقول بأنه لا يمكن بيانه من قبلهم بعد حين ولا نقول أيضاً بانه لا يمكن أن يخبرنا بالنسخ العادل الثقة، كيف ونحن نقول ان العلم بالاحكام الشرعية انما هومن مختصات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و أوصيائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) فمقتضى حجية الخبر الموثوق به كونه محرزاً لمؤداه وان كان ناسخاً أو مخصصاً الا انه لا مجال لهذا القول لعدم وجود ناسخ يتكفله الخبر.

وأجاب الخراساني (رَحمهُ اللّه) بأن الاجماع منعقد على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، ويرد عليه ما تفطن اليه الشيخ الطوسي رَحمهُ اللّه) فى العدة، من أن الخبر دليل شرعي لاعموم يخص بعضه ويبقى منه بعض، و مراده من ذلك أن دليلية الدليل عبارة عن كونه حجة ووسطاً فى الاثبات ولا يفرق حينئذ في مؤداه بين ما اذا كان خاصاً أو ناسخاً، اذ طريقية الخبر لاترتبط بمتنه، و بعبارة اخرى المسألة الاصوليه غير قابلة للتخصيص، نعم المسألة الفرعية قابلة له والمقام ليس منها.

وقد سبق أن قال الشيخ الطوسى لم يظهر من اجماع الطائفة العمل بخبر الواحد، ويرد عليه أخذاً باعترافه بعدم جواز التبعيض فى الحجية، أن الحجية لا تتبعض، فلافرق بين كون الخبر مخصصاً لعموم القرآن أو مقيداً لمطلقه او مفسراً له.

الثالث : ان دليل حجية خبر الواحد اجماع الطائفة المحقة على العمل بأخبار الآحاد، لكنه لم يدل على العمل بما يخص الكتاب لاننا لا نسلم اتفاقهم على العمل بالخبر، اذا كان مخصصا له.

وأجاب الخراساني بأن دليل حجية الخبر الواحد ليس منحصراً بالاجماع ولقد أجاد في ما أفاد، الا أن التحقيق ما حققنا في الأمر الأول من أنه لا تعبد من الشارع فى باب الطرق، وأن الاخبار أيضاً تدل على ان حجية الخبر امر عقلائي، بشهادة تعليل الارجاع الى الراوى، بكونه ثقة مأموناً على الدين و الدنيا ونحو ذلك مما مر، نعم، حدد الشارع في بعض الموارد موضوع حكمه بما اذا ثبت بقول عدلين أو اربعة عدول اهتماما بالواقع وذلك من باب تقييد الاحكام لاتبعيض الحجية في

ص: 128

باب كباب القضاء واثبات الهلال وثبوت الزنا، دون باب آخر كغير تلك الابواب مما هو مذكور في الفقه.

الرابع : الروايات الواردة فى عرض الاخبار المتعارضة على الكتاب، وطرح ما يخالفه من تلك الاخبار، و لعل نظر الشيخ الى هذه الروايات وهى و ان اختلفت من حيث التعبير، ففي بعضها : لم اقله، وفى بعضها : ردوه، وفى ثالث: اضربوه عرض الجدار، الا انها متوافقة من حيث الجامع، فروايات عرض الاخبار على الكتاب وطرح ما يخالفه دالة بنظر الشيخ (رَحمهُ اللّه) على عدم جواز الاخذ بما يخالف الكتاب عموماً وخصوصاً.

وعلى هذا، يرد عليه ان الخاص مبين للمراد من العام وحاكم على مقام البيان، لان السكوت عن بيان الخاص، كان موضوعاً للاخذ بالعموم، وبورود الخاص تبدل السكوت بالبيان وارتفع الظهور و لم يبق مجال لتوهم العموم في لب الارادة فأين المخالفة وكيف يمكن القول بشمول اخبار العرض للمخصصات ؟.

و للخراسانی (رَحمهُ اللّه) جوابان :

أحدهما : أنه من كثرة ورود التخصيصات نقول بانصراف الاخبار المانعة عن قبول ما يخالف القرآن عن مورد التخصيص، ويرد عليه ماقاله الشيخ الطوسي (رَحمهُ اللّه) من انكار كون التخصيصات واردة من طرق الاحاد، والانصاف وجود التخصيص في الاحاد.

ثانيهما : حمل الاخبار المانعة عن الأخذ بما يخالف القرآن على ما يخالفه ثبوتاً ومن الجائز أن لايكون الخاص مخالفا في الواقع مع العام، ويرد عليه أن الظاهر من تلك الاخبار طرح ما يخالف القرآن في مرحلة الاثبات، أي ما يكون في الظاهر مخالفاً للقرآن.

والصحيح ما قلنا من أن الخاص بيان، والبيان حاكم على ذى البيان وهو العام وهادم للسكوت المستلزم للعموم.

ص: 129

الامر السابع: هل يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد أم لا ؟

توضیح:

وقبل بيان الحق في المقام لزمنا التصريح بأنه ليس لهذا البحث ثمرة فقهية لان الاحكام الشرعية بما لها من العام والخاص والناسخ والمنسوخ قد وصلت الينا من طرق أهل البيت صلوات اللّه عليهم أجمعين، ولم يوجد فيما بأيدينا من الاخبار خبر واحد يتضمن نسخ الكتاب، وبعد عدم وجود مصداق للخبر الواحد الناسخ للكتاب يكون البحث عن جواز نسخه بالخبر الواحد لغواً من الجهة الفقهية.

فالبحث اما کلامی، ان نظرنا الى بعض ادلة المانعين من أن الحسن حسن دائماً والقبيح قبيح دائماً، واما اصولى، ان نظرنا الى احتجاج المانعين بان القرآن قطعى وخبر الواحد ظنى ولا يعارض الظني القطعى.

وكيف كان فقد اطال علماء الاسلام في البحث عن النسخ، ونحن نقتفى آثارهم في الجملة.

قد وقع الخلاف في جو از نسخ الكتاب عقلا و سمعا، وقبل الدخول في صميم البحث نقول : النسخ لغة عبارة عن الازالة والابطال والاعدام، تقول: نسخت الشمس الظل يعنى أزالته، وتقول : نسخت الربح آثار القدم يعنى أزالتها، ويراد من النسخ أيضاً النقل والتحويل، تقول : نسخت الكتاب أى نقلت كلما فيه (و تطبيق النقل على كتابة المثل مجاز عقلى)، ونسخت النحل من خلية الى أخرى يعنى حولتها من مكان الى آخر، وبهذا المعنى يطلق النسخ على انتقال الارث من وارث الى آخر لموت بعض الورثة قبل تقسيم الميراث و يعبر عن ذلك بالمناسخات، وبهذا المعنى ايضاً يقال تناسخ الارواح، يعنى نقل الروح وتحويلها من بدن الى آخر.

واختلف اللغويون في أن المعنى الحقيقى للنسخ هل هو الازالة، كما عن الجوهري و المطرزى والفيروزابادى ان أول المعانى الازالة، أو هو النقل ومجاز

ص: 130

فى الازالة كما عن القفال وابن فارس و فیومی صاحب مصباح المنير، أو هو مشترك لفظا بين المعنيين، كما عن الغزالي والقاضى ابى بكر، أو هو مشترك معنوى بينهما كما عن الأمدى الميل اليه، حيث قال ان الاشتراك أشبه، ان لم يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدل صفة وجودية، ثم انه توقف جماعة في ما وضع له النسخ لغة، والمشهور انه الازالة، وتبعهم على ذلك العلامة وأبو الحسن البصرى.

والتحقيق : أمامن حيث الحكم فالمدار في باب الاخذ بمراد المتكلم هو الظهور العرفى سواء كان مستندا الى الوضع او كان مستنداً الى القرائن الكلامية، وأما من حيث الموضوع له النسخ فلابد وأن يقال بأن الجامع القريب بين الازالة والنقل موجود، وهو فراغ المحل عن الشاغل الوجودي، فان لم يكن في موارد فهم النقل من الكلام خصوصية اشغال المنقول لمحل آخر بعد فراغه للمحل الاول كان النسخ مشتركا معنويا له مفهوم عام قابل للانطباق على الازالة والنقل، وصح ما قاله الامدى فى قوله : الاشتراك أشبه، والا فالحق مع المشهور أنه للازالة وذلك للتبادر المستند الى صميم اللفظ دون القرائن.

ثم اعلم أن نسخ الكتاب (بمعنى كتابة مماثل لكتاب) مجاز لفظی و مجاز عقلی معا، وذلك لانه قد استعمل النسخ أولا فى النقل، وهذا مجاز في الكلمة، وطبق النقل على ايجاد المماثل للمكتوب وهذا مجاز عقلى، وكيف كان فلاثمرة عملية لمثل تلك التدقيقات لما عرفت من ان المدار في تفهيم المقاصد على الظهورات في المتفاهم العرفي، نعم في مورد فقدان أى قرينة متصورة في المقام اذا سلمنا بقاعدة «الاصل فى الاستعمال الحقيقة» يثمر البحث عن تشخيص الحقيقة من المجاز، ولكن الصغرى نادرة جداً و الكبرى غير مسلمة، هذا بحسب اللغة.

وأما اصطلاحا فقد عرف النسخ بتعاريف عديدة مذكورة أغلبها في شرح العضدي لمختصر الحاجبي.

1- قال الفخر الرازي، هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الاول.

ص: 131

٢- وقال الغزالى هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

٣ _ وقال الفقهاء هو النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعى مع تراخيه عن مورده.

4- وقال المعتزلة هو اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً.

ولم يرتض بهاجل العلماء، وقد عرفه العلامة و الشيخ البهائي و الحاجبي وجماعة برفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر، ولما كان الغرض من التعريف المذكور هو المعرفة بالنسخ بمقدار الحاجة، لم نر فائدة في البحث عن طرده و عكسه، فهنا مطالب.

المطلب الاول: هل يجوز نسخ شريعة بتشريع شريعة أخرى أم لا ؟

الحق أنه نعم يجوز، وخالف اليهود فى ذلك وقالوا ان شريعة موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) خالدة غير منسوخة، ولا ينبغى الشك فى أنهم لا يقولون بالاستحالة العقلية، كيف وهي تستلزم القول بعدم مشروعية دين موسى الناسخ للاديان السابقة له، وانما ذهبوا الى ذلك افتراء على موسى بأنه قال : شريعتى مؤبدة، اذالعكس صحيح ومأثور عنه وهو البشارة بنبوة نبينا محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما في التوراة وانجيل برنابا من بشارة عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً بمجيء نبي من بعده اسمه أحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

و التحقيق في باب نسخ الاديان أن الاديان عبارة عن مدارس تربوية تدريجية بحيث تكون كل مدرسة مكملة للاخرى الى أن وصل الدور الى آخر مدرسة الهية صح في موردها نزول قول اللّه العظيم (1) : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»، وعلى هذا فيكون كل نبى مكملا ومتمما لما أتى به النبي السابق.

ص: 132


1- سورة المائدة، الآية 4.

ويدل على ماذكرنا قوله تعالى (1) : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ»، وقوله تعالى (2) : «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»، وقوله تعالى (3) : «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا»، وهذه الايات تدل على أن الشريعة اللاحقه ليست مزيلة للشريعة السابقة على نحو الاطلاق بل مكملة لها، ولذا نحن نؤمن بأنبياء اللّه وكتبه ورسله، قال اللّه تعالى (4): «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ».

بل لا يعقل نسخ جملة من الاحكام كوجوب الاعتقاد بالمعارف الالهية الحقة ووجوب العدل وحرمة الظلم.

