المختار في الجبر و الاختيار

هوية الکتاب

المُختارُ فِي الجَبرُ و الاِختيار

تقريراً البحث سماحه آية الله العظمى السَيّد عَلى العَلّامة الفاني الأصفهاني دام ظله العالی

بقلم: السيّد محمد علی الصّادقی

الطّبعة الثّانية: 1394

ص: 1

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العلي عن شبه المخلوقين ، الغالب لمقال الواصفين ، القادر بكمال ذاته وحسن اختياره على ايجاد المختارين ، المنزه بكمال عدله عن تكليف المجبورين ، المتعالى بدوام فيضه عن تفويض أزمة الامور بيد الموجودين ، الفياض بكمال قدرته على اهل السموات والأرضين ، والصلاة والسلام على من خصه بالخاتمية للمرسلين، والأشرفية على الخلائق اجمعين وعلى وصيه وابن عمه على أمير المؤمنين ، واوصيائه المعصومين . وبعد فلما بلغ بحثنا في الأصول فى باب الطلب والارادة الى ما يناسب مسألة الجبر والتفويض ، وكان ذلك مصادفاً لأيام التعطيل سألت سيدي الأستاذ المتبحر فى المعقول والمنقول صاحب النفس الفدسية والملكات الفاضلة حجة الاسلام والمسلمين الآغا مير سيد علي العلامة الفاني مد ظله العالي ابن المرحوم العلام الفهام الحاج سيد محمد حسن اليزدي الشهير بفاني قدس سره أن ینقح في تلك الأيام هذه المسألة التى هي محط انظار الفطاحل من المحققين ، وقد زلت فيها اقدام الأكثرين مع بذلهم غاية الجهد ليكونوا من الواصلين الى صراح الحق وحق اليقين ويكشف النقاب عن وجه الحق ببيانه المتين على

ص: 2

نهج ما صنعه في بحث كلامه من التعرض لاستدلالات العمد من الباحثين والاستشهاد المختاره بالأدلة العقلية والنقلية من السنة والكتاب المبين ، فأجاب أدام الله أيام افاضاته الى ذلك تفضلا علي واداء لحق العلم والدين فشكر الله تعالى مساعيه وجعل افاضاته عامة للطالبين ووفقهم وإياي للاستفاضة من اشراقات انوار علومه كما ينبغي للخائضين في بحار علوم آل محمد المنتجبين عليه وعليهم صلوات المصلين ، فالزمت نفسي تغرير ابحاثه الشريفة وتحرير دقائقه اللطيفة في رسالة مفردة لتكون تذكرة لي وتبصرة لغيري واسأل الله تعالى أن يجعلها ذخراً ليوم فاقتى وسميتها «بالمختار في الجبر والاختيار» ورتبتها على مقدمات وفصول وخاتمة والله ولي التوفيق

محمد علي بن محمد صادق المدعو

بمير محمد صادقي

ص: 3

المقدمة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

لا ريب في أن الله تعالى موجد للاشياء ومبدع لها لكونها مسبوقة بالعدم واحتياجها اليه في الوجود احتياج الوجود الى ما منه الوجود ، ومعنى ابداعه لها ايجاده لها لا عن شيء حيث أن الايجاد من شيء يكون شأن ما به الوجود وهو مناف لاستناد وجود الاشياء اليه وكونه خالقاً لها فكان الله ولم يكن معه شيء ليكون نشو الموجودات عن ذلك الشيء ، ولذا قيل معنى قوله : فطر السموات خلق خلفاً هو السماوات لا انها كانت شيئاً فقطرها وجعلها سماوات ، نعم إنما أوج--د وجودات مختلفة في الحظوظ الوجودية بحيث يصدق الوجود عليها على نحو التشكيك وترتسم من كل منها في الحس المشترك صورة تبقى في خزانة العقل ولا جل اختلاف مناشئ هذه الصور اعني الوجودات الخارجية بحسب الحظوظ تختلف تلك الصور بحسب الحدود ، وتكون لا محالة وجودات ذهنية متباينة يسمى كل باسم خاص يقال في جواب ما هو عن كل من الحظوظ ، فتلك الصور المنتزعة عن الوجودات هي المسماة بالمهيات وهي متأخرة طبعاً عن نفس الوجودات إذ لو لا وجود خاص خارجي لما أمكن للحس المشترك أخذ صورة منه وللعقل تحليلها وتحديدها بجنس وفصل مثلا ، نعم ربما يلفق الذهن بين الحدود المنتزعة عن الموجودات بعضها مع بعض ويجعله مهية مستقلة متباينة مع سائر المهيات فهذه الماهية التعملية ولو لم يكن لها مطابق إلا انها تعملت من الوجود وببركته فاذا المهية ليست إلا محدد الوجود ومعين حظه ، وجملة القول : ان المهية ليست شيئاً في الخارج وراء الوجود كي يقع معروضاً له وإنما هي متأخرة عنه واقعاً منتزعة منه عقلا ولو تقدمت عليه عقداً في وعاء الحمل ، ومجرد حمل الوجود على المهية لا يدل على تقرر المهية وعروض الوجود

ص: 4

لها في الخارج إذ الحمل إنما هو بلحاظ عتمد القضية وفى عالم العقمل والمصحح له بيان كون الموضوع حد وجود المحمول وهو المأخوذ من نفس حظه الوجودي فقيام الماهية بالوجود قيام انتزاعي بل تحديدي فتفطن مثلا صورة حيوان ناطق أخذت من نفس الحظ الوجودي للانسان وحملت عليه اشارة الى ذلك الحظ وتعيينه ، ولذا صرح (1)من قال بعروض الوجود للمهية انه عارض لها تصوراً وبحسب الوعاء العقلاني وانهما اتحدا هوية وخارجا وكذا صرح الصدر الشيرازي (قده) في بعض كلماته (2)في الاستمار بأن كون الوجود صفة للاشياء ليس على نحو الحقيقة ، وفي آخران المهيات هي مرايا ومظاهر للوجود .

والسر فيما ذكراه هو ما قدمناه من تأخر المهية عن الوجود وعدم تعددها خارجا وعدم اقتضاء الحمل لذلك ، فما ذكره (3)الفاضل القزويني (قده) في نور البصر : من ان الوجود ليس له تأصل وقوام بنفسه لوقوعه صفة والماهية ايضاً بما هي ليست شيئاً لتكون هي المتأصلة ويكون قوامه بها ولو كان قوامه بالمهية بما هي موجودة لزم التسلسل فلابد من قوام المهيات متأصل بالذات هو ذاته المقدسة تبارك وتعالى وبنى على ذلك الاستعداد الماهوي بمراحل من الوهن إذ المراد بعدم تأصل الوجود وعدم قوامه بنفسه لو كان هو في مرحلة التحقق فهو فاسد ، لأن تحقق كل متحقق بالوجود فكيف لا تحقق ولا قوام له بنفسه ، ولذا يكون مغاد الوجود موجود قيامه بنفسه بالقيام العينى، وبالجملة الوجدان أقوى شاهد على خلاف هذه الدعوى وأما وقوعه

ص: 5


1- هو الحكيم السبزواري قده
2- فى الفصل الخامس من المنهج الأول من المرحلة الأولى من السفر الأول .
3- قد لخصنا مقدمته الاولى بما في المتن فراجع . الصحف البحرمانية

صفة للمهيات فهو في عقد الحمل للغرض المذكور وليس على حقيقته كما عرفت من الصدر الشيرازي (قده) فلا يكون دليلا على قوامه بها المستلزم لقوامها بمحل متأصل للا شيئيتها الواقعية فلم يثبت وراء الوجود شيء يكون معروضاً للوجود متقرراً قبله بالتقرر الماهوي ولو في الصفع (1)الربوبي إذ لو كان المراد بتقرر المهيات في الصقع الربوبي هو ثبوت موجبات ايجاد الموجودات في ذاته المقدسة أعني صفاته الجلالية والجمالية والكمالية التي هي عين ذاته البحتة البسيطة من العلم والقدرة والحيوة ونحوها فهو أولا ، لا يثبت ما هو المراد بالمهية على ما فسرها به الصدر الشيرازي (قده) في بعض كلماته في الأسفار من انها لا موجودة ولا معدومة متمثلا بقول الشاعر:

ص: 6


1- قولنا في الصقع الربوبى : لكن لا ينافي ذلك التقدير الإلهى وعلمه بالأشياء قبل كونها لأن الكلام في المقام إنما هو في نفي ذاتية المهيات لها وضرورة تقررها وعدم مجعوليتها ويشهد بل يدل على ما ذكرنا من عدم التقرر الماهوى قول علي عليه السلام فى بعض خطبه : لم يخلق الاشياء من اصول أزلية ولا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده وصور ما صور فاحسن صورته الخ وقال بعض الشراح هو الفاضل محمد جعفر بن محمد باقر القراجه داغى الأهرى ره : هذا تصريح فى ابطال قول من ذهب الى اثبات الاعيان الثابتات المندرجة في غيب الذات إندراج اللوازم في الملزومات والشجرة في النواة ويعبرون عنها بالحروف العاليات وشؤونات الذات كما قال الشاعر : كنا حروفاً عاليات لم نزل *** متعلقات في ذرى أعلى القلل الى آخر الأبيات . أقول وكذا يظهر منه ما قلنا من نفى تقرر المهيات في ذاك الصفع الشاخ وكون الخلق عبارة عن الايجاد، والتقدير عبارة عن خلق المحدود مع العلم بحده فتأمل .

سیه روی زممکن در دو عالم *** جدا هرگز نشد والله اعلم

ضرورة ان موجبات الايجاد إنما هي حظوظ وجودية متحدة مع ذاته المقدسة بنحو العينية والبساطة والبحثية فليس وراء ذاته وصفاته التي هي عين ذاته شيء يسمى بالمهية ، وثانياً لا يثبت لوازم المهية التي صرح بها الصدر الشيرازي قده (1)وغيره من فحول الفلاسفة من اللا اقتضائية بالنسبة الى الوجود والعدم واستناد الشرور والاعدام اليها بحيث لا يبقى مجال للسؤال عنها بكيف وبم ولم ومطالبة الوجود من واهبه بلسان الاستعداد الماهوي .

ولو كان المراد بتقررها في ذلك هو تقرر صور الموجودات في الصقع الربوبي فان أريد من الصور (2)عامه تعالى بذاته الذي هو علم بقدرته الغير المتناهية على ايجادات مختلفة الحدود والآثار كما يكشف عنه قوله (علیه السّلام) : علمه بها - أي بالأشياء - قبل كونها كعلمه بها بعد كونها فهو ايضاً لا يثبت المهية ولا لوازمها لعينية العلم مع ذاته البحتة البسيطة فلا برهان على تقرر شيء وراء ذاته المقدسة وصفاته التي هي عين ذاته ، وان اريد منها تقررها في مرحلة متأخرة عن الذات بمقتضى خسة المهية وانغمارها في الابهام والظلمة فلا نعقل هناك شيئاً وراء الذات والصفات يسمى بالمهية ولا برهان يقتضي ذلك بل دعوى تقررها مصادرة محضة يكذبها الوجدان والبداهة .

فتلخص ان ثبوت المهيات وتقررها الماهوي قبل الايجاد في وعاء مناسب لها كي تقع معروضة للوجود لا برهان عليه وان أصر عليه فحول الفلاسفة بل أرسلوه إرسال المسلمات وعدوه في الفلسفة من البديهيات

ص: 7


1- في بحث دخول الشرقى القضاء الإلهي .
2- لا بد وأن يكون هذا المعنى مراداً من العلم الاجمالي في عين الكشف التفصيلي .

فالانصاف انه من أغلاط الفلسفة فبطل الفول (1)بالتقرر الماهوي وظهر فساد : إن الناس معادن كمادن الذهب والفضة بمعنى استناد الشرور والاعدام والكفر والعصيان الى المهيات وان الذاتي لا يملل ولا يسئل عنه بل ليس لنا فى شيء من الأوعية الثلثة من الذهن والخارج والاعتبار سوى الوجود فما سموه ماهية فهو وجود غاية الأمر وجود ذهني ، ولذا قال في المنظومة من أن تجريد المهية عن الوجود تحلية لها به وتحققه في موطن الذهن إنما هو بالتصور بالنسبة الينا وبالنسبة اليه تعالى عين علمه بذاته فلا تقرر ذاتي لها بلا احتياج الى الجمل ويشهد لما ذكرنا ايضاً أن الصدر الشيرازي (قده) قال في جواب شيخ الاشراق الفائل بتأصل المهية : ان الوجود أمر عيني بالذات صبح اطلاق المشتق اللغوي عليه أم لا فاذا قيل كذا موجود لا يراد منه كون الوجود زائداً على كذا لتكون هناك ماهية يعرضها الوجود خارجاً بل الماهية أمر ربما يكون وربما لا يكون كما في واجب الوجود الذي مهيته أنيته وتمضية الحمل بمجردها لا تكاد تكشف عن التعدد والعروض لاشتراك الوجود بين القسمين بل لا بد فى اثبات المهية من التماس دليل أخر انتهى.

وحينئذ نقول أن حمل الوجود على الشيء في مثل الانسان موجود لا يقتضي كونه صفة للشيء وزيادته على الموضوع وتعددهما وكونهما من قبيل العارض والمعروض ، وإلا لاقتضى كونهما كذلك في مثل الله موجود والوجود موجود أيضاً واتحادها بنحو العينية وعدم تفاوت بينهما إلا بحسب الاعتبار المصحح والكافى فى الحمل بديهي في المثالين فيكشف عن عدم

ص: 8


1- بل الأدلة على تغاير الوجود والمهية لا تفيد أزيد من التغاير المفهومى لا الحقيقى

اقتضاء الحمل للصفتية والزيادة كي تكون برهاناً للتقرر الماهوي وتحققها في وعاما قبل الوجود وعروضه عليها بل الحمل في المثالين سما الثاني دليل على قوام الوجود بنفسه وكونه أمراً عينياً بذاته وان المبهية محددة في مورد الاحتياج الى الحد لا في مورد عدم معقولية المحد كوجود واجب الوجود.

ثم لا يخفى أن ما نحن بصدده من انكار شيء مّا مع قطع النظر عن التعين الخارجي للأشياء غير مرتبط مسئلة اصالة المهية واصالة الوجود بل يجري على كليهما فلو قلنا بتأصل المهية يكون تحققها بنفسها وقوامها بذاتها خارجا ويكون الوجود أمراً اعتباريا متفرعاً عليها لا شيئاً في قبالها وإن قلنا بتأصل الوجود كما هو الحق يكون هو المتحقق بذاته والقائم بنفسه خارجا وتكون المهية أمراً اعتبارياً متفرعا عليه والمدعى حينئذ هو ان المهية عبارة عن صورة ذهنية منتزعة عن حظوظ الوجودات الخارجية وحدودها بعد التفات العقل اليها او التلفيق بين بعضها مع بعض وليست أمراً معروضاً للوجود خارجا بل ذهناً اعتباراً للغرض المذكور إذ هي بنفسها وجود ذهني ، ولا أمراً عينياً متقرراً قبل الوجود معروضا له خارجا ولا يمكن جعلها عبارة عن الحدود العدمية لتلك الوجودات بداهة ان العدم من حيث هو ليس شيئاً كي يقع معروضاً للوجود على ان المهيات على القول بثبوتها وتقررها خارجا متباينة مختلفة بها يحصل الميز بين الوجودات المتباينة والضرورة قاضية بأنه لا ميز فى الاعدام من حيث العدم كما إنها قاضية بانها لا تكاد تكون مميزة كما لا يمكن جعلها عبارة عن الصور المتقررة في الصقع الربوبي لأنه عز وجل غير متناه وهي متنامية بداهة استحالة تقرر المتناهي فى غير المتناهي مضافاً الى استلزامه العروض بل التركب في ذاته المقدسة وهو خروج عن كونه غير متناه وعلى تقدير اتحادها معها بنحو العينية

ص: 9

خرجت عن كونها متناهية وأموراً زائدة على ذاته المقدسة وصفاته التي هي عين ذاته كي تصلح لأن تقع معروضة للوجود وتستند اليها الشرور والاعدام والكفر والعصيان وتكون منجعلة غير قابلة للجعل البسيط ولا التأليفي بجعل الذات وذاتياته ذاتاً بدعوى ضرورة استحالة جعل المنجعل أي جعل الشيء نفسه كما لا يمكن جعلها صوراً متأخرة عن الذات الربوبي إذ لا برهان على تقررها وثبوتها كذلك فتلخص أن القول بالتقرر الماهوي قبل الوجود ولو في الصقع الربوبي بحيث لا يملل صدور شيء عنها لكونه ذاتياً لها حديث شعري ساقط من رأسه . وأغرب من ذلك القول بأنها كانت تطلب الوجود من واهبه وتقتضيه فهي قابلة لأن تصير واجبة الوجود بالغير وهل القابلية والاقتضاء إلا أمراً وجودياً فكيف يعتمل انصاف الاعدام بما هي اعدام بها فهذه كلها أقوال بلا برهان ودعاوي مجردة ومصادرات محضة لم يأتوا عليها بسلطان بل الماهية من حيث هي ليست هي موجوده

ان هي إلا اسماء سميتموها انتم وآبائكم وإنما المفيض على الاطلاق قد افاض الوجود وأبدعه وأوجد وجودات مختلفة بحسب مراتب الوجود وحظوظه فبعد تحققها وتكونها قد أدرك العقل منها معقولا ثانياً وانتزع الذهن منها صورة بها يشار الى تلك الحظوظ وتعين تلك الحدود وبنفس تلك الحظوظ الوجودية ومراتبها يمتاز بعضها عن بعض وأما قبل إيجادهاو تكوينها فقد كان الله ولم يكن معه شيء :

ما نبودیم و تقاضامان نبود *** فيض تو بخشید بر ماها وجود

فبطل الفول بتقرر المهية وصفتية الوجود وعروضه لها الذي هو أساس المسألة عند الفاضل الغزويني ( قده ) فانه قد بنى مقدمات المسألة على المقدمة الأولى وجميع هذه المقدمة على هذه الكلمة أعني كون

ص: 10

الوجود صفة للمهية بمقتضى حمله عليها كما انه بي لزوم قوامها بمتأصل ذاتي على انها من حيث هي ليست شيئاً فلا بد وان تستند في التقرر الى ذاته المقدسة وإذ قد ظهر فسادكون الوجود صفة للمبية واتضح كونه قائماً بنفسه انقدح فساد جميع ابتنائاته ولوازمها فافهم وخذه واغتنم .

تنبيه - ولقد اعجب (1)في الايقاظات بجعله النسبة التأليفمية بين المهيات ولوازمها ذاتية لها فراراً عن بعض ما اشكلنا على ذلك الأساس إذ التقرر للملزوم واللازم اذا كان بحسب التقدير والجمل فلا جرم يكون (2)اللزوم بحسبه وهل انفكاك الربط عنها إلا خروجاً عن كونها ملزوماً ولازما وهل لا يكون هذا كراً على مافر من ان العدم ولو كان معاد الهيئة التأليفية المتمدية صريح فى الابهام غير مؤثر في أي ما يتصور ولو في الاوهام او هل أتى لاستعداد العدم بما هو عدم ببرهان.

ص: 11


1- سلطان الحكماء والمحققين السيد محمد باقر الداماد « قده ، ص217
2- وقال فى الوميض الثامن من تختمة القبس العاشر من قبساته فاذن الشرور والنقائص كلها من جانب المعلول القابل ونقص ذاته وسوء استحقاقه استعداده الى أن قال : ولازم المهية في عالم الإمكان مطلقاً هو مفاد الهيئة العقدية من حيث النسبة الارتباطية بما هى نسبة ارتباطية بين الحاشيتين ككون الأربعة زوجاً والثلثة فرداً فحصوله الرابطى اعنى تخالط الحاشيتين معلول نفس المهية ومقتضاها بالذات وأما مفهومه بحقيقته التصورية كحقيقة الزوجية والفردية مثلا فمجعول صنع الجاعل الحق الفعال كسائر الحقائق الجائزة والميات الممكنة الخ فافهم لعل ذكائك يسحبك الى تفطن ما عجزنا عنه بل اشكلنا عليه.

المقدمة الثانية

إن افراد كل نوع من جهة علل قوامها النوعية والقوى التي لها دخل في نوعيتها على حد سواء بمعنى انه ليس في شيء من تلك الأفراد كأفراد الانسان مثلا نقص من جهه المقتضيات النوعية بهيمية او ملكوتية كالشهوة والعقل وغيرهما فما استودع فى النطفة من بدو تكونها وسيرها في مراتب الاشتداد والنمو ومراحل التعالي والتكامل إلى آخر مرحلة الاشتداد الوجودي والوصول الى آخر مرتبة الكمال الانساني قد استودع في كل فرد من افراد النوع من غير نقيصة في شيء منها بالنسبة الى فرديما فلو وقع انحراف في ذلك السير بالنسبة الى بعض الافراد ولم يصل الى حد كماله او وقع نقص في بعض القوى الظاهرية او الباطنية كان مستنداً الى حدوث مانع عن ذلك ولو لقصور الآباء والأمهات او تقصيرهم في أمرها .

نعم ربما يزداد الحظ الوجودي لبعض الأفراد في بعض القوى او جميعها على الأخر وتشتد مرتبة وجوده الفردي ولكن لا يوجب وجدانها مباينة نوعية للواجد عن الفاقد ولا يضر فقدانها بفردية الفاقد للنوع فما عليه الأنبياء والأوصياء روحي لهم الفداء من المراتب العالية والمدارج السامية العقلية لا يجعلهم نوعاً آخر من الانسان مستقلا لاستواء الكل في علل قوام النوعية اشتدت الحظوظ أم ضعفت ، وإنما (1)أفاض الفياض

ص: 12


1- قولنا وإنما الى قولنا بعدم علته اشارة الى أن التفاوت فى القوى شدة وضعفاً ليس تفاوتا فيها وجوداً وعدماً فلا يستلزم التعدد بالنوع واشارة ايضا الى دفع دخل مقدر وهو لزوم الجبر بناء على اختلاف الحظوظ وجه الإشارة ان الجبر فى التكوين لأوله الى العدم بعدم العلة لا ضير فيه حيث ان - اعطاء الوجود فيض وأما عدمه فهو مستند الى عدم وجود علته فتأمل تعرف

المطلق هذه الشدة الوجودية فى بعض الأفراد ابرازاً لقدرته الغير المتناهية واظهار السلطنته المطلقة وابتهاجاً بذاته لذاته وربما لمصالح مختفية علينا وأما نقصان سائر الأفراد الفاقدة لذلك الحظ والمرتبة من الوجود فليس شيئاً وجودياً يحتاج الى الموجد ويستند اليه تعالى بل هو عدم بعدم علته. وبالجملة ان افراد نوع ما كالانسان باجمعها متساوية الاقدام في الواجدية للقوى النوعية وعلل قوامها التي بها يتعلق بهم التكليف وتكون ملاكاً لتوجيه الخطاب اليهم وجداناً وبرهانا . أما الأول فلما نشاهد من الآثار النوعية في كل فرد من افراده و بروز آثار كل واحدة من القوى النوعية كل واحد من تلك الأفرادبهيمية كانت كالشهوة والغضب أم ملكوتية كالعلم والعدالة فاذن أصول القوى مودعة في الافراد بأجمعهم ، نعم ربما يكون بعض الأفراد واجداً المراتب عالية من تلك التقوى كالنبي والوصي صلى الله عليهما وآلهما وبعض الأفراد يمنع عن واجديته لها كملا بعض القواسر(1)، ولا ضير فى القسمين فيما نحن بصدده ، وأما الثاني فلأن ما هو ملاك التكليف وتوجيه الخطاب من تلك القوى لو كانت موجودة في بعضها دون بعض لأمتنع توجيهه الى الجميع على شرع سواء لاستقلال العقل بقبح جعله بالنسبة الى من انفقد فيه ملاكه واستحال منه امتثاله بمقتضى جبلة ذاته فالنبي والوصي عليه و آلها صلوات الله كغيرهما من أفراد الانسان حتى الكافر والعاصي فى وجود ملاك التكليف وعدم خصوصية تقتضي الطاعة دون العصيان والسعادة دون الشقاوة . فما ذكره الفاضل القزويني (قده) في مقدمته (2)الرابعة من ان اختلاف الارواح البشرية بحسب

ص: 13


1- المواقع
2- لخصناها كسابقتها فراجج

القرب والبعد الماهوي من الذات الربوبي جل وعلا أوجب اختلافهم في السعادة والشقاوة والطاعة والعصيان وإن لم يكن بينهم من جهة أصل الارواح ووجودها تفاوت و اختلاف فما كان من الارواح قريبا من حيث المهية بذاته المقدسة كان في عالم الوجود سعيداً ومطيعاً وما كان منها بعيداً من هذه الحيثية عن ذاته المقدسة كان شقياً وعاصياً او كافراً. انتهى ملخصه.

مما لا يساعده البرهان لما عرفت من أن المهية من حيث هي ليست في شئ كي توجب الاختلاف فضلا عن تقررها في الصقع الربوبي فضلا عن اختلافها بحسب الغرب والبعد الى ذاته المقدسة إذ مع فرض تقرر جميع المهيات في مرتبة الذات لا معنى لاختلافها قرباً وبعداً من الذات كما لا معنى له على فرض تقررها في مرتبة متأخرة عن الذات ايضا.

وبالجملة بعد ما عرفت من عدم البرهان على أصل المهية وتقررها فضلا عن لوازمها اتضح لك فساد امثال تلك الدعاوي فتدبره فانه حقيق به

ص: 14

المقدمة الثالثة

السعادة والشقاوة عقلا و نقلا وصفان انتزاعيان عن الأعمال الحسنة والأفعال القبيحة الصادرة عن الانسان بمقتضى الملكات المكتسبة. الفاضلة او الرذيلة من دون اختصاص أحدهما بشخص دون آخر بحسب أصل الذات وذلك لما عرفت في المقدمة السابقة من تساوي افراد الانسان من حيث الواجدية للقوى التي هي المقتضيات لصدور الافعال عنها فمن اعمال تلك القوى في السبل والمجاري المشروعة ينتزع وصف السعادة ومن اعمالها في السبل والمجاري الغير المشروعة ينتزع وصف الشقاوة وكما ان وجود تلك القوى والمقتضيات بالنسبة الى جميع الأفراد على شرع سواء كذلك امكان تحقق كل من الوصفين باعمالها في كل من السبيلين من دون تفاوت بحسب اصل الذات في فرد من الأفراد ، وليس الوصفان مصنفين لحقيقة الانسان الى سعيد وشقي بأن يكون كل من الصنمين كالطبيعة الثانية للانسان فيتضادان ولا يجتمعان إذمع عدم دخل المصنف في الذاتى هو خلاف تساوى الافراد في المقتضيات والقوى كما انه خلاف العدل في التشريع وتوجيه الأوامر والنواهي نحو الجميع ضرورة تحتمق الطاعات من الصعيد عليهذا لا محالة كعدم تحقق كذلك فلا يحتاج في شيء منها الى البعث والردع ويكون جعل الأوامر والنواهى المولوية بالنسبة اليه لغواً قبيحاً بل طلباً للحاصل وزجراً عن المتروك ومحالا وهكذا بالنسبة الى الشقي ضرورة عدم تحقق الاولى وتحقق الثانية منه على هذا لا محالة فيكون بعثه نحو الاولى وزجره عن الثانية لغواً وبلا فائدة بل زجره عن الثانية ردعاً عن الحاصل المحال وهذا المحذور كما يجري مع كون السعادة والشقاوة من ذاتياتهما

ص: 15

كذلك يتطرق مع يتطرق مع اختصاص كل من الوصفين بكل من الصنفين من حيث الاقتضاء ايضاً ، لأن الأوامر والنواهي وان كانت شرطاً لتحقق الطاعة والبعد عن المعصية بالنسبة الى المطيع ولكن لا تكون كذلك بالنسبة الى العاصي ويعود محذور اللغوية ، فلم يبق بحسب الوجدان و مقتضى البرهان سوى كونها وصفين انتزاعيين فى طول تحقق الافعال الحسنة والاعمال السيئة من دون أن يكون لها مطابق في موطن الذات بحسب الجمل التكويني.

نعم لها منشأ انتزاع في موطن النفس هي الملكات المكتسبة الحاصلة من المارسة على الافعال والمزاولة للاعمال ان حسنة فاضلة وان سيئة فرذيلة فان صفات النفس الحاصلة من تزكيتها تارة ودستها أخرى على ما برهن في علم الاخلاق بين افراط وتفريط وحد وسط ولكل من المراتب الثلاث اسم خاص ، مثلا قد يمنع بعض المواقع الاختيارية عن اعمال القدرة في القوة الغضبية وتنميتها فتبقى في الخمول وتسمى الحالة الحاصلة من ذلك بالجبن وقد يطلق عنانها من دون جعل حد لتنميتها وحصر الموارد اعمالها فتتجاوز عن حدها وتحصل حالة التهور ، وكل من القسمين من الرذائل ، وقد يكون اعمالها في موارد خاصة حكم بها العقل والشرع ويحتفظ عليها افراطاً وتغريها وتسمى حينئذ بالشجاعة وتكون من الفضائل كل ذلك مع عليم دخل ذاتیات فردما في الاختصاص بوصف مامتها وهكذا سائر الصفات.

فتلخص ان السعادة والشقاوة بحسب الوجدان وبمقتضى البرهان لا دخل لها في الذات والذاتيات بل هما وصفان اجتماعيان باعتبار الاعمال الصادرة عن الانسان وقد وافق النقل ذلك حيث ورد في الصحيح المروي في البحار في باب القضاء والقدر قوله عليه السلام : باعمالهم شقوا في جواب السؤال عن تفسير قوله تعالى :«ربنا غلبت علينا معقوتنا» فبطل

ص: 16

عقلا وتقلا قول من ادعى كون السعادة والشقاوة من الذاتيات الغير القابلة للتغير والتبدل.

المقدمة الرابعة

التشريع هو عبارة عن تعيين المجرى للقوى المودعة في النفس بلحاظ المصالح والمفاسد ، بمعنى ان الشرع لم يجعل لاجراء تلك القوى في مجاريها والانتفاع من مقتضياتها رادعا وعن الجري على وفقها ساداً بل لمكان اطلاعه على الواقعيات عين مجرى القوى فيما فيه حفظ سلسلة الوجود وانتمائها لا فيما فيه قطع السلسلة وانوقافها مثلا اعمال القوة الشهوية سفاحا مساوق مع اعمالها نكاحاً من حيث الالتذاذ النفساني وحصول مقتضاها كما وكيفاً لعدم الفرق بين الموردين من جهة اعمال القوة الفاعلية وترتب آثارها لمطلوبة الشهوية لكن لمكان قطع سلسلة الوجود بإعمالها في المجرى الاول ولو نوعا وبتمائها وازديادها باعمالها في المجرى الثاني أمر الشارع باعمالها فيه ومنع عن اعمالها فى الأول وقس عليها غيرها من القوى ومجاريها المشروعة بالنسبة الى غير المشروعة فما كان فيه خير ووجود قد عينه مجرى للقوى وطريقاً للوصول الى مقتضياتها وما كان فيه شر وعدم قد منع عن اختياره مجرى لها.

نعم ربما يحصل الشر من الوجود بجهته العلمية ويكون الخير وابقاء السلسلة حينئذ بتقطع ذلك الوجود الخاص كما في مورد وجوب القتل قصاصاً الذي فيه الحياة فيأمر به وربما يكون الشر أمراً عدمياً كالعزوبة الموجبة لعدم التناسل المستلزمة القطع سلسلة وجود الانساني فينهى عنها فالشرور

ص: 17

أعني المفاسد الكامنة في المنهيات عدمية والخيرات أعني المصالح الكامنة في الأمور المأمور بها وجودية ولعدم اطلاع العبد على تلك الخيرات والشرور المترتبة لا محالة على الافعال يصبح للشارع بتماعدة اللطف اعمال المولوية في تعيين المجاري للقوى والمنع عن اعمالها فى مجاري الشرور وسبلها ولذا قيل : بأن الشرعيات الطاف في العقليات ولا بد وان يراد منها ان الشرعيات موصلات مولوية الي المصالح وروادع مولوية عن المفاسد فهي ارشاد بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي .

