دراسات في نهج البلاغة

هوية الکتاب

سرشناسه : شمس الدين ، محمد مهدي ، - 1931

عنوان المؤلف واسمه: دراسات في نهج البلاغة / محمد مهدي شمس الدين

تفاصيل النشر:دار الاسلامية/نجف .

الطبعة الأولى 1376 ه - 1956 م

الطبعة الثانية 1392 ه - 1972 م

الطبعة الثالثة 1402 ه - 1981 م

مواصفات المظهر: ص 202

حالة الاستماع: فهرستنویسی قبلی

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 4894

محرر رقمي : روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

محمد مهدي شمس الدين

دراسات في نهج البلاغة

دار الاسلامية

ص: 3

الطبعة الأولى 1376 ه - 1956 م

الطبعة الثانية 1392 ه - 1972 م

الطبعة الثالثة 1402 ه - 1981 م

دار الاسلامية

للطباعة والنشر والتوزيع

کورنیش المزرعة / بناية الحَسَن سنتر / الطابق الثاني

هاتف / 816627 / ص. ب / 5680 / 14

ص: 4

مُقَدِّمَةُ الطَّبَعَةِ الثَّالِثَة

بسم الله الرحمن الرحيم

يمثلُ نهجُ البلاغة أكثر النصوص ثباتاً وديمومةً وانتشاراً في فكرنا الإسلاميّ بعد القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة.

ومنشأ ذلك هو مضمون نهج البلاغة الذي يستجيب لحالاتٍ ثابتة في الموقف الإنسانيّ:

في صراع الإنسان من أجل العيش والتقدّم والكرامة ...

وفي تعاونه مع المجتمع ...

وفي تعاون فئاته وتنافرها في المجتمع ...

وفي إنتصاراته وخيبات أمله ...

وفي مخاوفه وطموحاته في موقفه أمام الحياة وأمام الموت ...

كلُّ ذلك هو السرُّ في خلود نهج البلاغة.

من خلال كلِّ هذه السمات التي تطبعُ مضمون نهج البلاغة، نستشعر في كثيرٍ من الأحيان نبرة الثورة والإحتجاج ... الثورة على الذات بهدف تربيتها على خُلُق الإيثار وتجاوز الأنانية نحو الآخرين

ص: 5

والثورة على قيم الجاهلية وتقاليدها لمصلحة قيم الحضارة ومُثُلِها.

في هذا العصر، وفي هذا المنعطف الخطير من تاريخنا العربيّ والإسلاميّ حيث نواجهُ أخطر الإحتمالات التي تضعُ موضعَ التساؤل مصيرنا كلَّه، ودورَنا الحضاري أمام هجمة الإستعمار الجديد من وجوهٍ شتّى، وبمظاهر متنوعة، أخطرُها وأبرزُها الظاهرةُ الصهيونيّة.

أقول في هذا العصر، وهذا المنعطف الخطير، يمثّل نهجُ البلاغة حاجة أساسيّة لجميع المعنيّين بهذه المرحلة وبمواجهة المؤامرة على المصير، لأنَّه يضيءُ طريقَ الجهاد ويعزّز روح الصمود وينير البصائر، آمل أنْ يقدّم هذا الكتاب في طبعته الثالثة خدمة لهذا الهدف، وإذا ساهم هذا الكتاب في إثارة الإهتمام بالقضايا التي تتصل بتعزيز صمود الإنسان أمام المؤامرة وتعزيز مناعته أمام الإغراء، فإنه يكون قد حقّق أعظم أغراضه.

نسأل الله تعالى أنْ يعلمنا ما نجهل، وأنْ يوفقنا للعمل بخير ما نعلم، وأنْ يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

محمد مھدي شمس الدین

9 / 2 / 1402 ه

6 / 12 / 1981 م

ص: 6

مُقَدِّمَةُ الطَّبَعَةِ الثَّانيَة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

ذكرت في مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب «دراسات في نهج البلاغة» أنه أثر إنساني خالد لا يحده مكان، ولا تنتهي الحاجة إليه في زمان، لأنه منالآثار الانسانية التي «لم توضع لفريق دون فريق، ولم يراع فيها شعب دون شعب، وإنما خوطب بها الانسان أنّي وجد وكان. ولأنها تلامس كل قلب، وتضمد كل جرح، وتكفكف كل دمعة، كانت ملكاً أجمعين، وكانت خالدة عند الناس أجمعين».

وآمل أن يلبي الكتاب حاجة يحس بها كثير من المثقفين الذين يحملون في قلوبهم هموم الحاضر في العالمين العربي والاسلامي.

فعلى صعيد الشخصية نواجه غزواً فكرياً وحضارياً يهدف إلى تهديم شخصيتنا، وذلك بتدمير مقوماتها من العقيدة، والحضارة والتاريخ.

ص: 7

وعلى صعيد المجتمع نعاني من تمزقات وصراعات تستنزف قوى الأمة، وتجعلها عاجزة عن التصدي لعدوها الصهيوني، والهجوم عليه بغير الكلمات والشعارات والشكاوى إلى مجلس الامن وما إليه من منظمات الأقوياء التي تخدم مصالحهم والتي تضفي صفة الشرعية على الظلم الذي ليس له مثيل في التاريخ. وهو الظلم الذي حل بالعرب والمسلمين في فلسطين بطرد شعبها وتوطين الصهاينة فيها.

وعلى صعيد المفاهيم الاسلامية يعاني المسلم المتعلم وغير المتعلم، المثقف، وغير المثقف، من الالتباس وسوء الفهم، بحيث أن (الزهد) و (القناعة) و (التوكل) و (القضاء والقدر) وغيرها غدت تعني في ذهن كثير من المسلمين معاني السلبية أمام تحديات الحياة وحركة التاريخ، والاستسلام للآخرين ولما يريده الآخرون.

وماذا بعد؟

ثمة غير هذا كثير مما نعاني منه على كل صعيد.

وفي نهج البلاغة الذي يمثل الاسلام في صفاته ونقائه كما فهمه الإمام علي عليه السلام، وعاشه، وطبقه - في نهج البلاغة أجوبة مبدئية على كل هذه الأمور التي نعاني منها وغيرها.

ولذا فإني آمل - كما قلت انفاً - أن يلبي هذا الكتاب حاجة يحس بها الكثيرون منا.

وقد دفع بي هذا الامل إلى الاستجابة للطلبات الكثيرة التي تلح منذ سنين على أن يعاد طبع الكتاب بعد أن نفد تماما، فاستجبت إلى

ص: 8

ذلك راجياً من تعالى شأنه أن يجعله نافعاً للناس وأن ينفعني به يوم ألقاه سبحانه وتعالى.

وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها بإضافة بعض ما خطر في البال من الأفكار أثناء المراجعة السريعة له تمهيداً لطبعه.

كما تمتاز بالتنظيم والترتيب، وطريقة يسهل على الباحث أن يرجع إلى نصوص من نهج البلاغة بسرعة، لأني اعتمدت - فيما أثبته من النصوص، وما لم أثبته - على ذكر أرقام النصوص، كما وردت في طبعات نهج البلاغة وأكثر الطبعات الحديثة لنهج البلاغة تحمل أرقاماً متسلسلة لنصوص الإمام علي عليه السلام. سواء في ذلك الخطب، أو الكتب، أو الكلمات القصار.

أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما نجهل من الحق، وأن يوفقنا للعمل بما نعلم من الحق، وأن يتقبل هذا العمل بأحسن قبوله، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين.

محمد مهدي شمس الدين

بيروت: الخميس 13 شعبان 1392 ه

الموافق: 21 أيلول 1972 م

ص: 9

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

مُقَدّمَةُ الطّبعةِ الأوْلى

الإرث الثقافي؛ وليس الحضارة المادية؛ هو أثمن ما خلفه الانسان للانسان. فبالثقافة يستكمل الانسان وجوده الحق، لأنها تمدّه بالمعنى الذي لا يكون لولاه سوى وجود تافه في ميزان القيم والاقدار.

وليست الحضارة المادية، مهما عظمت سوى حسنة صغيرة من حسنات الثقافة الانسانية إذا قيست بالآثار المعنوية لهذه الثقافة.

ولا تفوتنا ملاحظة أن أغلب الآثار الثقافية وقتية وليست خالدة؛ وتخص بعض الشعوب دون أن تكون للانسانية كلها، وذلك لأنها تصدر بتأثير عوامل اجتماعية معينة فتلبي حاجات عقلية واجتماعية معينة، ثم تفقد قيمتها عندما ينتفي العامل الذي أثارها، ولا يكون لها من الأصالة والعمق والعمومية ما يهئ لها أن تتعدى محيطها الخاص إلى محيط أوسع.

وإلى جانب هذا الإرث الثقافي الموضعي الوقتي تختص كل أمة من الأمم بآثار قليلة تعتبرها خالدة عندها، لا ينال من جدّتها الزمان

ص: 11

مهما طال، لان البحث فيها يتصل بما يدخل في الكيان الصميمي لتلك الأمة، فهي لذلك تعتبر عند هذه الأمة خالدة ما دام لها كيان.

وأقل منها تلك الآثار التي تعتبر ملكاً للانسانية كلها في كل زمان.

فلئن كان القسم الأعظم من الثقافة الانسانية محدودا بحدود الزمان والمكان.

ولئن كان القسم القليل منها محدوداً بالمكان وحده.

فإن القسم الأقل، والأعظم قيمة، من الثقافة الانسانية لا يحده زمان ولا مكان.

هذه الآثار خالدة عند الناس كلهم لأنها لم توضع لفريق دون فريق، ولم يراع فيها شعب دون شعب، وإنما خوطب بها الانسان أنى وجد وكان.

ولأنها تلامس كل قلب، وتضمد كل جرح، وتكفكف كل دمعة، كانت ملكاً للناس أجمعين، وكانت خالدة عند الناس أجمعين.

وهي قليلة، ولكنها لا تزال، على قلتها، تثير في الناس الدوافع الطيبة النبيلة، وتسمو بهم إلى أعلى، إلى ملاعب النور، كلما شدتهم عوامل الشر إلى التراب.

* * *

ص: 12

ونهج البلاغة من هذه الآثار.

وسواء أنظرت إليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقل نظائرها في التراث الانساني على ضخامة هذا التراث.

فقد قيل في بيان صاحبه انه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

بيان معجز البلاغة، تتحول الأفكار فيه إلى أنغام، وتتحول الأنغام فيه إلى أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام كائن حي، متحرك، ينبض بالحياة، ويمور بالحركة.

وتلك هي آية الاعجاز في كل بيان.

ولم يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة مما اعتاد التافهون من الناس أن يكرسوا له البيان ... أن البيان في نهج البلاغة قد كرس لخدمة الانسان.

فلم يمجد الامام الأعظم في نهج البلاغة قوة الأقوياء، وإنما مجد نضال الضعفاء، ولم يمجد غنى الأغنياء، وإنما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجد الظالمين العتاة، وإنما مجد الأتقياء والصلحاء.

إن الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والجهل والعلم، والحرب والسلم، والنضال الأزلي في سبيل عالم أفضل

ص: 13

لانسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة.

فنهج البلاغة كتاب انساني بكل ما لهذه الكلمة من مدلول: إنساني باحترامه للانسان وللحياة الانسانية، وانساني بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر كان الفرد الانساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنساني بما يثيره في الانسان من حب الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموها ونقاءها.

لهذا ولغيره كان نهج البلاغة، وسيبقى على الدهر أثراً من جملة ما يحويه التراث الانساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات.

وحق له أن يكون كذلك وهو عطاء انسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل، ومثلاً أعلى في كل ما يشرف الانسان.

* * *

وهذه دراسات في نهج البلاغة قصدت من وضعها إلى أن أكشف عن ناحية ما فطن لها من كتبوا عن الإمام علي عليه السلام، وهي آراؤه في الاجتماع والاقتصاد والسياسة. فإن آراء الامام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لم تلاق من الكتاب العناية التي تستحقها، وكأن البحث في نشاطه السياسي قد صرفهم عن البحث في نشاطه العلمي، مع أن نشاطه السياسي لا يمكن أن يفهم حق الفهم إلا إذا درس على ضوء آرائه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وشئ آخر حفزني إلى وضع هذه الدراسات، وهو ان قسماً كبيراً

ص: 14

من الوعاظ يقدمون نهج البلاغة إلى الجماهير على أنه كتاب وعظي يشلّ في الانسان إرادة الحياة، على ما هو المعروف من أساليب كثير من وعاظ هذه الأيام، فأردت أن اكشف في هذه الدراسات عن أن نهج البلاغة ليس كتاباً وعظياً بقدر ما هو كتاب يعني بمشاكل الانسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية ويضع لها الحلول، وحتى القسم الوعظي منه ينكشف، إذا ردّ إلى أصوله الاجتماعية، عن مفاهيم لاتمت إلى ما يقوله هؤلاء الوعاظ بصلة، ولا تلتقي معه على صعيد (1).

محمد مهدي شمس الدين

النجف الأشرف في شعبان 1375 ه

المصادف آذار 1956 مي.

ص: 15


1- في هذا الكتاب فصل بعنوان (الوعظ) درسنا فيه القسم الوعظي من نهج البلاغة على أساس اجتماعي.

ص: 16

المجتُمع وَالطبقات الاجتماعيّة

ص: 17

ص: 18

فِكْرَةُ المُجْتَمَع في نَهج البَلاغَة

لعل فكرة المجتمع من أقدم الفِكَر التي اهتدى إليها الانسان - الفِكَر التي لعبت دوراً خطيراً في تطوير الحياة الانسانية، ودفعت بالانسان إلى القيام بتجارب كثيرة كانت، على ما فيها من أخطاء وحماقات، تربة خصبة لتجارب أعظم أصالة، وأشد إحكاماً، وأقرب إلى شريعة الصواب من سابقتها.

وكانت أيضاً حافزاً إلى القيام بمحاولات جديدة تهدف إلى تطوير الحياة الاجتماعية وارسائها على ركائز تضمن لها استقرارها ونموها.

ودخلت هذه الفكرة دورها الذهبي - ولا تزال فيه حتى اليوم - يوم جعلها العقل العلمي ميداناً لبحثه، فخرجت، بهذا، عن أن تكون ميداناً لتجارب عشواء، أو ميداناً لتطبيقات السياسيين الضيقي الأفق، الناظرين إلى قريب، المبتغين النفع العاجل من جلّ ما يصنعون - خرجت عن أن تكون ميداناً لمثل هذه التجارب الفجة لتصير ميداناً للنظر العلمي المتزن الرصين.

ص: 19

وصار من همّ الفيلسوف - وهو رجل المعرفة الأول الذي عرفته البشرية بعد النبي - ان يتعرف على آليات الحياة الاجتماعية وقوانينها، ويدرس اتجاهاتها، ويصنف هذه القوانين والاتجاهات.

خصها بمزيد من العناية سقراط وأرسطو وأفلاطون، هذه القمم الشامخة في الفكر الفلسفي، وتعاقب بعدهم فلاسفة كثيرون لم يغفلوا هذه الفكرة ولم يبخسوها حقها من البحث والتفكير ... حتى جاء ابن خلدون فسجل في (مقدمته) حدثا علمياً عظيماً بالنسبة إلى هذه الفكرة حين خطا الخطوة الأخيرة، فجعل منها علماً قائماً بنفسه يفترق عن الفلسفة في مادته وهي الحياة الاجتماعية، ويفترق عنها في منهجه وهو الملاحظة، ويفترق عنها في غايته وهي التعرف على أحسن الوسائل لتنمية الحياة الاجتماعية.

وجاء العصر الحديث، عصر الجماهير، فزادت أهمية هذه الفكرة، وحصلت على هبّتها العظمى من أوغست كنت في الفلسفة الوضعية، وأصبح لها دوائر معارف خاصة هي دوائر المعارف الاجتماعية، وأصبح لها معاهد علمية خاصة لا تخلو منها جامعة تشرف عليها هيئات علمية تخصصت في هذا العلم: علم الاجتماع.

هذا عرض خاطف، وأرجو ألا يكون مقتضباً جداً، لمراحل تكوّن فكرة المجتمع وتبلورها.

وهنا تجئ لحظه التساؤل عن صلة نهج البلاغة بهذا كله؟

والجواب عن ذلك اننا أردنا ان نكشف عن أن نهج البلاغة لم

ص: 20

يحظ بالالتفات الجدير به من هذه الناحية (1).

وسنرى بعد أن نعرف ما لفكرة المجتمع في نهج البلاغة من مكان مرموق بين ما اشتمل عليه من بحوث.

وبعد أن نعرف ان الامام قد تمرس بهذه الفكرة وعاناها كما لم يتمرس بها ولم يعانها حاكم في زمانه على الاطلاق.

وبعد أن نعرف أن معاناته لها قد انتهت به إلى نتائج باهرة - بعد أن نعرف هذا كله يتبين لنا أن نهج البلاغة كان يجب ان ينال حظا من الالتفات إليه من الاجتماعيين، لأنه يسجل حدثاَ مهماً في فكرة المجتمع.

لا نريد أن نقول إن الامام قد اخترع علم الاجتماع لنرتفع بنسب هذا العلم من ابن خلدون إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، بعد أن تبين للدوائر الاجتماعية ان الأب الشرعي لهذا العلم ليس أوغست كنت.

لا نريد أن نقول هذا، فلم يكرس الامام نفسه لاختراع العلوم، وإن كان قد شارك في هذا المجال الابداعي فاخترع وحده العلم الذي حفظ للعربية أصولها وضمن لها الخلود ذلك علم النحو.د.