نعم نسخت بعض الاحكام والافجميع الاديان مشتركة في التوحيد والنبوة والمعاد، بل الامامة، لانه كان لكل نبي وصى، فالشرائع انما هي مدارس الهية تكاملية الا بالنسبة الى جملة من الاحكام التي كانت ذات مصالح زمنية وكانت في أغلبها مشقة اقتضت المصلحة تحميلها على بعض الامم، ويدل على ذلك قوله تعالى (5) : «رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا»، الآية..

وبالجملة، نسخ الاديان بالمعنى الذي قلنا من مجيء الشرائع كل تلو الاخرى أمر بديهى ضرورى تاريخياً لا مجال لانكاره، فاليهود مجازفون في هذه الدعوى التي تكذبها حتى توراتهم المحرفة وقد سمعت أن عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد بشر بمجيء نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقال اللّه تعالى (6) : «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»، و ناهيك على ذلك معرفة الاحبار بنبوة نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و علم الرهبان بسماته وصفاته.

ص: 133


1- سورة الشورى، الآية ١٣.
2- سورة البينة، الآية 5.
3- البقرة، الآية 135.
4- البقرة، الآية 285.
5- سورة البقرة الآية 286.
6- الصف، الآية 6.

المطلب الثاني

في الاستدلال على امتناع النسخ فى الأحكام عقلاً والجواب عنه :

يمكن أن يستدل على امتناع النسخ بأمرين :

١ - الشيء لا يخلو اما ان يكون ذا مصلحة يؤمر به لاجلها أم لا، فان كان ذا مصلحة وجب عقلاً أن يؤمر به كل مكلف في كل زمان على مذهب العدلية والامامية القائلين بالتحسين و التقبيح العقليين، وان لم يكن ذا مصلحة وجب الايؤمر به فضلا عما اذا كان فيه مفسدة اذوجب أن ينهى عنه، ومن المعلوم أن النسخ عبارة عن ازالة الحكم عن الوعاء المناسب له وهو وعاء التشريع، فاذا أمر الشارع بشيء في زمان لا يمكن ان ينهى عنه في زمان آخر.

والجواب عن هذا الدليل أن الافعال من حيث الحسن و القبح على نحوين :

الاول : ما يكون حسناً او قبيحاً في جميع الأزمنة والامكنة، ولكل شخص وفي كل حال، نظير الاعتقاد قلباً بالمعارف الالهية الحقة لانه حسن و عدل في عالم العبودية وموافق للبراهين العقلية التى لاتكون قابلة للتخصيص و الاستثناء، لان قاعدة نشوء المعلول عن العلة و احتياج الممكن المسبوق بالعدم الى الواجب الموجد له، لا تختص بشخص دون شخص و زمان دون زمان آخر وحالة دون أخرى، وحينذاك يحكم العقل بوجوب عقد القلب بالواجب الخالق للممكنات ويحكم بقبح الجحد به تعالى وتقدس

الثاني : ما يكون بحسب طبعه الاولى حسنا أو قبيحا ولكن ربما يطرأ عليه عنوان ينقلب به عما كان عليه من الحسن أو القبح، ولذا قالوا بأن حسن الافعال وقبحها كما يكون بالذات يكون أيضا بالوجوه والاعتبارات، وقالوابان ضرب اليتيم من هذا القسم، اذ ضربه بما هو ضرب ايذاء وظلم، فهو قبيح لامحالة، و لكن ضربه للتأديب حسن، ونحن اذنقبل ذلك نقول بأن السر في انقلاب الحكم في نظير المثال المذكور انما هو لعروض عنوان حسن على الفعل يكون أولى مطابقة لعنوان العدل

ص: 134

من أصل الفعل فالانقلاب في الحقيقة موضوعى وليس بحكمي فقط، و توضيح ذلك أن العدل وهو الاستواء حسن و له عنوان عام ذو مصاديق غير محصورة بمقدار الموجودات، فالعدل قابل للانطباق على النظام الكونى من الذرة الى الذروة، وكذا ما يقابله من الظلم وهو التجاوز عن الاستواء وله مصاديق عديدة، فالعدل في نظام الشمس اشراقها، والظلم و هو التعدى عن الاستواء تكويرها، والعدل في المجموعة العلوية التصاق أجزاء كل موجود علوى فيها بعضها ببعض مع حفظ مقدار نور كل واحد منها ومقدار بعد كل عن الآخر، فانفطارها وتفتت أجزائها كالعهن المنفوش انما هو خلاف عدلها الكونى و نظامها الوجودى، وهذا المقياس موجود فى كل شيء مادياً كان أو معنوياً، فالعدل فى المزاج انما هو استواء نسبة كل عنصر من العناصر الموجودة في البدن مع الاخر وفقاً للخلقة الالهية المتقنة، وان شئت عبرت بتعبير القدماء من التعادل بين الاخلاط الاربعة، بحيث لوزاد خلط و نقص آخر لا نحرف المزاج وزال العدل وأفضى ذلك الى الموت، وصح للسعدى ان يقول :

چون یکی زین چهار شد (1) غالب***جان شیرین بر آید از قالب

و العدل في الاخلاق انما هو بتنظيم الغرائز البهيمية و السبعية والانسانية، والظلم فيها انحرافها عن الاستواء بالانخفاض أو الارتفاع غير الموزونين، فالعدل فى القوة السبعية شجاعة، وانحرافها النزولی جبن، و انحرافها الصعودى تهور، وحينذاك تقول بأن ضرب اليتيم انحراف عن الحقوق البشرية و الحدود النظامية، لانه تصرف فيما ليس للمتصرف التصرف فيه، لان الضارب شخص واليتيم شخص آخر وليس اليتيم عبداً مقهوراً للضارب، فضربه ظلم والظلم قبيح، ولكن العلم بالمعارف الحقة والنظام العملى و التخلق بالاخلاق الفاضلة والتجنب عن الرذائل السيئة عدل، والعدل حسن، واذا تعارض العدل الاول مع الاخير، فلا ريب في كون المدار على الاخير دون الاول، فضرب اليتيم تأديبا له ايجاد للعدل في مزاجه الروحي. و هذا العدل الروحى الانسانى أعلى رتبة وأرفع درجة من العدل البدني، فايراد

ص: 135


1- الاخلاط الأربعة : الصفراء - السوداء البلغم- الدم.

الامر السابع الضرب على البدن وان كان جوراً، الا أنه لما كان سبباً لايجاد الفضائل في الروح - و هو العدل المعنوى - كان حسنا، فالوجوه و الاعتبارات المغيرة للحسن أو القبح الى ضديهما كلها من هذا القبيل فتفطن، وبعد ذلك نقول بأن الحسن مادام حسنا يكون مأموراً به، و كذلك القبيح مادام قبيحاً يكون منهيا عنه، والاحكام المنسوخة حيث كانت متعلقاتها ذات مصالح زمنية صارت مأموراًبها في تلك الظروف والازمنة ونسخت بعد ذلك بالمعنى الصحيح للنسخ الذى سنوافيك به.

ولاسبيل للاشكال فى نسخها من ناحية المصلحة والملاك، ولكمال التوضيح دقق النظر فى أمر ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذبح ولده ثم نسخ هذا الامر بعد حضور وقت العمل و الشروع في مقدماته القريبة المسببة للقتل، نعم ربما يقال بأن الاوامر الاختبارية التي تنسخ ليست من مقولة النسخ المصطلح المبحوث عنه، لان الحكم المنسوخ لابد و أن يكون متعلقا بالمتعلق به حقيقة : لاعلى نحو الوصف بحال متعلق الموصوف، والأمر سهل بعد عدم التفاوت الامن ناحية أن في الاوامر الاختبارية الأمر الواقعى ومتعلقه ظاهرى، وفى النسخ المصطلح متعلق الحكم واقعي والاستمرار ظاهرى.

وتوضيح ذلك أن في كليهما يرد اشكال الملاك، فيقال في مورد الامر بالذبح مثلا ملاك الذبح موجود بدليل الامربه، فلم لم يتحقق الذبح واكتفى الأمر بمقدماته مصرحا حا بأنك قدصدقت الرؤيا، وان لم يكن فيه ملاك، فلم أمر ابراهیم به کما سمعت هذا الاشكال في مورد النسخ المصطلح ؟ والجواب عن الاشكال في الأول أن الغرض هو الاختبار وقد حصل، وعن الاشكال فى الثانى أن الملاك قابل للتغيير فر بما يتغير، و ملخص الكلام أنه يمكن أن تكون فى الشيء بحسب الظروف الزمانية مصلحة الى أن يأتي زمان،آخر وربما تتحقق للشيء مصلحة قاهرة بالنسبة الى المصلحة الموجودة فيه سابقا، كما اذا اقتضت مصلحة التسهيل رفع اليد عن جملة من الاحكام الشاقة، ويشهد على ذلك ما نطلبه من اللّه سبحانه بقولنا حاكياً لكلام اللّه (1) : «رَبَّنَا

ص: 136


1- سورة البقرة الاية 286.

لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا».

٢- ان النسخ يستلزم البداء وهو ملازم للجهل، فنسخ الاحكام يستلزم جهل اللّه بالعواقب، و هذا محال لان التشريع ينشأ من علمه بالاصلح، و علمه تعالى بالاشياء تكوينا و تشريعاً عين ذاته القديمة، والجهل يستلزم النقص أولا والواجب منزه عنه والانقلاب ثانياً والواجب ليس محلا للتغيير، فالاحكام المطلقة زماناً غير المحدودة بغاية وغير المؤقتة بوقت وجب استمرارها في عمود الزمان واستحال طروء الزوال -النسخ - عليها

والجواب أن الاطلاق الزمانى ليس من المداليل الالتزامية للجمل الانشائية الامرة بشيء أو الناهية عنه، وانما هو نتيجة الاطلاق فى مقام البيان - الخالي عن التقييد بزمان دون زمان _، وتوضيح ذلك أن للجمل المسوقة لبيان الاحكام اطلاقات ثلاثة بحسب طباعها الاولية، وأعنى بالطباع الارسال من النواحي الاتية وعدم التقييد باحدى القيود الثلاثة :

الاول : الاطلاق من جهة الافراد

الثانى : الاطلاق من جهة الاحوال.

الثالث : الاطلاق من جهة الزمان.

و نحن اذنأخذ بالاطلاق الافرادى للاشخاص في مثل : أكرم العلماء، و للاشياء في مثل : اغرس شجرة، ولا نفرق بين النحوى والصرفى فى الاول، ولا بين العنب والرطب في الثاني، فكذلك لنا أن نأخذ بالاطلاق الزماني، ونقول ان وجوب الصدقة حال نجوى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مستمر بحسب الازمنة، ولكن تلك الاطلاقات ليست مداليل التزامية للجمل المذكورة، كما انها ليست مداليل مطابقية أو تضمنية لها بالضرورة، ولما كان للمتكلم أن يخصص العام ويقيد المطلق فكذلك له أن ينسخ، ولذا قال الشيخ الانصارى بأن النسخ تخصيص أزماني، ولكننا نقول ان دليل النسخ حاكم على دليل المنسوخ حكومة مقامية.