المقدمة الخامسة

الموجود الامكاني بطرفيه من الحدوث والبناء وجميع شؤونه ومراتبه وحظوظه ولو بلغ من الشدة ما بلغ محتاج الى المؤثر غير مننمك عن العلة مقتضى كونه وجوداً بالغير كما هو معنى وجود الممكن عند كل أحد فني جميع انات وجوده واستمراره في عمود التحقق لا بد له من مفيض هو علية تامة له حدوثاً وبقاء ضرورة ان احتياج الوجود الامكاني الى الغير عقلا لا فرق فيه بين فرد و فرد و بد و وختام ، فهو قاعدة عملية غير قابلة للتخصيص إذ مقتضى طبع الوجود المعلولي الافتقار الي العلة.

نعم قد تشتبه العملة بالمعد في بعض المعلولات لقصور في التفطن او خناء في الملة فيتوهم ان المعد علة ويرى بتماء المعلول مع انتفاء الأول كالبناء بالنسبة الى البناء فيحكم بغناء الممكن في البقاء عن العلة وهذا وهم فاسد ، حيث ان الهيئة الخاصة الحاصلة من تشبك الاجرام وتركب الاجسام حافظة للبنية المخصوصة وفعل البناء معد لتحققها بلا دخل له في هذه البنية بتماء ،

ص: 18

وملخص القول : ان معارضة الوهم مع العقل في تطبيق القاعدة او تشخيص مصاديقها شيء وتخصيص قاعدة افتقار الممكن الى الموجب شيء آخر ، وفرق بين بينها .

المقدمة السادسة

قد عرفت ان الموجود الامكاني حدوثاً وبقاءٌ بجميع شؤونه وحظوظه في عمود التحقق محتاج الى العلة فاعلم ان الموجود بالتصور العقلاني على قسمين : واجب الوجود ، و ممكنه ، بمعنى ان للعقل ان يتصور ويفرض بالتأمل وجوداً مطلقاً صرفا خالياً عن شوب العدم لا تتطرق اليه حيثية من الحيثيات العدمية بجهة من الجهات ومعنى وجوب وجوده هو تمحضه في الوجود وصرافته له ولازم هذا الوجود عدم سبق عدم ولا وجود آخر عليه ، وإلا كان فاقداً لحظما من الوجود و ناقصا من جهته ، فما فرض خالياً عن شوب العدم كان مشوبا به و هذا خلف كما ان لازمه لعين ماذكر هو اللانهائية وعدم لحوق العدم به فيكون أولا بلا ابتداء وآخراً بلا انتهاء وبعبارة أخرى أزلياً وأبدياً وكذا لابد وان يكون كل ما يتصور من المعاني الوجودية موجودة فيه بنحو الصرافة والعينية لا الشوب فكل اسم جلالي وجمالي وكمالي مشير الى جهة من الجهات الوجودية بلا انسحاب حكم نفس الجهتية الى الذات المقدسة المشار اليها ، وإن شئت قلت : ما عدا لفظ الجلالة وما يشابهه فى المفهوم له جهة قصور مفهومي من حيث الاشارة الى جميع الكمالات فالواجب ذاتاً منزّه عن جميع شوائب الاعدام وقدُّوس عما يتصور من السلوب ، عدا ما كانت مشيرة الى الصرافة فمعنى كونه واجب

ص: 19

الوجود بالذات انه وجود كله على كله قدرة كله ، وهكذا لا ان الوجوب أمر وراء الوجود ولازمه ايضا استحالة تكرره وامتناع العدل له إذ كلما فرض ثانيا وتوهم كونه عدلا لذاك الوجود يكون لدى التأمل العقلاني هو هو لا غيره ، ولذا كان أحد أسمائه تعالى : يا من لا هو إلا هو ، إذ الهوهوية اشارة الى الغيب المنيع الذي لا غيب فوقه ، ومقتضاه استحالة الح----د له إذ بالحد يتنزل عن الغيب و يقمع في ساهرة الاحاطة وبه يمكن فرض العدل فامتناع الثاني منتزع عن الوجود الواجي من دون أن يكون لعنوان الامتناع معنون خارجا ، بمعنى ان المقل بعد در كه التصديقي لذاك الوجود انتزع من نفس صرافة الوجود وشدته ماهية وادرك امتناع تحققها ووجودها خارجا فقضية شريك الباري ممتنع قضية لا موضوع ولا محمول لها خارجا بلا منافاة لقاعدة ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ضرورة كفاية تقررما ولو بحسب عالم الوهم في صدق القاعدة ، كما ان للعقل بع---د تصور مفهوم الوجود انتزاع حدود متفاوتة شدة وضعفاً وجعل كل حد ماهية خاصة والحكم بامكان وجوده الغير المنافي لساحة قداسة الواجب ، حيث لا يكون ثانياً له بل فى طوله وببركته وما ذكرنا من انتزاع المهية الممتنعة والممكنة من نفس تعقل الوجود الوجوبي لا ينافي ما قدمنا في المقدمة الأولى من انكار تقررها في وعاء من الأوعية قبل الوجود ولا بلحاظه لأن ما انكرنا إنما هو تقررها مع قطع النظر عن الجاعل ، وما ندعيه فعلا تقررها بالنظر الى الوجود الذهني و بفرض الفارض وهذا كما ترى بمكان من الامكان وليس فيه شائبة محذور كما في الاول.

ثم ان تصور المهية الامكانية لا يستلزم وجود مطابق عيني في الخارج لها بل للعقمل فرضها مع قطع النظر عن مطابق وتحقق عيني سوى الوجود

ص: 20

الصرف الوجوبي الذي يصير تعقله مصححاً لانتزاعها وان كانت المهيات منتزعة عن نفس الموجودات الامكانية او أشباهها بعد الالتفات اليها ، ولكنه لمكان كون الفارض موجوداً. امكانياً واقعاً في عالم الكيان وإلا فلا حاجة في الفرض الى الانتزاع من نفس الموجودات الامكانية بل يمكن انتزاع تلك المهيات واشباهها من نفس الوجود الصرف الوجوبي في طول دركه التصديقي ولو بانتزاع بعضها من الالتفات بذاك الوجود ، وبعضها معونة المنتزعة أولا وبالتأمل في نظائرها إذ كل هذه ليس من تقرر المهية قبل الوجود في شيء كي يتطرق اليه محذور التقرر ، ومنه ينتمدح صحة اتصاف المهيات الممكنة المتصورة لدى العقل في نفسها باللااقتضائية عن الوجود والعدم وتساوق نسبتها اليها وعدم تأبيها عن شيء منها وأما بالنظر الى الخارج ووعاء العين فهي لا تخلوا أبداً من كونها اما ممتنع الوجود بالغير بمعنى العدم بعدم العلة ، وإما واجب الوجود بالغير ، بمعنى انه بتحقق علتها التامة بشر اشرها يكون وجودها نجاتها عن الامتناع وخلاصها من العدم .

وحينئذ يجب وجودها بالغير حيث ان الوجوب عبارة عن التمحض في الوجود وهي لا تتمحض فى الوجود إلا بخلاصهها عن العدم المتوقف على تحتمق علتها التامة كتوقف أصل الوجود غليه فالتمحض في الوجود الذي هو معنى وجوبه مساوق مع أصل الوجود زماناً كما يكون مساوقا معه مصداقا وإنما التفاوت بالاعتبار ، فما لم يتمحض الشيء لم يوجد وما لم يوجد يتمحض ، وهذا معنى القاعدة المعروفة الموروثة من أساطين الفلسفة الآلهية الشيء ما لم يجب لم يوجد من دون ارادة ترتب زماني بين الوجوب والوجود ولا تقدم و تأخر رتبي بينها فالواجب بالغير هو الموجود به .

ص: 21

وربما يتوهم فى معنى القاعدة ارادتهم طولية الوجود للوجوب فيفصل بين الافعال الاضطرارية كاشراق الشمس واحراق النار ونحوهما فهي فيها مسلمة لتقدم رتبة الوجوب على الوجود في هذه الفواعل الموجبة وبين الأفعال الاختيارية ، فلتوسط الاختيار بينها وبين فاعليها لا وجوب فيها أبداًكي يبقى مجال الجريانها فيها هذا محرر ما توهم، وانت خبير بعدم الفرق بين الافعال وجريان القاعدة بالمعنى الذي عرفت في الجميع إذ ما لم يتحقق الاختيار الذي هو الجزء الأخير من العلة التامة للإفعال الاختيارية لم تجب تلك الافعال ، كما انها لم توجد وبمجرد تحققه تمت العلة التامة ووجبت تلك الافعال كما انها وجدت إذ قد عرفت ان الوجوب هو التمحض فى الوجود بالخلاص عن الع-دم الذي لا ينفك عن تحقق العلة التي جزئها الأخير هو الاختيار فهذا ليس تفصيلا بين الافعال بل هو تصرف في معنى القاعدة بلا شاهد إذ مراجعة كلمات أساطين الفن والتأمل الصادق فيها يعطي ارادتهم ما ذكرنا في معنى القاعدة لا طولية الوجود للوجوب .

وبالجملة فحيث ان تلك المهيات بالنظر الى الخارج وعالم العين لا تخلو من أحد القسمين ، من وجوب الوجود بالغير وامتناعه كذلك فلابد في ترجيح أحد الطرفين من مرجح فى البين من دون اختصاص لذلك بالجواهر والوجودات العينية بل يجري بعينه في الاعراض واشباهها من الافعال الاختيارية الصادرة عن الموجودات الامكانية إذ نسبة وجود تلك الافعال وعدمها الى قدرة فاعليها على نحو سواء، كقدرة الانسان بالقياس الى جميع الافعال الممكنة الصدور عنه فنسبتها الى الجميع على نحو فارد ولا بد في ترجيح أحدها على الآخر من مرجح .

وملخص القول انه اذا كانت نسبة العلية والمعلولية بين شيء وشيئين

ص: 22

على نحو فارد ، فلابد فى صدور أحدها عنه دون الآخر من خصوصية تقتضي علية ذلك الشيء فعلا له وتعين صدوره عنه دون شقيقه فراراً من لزوم الترجيح بلا مرجح المستلزم للترجح بلا مرجح المستلزم لتحقق المعلول من غير علة المستلزم لعدم افتقار الموجود الامكاني المسبوق بالعدم الى علة موجبة لوجوب وجوده فما فرضته ممكناً مسبوقا بالعدم ليس بممكن هذا خلف فاذا كانت نسبة علية (الف) بالقياس الى كل واحد من (ب) و (ج) واحدة من حيث جميع الجهات لابد في صدور (ب) من (الف) دون (ج) من مرجح وإلا لم يصح استناد (ب) الى (الف) وكان تحقق (ب) دون تحقق (ج) منزلة تحقق (ب) بلا علة ولزم اما عدم افتقار الممكن الي العملة هذا خلف او كون (ب) واجباً بالذات هذا خلف فكما ان الترجح من غير مرجح محال وباطل كذلك الترجيح من دون مرجح لاشتراكها في محذور الخلف، وربما يتوهم عدم امتناع الترجيح بلا مرجح اذا كانت هناك علة واحدة نسبتها الى شيئين نسبة فاردة كرغيفى جوعان ، وأنائي ظان ، اذا لم تكن لاحدهما علىَ الآخر مزية بجهة من الجهات إذ لا محالة يختار الجوعان أحد الرغيفين والظلمان أحد الإنائين ، مع بداهة عدم مرجح لاختياره في البين ووجه عدم الامتناع حينئذ هو وجود علة صالحة لصدور أكل أو شرب احدهما منها هذا .

وليت شعري هل الترجح إلا الحاصل من الترجيح بل أليس هو هو إلا مع تفاوت بالاعتبار فكيف يعقل انفكاكه عنه والمفروض ترجيح أحدهما من دون مرجح فلا محالة تحتمقه ترجح من دون المرجح ثم هل يجوّز الاختيار عقلا تحقق المعلول بلا علة أم هل القاعدة المقلية قابلة للتخصيص مع امتناع كلا الأمرين واستقلال العقل باستحالتها ، فاذن لابد في

ص: 23

اختيار أحدهما من مرجح ولو كان هو سبق الالتفات اليه ولو بحسب الارتكاز ولا مع الالتفات الى الالتفات نظير عدم العلم بالعلم فان مصاديقه فى الخارج كثيرة فلا يقال : كيف يمكن الالتفات الى شيء مع عدم الالتفات الى نفس الالتفات ، إذ يرتفع الاستبعاد بملاحظة ان كثيراً ما يتفق للانسان الغفلة عن محسوساته التي حين غفلته هي بمرأى ومنظر منه كالناظر الى الشمس او نورها مع غفلته عنهما ، وبالجملة فالقاعدة العقلية غير قابلة للتخصيص أبداً غايته ان خفاء المرجح في بعض الموارد يوهم وجود الترجيح من دون مرجح ولكن بالتأمل العقلاني ينكشف خطاء الوهم في حكمه بذلك ، فهذا ايضا من باب معارضة العقل والوهم، فالوهم يزعمه ويجوزه والعقل يحيله ويرى عدمه فصدوره يكشف إنّاً عن وجود خصوصية في الدين أوجبت ترتبه على الاختيار الذي هو الجزء الأخير من العلة التامة ، ووجوب الفعل المختار بعد تحقق الاختيار لا ينافي الاختيار بل هو مستند الى نفس الاختيار لكونه الجزء الأخير من العلة التامة فالخلاص من العدم والتمحض في الوجود الذي هو معنى وجوب الوجود مستند اليه مترتب عليه كنفس الوجود لما عرفت من تساوقها مصداقا وزمانا . ولذا قال الحكيم المتأله المحقق الطوسي قدس سره : من ان وجوب المختار بالغير بعد تحقق الاختيار كوجوب الممكن بالغير بعد تحقق عليه التامة ، فكما ان الوجوب بالغير وبالنظر الى العلة لا ينافي الامكان الذاتي كذلك الوجوب بالغير، وبالنظر الي العملة المتحققة بتحقق جزئها الاخير هناك لا ينافي الاختيارية بحسب ذات الفعل ، فتوهم منافات الوجوب حينئذ مع كونه اختيارياً ساقط من اصله ناش من توهم الفرق بين الافعال الاختيارية والاضطرارية بل عدم الفرق بين الوجوب في مقابل الامكان والالجاء في

ص: 24

مقابل الاختيار بزعم ان صيرورة الفعل واجباً عين كونه بالالجاء(1).

ص: 25


1- أما ما ذكره سلطان الحكماء والمحققين في قبساته من وجوب الفعل بوجوب المشيئة فهو فى مقام بيان اثبات الاختيار للباري عز سلطانه حتى عند الفلاسفة ودفع توهم ذهابهم إلى موجبية الخالق بشبهة استلزام دوام المشيئة او وجوبها لذلك فمن العجيب رضاء المتوهم باسناد موجبية البارى اليه مع انه يرى من عدم الانصاف اسنادها الى الفلاسفة ، وحل مرامه ان وجوب المشيئة وجوباً مستنداً الى عميم لطفه وجزيل جوده وقداسة ساحته عن البخل لا ينافي سلطانه . وما هو مفاد له أن يفعل وله أن لا يفعل أى كون زمام الفعل بيده فمعنى وجوب المشيئة ثبوتها وفعليتها وما هو مفاد الكتب المستفاد من قوله تعالى : كتب وبكم على نفسه الرحمة بل لو جعلنا الوجوب في كلامه في مقابل الإمكان لاستصح الكلام بلا أول الى الإلجاء حيث ان ارادة الفعل بما هي ممكن الوجود لا بدلها من علة وهى تصور الشيء والتصديق بفائدته الى أن يصل الى اختياره وحينئذ تجب المشيئة ويجب الفعل . نعم لو لم نتمل بالاختيار وجعلناه نفس المشيئة على ما يظهر من هذا السيد السند و قده ، فوجوب المشيئة بالمشيئة ولا محذور فيه كما انه لو قلنا بالمغايرة وتوسيط الاختيار كما هو الحق نقول بأن اختيارية الاختيار بالاختيار كما سنشير اليه ان شاء الله وعليه فوجوب المشيئة إنما هو باعمال الاختيار لها ان قدمنا الاختيار وإن أخرناه فوجوب المشيئة نفس اعمالها ر هو حين الاختيار لاقبله وملخص المقام انه فرق بين الوجوب المتقابل الامكان وبين الاختيار في مقابل الإلجاء إذ عرفت معنى الأولين وأما الإلجاء فهو عبارة عن مسلوبية الاختيار انسلابا ذاتياً كفاقده من الموجودات الامكانية كالشمس بالنسبة الى الاشراق او بالعرض كالموجور فى حلقه الماء فتدبر لكى تعرف.

المقدمة السابعة

صفات الباري جل وعز على ما ذكره الحكماء والمتكلمون على قسمين : صفات الذات - وهي التي لا تنساب لا تنفك عن الذات بل الانسلاب فيها غير معقول لاستلزامه النقص المنافي لوجوب الوجود وصرافته وعمدتها العلم والقدرة والحياة لرجوع غيرها اليها كما انها ايضا عين الذات معنى وحدة مطابقها واختلاف مفاهيمها كما حقق في بحث الصفات فعلمه بذاته هو انكشاف ذاته لدى ذاته ونفس هذا الانكشاف هو انكشاف مصنوعاته لديه وعلمه بها وبالقياس اليه ينقدح الامر فى القدرة والحياة . وبالجملة صفات الذات هي المتحدة معها بنحو العينية. وصفات الفعل وهي التي تنسلب عن الذات غير متحدة معها ناشئة ع ن صفات الذات كالخلاقية والرزاقية وغيرهما الناشئة من القدرة وعدم منافات السلابها عن الذات مع وجوب الوجود وصرافته غير خفي ولا اختلاف في ذلك . إنما الاختلاف في ان الارادة من القسم الاول او الثاني . فذهب اكثر المحققين الى الثاني بدعوى استلزام الاول قدم المراد أي الموجودات كنفس الارادة واختار بعضهم كالصدر الشيرازي والحكيم السبزواري قدس سرهما وغيرهما الأول وقالوا : ان ارادته تعالى هي العلم بالنظام الجملي الأتم الأصلح ودخل كل موجود يوجده في وقته فى ذاك النظام فنفس عامه به في وقته معينه فيه ومحتقه من دون استلزام لقدم المراد وعدم الفصل بينه وبين الذات.

وبالجملة مطابق الارادة هو العلم الذي مطابقمه نفس الذات وان اختلفا مفهوما كغيرهما من صفات الذات وتحتميق الحق من القولين خارج عن عهدة الرسالة إذ المهم في هذه المقدمة بيان المراد من الارادة التكوينية

ص: 26

والتشريعية والفارق بينها على كل من القولين .

فاعلم ان التكوينية منها بناء على كونها من صفات الذات هي العلم بالمصلحة في فعل او موجود امكاني في وقته بلا توسيط اختيار من فاعل مختار . وبعبارة أخرى مقوم حسن المراد التكويني هو نفس تحققه فيتحقق وقته كما تعلقت الارادة به كماً وكيفاً ولا يتخلف والتشريعية منها بناء على ذلك هي العلم بالمصلحة في الافعال الصادرة عن الفاعل المختار بتوسيط الاختيار وبعبارة أخرى مقوم حسن المراد التشريعي هو صدوره عن اختيار المكانين وكونه تحت سلطانهم الذي أفاض الباري عليهم لكونه كما لا بمقتضى الفياضية المطلقة وهذا كالوظائف التعبدية المطلوب فيها التخضع الغير الحاصل إلا بالاختيار لا الفعل الكراهي الغير المستند الى المكلف والذي يكون المكلف له كالا لة . فكما لا حسن عقلا لمسح رأس اليتيم ما لم يصدر عن الاختيار وإعمال السلطة كذا لا حسن لابراز الانكسار بفعل خارج عن تحت السلطة والاختيار بل لا يحصل الانكسار بماله من المعنى وهذا النحو من المراد ايضا لا يتخلف عن الارادة بمعنى ان الفعل الصادر عن الاختيار لا يخلو عن المصلحة والحسن فعدم صدور الفعل من الفاعل المختار قضاء للاختيار الذي معناه له ان يفعل وان لا يفعل لا ربط له بتخلف المراد عن الارادة على هذا التفسير وبعبارة أخرى الفرق بين المراد التكويني والتشريمي على هذا هو قوام حسن الأول بنفس تكونه بلا توسيط اختيار من غيره جل وعلا ودخالة الاختيار في حسن الثاني فتوسيط اختيار من غيره في الأول يوجب تخلف المراد عن الارادة بخلاف الثاني حيث ان عدم توسيطه وتكونه بنفسه يستلزم التخلف .

وأما بناء على كونها من صفات الفعل كما يؤيده قوله (علیه السّلام) في بعض

ص: 27

الاخبار : ارادته ايجاده فالتكوينية منها هي نفس افاضة الوجودات وايجادها التي هي عين الوجودات السكونية وتفاوتها بالاعتبار ولحاظ الاضافة والصدور والى ذلك تشير الشريفة الربانية : اذا أراد الله شيئاً أن يقول له كن فيكون فان يكون - عين - كن - الذي هو الارادة والافاضة من دون فصل بينها ولو بمقدار الفاء والفصل بها في الكلام لتقريب الاذهان . وبالجملة لا يتخلف المراد التكويني عن الارادة ، والتشريعية منها هي الجمل والانشاء لتحريك ارادة العبد نحو الأفعال الاختيارية بأن يصير الطلب المنشاء داعياً لاختياره الفعل أو الترك واعمال سلطانه فيه من دون ان يكون تعلق الطلب بشيء ما موجباً لالغاء سلطانه فليس المراد في الارادة التشريعية هو مجرد الفعل كي يكون عين التكويني ولا يتميز عنه ولا الفعل المتجزأ بالاختيار كي يكون الاختيار جزءاً للمراد التشريعي والمركب عين المراد التكويني ليؤل الامر الى الغاء سلطان العبد في عالم التكوين وسد باب الاختيار عنه بل المراد التشريعي هو الفعل توأماً مع الاختيار بنحو القضية الحينية لا مطلقة ولا مقيدة . فكما ان نفس الفعل في طول ارادة العبد واختياره فكذا الارادة التشريعية بمعنى ان بعد اعطاء القدرة للعبد في طرفي النقيض تكويناً وجعله فاعلا بالاختيار تعلقت الارادة التشريعية والطلب الجدي الناشيء عن العلم بالمصلحة بنمعله مثلا لتحريك ارادته واعمال سلطانه في طرف الايجاب دون السلب ، وهذا المراد لا يتخلف عن الارادة أي الطلب الصالح للداعوية لا محالة يوجد بتلك الارادة ويكون محفوظاً فى وعائه فاعمال العبد سلطانه في طرف السلب لا ربط له بتخلف المراد التشريعي عن الارادة . نعم لو كان المراد هو الفعل المتجزأ بالاختيار بأن كانت الارادة سبباً لالغاء سلطان العبد وسد باب اختياره كان اعماله في طرف السلب من تخلف المراد عن

ص: 28

الارادة لكنه خلف الفرض ورجوع عن الميز بين المرادين .

والحاصل ان العبد بحسب عالم التشريع واعمال المولوية من الشارع بمقتضى الفياضية المطلقة المقتضية لايصال الخير وفتح ابوابه على العبد بتعيين مجاريه وطرقه وطلب السلوك فيها مولويا والبعث الية ، وإن كان مسلوب الاختيار عن الترك بحكم العقل في مرحلة الامتثال والعبودية لكنه بحسب عالم التكوين مختار قادر على اعمال سلطانه في طرفي النقيض المفاض اليه بمقتضى الفياضية المطلقة ايضاً من دون تناف بين المرحلتين اصلا ولذا يكون استحقاق أصل العقاب على مخالفة الشرع والتمرد في سلطان المولى بعد اعمال المولوية بحكم العقل واستقلاله باستحتماقه له . نعم تقدير العقوبة على المخالفة كتقدير المثوبة على الطاعة بحكم الشرع ومن مصالح جعلهما انهما (الوعد والوعيد) مؤكدان لشوق العبد نحو الحركة الى مافيه المصلحة ، والردع عما فيه المفسدة والداعي لتأكيد شوقه اليهما بهما هو العلم بالشرور والخيرات وابتهاج الذات بالذات بالار تداع عن الشرور والوصول الى الخيرات كما في اعمال المولوية ، فعلم ان الفياضية أوجبت الاختيار والتشريع واعمال المولوية فيه وجعل الثواب والعقاب ، فما يتوهم من استلزام البعث والزجر الجديين الشوق من الباعث والزاجر نحو المبعوث اليه وعن المزجور به ولا بد فيه من رجوع نفع الى المشتاق إذ ما يرجع نفعه الى المأمور التماس لا أمر ومنه يلزم الاستكمال وهو شأن الناقص تعالى الله من ذلك في غاية الوهن نعم هنا تو هم آخر وهو زعم دخل المفاسد والشرور وعصيان العاصي وكثر الكافر في النظام الجملى الذي لا أتم منه ، ويدفعه ان المراد منه لو كان تأثيرها في حقائق عالم الكيان فهو ممنوع جداً إذ لم يقم عليه برهان بل البرهان قائم على خلافه عقلا ونقلا بداهة استلزامه لكون النظام العادم للمفاسد والشرور

ص: 29

والخالي عن العصيان والكفر على ما وُعدناه غير اصلح بل لخلوه عنها مختلا غير تام ، كما يلزم ان تكون شكاية الأنبياء والأوصياء صلواة الله عليهم عن الفجور واربابها والكفر وأهله لكونه شكاية عن النظام الاصلح قبيحاً وكذا الاهتمام على قلب هذا النظام من أولئك العظام اهتماماً بتبديل التام بالناقص والاصلح بغيره ، وهو كما ترى قبيح بل غير معقول من ساحة مقامهم على ان المفاسد والشرور أمور عدمية فكيف يعقل دخلها فى الحقائق الكونية وتأثيرها في عالم الكيان . ولو كان المراد منه ان الافعال الصادرة عن العباد من الطاعات والمعاصي بنفسها من اجزاء النظام الأصلح كي يكون مزدوجا من الجواهر والاعراض فهو ايضا ممنوع جداً لعدم نهوض برهان عليه بل ما وعدنا الله من النظام الخالي عنها برهان على خلافه مضافا الى استحالته فى نفسه لما عرفت من ان الشرور اعدام صرفة لا يعقل دخلها في الأمور الوجودية فضلا عن كونها منها ، كما عرفت ان المعاصي إنما صارت منهياً عنها لاستلزامها الاعدام فهذه الدعوى مع كونها مصادرة مستلزمة لتوالي فاسدة وقامت على خلافها براهين متقنة وترشد الى فسادها الكريمة القرآنية : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد » فانها كناية عن قدرته على تبديل النظام المحتوي لتلك الجرائم والآثام الى نظام آخر اصلح اگر نازی کند بر هم فرو ریزند قالب ها».

بل يمكن دعوى بداهة العقل بأن النظام الخالي عن الشرور أتم من واجدها . والمحصل ان الارادة التشريعية التي هي عبارة عن جعل التكاليف و من صفات الفعل ناشئة عن صفة الذات أى العلم بالمصالح والمفاسد النفس الامرية فبعد ما كان مقتضى فياضيته المطلقة وابتهاج ذاته بالذات الافاضة وسد باب استناد منع الفيض اليه جل وعلا كلف الجميع ووجه اليهم الاوامر

ص: 30

والنواهي فكان الفيض عاماً بالنسبة الى الجميع مع علمه بفسق الفاسق وكفر الكافر وتمت الحجة عليهم من دون استلزام البعث والزجر بالنسبة اليهما . لتخلف الارادة عن المراد اما عن المراد التشريعي فلكونه هو نفس التكاليف من طلب الفعل او الترك وقد تحققت بمجرد الارادة ووجدت بمجرد الايجاد وأما عن المراد التكويني فلعدم وقوع شيء من افعال المكلفين تحت المشيئة الأزلية المفسرة في الاخبار بالارادة الحتمية كي يكون وقوع خلافه تخلفاً فلا فسق الفاسق وكفر الكافر كانا تحت المشيئة التكوينية ولا ايمان المؤمن وطاعة المطيع فالارادتان التكوينية والتشريعية مختلفتان تعلقاً ومتعلقاً (بالفتح) ولا ربط لا حديها بالأخرى كي تجتمعان تارة في مصب وتفترقان في آخر ، فما ذكره المحقق الخراساني تبعاً للسيد الداماد (قدهما) من توافق الارادتين تارة وتخالفهما أخرى فاسد ، والبرهان على خلافه شاهد نعم هو جل وعلا يعلم فسق الفاسق وكفر الكافر كما يعلم ايمان المؤمن وطاعة المطيع ولكنه كما لا يوجب عامه بذلك عدم صحة جعل التكاليف جداً كما سنشير اليه ان شاء الله لا يوجب كون فسق الفاسي وكفر الكافر من النظام الأتم الأصلح ايضا من جهة كون معلومه تعالى كذلك بداهة ان العلم طريق الى المعلوم وفي طوله رتبة فهو من حيث كونه نوراً وأمراً وجوديا خير محض وصلاح صرف وأما من حيث اضافته الى المعلوم تابع له فى الخيرية والشرية فكيف يعقل دلالته على خيرية المعلوم او شريته ، فضلا عن كشفه عن كونه أصلح مع ان المفروض ان من معلوماته تعالى نفس المفاسد والشرور فكيف يكون معلومه تعالى مطلقاً أصلح وهل يوجب تعلق العلم بها انقلابها عما هي عليها فلا علمه تعالي بالفسق والكفر من الفاسق والكافر كاشف عن از ومهما في النظام الأتم الأصلح ودخلهما في قوامه وكيانه ولا وقوعهما

ص: 31

فيه يدل على ذلك بعد استقلال العقل وقضاء الوجدان بقبح الظلم ونحوه من المفاسد والشرور وحسن النظام الخالي عنها وكونه عدلا بل البراهين النقلية من قبل مبدع النظام وموجده دلت على انه بالعدل قامت السموات وانه تعالي يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر فكيف يعقل قوام السموات وغيرها من عالم الكيان الذي قام بالعدل بنقيضه من الظلم والفحشاء والمنكر ، أم كيف يعقل أمره تعالى بما يوجب اختلال النظام الاصلح ونهيه عما به قوامه على ان هذا النظام المحتوي على الظلم والفسق والكفر لو كان أتم وأصلح لما احتاج الى جعل تتمة له ، أغني عالم البرزخ والقيمة وكان جعل ذاك العالم لغواً وعقوبة الكافر والفاسق ومثوبة المؤمن والمطيع كذلك من غير فائدة في شيء منها وبداهة ارباب الملل كقضاوة الوجدان والعقل على لزومه ، فانقدح وهن ما يظهر من المحقق الاصفهاني قدس سره من كون الفسق والكفر من الفاسق والكافر من النظام الأتم الأصلح حيث انقدح عدم ربطها بقوام العالم وكيانه فضلا عن تماميته وصلاحه بل انقدح اخلالها بهما كما يكشف عنه ما عامناه بتاً من مذهبنا من انه لو لا فسق الفاسق وكثر الكافر لفتح عليهم بركات من السماء (1)ولما خلق الله النار ، ويزيده كشفاً ان الله تعالى لا يرضى العباده الكفر وهل يعقل ان يكون جل وعلا لا يرضى بالنظام الأتم الا صلح كما انفدح عدم التنافي بين عامه تعالي بالفسق والكفر منهما وبين اعمال المولوية فى الأوامر والنواهي وكون التكاليف بالنسبة الى الجميع جدية واقعية بعد عدم دخول الفسق والكفر منها تحت الارادة الحتمية

ص: 32


1- واو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون د سورة الأعراف ،

فما التزم به الفاضل القزويني (قده) من كون التكاليف بالنسبة الى الفاسق والكافر صورية غير واقعية التي سميت في اصطلاح غيره بالتسجيلية وأخذ في نقضه وابرامه بما ملخص الاشكال تارة لزوم لغوية جعل التكاليف اذا لم يكن البعث والتحريك مراداً منها واقعاً .