ص: 21


1- اللهم إلا ما كان مؤخراً من المحاولة الموفقة التي قام بها الأستاذ الكبير جورج جرداق في كتابه القيم (الإمام علي: صوت العدالة الانسانية) ففي هذا الكتاب الذي يعتبر فتحاً جديداً في عالم التأليف يبرهن الأستاذ جرداق عن وعي صحيح لآراء الامام في الاجتماع الانساني وسياسة الجماعات. والكتاب، بُعدَّ، نصر لحرية الفكر، وللبحث النزيه، وبرهان حي على أن المؤلف إنسان واع لهمته (؟) كأديب قائد.

لقد كانت محاولة تطبيق الصيغة الاسلامية الصحيحة للحياة الانسانية على المجتمع في سبيل بناء الانسان المتكامل - كانت هذه المحاولة هي همه الكبير كقائد رسالي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

ولقد كانت مشاكل السياسة والإدارة والحرب هي شاغله الأول وهي ميدانه الأصيل كحاكم.

إن الذي نريد أن نقوله هو انه - كحاكم عادل - قد فِكر في المجتمعات التي حكمها. وفكر في أفضل الطرق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعية وترتفع بها إلى الذروة من الرفاهية والقوة والامن، مع ملاحظة انها تدين بالاسلام وان شؤون اقتصادها، وحربها، وسلمها، وعلائقها الاجتماعية، تخضع لقوانين الاسلام، وانها يجب ان تأخذ سبيلها إلى النمو في اطار إسلامي بحت.

وقد هداه تفكيره إلى نتائج باهرة في التنظيم الاجتماعي: فالحكم وضرورته، والنزعة القبلية وعقابيلها، وشغب الغوغاء ونتائجه، ودعامات المجتمع ومقوماته، والطبقات الاجتماعية وآليتها - كل ذلك خصه الامام بمزيد من البحث والتفكير، وطبق النتائج التي اهتدى إليها على المجتمعات الاسلامية، ولولا أن أعداءه الأشرار شغلوه عن أن يفرغ لمهام العمل السلمي لبادهنا من أعماله شئ عظيم.

وإن ما بين أيدينا من كلامه عليه السلام في المجتمع ليدل دلالة واضحة على أنه راصد اجتماعي من الطراز الأول، وإن تقسيمه

ص: 22

للطبقات الاجتماعية وتعريفه بآلياتها ليدخل في باب الحدس العبقري والالهام.

ويقيناً لو أن الشريف الرضي رحمه الله حفظ لنا كل ما وقع إليه من كلام أمير المؤمنين، ولم يؤثر الفصيح الباذخ وحده لانتهى إلينا من ذلك شئ عظيم. ولو ضم ما ضاع من كلامه إلى ما حفظ إلى زمان الشريف لانتهى إلينا من ذلك شئ أجل وأعظم خطراً وقدراً (1).

وسيكون مركز البحث في حديثنا هذا هو الطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة.

وقبل أن نأخذ سبيلنا إليه يحسن بنا أن ندخل في حسابنا أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى بحثنا هذا، فلقد قلنا آنفاً إن الامام لم يقصد إلى وضع أصول علم جديد، وإنما فكر - كحاكم عادل - في شؤون المجتمع وخرج من تفكيره بنتائج طبقها أو أراد تطبيقها على المجتمع، فلذلك لم يفرغ آراءه الاجتماعية كلها في قالب علمي مجرد، وإنما قدم بعضها مفرغاً في التجربة العملية، ولا يسلبها قيمتها كحقيقة موضوعية أنها مفرغة في قالب تجريبي اجتماعي يسبغ عليها، بدل جمود الحقيقة العلمية المجردة، حيوية وحركية تنشأن من حيوية الجماعات وحركيتها.).

ص: 23


1- صرح الشريف الرضي رحمه الله في مقدمة (نهج البلاغة) بأنه استجاب لرغبة الأصدقاء والاخوان في تأليف (كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ... فأجبتهم إلى ذلك ... فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب).

ص: 24

الطّبَقَة الاجتمَاعِيَّة

1

لا نعرف متى دخلت فكرة الطبقة، كوحدة اجتماعية كبيرة وذات مدى رحب، في تركيب المجتمع الانساني. ففي تاريخ الانسان المكتوب لا نجد حضارة تألّقت ثم انطفأت إلا وكانت تعرف فكرة الطبقات، وكان لهذه الفكرة واقع عِياني يضرب بجذوره عميقاً في تنظيماتها الاجتماعية.

كل المجتمعات التي وجدت وبادت والتي لا تزال مستمرة الوجود تقوم على النظام الطبقي. وهذا يعني، في ظاهر الحال، أنه لم يمر على البشرية وقت طويل لم تعرف فيه فكرة الطبقات.

وربما كان هذا حقاً بالنظر إلى ما نرجحه في تعليل نشوء المجتمع الانساني.

فالمجتمع الانساني، فيما نرجح، يخضع في نشوءه لعاملين:

ص: 25

عامل الغريزة (بمعناها الواسع الذي يشمل عاطفة الأبوة والدوافع النفسية إلى تكوين العائلة) وعامل الثقافة بمعناها الواسع أيضاً. وهذا يعني ان المجتمع الانساني وجد منذ اللحظة التي تعدد فيها أفراد النوع، فلم يمر على الانسان أمد طويل كان فيه حيواناً غير اجتماعي.

ومنذ أخذ المجتمع الانساني في الاتساع وجدت فكرة الطبقة سبيلها إلى العقل. فالافراد يختلفون في مقدار ما يأتونه من أعمال البر والخير، ويختلفون في المواهب وفي القدرة البدنية، ويختلفون تبعاً لهذا في القدرة على الصيد وحيازته ... هذه الامتيازات وأخرى غيرها وجدت سبيلها إلى الوعي الانساني في تصورات طبقية استتبعت فكرة الطبقات.

هذا، ولكننا حين نريد أن نتناول الطبقات بالبحث لا يمكن أن نتناولها على هذا المستوى الساذج البسيط، فقد أصبحت الطبقة مؤسسة اجتماعية ضخمة تمدها بالغذاء تقاليد عريقة، وتقوم على جذور موغلة في أعماق الماضي.

* * *

ما المبدأ الذي يقوم عليه الانقسام الطبقي؟

لقد اختلفت آراء الاجتماعيين في هذا المبدأ، فبعضهم يرى أنه المهنة، وثانٍ يرى أنه الدخل أو الثروة، وثالث يرى أنه الدخل والمهنة معا.

ولأجل الحصول على جواب صحيح لهذا السؤال نلاحظ ان هذا

ص: 26

المبدأ يختلف باختلاف النظر إلى الطبقة كمؤسسة اجتماعية.

فتارة ينظر إلى الطبقة باعتبارها تقوم بدور معين في العمليات الاجتماعية، وتقدم خدمات معينة إلى المجتمع.

وأخرى ينظر إليها باعتبارها كتلة بشرية ذات مستوى (مادي) اقتصادي واحد وذات مزاج نفسي وعقلي خاص يوحد بين مفاهيم أفرادها في الأسرة وغيرها من المؤسسات الاجتماعية، ومختلف الأذواق والطباع والعادات.

لابد من اعتبار المهنة وحدها مبدأ للانقسام الطبقي إذا نظرنا إلى الطبقة من زاوية الدور الذي تقوم به في العمليات الاجتماعية، وذلك لان هذا الدور يشتق من المهنة التي تمارسها الطبقة. أما حين ننظر إلى الطبقة من زاوية مستوى الحياة المادي والمعنوي الذي تتمتع به فلا بد من اعتبار مبدأ الانقسام الطبقي المهنة والدخل معاً، فالمهنة بما تخلفه في صاحبها من آثار نفسية معينة، والدخل بما يتيحه لصاحبه من مستوى معيشي معين يشتركان في صياغة الحياة المادية والنفسية للانسان.

ويختلف مبدأ الانقسام الطبقي عن هذا وذاك حين ننظر إلى الطبقة الاجتماعية من زاوية المركز الاقتصادي الذي تتمتع به في المجتمع حسب نظام الانتاج والتوزيع، ففي هذا الحال لابد من جعل مبدأ الانقسام الطبقي الدخل وحده، لان مجموع دخل الطبقة يعبر عن المركز الاقتصادي الذي تحتله بين الطبقات الأخرى. والدخل ينظر إليه هنا باعتباره ثروة متكدسة قارّة ذات امكانات اقتصادية، لا باعتباره وسيلة

ص: 27

إلى بلوغ مستوى معيشي معين (1).

هذه مبادئ مختلفة للانقسام الطبقي، وهي تختلف باختلاف زاوية النظر إلى الطبقة كما رأينا.

ولكننا نلاحظ ان هذه المبادئ كلها إنما تعتبر مبادئ انقسام طبقي فقط، ولا تستتبع حكماً تقويمياً للطبقات. فمبادئ المهنة أو الدخل أو الدخل والمهنة معا تشير إلى سبب الانقسام وحده أما أن هذه الطبقة ذات قدر معين تحتله في سلم القيم والاقدار فذلك شئ لا يتضمنه مبدأ من هذه المبادئ على الاطلاق.

وهنا نتسأل: ما هو المبدأ الذي يستتبع الحكم التقويمي للطبقات؟

وبعبارة أخرى: نحن لا نتمثل المجتمع في أذهاننا سطحا مستوياً تتساوى فيه الرؤوس، وإنما نتمثله هرمي الشكل، فبينما توجد طائفة من الناس تحتل قمة الهرم توجد طائفة أخرى تحتل قاعدته: وتوجد بينهما طوائف تختلف بالرفعة والانحطاط على حسب قربها أو بعدها عن القمة والحضيض. واذن، فإذا كان لكل طبقة من الناس قيمة معينة في التصنيف الهرمي الاجتماعي، فمن أين جاء هذا التصنيف الذي يستتبع احكاماً تقويمية لمختلف الطبقات؟ا.

ص: 28


1- دكتور محمد ثابت الأفندي: الطبقات الاجتماعية: ص 64 - 80 وثمة خلاف في وجهة النظر إلى مبادئ الانقسام الطبقي فقد ذكرنا هنا أنها لا تستتبع أحكاما تقويمية ولا تسلسلا طبقيا بخلاف ما ذهب إليه أصحابها.

اننا، فيما أحسب، لا نستطيع أن نضع أيدينا على ضابط حقيقي لهذا التصنيف الاجتماعي إلا إذا درسناه من زاوية القيمة العليا للحياة. وذلك لان أي حكم تقويمي إنما حدث بسبب هذه القيمة العليا، فترى انه كلما قرب المرء من هذه القيمة وشارك فيها وزاد في تأكيدها واكتسب خصائصها، ارتفعت قيمته وعلت منزلته، وبالعكس نراه كلما بعد عنها ولم يساهم إلا بقسط ضئيل فيها أو لم يساهم فيها على الاطلاق هبط في المنزلة الاجتماعية.

والقيمة العليا للحياة قد تكون المال والثروة، أو الفضيلة، أو السياسة، أو الحرب.

وقد تكون هذه القيمة العليا عبارة عن المبدأ الذي استدعى التشعب الطبقي، وذلك كما في المجتمعات التي يكون الاقتصاد هو القيمة العليا فيها، فقد رأينا ان الاقتصاد وحده أو منضما إلى المهنة يكون مبدأ للانقسام الطبقي فإذا ما كان بالإضافة إلى هذا قيمة عليا أيضا استتبع حينئذ أحكاما تقويمية تتفاوت بتفاوت القدرة الاقتصادية التي تملكها كل طبقة من الطبقات.

وقد تكون القيمة العليا شيئاً آخر غير المبدأ الذي سبب الانقسام الطبقي وحينئذ تحدث هذه القيمة انقساماً في داخل كل طبقة من الطبقات، وذلك كما لو كانت القيمة العليا للحياة عبارة عن الفضيلة، فإن هذه القيمة تستتبع أحكاماً تقويمية تحدث انقساماً في داخل الطبقات نفسها، فقد يكون الفرد منتسباً من حيث المهنة أو المهنة والدخل أو القوة الاقتصادية إلى طبقة ضعيفة ومنحطة المستوى المعيشي ولكنه

ص: 29

يكون بسبب قربه من القيمة العليا التي هي الفضيلة في ذروة الهرم الاجتماعي (1).

ومهما يكن من أمر فإن هذه القيم التي ذكرنا تستتبع أحكاماً تقويمية تختلف باختلافها، ويتشكل وضع المجتمع صحة وفساداً بسبب ما تخلفه فيه هذه القيم من آثار، وهذا ما نلمسه حين ندرس الطبقات على أساس ان المثل الاعلى للحياة هو الفضيلة أو الاقتصاد.

فتارة تكون القيمة العليا للحياة هي الفضيلة ... هي ان يكون الانسان فاضلاً رحيماً بالضعفاء، باذلا لهم المعونة دون أمل في تلقي الجزاء، ساعياً في خدمة النوع مؤثراً لذلك على مصالحة الخاصة وأطماعه، مستعداً للتعاون مع الغير في سبيل المنفعة العامة، منافحاً عن الحق أيا كان موطنه ومستقره، محارباً الباطل في جميع أشكاله وألوانه، شاعراً بمسؤوليته كانسان، عاملاً على ضوء هذه المسؤولية بحرارة وإيمان.

تارة تكون القيمة العليا للحياة عبارة عن هذا، وحينئذ تتحدد المراتب الاجتماعية على أساس هذه المفاهيم، فيرقى إلى القمة كل من استطاع ان يجعل من نفسه مثلاً أعلى للفضيلة، ويحتل المرتبة السفلى من المجتمع أولئك الذين لا فضيلة لهم أو الذين يستمسكون بالفضيلة استمساكاً واهياً، وما بينهما تتفاوت المراتب الاجتماعية على أساس الحصيلة الأخلاقية التي يحويها الانسان ويعمل عليها.

في مجتمع كهذا توجد طبقات، وقد رأيت الأساس الذي أدى 4.

ص: 30


1- المصدر السابق: ص 36 - 44.

إلى انقسامها، ولكن هذا التفاوت الطبقي الناشئ عن تفاوت المستوى الاقتصادي والمعيشي عند هذه الطبقات من الناس لا يأخذ صفة الصراع المتمثل في استغلال الطبقات العليا للسفلى ومحاولة هذه الأخيرة التفلت من أسر هذا الاستغلال بالثورة أو بغيرها من أساليب الصراع، وإنما تنظر الطبقات السفلى إلى العليا نظر حب ورحمة واكبار، لأنها لا ترى في الطبقات العليا مستغلين يريدون امتصاص دمائها وجهدها، وإنما ترى فيهم رسل إصلاح ضحوا بمصالحهم في سبيل مصالح الجميع، وتنكروا لأنفسهم وشهواتهم في سبيل الآخرين، فهم ليسوا مستغلين لان أكفهم لم تتعود غير العطاء. وفي مجتمع كهذا تنظر الطبقات العليا إلى السفلى نظرة رحمة وإشفاق وتحاول جهدها أن تنشلها من الوهدة التي قبعت فيها إلى الأفق العالي حيث يقبل جبينها نور الشمس. لا صراع ولا تناحر لان الطبقات هنا لم تنحط عن القمة لأنها منعت من الصعود. لا صراع ولا تناحر لان الأجنحة التي يحلق بها الانسان هنا ليست شيئاً خارجاً عن النفس يملكه فريق ولا يجده الآخرون، وإنما هي شئ ينبع من النفس ... هي أنت بما أودع الله فيك من إمكانات الصعود، ولم تبق حيث أنت لأنك لا تملك هذه الامكانات، وإنما لأنك فضلت واقعك اللاذّ على الأفق العالي حيث الثمن هو التضحية وانكار الذات.

في مجتمع كهذا يحتل الاقتصاد مرتبة ثانوية من حيث التقويم، فإذا اتخذه الانسان وسيلة لنشر الفضيلة كان مزية يحمد عليها، وإلا كان رذيلة لا تهبه قيمة ولا تسبغ عليه قدرا.

وأخرى تكون القيمة العليا للحياة هي الاقتصاد ... النجاح

ص: 31

المادي الخارق القائم على تكديس الأموال وتراكم العقارات، حينئذ تتحدد المراتب الاجتماعية على هذا الأساس، فيرتفع إلى القمة أولئك الأغنياء الكبار ملوك المال والأعمال، ويقبع في الحضيض أولئك الذين لا يملكون شيئاً أو يملكون شيئاً قليلاً، وتتفاوت مراتب الناس بين هاتين الطبقتين على مقدار ما يملكون.

في مجتمع كهذا توجد طبقات كما رأيت، ولكن التفاوت الطبقي يأخذ صفة الصراع، لان ما سبّب الانقسام الطبقي هو مصدر القيمة في المجتمع، ولان القيمة العليا هنا شئ خارج عن النفس فلا يكون للطبقات السفلى حينئذ أمل بالارتفاع.

ومن هنا ينشأ عند الطبقات السفلى شعور بالاستغلال، ويواكب هذا الشعور شعور آخر، فالطبقات العليا عند هؤلاء تعني - بالنسبة إليهم - المزاحم على متع الحياة والسعادة والقوة، ويولّد هذا الشعور في أنفسهم مشاعر الحقد والبغضاء، ويدفع بهم إلى الخيانة والاجرام.

وهذا التخطيط الذي ذكرناه يصح بالنسبة إلى كل المجتمعات التي تجعل الاقتصاد مثلاً أعلى لها، سواء منها ما يرفع إلى القمة الرأسماليين، أو ما يرفع إليها العمال والفلاحين، لان الصراع في هذه الأخيرة هو الصراع في المجتمعات الرأسمالية ومنابعه هنا هي منابعه هناك، فالأحقاد، والمطامع، والنيات السيئة، والمكر الخبيث هي المدّ النفسي الذي يطغى على الكتلة الاجتماعية في هذه الحالة وينسج مصيرها.