و تلخيص الكلام أن النسخ اذا كان بحسب نفس الامر وفي الواقع يكون

ص: 137

مستلزما لجهل البارى جل وعلا ولكنه ليس كذلك، بل هو ازالة للحكم في مرحلة الظاهر على نحو الحكومة المقامية كما مر، وهو أنه فى مورد النسخ لما كان المقام مقام الاطلاق من ناحية بيان زمان الحكم أخذ العرف بهذا الاطلاق وحكم بالاستمرار وأسنده الى الشارع تطبيقا للظاهر على الواقع واستدلالا بعالم الاثبات على عالم الثبوت واستمر حكم العرف باستمرار حكم الشارع الى زمان ورود دليل النسخ وظهر للعرف ما كان مختفياً عليه وهو أن الحكم كان محدوداً من جهة الزمان الى الحد الخاص الذى بينه دليل النسخ، فالنسخ والبداء متوافقان في أنهما ظهور بعد الخفاء، و ان شئت قلت ابداء من اللّه للناس ما أخفى عليهم أو كان مختفيا عنهم، وليسا بحدوث علم له تعالى شأنه بعد عدم عدم علمه كما هو واضح، وأما المصحح للتعبير بالنسخ فلانه ازالة للحكم في مرحلة الظاهر، فلا يرد الاشكال بأن دليل النسخ على ما ذكرتم انما جاء لبيان انتهاء أمد الحكم، فالحكم لم يكن في نفس الامر دائماً، بل كان مؤقتاً اذ يقال في الجواب بأن النسخ ظاهری صوری، نعم لو ذهب أحد الى أن النسخ واقعى ورد عليه اشكال حدوث العلم للبارى تعالى بعد جهله المستلزم لمحذور محدودية علم اللّه و لمحذور وقوع التغير في ذات اللّه وكلاهما مناف لوجوب وجوده، وقد يقرر الدليل العقلى على امتناع النسخ بتقريب يجمع بين الدليلين السابقين فيقال ان نسخ الحكم اما أن يكون لحكمة ظهرت اللّه تعالى بعد أن لم تكن ظاهرة له، واما مع عدم الحكمة فان كان الأول لزم البداء في علم اللّه تعالى، ومعنى البداء نشوء رأى لم يكن، فلابد حينئذ من أن يكون اللّه جاهلا بالحكم والمصالح وتعالى اللّه عن ذلك لان علمه بالمصالح الفردية والعائلية والنوعية - النظامية - عبارة عن العلم بالاصلح، والعلم بالاصلح - فردياً أو عائلياً أو نظامياً _ ذاتى له، ولا يكون بين ذاته المقدسة وبين علمه وسائر صفاته اثنينية وميز و تفاوت اذ الصفات الذاتية اللّه تعالى لا تنفك عنه ولا تتعدد ولا تتكثر، فلا تكون صفاته زائدة على ذاته فيستحيل حدوث التغير فى الصفات كما في الذات لان الصفات عين الذات.

ص: 138

وان كان الثانى لزم اللغوو العبث فى التشريع، لان التشريع كان على نحو الدوام أولا ثم نسخ ثانياً و هذا عبث، والحكيم تعالى منزه عن العبث اذأن أفعاله طراً معللة بالاغراض، وان كانت واصلة للبشر ونافعة لهم ولم تكن عائدة اليه تعالى وهو الغنى بالذات، ولذا قلنا في محله بأن اللّه تعالى فاعل بالعناية والرضا، بل لابتهاج الذات بالذات أبدع وشرع معا.

و الجواب أن الاحكام ناشئة عن الحكم و المصالح الاأنها ليست أبدية مطلقا، بل بعضها مؤقتة وبعضها تجددية و بعضها دائمية حيث تعترف بوجدانك أن شرب الخمر قبيح بحسب الطبع وحسن لحفظ الحياة، فالمراد من ظهور الحكمة بعد الخفاء ان كان عبارة عن عدم علمه تعالى بذلك فهو ممنوع و مستحيل، وان كان انكشاف محدودية المصلحة السابقة أو تجددها فيما سيأتى من الزمان فهو حق ولا محيص عن الاعتراف به، فتلخص أن النسخ عبارة عن بيان انتهاء أمد الحكم، الاان صياغة الحكم على نحو العموم والقائه لامؤقتاً كان لمصلحة مختفية علينا، كما في قوله تعالى (1):

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً» الآية... اذأن المصلحة كانت فى ابداء الحكم مطلقا من جهة الافراد و نسخه اللّه تعالى بعد نجوى على (عَلَيهِ السَّلَامُ) للنبي وتصدقه، وكانت تلك المصلحة هي توجيه الاراء ولفت الانظار الى مقام على (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأن من اختص بهذه الميزة و الفضيلة يكون أولى الناس بالخلافة وأبرزهم فى المنقبة وأقربهم الى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ونحن لا نقول بأن المصلحة متمحضة فى اعلامنا بالمنافقين التاركين للعمل بهذه الاية حتى يشكل علينا باستلزام ذلك نفاق كبار الصحابة بل يكفى في مصلحة النسخ اظهار أولوية على (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالمناقب والمكرمات من الصحابة.

و قد يستشكل في النسخ بأن دليل النسخ ان كان ناظراً الى أن الحكم كان من الاول محدوداً بغاية ومؤقتاً بوقت، لزم ألا يكون هناك نسخ في الواقع لان

ص: 139


1- المجادلة : الآية ١٢.

النسخ هو الازالة، ولا ازالة فى الحكم المحدود بغاية حين تحقق الغاية، وان كان ناظراً الى أن الحكم المؤبد فى الواقع أزيل من لوح التشريع لزم التناقض، والجواب اختيار الشق الأول، وأن النسخ قطع وازالة في مرحلة الظاهر لافي نفس الامر والواقع وأن المصلحة كانت في ابراز العموم أفراداً أو أزما نأفلا يكون في النسخ محذور كمالا يكون في التخصيص محذور.

«تبصرة»:

ذهب أبو مسلم بن بحر الاصفهانى الى عدم وقوع النسخ في الاحكام وتجشم فى موارد النسخ أمور أتخرج تلك الموارد عن كونها نسخاً الاان انكار النسخ مكابرة محضة ومحاولة لاخفاء ما هو بديهي، نعم، قد استدل على عدم وقوعه في الخارج بقوله تعالى (1): «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ»، بتوهم أن النسخ ابطال للقرآن.

والجواب ان بيان الغاية ممن بيده البيان ليس ابطالا، كيف و القرآن ينص على جواز النسخ في قوله تعالى (2) : «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا»، فلا مانع عقلامن النسخ ولادليل سمعاً على عدم وقوعه.

المطلب الثالث

قد أطال العلماء البحث فى موارد النسخ ولاسيما علماء العامة، ففى –الاتقان- للسيوطى في المسألة السابعة من النوع السابع والاربعين في ناسخه ومنسوخه : النسخ فى القرآن على ثلاثة أضرب :

أحدها مانسخ تلاوته وحكمه معاً، قالت عائشة : كان في ما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفی رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و هن مما يقرأ من القرآن : رواه الشيخان وقد تكلموافى قولها وهن مما يقرأ من القرآن فان ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك.

ص: 140


1- سورة فصلت الاية 42.
2- سورة البقرة، الآية 106.

وأجيب بأن المراد قارب الوفاة أو أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس الا بعد وفاة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فتوفى وبعض الناس يقرؤها.

وقال أبو موسى الاشعری نزلت ثم رفعت، وقال مكى هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضاً غير متلو، ولا أعلم له نظيرا (1).

الضرب الثانى : ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذى فيه الكتب المؤلفة وهو على الحقيقة قليل جداً وان أكثر الناس من تعديد الايات فيه فان المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه، والذى أقوله ان الذي أورده المكثرون أقسام، قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى : «ومِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ»، «وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم»، ونحو ذلك. قالوا انه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق.

اما الأولى فانها خبر في معرض الثناء عليهم بالانفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة و بالانقاق على الاهل و بالانفاق في الامور المندوبة كالاعانة والاضافة، وليس في الاية مايدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة.. والاية الثانية يصلح حملها على الزكاة، وقد فسرت بذلك.

وكذا قوله تعالى : أليس اللّه بأحكم الحاكمين، قيل انها ممانسخ بآية السيف وليس كذلك، لانه تعالى أحكم الحاكمين ابدأ لايقبل هذا الكلام النسخ وان كان الامر بالتفويض وترك المعاقبة، وقوله فى البقرة : وقولو اللناس حسنا، عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف، وقد غلطه ابن الحصار بأن الاية حكاية عما أخذه على بنى اسرائيل من الميثاق فهو خبر، فلانسخ فيه، وقس على ذلك..

وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ : وقد اعتنى ابن العربي

ص: 141


1- ذکر نافى باب الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن قول المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : كان يقال عشر رضعات: محمول على التقية بقرينة أن هذا هو قول العامة، والشاهد على صدق قولنا ما ترى من أن عائشة أسندت عشر رضعات الى القرآن، ثم لم تقتنع حتى اكتفت في الرضاع المحرم على خمس رضعات و قد أخذنا بموثقة زياد بن سوقة الدالة على أن العدد المحرم خمس عشرة رضعة، ومن العجيب ما عن بعض من المصير الى العشرة وطرح خمسة عشر رضعة.

بتحريره فأجاد كقوله : «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ اِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا»، «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ اِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا»، «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ»، وغير ذلك من الايات التي خصت باستثناء أو غاية، وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ، ومنه قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن.

قيل انه نسخ بقوله : و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وانما هو مخصوص به، وقسم رفع ما كان عليه الأمر فى الجاهلية أو في شرائع من قبلنا أو في أول الاسلام و لم ينزل فى القرآن كابطال نكاح نساء الاباء و مشروعية القصاص والدية وحصر الطلاق في الثلاث وهذا ادخاله في قسم الناسخ قريب و لكن عدم ادخاله أقرب، وهو الذي رجحه المكى وغيره، و و جهوه بأن ذلك لوعد فى الناسخ لعد جميع القرآن منه، اذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب

قالوا وانما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية، انتهى. نعم، النوع الاخر منه وهو رافع ما كان فى الاسلام ادخاله أوجه من القسمين قبله، اذا علمت ذلك فقد خرج من الايات التي أوردها المكثرون الجم الغفير مع آيات الصفح و العفو ان قلنا ان آية السيف لم تنسخها وبقى مما يصلح لذلك عدد يسير، وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف، وها أنا اورده هنا محرراً، فمن البقرة قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ»الآية، منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث: ألا لا وصية لوارث، وقيل بالاجماع، حكاه ابن العربی، و قوله تعالى : «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ»، قيل منسوخة بقوله : «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»، وقيل محكمة و لامقدرة، قوله : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ»، ناسخة لقوله : «كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»، لان مقتضاها الموافقة فيما كان عليهم من تحريم الاكل والوطء بعد النوم، ذكره ابن العربي، وحكى قولا آخرانه نسخ لما كان بالسنة، قوله تعالى : «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ» الاية، منسوخة بقوله : «وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً» الآية، أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة، قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ» الى قوله : متاعاً الَى الحَولِ

ص: 142

منسوخة بآية أربعة أشهر وعشراً والوصية منسوخة بالميراث، والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث ولا سكنى، قوله تعالى : «وَاِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم أَو تُخْفُوهُ يُحاسِبُكُم بِهِ اللّه»، منسوخة بقوله بعده : «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»، ومن آل عمران قوله تعالى : «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»، قيل انه منسوخ بقوله : «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وقيل : لا، بل هو محكم وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الاية، ومن النساء قوله تعالى : «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ»، منسوخة بقوله : «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»، قوله تعالى : «وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» الاية، قيل منسوخة وقيل لا ولكن تهاون الناس في العمل بها، قوله تعالى : «وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ» الآية، منسوخة بآية النور، من المائدة قوله تعالى : «وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ» منسوخة باباحة القتال فيه، قوله تعالى : «فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ»، منسوخة بقوله : «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ»، قوله تعالى : «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ»، منسوخ بقوله : «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ»، و من الانفال قوله تعالى : «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ» الاية، منسوخة بالاية بعدها، ومن براءة قوله تعالى : «اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً»، منسوخة بآيات العذر وهو قوله تعالى : «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الاية، وقوله: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ» الايتين، وبقوله : «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً»، ومن النور قوله تعالى : «اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً» الآية، منسوخة بقوله : «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ»، قوله تعالى : «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» الاية قيل منسوخة وقيل لا، و لكن تهاون الناس في العمل بها، و من الاحزاب قوله تعالى : لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ الآية، منسوخة بقوله : «إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ» الاية، و من المجادلة قوله تعالى : «إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا» الاية، منسوخة بالاية بعدها، ومن الممتحنة قوله تعالى : «فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا»، قيل منسوخ بآية السيف وقيل بآية الغنيمة وقيل محكم، و من المزمل قوله : «قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً»، منسوخ بآخر السورة ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس، فهذه احدى و عشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها لا يصح دعوى النسخ فى غيرها، والاصح في آية الاستئذان

ص: 143

والقسمة الاحكام فصارت تسعة عشر، ويضم اليها قوله تعالى : «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» على رأى ابن عباس أنها منسوخة بقوله : «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» الاية، فتمت عشرون الى آخر كلام السيوطي في الاتقان.