و ملخص الجواب كونها لتبيين المصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأوامر والنواهي اتماما للحجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ، فهو من قبيل تبيين الطبيب الحاذق للمريض منافعه ومضاره من دون اعمال مولوية فى أمره بالأول ونهيه عن الثاني ، وأخرى لزوم لغوية جعل العقوبة على المخالفة اذا كان جعلها لمجرد تبيين المصالح والمفاسد وتتميم الحجة من دون اعمال المولوية . والجواب بكون العقاب من لوازم (1)المناسد

ص: 33


1- قال ابن سينا في الاشارات وهم وتنبيه ولعلك تقول ايضاً : فان كان القدر فلم العقاب؟ فتأمل جوابه ان العقاب للنفس على خطيئتها كما ستعلم كالمرض للبدن على نهمه فهو لازم من لوازم ما ساق اليه الأحوال الماضية التى لم يكن من وقوعها بد ولا من وقوع ما يتبعها . وأما الذى يكون على جهة أخرى من مبدىء له من خارج فحديث آخر ، ثم اذا سلم معاقب من خارج فان ذلك ايضاً يكون حسناً لأنه قد كان يجب ان يكون التخويف موجوداً في الأسباب التى تثبت فينفع فى الأكثر والتصديق تأكيد للتخويف فاذا عرض من اسباب القدر ان عارض واحد مقتضى التخويف والاعتبار فركب الخطايا وأتى بالجريمة وجب التصديق لأجل الغرض العام وان كان غير ملايم لذلك الواحد ولا واجبًا من مختار رحيم لو لم يكن هناك إلا جانب المبتلى بالقدر ولم يكن فى المفسدة الجزئية له مصلحة كلية عامة كثيرة لكن لا يلتفت لفت الجزئى لأجل الكل كما لا يلتفت لفت الجزء لأجل الكل فيقطع عضو يو لم لأجل البدن بكليئه ليسلم . وأما ما يورد من حديث الظلم والعدل ومن حديث افعال يقال انها من من الظلم وافعال مقابلة لها ووجوب ترك هذه والأخذ بتلك على ان ذلك من المقدمات الأولية فغير واجب وجوباكلياً بل اكثره من المقدمات المشهورة التي جمع عليها ارتياد المصالح ولعل فيها ما يصح بالابرهان بحسب بعض الفاعلين الخ .

الكامنة في متعلقات النواهي والافعال الشرية لا من لوازم مخالفة النواهي انتهى . موهون جداً من جهة أصل صورية التكاليف ومن جهة كونها لتبيين المصالح والمفاسد وتتميم الحجة ومن جهة كون العقاب من لوازم تلك المفاسد . أما الأولي فلما عرفت من تعدد مصب الارادتين وعدم دخول المراد التشريعي تحت الارادة الحتمية التكوينية أبداً كي يكون اختيار عدم الامتثال من المكلفين تخلفاً للارادة عن مراده تعالي ومنافياً لاعمال المولوية وكون التكاليف جدية واقعية ضرورة تحقق المراد التشريمي أي الطلب الصالح للداعوية بمجرد ارادته تعالى وايجاده فلا تخلف على كل تقدير من النقيضين . وأما الثانية فلأن الحجة هي ما يمكن الأخذ بها والتكاليف الصورية لا يمكن الانبعاث عن أوامرها ولا الارتداع عن نواهيها فانه فرع الجد المفروض خلوها عنه . وأما الثالثة فلمنع ترتب العقاب على ارتكاب المضار بداهة ان استحقاقه إنما هو من حكم العقل وهو لا يحكم بالاستحقاق إلا على العصيان والتهتك والطغيان ، وأما مجرد ايقاع النفس في مفسدة دنيوية من دون استلزامه لهتك المولى والتمرد في سلطانه فلا حكم للعقل باستحقماق العقاب الأخروي عليه بعد اختيار العبد لتلك المفسدة وتهيؤه لتحملها كيف وهو بنفسه عقاب دنيوي فأي لطف يقتفي زيادة عقاب أخروي عليه ايضاً وتكثير مشقته بذلك ، مضافا الى ان العقاب فعل الله وكيف يكون

ص: 34

فعل فاعل مختار من لوازم المأهوي لفعل فاعل مختار آخر ، ثم كيف يتأخر هذا اللازم الى يوم موعود . نعم اذا كان في البين اعمال المولوية فاللطف المقتضي لاعمالها يقتضي جعل الوعد والوعيد ايضاً لتكميل الفيض وتأكيد شوق العبد نحو المشروع فالعقاب كما اتفقت عليه كلمة ارباب الملل مستند الي نفس المخالفة لا مترتب على ارتكاب المضار ، وانقدح مما ذكرنا ايضا وهن ما ذهب اليه اكثر المحققين من الفلاسفة بل جلّهم من استناد المفاسد والشرور الى المهيات والحدود العدمية للموجودات الامكانية المتقررة في وعائها ، إذ قد عرفت في المقدمة الأولى عدم برهان يقتضي تقرر المهيات قبل الوجود ولو فى الصقع الربوبي ، وليعلم إنا لا تنكر تقدير الفسق والكفر والمفاسد والشرور في القضاء الآلمي بمعنى عامه تعالى بصدورها من فاعليها فى اوقاتها الخاصة ، ولكنا تنكر ان تكون هي قبل صدورها من فاعليها اشياء متقررة فى مرتبة الذات الربوبي وراء نفس الذات والصفات التي هي عين تلك الذات البحتة البسيطة فانكشاف جميع المقدرات لدى ذاته بانكشاف ذاته لذاته لا ربط له بتقرر شبح ومهية فيها يجري عليها الوجود حين الابداع والايجاد او متقررة في مرتبة متأخرة عن الذات او غيرها من الأوعية على اختلاف الأقاويل ، مع ان افراد المكلفين من المطيعين والعاصين والمؤمنين والكافرين بأجمعهم مشتركون في هذه الحدود العدمية والمهيات المتقررة لما عرفت في المقدمة الثانية من تساوي افراد نوع واحد من جهة الفقدان والوجدان ، وجميع ماله دخل في قوام النوع من الامور الوجودية والعدمية فما هو الموجب لاختصاص هذه اللوازم بهيات الكافرين والعاصين واقتضاء حدودهم العدمية لها دون غيرهم من افراد الانسان ، فلو كانت هي مستندة الى الذاتيات لصدرت عن الجميع وفي جميع الأوقات

ص: 35

بمقتضى قول هؤلاء الذاتي لا يتغير فاتفاقهم على عدم تعقل تغير الذائي عما هو عليه بضميمة مقدمة وجدانية هي رؤية التخلف عن بعض افراد الانسان او في بعض الأحيان برهان قاطع على خلاف ما التزموا به في هذا الباب ، وان شيئاً من الفسق والكفر والمفاسد والشرور لا يعقل استناده الي شيء من المهيات وانها لابد وان تستند الى نفس الوجودات واختيار فاعليها ليس إلا.

فتحصل ان الأوامر والنواهي المولوية الله تعالى الموجَدَة بارادته التشريعية الناشئة عن العلم بالمصلحة فيها عامة لجميع افراد الانسان حتى الفاسق والكافر حال الفسق والكفر من دون تنافي عمومها مع علمه تعالى باختيار الفسق والكفر منهما وسيأتي لمجموع ما ذكر مزيد بيان ان شاء الله .

المقدمة الثامنة

قد لهجت ألسنة العرفاء بكون الاشياء مظاهر لله تعالى ولهم في تفسير المظهرية بيانات مختلفة منها ما يظهر من الاعرابي (1)من ان الأشياء مرايا لله وكما ان كل مرآة لها ارائة خاصة وحكاية مخصوصة عن المرئي فكذلك الأشياء ولكن الاختلاف ليس في المرئى بل في المرآة وقد تصدى الصدر الشيرازي (قده) لتتميقه وتحريره وقال في بيان (فهي منفية ثابتة موجودة معدومة مجهولة معلومة) : فان العقول. لا يلحقه بالعدم الصرف وقد علمت انه ليس بلا شيء ولا بالوجود المحض وقد علمت انه ليس بشيء مباين للمقابل . انتهى وانت بعدَ الخُبر بما ذكرنا لم يبق لك مجال مجمجة في دحض تلك الأباطيل ان أرادوا منها غير كونها مصنوعات له ودلائل صنعه ولقائل أن يقول : علاوة على ما ذكر بأنه أليست المرآة هنا علي حسب

ص: 36


1- المرحلة السادسة من المسلك الأول من السفر الأول من الأسفار

قولكم هي الماهية وهل هي إلا الصور العلمية التي ليس لها بما هي تحقق إلا ببركة حتمية الحق فهل هو بنفسه مرآة ورائي ومرئي أم تكون الماهية شيئاً متأصلا لها شأن من الشأن ويكون ايجادها بما لها من الشأن رؤية الرّب لذاته المقدسة فيها وتكون حدودها الذاتية ولوازمها النفس الأمرية مُكَدِّرةٌ الصورة الباري اى الوجود وجاعلة لها صغيرة الحجم مشتاقة الى الشر الى غير ذلك مما لا محيص من انكارها . ثم هل نهض بره----ان على صحة تلك الأقاويل ومنها ما يظهر من بعضهم (1)من كون كل اسم خاص مبدءاً لمخلوق خاص حتى ان الشيطان مخلوق ن المضل وهذا الكلام بمعزل عن الحق بل به تتفتح أبواب الاشكالات إذ تترتب عليه توالي فاسدة ، وملخص رده انه ان أريد من المبدئية كون الذات ما لها الصفات خالقة

للمخلوقات ومبدعة للموجودات على حسب ما لماهياتها من القابلية والاستعداد فبنور الوجود يظهر ما في كمون كل ماهية بلا تكرار فى التجلي وآفة فيه وليس يلزم من ذلك حط مرتبة الاسماء وهي باقية بحالها من النورية إذ كدورة المجلى وخسّة محل القابل أوجبت الشرور حين شروق نور الوجود ففيه ما عرفت من ان الماهية ليست بشيء حتى يكون لها استمداد او لزوم لشيء ما وقوله : بما أغويتني مع انه كلام ابليس ليس معناه خلقتني غويا او ابدعت وجود ماهية غويّة .

وان اريد ما هو ظاهر كلام هذا البعض من ان كل اسم يستلزم تحقق مظهر مناسب له على حد مناسبة كل علة المعلول خاص ، ففيه ان اسمائه مشيرة إلى ذاته البحتة الصرفة وليس لها تباين الجهني والحيني حتى يقتضي كل جهة ایجاد مخلوق خاص مضافا الى انه على هذا يكون الظلم والغلبة على الضعفاء ونحوها

ص: 37


1- الموقف الرابع من الفن الأول من السفر الثانى من الأسفار .

من الخيانات والجنايات الصادرة من الخائنينٍّ والجانين بل أنفسهم مستندة الى تلك الاسماء ، ومعلولة لها كان لاختيارهم دخل فيها أم لم يكن ووجب على العادل الحكيم ان يكافئهم ويجازيهم بالمثوبات لكونهم مرايا للصفات ولتلك الاسماء مقتضيات لا ان يهو يهم الى الدركات ، اللهم إلا أن يقال بأن الملائم لتلك الذوات ليس إلا العقوبات وفيه ما مضى ولا يخفى . ثم ان ما ذكروه من لزوم المظاهر لأسمائه الحسنى وأمثاله العليا ان استند إلى مفاد الحديث المعروف كنت كنز أتخفياً فأحببت ان اعرف الخ . بتقريب ان الله سبحانه في مقام التجلي وتعريف الذات بما له من الصفات لابد وأن يكون تام التجلي وتمامه بايجاد جميع المجالي، ففيه ان العرفان بالذات الواجب الحاصل من أي مصنوع مغن عن ذلك لأن الذات الواجبة البحتة تكون حاوية لجميع المعاني الثبوتية بلا شوب حيث او خلط حد كما برهن في محله ان قلت لا بد وأن يكون لكل معنى ما من المعاني الثبوتية مظهر به يعرف هذا المعنى الثبوتي قلت : هذه مصادرة واضحة ليس عليها دليل ، فان قيل الذوق يوجبه قيل الذوق مع انه ليس ببرهان يبطله الذوق وان استند الى شي مما آخر فليبين حتى تنظر فيه مضافا الى أن من صفاته الكمالية الاختيار وليس له مظهر أجلى من الانسان أضف الى المذكورات بأن الاضلال المنسوب اليه تعالى ليس إلا الخذلان أعني تخلية سبيل العبد برفع اليد عنه في عالم التكوين وسرّ ذلك انه لقدرته على قهر العبد على الطاعة اذا لم يقهره والقى زمام اختياره على عاتقه فكأنه أضله فلُبُّ الاضلال المنسوب اليه تعالى عبارة عن رفع اليد عن الضال والشيطان اللعين لا يكون مظهراً لمثل هذا المضل كيف وهو يهديه الى تيه الضلال ويزين له سوء الأعمال فيلقيه في حفر الآثام ويدفعه الى مزالق الاجرام .

ص: 38

الفصل الاول

في بيان الأقوال ، اعلم ان الأقوال في المسئلة متعددة والآراء متشتة وعمدتها اربعة :الأول - ان المؤثر فى افعال العباد هي قدرته تعالى ليس إلّا، إبتدعه جَهمُ بن صفوان ونسب الى الأشاعرة وزاد رئيسهم أبو الحسن الأشعري ان فعل العبد مكسوب واختلف اصحابه فى تفسير الكسب فقيل انه تعالى هو الفاعل والعبد هو المحل القابل وقيل ان المراد مقارنة وقوع فعله مع اعمال قدرته تعالى وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : ان المراد تعلق قدرة العبد بكيفية الفعل طاعةٌ او معصيةٌ، ولذا اختار تأثير القدرتين في افعال العباد، قدرته تعالى في ذات الفعل ، وقدرة العبد في صفته ولأصلية الذات وتبعية الصفة يكون قوله شعبة من قول الأشعريين راجعاً الى حصر المؤثر فى قدرته تعالي فلا ينبغي عدَّه قولا برأسه في المسئلة .

الثاني - ان المؤثر فيها هي قدرة العبد ليس إلا ، اختاره المعتزلة .

الثالث - ان المؤثر فيها كلتا القدرتين اما بنحو العرضية واستقلال كل بالتأثير فيكون من اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد ، اختاره الاستاذ أبو اسحاق او بنحو الطولية بتأثير قدرة العبد في الفعل وتأثير قدرته تعالى في قدرة العبد بوقوعها تحت قدرته تعالى ، اختاره الفلاسفة وعبروا عنه باضطرار العبد في الاختيار وهو بظاهره وان أوهم الجبر في الافعال ومسلوبية العبد عن الاختيار تكويناً إلا انه يمكن توجيهه بما

ص: 39

لا ينافي الاختيار بارجاعه الى القول .

الرابع - المختار وهو الأم بين الأمرين معنى كون قدرة العبد موهوبة من الله تعالى كسائر معدات الفعل من القوى الظاهرية والباطنية والجوارح والجوانح ومما له الدخل في تحقق الفعل سبباً وشرطا ومن المرغبات نحو الطاعة والمبعدات عن المعصية المسمى باللطف الرحماني فجميع هذه موهوبة من قدرته ولطفه ومنه ومع ذلك للعبد اعمال السلطنة المعبر عنها ب- له - ان يفعل وله أن لا يفعل فى ايجاد الافعال وتركها فبإعمالها في طرف الايجاب يتحقق الفعل وبإعمالها في طرف السلب يتحقق الترك فكل منهما تحت سلطان العبد الذي هو في طول سلطان المولي ومتأخر عنه تأخر المعلول عن العلة والأثر عن المؤثر ولكن كلا النقيضين مستندان إلى العبد وحينئذ معنی اضطراره بالاختيار على مذاقهم انه مجبول فيه ولا يمكنه سلبه عن نفسه واخلائها عنه لا انه مجبور في الاختيار واعمال قدرته في طرف خاص وهذا مغزى قوله (علیه السّلام) : لا يعصي مغلوباً ولا يطاع مكرهاً ، ومنه انقدح أولوية الله تعالى بالحسنات لكون ما يتمكن العبد معه من الوصول اليها عطاءً منه ومنا وأولوية العبد بالسيئات لاستنادها الى سوء اختياره واعمال قدرته في سبيل تحصيلها ، وانكشف مفاد اللطيفة الآلية ما اصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وبالجملة معنى الأمر بين الامرين هو كون المقتضيات والمعدات والمرغبات وما به تتم وسائل وجود لفعل خارجا ويسهل الجري في طريق تحقيقه حتى القدرة التي بها يختار أحد النتميضين بأجمعها مستندة الى قدرته تعالى موهوبة من قبله عز وجل حاصلة من لطفه ورحمانيته وكون الجزء الأخير من العلة التامة الذي به تتحقق العلية ويتم تأثير سائر المقدمات مستنداً الي قدرة العبد واختياره ، وليس

ص: 40

معناه انقهار اختيار العبد تحت قدرة الله تعالي المنافي بالبديهة لما يستفاد من اللام في له ان يفعل وله ان لا يفعل ولا اجتماع القدر تين على الفعل وتأثيرهما معاً بجامعهما فيه كما يوهمه بعض العبائر لتنافي ذلك مع حاق اختيار كل منها وأوله الى الالجاء واقعاً بل لو سلمنا عدم المنافات فلا محالة تكون قدرة كلٍ جزءً للسبب وتعود المحاذير بجذعا ولصاحب الاسنمار قدس سره هنا تقرير آخر في بيان الامر بين الامرين وهى تشبيهه بحسب الحقيقة بمزاج الفلك المزدوج من الحرارة والبرودة بلا كونه حاراً او بارداً ومع كونه هما معاً فهو حار وبارد ولا حار ولا بارد ، ولما كان الدليل على وجود الفلك كالدليل على نحو مزاجه مخدوشاً فان رجع الى ما ذكرنا فهو حق وإلا فإحالة الى المبهم المجهول ، فهذه عمدة الاقوال وللمتتبع مجال الاطلاع على ما لم نطلع عليه مما لا دخل للاطلاع عليه في المقصود .

الفصل الثانى

في استدلال الأشاعرة ، استدلوا بوجوه أربعة : عموم العلم ، وعموم القدرة ، وعموم الارادة ، وعموم الحاجة ، تقريب الأول انه عز وجل كما وصف به ذاته ونطق به كتابه بكل شيء عليم ومن الاشياء أفعال العباد و لزوم مطابقة العلم مع المعلوم يقتضي وقوع الجميع وتحققها في اوقاتها والعلم بها عين القدرة على ايجادها والقدرة عين الذات والذات عين العلة للايجاد فالعلم عين العلة لايجاد المعلومات بأجمعها على ما هي عليها ، وقد أجاب عنه الفاضل القزويني (قده) بأن الافعال حيث كانت صادرة عن اختيار العباد

ص: 41

وليست من افعاله تعالى فهي خارجة عن تحت علمه تعالي لقصور قابليتها عن تعلق علم الباري بها ولا يوجب ذلك الخروج نقصا في احاطته العلمية وكما لا يوجب عدم تعلق قدرته بالمحالات الممتنعة الذوات عجزاً في مرحلة ذاته لاستناد ذلك الى بطلان تلك المهيات فكذلك عدم مشمولية الافعال لعلم العليم بالذات مستند الى عدم قابليتها بالذات ، وفيه ان عامه تعالى باعتراف منه (قده) شامل لجميع ما كان وماهو كائن من مخلوقاته بما لها من المصادقات والمفروض ان اختيار العبد من مخلوقاته تعالي واعماله فى طرفي الايجاب والسلب من شؤون الاختيار ، فلابد وان يكون بما له من الآثار مشمولا لعامه تعالي فلو سامنا علية العلم للمعلوم لا محيص عن الالتزام بالجبر ، وحينئذ فالجواب أولا بالنقض بنفس فعله تعالى إذ مقتضى علية علمه تعالى لوجود معلومه عدم توسيط الاختيار حتى من نفسه فيكون والعياذ به فاعلا موجبا ولا يرضى به المستدل . وثانياً بالحل تارة بأن العلم لا يقتضي العلية لايجاد المعلوم بداهة ان العلم طريق الى المعلوم فهو في طوله رتبة بمعنى انه يعلم ما يفعل لا انه يعلم وهو به يفعل . وبالجملة غاية ما يقتضيه عموم العلم عدم التخلف عن الوقوع وأما استناده اليه فلا وأخرى بأن المعلوم هو صدوره عن اختيار العبد ووقوعه بارادته فلو كان العلم علة للوقوع لا نقلب المعلوم عما هو عليه وصار العلم جهلا وهذا خلف من جهتين(1). وتقريب الثاني انه عز سلطانه كما ذكر في فرقانه على كل شيء قدير ومن الاشياء أفعال العباد والقدرة عين الذات التي هي عين العلة فهي عين العلة للمقدورات ، وفيه ان من الاشياء قدرة العبد على اختيار كل من الطرفين فمقتضى عموم القدرة وعليتها اعطائها كما اعطاها ومقتضى ذلك كون المؤثر في تلك الافعال هو

ص: 42


1- جهة العلم وجهة المعلوم

قدرة العباد بالمعنى الذي تقدم. وتقريب الثالث ان الافعال الصادرة من العباد كنفس الفاعلين من الممكنات المحتاجة في الحدوث الى المؤثر فان كان هو قدرته تعالى ثبت المطلوب من كون قدرته تعالى هي المؤثرة ليس إلا وان كان ارادة الفاعلين فلا يخلو اما ان يكون الله تعالى ايضا أراد تحققها فتأثير ارادة العبد حينئذ مستلزم لعجزه تعالى او اراد عدم تحققها و وقع خلاف مراده فهذا ايضا عجز وهو أعزّ من ان يقع في سلطانه ما لايريد او لم يرد شيئاً منها وهو مناف لما قررنا من عموم قدرته ، والجواب انه تعالى إنما أراد صدور تلك الافعال من الفاعلين بالاختيار واعمال السلطة كما حررنا . وتقريب الرابع على المحكي من شرح جامع المقاصد انه لو كان فعل العبد بقدرته واختياره لكان متمكناً من فعله وتركه واللازم باطل لأن رجحان الفعل على الترك إما ان يتوقف على مرجح اولا وعلى الثاني يلزم رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجح وينسد باب اثبات الصانع ، وعلى الأول ان كان ذلك المرجح من العبد فينقل الكلام الى صدوره عنه فيلزم التسلسل وهو محال فينتهي الى مرجح لا يكون منه .

ويمكن ان يوجه هذا التقريب بأن الليسية الذاتية للعباد منافية لتجويز العقل اسناد أيس ما اليهم لأن من يكون بوجوده محتاجا الى الموجب الواجب يكون بشؤونه محتاجا اليه بنفس الدليل حيث ان فعله ان استند الى شيء ما منه فلا ريب فى كونه مسبوقا بالعدم محتاجا في الوجود الى علة موجبة وهي ان كانت منه ينقل الكلام اليه فان لم ينته الى حدما لزم ماذكر من التسلسل وان انتهى الى علة واجبة بالذات ثبت المطلوب. والجواب ان قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد وإن كانت عامة جارية في الوجودات العرضية كالوجودات الجوهرية إلا أن المراد منها ما قدمناه . وحاصله ان

ص: 43

الوجوب هو التمحض للوجود بالخلاص من العدم لا انه غيره ويكون له التقدم عليه فالوجود لا بدو أن يكون بالوجوب سواء كان وجوبه بالذات او بالغير وبديهي أن الوجود الفعلي للممكن الذي هو وجود ووجوب يكون هو المؤثر في ايجاد الافعال الممكنة . نعم حيث ان كل ما بالعرض ينتهي الى ما بالذات فوجودات نفس الفاعلين لا بد وأن تنتهي الى وجود واجب الوجود بالذات ، ولكنه لا يوجب عدم استناد افعالهم الى انفسهم وعدم صحة عليتهم لصدورها باختيارهم فقدرتهم كنفس وجوداتهم مخلوقة له تعالى ولكن اعمالها في كل من طرفي النقيض بايديهم وفي سلطتهم وأما ما قالوا : من ان الترجيح ممكن محتاج الى الموجب ففيه ان لزوم العلة للترجيح لا يقتضي الاضطرار بعد استناده الى الاختيار الموجب ، وأما هو بنفسه فصفة نفسانية مخلوقة في العباد ومن طبعه الترجيح كما سيأتي إن شاء الله تعالي .

الفصل الثالث

فيما يمكن ان يتمسك به الفيلسوف لمختاره من ان الانسان مضطر في صورة الاختيار وهي أمور : الأول لزوم انتهاء الارادات الى ارادة ضرورية دفعاً للتسلسل وذلك يوجب الاعتراف باسناد الكل الى قضاء الله وقدره وقد ذكره الرازي في المحصل ولعله إليه يرجع قول المعلم الثاني في شرحه على الفصوص : وملخصه ان اختيار الفاعل المختار لا سبيل الى كونه قديماً بعد كون الفاعل حادثا فنستكشف كونه حادثا فان كان

ص: 44

حدوثه عن غير الفاعل فقد ثبت المطلوب وهو استناد فعله اليه تعالى لا الى نفسه وان كان حدوثه عن نفس الفاعل فلكونه ايضا فعلا اختيار يا مستند لا محالة إلى اختيار سابق وحينئني تنقل الكلام في ذلك الاختيار وهلم جراً ، فاما ينتهى الى الواجب تعالى وإلا تسلميلي والثاني باطل جزما فتمين الأول وهو المطلوب انتهى (1). والجواب ان الاختيار أعني له ان يفعل وله أن لا يفعل مجعول فى الانسان بنفس الجعل البسيط المجعول به الانسان بما له من المعاني الوجودية لكن لا بأن يكون الانسان مركبا أنضمامياً من الاختيار وسائر المعاني الوجودية وحظوظها قابلا للانحلال اليها والى صفة الاختيار خارجا بل التفافاً وبنحو التركيب الاتحادي الغير القابل للتحليل الخارجي والقابل له عقلا بل التعبير بالالتفاف ايضا من باب ضيق الخناق وقصور اللفظ عن افادة حقيقة المركب الاتحادي ولُبِّه . وبالجملة هو تعالى شأنه إنما أوجد حظا واحداً من الوجود وإن شئت قلت : حصة خاصة من الوجود هو وجود الفاعل المختار فمن نفس ذاك الحظ الوجودى الواحد ينتزع العقل بلحاظ الآثار المختلفة المتباينة المترتبة عليه خارجا بالكشف الإتي حظوظا وجودية متعددة ومعاني ثبوتية متشققة حسب تعدد تلك الآثار ومنها (حقيقة له أن يفعل وله أن لا يفعل) التي هي ايضا حظ من الوجود غاية الأمر ان الكثرة الحظوظ الوجودية المنتزعة عن ذاك الوجود الفارد ربما يقع الاشتباه في عالم تطبيق بعض تلك الحظوظ والمفاهيم المنتزعة فيتخيل عدم المطابق لبعضها وكونها مترادفة مثلا العزم والجزم والميل والشوق ونحوها من صفات النفس ربما يتوهم ترادفها لاشتباه مطابقها وعدم الميز

ص: 45


1- بل ربما يشير اليه قول الشيخ رئيس الصناعة : ان الانسان مضطر في صورة الإختيار .

بين مراتب النفس وتسمية كل مرتبة التي هي بنفسها حظ من الوجود باسم خاص ، وكذا كل واحد من حظ البصر والسمع والذوق واللمس والشم وغيرها من الحظوظ الوجودية المتباينة الآثار منتزع عن حظ وجودي واحد به يقوم قياما اتحاديا جميع تلك الحظوظ بما لها من الآثار فتقع المعارضة بين العقل والوهم ، فالوهم يزعم الترادف وعدم المطابق لكل من تلك المفاهيم المتعددة المنتزعة بحيالها والعقل بالتأمل ينكره ويمين لكل منها مطابقاً ممتازاً يكون بنفسه حظا من الوجود فترتفع الشبهة بالتأمل العقلاني وينكشف وجود المطابق لجميع المفاهيم المنتزعة عن هذا الوجود الفارد ، ويظهر سر أن النفس في وحدتها كل القوى فالوجود الانساني في وحدته جميع الحظوظ الوجودية التي منها الاختيار ، وله أن يفعل وأن لا يفعل ، فهو مجبول مع الاختيار كما انه مجبول مع سائر المعاني الثبوتية بالمعنى الذي عرفت من انحلال هذا المجعول الوحداني عقلا الى جميع هذه المعانى ، وأما كون الاختيار من ذاتيات الانسان ولوازم مهيته نظير الزوجية للاربعة فهي لا تكاد تنفك عن الاربعية والزوجية فلا نفهم له معنى محصلا ، لما عرفت في المقدمة الأولى من عدم البرهان على أصل المهية وتقررها قبل الوجود فضلا عن لوازمها كي يكون عروض الوجود لها عروضه للوازمها ايضا بل الاختيار حظ وجودي يوجد بوجود الانسان ، والقول بأن الاختيار من لوازم وجود الانسان الغير المجمول بالجمل المستقل موهون لأن اللوازم الانتزاعية غير ما لها مطابق فى الاعيان ، ومن الوجداني ان هذا الأمر الوجداني من قبيل الثاني .

وعلى هذا فاصل صفة الاختيار والسلطة على اختيار أحد طرفي النقيض حادث مخلوق في الانسان بالنحو المتقدم لا يمكنه اخراجه عن وجوده

ص: 46

وحظوظه وأما إعمال هذه السلطة في خصوص ما شاء من الطرفين فهو معلول لسلطانه وجبلته من دون حاجة الى سبق اختيار آخر كي يستلزم التسلسل ولا وقوعه تحت اختيار غيره كي يستلزم اضطراره في اختياره بل الاضطرار في اعمال قوة الاختيار في خصوص أحد الطرفين مناف لنفس الاختيار ومفاد اللام في له أن يفعل المفروغ عن كونه حظاً من حظوظه موجب للانقلاب والخلف . الثانى ما يستفاد من الكلمة المأثورة عن أساطين الفلسفة : من ان الاختيار بالداعي اضطرار ، وتقريبها ان الانسان بعد ما يبدو له تصور الشيء وتصور فائدته يستتبعه الميل والشوق الى ذلك الشيء فيتحرك نحوه لا محالة بحيث لا يمكنه التخلف فما لم يتحقق الشوق الداعي والباعث النفسانى الى فعل لا يتحقق اختياره وصدوره عنه به واذا تحقق الداعي بتحرك نحوه مضطراً الي اتيانه فأين الاختيار على الترك بل هذا شبهة الاختيار فى متن الاضطرار ، والجواب : ان تصور الشيء الذي هو من مباديء الاختيار ليس عبارة عن الكيف والانفعال مطلقا ، بل كثيراً ما يكون در کانورياً وفعلا نفسانياً فيكون كسائر الافعال اختياريا مستنداً الي القدرة المجبولة في الانسان الموهوبة له وعليه فالشوق المترتب اختياري وكذا الافعال المترتبة على هذا الشوق .