غاية ما في الباب ان قمة الهرم الاجتماعي وقاعدته متعاكستان

ص: 32

فبينما يحتل الرأسماليون القمة في المجتمعات الرأسمالية يحتلها - نظرياً - العمال في المجتمعات الشيوعية القائمة اليوم. على أننا لا نستطيع أن نعقل ما يقال من أن الطبقة العاملة في المجتمعات الشيوعية هي التي تحتل قمة الهرم الاجتماعي. ان العلماء والأطباء والمهندسين والكتّاب والممثلين ورؤساء المصانع ورؤساء الهيئات العمالية والمزارع التعاونية يتمتعون بميزات اجتماعية واقتصادية لا تتاح لسائر العمال.

وإذن لا فرق بين المجتمعات الرأسمالية والشيوعية في العقابيل التي تنشأ من جعل الاقتصاد قيمة عليا، ولئن كان ثمة فرق فإنما هو في السطح والشكل، أما الاعماق. وأما ينابيع الصراع فهي واحدة في كل هذه المجتمعات.

وهكذا ترى كيف أن جعل الاقتصاد قيمة عليا للحياة يسوق إلى التفسخ الاجتماعي. ولا أتصور جريمة أكبر من جريمة الماديين الذين ينادون بان الاقتصاد هو القيمة العليا في الحياة، إنهم بخرافتهم هذه يجرون المجتمع إلى شر عظيم، ويشوهون المثل الانسانية العليا.

* * *

من هذين المثلين تعرف أن الطبقات الاجتماعية لا يمكن أن تدرس دراسة موضوعية صحيحة تؤدي إلى فهمها حقاّ، وإلى وعي مستلزماتها القريبة والبعيدة إلا إذا تناولها الباحث على صعيد المثل الاعلى في الحياة للمجتمع الذي يدرس الطبقات فيه.

ولابد لنا، إذا رُمنا وعياً حقيقياً لرأي الامام في هذه المسألة، أن نتناول مسألة الطبقات الاجتماعية على هذا الصعيد.

ص: 33

ص: 34

القيْمَةُ العُليَا في الإسْلَام :

التّقوى وَ التقسيم الطّبقي

2

إن الفقر الذي هو عجز إنسان أو جماعة من الناس في المجتمع عن وجدان ما يوفر مستوى الكفاية في العيش - ان الفقر بهذا المعنى ظاهرة حاربها الاسلام في تشريعه ووصاياه كما سنرى ذلك فيما يأتي من أبحاث - واعتبرها شراً إنسانياً باعتباره يسبب حرمان الانسان من أحد حقوقه الذي هو الكفاية في العيش، وشراً اجتماعياً باعتباره يعوق المجتمع عن التقدم المادي والمعنوي، واعتبر الاسلام ان المجتمع الأمثل الذي يسعى إلى تكوينه هو المجتمع الذي لا فقر فيه ولا فقراء.

ومن هنا فإننا حين نستعمل كلمة (طبقات) في سياق الحديث عن الاسلام فإنما نقصد بذلك الفئات الاجتماعية، وليس الطبقات بالمعنى الذي شاع استعماله في الأدب السياسي في العصر الحاضر، وإنما حرصنا على استعمال كلمة طبقات لأنها وردت في كلام الإمام

ص: 35

علي بمعنى فئات اجتماعية، ولم تكن في ذلك الحين قد تضمنت معناها الذي تعنيه الآن.

* * *

لقد اعترف الاسلام كما اعترف الامام بالطبقات الاجتماعية (الفئات) القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً، وذلك لان وجود هذه الطبقات (الفئات) ضرورة لا غنى عنها ولا مفر منها في المجتمع، فلا بد أن يوجد تصنيف مهني يقوم بسدّ حاجات المجتمع المتجددة، ولابد أن يوجد أناس لديهم مال كثير وآخرون لا يملكون من المال إلا قليلاً لان التحكم التام في توزيع الثروات على نحو متساوٍ أمر مستحيل إطلاقاً. وإذا اختلفت المهن وتفاوتت الثروات فلابد أن يختلف مستوى المعيشة ويتفاوت طراز الحياة المادي والنفسي وحينئذ توجد الطبقات.

وقد رأينا أن التفاوت الطبقي يصير منبعاً للصراع الطبقي إذا جعل الاقتصاد مثلاً أعلى للحياة. وإذن، فالتفاوت الطبقي الناشئ عن التفاوت الاقتصادي خطر بقدر ما هو ضروري، وإذا لم يوضع للمجتمع نظام يذهب بالخطر من هذا التفاوت ويستبقي جانب الخير فيه فإنه خليق بأن يسبب للمجتمع بلبلة تقوده إلى الدمار.

وهنا تتجلى عبقرية الاسلام وعبقرية الامام.

فقد تدارك الاسلام هذه الثغرة فسدها بنظام من القوانين عظيم، وجاء الامام فوضع قيوداً أخرى تحول بين التفاوت في مستوى الدخل

ص: 36

وبين ان يحلف في المجتمع عقابيله الضارة، وآثاره الوبيلة.

وعند الحديث عن التدابير الحكيمة التي وضعها الاسلام لوقاية المجتمع من شرور التفاوت في المستوى الاقتصادي يجئ الحديث عن المثل الاعلى للحياة في الاسلام قبل كل حديث.

وحديثنا عن المثل الاعلى للحياة في الاسلام يسوقنا إلى الحديث عن المثل الاعلى للحياة عند الامام. وما نهج البلاغة إلا انعكاس الاسلام في نفس الامام.

ومن هنا كان الحديث عن أحدهما يلزمه الحديث عن الآخر كما تستهدي العين بخيوط الشعاع على مركز الاشراق.

* * *

إن المثل الاعلى للحياة في الاسلام وعند الامام هو التقوى. فقل أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الامر بالتقوى، تقوى الله. وقل أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الامر بالتقوى، تقوى الله. فالقرآن أمر بالتقوى، وفصلها، ومدح المتقين، والامام أمر بالتقوى، ووصفها، ومدح المتقين.

قال عليه السلام:

«أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز

ص: 37

والجُنَّة (1) وفي غد الطريق إلى الجنة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين، لحاجتهم إليها غدا ... فاهطعوا بأسماعكم إليها، وكُظُّوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف خلفاً» (2).

وقال عليه السلام:

(أما بعد فاني أوصيكم بتقوى الله. فان تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواء ظلمتكم ... فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوّها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وسهلت له الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد 6.

ص: 38


1- الجنة الدرع الواقية.
2- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 186.

قحوطها، وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه الكرامة بعد إرذاذها) (1).

وقال عليه السلام:

« ... فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب» (2).

ولكن ما هي التقوى؟

إن الإمام عليه السلام لم يتعرض لوصف التقوى من داخل إذا صح التعبير. انه اكتفى - على كثرة ما قاله فيها - بوصفها من خارج: ميزاتها، وفضلها، وثمرتها، وأصحابها، أما هي بذاتها: مقوماتها، طبيعتها، فأمر لم يتعرض له له الإمام عليه السلام وإنما تعرض له القرآن.

ولعل الامام ترك الكلام في هذه الجهة اعتمادا على ما جاء في القرآن، واعتمادا على أن المسلمين إذ ذاك كانوا ولا شك يعون ما هي التقوى، فاكتفى بتشويقهم إلى الاخذ بها والاعتصام بحبلها. أو ان 5.

ص: 39


1- المصدر السابق - رقم الخطبة: 193.
2- المصدر السابق - رقم الخطبة: 225.

الامام قد تكلم في هذا الموضوع وأعطاه حقه من البيان ولكن الشريف رحمه الله لم يقع على شئ منه، أو وقع عليه ولم يكن بين ما اختاره. وعلى أي حال ففيما قدمه لنا القرآن غنى وكفاية.

قال الله تعالى:

( ... ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1).

وقال تعالى:

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (2).

وقال تعالى:

( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ 7.

ص: 40


1- سورة البقرة: 2 - 5.
2- سورة البقرة: 177.

الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (1).

وقال الله تعالى:

(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) (2).

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: جماع التقوى في قوله تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (3).

من هذه النصوص الإلهية، وغيرها أكثر منها، نعرف طبيعة التقوى:إنها الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها.

إنها الايمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه.

وبذل المال لمن أعوزه المال ... ولكن كيف ...؟ إنها بذل المال على حبه ... حب الله تعالى، فلا امتنان على المعطى ولا إفضال، ومتى؟ إنها بذله في السراء والضراء.

وهي الصبر في جميع المواطن وجميع الأحوال. وهي كظم الغيظ، وهي العفو عن الناس، وهي العدل فيهم والاحسان إليهم إلى غير ذلك من حميد الأخلاق وجميل الخصال.0.

ص: 41


1- آل عمران: 133 - 134.
2- المائدة: 8.
3- مجمع البيان في تفسير القرآن 1 - 37، والآية في سورة النحل: 90.

هذه هي التقوى. فإذا حققت التقوى في نفسك: وعيت وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تلمّ به من فعل أو قول، وتحريت الفضيلة أنى كانت فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حية، تعمل بحرارة وإخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرت في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، تكون قد حققت في نفسك المثل الاعلى الذي نصبه الاسلام.

فالمال لا يكسب قيمة إلا إذا بذل حيث أجاز الله أن يبذل، وإلا إذا اتخذ وسيلة إلى رضوان الله. أما أولئك الذين لا يبذلون أموالهم فلا جدوى منهم للجماعة، ولذلك فلا مزية لهم على غيرهم من الناس الذين لا مال لهم.

والسلالة لا قيمة لها حين لا يكون صاحبها متقياً لله.

والقوة لا قيمة لها حين لا يستخدمها صاحبها في مرضاة الله.

والسلطان ؟ انه لا يكسب صاحبة قيمة إلا إذا كان ذا تقوى.

هناك أغنياء وفقراء، وحاكمون ومحكومون، وأقوياء وضعفاء، وأناس تحدروا من سلالات لها ماض عريق وآخرون ليس لهم ماض مذكور، ولكن كل هذا لا يرفع من صاحبه ولا يضع الا إذا اقترن بالتقوى أو عري عنها. وتعاليم الاسلام صريحة في ذلك لا لبس فيها ولا غموض، فهي تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى.

ص: 42

قال الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1).

وقال النبي %:

(لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).

وقال الامام :

(لا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) (2).

وإذن، فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع.

وهكذا تكون الرغبة في الخير، ورضوان الله، ومساعدة الضعفاء، وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقرباً إلى الله، هي رائد كل إنسان وعى مبادئ الاسلام. وهكذا يكون المجتمع متحابا متراحماً متآزراً متعاونا على البر والتقوى، بدل أن يكون في صراع يؤدي به إلى التفسخ والانحلال.

هذا هو المثل الاعلى للحياة في الاسلام وعند الامام.

* * *

ولكن الاسلام حين جعل الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية، 9.

ص: 43


1- سورة الحجرات: الآية، 13.
2- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 189.

وأراد أتباعه أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب، صوناً للمجتمع من أخطار التفاوت الطبقي لم يغفل أمر الواقع النفسي والشعوري للإنسان.

فإن القوي الغني يتغنى بالفضيلة في كل آن، ولكنه عندما تستيقظ فيه نوازع العدوان يمضي في سبيل الشر دون أن يصغي إلى نداء فضيلة أو تقريع ضمير. وعندئذ تغدو الفضيلة ضلاً لا أثر له في صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي.

لذلك لم يكل أمر تحقيق القيمة العليا إلى الانسان وحده، وإنما جعل لها سنداً من القانون، ليكون لها من القوة ما يحمل الأغنياء الأقوياء، وغير الأغنياء على التمسك بها. وكان من ذلك أن ساوى بين جميع الطبقات في الحقوق والواجبات، فالجميع سواء أمام الله، والجميع سواء أمام القانون، وجريمة الغني هي جريمة الفقير، وجريمة الرفيع هي جريمة الصعلوك، لا يمتهن هؤلاء لضعفهم ولا يحابى أولئك لشرفهم.

وبهذا حال بين الطبقات العليا وبين أن تطغى وتعتز، لأنه أثبت لها أن الغنى والسلالة والماضي العريق لن تجدي شيئاً أمام القانون. وحال بين الطبقات السفلى وبين أن تشعر بالحيف والضعة والاستغلال، لأنه أثبت لها أن عدم الغنى وأن ضعة النسب لا تجعل من القانون لها عدواً، وإنما هي أدعى لان تجعله أرفق بها، وأحنى عليها، وأرعى لشؤونها في السراء والضراء.

* * *

ص: 44

وحين تحتد الفروق الاقتصادية، فتتسع وتعمق، تغيض منابع الفضيلة من المجتمع وتسوده نوازع الحيوان.

فأنت لا تستطيع أن تطلب من جائع لا يجد القوت أن يصير فاضلاً، لان الحرمان لا يدفع إلى الفضيلة وإنما يخلق تصورات الحرمان التي تدفع إلى التمرد والاجرام حين لا يجد المحروم اليد البارَة الوصول.

إن الجائع الذي لا يجد ما يسد جوعته وإن خشن وهان، والعاري الذي يجد للريح مثل لسع السياط، وللشمس مثل مس الحميم، والمريض الذي لا يجد ثمن الدواء ولا الخلاص من اللاواء - هؤلاء لا يستطيعون أن يتغنوا بالفضيلة حين يرون الغني الكاسي الصحيح الذي لا يعرف معنى للجوع، فالفضيلة ليست طعاماً ولا كساء ولا دواء، إن هؤلاء ينقلبون إلى قتلة ومجرمين ولصوص حين لا يجدون ما يسدون به حاجاتهم الأولية من طريق مشروع.

وهكذا يظهر إلى العيان الصراع الطبقي بالرغم من أن المثل الاعلى هو الفضيلة ومكارم الأخلاق.

وعى الاسلام هذا الواقع فلم يكل أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى المثل الاعلى وحده، وإنما أولى الاقتصاد ماله من الأهمية في أمر الصيانة والعلاج.

فشرع الله تعالى أحكاما تحول دون تكوّن الثروات بطريق غير عادل وغير مشروع - وتحول بين أصحاب الثروات بعد أن تتكون لديهم

ص: 45

الثروة بطريق مشروع وبين أن يستخدموها في استغلال الآخرين.

وشرع نظاماً للضرائب (الزكاة، الخمس) والمواريث يفتت هذه الثروات تدريجياً، ويحول بينها وبين التراكم والتعاظم، وأعطى للحاكم حق وضع اليد على ما تقضي به المصلحة العامة من أموال الأغنياء إذا قضت بذلك حاجة طارئة تعجز عن الوفاء بها المصادر التقليدية لتمويل النفقات العامة.

وشرع نظاماً للأموال العامة يغذّي من الضرائب ومصادر الثروة العامة، يضمن مستوى الكفاية في العيش لجميع الناس. وبذلك يحول بين المجتمع الاسلامي وبين أن توجد فيه ظاهرة الفقر بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي المعروف، وإن كان هذا لا يعني أن يتساوى الناس في دخلهم وفيما يملكون، لان هذا أمر مستحيل في أي مجتمع يتخيله الانسان على الاطلاق. ويدخل في باب الأحلام والتصورات الطوباوية التي تأباها واقعية الاسلام. وبذلك يشعر الفقراء أنهم ليسوا مهملين: لاعين ترعاهم، ولا يد تأسو جراحهم، وتقيلهم عثرات الزمان ... بل يشعرون أنهم ملء سمع المجتمع وبصره، فتختفي دوافع الاجرام من أنفسهم، وحينذاك يقول لهم الاسلام: إن المثل الاعلى هو الفضيلة، ويطلب إليهم أنيكونوا فضلاء ... وأن يجعلوا الأرض أختاً للسماء.

* * *

فقد وعى الامام ان الانسان الجائع، المستغل، المحروم، المصفد بالاغلال لا يستطيع أن يكون فاضلاً، وأن من اللغو أن يوعظ

ص: 46

بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وإن إنسانا كهذا ينقلب كافراً: كافراً بالقيم، والفضائل والانسان.

إن معدته الخاوية، وجسده المعذب، ومجتمعه الكافر بانسانيته، المتنكر له، وشعوره بالاستغلال، وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان - هذه كلها تجعله لصاً، وسفاحاً، وعدواً اللانسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة.

ووعى ان المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد للعبيد، والأحرار للمصفدين بالاغلال، مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء. إنه ليس إلا مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد، تسيّر أفراده الأحقاد والمكر والاستغلال، وما كانت اللصوصية والعبودية وما إليها يوماً فضائل تشرف الانسان.

على أساس من هذا الوعي جعل الامام الاصلاح الاقتصادي أساسا للاصلاح الاجتماعي.

ولقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين - في عصر الامام وقبله أن يوجد أناس جائعون فقراء، وان يوجد أغنياء يحارون كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنى بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلاً، لأنها في نظرهم أمر طبيعي لا محيد عنه. إنما المشكلة هي: كيف السبيل إلى اسكات الفقراء وحماية الأغنياء؟ فكان الامام - بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من كشف

ص: 47

أن الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر إليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية.

إن فلسفة الفقر عنده تجتمع في هاتين الكلمتين:

(إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني) (1).

و (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع).

ومن هنا أصبح من أبرز المشاكل التي حفل بها منهجه الاصلاحي يوم ولي الحكم، مشكلة الفقر والغنى.

ولقد كان مجتمعه إذ ذاك يعاني جراحاً عميقة بسبب هذه المشكلة، فقد وليَ الامام الحكم والتفاوت الطبقي في المجتمع الاسلامي على أشد ما يكون عمقاً واتساعاً.

ففي العهد السابق على ولاية الإمام عليه السلام للحكم كانت الطريقة المتبعة في التقدير وإظهار الكرامة هي التفضيل في العطاء. وقد اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات بصورة خارجة عن حدود المعقول والمقبول، فَفُضِّلَ من لا سابقة له في الدين ولا قدم له في الاسلام على ذوي السوابق والاقدار.