وقال الحاجبى فى المختصر : الجمهور على جواز نسخ التلاوة.

وقال العضدى في شرحه : النسخ اما للتلاوة فقط أو للحكم فقط أولهما معاً والثلاثة جائزة، وخالف فيه بعض المعتزلة، لنا انا نقطع بالجواز فان جوازتلاوة الآية حكم من احكامها وما يدل عليه من الاحكام حكم آخر لها ولا تلازم بينهما واذا ثبت ذلك فيجوز نسخها ونسخ احدهما كسائر الاحكام المتباينة ولنا أيضاً الوقوع وانه دليل الجواز، اما التلاوة فقط فلما روى عمرانه كان فيما أنزل : الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه، و حكمه ثابت و ان خصص بالاحصان، واما الحكم فكنسخ الاعتداد بالحول واللفظ مقروء، واما هما معاً فما روت عائشة انه كان فيما انزل : عشر رضعات محرمات، وقد نسخ تلاوته و حكمه، انتهى المقصود من كلامهما.

أقول يظهر من هؤلاء _ علماء العامة _ الاختلاف الكثير في مقدار النسخ وان كانوا متفقين على الظاهر في جواز نسخ التلاوة مع حكمها أو لا مع حكمها، وانت خبير بان ذلك هو التحريف بالنقيصة الذي قد مرمنا بطلانه ثم انه لا يمكن موافقتهم في مقدار المنسوخ من الآيات اذا لتخصيص أو التقييد أو بيان اكمل المصاديق او العدل التخييرى أو ماشابه ذلك لا يكون من النسخ المصطلح قطعا.

و في مقابل هؤلاء المكثرين للنسخ من أنكر وقوعه اطلاقا وهو أبو مسلم ابن بحر الاصفهانی اذقال بجواز النسخ وعدم وقوعه زاعماً أن قوله تعالى (1) : «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ»، يدل على عدم النسخ لان النسخ ابطال للمنسوخ، وقد تصدى للجواب عن موارد النسخ، ولكنه توهم فاسد لان معنى الآية ان القرآن بما هو كلام الهی و منهج عبادی و قانون نظامی و میزان اخلاقی و معیار اصلاحی

ص: 144


1- فصلت، الآية : 42.

و منبع للعلوم وشامل للسعادات الدنيوية والأخروية وكافل للعدالة الفردية والاجتماعية و جامع للجوامع الخيرية ودافع للرذائل و الشرور على نحو العموم و الكلية، لا يتصور فى اى جانب من جوانبه توهم العثور على خطأ ولا يتقدمه كتاب سماوى او قانون عقلى يقتضى بطلانه ولايأتى من بعده كتاب سماوی اورشد فکری یوجب بطلانه، وليس معنى الاية انه لايأتى لعامه خاص ولا لمطلقه مقيد ولا لحكمه غاية.

واما علماء الشيعة فقد وافق الشيخ الطوسى (قدّس سِرُّه) علماء العامة في أغلب الموارد التى قالوا بالنسخ فيها، فقال في العدة :

فصل : في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة، و نسخ التلاوة دون الحكم، جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه لان التلاوة اذا كانت عبادة، والحكم عبادة أخرى جاز وقوع النسخ فى احداهما مع بقاء الآخر كما يصح ذلك في كل عبادتين، واذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم و الحكم دون التلاوة، الى ان قال : واما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فلا شبهة فيه لما قلناه من جواز تعلق المصلحة بالحكم دون التلاوة، الى ان قال : واما جواز النسخ فيهما فلا شبهة أيضاً فيه لجواز تغير المصلحة فيهما وقد ورد النسخ بجميع ما قلناه لان اللّه تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص أربعة اشهر وعشرا و نسخ التصدق قبل المناجاة، و نسخ ثبات الواحد للعشرة، وان كانت التلاوة باقية في جميع ذلك، وقد نسخ ايضا التلاوة و بقى الحكم على ماروى من آية الرجم من قوله الشيخ و الشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه، و ان ذلك مما انزله اللّه والحكم باق بلا خلاف، وكذلك روى فى تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبداللّه بن مسعود لانه قد نسخ التلاوة والحكم باق عند من يقول بذلك و اما نسخهما معاً فمثل ماروی عن عائشة انها قالت كان فيما انزله تعالى عشرة رضعات يحر من ثم نسخت بخمس عشرة فخبرت بنسخه تلاوة وحكماً، وانما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال ولو لم يقع شيء منها لما اخل بجواز ماذكرناه وصحته لان الذي اجاز ذلك ما قدمناه من الدليل و ذلك كاف في هذا الباب انتهى كلامه رحمه اللّه.

ص: 145

وفى البحار (1) نقلاً عن تفسير النعماني: فمما سألوه عن الناسخ والمنسوخ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ان اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالرأفة والرحمة فكان من رأفته و رحمته انه لم ينقل قومه فى اول نبوته عن عادتهم حتى استحكم الاسلام في قلوبهم و حلت الشريعة في صدورهم فكانت من شريعتهم في الجاهلية ان المرأة اذا زنت جلست في بيت وأقيم بأودها حتى يأتى الموت واذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم و شتموه و آذوه و عيروه ولم يكونوا يفرقون غير هذا قال اللّه تعالى في اول الاسلام: «وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً».

فلما كثر المسلون وقوى الاسلام واستوحشوا امور الجاهلية انزل اللّه تعالى: «اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» الى آخر الآية فنسخت هذه الاية آية الحبس والاذى.

ومن ذلك ان العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة و كان اذا مات الرجل القت المرأة خلف ظهرها شيئاً بعرة وماجرى مجراها ثم قالت : البعل أهون على من هذه فلا اكتحل ولا امتشط ولا اتطيب ولا اتزوج سنة فكانو الايخرجون من بيتها بل يجرون عليها من تركة من زوجها سنة، فانزل اللّه تعالى في اول الاسلام : «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» الى آخر الاية.

ومن ذلك ان اللّه تبارك وتعالى لما بعث محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمره في بدو امره ان يدعو بالدعوة فقط وانزل عليه : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً، وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً، وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبِيراً، وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً»، فبعثه اللّه تعالى بالدعوة فقط و أمره ان لايوذيهم فلما ارادوه بما هموا به من تبییت امره اللّه تعالى بالهجرة وفرض عليه

ص: 146


1- ج 20 ص 95 الطبعة الحجرية.

هل يجوز نسخ الكتاب بالخبر الواحد؟ القتال فقال سبحانه : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ»، فلما أمر الناس بالحرب جزعوا وخافوا فانزل اللّه تعالى : «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ»، الى قوله سبحانه : «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» فنسخت آية القتال آية الكف فلما كان يوم بدر و عرف اللّه تعالى حرج المسلمين أنزل اللّه تعالى على نبيه : «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ»، فلما قوى الاسلام وكثر المسلون أنزل اللّه «فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ»، فنسخت هذه الآية التى اذن لهم فيها ان يحتجوا ثم انزل سبحانه في آخر السورة : «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ» الى آخر الاية. ومن ذلك ان اللّه تعالى فرض القتال على الامة فجعل على الرجل الواحدان يقاتل المشركين فقال : «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» الى آخر الاية. ثم نسخها سبحانه فقال : «اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» الى آخر الاية فنسخ بهذه الاية ماقبلها فصار من فرمن المؤمنين في الحرب فان كانت عدة المشركين اكثر من رجلين لرجل لم يكن فاراً من الزحف وان كان العدة رجلين لرجل كان فاراً من الزحف وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن ذلك نوع آخر وهو ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما هاجر الى المدينة آخى بين اصحابه من المهاجرين و الانصار جعل المواريث على الاخوة فى الدين لافى ميراث الارحام وذلك قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» إلى قوله سبحانه: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا»، ثم عطف بالقول فقال تعالى «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ». فكان من مات من المسلمين يصير ميراثه وتركته لاخيه فى الدين دون القرابة والرحم الوشيجة فلما قوى الاسلام انزل اللّه : «اَلنَّبِيُّ

ص: 147

أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً»، فهذا المعنى نسخ آية الميراث، ومنه وجه آخر و هو ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما بعث كانت الصلاة إلى قبلة بيت المقدس سنة بنى اسرائيل و قد اخبرنا اللّه بما قصه في ذكر موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان يجعل بيته قبلة وهو قوله «وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً»، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في اول مبعثه يصلى الى بيت المقدس جميع ايام مقامه بمكة وبعد هجرته الى المدينة باشهر، فعيرته اليهود وقالوا انت تابع لقبلتنا فأحزن رسول اللّه ذلك منهم فانزل اللّه تعالى عليه وهو يقلب وجهه فى السماء وينتظر الامر : «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ... لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ»- يعنى اليهود في هذا الموضع، ثم اخبرنا اللّه عز وجل ما العلة التى من اجلهالم يحول قبلته من اول مبعثه فقال تبارك وتعالى : «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» فسمى سبحانه الصلاة هلهنا ايماناً، و هذا دليل واضح على ان كلام البارى سبحانه لايشبه كلام الخلق كما لا يشبه أفعاله أفعالهم، ولهذه العلة واشباهها لا يبلغ احد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه و تأويله الا نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )واوصياؤه.

ومن الناسخ ما كان مثبتاً فى التوراة من الفرائض في القصاص، وهو قوله: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» الى آخر الاية، فكان الذكر والانثى والحرو العبد شرعاً سواء، فنسخ اللّه تعالى ما في التوراة بقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى» فنسخت هذه الآية : «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» ومن الناسخ ايضاً امور غليظة كانت على بنى اسرائيل في الفرائض فوضع اللّه

ص: 148

تعالى تلك الآصار عنهم وعن هذه الأمة فقال سبحانه : «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ»، ومنه انه تعالى لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان بالليل ولا بالنهار على معنى صوم بنى اسرائيل في التوراة، فكان ذلك محرماً على هذه الامة، وكان الرجل اذا نام فى اول الليل قبل أن يفطر فقد حرم عليه الاكل بعد النوم أفطر أولم يفطر، وكان رجل من اصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يعرف بمطعم بن جبير شيخاً فكان فى الوقت الذى حفر فيه الخندق في جملة المسلمين وكان ذلك في شهر رمضان فلما فرغ من الحفر وراح الى اهله صلى المغرب و أبطأت عليه زوجته بالطعام فغلب عليه النوم فلما أحضرت اليه الطعام أنبهته فقال لها استعمليه أنت فانى قد نمت وحرم على وطوى اليه و أصبح صائماً فغدا الى الخندق وجعل يحفر مع الناس فغشى عليه فسأله رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن حاله فاخبره، وكان في المسلمين شبان ينكحون نسائهم بالليل سراً لقلة صبرهم فسأل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه سبحانه في ذلك، فانزل اللّه عليه : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ»، فنسخت هذه الاية ما تقدمها.