وبالجملة ليست مبادى. الاختيار مطلقاً أموراً قهرية خارجة عن تحت الاختيار ، بل ربما تتحقق بالاختيار فيكون الاختيار بالاختيار لا بالاضطرار والايجاب الجزئى يكفي في ابطال مدعى الخصم من اطلاق اضطرارية الاختيار لمكان استناده الى الداعي واثبات المدعي من اختيارية الاختيار وتأثيره في صدور الافعال هذا بالنظر الى مبادئ الاختيار ، ويمكن الجواب : بالنظر الي ما بعد تحقق المبادي ايضا بأنا نرى بالوجدان ان كل شوق

ص: 47

ليس داعياً نحو المشتاق ولو كان له بعض مراتب التأكد ما لم يصر مؤكداً بجميع مراتبه برفع مواقعه ودفع مزاحماته بل ومع عدم التوجه الى محتمل المائعية إذ الانسان كثيراً ما يمكنه المنع عن تأثير الشوق في تحقق المشتاق بالالتفات الى شيء آخر هو أهم من المشتاق الذي يكون راكزاً في نفسه موجوداً في خزانتها ، مثلا بعد تصور المعصية وتصور التذاذها وحصول الميل والشوق اليها يمكن رفع أثره واطفاء ناثرته بالرجوع الى ايمانه والالتفات الى تصديقه بالعقوبة وحقّية المعاد والحساب والعذاب وهذا بنفسه دليل بارز على عدم الاضطرار بمجرد الشوق والداعي وان الاختيار باق مع حصول جميع مباديه ، ومنه انقدح معنى قولهم عليهم السلام : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن، أى لا يلتفت الى ايمانه وتصديقه بغضب الباري وعقابه إذ لو التفت الى ذلك لما زنى ولما شرب لارتداعه حينئذ عن شوقه ورفع اليد عن عزمه ، وانكشف ايضا وجه قوله تعالى : «ولقد همّت به وهمّ بها لو لا أن رأى برهان ربه ( فتحصل ان كون الاختيار بالداعي لا ينا في الاختيار ولا يوجب الاضطرار ولعله أوقعهم في زعم الاضطرار ما رأوا من سرعة النفس فى افعالها فتخيلوا من سرعتها في الفعل والبلوغ من التصور الى الشوق وتحريك عضلة المشتاق نحو الفعل صدوره عن الاضطرار وعدم القابلية للتخلف حين وصول الداعي اليه بمعنى السلاب الاختيار عن ناحية الترك ولكنه من عدم الغور في النفس وصفاتها وافعالها إذ ترتفع شبهة الاضطرار بالتأمل العقلاني وينكشف تطرق الاختيار في جميع الافعال جارحية وجانحية . نعم سؤال السائل بأنه بعد اعمال ما يستفاد من لام له ان يفعل يجب الفعل يندفع بما ذكرنا من ان ذلك من اللوازم الطبعية للاختيار فراجع ولاحظ.

ص: 48

الثالث ان كل ما يكون فى عالم الوجود على الاطلاق بجواهرها وأعراضها مرآة للجميل على الاطلاق لكونه بأجمعه في الأزل مقدراً في علم الله سبحانه بأحسن ما يمكن ان يقدَّر ومن المعلوم ان عامه تعالى يتعلق بالأصلح الأتقن فلا يكون في الكيان أحسن مما كان وذلك يستلزم دخول فسق الفاسق وكفر الكافر تحت الارادة الأزلية لله تعالى ، وتوضيحه على ما بيّنه بعضهم هو : ان الفاعل الامكاني له القصور في الفاعلية لتوقف صدور الفعل عنه على معدات خارجية من جوارحه وغيرها من الآلات و مقدمات باطنية من تصور الشيء وتصور فائدته المستتبع لتوقان النفس المستتبع لتحريك العضلات نحوه وأمور أخر فعند تحقق جميع ذلك يقع التصميم والاجماع المستتبع للفعل وقد يتردد في الفعل لأجل اختلاف الجهات الكامنة فيه من المقبحة والمحسنة فيقع الكسر والانكسار بينهما ويرجح جانب الغالب منهما . وأما الواجب تعالى فلا قصور في فاعليته لعدم توقف صدوره منه على شيء من المذكورات بل على ارادته الأزلية التي هي عامه بالصلاح فيكفي لفعله تعالى حبه الذاتي للخير المستند الى ابتهاج ذاته بذاته الفياضة فكل ما تحقق في عالم الكون داخل تحت ارادته الأزلية وعلمه بالصلاح والنظام الكامل التام بمعنى ان ما انتظم في عالم الكيان مطابق لعلم السبحان فليس في الامكان أحسن مما كان وحيث لم يقع الايمان من الكافر والكفر من المؤمن كشف إنّاً عن خروجها عن الارادة الازلية نعم من النظام الكياني الداخل تحت العلم الشريف الرباني انزال الكتب وارسال الرسل وجعل الشرايع بالامر بما فيه المصالح والنهي عما فيه المفاسد لا متعلقاتها من الافعال والتروك ففعل المأمور به وترك المنهى عنه ليسا على الاطلاق من ذاك النظام التام بل ما وقع منها خارجا داخل في النظام

ص: 49

وهذا معنى توافق الارادتين وما لم يقع منها خارج عنه وهذا معنى تخالف الارادتين هذا ، والجواب مع قطع النظر عما سلف ان المراد لو كان دخول الافعال تحت النظام مع قطع النظر عن الانتساب الى فاعليها فلا ريب في انها بذواتها ليست حسنة مطلقا بل باعتبار اضافتها الى الفاعلين وكونها مع القصد والاختيار ولو لا ذلك لزم كون تلك الافعال من الحركات والسكنات في حد نفسها ولو مع قطع النظر عن استنادها الى فاعليها وزمان وقوعها ومكان صدورها حسنة لازمة التحقق او قبيحة لازمة الانعدام وهو بديهي البطلان ولو كان المراد ان تلك الافعال حسنةً او قبيحةً مع اضافتها الى فاعليها وسائر ما له الدخل في حسنها وقبحها دخيلةٌ في قوام النظام وصلاحه ففيه ما سبق من انه لو كان كذلك كيف يعقل مرادية عكسها كما في النظام الخالي عن الكفر والطغيان الموعود في آخر الزمان بضرورة من مذهبنا أم كيف يعقل النهي عنها والعقاب عليها بل لا بد من تحسين فاعليها حيث أقاموا النظام الأتم الأصلح بأفعالهم التي لولاها لإختل ذاك النظام ، إلا ان يراد بالنظام مجموع القطمات التي بعضها مشحون بالمفاسد كايام الفترة وبعضها ممزوج بها وبالمصالح كامثال زماننا وبعضها خال عن المفاسد كما في زمان ظهور القائم (علیه السّلام) فيقال ان تلك القطعات من حيث المجموع هي النظام الأتم الأصلح الذي يكون على طبق العلم الأزلي الرباني ، وفيه ان هذا رجم بالغيب مضافا الى ان النظام الرباني ليس مقصوراً بهذا العالم بل له تتمة وهو عالم المعاد المعدّ للمثوبات والعقوبات التي هي نتيجة للاعمال الصادرة بالاختيار بلا كون كفر الكافر وفسق الفاجر مراداً الله تعالي بالارادة الأزلية فارادته الأزلية ان يختار الكفر من يختاره باختياره ويدخل النار بسوء عمله ويختار الايمان من يختاره باختياره ويدخل الجنة

ص: 50

بحسن عمله لا انه أراد كفر الكافر وايمان المؤمن بل جعلها تكويناً تحت اختيارهما ولم يقهرهما على شيء منهما والنظام الشريف التام ما يكون فيه المختار ، لا أن يكون فيه الأشرار والفرق بين الجملتين هو الفرق بين التقريبين فتدبر.

الرابع ان الوجود على الاطلاق معلول له تعالى إذ لا مؤثر في الوجود بما له من المعنى إلا الله وهذا فيما لا يحتاج الى ما به الايجاد واضح وأما فيه فربما يتوهم الاستناد اليه ولكنه بالتدقيق في أن ما به الوجود ليس منه الوجود يتضح فساده واذا ثبت استناد الكل الى قدرته ثبت ان الانسان معبر لا فعاله لا موجد لها واليه يشير قول الرومي:

ما همه شیران ولی شیر علم *** حمله مان از باد باشد دم بدم

وفيه ان كبرى لا مؤثر في الوجود إلا الله لا دليل لها إلا احتياج الممكن في التحقق الى الواجب وقد عرفت ان هذا لا يقتضي أزيد من استناد الفعل اليه ولو باستناد حوله وقوته اليه ، وينبغى التنبيه على أمور الأول - قال المحقق الخراساني (قده) في غير واحد من المواضع : ان مبادىء الاختيار غير اختيارية مستندة الى السعادة او الشقاوة الذاتية قائلا بأن الذاتي لا يعلل إذ الذاتيات لا تنالها يد الجعل اثباتاً ونفياً فهي ضرورية الثبوت للذوات ونفسية التحقق للمهيات مستشهداً بالخبر المأثور : السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ، والنبوي المشهور : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة . والجواب ما عرفت من ان تقرر المهيات قبل الوجود مما لم يقم عليه برهان ولا يساعده وجدان . نعم تقدير الصنع قبل الايجاد مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه كما تدل عليه الاخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام الآتية في محلها إن شاء الله من أن هناك علماً

ص: 51

ومشيةً وتقديراً وقضاءً وامضاءً ولكن التقدير راجع الى علمه تعالى بقدرته الغير المتناهية المستدعية للابداع والافاضة فلا يثبت شيئاً وراء العالم والمعلوم المتحدين بنحو العينية ولا مساس له بما ادعوا من ضرورية الماهية لنفسها واقتضائها السعادة والشقاوة وامثال ذلك وقد عرفت ان المعقول من معنى المهية انها حدود منتزعة عن الوجود معينة لحظّه ، وأما قبل الوجود فليست المهية والذات شيئاً كي تكون من لوازمها السعادة والشقاوة وتكون هي ولوازمها منجعلة غير قابلة للجعل لينتهي اليها اختيار العبد للمعاصي والفجور والكفر والغزور ولو سلم تقرر المهية فلا ريبان المهيات الشخصية افراد للمهية النوعية وقد عرفت ان المهيات النوعية بحسب ذواتها متحدة اللوازم مشتركة الاقتضاء فيها فاقتضاء كل مهية شخصية للازم دون أخرى عريّة عن البرهان مصدومة به وبالوجدان ، فاذن السعادة او الشقاوة لو كانت ذاتية لمهبة شخصية من افراد الانسان لزم كونها ذاتية للجميع لكونها من لوازم المهية الانسانية وجعل السعادة والشقاوة من اللوازم للمهية الشخصية مناف مع المحسوس و للمهية الصنفية مناقض مع برهان اتحاد النوع في اللوازم ومجيئى المصنفات من الاعراض الخارجة عن الذات الغير الدخيلة فيها ، (هذا كله منا مماشاة) وإلا فقد عرفت في المقدمة الثالثة أن السعادة والشقاوة عنوانان انتزاعيان فى طول تحقق الاعمال الخيرية والشرية الناشئة عن الملكات النفسانية المكتسبة كيفة والاختيار فطري للانسان جبلي له مجمول بجعله التكويني على النحو الذي قدمناه ، وايضا فالوجدان شاهد على ما ذكرنا إذ كثيراً ما نرى تبدل الملكات النفسانية غرب صاحب ملكة فاضلة تزول عنه باغواء الشيطان وتغرير النفس وخداع الأشرار وممارسة الفجور ومزاولة الذنوب وترك الطاعة والابتعاد عن

ص: 52

العلماء الى غير ذلك وملكة رذيلة تزول باضداد تلك الأُمور من المراجعة الى الهداة والتشبث بذيل العقل ومجانبة الاشرار ومزاولة الخيرات ومجالسة الاخيار وغير ذلك بل الاختيار صفة فطرية لكل حساس أعني الحيوان غريزية في وجوده وهل يرتاب عاقل بأن الخراطين تفر من الأذى لا عن ارادة بل قسراً وباقتضاء المهية ، فالسعيد إنما يسعد باختياره والشقي إنما يشقى باختياره كما ورد عن اهل الحكمة والعصمة عليهم السلام في قوله تعالي : «ربنا غلبت علينا شقوتنا» (بأعمالهم شقوا) فبإعمال الاختيار فيما يوافق الهوى ويلامه ويخالف العقل ويعانده وجعل القدرة والقوى البشرية تحت حيطة النفس وجعل مصباح العقل تحت الشعور تحصل الشقاوة وبالممارسة على ذلك تحصل الملكات الرذيلة وبإعماله فيما يلائم العقل ويوافقه ويخالف الهوى ويضاده وجعل القدرة والقوى تحت حيطة العقل تحصل السعادة وبالممارسة عليه تحصل الملكات الفاضلة كما أشرنا اليه سابقاً وبرهن في محله والى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله بكلامه الذي هو ملوك الكلام : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن أي لا يرتكبهما إلا بعد جعل مصباح العقل تحت ستار الهوى فلا برهان على ذاتية السعادة والشقاوة حتى على القول بتقرر المهية وأما الروايات المذكورة وما يشابهها فيجيء إن شاء الله تعالى بيان المراد منها . الثاني - ذهب جماعة من الفلاسفة الى القول بالاستعداد الماهوي وقابلية المهية للوجود وطلبها له من واهبه وقد ملئوا كتبهم من ذلك وقد اجاب بعضهم بذلك عن اشكال خلق الكفار والعصاة وتعذيبهم مع عامه تعالى بحالهم واعمالهم ومهدّ لتوضيح ذلك مقدمات اربعة ، (ملخص اوليها) ان كل مهية لها جهة فقدان وجهة وجدان لو زيد عليها أو نقص عنها

ص: 53

صارت مهية اخرى فهية الشجر الجسم النامي فلو زيدت عليها الحساسية صارت مهية الحيوان أو نقص عنها النمو صارت مهية الجماد ، (ثانيتها) ان تقرر المهيات في الصقع الربوبي يتبع العلم بالوجودات أو الاسماء والصفات كما لهحت به السنة العرفاء بإضافة انها متقررة في المرتبة المتأخرة عن الذات البداهة استحالة تقرر ما حيثية ذاته اللا اقتضائية عن الوجود والعدم فيما حيثية ذاته طرد العدم يعنى الذات المقدسة الواجبة . (ثالثتها) ان المجعول بالاصالة هو الوجود والماهية مجعولة بتبعه بالجعل البسيط . (رابعتها) ان المفاض من قبله تعالى الوجود وهو خير محض ومهيات الموجودات قبل وجودها بما هي عليها من الذاتيات ولوازمها الشرية أو الخيرية كانت بلسان حال الاستعداد تطلب الوجود من واهب الوجود وهو فياض على الاطلاق ومقتضاه الافاضة وعدم حرمان طالبها فالفاعل تام الفاعلية والقابل تام القابلية فأفاض عليها الوجود الملائمته مع طبعها وكونه وفقاً لطلبها وهي لتباينها الماهوي سعيد يفعل الطاعات وشقي يفعل الشرور والمعاصي ، ولا يخفى ان افاضة الوجود على المهيات الشريرة ليست من قبيل اعطاء السكين للسفيه لانه لا يلائم طبع السفيه وذاك يلائم طبع المهيات فما هو مفاض من قبله تعالى وهو الوجود خير محض والشرور من قبل المهيات وهذا هو المراد يبطن الأم فى قوله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه أي في عالم المهيات وكذا : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، والجواب عن الأوليين انهما فرع تقرر المهيات قبل الوجود وقد عرفت فساده مضافا الى أن المهيات اذا كانت وجودات علمية له تعالى فلابد من تقررها بالعلم وخرجت عن التقرر الضروري اللاجعلي واذا كان طريقا اليها لزم تبعيته لها لا تبعيتها له ومقدمته الثالثة بالمعنى الذي اخترنا من تبعية

ص: 54

المهيئة للوجود أعني كونها حدوداً منتزعة عنه معينة لحظه في غاية المتانة لكن هيهات من ثبوت مدعاه به ، وكذا مقدمته الرابعة من كون الوجود خيراً محضا بعد عدم ثبوت التقرر الماهوي لا تثبت الاستعداد الماهوي فطلب الوجود من المهيات السعيدة والشريرة بلسان الاستعداد و حمل الاخبار المأثورة على هذا وهم وخيال وسيأتى توضيح تلك الاخبار ان شاء الله تعالى . الثالث - قد تصدى بعض المدققين لتأويل كلمات القوم التي يستشم منها رائحة الجبر بما يرجع الى ما حققناه وما ذكره في تأويل كلماتهم وان كان في نفسه متيناً لتطابق الأدلة العقلية والنقلية عليه إلا أن المتأمل فى كلمات الفلاسفة والعارف بأساليب كلامهم والمتضلع في قواعد الفلسفة الالهية يأبى عن كون ما ذكر مراداً لهم من تلك الكلمات ، وكيف كان فقد ساق الكلام الى البحث عن السعادة والشقاوة الذاتيتين وان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي كذلك فذكر فى وجههما انهما مستندتان الي هويات الموجودات وذواتهم الاصلية المتقررة قبل وجوداتها في وعائها المناسب معها التي كانت في مرحلة الذات مستعدة لقبول الوجود وتطلب الوجود بلسان الاستعداد من الواهب تعالى ، وان الارادة التكوينية الربانية أعني الكلمة الأمرية الاكلهمية وهي كن إذن لها بالدخول فى دار الوجود والتلبس بلباس الشهود ، ثم أورد على نفسه بأنها قبل الوجود معدومة ولا لسان للمعدوم كي يسأل الوجود فأجاب بثبوتها قبل وجودها في بعض مراتب العلم الربوبي واستشهد لذلك بما ورد عن المعصوم (علیم السّلام) : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره انتهى .

ونقول إن كان مراده من الثبوت في بعض مراتب العلم هو تقدير الصنع : كما يؤيده استشهاده بكلمة خلق الخلق وهو الظاهر من بعض الاخبار

ص: 55

التي وعدنا مراراً التعرض لها وسيأتي إن شاء الله وملخص المراد على هذا تقرر المهيات في مرحلة التقدير في مرتبة متأخرة عن العلم وفى طوله وتعلقها بالعلم الربوبي بذاك التقرر ففيه ان المقدَّر بالفتح عين التقدير والمتعلق بالعلم عين العلم والعلم عين الذات في مورده تعالي وتقدس وجعل التقدير بعض مراتب العلم في مرحلة متأخرة عنه إنما هو بنحو من العناية وضرب من المسامحة وإلا فليس هناك سوى عامه الذاتي بقدرته الغير المتناهية على ايجادات غير متناهية ومع ذلك كله فهو ينا في مقالة الفحول من الفلاسفة ، حيث جعلوا وعاء تقررها جميع مراتب العلم وصرّحوا بكون المهيات أموراً ذاتية منجعلة لا تنالها يد الجعل نفياً واثباتا بسيطاً او تأليفيا ضرورة استحالة جعل الذات او الذاتيات للذات وانها ضرورية الثبوت لنفسها قبل التقدير وبعده لا موجودة ولا معدومة وما سمت رائحة الوجود أزلا وان الشرور مستندة الى تلك المهيات أولا وبالذات والي ارادته الأزلية بالعرض ، وناهيك عن ذلك قول السيد الداماد (قده) في هامش القبسات ثم اعلمن ان الشرور والآلام الواقعة في الوجود فى هذه النشأة وفي النشأة الآخرة إنما استنادها الى الارادة الربانية والافاضة السبحانية بالعرض من حيث هي لوازم للخيرات الكثيرة التي يجب فى سنة الفياضية الحقة والوهابية المطلقة تعلق ارادته سبحانه بها بالذات ، وايضا قد اقتر في مقاره ان لوازم المهية إنما تستند بالذات الى نفس المهية ، وأما استنادها الى جاعل المهية في العرض انتهى(1).

وبالجملة كلمات أساطين الحسكة مشحونة بكون المهيات ولوازمهاذاتية غير مجعولة مع ان ما جعله هذا المدقق عبارة عن المهية إنما تكون بالعرض

ص: 56


1- ويقرب منه كلام شيخ الرئيس في الإشارات فراجع هامش ص 33 .

ومجعولة مخلوقة في ظلمة متأخرة عن التقدير حادثة به فكيف يناسب مقالة القوم كي يجعل مراداً لهم بل وحيث ان كل ما بالعرض لابد وان ينتهي الى ما بالذات فهي لا بد وأن تنتهي الى ذاته المقدسة ، ويكون سوءاستعدادها وتأثيرها فى الشرور والمفاسد مستنداً الى جعله تعالى وحاشاه جل شأنه عن ذلك وإن كان مراده من ذلك هو ما ذكره الآلهيون من الفلاسفة من التقرر الماهوي على النحو المتقدم آنها ، وإن كان خلاف ظاهر كلامه فق تقدم في المقدمة الأولى انه ليس هناك وعاء لتقرر المهية قبل الوجود ولا معنى لتقررها ولا لاستعدادها وقابليتها ولا معنى للسان الاستعداد وكيف يعقل ان يكون لغير المستشم رائحة الوجود استعداد ولسان ومطالبة أوليس الوجدان ينادي بأصرح ما في فطرته ببطلان كل ذلك وعدم الواسطة بين الوجود والعدم وتطاردها بل التعبير بالتطارد ايضا من ضيق التعبير وإلا فليس هناك عدا الوجود والايس حتى ان عنوان العدم ايضا مأخوذ من الوجود وببركته للاشارة الى ليسية معنونه .

الفصل الرابع

في القول بالتفويض وبيان أدلته وفسادها ، اعلم ان التفويض قد اطلق في لسان القوم على معان ثلاثة : الأول - تفويض افعاله تعالى الى خصوص طائفة من العباد كالمعصومين عليهم السلام وقد سمى القائلون به بالغلاة والمفوضة وقد دلت على فساده بالمعنى المنسوب اليهم براهين متقنة.

ص: 57

عقليها ونقليها بداهة استلزامه التعطيل فى الذات الربوبية ، وقدرته الفياضة المستدیمة آبية عن ذلك والآيات والاخبار مشحونة بما ذكرنا . الثاني - تفويض الأمور طرّاً الى نفس العباد وعدم جعل شرع ووضع تكليف على أحد اختاره الاباحية وضرورة الشرائع وارتكاز الملييين على خلافه و فساده غني عن البرهان حيث ان ذلك يرجع الى الزندقة . الثالث - تفويض الافعال الى العباد واستقلالهم بالقدرة على افعالهم مع الاعتراف بجعل الشرائع ووضع التكاليف عليهم اختاره المعتزلة وهو ايضا مستلزم للتعطيل والعجز في ناحية ذاته المقدسة جلت قدرته ، بل هو أوضح فساداً من قول الثنوية لاستلزامه تعدد الشريك له تعالي حسب تعدد افراد الفاعلين واستدلوا على مذهبهم بوجوه ، منها - انا نشاهد بالوجدان ان الافعال الصادرة عنا على قسمين : منها ما هو خارج عن اختيارنا ولا سبيل لقدرتنا على خلافها كرطوبة الفم عند تصور الحموضة ورعشة اليد ورجفة الأعضاء ، ومنها ما هو داخل تحت اختيارنا ولنا القدرة على نقيضها كسائر الافعال الصادرة عنا ليلا ونهاراً والجواب ان توسيط الاختيار فى تلك الافعال وعدم خروجها عن قدرة العبد رأساً حق لا محيص عنه لكنه لا يثبت تفويض الامر الى العباد ضرورة استناد معداتها وعللها الناقصة بل الاختيار الذي إعماله جزء أخير من العلة التامة لها الى قدرته تعالى لأن الممكن كما عرفت محتاج في بقائه كحدوثه الى المؤثر الواجب فهو في جميع الآنات المترامية مستمد من فيض الرحمن بحيث لو منع عنه في آن لم يبق له أثر في عالم الكيان . فاختيار الفاعل آناً فآناً مستند الى قدرته تعالى مفاض من رحمته وله قبضه كما منه بسطه ، فاذن توسيط الاختيار لا يستلزم مقهورية القهار وبحوله وقوته نقوم ونقعد . ومنها : الكشف الإني من شرطية استلزامية هي ان

ص: 58

افعال العباد لو كانت مستندة الى قدرته تعالي لزم صدور القبائح والشرور عنه وبداهة فساد التالي لتنزه ذاته وتمامية صفاته وبرائة كاملية لموته عن الاستكمال والاحتياج الى تلك الجرائم والافعال كاشفة عن فساد المقدم . والجواب : ان عدم استنادها اليه تعالى لا يستلزم التفويض كما لا يستلزم ربط عللها الناقصة بقدرته الجبر فيكون الأمر بين الأمرين، وسوء اختيارالعبد او حسن اختياره في البين ولا يرى ذلك إلا ذو العينين ، ومنها : الكشف الإني من الدليل العقلي والشرعي بيان ذلك ان افعال العباد لو كانت مستندة اليه تعالى لما صح العقاب عليها وقد حكم العقل بحسنه ودل الشرع عليه فانكشف استنادها الى العبد وقدرته ، والجواب : ان توسيط الاختيار وان كان يصحح العقاب لكنه لا يستلزم التفويض ولا ينافي تأثيره تعالى في الأفعال بعللها على النحو المتقدم ، ومنها : الكشف الاني ايضاً من العقل والنقل بأنها لو كانت مستندة اليه تعالى لما صح انزال الكتب وارسال الرسل فيستكشف من وقوعها استنادها الى قدرة العبد واختياره والجواب : انه كسابقه لا يستلزم التفويض ولا ينافي قدرته تعالى على النحو المتقدم وظني ان هؤلاء المعتزلة بأدلتهم المتقدمة بصدد رد مذهب الأشاعرة المجبرة وهي وان كانت وافية لابطال الجبر وحصر المؤثر بقدرته تعالى لكنها غير وافية لاثبات مدعاهم من التفويض واستقلال قدرة العبد بالتأثير وظني انهم لم يطلعوا على كلام أئمتنا صلوات الله عليهم اجمعين من الأمر بين الأمرين ولم يتفطنوا لوجود منزلة بين المنزلتين بها يمكن التحفظ على اختيار العباد في افعالهم الذي لا سبيل الى انكاره وجداناً وبرهانا ، فهربوا عن محذور ووقعوا في أشد منه.

ص: 59

تنبيه - قد تصدى الحكيم السبز واري (قدس سره) (1)في منظومته بعد ما أجاب عن أدلة المعتزلة بأجوبة أربعة من قبل الأشاعرة لبيان

جواب خامس عن أدلتهم بقوله :

وكيف فعلنا الينا فوضا *** وان ذا تفويض ذات اقتضى

إذ خمّرت طينتنا بالملكة*** وتلك فينا حصلت بالحركة.

أي تقويض فعل الانسان اليه يستلزم تفويض ذاته ونفسه اليه وقطع ربطه من واهبه بداهة تخمر طينة الانسان بالملكة الفاضلة او الرذيلة الحاصلة له بالحركة البدنية الجارحية او النفسية الجانحية المستتبعة تلك الملكة المتحدة مع النفس بنحو من الاتحاد للأفعال الحسنة او السيئة ، فتفويض الافعال التي هي آثار تلك الملكة المتحدة مع ذات الانسان وطينته مستلزم لتفويض الذات اليه ثم تصدى لدفع ايهام استلزام الجواب عن أدلة المعتزلة من قبل الأشاعرة للالتزام بمقالتهم من الجبر ونفي الاختيار بقوله :

لكن كما الوجود منسوب لنا ***فالفعل فعل الله وهو فعلنا

وملخص ما أفاده في الجواب ان من المعلوم تخمر طينة النفوس البشرية بقاء بالملكة الحميدة العلمية والعملية الحسنة ان كانت طينته في عالم الأمر مأخوذة من عليين وبالملكة الرذيلة الجهلية المركبة والعملية السيئة بقاءً ان كانت من سجُّين ، وبعبارة أخرى كما ان لبدن الانسان طينة وخميرة حاصلة من الماء والتراب كذلك لنفسه ايضا طينة وخميرة حاصلة من ماء العلم وتراب الاخلاق ، فان حسنة ففاضلة وان سيئة فرذيلة وتلك الملكة الفاضلة او الرذيلة إنما حصلت بالحركة وتكرر الافعال الحسنة او السيئة جارحية كانت أم جانحية والملكات عبارة عن هويات الذوات المتحدة معها

ص: 60


1- فى غرر القدرة .

بنحو من الأتحاد انضماماً بناء على تعدد العلم مع العالم والمعلوم أو بنحو العينية بناء على اتحاد العلم والعالم والمعلوم وعلى أي تقدير تتكون تلك الملكات في السير التكاملي الاستحكامي الى حين الموت الاضطراري وعند ذلك تستكمل الملكات ويتم تخمر الذوات ، ولذا قيل في حد الانسان : حيوان ناطق مائت وهذا بخلاف الخطرات والحالات حيث لا يتم كمال النفساني منها . نعم يمكن التمامية بالموت الاختياري المعبر عنه بالاستقامة التي بها يحصل التمكين في المقام الشامخ بقدم راسخ ، والخلوص من التلوين بالكلية والتخلق بالاخلاق الالهية وبه أشار بقوله عز من قائل فاستقم كما أمرت ولكمال صعوبة نيلها قال النبي صلی الله علیه و آله و سلّم شيَّبتني سورة هود لمكان هذه الآية . وبالجملة فهذه الملكات والتخمرات بالنظر الى تدرجها في الوجود الإشتدادي الاستمراري وإن كانت متجددة ومدبرها ومبدعها بالنسبة الى بقائها واستمرارها كل يوم بل كل آن فى شأن إلا انه بالنظر الى مباديها من التقدير والخلق والايجاد جف القلم لأنها مقتضى الطينة العليينية او السجينية وقد خمرت و عجنت من قبل فلله الامر من قبل ومن بعد ، اذا عرفت ذلك فمرجع التفويض في الافعال الى التفويض في اصل الذات والملكات وهو قطعها عن الربط بالمبدع وخروج منها عن حد الامكان ، ولكن لا تتوهم ان بطلان التفويض مستلزم لثبوت الجبر ونفى استناد تلك الافعال الى الفاعلين ، لأنه كما ان الوجود السعي الوحداني العارض على قوابله المتحققة بما لها من التعدد والكثرة أي المهيات المتكثرة مستند الي القوابل الامكانية فيقال زيد موجود وأنا وأنت ، ومع ذلك له الاستناد الحقيقي الى الفاعل الوجوبي كذلك أفعال هؤلاء الموجودين مستندة الى أنفسهم في عين الاستناد اليه تعالى ومقتضى الاستناد اليه واليهم ان الشرور

ص: 61

والمفاسد والاعدام والقبائح مستندة الى القوابل والمهيات لا اليه تعالى .

والعجب من الأشعري حيث يسند وجوده الامكاني الى نفسه ولا يسند أفعاله الشرية الي وجوده بما له من المهية بل الى خالقه جل شأنه مع إن من شأن المهية ان تكون جنة ووقاية عن استناد الشرور اليه جل شانه فانها مثار الكثرات والاعدام والشرور وجلت الذات المقدسة العلية عن استناد الأمور الردية اليه انتهى . أقول ما المراد من الطينة وتقويض الملكات على تقدير تفويض الافعال فان تخمرها كتفويضها ان كان بمعنى استنادها الى اختيار الانسان بحيث تحصل بمزاولة الافعال الحسنة او السيئة كما صرح (قدّس سرّه) به ايضا من حصولها بالحركات البدنية والنفسانية فهو حق ولا يستلزم المحذور الذي توهمه بداهة أن الاختيار الموهوب للانسان يستدعى حصول ملكات نفسانية وصفات وجدانية هي ناشئة عن مزاولته للخيرات والشرور فما منها حصلت من الافعال الحسنة فاضلة ويطلق على صاحبها السعيد وما منها حصلت من الافعال القبيحة رذيلة ويطلق على صاحبها الشقي ، فان ختم له بالأولى مات سعيداً وان ختم له بالثانية والعياذ بالله مات شقياً.