وقد أوجد هذا اللون من السياسة المالية طبقة من الاشراف لا تستمد قيمتها من المثل الاعلى للاسلام، وإنما تستمدها من السلالة والغنى والامتيازات التي أسبغها عليها الحكم القائم ، وطبقة الشعب 8.

ص: 48


1- نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين - رقم: 328.

التي ليس لديها مال ، ولا امتیازات ولا ماض عريق، وكان من عقابيل ذلك أن أحس الفقراء الضعفاء بالدونية واستشعر الاشراف الاستعلاء، وحرم الفقراء المال الذي تدفق إلى جيوب الأغنياء.

فلما ولى الامام الحكم الفي بين يديه هذا الإرث المخيف الذي يهدد باستئصال ما غرسه النبي في نفوس المسلمين.

وقد عالج هذا الواقع الذي سيق (؟) إليه بالتسوية بين الناس في العطاء، فالشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعربي والعجمي، كلهم في العطاء سواء. فلم يجعل العطاء مظهراً للتفاضل بين الافراد والافراد والطبقات والطبقات.وبهذا أظهر للناس أن القيمة ليست بالمال، وحال بين الفقراء والضعفاء وبين الشعور بالدونية، وبين الاشراف والأقوياء وبين أن يشعروا بالاستعلاء. وأهاب بالناس أن يثوبوا إلى الله فيجعلوا التقوى مناط التفاضل ومقياس التقويم.

وقد ثارت الطبقة الأرستقراطية لسياسة المساواة المالية التي قام بها الامام فأشاروا عليه أن يصطنع الرجال بالأموال، فقال:

(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله. ألا وأن اعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ...) (1) 4.

ص: 49


1- نهج البلاغة - رقم النص: 124.

ولم يكن هذا كل ما ينتظر الطبقة الأرستقراطية على يديه يوم أمسك بالزمام، لقد كانت أموال الأمة تتدفق - تحت عينيه - قبل أن يتولى الحكم إلى جيوب فريق من الناس، فأخذ على نفسه عهداً بمصادرتها، بردها إلى أهلها، وكان أن أعلن للناس يوم ولي الحكم مبدأ من جملة المبادئ التي أعدها لمحاربة الفقر الكافر في مجتمعه الموشك على الانهيار، فقال:

(ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإن الحق لا يبطله شئ. ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) (1).

وكم كان يقض مضجعه عدم التوازن في توزيع الثروات في زمانه عليه السلام، فتراه يصرخ أكثر من مرة، من على منبر الكوفة، بمثل هذا القول:

( ... وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا ... ه.

ص: 50


1- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 15، وهذا الكلام جزء من خطبة خطبها في اليوم الثاني من بيعة للناس له بالخلافة، ولم يذكر الرضي رحمه الله النص بكامله.

اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً، أين خياركم وصلحاؤكم، وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟) (1).

ولا يعالج الفقر عند الامام بالمواعظ والخطب، وإنما يعالج بحماية مال الأمة من اللصوص والمستغلين، ثم بصرفه في موارده.

وبهذا عالجه الامام، فكان عينا لا تنام عن مراقبة ولاته على الأمصار وعن التعرف على أموال الأمة وطرق جبايتها وتوزيعها.

وكم من وال عزل وحوسب حساباً عسيراً لأنه خان أو ظلم أو استغل.

وكم من كتاب كتبه عليه السلام إلى ولاته يأمرهم أن يلزموا جادة العدل فيمن ولوا عليهم من الناس (2). .

ص: 51


1- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 127.
2- نهج البلاغة - راجع مثلاً كتابه إلى الأشعث بن قيس عامل آذربيجان، رقم النص: - 5 وكتابه الى زياد بن سمية وهو متول على البصرة، رقم النص : 20-21. وكتابه الى بعض عماله رقم النص : 46 ، وغير ذلك كثير نجده في باب المختار من كتب أمير المؤمنين في القسم الأخير من نهج البلاغة .

وبينما هو يأمرهم بهذا يضع عليهم العيون والرقباء ليرى مدى طاعتهم وتنفيذهم لأوامره.

لقد كان عليه السلام، بهذا، أول من اخترع نظام التفتيش.

ولقد كان يكتب إلى ولاته: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة (1)) وليس الولاة أعضاء في شركة مساهمة هدفها أن تستغل الأمة وإنما هم كما كان يكتب إليهم (خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة) (2).

وكون الأموال العامة هي أموال الأمة مفهوم لم يأخذ صيغته الحقة إلّا على لسان الإمام عليه السلام وفي أعماله. لقد جاءه أخوه عقيل يطلب زيادة عن حقه فرده محتجاً بأن المال ليس له وإنما هو مال الأمة (3)، وجاءه ثان يطلب إليه أن يعطيه مالًا، مدلًا بما بينهما من رابطة الحب فرده قائلاً: (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فئ للمسلمين) (4).

* * *

بهذا كله لم يكل الاسلام ولا الامام أمر التزام الفضيلة في السلوك إلى الضمير وحده وإنما جعلا لها سنداً من القانون يكفل لها أن تصير واقعاً اجتماعياً تنبني عليه العلاقات الاجتماعية والسلوك الانساني. 0.

ص: 52


1- نهج البلاغة - من عهد له إلى بعض عماله على الخراج، رقم النص: 26.
2- نهج البلاغة - من كتاب له إلى عماله على الخراج، رقم النص: 51.
3- نهج البلاغة - رقم النص. 222.
4- نهج البلاغة - من كلام له مع عبد الله بن زمعة، رقم النص: 230.

ولكنهما لم يجعلا القانون كل شئ في حياة الانسان لئلا يكون آلة مسيّرة لا تملك اختيار ما تريد، وإنما أناطا جانباً من سلوكه بملزمات الضمير بعد أن أيقضا هذا الضمير. ولم يكلا أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى الفضيلة وحدها، لأنها لا تسد حاجات الانسان التي لا يقوى بدونها على التزام الفضيلة ومكارم الأخلاق، وإنما أناطا جانبا من مهمة الصيانة بالاقتصاد لأنه هو الذي يسد حاجات الانسان.

وهكذا، بين الضمير اليقظ والقانون الواعي لحاجات الفرد والمجتمع ينمو الانسان المسلم، ويأخذ سبيله إلى الكمال النسبي الذي يتاح للانسان.

* * *

وحيث قد تبين لنا موقف الاسلام وموقف الامام من الطبقات الاجتماعية والتفاوت الطبقي، فلنسلك سبيلنا إلى دراسة الطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة.

* * *

راجع الأوامر بالتقوى، ووصفها، ووصف المتقين في نهج البلاغة في النصوص التالية:

رقم - 15، و 62 و 81 و 82 و 112 و 130 و 155 و 159 و 165 و 171 و 180 و 181 و 186 و و 189 و 190 (القاصعة) و 191 و 192

ص: 53

و 193 و 194 و 196 و 228، وفي باب الكتب رقم 12 و 25 و 26 و 27 و 30 و 31، (وصية لابنه الإمام الحسن) و 45 و 47 و 53 (عهد الأشتر) و 46 وفي المختار من حكمه وكلماته القصار - رقم 95 و 203 و 210 و 242 و 344 و 388 و 410.

ص: 54

مدْخَل اِلى درَاسَةِ الطبقَاتِ فِي نَهج البَلاغة

3

مصدرنا الكبير والأساس من نهج البلاغة، في دراسة الطبقات الاجتماعية عند الامام هو كتابه إلى مالك بن الحارث الأشتر النخعي حين ولاه مصر وعزل به محمد بن أبي بكر عنها يوم شغب الحزب الأموي على هذا الأخير، وضعف أمره.

ولكن لم يطبق في مصر شئ من هذا القانون الذي كتبه الامام. فقد دس معاوية من قضى على الأشتر وهو في أعتاب مصر (القلزم - منطقة السويس حالياً) بسم دسّ في كأس من عسل، وذلك في سنة 38 هجرية، وبعد ذلك قتل محمد بن أبي بكر، وتمت لمعاوية الغلبة على مصر فنزل عنها لعمرو بن العاص وفاء بالعهد الذي بينهما (1).0.

ص: 55


1- لم يوافق عمرو بن العاص على الاشتراك مع معاوية في العمل السياسي والعسكري ضد أمير المؤمنين علي عليه السلام إلا بعد أن تعهد معاوية بأن يولي عمرو ابن العاص على مصر ولاية مطلقة. وقد جاء في صك الولاية المذكورة ( ... ان معاوية أعطى عمروا ابن العاص مصر وأهلها هبة يتصرف كيف يشاء). وقد وردت بعض الإشارات في نهج البلاغة إلى هذه الاتفاقية بين معاوية وعمرو بن العاص منها قوله: ( ... ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمناً فلا ظفرت يد البائع، وخزيت أمانة المتباع ...) رقم النص: 25. ومنها ( ... إنه لم يبايع معاوية حتى شرط ان يؤتيه أتيَّة. ويرضخ له على ترك الدين رضيخة) رقم النص: 80.

وما بين أيدينا من هذا العهد ليس تمامه. لا، إنما قطع منه اختارها الشريف الرضي رحمه الله. وليته أثبته كله، إذن لزدنا بصراً بآراء الامام في هذا الموضوع، ولكن ماذا نصنع والشريف لم يختر إلا البليغ من كلامه عليه السلام.

ويحسن بنا أن ننوه، ونحن على أعتاب البحث عن الطبقات الاجتماعية في نهج البلاغة، بان التقسيم الطبقي الذي ذكره الامام يقوم بالدرجة الأولى على الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها كل طبقة، وهناك تقسيم آخر يتم في داخل الطبقات هو التقسيم على أساس المثل الاعلى، والتقسيم الأول لا يستتبع حكماً تقويمياً على الشخص المنتسب إلى طبقةٍ ما يجعله في القمة أو ينحدر به إلى الحضيض.

ان التقسيم الذي يستتبع الحكم التقويمي، أعني الذي يحدد قيمة الشخص، إنما هو التقسيم الثاني، فالانسان الذي يستغل إمكاناته في سبيل خير المجتمع هو في القمة أما الانسان الذي يتخذ هذه الامكانات سبيلاً إلى العيث والافساد وإضرار المجتمع فذلك شخص يحتل مركزه في الطبقات السفلى.

وإذن فترتيب الطبقات في التقسيم لا يعني ترتيبها في القيمة،

ص: 56

فيكون الجنود هم الطبقة العليا ويكون المعدمون هم الطبقة السفلى، وتكون قيمة ما بينهما على هذا الترتيب قرباً من الجنود وبعداً عنهم. لا، فقد عرفت ان الامام لم يراع قيمة كل طبقة حين قدمها واخرها، وإنما راعى الخدمات الاجتماعية التي تقوم بها، أما القيمة فلا تقاس إلا بالتقوى.

ونقدم بين يدي بحثنا هذا ملاحظة لها خطرها، وهي: ان هناك طبقات (فئات) افترض الامام وجودها وتحدث عنها كأهل الخراج، والتجار والصناع، والمعدمين، وهناك طبقات لم يفترض وجودها، وإنما تكلم رأساً في كيفية إنشائها وتكوينها، فإلام تشير هذه الملاحظة؟

ان ما تشير إليه هذه الملاحظة، فيما أرى، أمر طريف جداً ومعجب حقاً، فالطبقات التي تكلم الامام في كيفية إنشائها وتكوينها هي: طبقات (فئات) العسكريين، والوزراء، والولاة، والقضاة. وهذه الهيئات هي التي تشرف على تنظيم المجتمع وسير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدفاعية، وبها يتعلق مصير المجتمع النيِّر أو الوبيل، وقد كانت هذه الأجهزة قبل عهد الامام فاسدة ومتهرئة فأراد الامام أن ينشئها من جديد.

ومن هذه الملاحظة نستكشف مدى عظمة الامام في المسائل الاجتماعية. فالمجتمع، خيره وشره، نحن نصنعه بأيدينا، وليس ضربة لازمة لنا أن نعيش في مجتمع متذائب متداع لا يوفر لافراده فرصاً حسنة، وإنما بامكاننا أن نعيش في مجتمع حسن التنظيم يجد فيه كل فرد من الافراد المجال الرحب لتحقيق مطامحه التي يريد، ولا يتم ذلك

ص: 57

إلا إذا أصلحنا الأجهزة التي تدير آلة الحكم أو بدلناها بأخرى أجدى منها.

بهذه العقلية العظيمة الواعية نظر الإمام عليه السلام إلى المجتمع الاسلامي في أيامه، وبهذه العقلية العظيمة الواعية وضع له هذا النهج وسن له هذا القانون، ولكن مجتمع مصر لم يسعد بتطبيق هذا النظام.

* * *

قسم الامام الرعية إلى طبقات (فئات) سبع.

1 - الجنود

2 - كتاب العامة والخاصة، وهم بمنزلة الهيئة الوزارية ومساعديها.

3 - القضاة

4 - الولاة

5 - الزراع

6 - التجار

7 - الطبقة السفلى.

ولكنه في مورد ثان جعل القضاة والولاة والكتّاب طبقة واحدة، وإن كان فيما بعد قد جري في الكلام عن الطبقات على تقسيمه الأول.

ومع أنه يمكن إدراج الكتّاب والولاة في طبقة واحدة باعتبارهم إداريين من حيث الوظيفة، وباعتبار ان (نوع الحياة) الذي يحيونه واحد أيضاً، فإن مستوى الدخل والإنفاق والتصورات الإجتماعية

ص: 58

عندهم واحدة أو متقاربة تقارباً شديداً - أقول مع أنه يمكن إدراج هاتين الطائفتين في طبقة واحدة جعلهما الامام طبقتين متمايزتين. وأحسب أن الذي دفعه إلى ذلك رغبته الأكيدة في التنصيص التام على كيفية تأليف كل جهاز من أجهزة الحكم في الدولة لئلا يقع اللبس والابهام من اشتراك طائفتين مختلفتي مجال النشاط في حديث واحد.

ونحن، محافظة منا على إبراز جميع خصائص العهد، سنجري في كلامنا عن الطبقات حسب تقسيمه عليه السلام وإن لم تكن ثم ضرورة، بلحاظ الطبقات ذاتها، تدعو إلى اتباع هذا النهج.

* * *

وبعد أن قسم الامام الطبقات على النحو الذي رأيت، تقدم بملاحظة ذات مغزى، وهي أن كل واحدة من هذه الطبقات، عدا الطبقة التي لا تستطيع عملا، ضرورية للمجتمع، والعمل الذي تقوم به ضروري الوجود، وكما أنه يعتد في وجوده على جهود الآخرين كذلك جهود الآخرين لم تكن لتوجد لولاه. ولذلك قال عليه السلام:

(الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض).

لولا الجنود لا نعدم الامن، وحينئذ تنعدم التجارة ويختل نظام الزراعة، وإذا اختل هذان انهار الكيان الاجتماعي.

ولولا التجارة والزراعة لما وجدت الضرائب التي تمد الجنود بالمال والسلاح.

ص: 59

ولولا التجارة لحدثت أزمات اجتماعية تنشأ من تكدُّس الانتاج في غير مكان الحاجة إليه، وعدم وجوده في مكان الحاجة إليه.

والعمال (الولاة) والكتاب يشرفون على تنظيم هذا النشاط ولولاهم لتسيب واتجه اتجاهات غير صالحة.

ولولا القضاة للجأ الناس إلى تسوية مشاكلهم بالعنف، وذلك يؤدي إلى بلبلة الاجتماع.

وإذن، فالنشاطات الاجتماعية متشابكة ومتداخلة، وليس فيها لاحد على أحد فضل، فكل واحد من الناس يؤدي عملاً يأخذ في مقابله من المجتمع أعمالاً كثيرة، ولو كف المجتمع عن تقديم المعونة له لما أمكنه أن يقوم بشي.

قال عليه السلام:

( ... فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن، وليست تقوم الرعية إلا بهم.

ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم.

ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب لما

ص: 60

يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.

(ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم مالا يبلغه رفق غيرهم)

عهد الأشتر.

وحيث كان النشاط الاجتماعي متشابكاً على هذا النحو، متداخلا على هذه الشاكلة، فيجب أن تشق له القنوات التي يجري فيها على نحو لا يختل ولا يتدافع، ولا يطغى لون منه على لون، وأمر هذا موكول إلى الحاكم.

قال عليه السلام:

( ... وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل)

عهد الأشتر

ص: 61

ص: 62

العَسْكريُّون

4

العسكريون خطر وضرورة في آن.

هم خطر لان الطبقة التي ينتمون إليها هي أقوى طبقات الأمة كلها، فالجيش طوع أمرهم، والسلاح تحت أيديهم، ولا قوة تمنعهم من الثورة إذا ما أرادوا، ولا حاجز يحول بينهم وبين ظلم الرعية إذا تمكن ذلك من أنفسهم، ووجد هوى في صدورهم.

والوجدان الذي ينتظم أفراد هذه الطبقة يقتضيهم ذلك وينزع بهم نحوه، فإن التصورات التي يتكون منها هذا الوجدان هي تصورات القوة والغلبة والفتك، وما يتبع هذه من تصورات الخيلاء والاستعلاء.

وطبيعة عملهم العسكري تقتضيهم أن يواجهوا مشاكلهم من طريق العنف والقسر وتحملهم على أن يحلوها من هذا الطريق. وطبيعة

ص: 63

عملهم أيضا تجعلهم ينظرون إلى المجموعات الانسانية (كوحدات عددية) تقوم بعمل معين لا أكثر ولا أقل وذلك لأنهم لا ينظرون من الجندي الذي يدين لهم بالطاعة إلى أكثر من أنه آلة تجيد استعمال السلاح، أما ما وراء ذلك من صفات نفسية وسمات ذاتية فلا ينظرون إلى شئ منها، لأن هذه كلها تنطمس في التجمع البشري الضخم المسمى بالجيش، ولأنها لا تعني كثيراً في أداء المهمة المطلوبة من الجندي.