و نسخ قوله تعالى : «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ»، قوله عزوجل : «وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ»، أى للرحمة خلقهم.

و نسخ قوله تعالى : «وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا»، قوله سبحانه: «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ: الى آخر الاية.

ومن المنسوخ قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»، نسخها قوله : «فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» و نسخ قوله تعالى : «وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً

ص: 149

حَسَناً»، آية التحريم وهو قوله جل ثناؤه : «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»، والاثم هاهنا هو الخمر.

و نسخ قوله تعالى : «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا»، قوله: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» و نسخ قوله تعالى: «وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً»، يعنى اليهود حين هادنهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلما رجع من غزوة تبوك انزل اللّه تعالى : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ»، فنسخت هذه الآية تلك الهدنة، انتهى كلامه.

وأنت بعد الاطلاع على اقوال العلماء من الشيعة والسنة علمت اختلافهم في مقدار المنسوخ من الآيات والاحكام.

ثم ان هناك اختلافاً آخر، و هو الاختلاف في نسخ القرآن بالسنة، فقد ذهب أهل الظاهر الى ان قوله تعالى (1) : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ»، منسوخ بماروى من انه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، و ان الوصية للوالدين و الأقربين منسوخ بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا وصية لوارث، و ان جلد الزاني نسخ في مورد المحصن بما ورد من رجمه، و ان اباحة نكاح غير المحارم المستفادة من قوله تعالى (2) : «وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ»، قدنسخ بما ورد من عدم جواز نكاح بنت الاخ او بنت الاخت الاباذن عمتها اوخالتها، بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، بل ذكروا أن السنة تنسخ السنة، وذلك نظير ماورد من طرق العامة بانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الاضاحي الافادخروها، وكذا ماورد ايضاً من طرقهم بانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : كنت نهيتكم

ص: 150


1- سورة الانعام، الآية 145.
2- سورة النساء، الاية – 24.

عن زيارة القبور ألافزوروها، ومع ذلك كله حاول أبومسلم بن بحر الاصفهاني الجواب عن موارد النسخ بتوجيهات ذكروها باجوبتها في المطولات، فأجاب عن اعتداد الزوجة فى وفاة زوجها حولا كاملا :

الزوجة لو كانت حاملا ومدة حملها حولا اعتدت حولا فلا نسخ بل هو تخصيص، فأجابوه بان المنسوخ كون الحول مداراً للاعتداد فلا يصح الجواب وأجاب عن آية المناجاة بانها نزلت لامتحان المسلمين و تمييز المؤمنين من المنافقين منهم، فلما حصل ذلك الامتياز ارتفع ذلك الحكم لارتفاع سببه، فأجابوه بأن لازم ذلك ان يكون أكثر الصحابة من المنافقين.

وأجاب عن آية الثبات بان الحكم باق اذلو كانوا أبطالا والمائتان فى غاية الجبن والضعف بحيث يعلم قصورهم عن مقاومة العشرين و جب الثبات فيكون تخصيصاً، فأجابوه بعد تسليم ما ادعاه بأن لازم ذلك ألا تكون خصوصية في العدد.

وأجاب عن آية التوجه الى الكعبة بان حكم التوجه الى بيت المقدس لم يزل بالكلية لوجوب التوجه اليه عند الاشتباه أو العذر فهو تخصيص لانسخ، فأجابوا بأن التوجه الى بيت المقدس حال الاشتباه ليس مقصوداً لذاته، والاحسن الجواب بالمنع عن هذا الحكم.

المطلب الرابع

الموارد المدعى فيها النسخ على أقسام :

الاول : مالايكون نسخاً فى الحقيقة بل هو تخصيص أو تقييد.

مثال الأول : تحريم كل ذي ناب و مخلب، الذي ثبت بالسنة مع وجود اطلاق آية التحليل، وهي قوله تعالى (1) : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ»، حيث ان دليل حرمة السباع حاكم على عموم الآية الأفرادى، وليس نسخاً للآية.

ومثال الثانى : اشتراط نفوذ عقد بنت الاخ على اذن عمتها، واشتراط نفوذ

ص: 151


1- سورة الانعام، الآية 145.

عقد بنت الاخت على اذن خالتها اذتوهم ان الدليل الدال على ذلك ناسخ لقوله تعالى (1) : «وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ»، مع انه تقييد لانسخ

الثاني : ما ورد فيه خبران متعارضان من حيث النسخ وعدمه، فمنه قوله تعالى (2) : «وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى»، الآية، فقد وردفى تفسير العياشي من أنه نسختها آية الفرائض، فقال البحراني : تحمل رواية النسخ على نسخ وجوب الاعطاء، و تحمل رواية عدم النسخ على جواز الاعطاء واستحبابه، فلا تنافي بين الروايتين.

وقال أبو على الطبرسي : اختلف الناس في هذه الآية على قولين أحدهما : أنها محكمة غير منسوخة وهو المروى عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال محمد الشيباني في نهج البيان: وقال قوم انها ليست منسوخة يعطى من ذكر هم اللّه على سبيل الندب والطعمة، قلت وهذه الرواية عن الباقر و الصادق (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) تؤيد ما ذكرناه من الحمل بأن الاية محكمة غير منسوخة يعطون على سبيل الندب والطعمة، ورواية النسخ ناسخة وجوب اعطائهم بآية الميراث، انتهى.

أقول : وأنت خبير بأن نفى الوجوب ليس بنسخ، مضافاً الى ضعف السند فلنطرح الرواية الدالة على النسخ.

ومنه قوله تعالى (3): «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»، فعن العياشي عن أبي بصير، قال : سمعت أباعبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه اتقوا اللّه حق تقاته، قال : منسوخة، قلت : وما نسخها ؟ قال : قول اللّه (4) : «اتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وقال ابو على الطبرسى فى الآية : اختلف فيه على قولين أحدهما انه منسوخ بقوله تعالى(5): «اتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، قال : وهو المروى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)،

ص: 152


1- سورة النساء، الآية 24.
2- سورة النساء الآية ٨.
3- سورة آل عمران، الآية 102.
4- سورة التغابن، الآية 16.
5- سورة التغابن، الآية 16.

والاخرانه غير منسوخ، عن ابن عباس وطاووس، أقول : أضف الى ذلك ضعف السند.

ومنه قوله تعالى (1) : «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ»، فقال على بن ابراهيم : وفي حديث :آخر قال هي منسوخة بقوله تعالى (2): «وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ»، انتهى

أقول : لا ينبغى الشك في أن خلق الناس للعبادة لاينافي خلقهم للرحمة، والحصر في الموردين اضافي بالنسبة الى ما يقابل الكفر وما يقابل الرحمة، فتدبر، وأضف الى ماذكر ضعف السند.

الثالث : مايكون نسخاً حقيقة، فمنه قوله تعالى (3) : «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ»، حيث نسخ بقوله تعالى (4) : «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

فعن العياشي عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار، قال سألته عن قول اللّه : والذين يتوفون الى قوله تعالى الى الحول، قال : منسوخة، نسختها آية يتربصن الى قوله عشراً، وعن أبي بصير، وعن ابى بصير قال : سألته عن قول اللّه : والذين يتوفون الى غير اخراج، قال هي منسوخة، قلت : وكيف كانت ؟ قال : كان الرجل اذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلاميراث، ثم نسختها آية الربع والثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها (5).

ومنه قوله تعالى(6): «وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً

ص: 153


1- الذاريات، الآية 56.
2- هود، الآية 119.
3- البقرة، الآية240-234.
4- البقرة، الآية240-234.
5- البرهان : ج1 ص226.
6- النساء، الآية ١٩.

مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً»، نسخه قوله تعالى (1): «اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ».

ففى الكافى مرسلا عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : كل سورة النور نزلت بعد سورة النساء و تصديق ذلك ان اللّه عز وجل أنزل عليه في سورة النساء و اللاتي الى سبيلا، والسبيل الذى قال اللّه عز وجل سورة انزلناها الى طائفة من المؤمنين.

أقول : الظاهر من هذه الرواية عدم النسخ، وأن الحكم كان من الاول محدوداً فلانسخ لان شرط النسخ وهو ظهور الدليل في كون الحكم مستمراً مفقود، اللّهم الاأن يقال ان ابهام السبيل يصحح اطلاق النسخ على المورد، مؤيداً بما في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرسلا في قول اللّه تعالى : واللاتى الى سبيلا، قال : هذه منسوخة، قال : قلت : كيف كانت ؟ قال : كانت : المرأة اذا فجرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتاً ولم تحدث ولم تكلم ولم تجالس وأوتيت بطعامها وشرابها حتى تموت، قلت فقوله : أو «أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً»، قال : جعل السبيل الرجم والجلد والامساك في البيوت، قال : قلت : واللذان يأتيانها منكم، قال : ليس البكر اذا أنت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب، فآذوهما، قال : تحبس، فان تابا واصلحا فأعرضوا عنهما ان اللّه كان تواباً رحيماً.

وقال أبو على الطبرسى : حكم هذه الآية منسوخة عند جمهور المفسرين وهو المروى عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).

ومنه آية المناجاة وهي قوله تعالى (2) : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً»، فراجع ج 4- ص 309 من البرهان ترى فيه أخباراً مستفيضة دالة على أن الاية لم يعمل بها أحد من الصحابة غير على الملا، وأنه بعد عمله بها نسخها قوله تعالى (3) : «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ»، وانه كان له

ص: 154


1- النور، الاية ٢٣.
2- المجادلة، الآية ١٢ - ١٣.
3- المجادلة، الآية ١٢ - ١٣.

دينار فباعه بعشرة دراهم فكان كلما ناجاه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قدم در هماً حتى ناجاه عشر مرات، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد قبله ولا بعده، و أنه قد بخل الناس أن يتصدقوا قبل الكلام معه.

ومنه تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة المكرمة، قال اللّه تعالى (1): «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ»، وقال اللّه تعالى (2) : «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ»، فترى في الآية الثانية أنه تعالى يبين علة تشريع القبلة الى بيت المقدس ففى تفسير البرهان ج1ص158 عن الشيخ الطوسى فى حديث قال : ان بنى عبد الاشهل أتوهم وهم في الصلاة وقدصلوا ركعتين الى بيت المقدس، فقيل لهم ان نبيكم قدصرف الى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وصلوا الركعتين الباقيتين الى الكعبة فصلوا صلاة واحدة الى القبلتين، ولذلك سمى مسجدهم مسجد القبلتين، وعن على بن ابراهيم في حديث : ان اليهود كانوا يعيرون على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقولون له أنت تابع لنا تصلى الى قبلتنا، فاغتم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من ذلك غماً شديداً و خرج في جوف الليل ينظر الی آفاق السماء ينتظر من اللّه فى ذلك أمراً ولما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرئيل و أخذ بعضديه وحوله الى الكعبة وأنزل عليه (3) : «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ»، وكان قدصلى ركعتين الى بيت المقدس وركعتين الى الكعبة فقالت اليهود والسفهاء (4) : «ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها»، وعن تفسير العسكرى : وجاء قوم من اليهود الى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالوا يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت اليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الان أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته الى باطل فان ما يخالف الحق فهو باطل، أو باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدة، الى أن قال، ثم قال : أليس اللّه يأتى بالشتاء في اثر الصيف والصيف في

ص: 155


1- البقرة، الآيات 144- 143--144-141.
2- البقرة، الآيات 144- 143--144-141.
3- البقرة، الآيات 144- 143--144-141.
4- البقرة، الآيات 144- 143--144-141.