وبالجملة فتلك الملكات ايضا كنفس الاعمال مكتسبة حادثة من اختيار الانسان مفوضة اليه والى اختياره ، فله أن يكتسبها وله أن يتركها ولذا تعاقب النفس على الاولى وتثاب على الثانية ولها ما كسبت وعليها ما اكتسبت بل عليه أن يُبدِّل رذائله بالفضائل وصورته النفسانية الشوهاء بالصورة الحسناء وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ، وإن كان المراد من تخمر الملكات الحميدة او الرذيلة أن للطينة الأصلية العليينية أو السجينية تأثيراً في الطينة البقائية فاضلة أم رذيلة كما يؤيد ذلك إقحام طينة

ص: 62

العليينية والسجينية في المقام والتشبيه بتخمر البدن من الماء والتراب وجعل النفس مخمرة من ماء العلم وتراب الأخلاق فهو مخالف : أولاً - لاختيار الانسان وأن له أن يفعل وأن لا يفعل ، لجريه حينئذ على طبق اقتضاء الطينة ، وثانياً - لتساوق أفراد الانسان بحسب الحقيقة النوعية وعلل قوامها وجداناً وبرهاناً كما أثبتناه في المقدمة الثانية المقتضي لتساوقها في الطينة المقتضية لتلك الملكات النفسانية والافعال الصادرة الجارحية والجانحية أن المشاهد اختلافها في تلك الملكات والافعال ، وثالثاً - للعقاب على الافعال السيئة والثواب على الاعمال الحسنة إذ لا استحقاق حينئذ لأحد بالنسبة الى شيء منها باستقلال من العقل كما ليس في الافعال الاضطرارية من الرعشة والرجفة ولا في الافعال الصادرة عن الفواعل الموجبة كالشمس بالنسبة الى اشراقها ، ورابعاً - لانزال الكتب وإرسال الرسل وجعل الشرائع، ضرورة جري العباد على طبق مقتضيات طينتهم المخمرة فيهم وعدم تأثير الشرائع والأوامر والنواهي فيهم للداعوية والبعث والزجر فيكون جعلها كانزال الكتب وإرسال الرسل لغو او بلا فائدة كما ينافيه أيضا الأمر بالاستقامة ضرورة أن الملكات الفاضلة الكامنة في النفس النبوية ( صلی الله علیه و آله و سلّم ) كالافعال الحسنة الصادرة عنه صلی الله علیه و آله و سلّم إنما هي ملائمة للطبع على طبق الطينة المخمرة فيه فلا معنى للمجاهدة مع النفس في طريقها واستقامته كي يؤمر بذلك ويكون الأمر به مشيِّباً . وأما أخبار الطينة فلابد من تأويلها بعد مخالفة ظواهرها للوجدان والبرهان كما يأتي تفصيلها إن شاء الله . وأما استناد الشرور الى المهيات وكونها وقاية وجنة عن استنادها اليه تعالى فقد عرفت فساده فى المقدمة الأولى وانه لاماهية قبل الوجود حتى تكون وقاية عن الحق تعالى وأما بعده فهي حدود منتزعة عنه معينة لحظه وفي

ص: 63

نفسها وجودات ذهنية فالشرور مستندة الى نفس الوجود أعني اختيار الموجود على النحو المتقدم من دون حاجة في دفع استنادها الى ذاته المقدسة الى تكلف دعوى تقرر المهية بل ما ذكره هو (قدّس سرّه) من تشبيه استناد الافعال الى العباد باستناد الوجود الى القوابل رجوع الى قول الأشعريين : من حصر قدرته تعالى في التأثير وكون فعل العبد مكسوبا إذ قد عرفت تفسير بعضهم له يكون العبد محلا قابلا لفعله تعالى فهذا الذي فر به عن الالتزام بقولهم إما راجع الى هذا القسم من تفسيرهم أو راجع الى قول القاضي أبي بكر الباقلاني : إذ قد عرفت انَّ مختاره تعلق قدرته تعالى بذات الفعل وتعلق قدرة العبد بصفته . ومن المعلوم انه يرجع الى مذهب الأشاعرة فلعمري هذا كر على ما فر فتدبر . هذا تمام الكلام في الأدلة العقلية للأقوال الثلاثة من المجبرة والفلاسفة والمفوضة ومن التأمل فيها تظهر صحة القول الرابع المختار وأدلته .

الفصل الخامس

في الأدلة النقلية ، فمن الآيات التي استشهدوا بها للاضطرار قوله تعالى : « وما تشاؤن إلا أن يشاء الله » (1)، تقريب الاستدلال واضح وفيه بعد تسليم ظهور الآية في استقلال كل من المشيئتين في صدور الفعل انه لابد من تأويلها لمخالفته للعقل الفطري المصارح باستحالة اجتماع العلتين

ص: 64


1- سورة هل أتى الآية 30 .

المستقلتين على معلول واحد وإلا فظاهرها ينطبق على المذهب الحق من الأمر بين الأمرين وكون مشية الخلق في طول مشية الخالق بمعنى استناد مشيتهم في كل آن من الآنات المترامية الى مشيته تعالي وتعلقها بتحققها فيهم كتعلقها بتحقق وجودهم حسبما عرفت في المقدمة الخامسة من افتقار الموجود الامكاني في جميع آنات وجوده الاستمراري إلى المؤثر فالمشية وما حقيقتها حقيقة له أن يفعل وله أن لا يفعل في المختار موجودة بايجاد الله تعالى مفاضة منه وهذا الوجود الاستمراري في نظر العقل الحاكم بالافتقار ينحل الى وجودات حادثة وايجادات متجددة فصح القول بأنهم في كل آن يشاؤن ، لا يشاؤن إلا أن يشاء الله تعالى وجودهم ومشيتهم وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين وتعلق مشية الفاعل المختار بمشيته تعالى ونشوها منها بل اندكاكها فيها تكويناً بلا لزوم جبر في البين . نعم هناك تعلق آخر واندكاك أرفع وهو اندكاك مشية العبد تحت مشية الله التشريعية بتسليمه لأوامره ونواهيه وهو حقيقة الاسلام واليه أشار عليه السلام بقوله : إن العبد كالميت بين يدي الغسال ولعل الآية إشارة الى هذا المعنى والله أعلم . ولا بأس بنقل ما ذكره الطبرسي في تفسير الآية الشريفة قال في مجمع البيان بعد ذكر الآية : أي وما تشاؤن اتخاذ الطريق الى مرضاة الله اختياراً إلا أن يشاء الله اجباركم عليه والج-ائكم اليه فحينئذ تشاؤن ولا ينفعكم ذلك والتكليف زائل ولم يشاء الله هذه المشية بل شاء أن تختاروا الايمان لتستحقوا الثواب - عن أبي مسلم - وقيل معناه وما تشاؤن شيئاً من العمل بطاعته إلا والله يشاؤه ويريده وليس المراد بالآية انه سبحانه يشاء كل ما يشاء العبد من المعاصي والمباحات وغيرها لأن الدلائل الواضحة قد دلت على انه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح ويتعالى عن ذلك وقد قال سبحانه

ص: 65

«ولا يريد بكم العسر» «وما الله يريد ظلماً للعباد» انتهى . وقال في موضع آخر (1)فيه أقوال : أحدها - أن معناه وما تشاؤن الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك من حيث خلقكم لها وكلفكم بها فمشيته بين يدي مشيتكم - عن الجبائي . وثانيها - انه خطاب للكفار والمراد لا تشاؤن الاسلام إلا أن يشاء الله أن يجيركم عليه ويلجأ كم اليه ولكنه لا يفعل لأنه يريد منكم أن تؤمنوا اختياراً لتستحقوا الثواب ولا يريد أن يحملكم عليه - عن أبي مسلم . وثالثها - ان المراد وما تشاؤن الاسلام إلا أن يشاء الله أن يلطف لكم فى الاستقامة لما في الكلام من معنى النعمة . ومنها أيضا قوله تعالى : «ولا تقولنّ لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله» (2)تقريب الاستدلال واضح ، والجواب ان للآية المباركة عقد سلب وهو نهي المخاطب عن اسناد الفعل الى نفسه بلا تعليق على مشيته تعالى وعقد ايجاب وهو ترخيص الاسناد التلبس بالمشية وكل من العقدين مبطل لكل من المذهبين أي الجبر والتفويض إذ على كل منهما لا معنى للنهي عن الاسناد ولا الترخيص عليه لأنه لو كان مجبوراً لم يصح نهيه عنه معلقاً على عدم التعليق على المشية ولا أمره به معلقاً على التعليق وكذا لو كان مفوضا نعم عقد السلب أوضح في بطلان التفويض كما ان عقد الايجاب أوضح في بطلان الجبر والظهور المتحصل من مجموعها موافق للمذهب الحق من الأمر بين الأمرين فالآية على خلاف مطلوبهم أدل ، ومنها : ما وقع فيها اسناد الهداية والإضلال الى الله تعالى مثل قوله عز من قائل : «فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء» (3)وقوله : «من يهدي الله

ص: 66


1- في تفسير سورة كوّرت
2- سورة الكيف الآية 23
3- سورة إبراهيم الآية : 4

فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً» (1)وقوله : «من يهدي الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه» (2)وغيرها وهو كثير وتقريب الاستدلال واضح والجواب أن الهداية وهي ارائة الطريق الموصل الى المطلوب من المفاهيم العامة التي مصاديقها كثيرة كما انها ذات مراتب كثيرة شدة وضعفاً ، والمستفاد من الآيات القرآنية بعد ملاحظة مجموعها فضلا عن ما ورد في تفسيرها والرجوع الى العقل الفطري انها بمرتبة يقتضيها اللطف الرباني ، عامة بالنسبة الي عموم المكلفين وبمرتبة ، خاصة بالنسبة الى المهتدين ، أما العامة فهي تهيئة دلائل الخيرات وافاضة مقتضياتها وتبيين الشرور وإعطاء القدرة على التجنب عنها بايهاب العقل وارسال المبشرين المنذرين واعطاء ما يقع فى طريق تحصيل الأولى وترك الأخرى يدل على ذلك قوله تعالى : «إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً» (3)وقوله : «وهديناه النجدين» (4)فهذه هداية عامة للجميع وحينئذ يهلك من هلک عن بينة ويحيى من حي عن بينة وغير خفي أن هذه الهداية لا تكون بنفسها مجبرة بل لابد من المطاوعة والاهتداء بها بمعنى ا الأخذ بتلك الوسائل والأسباب والجري على طبق تلك السبل والمجاري والاستمداد من القوى والمعدات وهي موكولة الى اختيار نفس الفاعل المختار ، فمن شاء اهتدى وسلك في السبل المعينة وجرى فى المجاري المقررة ، وأما الخاصة فهي عبارة عن ازدياد المذكورات كمًا وكيفاً ويختص بها المهتدي الآخذ بالدلائل السالك في سبل الخير المستمد من الاسباب المعدة والوسائل المهيئة الشاكر لنعمة الهداية العامة المشكور له بازدياد البصيرة وتكثير الوسائل

ص: 67


1- سورة الكهف الآية 16
2- سورة بني إسرائيل الآية 99
3- سورة الدهر الآية 3 .
4- سورة البلد الآية 10

وتسلسل النعم واستمرار التوفيق والى هذه المرتبة يشير قوله تعالى : «إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى» (1)والضلالة الواردة في الآيات إنما تقابل هذه المرتبة ويختص بها من استهان في الأخذ بهداية الله وترك السلوك في سبلها والاستمداد من وسائل الخير الذي هو كفران لنعمة الهداية وحينئذ ينسد باب الامدادات الغيبية وتنقطع سلسلة البصائر الربانية وينخذل هذا الخائب في بيداء الطغيان ويعمى فلا يرى المعروف إلا منكراً ولا يزيده النور الاظاعة والدواء إلا مرضاً واليه أشار بقوله : «فزادهم الله مرضاً»(2) كل ذلك باختيار منه حيث استحب العمى على الهدى .

وملخص المقام انه باذلال النفس وكفها عن الهوى والسلوك في طرق الطاعات تزداد بصيرة العقل ويستمد من آيات الله الآفاقية والأنفسية والتشريعية وتستعد النفس للتصاعد الروحاني والتكامل الاخلاقي وتتعود الاعضاء والجوارح بالاعمال الصالحة والافعال الحسنة وهلم جراً تزداد الهداية بنسبة ازدياد الاهتداء بلا تطرق توهم الاضطرار في شيء من ذلك و بتوضيح آخر : الاضلال من الله عبارة عن رفع اليد الله عبارة عن رفع اليد عن الافاضات النورية والنفحات الرحمانية بعد ترك العبد الجري على طبقها لسقوطه بذلك عن قابلية الاقاضة وكونها في حقه اهداراً لها ولغواً ووصوله الى حد المخاطبة بخطاب : «ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهم الامل فسوف يعلمون» (3)واستيجاب أعماله لعميان القلب وانطباعه بالشر وعدم بقاء مجال لتجلي نور الهداية فيه وانعكاس اشراق البصيرة عليه وممكن أن يكون الاضلال عبارة عن الخذلان وعدم الاخبار على الايمان كما أشار اليه بقوله تعالى : «ولو

ص: 68


1- سورة الكهف الآية 12
2- سورة البقرة الآية 9
3- سورة الحجر الآية 3

شاء لهديكم أجمعين» (1)أي قهراً وجبراً فمصحح نسبة الاضلال اليه قدرته على الهداية قسراً ولكنه لا يكون منافياً للاختيار بل خلافه مناف له ، لأن الهداية القسرية مستلزمة لأخذ تلك الصفة الكمالية وهي الاختيار ، ولا يتوهم ان القهر على الاهتداء أوفق بالصلاح من الاضلال بالاختيار بل هو صالح دون العكس لأن سلب الاختيار أخذ لحظ وجودي وهو منع لهذا الفيض وحاشا جوده عن البخل مضافا الى انه لا ملزم عليه بذلك بل لو سلب الاختيار لم يكن لفعل الطاعة بهاء ولا للارتداع عن المعصية سناء فاندفع توهم مجال السؤال عن انه لمَ لم يلزم الله من يعلم انه يختار الكفر والعصيان على الاطاعة والايمان ولم يقهره على ترك المعاصي والطغيان كما انقدح أن الخذلان إنما نشاء من سوء اختيار العبد بعد تمام الحجة وكمال الهداية وظهر سرقوله جل شأنه : «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون» (2)وأن معناه لا وقع للسؤال عن فعله بعد كونه في محله وعلى طبق الحكمة وبمقتضى الفياضية ولكنهم يسألون عما يفعلون باختيارهم بعد هدايتهم وتهيئة الأسباب لهم.

والمحصل ان الهداية والاضلال بمقتضى الجمع بين مضامين نفس الآيات لا يستلزمان سلب الاختيار عن الفاعل المختار ، ومنها ما اشتملت على وقائع خاصة مثل قوله تعالى : «فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»(3) تقريب الاستدلال واضح والجواب ان أمثال ذلك وقائع وقعت تعجيزاً للمعاندين واظهاراً لقدرة الله الكاملة وكرامة للدين وللصادع به صلوات الله عليه وآله إذ حاصل المراد منها أن تأثير

ص: 69


1- سورة النحل الآية 9
2- سورة الأنبياء الآية 23
3- سورة الأنفال الآية 17

الأفعال الناقصة من حيث الاقتضاء فى المقتضى المقصود إنما هو من قبل الله تعالى المتمم لتلك الافعال بما له من الجنود الباطنية والقوى القهارة الخفية أو المراد منها ان ايجاد شرائط التأثير ودفع موانعه إنما كان بعونه وقوته مثلا القاء الرصاص من الفاعل المختار مقتض لقتل من جعل هدفا له ولكن تأثيره فيه بوصوله اليه فاذا كانت قوة الملقى قاصرة عن ايصاله اليه واعانه آخر فى ايصاله اليه بنحو من الأنحاء فقد تحقق هناك فعلان اختياريان كل عن فاعل مختار غايته أحدهما بايجاد المقتضى والآخر بتميم ذلك كي يؤثر ولا يكاد يتوهم عاقل سلب الاختيار عن الفاعل الأول بسبب معاونة الثاني له وتلك الوقائع من هذا القبيل ، حيث أعان الله تعالى المسلمين يوم بدر بالملائكة فغلبوا بذلك على الكفار ويدل عليه المستفيضة الواردة في تفسير الآية المنقولة عن ابن عباس وجماعة من أن (1)جبرائيل (علیه السلام) قال للنبي (صلی الله علیه و آله و سلّم) يوم بدر : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) لما التقى الجمعان لعلي (علیه السلام) : أعطني قبضة من حصى الوادي فناوله كفاً من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم ، هذا وفي تفسير، بعد ذكر ما يقرب من ذلك ما حاصله ان الملائكة أخذوا بذلك التراب وأوقعوه فى عيون المشركين فصار ذلك سبب عجزهم وغلبة المسلمين عليهم وان المسلمين جاؤا بعد ذلك متفاخرين بعضهم على بعض بأنهم قتلوا المشركين وغلبوا عليهم فأنزل الله تعالى الآية ، وعليه فالنبي (صلی الله علیه و آله و سلّم) فعل فعلا اختياريا هو رمي التراب واعانه الله تعالي بملائكته فأوقعوه في أعين المشركين فتم تأثير الرمي

ص: 70


1- مجمع البیان ج 2 ص 530 ط ایران

وكذا بالنسبة الي المسامين وجهدهم في حرب الكفار وقتلهم وظاهر الآية أيضا يساعد على ما ذكرنا لأنه أسند الرمي الى النبي بقوله : إذ رميت غب تفيه عنه ثم الى نفسه بقوله : ولكن الله رمى فمعنى نفيه عنه نفي تأثيره أثره المرغوب منه لولا التتميم الالهي ومعنى اسناده اليه اسناد ايجاد الرمي بالاختيار وكذلك فى نفي القتل عن المسلمين واسناده الى نفسه عز وجل ، ومنها الآيات الدالة على أن كل ما يكون فى عالم الكيان من الجواهر والاعراض حتى دبيب الغزل وحفيف الشجر مثبوت مضبوط في اللوح المحفوظ ومقدر بتقدير الله الازلي مفصل بتفصيله السرمدي وجف القلم بما هو كائن الي يوم القيامة كقوله تعالى : «وعنده أم الكتاب» (1)وقوله : «وكل شيء أحصيناه فى إمام مبين» (2)وقوله : « وكل شيء فصلناه تفصيلا» (3)بناء على كون التفصيل كناية عن التقدير.

وفيه ما مضى من أن العلم ليس علة للمعلوم وحينئذ فلو خلق الله مرآة لعامه الكاشف عن وجود الموجودات وما يستتبعه من الآثار لم يكن سبباً لجبر العباد على الافعال وسلب الاختيار عنهم في الأعمال إذ كما أن العلم لا يكون مانعاً عن الاختيار لا يكون العكاسه على اللوح المحفوظ أيضا مانعا ، وسيأتي إن شاء الله ما عندنا في بيان التقدير والتفصيل فانتظر هذه ما استدل بها من الآيات لاثبات الاضطرار وقد عرفت عدم دلالة شيء منها على مطلوبهم مضافا الى أن الحجة الاستنادية في باب العقائد إنما هي القطع ولا اعتداد بظواهر الأدلة النقلية كتاباً وسنةً اذا لم يساعدها الدليل القطعي ولابد حينئذ من تأويلها ولو بعيداً بما يوافق العقل ففيما نحن

ص: 71


1- سورة الرعد الآية 39
2- سورة يس الآية 11
3- سورة بنى اسرائيل الآية 13

فيه بعد شهادة الوجدان وقيام البرهان على الاختيار ونفي الاضطرار اذا كان ظاهر آية أو رواية علي الخلاف لا بد من التأويل فضلا عن أن التتبع الوافر في الآيات الواردة في القرآن الكريم ، والتأمل فيما قبلها وما بعدها أو التفاسير الواردة فيها يوجب العلم بعدم ارادة ظواهرها لو كانت على خلاف البرهان كما في الآية الأخيرة ، فينبغي للسالك في طريق معرفة الحقائق عدم الأخذ بظواهر أمثال هذه الآيات مجردها ولا بما ذكره لفلاسفة في تأويلها وتطبيقها على مطالبهم بل لابد وأن يراجع التفاسير الواردة فيها من الطرق الصحيحة بعد تطبيقها على الوجدان السليم ويأخذ علمها من أهلها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فانهم خزان علم الله تعالى وعينة حكمته وممدن وحيه ومعدن وحيه أعاذنا الله واخواننا المؤمنين من كل زيغ وزلل وارشدنا الى ما هو الحق في أمثال المسألة من المسائل المشكلة الاعتقادية .

وأما الآيات التي استدلوا بها للاختيار فهي على انحاء ، منها ما يدل تصريحاً أو تلويحاً على نفي الظلم عنه تعالى فمن الأول قوله عز من قائل : «وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» وقوله عز وجل : «وما ربك بظلام للعبيد» وقوله تبارك وتعالى : «ان الله لا يظلم مثقال ذرَّة في الارض ولا في السماء» ونظائرها من الآيات القرآنية كثيرة ، وحيث ان العباد لو كانوا مجبورين في الاعمال لكان عقابهم من أسوء أنحاء الظلم فنفي الظلم يكشف إنا عن كونهم مختارين ومن الثاني قوله تعالى : «الله الذي أحسن كل شيء خلقه» » ضرورة ان خلق الظلم لا حسن فيه وتوهم ع---دم قبيح الظلم اذا صدر عن الله لكونه قادراً على الاطلاق وغير مسؤول عما .

يفعل واضح الفساد إذ غير خفي ان الكبرى المقلية وهي حكم العقل بقبح الظلم ذاتاً غير قابلة للتخصيص ، وأنت خبير بأن تلك الآيات لا تدل على

ص: 72

استقلال العبد في افعاله ولا تنهض لاثبات الاختيار المطلق للعبد ونفي احتياجه الى حول الله وقوته ، ومنها ما يدل على نزول العذاب على الاقوام السابقة جزاء على اعمالهم السيئة كقوله تعالى : «فأخذناهم بظلمهم» ، وقوله سبحانه : «فأنزلنا عليهم صاعقة من السماء بما كانوا يفسقون» الى غير ذلك من الآيات حيث انهم لو كانوا مجبورين في اعمالهم لكان نزول العذاب عليهم قبيحا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، لكن هذه الطائفة أيضا كسابقتها لا دلالة لها على عدم احتياجهم في الافعال الى حوله وقوته . ومنها ما يدل على إرسال الرسل وانزال الكتب وإتمام الحجة بالأمر والنهي والوعد والوعيد كقوله تعالى :«وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» ؛ وقوله تعالى : «إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً» وقوله تعالى : «قد جائكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها» وقوله تعالى : «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» وقوله تعالى : «يا أيها الناس قد جائكم الحق من ربكم فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلَّ فانما يضلُّ عليها» وقوله تعالى : «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ونحوها مثلها وهي كثيرة تقريب الاستدلال آنه مع الاضطرار في الاعمال يكون الانزال والبعث والارسال عبداً والأمر والنهي تكليفاً بما لا يطاق .

وهذه الطائفة أيضا لا تنهض لاثبات مذهب المفوضة كما هو ظاهر،

ومنها ما يدل على ان الناس مجزيون يوم القيامة بأعمالهم كقوله تعالى : «اليوم تجزون بما كنتم تعملون» وقوله تعالى: « من يعمل سوءا يجز به» وقوله تعالى : «كل نفس بما كسبت رهينة» ، إذ مع الاضطرار لا معنى للجزاء والجواب ما مر بعينه. ومنها ما يدل على ندامة الكفار والفساق يوم القيامة كقوله تعالى : «يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني

ص: 73

كنت تراباً» لأن الانسان لو كان مجبوراً في عمله ولم يكن صادراً عن اختياره فلا معنى لندامته على ما فعل والجواب ما مر، ومنها ما يدل على تكذيب قول الذين أسندوا افعالهم اليه تعالى كقوله سبحانه : «سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا كذلك كذب الذين من قبلهم» ، الى غير ذلك من الآيات إذ لو لم تستند أفعالهم الى اختيارهم وكان المؤثر فيها مشية الله لم يكونوا كاذبين فى دعواهم . والجواب ان عدم استناد شركهم الى مشية الله تعالى لا ينا في كون القدرة على الافعال مفاضة لهم منه مستمرة في جميع الآنات ، ومنها ما يدل على استناد الافعال الي العباد كقوله تعالى : « فطوعت له نفسه قتل أخيه» وقوله سبحانه : «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيرواما بأنفسهم» الى غير ذلك من الآيات وتقريب

الاستدلال وجوابه واضح .

وملخص الكلام ان الآيات القرآنية وإن كانت تدل على الاختيار لكنها لا تنفى ما بيناه من نشو الافعال المختارة عن القدرة الموهوبة فهما معاً يسيران فى وعاء التحقق ويستمران في حيز الوجود والأولى تستمد من الثانية والثانية لا تقهر على الأولى لأن الاختيار واسطة في البين وهذا معنى الأمريين الأمرين هذا كله حال الآيات التي استدل بها لكل من الاضطرار والاختيار.

وأما الاخبار التي يمكن الاستشهاد بها للاضطرار ، فمنها ما دل بظاهره على أن الاعمال الصادرة من الانسان ناشئة عن ذاتياته وهويته مثل النبوي المعروف : السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ومثل قوله (علیه السّلام) : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ومثل قول الصادق (علیه السّلام) : ان الله عز وجل خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه فمن عامه الله

ص: 74

سعيداً لم يبغضه أبداً وإن عمل شراً أبغض عمله ولم يبغضه وان كان عامه شقياً لم يحبه أبداً وان عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير اليه فاذا أحب الله شيئاً لم يبغضه أبداً واذا أبغض شيئاً لم يحبه أبداً ، تقريب الاستدلال واضح . والجواب عنه ما عرفت من أن السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين للانسان بأن تكونا شيئين متأصلين غير اختيار بين كامنتين في ذاته بأن يكون الانسان على نوعين أحدهما من خلق سعيداً لا يتمكن من المعصية والثاني من خلق شقياً لا يتمكن من الطاعة بل هما كما اسلفناه في المقدمة الثالثة عنوانان انتزاعيان من الافعال الحسنة والاعمال السيئة وعبارة عاقبة اعمال العباد يعنى أن من ختمت عاقبته بالخير يسمى سعيداً ومن

عن ختمت عاقبته بالشر يسمى شقياً . نعم هو تعالى لاحاطته العلمية بجميع الأشياء يعلم ذلك من العباد قبل أن يخلقهم فيعلم ان المرء تختم عاقبته بالخير ويموت سعيداً أو بالسوء ويموت شقياً وناهيك شاهداً على ذلك صحيحة ابن أبي عمير المروية في توحيد الصدوق (رضی الله عنه) قال سألت أبا الحسن موسى ابن جعفر (علیه السّلام) عن معنى قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : الشقي من شقي فى بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه فقال الشقي من علمه الله وهو في بطن أمه انه سيعمل اعمال الاشقياء والسعيد من علمه الله وهو في بطن أمه انه سيعمل اعمال السعداء ، قلت له فما معنى قوله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : اعملوا فكل ميسر لما خلق له فقال ان الله عز وجل خلق الجن والانس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عز وجل : «وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون» فيسر كلا لما خلق له فالويل لمن استحب العمي على الهدى انتهى . وقد تقدم أيضا في تفسير بعض الآيات المشتملة على السعادة والشتماوة قوله (علیه السّلام) : بأعمالهم شقوا فهذا اشارة الى ما ذكرنا من انتزاعية السعادة والشقاوة وعدم

ص: 75

کوثهما ذاتيتين وبالتأمل في هذين الخبرين يظهر معنى الروايتين الأخريين أيضا فلا حاجة الى اطالة الكلام في توضيحها فتدبر لكي تعرف وسيجيء لهما مزيد بيان في الخاتمة إن شاء الله.

ومنها الاخبار المستفيضة (1)الواردة في باب الطينة ولا بد من بيان ما يستفاد منها حتى تتضح حقيقة الحال فيها والجواب عنها وهي أمور:

الأول - أن الغرض من الخلقة هو العبادة والطاعة والظاهر من هذا كون العبادة مطلوبة بما هي فعل اختياري كما ان اقتضاء التعبير بالاطاعة والايمان والاتباع وأمثال تلك الالفاظ كونها باختيار العبد يدل عليه قول أبي جعفر (علیه السّلام) في خبر طويل مروي عن عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) بسند کا لصحيح ليعبدوني ولا يشركون بي شيئاً ويؤمنون برسلي ويتبعونهم الخ .

الثاني - ان الطيئة الطيبة والخبيثة منشآن للطاعة والمعصية وان مايرى من طاعة الخبيث ومعصية الطيب إنما هو للامتزاج بين الطينتين يدل عليه قول أبي جعفر (علیه السّلام) : في خبر طويل مروي عن عيون اخبار الرضا (علیه السّلام) بسند غير صحيح فما رأيته من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صيام أو حج أو جهاد او خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر فهو من طينة الناصب وعنصره الذي قد مزج فيه لأن من سنخ الناصب وعنصره وطينته اكتساب المآتم والفواحش والكبائر وما رأيت من الناصب ومواظبته على الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وأبواب البر فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مزج فيه لأن من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآتم الحديث ، وقول أمير المؤمنين (علیه السّلام) في خبر طويل مروي عن تفسير علي بن ابراهيم فقال لها ( يعني للطينة ):

ص: 76


1- وليعلم ان أخبار الطينة بأجمعها رويناها عن البحار فمن أرادها يراجعه .

منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمة المهتدين والدعاة الى الجنة واتباعهم الى يوم الدين ولا أبالي - الخبر ، وعن تفسير العياشي وعيون أخبار الرضا (علیه السّلام) مثله وعن العيون عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : ان الله عز وجل خلق ماءاً عذبا فخلق . أهل طاعته وجعل ماءاً مراً فخلق منه أهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلو لا ذلك ما ولد المؤمن إلا مؤمناً ولا الكافر إلا كافراً وقول على بن الحسين صلوات الله عليهما : في المروي عن العيون وخلق الكافرين من طينة سجين وعن العيون و ير - وسن نظيرهما وعن العيون عن علي (علیه السّلام) قال : ان الله عز وجل خلق آدم عليه السلام من أديم الارض فمنه السباخ ومنه الملح ومنه الطيب فكذلك في ذرية الصالح والطالح ومضمونه خبران مرويان عن العيون ، وقول أبي عبدالله (علیه السّلام) في المروي عن العيون وخلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا - الخبر وفيه قوله (علیه السّلام) : کتاب مرقوم وهو رمز الى الأمر السادس الآتي ان شاء الله وبمضمونه خبران مرويان عن العيون و- ما - وقول أبي عبدالله (علیه السّلام) في المروي عن العيون : ان الله عز وجل خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق أجسادهم من دون ذلك ، فمن أجل ذلك كان القرابة بيننا وبينهم ومن ثم تحنُّ قلوبهم الينا ، وفي المروي عن العيون فقبض قبضة من كتفه الأيمن فخرجوا كالذر فقال : هؤلاء الى

الجنة وقبض قبضة من كتفه الأيسر وقال : هؤلاء الى النار - الخبر . وهذه الرواية تدل على ان الاختلاف في الخلق لمكان عامه تعالي بما هم صائرون اليه فيناسب الأمر السادس الآتي إن شاء الله وتدل ايضا على كون الاختبار بالأمر وأخذ الميثاق تتميما للحجة ، وسند الرواية ابن الوليد عن الصّفار عن اليقطيني عن زياد المقتدري عن عبدالله بن سنان

ص: 77

و بمضمونها خبر آخر مروي عن العيون وتفسير العياشي وفي الأخير أمرهم جميعاً بالوقوع في النار فيناسب الأمر الرابع وفي المروي عن - ير - فهل يستطيع أحد من أهل عليين أن يكون من أهل سجين - الخبر ، وقول علي بن الحسين (علیه السّلام) في المروي عن - ير - : ان الله بعث جبرئيل الى الجنة فأتاه بطينة من طينها الخ وبمضمونه أخبار اربعة مروية عنير و سن -- وفي المروي عن - سن - كن ماء عذباً أخلق منك جنتي واهل طاعتي الخ وفيه اشارة الى الاختبار بالأمر فيناسب الأمر الرابع الآتي ان شاء الله وفي المروي عن - سن - خلق ارضاً وطينة الخ وفي المروي عن تفسير العياشي خلق في مبتدأ الخلق بحرين : أحدهما عذب فرات والآخر ملح اجاج - الخ - وفيه احتجاج اصحاب الشمال واتمام الحجة عليهم بالأمر بدخول النار.