وإذا كانوا ينظرون إلى الجماعة الانسانية على هذا النحو فلا يؤمِّنون منالانحراف عن جادة الصواب في معاملتهم مع الناس، لأن الصفات النفسية هي التي يجب أن تلحظ في هذه المعاملة، وهم يغفلونها لان طبيعة عملهم تقتضي ذلك كما رأيت.

هذا الوجدان الطبقي (وهو ضروري إذ لولاه لما كانوا عسكريين) خطر إذا احتدّ، وعبر عن نفسه في غير أوانه وجرى في غير أقنيته الحقيقية.

هذا هو وجه الخطر فيهم.

وهم ضرورة لان وجودهم يحفظ الامن ويصون الدولة، ويردع السفيه ويضرب على يد المعتدي.

وحيث كانوا ضرورة فلا بد من وجودهم، وحيث كانوا خطراً فلا بد من تفاديه.

وإذ قد لزم هذا وذاك فقد شرع الإمام عليه السلام للحاكم نظاماً

ص: 64

يستهدي به في تأليف هذه الطبقة من جديد، وشريعة يجري عليها في انتخاب من يريد ضمه إليها من رعيته، وسنة يأخذ بها في معاملتها. وقصد من ذلك كله إلى أن يؤمّن من هذه الطبقة جانب الضرورة، وينأى بها عن أن تكون مصدر خطر وإرهاب.

* * *

الشخصية العسكرية ضرورة لازمة للقائد العسكري لزوم الهواء لكل كائن حي.

وهذه الشخصية عبارة عن طائفة من الصفات تلتقي في القائد فتكوّن له شخصيته.

فيجب أن يكون القائد العسكري متصفاً بصفة النفوذ والهيبة التي تجعله نافذ الامر، وذلك لان الصفة الأولى المطلوبة من الجندي هي الطاعة وبدونها لا يمكن أن ينجح جيش على الاطلاق، وما لم يكن للقائد العسكري صفة النفوذ والهيبة بعدت الطاعة عن منال يديه، وحينئذ لا ينجح في عمله العسكري.

ويجب أن يكون واجداً لصفة الخبرة بمن يعمل تحت يديه من مرؤوسيه، عارفاً بامكاناتهم وكفاءاتهم، ليضع كلاً منهم في موضعه اللائق به، لان خطأ بسيطاً في تعيين قائد ربما أدى إلى كارثة قومية.

ويجب أن يكون واجداً للثقافة العسكرية: عارفاً بأساليب قيادة الجيش وحركاته، والاستراتيجية العسكرية.

ولما كان القائد هو المثل الاعلى للجندي وجب أن يكون هذا

ص: 65

القائد مثلاً يحتذي لجنوده في الصبر على المكاره، والتفاني في القيام بالواجب، وهما من ألزم الصفات العسكرية في الجنود والقادة على السواء.

ولا توجد هذه الصفات في عامة الناس، وهي ليست صفات تنحدر بالوراثة من جيل إلى جيل، بل لابد فيها من التربية المنهجية الواعية.

ولم تكن في زمن الإمام عليه السلام مدارس وكليات عسكرية تقدم مثل هؤلاء القادة في كل وقت.

هذه الملاحظات دفعت بالامام إلى تعيين العناصر التي يؤخذ منها هؤلاء. هذه العناصر هي البيوتات الشريفة ذات الأحساب والتقاليد المتوارثة، فقد كانت هذه البيوتات تأخذ أبناءها بتربية قاسية واعية توفر لهؤلاء الأبناء الثقافة العسكرية، وهي من أهم ما كان يأخذ به العرب ويعنون باتقانه، وتغرس في أنفسهم الشعور بالمسؤولية والتحمل والصبر على المكاره. وقد كانت هذه البيوتات تحتل في نفوس أبناء الشعب، وهم الذين يؤخذ منهم عامة الجند، مركزاً سامياً حصلت عليه بسبب الخدمات التي تقدمها هذه البيوت للأمة في الحرب والسلم على السواء، وهذا يوفر للقائد صفة الهيبة، ويضمن له نفوذ الامر وحصول الطاعة.

قال عليه السلام:

(ثم ألصق بذوي [المروءات] والأحساب،

ص: 66

وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف).

عهد الأشتر

* * *

ولكن هؤلاء القادة يستمدون من وسطهم العائلي تصورات القوة والاستعلاء لمكان ما لهم من مركز مرموق في المجتمع، ويستمدون من وظيفتهم الجديدة ما يعزز هذه التصورات ويمدها بالحرارة والفعالية، وينزع بها إلى التحقيق نظراً إلى ما توفر لهم من الهيمنة على الجيوش والسلاح، ويستمدون من ثقافتهم ما يزين لهم الفعل ويبرر لهم العمل - هذه الينابيع الثلاثة للوجدان الطبقي عند العسكريين تعمل دائماً على إثارة هذا الوجدان وبعثه. وهنا يظهر وجه الخطر فيهم، وقد وضع الامام العلاج الواقي من هذا الخطر.

فإلى جانب الصفات السابقة يجب أن تتوفر في القائد صفات أخرى. منها الثقافة الدينية، وهذه الثقافة لا يكفي فيها أن تكون (علما) بالواجبات الدينية فقط وإنما يجب أن تكون (وعياً) لهذه الواجبات بحيث تكون في جهاز القائد النفسي قوة دافعة تحمله على أن يسير على هديها في حياته العملية، ولا تبلغ هذه الثقافة هذا المدى في تأثيرها إلا إذا استحالت في القائد إلى (طاقة شعورية) محركة.

ومنها أن يكون أمينا لا تمتد يده إلى ما ليس له، حليماً لا يحمله

ص: 67

الغضب على فعل ما لا تحمد عقباه، واسع الصدر يجد العذر موقعا في نفسه، رحيما بالضعيف لا يتخذه موضعا لاظهار مدى سلطته ... وهكذا، فإلى جانب الثقافة الدينية التي يجب أن تبلغ من نفس القائد مرتبة الطاقة الشعورية يجب أن يكون على مستوى أخلاقي عال يصده عن الافساد، ويمسكه على الجادة، ويأخذ بعنقه إلى الهدى.

قال عليه السلام:

( ... فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عند الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف).

عهد الأشتر

* * *

وبعد أن نهج الامام القواعد التي يجب أن تتبع في اختيار أفراد هذه الطبقة أخذ في بيان الأسلوب الذي يجب أن تعامل به.

يرى الامام أنه لا يجوز للحاكم أن يعتمد على التربية وحدها، وعلى الخلق الشخصي وحده فيما يرجع إلى ضمان اخلاص هذه الطبقة. فهو بقدر ما يحرص على أن يكون القادة العسكريون ذوي تربية عالية وخلق متين يحرص كذلك على توفير ما يتوقون إليه من الناحيتين: المادية والمعنوية.

ص: 68

فهؤلاء القادة يتوقون إلى أن يروا أعمالهم التي يقومون بها تلاقي التقدير الذي تستحقه عند الحاكم، ويتوقون إلى أن يروا أن عين من فوقهم ترعاهم وتتعاهد أعمالهم وتوفّيها ما تستحق من جزاء. وهؤلاء القادة، كغيرهم من الناس، خاضعون للضرورات الاقتصادية، وربما كانت حاجتهم إلى المال أكثر من حاجة غيرهم إليه، وإذ كانوا كذلك فلا بد للحاكم من مراعاة حالتهم الاقتصادية.

ولا يجوز له أن يعتمد على الخلق والتربية في ضمان اخلاصهم وتمسكهم بمثلهم العليا، فإن الحاجة تدفع إلى الاجرام أو الانحراف. ولا بد له من تتبع مآثرهم والإشادة بها، ومدحهم، والثناء عليهم بما أبلوا من بلاء حسن، وأتوا من فعل عظيم.

فأما حين تغفل عنهم عينه: فلا يتفقد أحوالهم، ولا يوليهم منه جانب اللين والرأفة - حين يجدون هذا منه يشعرون بأن أعمالهم لا تجد ثوابها وان جهدهم يذهب أدراج الرياح، ويعظم في أعينهم الصغير ويصغر العظيم، وتنعدم ثقتهم بالحاكم، ويذهب وده من قلوبهم، فلا يمحضونه النصح، ولا يخدمونه بصدق، لأنهم لا يجدون في أنفسهم ما يدفعهم إلى خدمته وهو متخاذل عنهم مقصر معهم، ويدفعهم هذا الموقف النفسي إلى استثقال دولته، واستطالة مدته، والتبرم بحكمه، فماذا يمنعهم، وهذا موقفهم منه، عن أن ينتقضوا عليه ويكيدوا له ويواجهوه بما لو أحسن السياسة لاتقاه.

قال عليه السلام:

(ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من

ص: 69

ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به. ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به، وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك.

(ولا تدع تفقُّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه ... فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.

(وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وانه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فأفسح لهم في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله).

عهد الأشتر

وتأمل الفقرة الأخيرة: ( ... فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز

ص: 70

الشجاع وتحرض الناكل ...) فإنها تتضمن مغزى عميقاً، فبدلاً من أن يوجه اللوم إلى الناكل لنكولة مما قد يولد في قلبه الضغن والنية السيئة - بدلا من هذا يُبعث إلى العمل عن طريق المنافسة، فحين يسمع الثناء على ذوي البلاء الحسن من أقرانه، وحين يرى أن العمل يجد صدى مستحباً عند الرئيس يعبر عنه بالتقدير، يندفع إلى العمل بباعث نفسي فيجد فيه متعة ولذة يدفعانه إلى اتقانه، بدل أن يزاوله مكرهاً، لو دفع إليه عن طريق اللوم فلا يجد فيه لذة، ولا يشعر نحوه بأي سرور نفسي يدفعه إلى التجويد والاتقان.

وعلى الحاكم أن يكون يقظا في تتبع أفعالهم، فينسب الفعل إلى صاحبه، ولا يتجاوز به إلى غيره، ولا يقصر في جزائه، فإن غفلته عنهم تشعرهم بأن أعمالهم لا تجد ثوابها الحق، ولا تلقى التقدير الذي تستحق.

قال عليه السلام:

(ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصر به دون غاية بلائه).

عهد الأشتر

والمقياس في الجزاء والثواب وحسن الأحدوثة نفس العمل، لا السلالة ولا الغنى ولا أي شئ آخر.

قال عليه السلام:

(ولا يدعونَّك شرف امرى إلى أن تعظم

ص: 71

من بلائه ما كان صغيراً ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما)

عهد الأشتر

* * *

والمشاركة الوجدانية من الأمور التي يجب توفرها بين القائد وجنوده. فحينما تتوفر المشاركة الوجدانية بين القائد وجنوده، ويشعرون بأنهم ليسوا تحت سلطان جبار يسومهم العذاب، ويتخذهم سبلاً إلى إظهار سلطانه، ووسائل لخدمة مآربه، وإنما هم تحت رعاية أب بار يعمل لخيرهم، ويسعى لاسعادهم، ويحدب عليهم، ويرأف بهم، ويوجههم نحو ما فيهم صلاحهم ... حينما يستقر في أعماقهم هذا الشعور يعملون بإخلاص وإتقان وحرارة وإيمان، ويقبلون على عملهم بشوق رغبةً منهم في إبهاج قائدهم وإشاعة الزهو والفرح في قلبه، فإن القائد بجنوده، وكلما كان عملهم رائعاً ومتقناً دلّ ذلك على حسن توجيهه وواسع خبرته وعظيم معرفته. وليس بخاف ما يعود به هذا على الدولة من القوة والتماسك.

وكما أن المحبة والعطف والخلق الحسن شروط لازمة في حصول هذا الشعور عند الجنود فإن تأمين الناحية الاقتصادية شرط لازم أيضاً. فلا يسع جندياً أن يخلص لعمله وهو يسمع، بقلبه، صراخ زوجته وأطفاله من الجوع أو العري أو المرض، لذلك أرشد الامام الحاكم إلى أن طبقة العسكريين يجب أن تتألف ممن يولون كلا الناحيتين: الاقتصادية والمعنوية عظيم اهتمامهم، وان خير قواده خيرهم لجنوده،

ص: 72

وأحد بهم عليهم، وأرفقهم بهم، وأرعاهم لشؤونهم في السراء والضراء، فإن هذا هو السبيل الوحيد إلى توليد هذه المشاركة الوجدانية التي تعود على الدولة بأجلّ الفوائد وأعظم الخيرات.

قال عليه السلام:

(وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جِدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو).

عهد الأشتر

ولأجل التوسع في معرفة موقفه من الجيش وقادته راجع قسماً من كتاب له إلى أمرائه على الجيش - رقم النص: 50 ووصيته لشريح بن هانئ عندما وجهه على مقدمته إلى الشام - رقم النص: 56. وكتابه إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم - رقم النص: 60. وفقرات من كتابه إلى أمراء الأجناد لما استخلف - رقم النص: 79

هذه النصوص في (باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين).

ص: 73

ص: 74

القُضاة

السلطة القضائية من أعظم سلطات الدولة، بها يُفرق بين الحق والباطل، وبها يُنتصف للمظلوم من الظالم. وحين تجنح الظروف بهذه السلطة إلى الاسفاف فإنها لا تنزل إلى الحضيض وحدها وإنما تجر معها المجتمع كله أو بعضه.

حين تسف تصير في عون الظالم وتعضد المجرم، وحيث أنها تنطق باسم العدالة فإنها تسكت كل فم، وتطفئ جذوة الحياة في كل انسان يتصدى لها.

وماذا يحدث حينئذ؟

يحدث أن يستشري الفساد، ويعظم الجور، وتعم الفتنة، ويكون المظلوم في الخيار بين أن يرفع أمره إلى هذه السلطة فيسلب حقه باسم العدل بعد أن سلبته إياه القوة، وبين أن يسكت حتى تحين الفرصة فيستعيد حقه عن طريق العنف، وفي بعض هذا شر عظيم.

ص: 75

وإن الإمام عليه السلام ليقدر هذه السلطة حق قدرها، فيختم وصاياه إلى عامله فيما يتعلق بها بقوله:

( ... فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فان هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا).

عهد الأشتر

وهذا ما لم نشاهده منه في غير هذه الطبقة من الطبقات التي يتألف منها جهاز الحكم، مما يدل على أنه كان يعي كيف ان القضاء حين يصير إلى غير أهله ينقلب إلى أداة للظلم: ظلم الضعفاء، ويصير مؤسسة ترعى مصالح الأقوياء فحسب.

وقد تحدث كثيراً عن هؤلاء الذين يتسنمون مناصب القضاء وليسوا لها بأهل، فيتحولون بهذا المنصب إلى أداة للشر والافساد.

قال عليه السلام:

( ... وآخر قد تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال، ونصب للناس شركاً من حبائل غرور وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظائم ويهون كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع. ويقول: وأعتزل البدع وبينها اضطجع، فالصورة

ص: 76

صورة انسان، والقلب قلب حيوان) (1).

وقال عليه السلام:

( ... ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الأمة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالماً وليس به، فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماء آجن، واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً ضامناً تخليص ما التبس على غيره، فان نزلت به إحدى المبهمات هيأ حشواً رثاً من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ؟ فإن أصاب خاف ان يكون قد أخطأ، وان أخطأ رجا ان يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاشٍ ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع.) (2).

ولا جل تفادي هذا المصير السئ لسلطة القضاء، وضع عليه السلام نظاماً يجب أن يتبع في تأليف هذه الفئة، يضمن أن تكون على مستوى عال من الكفاءة للمهمات المناطة بها.17

ص: 77


1- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 85
2- نهج البلاغة - رقم النص 17

* * *

تؤتى السلطة القضائية من ناحيتين.

الأولى: ناحية القاضي نفسه فإذا كان غير كفء لمنصبه أسفّ بهذا المنصب، ولم يؤد حقه المفروض.

الثانية: ناحية المنصب نفسه، فما لم يكن القاضي مستقلاً في حكمه لا يخضع لتأثير هذا وإرادة ذلك، لم تكن هناك سلطة قضائية بالمعنى الصحيح، وإنما تكون السلطة القضائية حينئذ أداة لا لباس رأي فلان ثوب الحق وإسباغ مسحة الباطل على دعوى فلان. ولا تؤتى السلطة القضائية من غير هاتين الناحيتين.

وقد رسم الامام في عهده إلى الأشتر ثلاثة أمور ينبغي أن تتبع في انتقاء أفراد هذه الطبقة ومعاملتهم، واتباع هذه الأمور يكفل لهم أن يمارسوا مهمتهم بحرية، وأن يؤدوا هذه المهمة باخلاص.

هل يكفي في صلاحية الرحل للقضاء أن يكون على معرفة بمواد القانون الذي يقضي به دون اعتبار لتوفر ميزات أخرى فيه؟

إن الجواب السديد على هذا السؤال هو النفي، فلا يكفي في القاضي ان يكون على علم بمواد القانون فحسب، لأنه إذا لم تتوفر فيه غير هذه الصفة يكون عالماً بالقانون، ولا يصلح أن يكون قاضياً، لان منصب القضاء يتطلب من شاغله إلى جانب علمه بالشريعة، صفات أخرى فصلها الامام في عهده، وأناط اختيار طبقة القضاة بتوفرها، وهذا يعني ان فاقدها ليس جديراً بهذا المنصب الخطير.

يجب أن يكون القاضي واسع الصدر كريم الخلق، وذلك لان

ص: 78

منصبه يقتضيه أن يخالط صنوفا من الناس، وألواناً من الخلق، ولا يستقيم له أن يؤدي مهمته على وجهها إلا إذا كان على مستوى أخلاقي عال يمسكه عن التورط فيما لا تحمد عقباه.