اثر الشتاء أبدا له فى كل واحد منهما ؟، قالوا : لا، قال : فكذلك لم يبدله في القبلة،قال، ثم قال : أليس قد ألزمكم أن تحترزوا فى الشتاء من البرد بالثياب الغليظة، وألزمكم فى الصيف أن تحترزوا من الحر، أفبدا له فى الصيف حين أمركم بخلاف ما أمركم به فى الشتاء ؟ قالوا : لا، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فكذلك تعبدكم في وقت اصلاحكم بعلمه بشيء، ثم بعده فى وقت آخر لصلاح آخر بشيء آخر، الى ان قال، ثم قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا عباد اللّه أنتم كالمرضى واللّه رب العالمين كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبره لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ألا فسلموا للّه أمره تكونوا من الفائزين، فقيل يابن رسول اللّه : فلم أمره بالقبلة الاولى ؟ فقال: لما قال اللّه عز وجل : «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها»- وهى بيت المقدس – «إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ»، الا لنعلم ذلك منه (1) وجوداً بعد أن علمناه سيوجد وذلك أن هوى أهل مكة كان فى الكعبة فأراد اللّه أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها و محمد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التوجه الى الكعبة ليبين من يوافق محمداً فيما يكرهه فهو مصدقه وموافقه، ثم قال : وان كانت لكبيرة الاعلى الذين هدى اللّه، و ان كان ما كان التوجه الى بيت المقدس فى ذلك الوقت كبيرة الاعلى من يهدى اللّه، فعرف أن اللّه يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلى طاعته فى مخالفة هواه، انتهى.

أقول : فقد ظهر من نص القرآن أن النسخ صحيح وواقع وليس من التغيير في الرأى وحدوث العلم بعد الجهل، ولا يكون جزافاً بل لابد وأن يكون لاجل مصلحة في الجعل الاولى و ابرازه بصورة الاستمرار ثم ازالته عن عالم الاثبات.

ومنه قوله تعالى (2): «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ

ص: 156


1- هذا التعبير دليل على ما نقول من أن العلم الفعلى عبارة عن حضور المعلوم بوجوده الخارجي لدى العالم، فراجع رسالتنا في البداء.
2- البقرة، الآية 187.

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ».

فقد روی محمد بن يعقوب عن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان وأحمد ابن ادريس عن محمد بن عبد الجبار جميعاً عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في قول اللّه عز وجل : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ »، فقال نزلت في خوات (1) بن جبير الانصارى و كان مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الخندق وهو صائم فأمسى وهو على تلك الحال، وكانوا قبل ان تنزل هذه الاية اذا نام أحدهم حرم عليه الطعام والشراب، فجاء خوات الى أهله حين أمسوا، فقال : هل عندكم طعام، فقالوا : لاتنم حتى نصلح لك طعاماً فاتكى فنام، فقالواله : قد فعلت، قال : نعم فبات على تلك الحال فأصبح ثم غدا الى الخندق فجعل يغشى عليه، فمر به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلما رأى الذى به أخبره كيف كان أمره فأنزل اللّه عزوجل الاية : «كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ».

ويظهر من هذه الرواية وما يشبهها فى المضمون أن علة نسخ الحكم الاول هو الرفق والتسهيل، ونظيره آية ثبات الواحد في مقابل العشرة حيث قال اللّه تعالى(2): «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ»، و قد نسخ هذا الحكم - الذي يكون بصورة الاخبار ويظهر كونه حكماً من الآية التالية قوله تعالى (3) : «اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ»، وتظهر علة النسخ من قوله تعالى : «خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ»، وانها التخفيف وأنه أوجب وجوب ثبات الواحد في مقابل اثنين بعدما كان الواجب ثبات الواحد فى مقابل العشرة. ومنه قوله تعالى(4): «وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً»، نسخه قوله تعالى (5) : «قاتِلُوا الَّذِينَ

ص: 157


1- بالخاء المعجمة و الواو المشددة و التاء المنقوطة.
2- الانفال، 65-66.
3- الانفال، 65-66.
4- البقرة، 83.
5- التوبة، 29.

لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ».

فعن محمد بن يعقوب عن على بن ابراهيم عن أبيه وعلى بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقرى عن حفص بن غياث عن أبى عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث الاسياف الذى ذكره عن أبيه قال فيه (1) : وأما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب، قال اللّه عز وجل : «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا» _ يعنى آمنوا- «وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ»، فهولاء لا يقبل منهم الا الجزية أو القتل ومالهم فىء وذراريهم سبى على ما سن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فانه سبا وعفا وقبل الفداء، والسيف الثانى على أهل الذمة، قال اللّه عزوجل : «وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً»، نزلت هذه الاية فى أهل الذمة، نم نسخها قوله عزوجل : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ»، ويؤيده ماورد في تفسير القمي في ذيل قوله تعالى (2) : «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ»، قال على بن ابراهيم انها نزلت بمكة قبل الهجرة فلما هاجر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الى المدينة وكتب عليهم القتال، فنسخ هذا، ففزع أصحابه من هذا فأنزل اللّه : «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ- بمكة - كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ»، لانهم سألوا بمكة أن يأذن لهم في محاربتهم فأنزل اللّه : «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ»، فلما كتب عليهم القتال بالمدينة قالوا : «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ»، فقال اللّه : «قُل -لهم- مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً»، ثم قال : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة يعنى الظلمات الثلاث التي ذكرها اللّه وهى المشيمة والر. المشيمة والرحم والبطن، وهذا الاخير

ص: 158


1- البرهان ج 2 ص 114.
2- المصدر ج 1 ص 395.

انما هو كلام القمى غير المعلوم اسناده الى المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولو مرسلا، فلاحجية فيه ورواية حفص ضعيفة.

و هناك قسم آخر من النسخ، و هو نسخ الاحكام التي كانت في الشرائع السابقة كقصاص النفس بالنفس مطلقاً : وقد نسخ بقوله تعالى (1) : «اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ»، وكوجود أحكام ذات مشقة نسخت بقوله تعالى (2) : «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ»، فعن الشيخ (3) باسناده عن محمد بن عيسى عن يعقوب ابن يزيد عن ابن أبي عمير عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : كان بنو اسرائيل اذا أصاب من بدنهم بول يقطعوا لحومهم بالمقاريض وقد وسع اللّه عليكم بأوسع ما بين السماء والارض وجعل لكم الماء طهوراً.

وتلخيص المقام أن النسخ وهو بيان انتهاء أمد الحكم فيما كان دليله ظاهرا فى الاستمرار بحسب الازمنة جائز عقلا وواقع شرعاً الاان كثيراً من الموارد التي يدعى النسخ فيها ليست من النسخ فى شىء وجملة منها ليس لها دليل متقن وسند صحيح، وقد عرفت منا أن تلك المسألة بطولها وتأليف جماعة من العامة كتبا عديدة فيها لاثمرة لها فقها، فترك الاطالة فيها أولى برعاية الوقت، نعم القول بعدم وقوع النسخ شرعاً باطل قطعاً لما عرفت من وجود جملة معتد بها من الاحكام المنسوخة في الشريعة الاسلامية.

المطلب الخامس

في جواز نسخ القرآن بخبر الواحد :

لا ينبغي الاشكال في الجواز عقلا كما لا ينبغى الشك في عدم وقوعه خارجاً،

ص: 159


1- البقرة : 187.
2- الاعراف: 157.
3- البرهان : ج 2 ص 40.

ثم لاثمرة لهذا البحث قطعاً، فهناك دعاوى ثلاثة :

والدليل على الاولى أن الخبر الواحد بعد ما ثبت طريقيته عرفاً و أماريته على الواقع لم يكن فرق بين كون مؤداه عاماً أو خاصاً، ناسخا أو منسوخاً أو غير ذلك، نعم لو قلنا ان طريقية خبر الواحد انما هي أمر اعتبارى شرعى كان للقول بامكان قصر الشارع حجيته بما اذا لم يكن مؤداه ناسخا للقر آن مجال، لكن المبنى والبناء فاسدان، أما الأول فلان خبر الواحد حجة عقلائية لا تعبدية، وأما الثانى فلان دليل حجية خبر الواحد عام شامل لمحل النزاع.

والدليل على الثانية أن موارد النسخ معدودة و كلها ثابتة بالقرآن على ما اخترنا أو بالسنة المتواترة كما عليه العامة ولم توجد آية نسخت بخبر الواحد والقول بعدم الجواز مستدلا بالاجماع عجيب لان معقد الاجماع انما هو عدم الوقوع خارجا لاعدم الجواز عقلا.

وأما الثالثة فلان الثمرة سالبة بانتفاء الموضوع.

الامر الثامن

في كيفية نزول القرآن

لاريب في أمرين في المقام لا يتلاءمان ظاهراً.

الأول : أنه لا اشكال بحسب التاريخ و الاخبار و اجماع علماء الاسلام و نصوص القرآن فى أن القرآن نزل منجما و على أقساط، ولذا تكون جملة من الايات والسور مكية وجملة منها مدنية وكان لنزولها في غالب الموارد سبب وشأن، فنزول القرآن على نحو التنجيم والتناوب أمر ضرورى عند كافة المسلمين وموافق للاخبار المتواترة، وفى القرآن (1) : «وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ».

الثاني : أنه قدورد فى جملة من الآيات القرآنية مايدل على نزول القرآن

ص: 160


1- طه : 114.

دفعة واحدة، قال اللّه تعالى (1) : «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ»، والليلة المباركة هي ليلة القدر، لقوله تعالى (2) : نّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، ثم انه ورد فى القرآن أن القرآن نزل فى شهر رمضان، قال اللّه تعالى (3): «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ» الاية وحينئذ يأتى الاشكال بانه كيف يمكن التوفيق بين الأمرين : ١- نزول القرآن منجماً، -2- و نزوله فى ليلة مباركة، أضف الى ذلك قوله تعالى (4): «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ»، و قوله تعالی (5): «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ»

و للجواب نذكر أموراً:

ان الامر الاول : النزول فى اللغة هو الانحدار من علو الى أسفل يقال، نزل من علوالى أسفل أى انحدر، و يقال نزل به الامر أى حل به، وعلى هذا فالنزول ليس من الماهيات المتأصلة بل هو من الافعال التعلقية، و منشؤه هو الحركة من العالى الى السافل، ولما كان العلو والدنو من الامور الاضافية فلابد وان يتعلقا بما يضافان اليه، الاول منهما بالمبدء والاخر بالمنتهى، وحيث أن النزول من الافعال التعلقية بالنسبة الى الاشياء ذات الاضافة فله من جهة التطبيق عرض عريض.

وان شئت قلت ان النزول حقيقة ذات مصاديق كثيرة - الخارجية والمعنوية والاعتبارية -، يقال نزل من السطح ويقال نزل فهمه، و ذات مراتب عديدة في جميع أنواعها، واعتبر ذلك من النزول الخارجي – الحسى- فى مثال النزول من السطح فتری صدق قولك نزل من السطح بالسلم الى الدرجة الثالثة، ثم نزل منه الى الرابعة وهكذا..

ص: 161


1- الدخان، ٣.
2- القدر، ٢.
3- البقرة، 185.
4- البقرة، 92.
5- الشعراء، 194.

وقس عليه أمثلة كثيرة بالنسبة الى جميع أنواع النزول من الخارجي الى الاعتباري، وعلى هذا يمكن أن ينزل شيء واحد من مبدء الى منتهى ويمر في نزوله الى أمكنة متعددة بين هذا المبدء وذلك المنتهى ويكون نزوله تدريجياً كالنزول من السطح بسبب السلم الذى قلنا يتحقق ذلك بالنزول الى درجة ثم درجة أخرى من السلم حتى يتحقق الوصول الى الارض و به يتم آخر مراتب نزول شيء واحد من مبدء واحد الى منتهى واحد.