الثالث - ان الطينة الخبيثة لم تقبل ولاية الأئمة روحي لهم الفداء والطيبة قبلت ، ولذا صارت الأولى طينة للمخالفين والثانية للموالين وظاهر هذا الكلام اختيارية القبول واللا قبول ومنشأتيها لولاء من والى وعداء من عادى يدل عليه قول أبي جعفر (علیه السّلام) في المروي عن العيون : فعرض عليها ولا يتنا اهل البيت فقبلتها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها ثم نضب ذلك الماء عنها فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً فجعله طين عليهم السلام ثم أخذ ثفل ذلك الطين فخلق منه شيعتنا ولو ترك

الأمة عليهم طينتكم يا ابراهيم على حاله كما ترك طينتنا لكنتم ونحن شيئاً واحداً قلت : يا بن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) فما فعل بطينتنا قال اخبرك يا ابراهيم خلق الله عز وجل بعد ذلك أرضاً سبخة خبيثة منتنة ثم فجر منها ماءً أجاجا آسنًا ما لحاً فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فلم تقبلها - الخبر ، وقول أبي عبدالله (علیه السّلام)

ص: 78

في المروي عن العيون فقال : يا بحر فقال : لبيك وسعديك قال : فيك بركتي ورحمتي ومنك أخلق اهل طاعتي وجنتي ، ثم نظر الي الآخر فقال يا بحر فلم يجب - الجبر.

الرابع - ان الأرواح أمروا ثم أطاع بعض وعصى بعض وصار المطيع متعلقاً بالطينة الطيبة والعاصي بالخبيثة يدل عليه قول أبي عبدالله (علیه السّلام) : في المروي عن تفسير علي بن ابراهيم فآمن به قوم وأنكره قوم ، وقوله عليه السلام في المروي عنه ايضا : أول من سبق ن الرسل الى بلى رسول الله صلى الله عليه وآله - الحديث . وقريب منهما اثنى عشر خبراً مروية عن العيون و - تفسير العياشي - و- ير - و- سن- وفي آخر مروي عن العيون و تفسير العياشي فدعوهم الى الأقرار الخ ، لكن صدر هذا يدل على الامر الثاني المتقدم وعن تفسير على بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن ابي عبدالله (علیه السّلام) في قوله : واذ أخذ ربك (1)من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على انفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا قلت معاينة كان هذا قال نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه فمنهم من أقر بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله : «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» وقريب منه خبران مرويان عن - تفسير العياشي - و - كشف - وعن - سن- عن ابي جعفر (علیه السّلام) قال لا تخاصموا الناس فان الناس لو استطاعوا ان يحبونا لأحبونا ان الله أخذ ميثاق النفس - الشيعة ظ - فلا يزيد فيهم احد ابداً ولا ينقص منهم احد ابداً وقريب منه عن - سن - وفي المروي عن تفسير

ص: 79


1- لا يخفى أن بيان كيفية عالم الذر وبيان المراد من الميثاق ليس في عهدة الرسالة

العياشي ألست بربكم وعليكم طاعتي قالوا بلى - الخبر ، وفيه اختبارهم بالأمر وفيه ايضا فذلك قوله : «ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون» وفي المروي عنه ايضا بعد نقل الآية انهم ملعونون في الاصل وفي المروي عنه ايضا كما لم يؤمنوا به أول مرة وفى المروي عنه ايضا أخذ الله الحجة ، وقريب من ذلك اخبار أربعة مروية عنه ايضا وفي بعضها «فمنهم من آمن به» الخ . وفي هذا اشارة الى ان من آمن يؤمن ومن جحد يجحد كما ان فى المروي عنه ايضا فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك وعن العيون عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال: ان الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد فما تعارف من الارواح إئتلف وما تناكر منها اختلف وقريب منه خبر آخر مروي عن العيون وفي المروي عنه ايضا ان الله تبارك وتعالي في وقت ما ذر أهم أمر اصحاب اليمين وانتم هم ان يدخلوا النار فدخلوها - الخبر . الخامس - ما يظهر او يستشعر منها كون ذلك تشريفاً لمن يطيع بعد باختياره وخزيا لمن يعصى باختياره كقول ابي جعفر عليهما السلام في المروي عن العيون وليس شيء اكبر على المؤمن من ان يرى صورة عدوه مثل صورته - الخبر ، وكقوله (علیه السّلام) ايضا في المروي عن العيون بسند كالصحيح : وبعامي النافذ فيهم خالفت بين صورهم واجسادهم - الخبر .

السادس - ما يظهر منها ان اختلاف الطينة إنما هو لعلمه تعالى بما هم صائرون اليه ولاعلام المقربين وتميز المطيع عن العاصي كالمروي عن تفسير علي بن ابراهيم عن علي بن الحسين عن البرقى عن ابن محبوب عن الحسين ابن نعيم الصحاف قال سألت الصادق (علیه السّلام) عن قوله : «فمنكم كافر ومنكم مؤمن» فقال عرف الله عز وجل ايمانهم بولايتنا وكفرهم بتركها يوم اخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم عليه السلام وعن - ير - مثله وعن تفسير

ص: 80

علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال : ان الله خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك ، فقلوبهم تهوي الينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا قوله : «كلاً ان كتاب الابرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون» وعن العيون و- سن - مثله وهذه الرواية بقرينة جعل عليين كتابا مرقوماً وذكر خلقهم في صدرها من أعلا عليين يدل على ما في الباب.

ثم لما كانت الروايات الدالة على أصل اختلاف الطينة متواترة بل صارت منشأ للجدال السائر بين طبقات الأعلام من القديم الى الآن لم يكن بد من توضيحها فردها بواسطة ضعف السند كما عن المفيد (رحمه الله علیه) لا وجه له وان كان اللازم . المجيب الجواب عن الخصوصيات الواردة في الصحاح منها ، وحينئذ نقول والتوفيق من الله سبحانه : انه لا ريب في أن ترجيح بعض على بعض في اعطاء مقتضيات الخير وان لم يكن ظلما على الآخرين إلا أن تخصيص بعض باعطاء مقتضيات الشر فضلا عن علله التامة ظلم فاحش يأباه العدل الالهي ويأبى العقل الفطري تسليم اسناده اليه كيف وقد ورد فى المستفيضة الآتية إن شاء الله تعالى فى الخاتمة بيان أعدليته من الجور وأرحميته من ج من جبر العباد على المعاصي ومنافاة ذلك لاستحقاق الثواب والعقاب والوعد والوعيد وبعث الرسل وانزال الكتب ولذا لو عجزنا عن فهم المراد من تلك الاخبار المناقضة بظواهرها للعقل الصريح والمعارضة للروايات الصحيحة الناصّة على ما ذكرنا وواعدناك فلابد إما من تأويلها أو رد علمها اليهم صلوات الله عليهم حسب ما أمرنا به في باب معالجة المتعارضات ، فما قالت الاخبارية هنا من رد علمها الى المعصومين (علیهم السّلام) على ما في البحار ليس بذلك البعيد بل قد عرفت من انه لا معنى للتعبد بالظاهر في العقائد التي

ص: 81

تتقوم بالقطع فضلا عما اذا كان مخالفا للقطع ، اذا عرفت ذلك فنقول بأن تلك الاخبار «لو أخذنا بها جميعاً» متضاربة فى حد أنفسها حيث ان أخذ الطيئة الخبيثة لجعلها ناراً ومادة لأهل النار كما في روايات الطائفة الثانية يقتضي كونها بالاقتضاء منشاءاً للفجور والطغيان وذلك ينافي كون السبب في جعلها طينة للعاصي عدم قبولها للولاية كما هو الظاهر من روايات الطائفة الثالثة وكون التكليف أو سمه بأي اسم صورياً قد عرفت ما فيه في المقدمة السابعة - ومع التسليم فلا معنى حينئذ لاختبار الارواح بالتكليف بدخول النار واطاعة بعض وعصيان آخر كما فى روايات الطائفة الرابعة مع ان الأرواح لو كانت مختارة وأطاعت أو عصت واستلزمت تلك الطاعة والمعصية للتعلق بهذه وتلك فقد حصل التكليف وتم الاختبار وجوزي كل بما عمل فلا معنى حينئذ لتجديد التكليف واستيناف الاختبار ولو كان ذلك صوريا فلا معنى للمنشأية للطاعة والمعصية الدنيويتين ثم ان كل ذلك مناف للغرض الاصلي من الخلقة وهو العبادة الاختيارية كما دلت عليه روايات الطائفة الأولى ، حيث ان ربّ الغرض لا بدوان لا يحول بين الغرض ومحصله بجعل ساد عن تحصيله وحينئذ فأحسن ما يمكن أن يقال هو ان الله تعالى بعلمه النافذ في العباد يعلم المطيع والعاصي كما دلت عليه روايات الطائفة السادسة فيجعل أجساد المطيعين من طيئة طيبة والعكس بالعكس ، ثم ان الطينة الطيبة والخبيئة بما لهما من الشعور اللازم لكل موجود تطيعان وتعصيان في عالم الذر لكن اطاعتهما وعصيانهما غير مربوط بعالم الاختبار والارواح . ثم ان الله تعالى يُعلم المقربين من الملائكة وغيرهم بل الناس جميعاً بأن هذه الارواح على نوعين فريق فى الجنة وفريق فى السعير فتحتج ارواح المخالفين ويختبرهم حينئذ لا تمام الحجة ويكون ذلك الاعلام لمكان عامه فيهم ويجعل

ص: 82

الحجة عليهم في عالم الارواح ومثل تلك الاخبار لو دلت على شيء وذلك في حالة الأخذ بظواهرها ولم تكن كناية بحتة عن علمه ورمزاً ملكوتياً القضائه وعدله فانما تدل على اختبارهم في الذر واطاعتهم أو عصيانهم باختيارهم وحمل جميع تلك النصوص على تلك النصوص على الاستعداد الماهوي بعد صراحة الروايات بكون ما ذكر فيها نطقاً منهم واختياراً لهم حمل بلا شاهد بل بلا ملزم (1)كما ان حملها على اقتضاء الطينة بعد كون الطينة غير دخيلة في الامر حسب ما مر ذكره من كون المدار على اختيار الارواح وعدم كون المادي موضوعا للاحكام بل ومع دلالة بعض الروايات السابقة على كون الطينة ايضا مطيعة وعاصية كما ترى فلابد إذن من حمل اختلاف الطينة على ان اختلاف العباد في الاطاعة والعصيان فى دار التكليف ، وعلمه تعالى بما هم صارون اليه منها اقتضى ذلك تشريفاً وخزيا او اعلاماً وميزاً بلا محذور في ذلك ثبوتا وكما تدل عليه أخبار الطائفة الخامسة فالحمد لله رب العالمين.

خاتمة

اشارة

فى ذكر الروايات الواردة في الجبر والاختيار والقضاء والقدر وقبل بيانها لا بد من تقدمة أمرين وتوضيح ما يستفاد من مجموعها المزيد البصيرة :

الأمر الاول - اعلم ان المطلوب في باب العقائد هو القطع واليقين كما مر بيانه وحينئذ لا معنى لظهورات الالفاظ في هذا الباب ، فلو سلمنا

ص: 83


1- وهذا بعد الغض عما سلف من البرهان على بطلان الاستعداد الماهوى .

أصل التعبد بالسند وبالدلالة ولم نقل بعدم المعنى للجعل في باب الطرق سنداً ودلالة فلاريب بأنه لا معنى له فيهما في بابنا هذا فضلا عما اذا كان الوجدان على خلاف الظاهر لأن الأخذ بالظهور مع القطع بالخلاف مما لا يستقيم عرفا وعقلا وصناعة - وعلى هذا فلو فرض ورود كلام ظاهر في الجبر أو ما يستتبعه ولو توسائط غير اختيارية فلابد من تأويله اورد علمه الى أهله .

الأمر الثاني - لا خلاف ولا اشكال في ان المتبع في باب الظهورات ما يظهر من الكلام بما ينتهي اليه لأن المتكلم المبين للمراد له أن يلحق بكلامه ما شاء من القيود أو القرائن المعينة للمراد حسب ما هو واقع مراده ولذا ليس للمخاطب حمل كلامه الغير التام على ما هو ظاهره بل لو ألحق به منفصلا ما يبين مراده ويخالف ظاهر كلامه ولو بعد حين لم يكن على خلاف أسلوب المحاورة ، اللهم . اذا كان بعد زمان الحاجة لأنه يقبح ذلك من الحكيم ويوجب الالقاء في خلاف الواقع وهذا كله من أوليات الصناعة .

ثم انه لا اشكال عندنا فى أن أمتنا صلوات الله عليهم أجمعين بمنزلة متكلم واحد لأنهم أمناء وجي الله ومبينوا أحكامه ومبلغوا رسالاته وعليه فلا بد لآخذ العلم منهم وطالب الحق عنهم ان يفحص عن جميع ما صدر منهم ثم يراعي فى ذلك الظهور المتحصل من جميع. كلماتهم بعد ضم بعضها الى بعض اذا عرفت هذين الأمرين فنقول : الأخبار الواردة في المقام على طوائف أربع : الطائفة الأولى - ظاهرها بل صريحها نفي الجبر والتفويض وكون أفعال العباد موكولة الى اختيار هم معللا بالتعليلات العقلية كما سنشير اليها. والطائفة الثانية - ظاهرها كون افعالهم مقدرة في علم الله وواقعة تحت مشيته الأزلية بل وفى بعضها ما يظهر منه ان له تعالى ارادة تشريعية وارادة تكوينية ومن بعضها يظهر أن صدور المعاصي مستند الى

ص: 84

سوء قابليتهم وهاتان الطائفتان كما ترى متعارضتان بحسب المدلول والقاعدة فى المتعارضين مع قطع النظر عما سلف من عدم حجية الظهور في باب العقائد انه لو كانت فى البين قرينة على خلاف الظاهر من أحدهما فلابد وأن يؤخذ بظهور الآخر وإلا فلابد من معالجتها ومع العجز لابد من التوقف إذ لا معنى للتخيير في باب العقائد ، ولكن الطائفة الثالثة - حاكمة على الثانية وشارحة للمراد من المشية والارادة والقدر وانها عبارة عن صرف العلم الالهي بلا تأثير منه في صدور الافعال مضافا الى ان القدر في التكوين غير القدر في التشريع كما يظهر ذلك من الطائفة الرابعة - الواردة في التكوينيات .

وملخص مفاد الاخبار بعد ضم الطوائف بعضها إلى بعض ان الله تبارك وتعالي قبل خلق الانسان كان عالماً بما يصير اليه أمره وما يصدر عنه باختياره . ثم انه تعالى خلق الانسان وأعطاه القدرة والاختيار ولكن لم يكن ذلك سببا لانسلاب القدرة عنه تعالى بل له المعية القيومية على العبد وصفاته النفسية والعندية المطلقة والسلطنة التامة بحيث لو لم يرخصهم تكوينا ولم يرخ عنانهم ولم يسدل زمامهم لم يقدروا على العصيان ولم يتمكنوا من الطغيان كما أشير الى المذكورات في الروايات الآتية إن شاء الله تعالى ولذا لم يعص مغلوبا كما ان اعطاء السلطنة التكوينية للعباد لم يكن مستلزماً للترخيص التشريعي والفوضوية والاباحية ولذا ورد في بعض الروايات الآتية بأنه لو فوض الأمر اليهم ويعني به التشريع لم يحصرهم بالأمر والنهي وهذا الذي ذكرنا مع اختصاره باب تنفتح منه أبواب المعرفة والحكمة في مسئلتنا هذه وستزيده بياناً عند بيان الاخبار بمونه ومنّه .

ص: 85

أما الطائفة الأولى :

1 - فمنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي ومن طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن يونس بن عبد الرحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام قالا : ان الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم فيها والله أعز من أن يريد أمراً فلا يكون قال : فسئلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة قالا نعم أوسع مما بين السماء والارض - وهذا الحديث دال على قاعدتين عقليتين : الاولى - ان الرحمانية منافية للجبر ومن المعلوم عدم الفرق بين الجبر بلا توسيط أو بتوسط ما يستلزم الجبر كجعل الطينة من سجين بناء على الأخذ بظاهر ما ورد فيها . الثانية - ان سلطانه امنع من مقهوريته فما لم يجعل للعباد الرخصة التكوينية باعطاء الاختيار لا يمقل تمكنهم من عصيانه وقدرتهم على التمرد عليه فطغيانهم ليس لمقهوريته وذله (والعياذ بالله) لأنه عزيز مقتدر ،ومن العجيب ما صدر (1)عن ابن سينا فى الاشارات من جوابه عن اشكال التعذيب على أمر ايجابي بأن هذه المقدمات مشهورة الخ حيث أن كبرى قبح التعدي والظلم من أوليات العقول وصغرى كون التعذيب بلا موجب من وجدانيات النفوس .

2- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) عن أحمد بن محمد ابن عيسى عن احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ومن طريق الكليني (رضی الله عنه) عن سهل بن زياد عن احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السّلام) : ان اصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة قال

ص: 86


1- قد ذكر نا كلامه في هامش صفحة 33 فراجع .

فقال لي اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين قال الله عز وجل : یا بن آدم بمشيتي كنت الذي تشاء ما تشاء وبقوتي أديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك» وذلك أتى أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني إني لا أسأل عما أفعل وهمُ يسألون قد نظمت لك كل شيء تريد . وهذا الحديث يدل على ما ذكرنا فيما سبق من أن القوى التي بها يقدر العبد على الطاعات وتحصيل الملكات الفاضلة لما كانت موهوبة من الله عز وجل فهو أولى بحسناته من نفسه وان اعمال تلك القوى في سبيل المعاصي واكتساب الملكات الرذيلة لما كان بسوء اختيار العبد فهو أولى بسيئاته منه تعالى ومن هنا يعلم ان معنى قوله اني لا اسأل عما أفعل انه لا موقع لسؤالي لتمامية ما ينبغي أن يكون من عندي وان معنى قوله وهم يسألون ان مسؤليتهم موافقة للعدل حيث ضيعوا النعم الموهوبة لهم بصرفها في غير محلها وليس معناهما الجبارية الجزافية في مؤاخذة العباد بما شاء وعدم اعطاء حق لأحد منهم للسؤال عما يفعله ظلما وعدوانا (والعياذ بالله) .

3- ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن يونس عن عدة عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال له رجل جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي قال الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها فقال له جعلت فداك ففوض الله الى العباد قال لو فوض اليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي قال له جعلت فداك فبينهما منزلة قال فقال . نعم أوسع ما بين السماء والارض ، وهذا الحديث الشريف دل على ان المراد من التفويض المسؤول عنه هو الفوضوية والاباحية لأنه جعل في مقابله الحصر التشريعي ای الأمر والنهي المولوي .

ص: 87

4- ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن الحسن بن على الوشاء عن حماد بن عثمان عن أبي بصير عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : ان من زعم ان الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم ان الخير والشر اليه فقد كذب على الله ، وقوله (علیه السّلام) : ومن زعم ان الخير والشر اليه فقد كذب على الله لأن الخير منه تعالى والشر ليس له ولا اليه كما دل عليه الحديث الأول بالتقريب المتقدم .

5- ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي والصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا (علیه السّلام) قال سألته فقلت : الله فوض الأمر الى العباد قال الله أعز من ذلك قلت فجيرهم على المعاصي قال الله أعدل وأحكم من ذلك قال ثم قال قال الله عز وجل : يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك وهذا الحديث كالصريح في المختار . ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) بأسانيد كثيرة قيمة مذكورة في التوحيد والعيون ومن طريق الكليني (رضی الله عنه) عن علي ابن محمد عن سهل بن زياد واسحاق بن محمد وغيرهما رفعوه قال : كان أمير المؤمنين عليه السلام جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين اذ اقبل شيخ فحتى بين يديه وقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا الى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : أجل ياشيخ ما علوتم تلمة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر فقال له الشيخ عند الله احتسب عناي يا أمير المؤمنين فقال له مه يا شيخ فوالله لقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وانتم قائمون (1)وفى منصرفكم وأنتم

ص: 88


1- في نسخة : مقيمون .

منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا اليه مضطرين فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا اليها مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا فقال : أتظن (1)قضاء حتما وقدراً لازماً لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر واسقط معنى الوعد والوعيد ولم تكن على مسيء لأئمة ولا لمحسن محمدة ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولي بالاحسان من المحسن تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها ان الله تبارك وتعالي كلف تخييراً ونهي تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرهاً ولم يملك مفوضاً ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا ولم يبعث التبيين مبشرين ومنذرين عبداً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قال فنهض الشيخ ويقول :

أنت الامام الذي نرجو بطاعته *** يوم النجاة من الرحمن غفراناً

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً *** جزاك ربك بالاحسان احساناً

وقوله (علیه السّلام) في صدر الحديث : أجل يا شيخ الى قوله إلا بقضاء من الله وقدر دل على ان زمام القوى الموهوبة للعبد إنما هو بيد قدرته تعالى والافعال الصادرة عنه في حيطة قضائه وقدره ولما أوهم بظاهره سببية احاطته العامية بأفعال العبد سلب قدرته ومقهوريته في العمل المقتضي اعدم استحقاق الأجر عليه عظم ذلك في نظر السائل فسأل عن استحقاقه الاجر جر ولما سمع بثبوت الأجر الكاشف عن عدم مقهورية العبد في العمل سأل عن كيفية التوفيق بين عدم المقهورية وبين كون الافعال بقضاء

ص: 89


1- في نسخة : ظننت ، وفى أخرى : ويحك لعلك تظن .

الله وقدره فأزال الامام (علیه السّلام) تعجبه بأن القضاء الالهي هو عامه بأفعال العباد لا الحتم التكويني المستلزم للاضطرار في صدور الافعال المستتبع لتوالي فاسدة ذكرها وعدَّها واحدة بعد أخرى ولدفع ايهام استلزام ذلك. لسلطنة العبد المطلقة حتى على قدرته وقواه بين عليه السلام ان عصيان الله لا يكون بالغلبة على الله بل هو تعالى أرخى عنان العبد وأسدل زمامه حيث أعطاه القدرة والاختيار فمفاد الحديث عبارة أخرى عن الأمر بين الأمرين.

7- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) باسناده عن الحسين ابن سعيد عن حماد بن عيسى الجهني حماد بن عيسى الجهني عن حريز بن عبدالله عَن أبي عبدالله عليه السلام قال : ان الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم ان الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ورجل يزعم ان الأمر مفوض اليهم فهذا قد أوهن الله عز وجل في سلطانه فهو كافر ورجل يزعم ان الله كلف العباد ما يطيقون ولم يكافهم ما لا يطيقون واذا أحسن حمد الله واذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ ، والمراد بالتفويض في قوله (علیه السّلام) يزعم ان الأمر مفوض اليهم إما الفوضوية واما مقهورية الله تعالى والثاني أظهر بمقتضى قوله (علیه السّلام) فهذا قد أوهن الله عز وجل في سلطانه وان ناسب المعنى الأول ايضا كما يظهر بالتأمل ، وكيف كان فقد دل الحديث على أولوية الله تعالى بحسنات العبد وأولوية العبد بسيئاته.

8- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد باسناده عن محمد بن عجلان قال قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام) : فوض الله الأمر الى العباد فقال : الله أكرم من أن يفوض اليهم قلت : فأجبر الله العباد على افعالهم فقال : الله أعدل من أن يجبر عبداً على ما فعل ثم يعذبه عليه، وهذا

ص: 90

الحديث أيضا دال على منافاة التفويض بمعنييه من التشريعي والتكويني الكرامة الله والجبر لعدله وكلا الأمرين موافقان للعقل .

9- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في العيون باسناده عن عبد العظيم بن عبدالله الحسني عن الامام علي بن محمد عن أبيه محمد بن على عن أبيه الرضا (علیه السّلام) قال : خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق عليه السلام فاستقبله موسى بن جعفر (علیه السّلام) فقال له ياغلام ممن المعصية قال عليه السلام : لا تخلو من ثلاث اما أن تكون من الله وليست منه فلا ينبغي الكريم أن يعذب عبده بما لا يكسبه واما أن تكون من الله عز وجل وا العبد فلا ينبغي للشريك القوي ان يظلم الشريك الضعيف وإما أن تكون من العبد و هي منه فان عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه وجوده هذا الحدیث ایضًا كسابقه في المضمون.

10- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في العيون حدثنا كم أبو على الحسين بن أحمد البيهقي قال : حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو ذكوان قال سمعت ابراهيم بن العباس يقول سمعت الرضا(علیه السّلام) و قد ساله رجل ايكلف الله العباد ما لا يطيقون ؟ فقال : هو أعدل من ذلك قال بما فيقدرون على كل ما أرادوه ؟ قال : هم أعجز من ذلك ، دل الحدیث بقرينة لفظة (كل) على ان القدرة لاعمال الارادة في المراد بيد الله تعالى ، فما لم يكن الاذن التكويني أغني إيهاب القدرة لا يقدرون ولذا قال بأنهم أعجز من ذلك فى الجواب السؤال عن القدرة على كل ما يريدون .

وأما الطائفة الثانية

1- فمنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي ومن

ص: 91

طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد عن يونس بن عبد الرحمن عن حفص بن قرط عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : من زعم ان الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم ان الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم ان المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله الله النار ، وللقائل بتعدد الارادتين التشريعية والتكوينية كالمحقق الخراساني والمحقق الاصفهاني تبعاً للسيد الداماد (قدهم) على ما أسلفنا كلامهم ان يستدل لمطلوبه بهذا الحديث لكن المراد من المشية الترخيص التكويني باعطاء السلطنة كما يدل عليه قوله عليه السلام بغير قوة الله فله السلطنة عليهما باعطاء السلطنة لفاعليهما بلا استناد الشر اليه لصدوره عن فاعله فتفطن . وارجاع الكلام الى استناد وجودهما اليه تعالى واستناد وصف الخيرية والشرية الي فاعلهما مع انه بلا شاهد مستلزم إما لمحذور توارد ارادتين على مراد واحد وإما للقول بالكسب وجعل الارادتين طوليتين لا يدفع المحذور بعد كون مصحح استناد الوجود اليه تعالى كون ارادته ما منها الايجاد وكون ارادة العبد ما بها الايجاد ويعود محذور الجبر جذعا وجعل المراد من الطولية الطولية في باب العلل لا يوجب اسناد شيء ما الى العلة الأخيرة دون سوابقها والاعتذار عنه بأن المسند اليها بالاختصار ما يرجع الى حدها غير وجيه بعد كون الحد عبارة عن جهة الفقدان بل ومع التسليم لا يصح إلا في الأمور العدمية و من البديهي ان المعاصي لا تستند الى فاعليها إلا بما هي أمور وجودية لا بما هي أمور عدمية ، نعم مبغوضيتها لمنشأيتها للعدم كما مر مضافا الى ان العدم لا يستند الى فاعل ما لعدم احتياجه الى علة كما هو واضح ثم ما أشبه مقالة هذا القائل مقالة القائلين بترتب العقول والنقوس بدعوى ان لها

ص: 92

جهتين جهة مستندة الى عللها المتصلة طولا بالواجب وجهة مستندة الى أنفسها بما هي محدودة ولما قيل بأن الحدود حيثيات وهي اعتبارية أجاب بأن لها نفس الأمرية وليت شعري هل للفقدان والمحدودية واقعية حتى تصير علة لموجودما ، ثم لا ينافى ما ذكرنا كون الوجود بماله من المعنى مستنداً اليه تعالى بالتقريب الذي سبق.

2- ومنها ما روي من طريقهما (قدهما) أيضا عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد . والمراد من هذا الحديث بقرينة صدره وسائر الروايات ان كل ما فى الوجود لا يعزب عن عامه تعالى أو داخل تحت سلطانه بحيث لو أراد عدمه لم يوجد وأما ان ما وجد يكون بارادته بحيث لا دخل لارادة العبد في أفعاله المختصة به فلا ، نعم قدرة العبد موهوبة من الله ، فأفعاله التكوينية مستندة الى الترخيص التكويني باعطائه السلطنة .

3 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن بعض أصحابنا عن عبيدة بن زرارة عن الحسين بن سعيد ومن طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن الحسين بن سعيد قال : حدثني حمزة بن حمران قال سألت أبا عبدالله (علیه السّلام) عن الاستطاعة فلم يجبنى فدخلت عليه دخلة أخرى فقلت : أصلحك الله انه قد وقع فى قلبي منها شيء لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك قال : فانه لا يضرك ما كان في قلبك قلت : أصلحك الله اني أقول ان الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلفهم إلا ما يطيقون وانهم لا يصنعون شيئاً إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره قال فقال : هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي أو كما قال ، والمراد من الارادة وما يتلوها

ص: 93

علمه تعالى بأفعال العباد بما له من الشؤون

4 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) في الصحيح عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبدالله (علیه السّلام) يقول : ان مما أوحى الله الى موسی (علیه السّلام) وأنزل عليه فى التورية اني انا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن اجريته على يديه وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده فويل لمن أجريته على يديه . ومعنى قوله (علیه السّلام) : فطوبى لمن أجريته على يديه وكذا قوله (علیه السّلام) : فويل لمن أجريته على يديه انه جعله مختاراً في جري الخير او الشر بيده .

5 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن ابن أبي عمير عن محمد بن حكيم عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : ان فى بعض ما أنزل الله من كتبه اني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول كيف ذا وكيف ذا .

6- ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا عن المفضل بن عمرو عبد المؤمن الانصاري عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال الله جل وعز : أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول كيف هذا قال يونس يعني من يتنكر هذا لا من يتفقه فيه ، والمراد من هذا وأمثاله بقرينة ما سبق من نفي اسناد الشر اليه تعالى وما يأتي طوبى لمن أجريت على يديه الخير بالانعام وويل لمن أجريت على يديه الشر بالخذلان فالتفقه الغير الممنوع ان يعلم المراد من الجريان.

ص: 94

7- ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا عن علي بن محمد رفعه عن شعيب العقرقوفي عن أبي بصير قال : كنت بين يدي أبي عبدالله (علیه السّلام) جالساً وقد سأله سائل فقال : جعلت فداك يابن رسول الله من أين لحق الشقاء بأهل المعصية حتى حكم لهم في عامه بالعذاب على عملهم فقال أبو عبدالله عليه السلام : أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه فاما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله ووهب لأهل المعصية القوة على معصيته لسبق علمه فيهم ومنعهم اطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم في عامه ، ولم يقدروا أن يأتوا حالا ينجيهم من عذابه لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره قال السيد الداماد (قده) بعد ذكر هذا الحديث يعني (علیه السّلام) لسوء استعدادهم الجبلي و نقص استحقاقهم الذاتي وقصور قابليتهم الطباعية الموجبة لسوء الاختيار وخسران الاتجار ... الخ .