ويجب أن يكون من الورع، وثبات الدين، وتأصل العقيدة، والوعي لخطورة مهمته وقيمة كلمته، بحيث يرجع عن الباطل إذا تبين له انه حاد عن شريعة العدل في حكمه، ولم يصبها اجتهاده ولم يؤده إليها نظره، فلا يمضي حكماً تبين له خطأه خشية قالة الناس.

ويجب أن يكون من شرف النفس، ونقاء الجيب، وطهر الضمير، بحيث (لا تشرف نفسه على طمع) في حظوة أو كرامة أو مال وفضلاً عن أن يتأصل فيه الطمع ويدفعه إلى تحقيق موضوعه، وذلك لان القاضي يجب أن يجلس للحكم ضميراً نقياً، وروحاً طاهراً، وعقلاً صافياً، ونفساً متعالية عن مساف الأغراض، وألا يشغل نفسه بعرض من أعراض الدنيا، لان ذلك ربما انحرف به من حيث لا يدري فأدان من له الحق، وبرأ من عليه الحق. لتأثره بهاجس نفسه، وهاتف قلبه، ومطمح هواه.

ويجب أن يكون من الوعي لمهمته بحيث لا يعجل في الحكم، ولا يسرع في إبرامه، وإنما عليه أن يمضي في دراسة القضية ويقتلها بحثاً ويستعرض وجوهها المختلفة، فإن ذلك أحرى أن يهديه إلى وجهة الحق وسنة الصواب، فإذا ما استغلق الامر واشتبه عليه فلا يجوز له أن يلفق للقضية حكماً من عند نفسه، وإنما عليه أن يقف حتى ينكشف له ما غمض عنه، وينجلي له ما اشتبه عليه.

ص: 79

هذه الصفات يجب أن تتوفر في القاضي، ويجب أن يناط اختيار الرجل لمنصب القضاء بما إذا توفرت فيه، وبذلك يضمن الحاكم ألا يشغل منصب القضاء إلا الأكفاء في عملهم، ودينهم، وبصرهم بالأمور.

قال عليه السلام:

(ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك: ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء).

عهد الأشتر

* * *

وهنا، كما في كل موطن، يضع الامام بين عينيه التأمين الاقتصادي ليضمن الاستقامة والعدل وحسن السيرة.

ص: 80

فالقاضي مهما كان من سمو الخلق، وعلو النفس، وطهارة الضمير، إنسان من الناس يجوز عليه أن يطمع في المزيد من المال، والمزيد من الرفاهية، وإذا جاز عليه هذا جاز عليه أن ينحرف في ساعة من ساعات الضعف الانساني، فتدفعه الحاجة إلى قبول الرشوة، ويدفعه العُدم إلى الضعف أمام الاغراء، وإذا جاز عليه ذلك أصبحت حقوق الناس في خطر، فلا سبيل للمظلوم إلى الانتصاف من الظالم وتغدو الحكومة حكومة الأقوياء والأغنياء.

هذه أمور قدرها الامام حق قدرها، وأدرك مدى خطرها، فوضع الضمانات لتلافيها.

وذلك يكون: أوًلا: بأن يتعاهد الحاكم قضاء قاضيه، وينظر فيما أصدره من الاحكام، فان ذلك كفيل بأن يمسك القاضي عن الانحراف، ويستقيم به على السنن الواضح لأنه حينئذ يعلم أن المراقبة ستكشف أمر الحكم الجائر، ووراء ذلك ما وراءه من عار الدنيا وعذاب الآخرة. وثانيا: بأن يعطى المزيد من المال لينقطع داعي الطمع من نفسه، فيجلس للقضاء وليس في ذهنه شئ من أحلام الثروة والمال.

قال عليه السلام:

( ... ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس).

عهد الأشتر

* * *

ص: 81

والقاضي، بعد، إنسان يخاف: يخاف على ماله أن ينهب، ويخاف على مكانته أن تذهب، ويخاف على كرامته أن تنال، ويخاف على حياته أن يعتدي عليها بعضُ من حكم عليهم من الأقوياء، فإذا لم تكن لديه ضمانات تؤمِّنه من كل ذلك اضطره الخوف إلى أن يصانع القوي لقوته، والشرير لشره، وحينئذ يطبق القانون من جهة واحدة. يطبق على الفقراء والضعفاء الذين يؤمن جانبهم.

هذا الخوف ينشأ من عدم تأمين مركز القضاء وصيانته ضد الشفاعات، وينشأ من زجه في المساومات السياسية وغيرها، وحينئذٍ تكفي كلمة من قوي أو غني ليسلب القاضي مركزه ومكانته.

هذه الناحية وعاها الإمام عليه السلام وأعد لها علاجها، فيجب أن يكون القاضي، لكي يأمن ذلك كله، من الحاكم بمكانة لا يطمع فيها أحد غيره، ولا تتاح لاحد سواه، وبذلك يأمن دسّ الرجال له عند الحاكم، ويثق بمركزه وبنفسه، وتُكسبه منزلته هذه رهبة في قلوب الأشرار يقوى بها على حملهم على الحق، وردهم إليه حين ينحرفون عنه ويتمردون عليه.

قال عليه السلام:

( ... وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغاً، فان هذا الدين قد كان أسيراً في

ص: 82

أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا).

عهد الأشتر

هذه هي الضمانات الثلاث التي وضعها الإمام عليه السلام، مبينا فيها النهج الذي يحسن أن يتبع في انتخاب أفراد هذه الطبقة، وشارحا كيفية معاملتهم ليؤدوا مهمتهم على نحو نموذجي.

* * *

وقد سجل الامام بما شرعه هنا سبقاً عظيماً على إنسان اليوم، وذلك لان استقلال مركز القضاء وعدم تأثره باي سلطة أخرى، وتأمين الناحية الاقتصادية للقاضي، ونظام التفتيش القضائي، جهات تنبه لها الامام وجعلها واقعاً يخلف في حياة المجتمع آثاره الخيرة، في عصر كانت سلطة القضاء أداة يديرها الحاكمون والمتسلطون كما يحبون.

* * *

ولا شئ ادعى إلى ثقة الناس بالقضاء من نفوذ حكم القاضي على جميع الناس، حتى على من تربطهم بالحاكم الاعلى قرابة قريبة أو صداقة حميمة، فان ذلك خليق بأن يطمئن الرجل العادي، ويدخل في روعه انه حينما يدخل مجلس القضاء لا يواجه بنظرة احتقار. وان الحاكم الاعلى لأحرى الناس بالمحافظة على ذلك والحرص عليه، فإذا ما اعتدى بعض خاصته على بعض الناس وجب عليه أن يرده إلى الحق حين يروغ عنه، ويرده إلى الجادة حين يؤثر العصيان.

ص: 83

قال عليه السلام:

(وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبة ذلك بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة).

* * *

راجع عهد الأشتر: وراجع كلاماً له (ع) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك باهل رقم النص: 16 - وبعض خطبة له في صفات الفساق: رقم النص: 83.

ص: 84

الوُلَاة

6

إنهم رجال الإدارة، وأيدي الحاكم التي تمتد في أطراف بلاده، والأداة التي يستعين بها على تنفيذ أمره، وامضاء ما يريد امضاءه من الشؤون.

وهم المرآة التي ينظر بها الرعية إليه، وأعمالهم تنسب إليه وتحمل عليه، ويناله خيرها وشرها.

والوجدان الطبقي لهذه الطبقة ينزع بها نحو التسلط الناشي من تصورات القوة والهيبة والنفوذ، ويصبح هذا الوجدان خطراً وبيلاً إذا عبَّر عن نفسه في غير موضعه، وجرى في غير أقنيته.

لهذا وذاك: لمكان الخطر فيهم، ومبلغ الفائدة منهم، احتاط لهم الامام واحتاط منهم، فوضع الشروط التي ينتخبون على أساسها،

ص: 85

والطريقة التي يعاملون بها، و (الكوابح) التي تزعهم عن أن يسيئوا سلطانهم وأن يخرجوا به عما أنشئ لأجله من منفعة الرعية إلى استغلاله في سبيل المنافع الخاصة، والمصالح الشخصية.

* * *

لا يدخل في هذه الطبقة كل من شاء له الحاكم أن يدخل، وإنما يدخل فيها من خبر المجتمع عن كثب، فعرف حاجاته، وتبين نقائصه، فإنسان كهذا إذا وليَ عملاً مضى فيه على بصيرة، فلا يرتجل الخطط ارتجالاً دون أن يعي حاجات المجتمع، ويلبي في خططه ومناهجه هذه الحاجات.

وإلى جانب التجربة والخبرة العملية يجب أن يتوفر له مستوى عال من الأخلاق، فهو كما قلنا، المرآة التي ينظر بها الشعب إلى الحاكم، ولذلك فينبغي أن يكون على خلق رفيع يمسكه عن الشطط ومجانبة العدل، ويستقيم به على الجادة، ويؤم به قصد السبيل. فالحياء خلق يجب ان يتوفر فيه، والحياء هنا ليس على معناه المبتذل، وإنما هو الحياء من النفس ... من تلويثها بالظلم والعدوان والتهاون في القيام بالواجب، وهذا الخلق يدفع بصاحبه دائماً إلى التعالي والتسامي.

ويجب أن تتوفر فيه صفة القناعة، بان لا يلوث نفسه برذيلة الطمع التي توشك أن تنقلب إلى حقيقة خارجية حين تجد لها محلا في نفس الانسان، وصدى في تصوراته.

وإلى جانب هذه الميزات يجب ان يجمع بُعدَ النظر،

ص: 86

وأصالة الفكر، وجودة الفهم، فهذه الصفات ضرورية لمن أنيط به أمر جماعة من الناس واعتبر مسؤولًا عن أمنهم ونشاطهم الاجتماعي.

ولم يكن في زمن الإمام عليه السلام مدارس تعدّ الموظفين الإداريين، وتلقنهم الثقافة الإدارية، لذلك أرشد الامام الحاكم إلى اختيار هؤلاء من بين أبناء الأسر المحافظة على التقاليد، الآخذة أبنائها بطراز عال من التربية، العاملة على تنشئتهم تنشئة نموذجية.

قال عليه السلام:

( ... وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصحٍ أعراضاً، وأقلّ في المطامع إسرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً).

عهد الأشتر

* * *

ويخضع هؤلاء الولاة في ولايتهم للاختبار، فحين ينتقيهم الحاكم ممن توفرت فيهم الشروط السابقة يجب عليه أن يوليهم اختباراً، فيرى، وقد عرف نظرياً مدى كفاءاتهم، إلى كفاءاتهم في المجال العملي، فإذا أثبتوا انهم أكفاء حقاً، وانهم يعون مسؤوليات عملهم وآلياته ثبتوا وإلا عزلوا، واستبدل بهم غيرهم.

لهذا المبدأ، مبدأ الاختبار، يجب أن يخضع اختيار الولاة، أما

ص: 87

أن يوليهم الأعمال تحبباً إليهم، ودون أن يستشير في أمرهم، ودون أن يعرف مدى كفاءاتهم، فذلك جور عن الحق، وانحراف عن الجادة، وخيانة للأمة في مصالحها، فان مصالح الأمة أمانة في يد الحاكم يجب أن يسلمها إلى أكفأ ولاته.

ومن هنا نعلم أن القوانين الحديثة التي تنص على وجوب خضوع الموظف الإداري الحديث العهد بالوظيفة لفترة اختبار تطول وتقصر، لم تأت بجديد، فقد أدرك الامام قبلها بقرون وقرون هذه الحقيقة وسجلها في قانونه العظيم.

قال عليه السلام:

(ثم انظر في أمور عمالك فولَّهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثره، فإنهما جماع من شعب الجو والخيانة).

عهد الأشتر

* * *

وليس يكفي في حسن الظن بهم والركون إليهم مراعاة الدقة في انتخابهم، فان الوجدان الطبقي لهؤلاء ينزع بهم نحو التسلط وإظهار القوة، وحين يجري هذا الوجدان في غير أقنيته يصير خطراً على الرعية، لأنه يدفع صاحبه حينئذ إلى الانحراف والزيغ.

لأجل هذا يقرر الامام ان على الحاكم ألا يغفل عن تعقب هذه الطبقة ومراقبتها، فيلزمه بانتخاب رقباء من أهل الدين والمعرفة والأمانة

ص: 88

يبثهم في أطراف البلاد، ويجعلهم عيوناً له على عماله، يراقبونهم في أعمالهم، ويرصدون مبلغ ما يتمتع به هؤلاء الولاة من خبرة في الإدارة، وقدرة على التنظيم، ومعرفة بوجوه الاصلاح، ثم يرفعون ذلك كله إلى الحاكم فينكل بالمنحرف الذي خان أمانته، ويستأديه ما حاز لنفسه من أموال المسلمين، ويجعله عبرة لغيره. ويشجع الصالح في نفسه، الصالح في عمله. ويرشد المخطئ إلى وجه الصواب.

إن هذا التدبير يمسك الوالي عن الاسراف، ويحمله على العدل في الرعية، لأنه حين يعلم أن ثمة عيناً ترقب أفعاله يحذر من الخروج عن الجادة، ويحرص على اتباع ما يصلح بلاده. وهذا التدبير الذي نهجه الامام هو نظام التفتيش المعمول به الآن في الدول المعاصرة.

قال عليه السلام:

( ... ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والأمانة عليهم، فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، ولرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فان أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا. فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته

ص: 89

بالخيانة، وقلدته عار التهمة).

عهد الأشتر

ولقد كان الإمام (عليه السلام) يحرص أشد الحرص على اتباع هذا الأسلوب مع ولاته، ففي نهج البلاغة طائفة كبيرة من كتبه إلى عماله تدور كلها حول هذا المعنى، فيها تنديد بخيانة، وعزل عن ولاية، وزجر عن ظلم الرعية، وفيها توجيه وإرشاد ونصيحة.

قال عليه السلام:

( ... وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ) (1) .

وقال:

( ... إن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارا وجفوة. ونظرت فلم أرهم أهلا لان يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم ،

ص: 90


1- نهج البلاغة (من كتاب له إلى الأشعث بن قيس عامله على آذربيجان رقم النص: 5 في المختار من كتب أمير المؤمنين،

جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة) (1).

وقال:

(بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت أمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك) (2).

وقال:

(بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وأغضبت إمامك: انك تقسم فئ المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقا لتجدن بك عليَّ هواناً، ولتخفن عندي ميزاناً) (3).

وقد كانت شرور هذه الطبقة هي التي سببت الثورة على عثمان، 3.

ص: 91


1- نهج البلاغة - المختار من الكتب - رقم النص: 19
2- نهج البلاغة المختار من الكتب - رقم النص: 43.
3- نهج البلاغة المختار من الكتب - رقم النص: 40.

فقد ولىَّ على البلاد الاحداث من ذوي قرابته، ممن لا خبرة لهم في الحكم، ولا عاصم لهم من دين، ولا ورع لهم عن المحارم، فظلموا الرعية، وامتصوا دمائها، وكانت عاقبة ذلك وبالاً.

وعلى النقيض من هذا كانت سياسة الامام مع ولاته، فهو ينتخبهم انتخاباً، ثم يوليهم اختباراً، ثم يراقبهم ويحملهم على الاصلاح ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

* * *

والعامل الاقتصادي أداة يستخدمها الامام هنا - كما في كل موطن - لأجل ضمان استقامة الولاة على ما سنه لهم من شرائع العدل. ولذلك لم يغفل الإمام عليه السلام ما للعامل الاقتصادي من عظيم الأثر في إصلاح هذه الطبقة وإفسادها، فقد تدفع الحاجة أحدهم إلى الخيانة والظلم، وهم - كما عبر عنهم الامام في بعض كتبه - : (خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة (1). فلو ضيق عليهم الحاكم في الرزق، ولم يرفه عليهم في النعمة، كان حرمانهم مدعاة إلى أن تطمح أعينهم إلى ما ائتمنوا عليه من مال، وذلك داعية إلى الرغبة في الخيانة، واختلاس شئ من أموال الأمة.

لهذا أشار الامام على حاكم مصر بأن يوسع على الولاة في الرزق، لئلا يتخذوا الحاجة مبرراً للخيانة.1.

ص: 92


1- نهج البلاغة المختار من الكتب - رقم النص: 51.

قال عليه السلام:

(ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم ان خالفوك، وثلموا أمانتك).

عهد الأشتر

* * *

راجع في باب الكتب عهد الأشتر: وكتاباً منه إلى الأشعث ابن قيس عامل آذربايجان: رقم: 5. وكتاباً منه إلى عبد الله بن عباس عامل البصرة: رقم:

18. وكتاباً منه إلى بعض عماله: رقم: 19. وكتابين منه إلى زياد بن أبيه رقم: 20 و 21. وكتابين منه إلى بعض عماله: رقم: 40 و 41. وكتابا منه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامل أردشير خرة رقم: 43. وكتاباً منه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامل البصرة رقم 45. وكتاباً منه إلى عماله على الخراج رقم: 51. وكتاباً منه إلى الأسود بن قحطبة صاحب جند حلوان رقم: 59. وكتاباً منه إلى كميل بن زياد عامل هيت رقم: 61. وكتابا منه إلى قثم بن العباس عامل مكة رقم: 67. وكتاباً منه إلى المنذر بن الجارود العبدي رقم: 71.

ص: 93

ص: 94

الكُتَّاب

7

الكتّاب وأعوانهم هم الهيئة الوزارية، ووكلاؤها، ومديروها. وإلى هذه

الطائفة يرجع أمر الدولة كله: سلمها، وحربها، واقتصادها، وكل ما يلمّ بها من خير أو شر. فهي الجهاز الاعلى الذي ينظم نشاط الدولة، ويشرف على توجيهه. وعلى قدر ما تكون عليه هذه الطائفة من الصلاح والاستقامة، تصلح الدولة، وتستقيم ويعظم شأنها.