الثاني : اختلف علماء الاسلام في حقيقة القرآن على أقوال، فقالت الاشاعرة انه صفة قائمة بذات اللّه فهي قديمة لقدم الذات ويقال لهم الصفتية، وقالت الحنابلة انه من مقولة الالفاظ ولكنه قديم، وذهبت المعتزلة الى أنها ألفاظ حادثة قائمة بالملك، وقالت الكرامية انها حادثة وقائمة باللّه تعالى.

ومنشأ النزاع أن القرآن هل هو صفة له حتى يكون قديماً أم لا ؟

و جوابه واضح، اذالقرآن بما هو فعل من أفعال اللّه فليس بصفة، واذا قلنا بحدوث ماسوى ذات اللّه تعالى : فجميع أفعاله ومنها كلامه حادثة، فالنزاع لابدو أن يكون صغروياً.

ولتوضيح المطلب، وان كان كالبديهى من الوضوح نقول : انه لاريب في أن النازل من اللّه تعالى انما هو من مقولة الالفاظ وكيف لا وصفات الذات غير زائدة عن الذات ولا يعقل انفكاكها عن الذات.

واحتجاج الاشعرى لمذهبه بان المتكلم من قام به الكلام لامن أوجد الكلام

باطل قطعاً لان قيام الكلام بالمتكلم قيام صدورى لا حلولى و القيام الصدورى للكلام انما هو عبارة عن ايجاده خارجاً كقيام سائر الافعال بالفاعلين حيث انه قيام صدورى وهو متحد حقيقة مع الايجاد، فلا فرق بين قيام الكلام بالمتكلم وايجاده له بعد ماعرفت من أن قيام المبدء بفاعله قيام ايجادي، فكلام اللّه فعل من أفعاله، و لذا ترى التعبير عن القرآن في القرآن بالنزول والذكر والوحي والبرهان والكتاب والفرقان و القرآن، وكل تلك الالفاظ دالة على كون القرآن من مقولة الالفاظ

ص: 162

لا الصفات، و أما معانى القرآن فهى منبعثة عن علم اللّه تعالى بالاصلح الذي هو عين ذاته، وبالجملة فالقرآن عبارة عن الالفاظ الدالة على المعانى وليس هو صفة وليس بالفاظ فقط بل هي ألفاظ مع المعاني.

الثالث : قديتوهم من استلزام علم البارى بعواقب الامور ومن ورود النص بأنه قد جف القلم بما هو كائن الى يوم القيامة عدم تأثير لاى فعل من الافعال الاختيارية فى الحوادث وقلبها، و يزول هذا التوهم بالدقة فى أن الافعال الاختيارية خيراً او شراً انما هى بعض من المؤثرات التكوينية فى الحوادث من الصحة والمرض والفقر والغنى وطول العمر وقصره وغير ذلك، وكل ذلك مندرج تحت سنة اللّه التكوينية، فالمقتضيات التكوينية بجعل اللّه التكويني وخلقه انما تؤثر آثارها و تسبب مقتضياتها وتصل الى حد العلة التامة اذا وجدت شرائطها التي منها أفعال العباد بجعل تشريعى من اللّه لاحكامها وجعل تكويني لاثارها، فاقدة للموانع التي منها أفعال العباد كما فى الشرائط، فاذا كان لطبيعة الانسان اقتضاء أن يعيش مأة سنة وكان من شرطها صلة الرحم أو كان المانع عن اقتضائها الزنا فلم يوجد الاول أووجد الثاني، - و يكون ذلك باختيار الانسان بالضرورة- لم يكن ذلك منافياً لعلم اللّه بعواقب الامور ولم يكن مخالفاً لجفاف قلم التقدير اذ قد عرفت بأن أفعال العباد خيراً وشراً جزء لا يتجزأ من التقدير، فدعاء الخير مثلا في ليلة القدر وكذلك احياؤها جزء اساسى من التقدير في تلك الليلة، و لذا يسأل عن المعصوم الثلابان الرقية (1) من القدر فيجيب ب_ - نعم -.

الرابع : لقد تصدى جمع من العلماء للجمع بين الايات والاخبار المتخالفة في نزول القرآن، قال ابن عباس (2) : أنزل اللّه القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا فى ليلة القدر ثم كان ينزله جبرئيل على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نجوماً وكان من أوله الى آخره ثلاث وعشرون سنة.

وقال الشعبي : معناه انا ابتدأنا انزاله فى ليلة القدر، وقال مقاتل: أنزله اللّه من اللوح

ص: 163


1- الدعاء المكتوب - التعويذ -.
2- مجمع البيان : تفسير سورة القدر.

المحفوظ الى السفرة وهم الكتبة من الملائكة فى السماء وكان ينزل ليلة القدر من الوحى على قدر ما ينزل به جبرئيل على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في السنة كلها الى مثلها من قابل والكلام فى ليلة القدر على ضروب، فالاول : الاختلاف في معنى هذا الاسم ومأخذه فقيل سميت ليلة القدر لانها الليلة التي يحكم اللّه فيها ويقضى بما يكون في السنة بأجمعها من كل أمر، عن الحسن ومجاهد وهى الليلة المباركة في قوله تعالى : انا أنزلناه في ليلة مباركة، لان اللّه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة، وروى أبو الضحى عن ابن عباس انه قال : يقضى القضايا فى ليلة النصف من شعبان ثم يسلمها الى أربابها فى ليلة القدر، وقيل : ليلة القدرأى ليلة الشرف والخطر وعظم الشأن من قولهم رجل له قدر عند الناس أى منزلة وشرف، ومنه : ماقدروا اللّه حق قدره، أى ما عظموه حق عظمته عن الزهري.

وقال أبو بكر الوراق : لان من لم يكن ذاقدر اذا أحياها صار ذاقدر، وقال غيره لان للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلا، وقيل : سميت ليلة القدر لانه أنزل فيه كتاب ذو قدر الى رسول ذى قدر لاجل أمة ذات قدر على يدى ملك ذى قدر، وقيل : هي ليلة التقدير لان اللّه تعالى قدر فيها انزال القرآن، وقيل سميت بذلك لان الارض تضيق بالملائكة من قوله : ومن قدر عليه رزقه عن الخليل بن أحمد، وقال الكاشانی (1) :

والمستفاد من مجموع هذه الاخبار وخبر الياس الذي أورده في الكافي في باب شأن انا انزلناه في ليلة القدر وتفسيرها من كتاب الحجة ان القرآن نزل كله جملة واحدة فى ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان الى البيت المعمور، وكأنه أريد به نزول معناه على قلب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، كما قال اللّه تعالى : نزل به الروح الامین على قلبك،

ثم نزل فى طول عشرين سنة نجوماً من باطن قلبه الى ظاهر لسانه كلما أتاه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالوحى وقرأه عليه بألفاظه، وان معنى انزال القرآن في ليلة القدر في

ص: 164


1- تفسير الصافي : ج1 - ص 42.

كل سنة الى صاحب الوقت انزال بيانه بتفصيل مجمله وتأويل متشابهه وتقييد مطلقه و تفريق محكمه من متشابهه، و بالجملة تتميم انزاله بحيث يكون هدى للناس و بينات من الهدى والفرقان، كما قال اللّه سبحانه: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»- ليس ليلة القدر منه - «هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ»تثنية (1) لقوله عز وجل : «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» - أى محكم __ «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ»، فقوله - فيها يفرق وقوله - والفرقان - معناهما واحدفان الفرقان هو المحكم الواجب العمل به كما مضى في الحديث، وقد قال تعالى : «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ»_ أى حين أنزلناه نجوماً _ فاذا قرأناه عليك - حينئذ __ فاتبع قرآنه _ أى جملته - ثم ان علينا بيانه، فى ليلة القدر بانزال الملائكة والروح فيها عليك وعلى أهل بيتك من بعدك بتفريق المحكم من المتشابه وبتقدير الاشياء وتبيين أحكام خصوص الوقائع التي تصيب الخلق فى تلك السنة الى ليلة القدر الآتية، قال في الفقيه : تكامل نزول القرآن ليلة القدر و كأنه أراد به ماقلناه و بهذا التحقيق حصل التوفيق بين نزوله تدريجاً ودفعة واسترحنا من تكلفات المفسرين.

وقال الشيخ محمد حسين الاصفهاني النجفي (رَحمهُ اللّه) (2) : لما كان جميع الحوادث الواقعة في السنة مقدرة متعينة الاحكام والحدود في ليلة القدر على ما يستفاد من الاخبار المستفيضة لزم منه أن يكون الايات التي نزل في كل سنة ثابتة متعينة في ليلة القدر التي تقع في تلك السنة، و لهذا يصح القول بان القرآن نزل فى ليلة القدر وفى شهر رمضان لانها فيه على ما يستفاد من المستفيضة المعتضدة بالكتاب، لكن الظاهر من تنكير الليلة فى الآية الثالثة (3) ورواية حفص المتقدمة، : وذكر مضمون هذا الجزء منه (أعنى قوله نزل القرآن جملة واحدة الخ..) على ابن ابراهيم في تفسيره من دون اسناد الى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لكن الظاهر أخذه من رواياتهم

ص: 165


1- تثبيت خ ل.
2- التفسير ص 69.
3- مراده انا أنزلناه في ليلة مباركة.

مع ما يشعر به سائر الروايات، أن القرآن نزل في ليلة واحدة جملة خبر لقوله لكن الظاهر.

وحينئذ فيمكن أن يقال ان القرآن انما قررو ثبت كلاتبعاً لتقدير النبوة والرسالة لانه لما قدر الرسالة والانذار قدر المرسل به والمنذر به لانه من متعلقاته، ولما كان اعطاء منصب الرسالة رفيعاً لزم عند تعيين المرسل به كما اذا قدر وعين السبب في آخر السنة، بحيث لاينفك عن تفرع مسببه عليه ترتب عليه تقدير المسبب في أول السنة الآتية.