أقول : المراد من الحديث بقرينة ما سيأتي من الاخبار انه تعالى لما علم أن بعضاً منهم يختار الطاعة وبعضاً منهم المعصية بما لها من الظهور في الاختيار وهب للمطيع القوة على الطاعة وأردف ذلك بلطف خاص هو النشاط على العمل ووهب للعاصي أيضا القوة على المعصية بلا دخل لنفس اعطاء القوة بماهي قوة في صيرورة القوي عاصياً ولم يجبرهم على القبول قسراً والعمل قهراً باعطاء قدرة القبول القسرية نظير قوله تعالى : «ولوشاء لهذا كم أجمعين » فأطاع المطيع وعصى العاصي وفقاً لعامه لا معلولا له ومستنداً اليه ولم يقدر العصاة بعد الطبع والختم الحاصلين بالاختيار على اتيان ما ينجيهم من عذاب الله أو لم يقدروا بعد العصيان على ان يقلبوا سنة الله في استحقاق العذاب لأن عامه لعدم خطأه حري بالتصديق وقضائه

ص: 95

على العاصي بالتعذيب لكونه عدلا واجب الاتباع

8- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن عبدالله بن ميمون القداح قال دخل على أبي عبدالله (علیه السّلام) أو أبي جعفر (علیه السّلام) رجل من اتباع بني أمية فخفنا عليه فقلنا له : لو تواريت وقلنا ليس هو هيهذا قال : بلى ائذنوا له فان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) قال : إن الله عز وجل عند لسان كل قائل ويد كل باسط فهذا القائل لا يستطيع أن يقول إلا ماشاء الله وهذا الباسط لا يستطيع أن يبسط يده إلا بما شاء الله فدخل عليه فسأله عن اشياء أمن بها وذهب ، دل الحديث من جهة اسناد القول والبسط الى الفاعل على ان المراد بالمندية هو الاستيلاء التام فى جميع الاستيلاء التام في جميع الآنات لله تعالى على العبد بما له من الاستطاعة الموهوبة .

9- ومنها ما روي في الصحيح من طريقين أحدهما للصدوق(رضی الله عنه) في التوحيد قال حدثني أبي (رضی الله عنه) قال : حدثنا علي بن ابراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عن سليمان بن خالد ، ثانيهما للكليني (رضی الله عنه) عن علي بن ابراهيم بالاسناد المذكور بعينه عن سليمان بن خالد عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال : ان الله تبارك وتعالى اذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده واذا أراد الله بعبد سوءاً نكت فى قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله ثم تلا هذه الآية : «ومن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصمت في السماء» . والظاهر من هذا الحديث كون النكت الذي هو كناية عن الملكات الرذيلة والحميدة سواداً وبياضاً من قبله تعالى ، ولكن المراد من نكت القلب بنكتة من نور التوفيق الالهي والالمام الرباني الموجب

ص: 96

للتمكن على تحصيل الملكات الفاضلة حسب ما أشرنا اليه في الفصل الخامس والمراد نبكت القلب بنكتة سوداء ستره عن الحقائق وتركه على حاله قرينا مع الملكات الرذيلة المكتسبة بالاختيار وباقتضاء الشهوات ومعنى ايكاله الى الشيطان عدم منع الشيطان الموكل اليه عن اغوائه .

10- ومنها ما روي فى الموثق من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد ومن طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي عن احمد بن محمد بن فضال عن علي بن عقبة عن أبيه قال سمعت أبا عبدالله (علیه السّلام) يقول : اجعلوا امركم الله ولا تجعلوه للناس فانه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد الى الله ولا تخاصموا الناس لدينكم فان المخاصمة ممرضة القلب ان الله عز وجل قال لنبيه : « انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء » وقال : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وذروا الناس فان الناس أخذوا عن الناس وانكم أخذتم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) اني سمعت أبي (علیه السّلام) يقول : ان الله عز وجل اذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع اليه من الطير الى وكره وقوله (علیه السّلام) : اذا كتب على عبد - الخ وان كان ظاهراً فى المقهورية فى الطاعة والمعصية والايمان والكفر واستناد اختلاف الناس فيها الى سوء استعدادهم إلا أن صدر الحديث يدل على جهة الاختلاف وهي الاخذ من الناس أو الرسول ومعه لا ينعقد ظهور للذيل في ذلك فمعنى قوله (علیه السّلام) : كتب علم منه ذلك لسوء اختياره لا انه طبع عليه طبعاً استعداديا.

11 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن عد، من أصحابنا عن احمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن اسماعيل عن اسماعيل السراج عن عبدالله بن مسكان عن ثابت بن سعيد قال قال أبو عبدالله (علیه السّلام) : یا ثابت ما لكم وللناس كفوا عن الناس ولا تدعوا أحداً الى أمركم فوالله

ص: 97

لو أن اهل السماوات واهل الارض اجتمعوا على أن يهدوا عبداً يريد الله ضلاله ما استطاعوا ان يهدوه ولو أن اهل السماوات واهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا عبداً يريد الله ان يهديه ما استطاعوا ان يضلوه كفوا عن الناس ولا يقول أحد عمي وأخي وابن عمي وجاري فان الله اذا أراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفا إلا عرفه ولا منكراً إلا انکره ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره. والكلام في هذا الحديث يعلم مما مضى إلا انه أظهر لمراد الخصم .

12 - ومنها ما روي فى الصحيح من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن أبي علي الأشعرى عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن محمد بن مروان عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبدالله (علیه السّلام) ندعو الناس الي هذا الأمر قال : لا يا فضيل ان الله اذا أراد بعبد خيراً أمر ملكا فأخذه بمقه فأدخله فى هذا الامر طائعاً أو كارها ، يعني (علیه السّلام) ان الله عز وجل يهديه لارادة الدخول في هذا الامر وبهي له أسباب التبصر والهدى لا انه سبحانه يجبره على ذلك ويضطره اليه من غير ارادته واختياره أو المراد انه لو أراد خيراً لعبد قسراً أمر ملكا يفعل كذا حيث أن له جنود السماوات والارض لكنه لا اكراه في الدين فلا تتعبوا أنفسكم في محاجة المعاندين ومناظرة المتعنتين .

13 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن علي بن معبد عن واصل بن سليمان عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال سمعته يقول : أمر الله ولم يشاء وشاء ولم يأمر أمر ابليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء ان يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل .

ص: 98

14 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا عن علي بن ابراهيم عن المختار بن محمد الهمداني ومحمد بن الحسن عن عبدالله بن الحسن العلوي جميعاً عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (علیه السّلام) قال : أن لله ارادتين ومشيتين - ارادة حتم وارادة عزم ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء أو ما رأيت انه نهي آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأ كلا لما غلبت مشيتها مشية الله وأمر ابراهيم ان يذبح اسحاق ولم يشأ ان يذبحه ولو شاء لما غلبت مشية ابراهيم مشية الله.

15 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد بسنده عن أبي القاسم ابراهيم بن محمد العلوي عن فتح بن يزيد الجرجاني قال : لقيته على الطريقة الى أن قال قلت : ان عيسى (علیه السّلام) خلق من الطين طيراً دليلا على نبوته والسامري خلق عجلا جسداً لنقض نبوة موسى (علیه السّلام) وشاء الله أن يكون ذلك كذلك ان هذا لهو العجب فقال (ع) : ويحك يافتح ان لله ارادتين ومشيتين - ارادة حتم وارادة عزم ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء أو ما رأيت انه نهى آدم وزوجته عن ان يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ولو لم يشاء لم يأكلا ولو أكلا لغلبت مشيتهما مشية الله وأمر إبراهيم بذبح ابنه (علیه السّلام) وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشاء ان لا يذبحه لغلبت مشية ابراهيم مشية الله عز وجل - الحديث .

وهذا الحديث من أظهر الروايات فيما رامه القائل بتعدد الارادتين من تعلق الارادة التكوينية بخلاف ما تعلقت به الارادة التشريعية والقائل بصورية التكاليف الموجهة الى العصاة إلا أن قوله (علیه السّلام) : لغلبت مشيتها مشية الله وقوله : لغلبت مشية ابراهيم مشية الله عز وجل ظاهر في وجود المشية لآدم وحواء وابراهيم فلابد من ان يحمل على ان المراد من مشيته

ص: 99

هو المشية التكوينية بإعطاء المشية للفاعلين وعدم الجائهم على ما تعلقت به الارادة التشريعية وهذا صحيح بعد ملاحظة احتياج مشيتهم الى مشية الله تكويناً وكونها مفاضة من قبله اللهم إلا أن يجعل المراد من هذا الحديث وسابقه أن مشيتهم تحت مشية الله تكويناً واعمالا كما سبق عن بعض الفلاسفة ولكنك عرفت بأن هذا ليس بمشية بل صورة المشية ، وبها لا يكون الانسان مختاراً بل مضطراً في صورة المختار وهذا تأويل في ظاهر لفظ المشية المستندة الى المذكورين وليس له شاهد وحينئذ فالصواب في معناه ما ذكرنا بشهادة الروايات الآتية وموافقته للعقل . فقوله في الحديث السابق : لما غلبت مشية ابراهيم مشية الله يعني حيث لم يشاء الذبح بالارادة التكوينية لم يقع الذبح خارجا وهذا مطابق لمشية ابراهيم الطبعية ومخالف لمشية الله العزمية ، وقوله فى هذا الحديث : لغلبت مشية ابراهيم مشية الله عز وجل يعنى لو لم يكن عدم الذبح مطابقاً لمشيته التكوينية بل مخالفاً لها الغلبت مشية ابراهيم الطبعية لمشية الله التكوينية - قال العلامة المجلسي قدس سره في باب العدل قال الصدوق (رحمه الله علیه) بعد ايراد هذا الخبر ان الله تعالي نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وقد علم انهما يأكلان منها لكنه عز و جل شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة كما منعهما عن الاكل منها بالنهي والزجر فهذا معنى مشيته فيها ولو شاء عز وجل منعهما من الاكل بالجبر ثم أكلا منها لكان مشيتها قد غلبت مشية الله كما قال العالم تعالى الله عن العجز علواً كبيراً ثم جعل هو (قدّس سرّه) الاصوب فى معنى المشية منع الالطاف والهدايات فراجع .

16 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن ابان عن أبي بصير قال

ص: 100

قلت لأبي عبدالله (علیه السّلام) : شاء وأراد وقدر وقضى قال : نعم قلت : وأحب قال : لا قلت : كيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب قال هكذا خرج الينا.

17 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) ايضا باسناده عن علي بن ابراهيم الهاشمي قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (علیه السّلام) يقول لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى - الحديث.

18 – ومنها ما روي في الكافي بطريق صحيح عن أبي عبدالله عليه السلام انه قال : لا يكون شيء فى الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع بمشية وارادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب واجل فمن زعم انه يقدر على نقض واحدة فقد كفر وقريب منه أيضا عن أبي الحسن موسى ابن جعفر (علیه السّلام) ، والكلام في أمثال هذه الاخبار سيأتي إن شاء الله في الطائفة الرابعة .

19 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد ، ومن طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن أبيه (رحمه الله علیه) قال حدثنا سعد بن عبدالله عن احمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى بن عمران الحلي عن معلى بن عثمان عن علي بن حنظلة عن أبي عبدالله (علیه السّلام) انه قال : يسلك بالسعيد في طريق الاشقياء حتى يقول الناس ما أشبه بهم بل هو منهم ثم تتداركه السعادة وقد يسلك بالشقي طريق السعداء ثم يتداركه الشقاء ان من كتبه الله سعيداً وان لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة - وظاهر كتبه سعيداً وان كان هو ذاتية السعادة والشقاوة لكن قد تقدم ويأتي ما يدل من الاخبار على أن المراد من الكتب عامه تعالى بأنه يصير باختياره سعيداً أو شقياً كما ان المراد من المشية ذلك.

ص: 101

20 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى ومن طريق الصدوق الله عنه في التوحيد قال حدثنا محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد(ره) قال حدثنا محمد بن الحسن الصفار عن يعقوب بن يزيد عن صفوان بن يحيى عن منصور بن حازم عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : أن الله عز وجل خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه الله سعيداً لم يبغضه أبداً وان عمل شراً أبغض عمله ولم يبغضه وان كان شقياً لم يحبه أبداً وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير اليه فإذا أحب الله شيئاً لم يبغضه أبداً واذا أبغض الله شيئاً لم يحبه أبداً . وهذا الحديث أيضا بظاهره يوهم ذاتية السعادة والشقاوة لكن سيأتي إن شاء الله في أخبار الطائفة الرابعة كون الخلق فى أمثالها عبارة عن التقدير الذي هو عبارة عن عامه تعالي بما تختم به عاقبة العبد من السعادة أو الشقاوة الحاصلتين له بأعماله الاختيارية .

وأما الطائفة الثالثة :

1- فمنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) فى الكافى ومن طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد - عن حماد بن عيسى عن ابراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : ان الله عز وجل خلق الخلق فعلم ما هم صائرون اليه وأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل الى الأخذ به وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل الى تركه ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله تعالى ، والمراد من الاذن في هذا الحديث الترخيص التكويني باعطاء الاختيار وعدم الالجاء لا الاباحة التشريعية ولا الالجاء وإلا لناقض الصدر في نفيهما .

ص: 102

2 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد قال حدثنا أبي (رضی الله عنه) قال حدثنا سعد بن عبدالله قال حدثنا أبو الخير صالح ابن أبي حماد قال حدثني أبو خالد السجستاني وهو الذي لما مضى أبو الحسن موسى (علیه السّلام) وقف عليه ثم نظر في نجومه فزعم انه قد مات فقطع بموته (علیه السّلام) ورجع الى الحق وخالف اصحابه عن علي بن يقطين عن أبي ابراهيم (علیه السّلام) قال : من أمير المؤمنين (علیه السّلام) بجماعة بالكوفة وهم يختصمون في القدر فقال لمتكلمهم : أبالله تستطيع أم مع الله أم من دون الله تستطيع ؟ فلم يدر ما يرد عليه فقال أمير المؤمنين (علیه السّلام) : ان زعمت انك بالله تستطيع فليس لك من الأمر شيء وإن زعمت انك مع الله تستطيع فقد زعمت انك شريك معه في ملكه وإن زعمت انك من دون الله تستطيع فقد ادعيت الربوبية من دون الله عز وجل ، فقال : يا أمير المؤمنين لا - بل بالله أستطيع - فقال : أما انك لو قلت غير هذا لضربت عنقك.

أقول لما كان المخاطب قدرياً قائلا بالاستطاعة الاستقلالية بيّن المعصوم روحي فداه فساد مذهبه بشرح تواليه الفاسدة ، واعلم ان المستطيع يحتاج الى معطي الاستطاعة في جميع آنات وجودها .

ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن أبان بن عثمان عن حمزة بن محمد الطيار قال : سألت أبا عبدالله (علیه السّلام) عن قول الله عز وجل : «وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون» قال : مستطيعون يستطيعون الأخذ بما أمروا به والترك لما نهوا عنه وبذلك ابتلوا ثم قال : ليس شيء مما أمروا به ونهوا عنه إلا ومن الله عز وجل فيه ابتلاء وقضاء ، ومعنى ابتلاء الله وقضائه فى هذا الحديث اختياره وحكمه .

4- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد قال :

ص: 103

حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن احمد بن الوليد (رضی الله عنه) قالا : حدثنا محمد بن يحيى العطار واحمد بن ادريس جميعاً عن محمد بن احمد بن يحيى بن عمران الأشعري عن ابراهيم بن هاشم عن علي بن معبد عن عمر بن اذينة عن زرارة قال سمعت أبا عبدالله (علیه السّلام) يقول : كما ان باديء النعم من الله عز وجل وقد نحلكوه فكذلك الشر من انفسكم وان جرى به قدره والمراد بجريان القدر هو العلم كما سيأتي ان شاء الله . وهذا الحديث حاكم على قوله : أجريت على يديه الشر بقوله الشر من أنفسكم فله حكومة من وجه ومحكومية من أخرى فتقطن .

5- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد قال : حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن احمد بن الوليد (رضی الله عنه) قالا : حدثنا محمد بن يحيى العطار واحمد بن ادريس جميعاً عن محمد بن احمد بن يحيى بن عمران الأشعري عن ابراهيم بن هاشم عن علي بن معبد عن درست عن فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبدالله (علیه السّلام) يقول : شاء الله أن أكون مستطيعاً لما لم يشاء ان أكون فاعله قال وسمعته يقول : شاء وأراد ولم يحب ولم يرض شاء أن لا يكون في ملكه شيء إلا بعامه وأراد مثل ذلك ولم يحب أن يقال له ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر ، والمراد انه شاء بالمشية التكوينية استطاعتي لما علم اني لا أفعله فمعنى لم يشاء أن أكون لم يتعلق علمه بأنى أفعله يدلك على ذلك تفسيره للمشية بالعلم واسناده الاستطاعة الى العبد ومن البديهي ان اعطاء الاستطاعة للفعل وتعلق المشية التكوينية على الترك مما لا يجتمعان أو المراد انه شاء بالتكوين استطاعتي لما لم يقهرني على فعله من باب السلب بانتفاء الموضوع .

ص: 104

6- ومنها ما روي في الموثق (1)من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد قال حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن احمد بن الوليد (رضی الله عنه) قالا : حدثنا محمد بن يحيى العطار واحمد بن ادريس جميعاً عن محمد بن احمد بن يحيى ابن عمران الأشعري قال : حدثنا يعقوب بن يزيد عن على بن حسان عن اسماعيل بن أبي زياد الشعيري عن ثور بن يزيد عن خالد بن سعدان عن ابن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : سبق العلم وجف القلم ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وبالسعادة من الله عز وجل لمن آمن وأتقى وبالشقاء لمن كذب وكفر وبولاية الله للمؤمنين وببرائة من المشركين ، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) عن الله : أروي حديثي ان الله تبارك وتعالى يقول : يابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبارادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد وبفضل نعمتى عليك قويت على معصيتى وبعصمتي وعوني وعافيتي أديت الي فرائضي فأنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، فالخير مني اليك بما أوليت بدءاً والشر مني اليك بما جنيت جزاءاً وبإحساني اليك قويت على طاعتي وبسوء ظنك في قنطت من رحمتي ، فلي الحمد والحجة عليك بالبيان ولي السبيل عليك بالعصيان ولك جزاء الخير عندي بالاحسان لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند غرتك ولم أكلف فوق طاقتك ولم احملك من الأمانة إلا ما أقررت به (2)على نفسك رضيت لنفسي منك ما رضيت لنفسك مني .

وهذا الحديث الشريف مشحون بمعاني عجيبة ودقائق منيعة بها تنحل معضلات كثيرة من هذه المسئلة ، ومنها تنفتح أبواب الحكمة والمعرفة

ص: 105


1- وصفه به المير و قده
2- في نسخة : قدرت به .

لأولي البصيرة حيث قد بين معنى جف القلم الذي دار على ألسنة الفلاسفة وانه ليس عبارة عن سوء القابلية وذاتية السعادة والشقاوة للمهية الانسانية كما تخيلوه بل معنى جفاف القلم هو انفتاح ديوان الحساب من الأزل وتبين حال كل أحد فيه بعامه الأزلي بما يصير العباد اليه بالمال من الاحوال من سعادة المتقين بطاعاتهم الاختيارية وشقاوة الكافرين والعاصين بمخالفتهم الاختيارية واعمالهم السيئة وكون الثواب والعقاب كالسعادة والشقاوة نتيجة أفعال العباد باستحقاقهم كما يدلك عليه قوله : والشر مني اليك بما جنيت جزاءاً وقوله : لك جزاء الخير عندي بالاحسان يعني بالاستحقاق والتفضل وقوله : ولي السبيل عليك بالعصيان ، وثبوت الحقانية للكتاب بما فيه والرسول (صلی الله علیه و آله و سلّم) وما جاء به وولاء الله للمؤمنين والبرائة من المشركين واتمام الحجة على العباد بتبيين الرسول الصادق والامام الناطق كما يدل عليه قوله : فلي الحمد والحجة عليك بالبيان ، وعدم اضطرار أحد على شيء من الاعمال كما يدل عليه قوله : ولم أكلف فوق طاقتك . وعدم خروج تلك الاعمال الاختيارية للعباد عن حيطة قدرة الله تعالى لكونها مستمدة من حوله وقوته كما يدل عليه قوله : بمشينى كنت أنت الى قوله : أديت الي فرائضي فله القبض والبسط وله الحصر والمنع ولكن أرخى عنان قدرة العبد وأسدل زمام اختياره كي يختار ما يختار من الطاعات والمعاصي والايمان والكفر ويكتسب ما يريد من السعادة والشقاوة عالماً في الأزل بما يختار ويكتسب فلذلك يكون الله عز وجل أولى بالحسنات ويكون العبد أولي بالسيئات ، ولهذا فرع الأولوية على اعطاء النعم من القوة والقدرة وغيرهما للعبد فتأمل فى مضامين هذا الحديث الشريف وأجعلها مصباحا منيراً لكشف الحقائق ودحص الأباطيل وخذ العلم من

ص: 106

العيون الصافية لا الثماد الحمئة.

7- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد ، بإسناده عن عبدالله بن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبدالله (علیه السّلام) انه سئل عن المغرفة أهي مكتسبة ؟ فقال : لا فقيل له : فمن صنع الله عز وجل وعطائه هي قال : نعم وليس للعباد فيها صنع ولهم اكتساب الاعمال وقال عليه السلام : أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين .

وهذا الحديث يدل على ان الاعمال ومنها الاعتقاد بالجنان مكتسبة بخلاف المعرفة بالله وببعض صفاته وبالنبوة وبالوصاية لأنها وجدانية فطرية والمراد من خلق تقدير بقرينة مقابلته مع خلق تكوين وما يأتي هو خلق علم فيتحد مضموناً مع سابقه .

8- وفى البحار عن العيون ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان قال : كتبت الى الرضا (علیه السّلام) أسأله عن أفعال العباد أمخلوقة أم غير مخلوقة ؟ فكتب ( ع ) أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل قبل خلق العباد بألفي عام .

9 - ومنها ما روي من طريق الصدوق ( رض ) في التوحيد والخصال باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (علیه السّلام) قال فيما وصف له من شرائع الدين ان الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يكلفها فوق طاقتها وأفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين والله خالق كل شيء ولا نقول بالجبر ولا بالتفويض ، الحديث بطوله ومعنى خلق تقدير فيه أيضا هو العلم بقرينة جعله في مقابل خلق تكوين وبقرينة ما مضى.

10 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن محمد بن يحيى وعلي بن ابراهيم جميعاً عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم وعبدالله بن

ص: 107

يزيد جميعاً عن رجل من أهل البصرة قال : سألت أبا عبدالله (علیه السّلام) عن الاستطاعة فقال أبو عبدالله : أتستطيع أن تعمل ما لم يكون قال : لا قال : فتستطيع أن تنتهي عما قد كون قال : لا قال فقال له أبو عبدالله فمنى أنت مستطيع ؟ فقال : لا أدري فقال أبو عبدالله (علیه السّلام) : ان الله خلق خلقا مجعل في آلة الاستطاعة ثم لم يفوض اليهم فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل اذا فعلوا ذلك الفعل فاذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين ان يفعلوا فعلا لم يفعلوه ان الله عز وجل أعز من أن يضاده آخر في ملكه قال البصري فالناس مجبورون فقال : لو كانوا مجبورين كانوا معذورين قال : فعوض اليهم قال : لا قال : فما هم ؟ قال : علم منهم فعلا فجعل فيهم آله الفعل فاذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين قال : انه الحق وانكم أهل بيت النبوة والرسالة . وقوله (علیه السّلام) : مستطيعون للعمل وقت الفعل مع الفعل ناظر الي رد القدري القائل بكون العبد مستطيعاً بالاستقلال فبين الامام (علیه السّلام) فساده وان الاستطاعة بمعنى القوة والقدرة بما أنها أمر وجودي امكاني تستند كل حصة من حصصها في كل آن من آنات تحققها الى الواجب تعالى وان ما هي علة للفعل ما يكون حال الفعل أى آن تحققه.

فالفاعل مستطيع له حاله بالاستطاعة الموهوبة المستمرة الى هذا الآن وهذا المعنى لا ينافي كونه مستطيعاً قبل الفعل ، بمعنى أنه اذا شاء فعل واذا لم يشاء لم يفعل كما دلت عليه الروايات ولعل الى ما ذكرنا يرجع كلام بعض الفحول (1)فى تعليقاته على الكافي بأن للاستطاعة والقدرة اطلاقين وفسرها بما يرجع حاصله الى انها تطلق تارة على الحالة الحاصلة للانسان بعد تهيؤ

ص: 108


1- هو محمد رفيع بن محمد مؤمن

جميع ما يحتاج اليه الفعل حتى هيجان الارادة ويعني بها العلة التامة للفعل وأخرى على الحالة المتساوي اليها الفعل والترك .

11 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن محمد بن أبي عبدالله عن سهل بن زياد وعلى بن ابراهيم ومحمد بن يحيي جميعاً عن احمد ابن محمد جميعاً عن علي بن الحكم عن صالح النيلي قال سألت أباعبدالله (علیه السّلام) : هل للعباد من الاستطاعة شيء ؟ قال فقال لي : اذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم قال قلت : وما هي ؟ قال : الآلة مثل الزاني اذا زنى كان مستطيعاً للزنا حين زنى ولو أنه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه اذا ترك ، قال ثم قال : ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعاً قلت : فعلى ماذا يعذبه ؟ قال : بالحجة البالغة والآلة التي ركب فيهم ان الله لم يجبر أحداً على معصيته ولا أراد ارادة حتم الكفر من أحد ولكن حين كفر كان في ارادة الله ، وفي عامه ان لا يصيروا الي شيء من الخير قلت : أراد منهم أن يكفروا قال : ليس هكذا أقول ولكني أقول علم انهم سيكفرون واراد الكفر لعامه فيهم وليست ارادة حتم إنما هي ارادة اختيار ، وقوله (علیه السّلام) : اذا فعلوا الفعل اشارة الى أن المستطيع يحتاج الى الاستطاعة في كل آن وان الاستطاعة التي هي علة تامة للفعل هي ما يكون حال الفعل ومعه .

وأما القدرة عليه بمعنى الحاصلة قبل الفعل فليست من الاستطاعة وقد عرفت ان لها اطلاقين ولما أوهم عدم الاستطاعة على الفعل قبل الفعل للجبر سأل عن علة التعذيب فأجاب بأن مصحح العذاب هو الحجة البالغة والقدرة على الفعل المعبر عنها بالآلة فى هذه الرواية . وبالجملة هذا الخبر بصدد بیان فساد قول القدري القائل بالاستطاعة المستقلة فتفطن.

ص: 109

12 - ومنها ما روي في الصحيح من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في العيون انه قال : حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار (رضی الله عنه) قال : حدثنا محمد بن علي بن قتيبة النيسابوري عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال سألت الرضا (علیه السّلام) عن قول الله عز وجل :«فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا ، قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه فى الدنيا الى جنته ودار كرامته

» يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون على ما وعده من ثوابه حتى يطمئن اليه ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له فى الدنيا يجعل صدره ضيقاً حرجا يشك في كفره ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ، وقد عرفت فيما مضى المراد من شرح الصدر وضيقه .

13 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى العيون بإسناده عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي في حديث طويل فيما سأل المأمون أبا الحسن الرضا (علیه السّلام) ثم قال له : يابن رسول الله فما معنى قول الله : «ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله » فقال الرضا (علیه السّلام) : حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن طالب عليه وعليهم السلام قال ان المسلمين قالوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : لو اکرهت یارسول الله من قدرت عليه من الناس على الاسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : ما كنت لا لقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئاً وما أنا من المتكلفين فأنزل الله تعالى يا محمد (صلی الله علیه و آله و سلّم)

ص: 110

لو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعاً على سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس وفي الآخرة ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثواباً ولا مدعا ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في الجنة « أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».

ومن هذا الحديث يعلم المراد من الحديثين السابقين الواردين في جواب الشيعة السائلين عن الامام (علیه السّلام) الدعوة الى هذا الأمر فراجع ولاحظ.

14 - ومنها ما روي فى الصحيح من طريق الصدوق (رضی لله عنه) في التوحيد والعيون انه قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سعد بن عبدالله قال : حدثنا احمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا (علیه السّلام) قال ذكر عنده الجبر والتفويض فقال : الا اعطيك فى هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم فيه أحد إلا كسرتموه قلت : ان رأيت ذلك ، فقال : ان الله تعالى لم يُطّع باكراه ولم ُيغصَ بغلبة ولم يمهل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه فان ائتمر العباد بطاعة (1)لم يكن الله عنها صاداً ولا منها مانعا وان ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل وان لم يحل وفعلوه (2)فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال (علیه السّلام) : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

والمراد من الاطاعة باكراه فى هذا الحديث هو الالجاء عليها والمراد من المعصية بالغلبة هو الاستيلاء التام للعبد بحيث يغلب على الله بمعصيته،

ص: 111


1- فى بعض النسخ : بطاعته
2- فى بعض النسخ : ففعلوه

فالرواية بصدد بيان ان الاطاعة ليست إلا بالاختيار والمعصية ليست إلا بالترخيص التكويني الالهي ثم بيّن الامام (علیه السّلام) بأن كل ما يكون تحت سلطنة العبد يكون تحت سلطان الله بحيث يكون له المعية القيومية ومع ذلك يكون لهم الاختيار بايهاب القادر المتعال وأن مجرد قدرة الله على سلب قدرة العبد ليس مُدخلاً لهم في العصيان فليسوا معذورين على الطغيان. 15 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن عدة من . أصحابنا عن احمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن القاسم بن سليمان عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن رجل قال قال أبو عبدالله (علیه السّلام) : الدعاء هو العبادة التي قال الله عز وجل :«ان الذين يستكبرون عن عبادتي » ادع الله عز وجل ولا تقل ان الأمر قد فرغ منه قال زرارة : إنما يعني لا يمنعك ايمانك بالقضاء والقدر ان تبالغ بالدعاء وتجهد فيه أو كما قال . ثم روي باسناده عن أبي القداح عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال أمير المؤمنين (علیه السّلام) : أحب الأعمال الى الله عز وجل في الارض الدعاء وأفضل العبادة العفاف قال : وكان أمير المؤمنين رجلا دعاءاً .

16 - ومنها ما روي فى الصحيح من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد ، قال : حدثنا الشريف أبو على محمد بن احمد بن محمد بن عبدالله ابن الحسن بن علي بن أبيطالب قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري عن الفضل بن شاذان غن محمد بن أبي عمير قال : سألت أبا الحسن ابن جعفر (علیه السّلام) عن معنى قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : الشقي من شقى فى بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه فقال : الشقي من علم الله وهو في بطن أمه انه سيعمل عمل الاشقياء والسعيد من علم الله وهو في بطن أم----ه انه سيعمل اعمال السعداء ، قلت له فما معنى قوله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : اعملوا فكل ميسر لما

ص: 112

خلق له فقال : أن الله عز وجل خلق الجن والانس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعضوه وذلك قوله عز وجل : «وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون» فيسر كلا لما خلق له فالويل لمن استخب العمى على الهدى .

أقول : أنظر الى هذا الحديث الشريف كيف فسر(1) قول النبي (صلی الله علیه و آله و سلّم) الشقي شقي في بطن أمه بعلم الله تعالى بأنه يصير شقياً بسوء اختياره ولا تغترن باقتراح من فسر بطن الأم بالمهيات والذاتيات المنجعلة ، غير القابلة للتغير والتبدل المستلزم للجبر أو غير ذلك مما يستنكره الطبع السليم والبرهان القويم وخذ تفسير متشابهات الاخبار من مصادرها معادن الوحي وخزنة علم الحق ولا تتبع سبيل من سلك طريق الآراء المخترعة والخيالات المبتدعة .