وقد نصّ الإمام (عليه السلام) في عهده على من يصلح أن يلحق بهذه الطائفة ومن لا يصلح لذلك، وأفاض في ذكر الصفات التي يجب أن تتوفر في الوزير، وبين الأسلوب الذي يحسن بالحاكم ان يتبعه في الاخذ منه والسماع عنه.

* * *

ص: 95

من جملة ما قدمناه بين يدي هذا البحث ملاحظة ذكرنا فيها أن الامام كتب هذا العهد وهو يطمح إلى انشاء جهاز جديد للحكم في مصر، جهاز واع لمسؤولياته، تقدمي في برامجه ومشروعاته، ليستجيب للحاجات التي يفتقر إليها المجتمع. وقد رأيناه في البحوث المتقدمة محافظاً على هذه السمة في عهده، فهو دائماً يؤكد ان جهاز الحكم يجب أن يكون سليماً، واعياً، تقدمياً، عاملاً لمصلحة المجتمع.

وها هو، بالنسية إلى طائفة الوزراء ومن يتعلق بهم، ينص على هذا المعنى ويؤكده تأكيداً وافياً.

فلا يجوز أن يدخل في هذه الطبقة رجال كانوا وزراء للظلمة والأشرار.

وذلك لان تأليف هذه الطبقة من هؤلاء يستتبع عواقب وخيمة تعود بالضرر على الدولة.

فهم، وقد استمرءوا فعل الظلم وتعودوا على مقارفته لا يعفُّون عن العودة إليه والارتكاس فيه. وإذا كانوا ذوي أنفس شريرة مست أعمالهم المجتمع كله نظراً إلى سعة سلطانهم، وعظيم قدرتهم، لان ملاك القوى كلها مجتمع عندهم.

وضرر آخر ينجم عن دخولهم في هذه الطبقة، فالشعب الذي عرفهم بالجور، وذاق منهم مرّ الظلم تذهب ثقته بالحكم المهيمن عليه حين يراهم قد عادوا إلى مراكزهم، ويعتبره حكماً أقيم لمصلحة طبقة

ص: 96

خاصة، ومتى ذهب ايمان الشعب بحاكمية أهمل من حقوق الحاكمين عليه ما يجب ان يؤديه، لاعتقاده أنه حين يلبيهم فيما يطلبون لا يقوم بعمل يعود بالنفع عليه.

وقد أصبح من المعطيات البديهية في علم الاجتماع ان ما يثير الشعوب ليس الظلم نفسه وإنما الشعور بالظلم، وسيطرة أشخاص مثل هؤلاء على دفة الحكم يوقظ في الشعب تصورات الظلم الذي ذاقه على أيديهم في عهودهم السابقة، وهذا كاف لان يولد في نفسه الشعور بالظلم وان لم يكونوا ظالمين. وهكذا تحدث بين الحاكم والمحكوم هوّة تبعد أحدهما عن الآخر، وتسلب ثقة كل منهما بالآخر، وفي بعض ذلك ما يجر الدولة إلى مصير وبيل.

قال عليه السلام:

(إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعون الأئمة، وأخوان الظلمة).

عهد الأشتر

ولا يجوز أن يناط اختيار أفراد هذه الطبقة بالفراسة وحسن الظن، فان الرجال يتصنعون الصلاح، ويتظاهرون بالمقدرة والأمانة، ليظفروا بمثل هذا المنصب، فيخدعون الفراسة، وينتزعون حسن الظن بتصنعهم، دون أن يكونوا على شئ من الصلاح والكفاءة.

ص: 97

إن اختيار أفراد هذه الطبقة يجب ان تلاحظ فيه اعتبارات متعددة.

يجب أن يكونوا على معرفة تامة بمحيطهم وبحاجاته، ليصدروا في إدارته عن وعي.

ويجب أن يكونوا إلى جانب المعرفة أكفاء، ذوي مقدرة على تصريف ما أنيط بهم من أمور.

ويجب أن يكونوا - إلى جانب هذا وذاك - ممن يعرفهم الشعب بالحب له، والحدب عليه، ورعاية مصالحه وتيسير حاجاته، والسهر على رفاهيته وسعادته، فان هذه الطبقة حين تتألف من مثل هؤلاء يطمئن الشعب إلى الحكم، ويستريح إلى أعمال الحاكم.

ويعرف ذلك كله بالنظر إلى سابق ما ولوه من أعمال الصالحين من الحكام، هل أحسنوا إدارته؟ وهل برهنوا فيه على دراية بأساليب الاصلاح؟ وهل كانت للشعب فيهم ثقة؟ فإذا اجتمعت فيهم هذه الصفات: من قدرتهم وكفائتهم إلى معرفتهم بمحيطهم، إلى حب الشعب لهم، وإيمانه بهم، حقّ لهم ان يدخلوا في هذه الطائفة، وحقّ على الحاكم ان يؤلفها منهم.

قال عليه السلام:

( ... ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك، وحسن الظن منك، فان الرجال يتعرفون لفراسات الولاة

ص: 98

بتصنعهم، وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ، ولكن اختبرهم بما ولّوا للصالحين قبلك: فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فان ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره).

عهد الأشتر

* * *

لقد نظر ان الامام فرأى أن طائفة الوزراء هي أعظم أجهزة الدولة أهمية، لان جميع الشؤون تناط بها، وترجع إليها، وتصدر عنها، في السياسة والإدارة والحرب.

ولا يصح ان تناط هذه المهام بشخص واحد أو بمجموعة من الاشخاص، فان الإحاطة بدقائق كل هذه المهام ومعرفة أسرارها لا تتاح في العادة للشخص الواحد، ولو أتيحت لواحد فأنيط به أمرها لما أحسن التصرف، ولوقع في الخطأ وسوء التدبير، لان اضطلاعه بها يرهقه ويبهظه، فاما أن يصرفها كلها فيقع في الخطأ، وينأى عنه بُعد النظر، وأصالة الرأي، وسلامة التدبير. وإما أن يهمل بعضها ويصرف بعضها الآخر فيقع الاضطراب في أعمال الدولة بسبب إهماله.

وان أنيطت المهام بجماعة من الناس دون تحديد المهمة الملقاة على عاتق كل منهم وقعت البلبلة وشاع الاهمال، فينقض أحدهم ما أبرمه الآخر، ويصرف أحدهم ما أمسكه صاحبه، ويمضي اثنان أمرين

ص: 99

متضادّين، ويهمل كل واحد منهم بعض المهمات اتكالًا على رفاقه.

فأحسن الوسائل لضمان سير أعمال الدولة على مستوى عال من حسن التدبير، وإصابة الهدف هو ما قرره الإمام عليه السلام، وهو أن يناط بكل واحد من هؤلاء الوزراء بعض مهمات الدولة، ويراعى في إلحاق من اختير للوزارة لعمل من الأعمال ان يكون ذا اختصاص بذلك العمل وذا خبرة بدقائقه واسراره ليؤدي ما استعصى منه على خير وجه.

وبهذا يكون الامام قد قرر مبدأ الاختصاص وتوزيع الأعمال في الإدارة الحكومية: ويكون بذلك قد تجاوز مفاهيم عصره الذي لم يكن يعرف هذا المبدأ العظيم الأهمية في مهمة الحكم والإدارة.

قال عليه السلام:

(واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم، لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها. ومهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه أُلزِمْتَهُ).

عهد الأشتر

وفي هذه الفقرة الأخيرة (ومهما يكن ...) قرّر الامام ان الحاكم مسؤول عما يكون في وزرائه من العيوب، وذلك لأنه - وقد اختار - يجب ان يتحمل مسؤولية اختياره.

* * *

ص: 100

وعلى رأس هؤلاء جميعا رئيسهم، وهو من يقال له (كاتب الكتاب).

ومهمة هذا الوزير هي الاشراف على من دونه من الوزراء، ومراقبة أعمالهم.

ومهمته أيضا هي تولي السياسة العليا للدولة مع الحاكم، فهو عضد الحاكم في رسم الخطط السياسية، وإعلان الحرب، وعقد معاهدات الصلح، والتعرف على نيات من يخاف منهم على أمن الدولة وكيانها، فهو مع الحاكم الاعلى، العقلان اللذان يديران عميلة الحكم كلها.

هذا الوزير يشترط فيه الامام شروطا لا يصلح بدونها:

فيجب أن يمتاز عن بقية الوزراء بأن يكون خيرهم، وذلك بأن يكون أكثر منهم إلماماً بشؤون الدولة وإمكاناتها، ليتسنى له أن يوجه كلا منهم إذا انحرف، ويفهم عنه إذا قال.

ويحب ان يكون عارفاً بمركزه وأنه لا يخرج عن كونه وزيراً يستمد الصلاحية ممن استوزره، فلا تبطره الكرامة التي حصل عليها، فتدفعه إلى إشاعة خلافه مع الحاكم بين الناس، لان ذلك يشعر الناس بأن في جهاز الحكم خللا، وربما سبب شيوع ذلك تحفز المشاغب إلى إظهار شغبه اغتناماً لفرصة الانشقاق.

ان الامام: لا يطلب من الوزير ان يسلم بوجهة نظر الحاكم في كل ما يقول، لأنه حينئذ يكون ببغاء لا وزيراً، ان عليه ان يجاهر برأيه

ص: 101

حين يرى الحق في جانبه، ولكن ذلك يجب أن يبقى سراً بينه وبين الحاكم، ولا يجوز ان يذاع في الناس.

ويجب أن يكون على وعي بحقيقة السياسة التي تسير عليها الدولة فيتبع في أوامره التي يصدرها إلى الولاة وفي مباحثاته السياسية هدى سياسة الدولة، ولا يغفل عنها فيلزم نفسه بما يتنافى وسياسة دولته التي يمثلها.

ويجب أن يكون عارفاً بأحابيل السياسة وألاعيبها، فيحافظ على التزامات الدولة السياسية التي تعود عليها بالنفع والقوة، ويعرف وجه الحيلة في اخراج الدولة من المآزق السياسية التي يكيدها بها أعداؤها.

ويجب أن يكون، إلى جانب هذه جميعاً، أجمع وزرائه لوجوه صالح الأخلاق، لان المهام التي تناط به تتطلب قوة في الدين تمسكه على الجادة، وشعوراً بالمسؤولية يحمله على الإخلاص والإتقان، وعفة تعصمه من الإغراء.

قال عليه السلام:

(ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في حضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد

ص: 102

مكاتبات عمالك عليك، واصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطي عنك، ولا يضعف عقداً اعتقده لك، ولا يعجز عن اطلاق ما عُقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل)

عهد الأشتر

وفي هذه الفقرة الأخيرة: (ولا يجهل ...) يشترط الإمام في الوزير أن يكون واقعياً، ينظر إلى الأمور نظرة جدية، ويعرف واقعة تمام المعرفة، فإذا كان مركزه ضعيفاً احتاط لنفسه بما يحتاط به الضعيف، ولا يهمل الاحتياط غروراً منه واستعلاء، وإذا كان قوي المركز وجب عليه أن يمثل دور القوي ولا يهن أمام خصومه فيعطيهم من نفسه ما لو شاء لمنعه، ثم لا يلحقه من وراء ذلك شئ.

* * *

قلنا إن الوزير الذي يصوّب كل ما يقوله الحاكم حتى إذا كان مخطئاً فيه ليس وزيراً وإنما هو ببغاء تقمصت اهاب وزير. وظيفة الوزير هي ان يتعاون مع الحاكم الاعلى على إدارة جهاز الحكم إدارة صحيحة، وعليه إذا أخطأ الحاكم في الرأي ان يرده إلى الصواب.

وعليها أن يتعاونا على معرفة أصلح الوجوه فيما يأخذان ويدعان من الأمور لذلك يجب أن يعطى الوزير حرية الرأي بحيث لا يقيده في

ص: 103

هذا المجال شئ، لأنه بقدر ما يكون متمتعاً بالحرية يكون عظيم الفائدة.

ويجب أن ينال الوزير من الحضوة بمقدار ما يكون صريحاً في رأيه، معالنا الحاكم بالحق راداً له إلى الصواب، فكلما ازداد قولا بالحق وايثاراً للصدق ازداد كرامة ورفعة. وأما حين يتبين الوزير في الحاكم أنه لا يطلب النصح وإنما يطلب الموافقة على رأيه فقط فإنه ينقلب إلى ببغاء، وحينئذ يسير الحاكم بالدولة معصوب العينين لان أحداً لا يجرؤ أن يقول في وجهه كلمة الحق.

قال عليه السلام:

(وليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع. ثم رضهم (1) على ألا يطروك، ولا يبجحوك (2) بباطل لم تفعله، فان كثرة الاطراء تحدث الزّهو (3) وتدني (4) من العزة).

عهد الأشتر رب

ص: 104


1- رُضْهُم : عودهم على ألا يمدحوك
2- بجح: فرح. عودهم على ألا يتقربوا إليك بنسبة إعمال إليك، ولم تكن قد فعلتها
3- الزهو: الاعجاب بالنفس
4- تدني: تقرب

الزُرَّاع

8

هذه الطبقة من أعظم الطبقات الاجتماعية، وأبلغها أثراً في حياة المجتمع ففي زمان الإمام عليه السلام كانت هذه الطبقة أضخم الطبقات الاجتماعية، وكانت مركز الكثافة في المجتمع، كما أن مركز الكثافة فيه هي طبقة العمال في العصر الحديث.

وكانت المجتمعات القديمة مجتمعات زراعية في الدرجة الأولى، فكان كيان الأمة الاقتصادي يقوم على الأرض ومنتجاتها، لان الصناعة لم تكن إذ ذاك على حال تسمح بأن يقوم عليها الصرح الاقتصادي للأمة، لضعفها وضيق نطاقها.

ولم تكن التجارة وحدها كذلك لتسمح بإقامة هذا الصرح في كثير من البلدان، لعدم انتظام التجارة العالمية إذ ذاك، ولضعف

ص: 105

المواصلات، ولعدم وجود طرق تجارية كافية ومأمونة في جميع الأوقات.

وإذن فقد كان الكيان الاقتصادي يقوم في الدرجة الأولى على الأرض ومنتجاتها، والرفاهية الاقتصادية منوطة بأن تتاح للأرض أفضل الفرص التي تمكنها من أن تعطي عطاء كثيراً، ومنوطة بان تتاح (؟) للزارع أفضل الوسائل التي تعينه على صيانة أرضه، وخدمتها، والحصول منها على نتاج وفير.

وقد برهن الإمام عليه السلام في عهده إلى الأشتر أنه على وعي تام لمدي أهمية هذه الطبقة في الكيان الاجتماعي، ثم للعمليات التي يعتبر نشاط هذه الطبقة ضرورياً لاستمرارها.

* * *

يقرر الإمام عليه السلام أن النشاط الاقتصادي كله يتوقف على ما يدفعه أهل الخراج من الأموال.

فسكان المدن على أقسام: الجنود المقاتلة، وأصحاب الحرف والصناع، وأصحاب التجارات، والذين لا يستطيعون عملاً يرتزقون منه، أو لديهم أعمال لا يكفيهم ريعها.

ويوزع قسم كبير من أموال الخراج على الجنود، وعلى الفقراء، وعلى من لا يكفيه عمله من ذوي الأعمال.

وبهذه القوة الشرائية التي يحدثها هذا المال تستمر الحركة الاقتصادية، فتنشط حركة التجارة والصناعة، لان في أهل المدن حاجة

ص: 106

إلى الطعام، والكساء، والآنية والوقود وغيرها، يحصلون عليها من التجار والصناع والعمال، وبهؤلاء حاجة إلى الزراع فيشترون منهم المواد الحيوانية والنباتية وغيرها، لأجل أن يلبوا حاجات المدن المتجددة، وبالزراع حاجة إلى الكساء والآنية والسلاح وما إليها: فيحصلون بهذا المال الذي يصير إليهم على ما يريدون.

هكذا يتوقف ازدهار النشاط الاقتصادي على طبقة الزراع، واذن فاضطراب أمور هذه الطبقة لن يعود بالضرر عليها وحدها وإنما يمتد بآثاره الضارة إلى المجتمع كله، فيشل نشاطه، ويؤدي به إلى أزمات اقتصادية حادة ينجم منها التفسخ الاجتماعي.

قال عليه السلام:

(وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله).

عهد الأشتر

* * *

وتعتمد هذه الطبقة اعتماداً مطلقاً على الأرض، وعلى العناصر الطبيعية، وعلى سواعدها.

فيجب ان تصان الأرض لتبقى في حالة جيدة، ولتستفيد من العناصر الطبيعية إلى أقصى مقدار ممكن، فيجب أن تشق الترع،

ص: 107

وتبنى القناطر والسدود، وتحفر الابار، لتتوفر للأرض حاجاتها من المياه وينتظم الري، ويجب شق الطرق الزراعية التي تمكن هذه الطبقة من الاتصال ببعضها، وتسهل قضاء المهام الزراعية والاستعانة بالعمال الزراعيين.

وصيانة الأرض ليست أمراً يعود بالنفع على هذه الطبقة وحدها، وإنما يعود بالنفع على الدولة كلها، فقد رأينا ما لنشاط طبقة الفلاحين من تغلغل حيوي في العمليات الاجتماعية، فصيانة الأرض والحال هذه من المصالح العامة، فيجب الانفاق عليها من الأموال العامة.

فأما حين تهتم الحكومة بالجباية فقط وتهمل أمر الاصلاح والعمارة، حين تتجه هذا المتّجه يصير بها الامر إلى أن تخرب البلاد وتهلك العباد، ثم لا تجد مورداً تجبي منه المال، لعدم وجود انتاج وفير لان الخراج كثرة وقلة متصل بحالة الأرض، فعلى مقدار ما تأخذ (؟) الأرض تعطي، وعلى مقدار ما تعطي تكون قدرة أهلها على إجابة الحاكم إلى أداء ما يفرضه عليهم من خراج.