والذى يقتضيه النظر الدقيق أن توقيت التقديرات بليلة القدر انما هو في بعض المراتب النازلة من مراتب القضاء و القدر و فوقه مراتب أخرى الى أن ينتهى الى اللوح المحفوظ الذى رقم فيه جميع ما هو كائن الى يوم القيامة قبل خلق العالم، ويشبه أن يكون هو أم الكتاب التي يتولد منها أحكام القضاء مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهى الى تفصيل أحكام كل سنة فى ليلة القدر منها وحينئذ فنزول القرآن جملة واحدة يصح أن يكون من عالم اللوح المحفوظ دفعة الى مرتبة تحتها ثم نزوله منها في مرتبة ثالثة في كل سنة بقدرهاثم نزوله فى هذا العالم في أجزاء الليالي والايام ويشبه أن يكون المرتبة الثانية هى البيت المعمور أو باطنه وروحه وهو مظهره كما روى، انتهى

والتحقيق أن القاعدة في فهم المراد هو الاخذ بالظواهر مالم تكن قرينة على الخلاف، نعم حمل اللفظ على معنى مؤول تبرعاً جائز ولكنه لاحجية فيه قطعاً ومن هنا يتبين أن غالب ما ذكره أهل العرفان والتصوف فى معاني الآيات و الاخبار و كلمات الادباء ليس بحجة لانهم لم يأتوا على ماذكروه ببرهان يقبله العقلاء لولا تعمد التغافل، ومن هنا نقول بان ما قاله الكاشاني غير قابل للقبول لانه حمل أولا البيت المعمور على قلب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وحمل ثانياً القرآن على معانيه دون الالفاظ بمالها من المعانى، وحمل ثالثاً نزول جبرئيل به على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على جريانه من قلبه الى لسانه، و هذه الامور و ماشاكلها غير مرضية لدى العاقل الفطن، نعم

ص: 166

ما يظهر من الشيخ الاصفهاني النجفي (رَحمهُ اللّه) من تعدد مراتب النزول صحيح بتقريب أن حديث حفص -٩- قرينة واضحة على تعدد مراتب النزول لانه لما سأل الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بان اللّه يقول شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن مع أن نزوله كان في مدة عشرين سنة يجيب الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بان نزوله جملة واحدة فى شهر رمضان كان الى البيت المعمور، وعلى هذا نقول ان تطبيق الاسم على المسمى المجهول الذى لم نره ولم نتعقله ولم يكن له فى الاخبار بيان وتعريف انما هو التزام بلاملزم، فالبيت المعمور اسم لمكان شريف قابل لنزول القرآن - وهو كما عرفت كلام لفظى مخلوق من اللّه حادث بماله من المعانى – فيه، و ان شئت قلت ان البيت المعمور بلاط ملكي الهي و حيث أن مراتب النزول مختلفة فلنا أن نعتقد بصحة كون مرتبة من مراتب نزول القرآن انما هي قلب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و من المراتب قلب الوصى (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما روى أنه لما ولدقر أبحضرة من الرسول الاعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قبل بعثته الشريفة قوله تعالى (1) : «قَدْ أَفْلَحَ المُؤمِنُونَ»، وحينئذ يكون نزول القرآن بواسطة جبرئيل نزول تشريفي وقانوني، أما التشريف فواضح حيث أن مجىء رسول من قبل العظيم تعالى لتبليغ كلامه الى حبيبه، فيه من الشرف مالا يخفى، و أما القانونية فلان الانسان الجاهل لا يمكنه الوصول الى أعلى مدارج العلم والمعرفة آناً واحداً فحصول العلم له تدريجى، أضف اليه أن التكاليف لابدو أن تلقى على المكلفين على كيفية لا توجب التمرد والطغيان منهم، ولذا ترى بأن تبليغ الخلافة كان آخر ما بلغه النبی (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في رسالته الربانية ومع ذلك ترى أن بعضا من المعاندين قد استثقل ذلك وجحد وسأل بعذاب واقع من اللّه ليس له دافع، فقطع دابره بحمد للّه ولطف منه على أوليائه.

وبالجملة كان لنزول القرآن مراتب، فصح أنه نزل جملة واحدة وصح أنه نزل نجوم الاختلاف المرتبة كما قلنا، بل هناك نزول آخر حققناه في بحث التحريف و هو نزول المفهوم على المصداق الواقعي أو أكمل المصاديق، فراجع هذا المقام.

ص: 167


1- سورة المؤمنون، الاية ٢.

وأما الليلة التى نزل فيها، وهى ليلة القدر، فقد اختلفوا فيها وربما يظهر من بعض الروايات والادعية التى وردت فى جملة من الليالى أنها متعددة، فقد يظهر من بعض الروايات أن ليلة النصف من شعبان تقدر فيها الأمور، ومن بعضها أن ليلة تسع عشرة من رمضان تقدر فيها الامور، بل قد عرفت اختلاف المراتب في تفريق الامور تقديراً و امضاء و ابراما و انها توزع على الليالى الثلاث، ومن بعضها يظهر أن أفضل الليالي في السنة ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، وهي ليلة،الجهني، فقد يستفاد منه أن هذه الليلة هي ليلة القدر.

والتحقيق فى ذلك أن الليلة التي نزل فيها القرآن هى الليلة التي استشهد فيها على بن أبى طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهي ليلة احدى وعشرين من شهر اللّه الاعظم، دل على ذلك صحيح على بن أبى حمزة الثمالى المروى فى الكافي، و لكن ذلك لا ينافي تعدد ليالى القدر التي فيها تقدر الامور، اذ قد عرفت من الاخبار المتقدمة أن تقدير الامور انما هو على الترتيب، ففى ليلة تسعة عشر يكون التقدير وفى ليلة احدى و عشرين القضاء وفى ليلة ثلاث وعشرين الابرام.

ويبقى الكلام فى سر اختلاف مراتب التفريق و التقدير وعدم منافاة ماذكر مع جفاف القلم، فنقول : ان عناية اللّه تعالى بعباده أوجب المنة عليهم بالانعام والتكرم عليهم بالاحسان، فأفاض عليهم النعم ووعدهم باكثارها بالشكر بماله من المصاديق الكثيرة من التلفظ بالحمد الى صرف النعم في المشاريع المقررة لها شرعاً، وأمرهم بالدعاء زيادة للبركة وتوفيراً للنعمة، ولما كانت النعم في معرض الزوال بسبب الطغيان والعصيان، وكانت الغرائز البهيمية والسبعية تؤهل الانسان لقبول وساوس الشيطان المؤدية الى الوقوع في ورطة الذنوب، فتح اللّه سبحانه على المذنبين أبوابا من المغفرة والرضوان و من التوبة و التضرع اليه تعالى و جبران المعاصى و رد مظالم العباد اليهم وقضاء مافات من العبادات و أداء الحقوق الواجبة باقسامها، واذابة لحم نبت فى المعصية ونحو ذلك، مما هو مذكور فى الكتب المعتبرة ومستفاد من الاخبار الكثيرة فاللّه سبحانه زيادة للافضال وتتميما

ص: 168

للاكرام فتح أبواباً متفرقة على العباد الى الخيرات، فقرر أزمنة خاصة و أمكنة مخصوصة وأعمالا صالحة وأدعية شاملة لانواع التضرعات والطلبات.

فترى أن اللّه تعالى جعل كل آن من الانات ليلا ونهاراً زمان الرجوع اليه وطلب الحاجة منه وجعل الاسحارر بيعاً للابرار و موعداً للاخيار لمناجاته والاستغفار، وجعل كل ما قرب الى الفجر أفضل من غيره وجعل ليلة الجمعة ويوم الجمعة وعشيتها ميقات للتوبة وزمانا لطلب الحاجة، وجعل ثلاثة أشهر أزمنة للعابدين ومواقيت للتائبين، وقد ألف علماؤنا كتباً عديدة لاعمال تلك الاشهر الثلاثة، وجعل شهر رمضان منسوباً الى ذاته المقدمة مع أن الزمان معيار انتزاعي للحركات والمتحركات ومع أن كل زمان منه وبه وله، وجعل ليالى القدر أفضل من غيرها حتى وصلت نوبة التفضيل الى أفضل تلك الليالى وأنها هل هي ليلة احدى وعشرين كماهو الراجح بنظرنا، أوليلة ثلاث و عشرين كما عن بعض علمائنا، و من هنا تعرف أن سر اختفائها أو اخفائها من المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها كما في رواية حسان بن مهران ورواية الثمالى انما هو ترغيب المشتاقين الى رحمة رب العالمين وعدم اكتفائهم بليلة واحدة في الاتيان بالاعمال الصالحة والتوبة والانابة، فترى أن المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول بانه ما أيسر ليلتين، ويتفرع على هذا أن اللّه سبحانه يقدر المقادير في ليلة ويمن على عباده بتوسيع المجال لطلب المغفرة والبركة وغفران السيئة ودفع البلية فى ليلة أخرى، وهكذا فتعدد الليالي وكونها ثلاثة أو أزيد فى تقدير الامور لاينافى وحدة الليلة المباركة التي نزل القرآن فيها.

ويبقى الكلام فى جفاف القلم وعدم منافاته مع التقدير.

فنقول توضيحاً لما سبق : ان علمه تعالى بالاشياء لاينافی تقدیراته لان معنی التقدير جعل مقتض لشيء أو شرط له أو مانع عنه فاذا تحقق المقتضى و الشرط ولم يكن هناك مانع، وجدالمقتضى (بالفتح) واذا فقد المقتضى أو الشرط أو وجد المانع لم يوجد المقتضى (بالفتح) وكل ذلك معلوم عند اللّه أزلا، فلنفرض ان لمقدار من الرزق مقتض وهو الحياة مثلا ولزيادته مقتض آخر کالانفاق في سبيل اللّه، ولفعليته مانع وهو نهر السائل وهكذا كان لمقدار من العمر مقتض و لزيادته مقتض آخر

ص: 169

ولنقصه مانع.

وعلى هذا فيكون زيادة الرزق أو نقصه وكذا زيادة العمر أو نقصه لما ذكرنا، وينقسم –لذلك- الاجل الى معلق و محتوم، ولاينافى هذا التقسيم قول اللّه تعالى (1) : «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ»، اذكل ذلك كان معلوماً عند اللّه أزلا، ولا ينافي اختيار العبد جزماً (2) : «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ».

فعلى الخبير أن يغتنم الفرصة ويأتى بالطاعه ويجتنب المعصية ولا يغتر بما قرع سمعه من جفاف القلم اذ من الواضح أن سعيه سوف يرى.

وفقنا اللّه للعمل الصالح و الانابة اليه، وصلى اللّه على محمد و آله الطاهرين والحمد للّه رب العالمين (3) : «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

ص: 170


1- الاعراف، الاية 34.
2- الرعد، الاية ٣٩.
3- البقرة الاية 127.

الفهرس

الصفحة/ العنوان / المطالب

2 - / الأمر الأول : / 1 _ اختلاف الفرق الاسلامية في كيفية التفسير (١) أهل السنة (2) الوهابية (3) الخوارج (4) الاصوليون من الشيعة الامامية (5) الاخباريون من الشيعة.

٢- الخبر الموثوق به حجة عقلائية لا تعبدية.

3- ظواهر الالفاظ حجة ومنها ظواهر القرآن.

4 - استدلال الاخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن بأمرين والجواب عنهم.

20- / الامر الثانى : / ١- التدبر في القرآن ٢- الهداية ومراتبها

25- / الامر الثالث: ١- التفسير، موارده، وجوب رعاية فهم الالفاظ والتراكيب الكلامية والاطلاع على الحقائق وأنواع المجازات -اللفظية الاسنادية - العقلية.

٢ - الفرق بين التفسير والتأويل.

33- / الامر الرابع: / القراءات وما يتعلق بها 1 - جدول القراء ٢ - تواتر القراءات السبع -؟ 3- تواتر الموجود ؟ ٣- القراءات من اللّه كلها أم لا 5 - هل هي حجة بأجمعها ؟ 6 _ هل يعامل مع القراءتين معاملة المتعارضين ؟

62 - / الأمر الخامس: / امتناع وقوع التحريف فى القرآن 1 -تعريف التحريف 2 - ثمرة البحث ؟ ٣ - القول بالتحريف باطل غير مضر 4- ولا يخل بالمذهب 5 - أدلة القائلين بالتحريف 6- أدلة القائلين بعدم التحريف 7 - التحقيق في المقام.

114 - / الأمر السادس: / تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ١- هل للعام صيغة خاصة؟ ٢- الحكومات وأنواعها، ٣- أقوال العلماء.

١٣٠- الامر السابع: هل يجوز نسخ الكتاب بالخبر الواحد ١- تعريف النسخ لغة

ص: 171

الصفحة / العنوان / المطالب

2 - تعريفه اصطلاحاً ٣ - أقوال العلماء في النسخ 4- التحقيق فى موارد النسخ 5- لم ينسخ القرآن بالخبر الواحد

160 - الامر الثامن: كيفية نزول القرآن 1 -تعريف النزول و أنه ذو مراتب ٢ - القرآن فعل و ليس بصفة ٣ - عدم منافاة جفاف قلم التقدير مع تأثير أفعال العباد خيراً وشراً 4_ أقوال العلماء في نزول القرآن.

ص: 172

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.