17 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن اسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن قال قال لي أبو الحسن الرضا (علیه السّلام) : يا يونس لا تقل بقول القدرية فان القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول ابليس فان أهل الجنة قالوا : «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله » وقال أهل النار : «ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين» وقال ابليس : «رب بما أغويتني» فقلت والله ما أقول بقولهم ، ولكنى أقول لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقضى وقدر - فقال : يايونس ليس هكذا ألا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقضى وقدر ، يايونس : تعلم ما المشية ؟ قلت : لا قال: هي الذكر الأول ، فتعلم ما الارادة ؟ قلت : لا قال : هي العزيمة على ما يشاء ، فتعلم ما القدر ؟ قلت : لا قال هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء - قال ثم قال : والقضاء هو الابرام واقامة العين قال فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت : فتحت لي شيئاً كنت عنه في غفلة . أقول سيأتي

ص: 113


1- وأما إذا قلنا بان الإمام علیه السلام بصدد بيان واقع الامر وتكذيب ما نسب الى النّبي صلی الله علیه و آله و سلّم ، فالامر وضع

إن شاء الله معنى المشية والارادة وما يتلوهما في الطائفة الرابعة.

18- ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن اسماعيل بن جابر قال : كان في مسجد المدينة (النبي صلی الله علیه و آله و سلّم) رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون قال فقلت : يا هذا أسألك قال سل ، قال قلت : قد يكون في ملك

الله تعالى ما لا يريد قال : فاطرق طويلا ثم رفع رأسه إلىّ فقال : يا هذا ائن قلت انه يكون في ملكه ما لا يريد انه المقهور ولئن قلت لا يكون فى ملكه إلا ما يريد أقدرت لك بالمعاصي ، قال فقلت لأبي عبدالله (علیه السّلام) : سألت هذا القدري فرن من جوابه كذا وكذا فقال : لنفسه نطق أما لو قال غير ما قال لهلك.

أقول : أنظر كيف فرّع القدري الاقرار بالمعاصي على عدم تحقق فعل ما في الخارج إلا بإرادته فيعلم ان المراد من الارادة الرخصة التكوينية وذلك لأن القدري من يقول بالاستطاعة المستقلة والامام (علیه السّلام) بصدد بیان فساد قوله لا اثبات الجبر.

وأما الطائفة الرابعة :

1 - فمنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد مسنداً عن سعد بن طريف عن الاصبغ بن نباتة وفي الاعتقادات مرسلا قال قال أمير المؤمنين (علیه السّلام) في القدر : ألا ان القدر سر من سر الله وحرز من حرز الله مرفوع من حجاب الله مطوي عن خلق الله مختوم بخاتم الله سابق في علم الله وضع الله العباد عن علمه ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا بقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية لأنه بحر زاخر موَّاج خالص الله عز وجل ،

ص: 114

عمقه ما بين السماء والأرض ، عرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس كثير الحيات والحيتان يعلو مرة ويسفل أخرى ، في قمره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع اليها إلا الله والواحد الفرد ، فمن تطلع اليها فقد ضاد الله في عزه ونازعه في سلطانه وكشف عن سره وستره وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.

دل الحديث على أن العلم بحقائق دار الوجود وما يجري فيها من الحوادث ومصالح عالم الكون مختص بالله ومن ارتضى من نبي أو وصي ولذا وقع الخائضون في لجة الاستطلاع على القدر وأعني به ما ذكر في محاذير كثيرة خلطاً من بعضهم القدر التشريعي وهو الافعال بما هي معروضة لا حكام الشرع بعثاً أم زجراً بالقدر التكويني وزعماً من اخران الاختلاف في الحظوظ الوجودية والمقدرات التكوينية خيراً أم شراً ظلمٌ من الله على العباد قصوراً من عقولهم بأن اعطائه ومنعه تفضل وان لهذا العالم تتمة يعوض فيها عن العلة والفقر والعداء وغيرها وتوهما من ثالث ان الافعال القبيحة مستندة الى الخبث الماهوي وسوء الاستعداد الجبلي وتخيلا من شرح ذمة ان افعال العباد مخلوقة الله خلق تكوين وخيالا من طائفة ان الحوادث معلولة للعادة بلا امكان خرقها من الله عز وجل المنقوض عليهم بالبداء الى غير ذلك من الأباطيل . ولأجل هذا نقول : ان الاعتقاد الاجمالي بما يعتقده أمناء الوحي كاف في أمثال تلك المعضلات حفظاً عن العثرات لا ضنا بالمعرفة ثم ان من الغريب توهم بعض من قال بالاستعداد الجبلي انه هو الواحد الفرد الواصل الى حقيقة القدر مع انه لم يأت بشيء إلا أن المهية كذا وكذا .

2 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی لله عنه) عن أبي حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : لا يؤمن

ص: 115

أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره .

3- ومنها ما روي عن مولانا أمير المؤمنين (علیه السّلام) انه خطب الناس

على منبر الكوفة فقال : ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره.

4 - ومنها ما روي في الصحيح من طريق الصدوق (رضی لله عنه) عن جعفر بن بشير العزرمي وهو أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبيد الله المزرمي الفزاري عن أبي عبدالله (علیه السّلام) ومن طريق الكليني (رضی لله عنه) عن علي بن الحكم عن محمد بن عبد الرحمن العزرمي عن أبيه عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : كان لعلي (علیه السّلام) غلام اسمه قنبر وكان يجب علياً حباً شديداً فإذا خرج علي (علیه السّلام) خرج على أثره بالسيف فرآه ذات ليلة فقال : يا قنبر ما لك ؟ ! فقال : جئت لا مشي خلفك فان الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين ، خفت عليك قال : ويحك ، أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض ؟ فقال : لا بل من أهل الارض قال : ان أهل الارض لا يستطيعون بي شيئاً إلا باذن الله عز وجل من السماء فارجع فرجع ، يعني (علیه السّلام) هو قادر على المنع التكويني ولا يستطيع أحد شيئاً إلا برخصته التكوينية .

5 - ومنها ما روي في الصحيح من طريق الكليني (رضی لله عنه) عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن علي بن حكم عن صفوان الجمال عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال كان أمير المؤمنين (علیه السّلام) يقول : لا يجد عبد طعم الايمان حتى يعلم ان ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وان الضار النافع هو الله عز وجل . وهذا الخبر كالصريح في انه لا راد ولا مرد لقدره وقضائه التكويني .

6- ومنها ما روى من طريق الكليني (رضی لله عنه) عن الوشاء عن ابان عن زرارة عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال أمير المؤمنين (علیه السّلام) على المنبر :

ص: 116

لا يجد أحد طعيم الايمان حتى يعلم ان ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وهذا كسابقه في المفاد.

7- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی لله عنه) في التوحيد مسنداً عن جعفر بن محمد قال : حدثني أبي عن أبيه عن جده عليهم السلام قال : دخل الحسين بن علي (علیه السّلام) على معاوية فقال له : ما حمل أباك على ان قتل اهل البصرة ثم دار عشياً في طرقهم في ثوبين فقال (علیه السّلام) : حمله على ذلك عامه ان ما اصابه لم يكن ليخطئه وان ما اخطأه لم يكن ليصيبه قال : صدقت وقال (علیه السّلام) : وقيل لأمير المؤمنين (علیه السّلام) لما أراد قتال الخوارج لو احترزت يا أمير المؤمنين فقال (علیه السّلام) :

أيٌّ يومّي من الموت أفر *** يوم ما قدر أم يوم قدر

يوم ما قدر لا أرهبه (1)واذا قدر لا ينجو الحذر.

8- ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا في التوحيد قال : حدثنا احمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رحمه الله علیه) قال : حدثنا علي بن ابراهيم ابن هاشم عن أبيه عن عمرو بن عثمان الخزاز عن عمر بن شمر عن جابر بن يزيد الجعني قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السّلام) : يابن رسول الله إنا نرى من الأطفال من يولد ميتاً ومنهم من يسقط غير تام ومنهم من يولد أعمى أو أخرس أو أصم ومنهم من يموت من ساعته اذا سقط على الارض ومنهم من يبقى الى الاحتلام ومنهم من يعمر حتى يصير شيخاً فكيف ذلك وما وجهه فقال (علیه السّلام) : ان الله تبارك أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم وهو الخالق والمالك لهم فمن منعه التعمير فانما منعه ما ليس له ومن عمره فانما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى وعادل فيها منع لا يسأل عما يفعل

ص: 117


1- وفى نسخة : يوم لم يقدر لا أخشى الردى .

وهم يسألون قال فقلت له يابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) وكيف لا يسأل عما يفعل قال لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا وهو المتكبر الجبار والواحد القهار فمن وجد فى نفسه حرجا في شيء مما قضى الله فقد كفر ومن أنكر شيئاً من أفعاله جحد . وصدر الحديث يدل على ان الاعطاء تفضل والمنع عدل وكلاهما حكمة وصواب ولا يخفى ان المنع لما لا علة له إلا التفضل ليس بظلم ولذا قلنا بأن الجبر في التكوين ليس بظلم فاذا كان المنع أيضا مستنداً الى حكمة يكون تقضلا فسبحان من اعطانه ومنعه تفضل.

ثم أن في بعض النسخ فرحا مكان حرجا وعليه فلعل المراد من المقضي الكفر والمعاصي والمعنى حينئذ ان الفرح بهما اعتماداً على سببية القضاء لهما كفر فانه تعالي لا يريد ولا يجب الكفر والمعصية بل يعلمهما وليس علمه بهما مؤمّناً حتى يكون مفرحا .

9- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد والعيون انه قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن على البصري قال : حدثنا أبو الحسن على بن الحسن الميثمي قال : حدثنا أبو الحسن علي بن مهرويه القزويني قال : حدثنا أبو احمد القزويني وهو داود بن سليمان قال : حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السّلام) قال : حدثنا أبي عن آبائه عن الحسين ابن علي (علیه السّلام) قال سمعت علي بن أبي طالب (علیه السّلام) يقول : الأعمال على ثلاثة أحوال : فرائض - وفضائل - ومعاصي ، فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضاء الله وبقضاء الله وبقدره ومشيته وعلمه (1)، وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضاء الله وبقضاء الله وبقدره ومشيته وبعالمه . وأما

ص: 118


1- في نسخة : بمشيته ويعلمه

المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيته وبعلمه ثم يعاقب عليها .

10 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى العيون عن تميم القرشي عن أبيه عن احمد بن على الأنصاري عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا (علیه السّلام) بمرو فقلت له : يا بن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليها السلام انه قال لا جبر ولا تفويض أمر بين أمرين فما معناه ؟ فقال : من زعم ان الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم ان الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق الى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك فقلت له : يابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) فما أمر بين أمرين ؟ فقال : وجود السبيل الى اتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه فقلت له : فهل الله عز وجل مشية وارادة فى ذلك ؟ فقال أما الطاعات فارادة الله ومشيته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها وارادته ومشيته في المعاصى النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها قلت فلله عز وجل فيها القضاء قال نعم ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء قلت فما معنى هذا القضاء ؟ قال الحكم عليهم بما يستحقونه على افعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة .

وهذا الحديث يدل على مطالب خمسة : الأول - ان أفعال العباد مستندة اليهم فقط ولا يمكن استنادها الى الله تعالى فما ذهب اليه جماعة من المتكلمين والفلاسفة من أن كونها أفعال الله عين كونها أفعالا لنا فاسد الثاني - ان التفويض الباطل هو الاعتقاد بتفويض افعال الله تعالى الى الحجج عليهم السلام حيث انه شرك أفعالي الثالث - ان الامر بين الأمرين

ص: 119

عبارة عن اعطاء المقتضيات والمعدات للافعال بالعباد الرابع - ان المشية والارادة عبارتان عن الأمر والنهي التشريعيين الخامس - ان القضاء هو الحكم على المطيع بالثواب وعلى العاصي بالعقاب كما هو أحد معاني القضاء.

11 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد والعيون انه قال : حدثنا الحسين بن ابراهيم بن احمد المؤدب (رضی الله عنه) قال : حدثنا علي بن ابراهيم بن هاشم عن أبيه عن علي بن معبد عن الحسين بن خالد علي بن موسى الرضا (علیه السّلام) عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن علي بن أبي طالب (علیه السّلام) قال سمعت رسول الله يقول : قال الله جل جلاله : من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلهاً غيري - وقال رسوالله(ص) فى كل قضاء الله خيرة للمؤمنين .

12 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في الكتابين انه قال : حدثنا عبد الواحد بن محمد عبدوس النيسابوري العطار (رضی الله عنه) قال : حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري عن حمدان بن سليمان قال : كتبت الى الرضا (علیه السّلام) أسأله عن افعال العباد أمخلوقة هي أم غير مخلوقة فكتب (علیه السّلام) أفعال العباد مقدرة في علم الله قبل خلق العباد بألني عام ، وقوله (علیه السّلام) : مقدرة فى علم الله أي معلومة له تعالى فيدل على عدم دخل التقدير فى أفعال العباد تكويناً (1).

13- ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن سيف بن عيينة عن الزهري وهو محمد بن مسلم شهاب التابعي المدني قال قال رجل لعلي بن الحسين (علیه السّلام) : جعلني الله فداك أبقدر الله يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل ؟ فقال : ان العمل والقدر بمنزلة الروح والجسد فالروح

ص: 120


1- وقد ذكر هذا الخبر مرتين للاستشهاد به لجهتين فلا تغفل.

بغير جسد لا تحس والجسد بغير روح صورة لا حراك بها فاذا اجتمعا قويا وصلحا كذلك العمل والقدر فلو لم يكن القدر واقعاً على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق وكان القدر شيئاً لم يحس ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتم ، ولكنهما باجتماعهما قويا والله فيه العون لعباده الصالحين . ثم قال : ألا ان من أجور الناس من رأى جوره عدلا وعدل المهتدى جوراً ، ألا ان للعبد أربعة أعين : عينان يبصر بها أمر آخرته وعينان يبصر بها أمر دنياه ، فإذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً فتح له العينين اللتين فى قلبه فأبصر بهما العيب واذا اراد غير ذلك ترك القلب بما فيه تم التفت الى السائل عن القدر فقال هذا منه هذا منه.

قوله فلو لم يكن القدر واقعاً على العمل يعني إن تقدير الله للحوادث لا بد وأن ينطبق على الحوادث، ومنها الأعمال التي لها دخل في المقدرات التكوينية كالرقي والفرار عن الحائط المشرف على الانهدام وغير ذلك فان كان للعمل وحده دخل فى المقدرات لم يعرف الله حيث يعرف بخلق العادة وخرقها ولم يكن للقدر أثر فى الخارج به يدرك ولو لم يكن العمل بموافقة القدر لم يمض فلابد من توافق القدر مع العمل ثم لما أوهم ذلك كون الجورمبَّباً

عن القدر دفع ذلك بأن موافقة القدر مع الجور ليس إلا ارخاء العنان تكويناً مع النهي عنه تشريعا وليس للجائر أن يرى نفسه عادلا بمجرد ذلك وقوله : فتح له العينين ... الخ وترك القلب بما فيه ... الخ ناظر الي ما ذكرنا سابقا من الالطاق الخاصة والخذلان الخاص فترك الله القلب اضلاله و اضلاله خذلانه وهو ارخاء عنان العبد على عاتقه وقوله : هذا منه هذا منه اشارة الى ان الهداية الخاصة والخذلان الخاص من القدر لأنها من التحديد الالهي الموافق للعدل والصواب .

ص: 121

14 - ومنها ما روي أيضا من طريقها (رضی الله عنه) عن علي بن ابراهيم - ابن هاشم عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن عن حمزة بن محمد الطيار عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : ما من قبض ولا بسط إلا والله فيه مشية وقضاء وابتلاء .

15 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد عن عبدالله بن ميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قيل لعلي (علیه السّلام) : إن رجلا يتكلم في المشية فقال : أدعه لي قال فدعى له فقال : يا عبدالله خلقك الله لما شاءه أو لما شئت ؟ قال : لما شاء قال : فيمرضك اذا شاء أواذا شئت ؟ قال : اذا شاء قال : فيشفيك اذا شاء أو اذا شئت ؟ قال : اذا شاء قال : فيدخلك حيث يشاء أو حيث شئت ؟ فقال : حيث يشاء قال فقال علي عليه السلام : لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.

دل الحديث على أن الحياة والموت والصحة والمرض وغير ذلك مستند الى مشية الله سبحانه فليس للعبد استقلال فى الوجود والاستطاعة .

16 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن مروان بن مسلم عن ثابت بن أبي صفية عن سعد الخفاف عن الاصبغ بن بناتة قال قال أمير المؤمنين : أوحى الله عز وجل الى داود (علیه السّلام) فقال : يا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد فان اسلمت لما أريد أعطيتك ما تريد وان لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ، وهذا الخبر ناظر الى لزوم التسليم لقضاء الله وقدره التكويني والرضا بهما.

17 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا في التوحيد انه قال حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفى قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين

ص: 122

ابن يزيد النوفلي عن علي بن سالم عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : سألته عن الرقي أتدفع من القدر شيئاً ؟ قال : هي من القدر وقال (علیه السّلام) : ان القدرية مجوس هذه الأمة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه وفيهم نزلت هذه الآية : «يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر انا كل شيء خلقناه بقدر».

وهذا الحديث الشريف وما بمضمونه كالصريح في القدر في التكوينيات ولا ربط له بأفعال العباد كي يستلزم الجبر ويمكن أن يكون ناظراً الى رد القائل بالاستطاعة المستقلة المعتقد لعدم دخل ارادة الله في الحوادث جمة بقرينة بيان حال القدرية بعد الجواب عن تأثير التعاويذ والأدعية.

18 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا في الاعتقادات انه قال وسئل الصادق (علیه السّلام) عن الرقي هل تدفع من القدر شيئاً ؟ فقال : هي من القدر .

19 - ومنها ما روي وصح لدى الفريقين العامة والخاصة عن سيدنا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) انه سئل هل يغني الدواء والرقية من القدر فقال لمن سأله : الدواء والرقية أيضا من قدر الله . وهذا الخبر وما يشابهه في المضمون ناظر الى ان القدر في التكوينيات أيضا لا يستلزم الجير بل الأعمال الاختيارية بما لها من الآثار داخل في التحديدات الالهية التكوينية.

20 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد انه قال : حدثنا الحسين بن احمد بن ادريس قال : حدثنا أبي قال : حدثنا ابراهيم ابن هاشم عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم قال سئل أبو عبدالله (علیه السّلام) فقيل له : بم عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزم و نقض الهمم عزمت ففسخ عزمي و هممت فنقض همي ، ولما كان العزم من الصفات الوجدانية

ص: 123

صح تعلق ارادة الله التكوينية بنقضها.

21 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) فيه أيضا انه قال : حدثنا احمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضی الله عنه) قال : حدثنا علي بن ابراهيم بن هاشم عن أبيه عن محمد بن سنان ممن زياد بن المنذر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عن أبيه عن جده عليهم السلام انه قال : ان رجلا قام الى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين بما ذا عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزم و نقض الهم لمّا هممت فحيل بيني وبين همي وعزمت فخالف القضاء عزمي عرفت ان المدبر غيري قال فماذا شكرت نعمائه ؟ قال : فنظرت الى بلاء قد صرفه عني وأبلى به غيري فعلمت انه قد أنعم علي فشكرته قال : فلماذا أحببت لقائه ؟ قال : لما رأيته قد اختار لي دين ملائكته وانبيائه ورسله علمت ان الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحببت لقائه.

22 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) فيه أيضا بإسناده عن محمد ابن عبد الرحمن العزر مي عن أبيه عبد الرحمن رفعه الى من قال سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) يقول : قدر الله المقادير قبل ان يخلق السماوات والارضين بخمسين ألف سنة .

23 - ومنها ما روي من طريق الصدوق والكليني (رضی الله عنه) عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن علي بن الحكم عن ابان الاحمر عن حمزة بن الطيار عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال قال لي : اكتب فاملى على ان من قولنا أن الله يحتج على العباد بما أتاهم وعرفهم ثم أرسل اليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى أمر بالصلاة والصوم فنام رسول الله صلى الله عليه وآله عن الصلاة فقال : أنا أنيمك وأنا أوقظك فاذا قمت فصل ليعلموا اذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ليس كما يقولون اذا نام عنها

ص: 124

هلك وكذلك الصيام انا أمرضك وانا أصحك فاذا شفيتك فاقضه.

ثم قال أبو عبدالله (علیه السّلام) : وكذلك اذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق ولم تجد أحداً إلا ولله عليه الحجة وله فيه المشية ولا أقول انهم ما شاءوا صنعوا ثم قال : ان الله يهدي ويضل وما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون (1)له وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن أكثر الناس لا خير فيهم ثم تلا عليه السلام : «ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا الله ورسوله فوضع عنهم ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين اذا ما أنوك لتحملهم . قال فوضع عنهم لأنهم لا يجدون» . وهذا الحديث مفصل بين الأفعال الاختيارية وغيرها وان ما هو موضوع للأمر والنهي هو الأول دون الثاني فاذا غلب الله على عبد في شيء فهو أولي بالعذر.

24 - ومنها ما روي فى الصحيح من طريق الكليني (رضی اله عنه) عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن أبي عمير عن زيد الشحام عن ابي عبدالله عليه السلام : ان امير المؤمنين (علیه السّلام) جلس الى حائط مائل يقضي بين الناس فقال بعضهم لا تقعد تحت هذا الحائط فانه معور فقال امير المؤمنين (علیه السّلام) : حرس امرء اجله فلما قام سقط الحائط قال : وكان امير المؤمنين (علیه السّلام) مما يفعل هذا واشباهه وهذا اليقين قوله (علیه السّلام) : حرس امرء أجله لعله ناظر الي الأجل المحتوم فلا ينا في لزوم التحفظ على الحياة وكون الفرار من الحائط المعور من القدر فتبصر.

25- ومنها ما روي في الصحيح من طريق الكليني (رضی الله عنه) عن

ص: 125


1- في نسخة : يتسعون.

الحسين بن محمد عن معلى عن الحسن بن علي الوشا عن عبدالله بن سنان عن ابي عبدالله (علیه السّلام) ، وايضا عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن ابي ولاد الحناط وعبدالله بن سنان عن ابي عبدالله (علیه السّلام) قال : من صحة يقين المرء المسلم ان لا يرضى الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله فان الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية (1)كاره ولو ان أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لادرکه رزقه كما يدركه الموت ثم قال : ان الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة فى اليقين والرضا وجعل الهم والحزن فى الشك والسخط . وهذا الحديث كسابقه مفاداً ونظراً .

26 - ومنها ما روي فى الصحيح من طريقه (رضی الله عنه) ايضا عن - محمد بن يحيى عن احمد بن محمد بن عيسى عن الوشا عن عبدالله بن سنان عن أبي حمزة عن سعيد بن قيس الهمداني قال : نظرت يوماً في الحرب الى رجل عليه ثوبان فحركت فرسي فاذا هو أمير المؤمنين (علیه السّلام) فقلت يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع فقال : نعم يا سعيد بن قيس انه ليس من عبد إلا وله من الله عز وجل حافظ وواقية معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل او يقع فى بئر فاذا نزل القضاء خليا بينه وبين كل شيء .

27 - ومنها ما روي من طريقه (رضی الله عنه) أيضا عن علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عمن ذكره قال قيل للرضا (علیه السّلام) : انك تتكلم بهذا الكلام والسيف يقطر دما فقال ان الله واديا من ذهب حماه باضعف خلقه النمل فلو رامه البخاتي لم تصل اليه.

28 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى التوحيد عن علي بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه عن هارون بن مسلم عن ثابت بن

ص: 126


1- فی نسخه: کراهة

أبي صفية عن سعد الخفاف عن الاصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنين (علیه السّلام): ان كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه وان كنت واليت عدوه فاخرج من ملكه وان كنت غير قانع بقضائه وقدره فاطلب رباً سواه .

29 - ومنها ما روي من طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد والخصال ومن طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي عن محمد بن اسماعيل بن بزيع عن محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم فى بعض اسفاره إذ لقيه ركب فقالوا : السلام عليك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) ، فالتفت اليهم فقال : ما انتم ؟ قالوا : نحن مؤمنون يارسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) قال : فما حقيقة ايمانكم ؟ قالوا : الرضا بقضاء الله والتسليم الله والتفويض الي الله ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلّم) : علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة انبياء فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي اليه ترجعون.

30- ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي ومن طريق الصدوق (رضی الله عنه) فى الفقيه والتوحيد والعيون صحيحا عن ابان الأحمر عن الصادق جعفر بن محمد (علیه السّلام) انه جاء اليه رجل فقال : بأبي أنت وأمي عظني موعظة فقال ان كان الله تبارك وتعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا وان كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا وان كان الحساب حقاً فالجمع لماذا وان كان الخلف من الله عز وجل حقاً فالبخل لماذا وان كانت العقوبة من الله عز وجل النار فالمعصية لماذا وان كان الموت حقاً فالفرح لماذا وان كان العرض على الله عز وجل حقاً فالمسكر لماذا وان كان الشيطان عدواً فالغفلة لماذا وان كان الممر على الصراط حقا فالعجب لماذا وان كان كل شيء بقضاء الله وقدره فالحزن لماذا وان كانت الدنيا فانية فالطمأنينة اليها

ص: 127

لماذا ، وقال (ع) كان أمير المؤمنين (علیه السّلام) كثيراً ما يقول : اعلموا علما يقينا ان الله تعالى لم يجعل للعبد وان اشتد جهده وعظمت حيلته وكثرت مكايدته ان يسبق ما سمى له في الذكر الحكيم ولم يجعل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته وبين أن يبلغ ما سمى له فى الذكر الحكيم ، أيها الناس انه لن يزداد امرء يفتر بحرفة ولن يتنقص امرء يفتر بحرفة - انتهى.

دل الحديث على ان الله التقدير فى الرزق ونحوه من المقدرات التكوينية كما له التشريع في الافعال الاختيارية بدليل قوله فالمعصية لماذا.

31 - ومنها ما روي من طريق الكليني (رضی الله عنه) في الكافي عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد ومن طريق الصدوق (رضی الله عنه) في التوحيد عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال : سئل العالم عليه السلام كيف علم الله قال : علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد فبعلامه كانت المشية وبمشيته كانت الارادة و بارادته كان التقدير بتقديره كان القضاء وبقضائه كان الامضاء والعلم متقدم المشية والمشية ثانية والارادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الاشياء فاذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء فالعلم في المعلوم قبل كونه والمشية في المشيء قبل عينه والارادة فى المراد قبل قيامه والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً ووقتاً (1)والقضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالجواس من ذي لون وريح ووزن وكيل ومادب ودرج من انس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس ، والله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له فاذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله

ص: 128


1- في نسخة : وقياماً

يفعل ما يشاء . فبالعلم علم الاشياء قبل كونها وبالمشية عرّف صفاتها وحدودها و أنشأها قبل اظهارها وبالارادة ميّز انفسها في ألوانها وصفاتها (1)وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها وبالقضاء أبان للناس أما كنها ودلهم عليها وبالامضاء شرح عللها وأبان أمرها وذلك تقدير العزيز العليم .

وهذا الحديث دال على ان لعلم الله تعالى مراتب وشؤوناً ومظاهر وحيث أن سنة الله التكوينية مظهر لتقديره التكويني ربما يستنتج الناظر الى أوائل أمر أواخره مع أن التحديد الواقعي للأمور يكون على خلاف نظره وليس ذلك إلا بتوهم جرى العادة على ميزان مضبوط والله سبحانه بعامه الأزلي المحيط على العالم باسره والحقائق بأجمعها والمصالح والمفاسد الكونية تامة يخرق العادة ويظهر خلاف ما استظهر ويبدي ما جهله الناظر وهذا معنى البداء ، ثم ان الخصال السبع هي ما تضمنه هذا الحديث فلا تغفل ولقد أجاد السيد السند قدس الله سره في تعليقته على الكافي حيث قال : الظاهر من السؤال انه كيف علم الله أبعلم مستند الي الحضور العيني في وقته والشهود لموجود عيني أو في موجود عيني كما في علومنا أو بعلم مستند الى الذات سابق على خلق الأشياء ؟ فأجاب (علیه السّلام) : بأن العلم سابق على وجود المخلوق بمراتب فقال علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى ، فالعلم ما به ينكشف الشيء والمشية ملاحظته بأحوال مرغوب فيها يوجب فينا ميلا دون المشية له سبحانه لتعاليه عن التغير والاتصاف بالصفة الزائدة والارادة تحريك الأسباب نحوه بحركة نفسانية فينا بخلاف الارادة فيه سبحانه والقدر التحديد و تعيين الحدود والأوقات، والقضاء هو الايجاب والامضاء هو الايجاد فوجود الخلق بعد عامه سبحانه بهذه المراتب وقوله : فأمضى ما قضى أي

ص: 129


1- في نسخة : وحدودها

فأوجد ما أوجب وأوجب ما قدّر وقدَّر ما أَراد ثم استأنف البيان على وجه أوضح فقال : بعلمه كانت المشية وهي مسبوقة بالعلم وبمشيته كانت الارادة وهي مسبوقة بالمشية وبارادته كان التقدير والتقدير مسبوق بالارادة وبتقديره كان القضاء والايجاب وهو مسبوق بالتقدير إذ لا ايجاب إلا للمحدد الموقوت وبقضائه وايجابه كان الامضاء والايجاد والله تعالى البداء فيما علم متى شاء ، فان الدخول في العلم أول مراتب السلوك الى الوجود العيني وله البداء فيما علم متى شاء ان يبدو وفيما أراد وحرك الاسباب نحو تحريكه متى شاء قبل القضاء والايجاب فاذا وقع القضاء والايجاب متلبساً بالامضاء والايجاد فلا بداء فعلم ان في المعلوم العلم قبل كون المعلوم وحصوله فى الأذهان والأعيان وفى المشاء المشية قبل عينه ووجوده العيني وفى أكثر النسخ المنشاء ولعل المراد به الانشاء قبل الاظهار كما فى آخر الحديث وفي المراد الارادة قبل قيامه والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها وحضورها العيني فى أوقاتها والقضاء بالامضاء هو المبرم الذي يلزمه وجود المقضي.

فبالعلم علم الاشياء قبل كونها وأصل العلم غير مرتبط بنحو من الحصول للمعلوم ولو في غيره بصورته المتحددة ولا يوجب نفس العلم والانكشاف بما هو علم وانكشاف للاشياء انشائها ، وبالمشية ومعرفتها بصفاتها وحدودها أنشأها انشاءاً قبل الاظهار والادخال في الوجودالعيني وبالارادة وتحريك الأسباب نحو وجودها العيني ميّز بعضها من بعض بتخصيص تحريك الاسباب محو وجود بعض دون بعض وبالتقدير قدَّرها وعيّن وحدّد أقواتها وأوقاتها وأجالها وبالقضاء وايجابها بموجباتها أظهر للناس أماكنها ودلهم عليها بدلائلها فاهتدوا الى العلم بوجودها حسب ما يوجبة الموجب بعد العلم بالموجب وبالامضاء والايجاد أوضح تفصيل عللها وابان أمرها بأعيانها ،انتهى كلامه رفع مقامه .

ص: 130

فهرس الكتاب

الصفحة / الموضوع

2... مقدمة المؤلف

4... بطلان القول بالتقرر الماهوي

12... اتحاد أفراد كل نوع في الحقيقة النوعية بما لها من الملل القوامية

15... تطابق العقل والنقل على عدم ذاتية السعادة والشقاوة

17... حقيقة التشريع

18... احتياج الممكن حدوثاً وبقاءاً الى العلة

19... الوجوب بالغير

26... الارادة التشريعية والتكوينية

36... ما يرد على قول العرفاء بالمظهرية

39... الأقوال في المسألة

41... استدلال الأشاعرة

44... ما يستدل للفلاسفة

57... أدلة القول بالتفويض

64... الأدلة النقلية للأشاعرة

72... الآيات الواردة في الاختيار

74... الأخبار التي استشهد بها للجبر

83... الروايات الواردة في الجبر والاختيار والقضاء والقدر

ص: 131

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.