قال عليه السلام:

( ... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم الا بهم: لان الناس كلهم عيال الخراج وأهله ... وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا

ص: 108

يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً).

عهد الأشتر

* * *

وطبقة الفلاحين أكثر الطبقات كدحاً، وأشقها عملاً. فعند من عداهم من الطبقات والطوائف وقت مخصص من اليوم للعمل، وأوقات أخرى للراحة والتسلية، بخلاف الفلاحين فان عملهم يمتد طول اليوم، وعلى مدار العام. وهذا العمل اما في مركز الانتاج وهو الحقل، واما في بيوتهم باعداد البذار والآلات وما إليها. وحتى في الأوقات التي ينقطعون فيها عن العمل هنا وهناك لا ينقطعون عنه في أحاديثهم وتصوراتهم.

وطبيعة عملهم تفرض عليهم هذا اللون من الحياة، وهذا المقدار من الجهد فغيرهم من الناس يستطيع أن يتحكم بعمله فيختار الوقت الملائم لأدائه ثم ينقطع عنه، أما الفلاح فعمله ينحصر في مساعدة العناصر الطبيعية على أن تؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل، فهو أسير لهذه العناصر، وعليه أن يكون يقظاً دائماً ليعمل ما يجب عمله، ولما كان عمله متصلا بهذه العناصر فان أي تقصير منه يعود عليه بضرر كبير، لأنه لا يستطيع أن يتحكم في الظواهر الطبيعية ويسخرها حسب هواه.

هذا العمل المرهق يجب أن يقابله مستوى من المعيشة، ومقدار

ص: 109

من الدخل يُشعِر أن هذه الطبقة بأنها حين تعمل لا تستغل لصالح الآخرين وإنما تعمل لنفسها في الدرجة الأولى.

ويجب أن يشعر الفلاح بأنه سيد أرضه وأن لا أحد يمكن أن ينازعه في هذه السيادة.

وحيث كان من اللازم مراعاة حال الفلاح وتمكينه من أن يحيا على مستوى لا يشعر معه بالاضطهاد والاستغلال.

وحيث كان من اللازم إشعاره بأنه سيد أرضه.

لهذا وذاك يجب أن يكون مسموع الكلمة فيما يتصل بأرضه وبقدرتها على الإنتاج، فإذا اشتكى ثقل الخراج لعدم تناسبه مع انتاج الأرض، أو شكى آفة ألمت بالأرض فأثرت على إنتاجها، أو ذهبت به فلذلك لا يستطيع دفع ما فرض عليه من المال، إذا شكى شيئاً من هذا كان من اللازم ان يسمع كلامه فيوضع عنه من المال مقدار ما يصلحه.

وقد يذهب الظن بالبعض إلى أن هذه المعاملة تؤثر على مالية الدولة وتضعفها ولكن هذا الظن بعيد عن الصواب، لأن هذه الوضيعة التي يحصل عليها الفلاح تعود على الدولة نفسها بفوائد عظيمة تزيد في ازدهارها ورفاهيتها. وذلك لان هذا المال يصرف في إصلاح الأرض وعمارها، ويصرف في سد حاجات الفلاح نفسه من مسكنه وملبسه ومرافق حياته الأخرى، فيكون في ذلك تزيين للبلاد بما أتاح لها هذا المال من العمران ويكون في ذلك شعور هذه الطبقة بالطمأنينة والرضى مما يدفعها وهي أكثر طبقات المجتمع عدداً وأعظمها انتاجاً، إلى المحافظة

ص: 110

على الحكم القائم، والدفاع عنه لأنه يحفظ لها مصالحها.

ولدينا شاهد من التاريخ على هذا، فقد كان نابليون الثالث (إمبراطور فرنسا) ممن حدبوا على هذه الطبقة ورعوا مصالحها، وحموها من عتاة الظلمة، وأشعروا الفلاح الفرنسي انه سيد أرضه وان أمرها منوط به وحده، وقد كان موقفه هذا مما دفع بالفلاحين إلى أن يخصوه بتأييدهم دائماً لما لمسوه من رعايته لمصالحهم وفهمه لموقفهم.

وهذه النتيجة (عطفهم على الحكم القائم) مع عمران أرضهم تجعلهم على استعداد للمعونة حين تطلب منهم، لحسن ظنهم بالحكم القائم ورغبتهم في استمراره من جهة، ولان حالهم المالية تسمح لهم بالمساعدة لوفرة الانتاج.

فهذا المال الذي وضع زاد في عمران البلاد، ومن ثم زاد في ايرادها، ومن ثم جعلها تحتمل من الضرائب فوق ما كانت تحتمل وهي أقل عمراناً، وحمل الفلاحين على حب الحكم القائم وبذل المعونة له حين يشكو العجز وتأييده حين يشكو الخذلان.

قال عليه السلام:

(فان شكوا ثقلاً أو علة (1)، أو انقطاع شِرْب أو بالّة (2) أو إحالة أرضٍ اغْتَمرَتهار.

ص: 111


1- ثقلاً - شكواً من ثقل الضريبة عليهم (علة) شكوا من مرض زراعي أتلف محاصيلهم.
2- الشرب بكسر السين: ماء الري في المناطق الزراعية التي تعتمد على الأنهار وما إليهم (بالة) بتشديد اللام وفتحها: ماء المطر في المناطق التي تعتمد في الري على الأمطار.

غرق، أو أجْحَفَ بها عطش، (1) خففْت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم).

(ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة (2) عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبَجحِك (3) باستفاضة (4) العدل فيهم، معتمداً فَضْلَ قوّتِهم بما ذَخَرت عندهم من إجمامِك (5) لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم، ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به، فان العمران محتمل ما حملته).

عهد الأشتر

* * * ة.

ص: 112


1- إحالة أرض - فساد البذور فيها، (اغتمرها غرق) غمرها الماء وطاف عليها فغرقت به (وأجحف بها عطش) لم تأخذ ما يلزمها من الماء للري - يعني أن الزراع إذا شكوا من فساد موسمهم الزراعي بسبب طوفان الماء على الأرض المزروعة أو بسبب قلة الماء وعطش الأرض، فينبغي أن تأخذ شكواهم بنظر الاعتبار.
2- المؤونة: النفقة.
3- تبجحك ... سرورك بمعاملتك العادلة لهم.
4- الاستفاضة: الانتشار والشيوع.
5- الإجمام: الترفيه والإراحة.

ولهذه الفقرات وجوه أخرى من الدلالة، عظيمة القيمة، بالغة الأهمية.

فمن الشروط الأساسية لنجاح العمل وازدهاره أن يقبل العامل عليه بهمة ونشاط، وأن يشعر نحوه بالحب والرغبة. وأن يحس حين يزاوله أنه ينمي به شخصيته الانسانية، ويؤكد قدرتها على الابداع - إذا كان هذا هو موقف العامل النفسي من عمله ازدهر العمل وتقدم، ولا يمكن أن يقف العامل من عمله هذا الموقف إلا إذا شعر بأن عمله له، وبأنه يعود عليه بالنفع والفائدة.

ومن هنا اعتبرت الملكية الخاصة من أعظم الأسباب الدافعة إلى ازدهار العمل، لان هذا اللون من الملكية يدفع العامل إلى بذل طاقته كلها مع شعوره بالسرور لأنه يعمل لنفسه.

ويتغير هذا الموقف حين يكون العمل للغير ولا يرجع إلى العامل من ثمراته شئ يذكر، فإنه حين ذاك يشعر بالكراهية نحو عمله، ويتهاون فيه ولا يتحرى كماله واتقانه ويتحرى الفرض للتهرب منه، وهذا يضعف سير العمل، ويهبط به، ويسري هذا الموقف النفسي إلى صاحب العمل نفسه فيتمنى العامل هلاكه، ليتخلص منه.

هذه الملاحظات تفيدنا هنا.

فحينما توضع على الفلاحين الضرائب الفادحة التي لا تتناسب مع دخلهم، مع إهمال عمارة الأرض وصيانتها يشعر هؤلاء الفلاحون أنهم لا يعملون لأنفسهم، ولا يجنون من وراء كدحهم المرهق شيئاً ذا

ص: 113

قيمة، وإنما يعملون لغيرهم، ويُستغَلون لهذا الغير استغلالا بشعا وذلك يخلق في نفوسهم كراهية عملهم والتذمر منه.

إن هذه المعاملة التي تحدث هذا الشعور وتدفع إلى هذا الموقف تخلف في المجتمع آثاراً ضارة قد تقوض المجتمع من أساسه.

هذه المعاملة تدفع بأضخم طبقة في الأمة إلى انحلال أخلاقي فظيع، فهذا الفلاح الذي يستغل الحاكم جهده دون أن يعوضه عليه شيئاً يريد أن يعيش، وهو يتوصل إلى غايته هذه بالكذب والغش والتهريب والسرقة فبدلا من أن يعيش من أرضه بجهده يضطر إلى العيش من جيوب الآخرين بسلاحه، وينقلب قاطع طريق، مجرماً، عدواً للمجتمع، بعد أن كان المفروض فيه أن يكون لبنة تزيد صرح المجتمع قوة ومناعة.

ومن جملة آثارها أن تنتقل الأيدي الفتية الشابة إلى بلاد أخرى هربا من الظلم، وطلباً للقمة العيش. فمن لا يصبر على الظلم إما أن يتحول إلى قاطع طريق وإما أن يهاجر، وهذا يسلب من البلاد زهرة شبابها، فان الذين يهاجرون هم الأقوياء المغامرون، ذوي المستوى الأخلاقي العالي الذي يمنعهم من الاجرام.

وإلام يؤدي هذا؟ انه يؤدي إلى هبوط الانتاج، فهذه الأيدي الفتية هي التي تدير عمليته، وحين تنقطع عن العمل فلابد أن يصاب الانتاج بالشلل.

ومن جملة آثارها أن تنتقل رؤوس الأموال الكبيرة إلى خارج

ص: 114

البلاد، فان أصحاب الثروات يستغلون أموالهم عن طريق الزراعة في المجتمعات الزراعية، فيعمرون الأرض، ويحيون مواتها، ويصلحون نظام الري، ويوجدون عملاً للكثيرين ولكن غاية هؤلاء هي الربح، فإذا ما رأوا ان الضرائب والمظالم تذهب بثرواتهم فضلاً عن أرباحهم آثروا تجميد أموالهم أو نقلها إلى بلد آخر يأمنون فيه العدوان وينجم عن هذا تعطيل شبان كثيرين يتجهون إلى الهجرة أو إلى الاجرام، وتزيد البلاد خراباً، ويزيد الكيان الاقتصادي ضعفاً.

ومن جملة آثارها ان تتحد الأمة على بغض الحكم القائم، ثم لا تلبث أن تثور عليه وتجعله أثراً بعد عين.

هذه الكوارث الاجتماعية تنشأ من عدم التبصر في إمكانات الانتاج وحالة المنتجين. وقد وضع الإمام عليه السلام من المبادئ ما يعصم اتباعه من التردي، فبين ان على الحاكم قبل ان يفكر في وضع الضريبة ان يلاحظ حالة الأرض فيعمرها ويصلحها، وأن يراعي حالة العامل النفسية والمعيشية فيضمن له العيش في مستوى لائق لئلا يشعر بالاضطهاد، وعندما يفرغ من ذلك كله يحق له ان يضع الضريبة التي تتناسب مع مستوى الانتاج ومقدرة المنتجين.

قال عليه السلام:

(وإنما يؤتي خراب الأرض من إعواز (1) أهلها، وإنما يعوز أهلها لاشراف (2) أنفس م.

ص: 115


1- الاعواز: الحاجة.
2- اشراف أنفس الولاة: الاشراف: التطلع، أي ان الولاة يتطلعون إلى جمع المال لأنفسهم، لعدم ثقتهم بالاستمرار في الحكم.

الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر).

عهد الأشتر

* * *

ولا يكفي هذا وحده في ازدهار هذه الطبقة وتقدمها، فقد يكون الحاكم محسناً إليها رؤ وفاً بها، ومع ذلك ينالها الظلم، ويلحق بها الحيف.

إن هذه الطبقة بحاجة إلى الحماية من طبقة الخاصة والنبلاء.

فهؤلاء يظلمون، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يفيئون إلى حق، اعتزازاً بقوتهم وغناهم وصلتهم بالحاكمين، ولذلك فيجب ان تحمى هذه الطبقة منهم بقطعهم عنها، ويكون ذلك بألا يجعل الحاكم لهم سبيلاً عليها ولا صلة بها فلا يُقطعِهم الحاكم أرضاً تتصل بأرض من هم دونهم قوة وقدراً لأنهم يستغلوا المرافق العامة في سبيل منافعهم الخاصة، ويعتدون على ارض غيرهم فيلحقونها (؟) بأرضهم، ويعفيهم الجباة من الضرائب مراعاة لمنزلتهم، ويضعون ما رفعوه عنهم على أعناق غيرهم ممن ليس له مثل منزلتهم، وذلك أفدح الظلم وأقبحه.

فإذا ما حدث شئ من ذلك وتعدى أحد هؤلاء على بعض الناس فظلمه بأن وضع عليه خراجه، أو سلبه ارضه، أو حرمه الانتفاع بالمرافق العامة، وجب على الحاكم ان يؤد به ويرده إلى العدل كائناً من كان.

ص: 116

قال عليه السلام:

(ثم إن للوالي خاصة وبطانة، (1) فيهم استئثار وتطاول، وقلة انصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع مادة تلك الأحوال. ولا تقطعن لاحد من حاشيتك وحامتك (2) قطيعة ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة (3) تضر بمن يليها (4) من الناس في شرب (5) أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مَهْنَأ (6) ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.

وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبتهة.

ص: 117


1- الخاصة والبطانة، رجال الحاشية المقربون من الحاكم. (البطانة) من بطانة الثوب لأنها أقرب إلى جلد الانسان، فاستعيرت الكلمة للتعبير عن الناس المقربين إلى الحاكم.
2- الحامة - المقربون جدا من الحاكم وأقاربه.
3- قطيعة - عقدة: الضيعة، المزرعة، الأرض الزراعية، (اعتقاد عقدة) اقتناء مزرعة.
4- يلي: يقرب، أي لا تجعل أحدا من حاشيتك يقتني مزرعة إذا كان يخشى منه أن يظلم جيرانه من المزارعين ويضرهم بأخذ أكثر من حصته المقروة له من الماء، أو بتكليفهم بأعمال زراعية مشتركة بينه وبينهم دون أن يتحمل ما يترتب عليه من النفقات.
5- الشرب - بكسر الشين - ما، الري
6- المهنأ - المنفعة الهنيئة.

بما يثقل عليك منه فان مَغبَة (1) ذلك محمودة).

عهد الأشتر

راجع: عهد الأشتر وراجع كتابا منه إلى عماله على الخراج رقم النص: 51 .ة.

ص: 118


1- المغبة: العاقبة.

التُّجّار وَ الصُّنَّاع

9

إذا كانت الزراعة هي ينبوع النشاط الاقتصادي في العصور القديمة، فان التجارة هي المظهر الأكمل لهذا النشاط في جميع العصور.

وإذن فطبقة التجار تشكل وحدة اجتماعية عظيمة القيمة، بعيدة الأثر في الكيان الاجتماعي.

ولو أن اضطراباً ألم بنشاط هذه الطبقة لاضطرب المجتمع كله، فتحدث المجاعات في بعض الأطراف بينما تتكدس المواد الغذائية في أطراف أخرى، وبينما توجد في بعض المناطق سلع كثيرة للاستهلاك، توجد مناطق أخرى نقصا في سلع الاستهلاك.

وهؤلاء التجار - في كلام الامام على قسمين: منهم المقيم

ص: 119

المستقر بماله وتجارته. ومنهم المتجول المضطرب بماله بين البلدان يرصد حاجة كل بلد فيتجر فيه بالسلعة التي يفتقر إليها.

وأما الصناع فيجب ان ندخلهم في طبقة التجار ونفهمهم على أنهم منها هنا، وذلك لامرين.

الأول: أن لكل من هؤلاء الصناع عملاً خاصاً مستقلاً يتجر به وحده أو يشاركه فيه غيره فهو يتمتع بنتيجة عمله وليس مستخدماً عند غيره كما هو حال العامل الآن.

الثاني: ان الوجدان الطبقي عند التجار والصناع واحد كما سنرى. والميزان في عد طائفتين من الناس طبقة واحدة هو وحدة الوجدان الطبقي فيهما.

* * *

هناك تلازم وثيق بين الازدهار الاقتصادي وبين التجارة، فكلما نشطت حركة التجارة ارتفعت نسبة الانتاج، وكلما ضعف أمر التجارة هبطت هذه النسبة، وتبعتها في الهبوط المكانة الاقتصادية للأمة.

نضرب لهذا مثلا بحالة المقاطعات الفرنسية في عصر الاقطاع، ثم بحالة هذه المقاطعات بعد ضعف أمر الاقطاع ونشوء البرجوازية.

ففي عهد الاقطاع الذي ساد أوربا منذ انهيار إمبراطورية شرلمان إلى ما بعد الحركة الأولى للحروب الصليبية ضعفت الحركة التجارية في أوربا ضعفاً عظيماً فتبعها الانتاج في الهبوط، واكتفى سكان كل اقطاعية بانتاج ما يلزمهم ويكفيهم من المواد الغذائية واقتصروا منها على

ص: 120

أنواع خاصة تسد حاجتهم. ولا تستدعيهم بذل جهد كبير فلم يكن شئ سوي سد الحاجة مطلباً لهم. نعم كانت ثمة استثناءات خاصة في السلاح والثياب والأثاث للزعيم، وكانت هذه تنقل من أقاليم بعيدة نسبياً. وهكذا كانت المقاطعات الفرنسية كلها، تجنح في الاقتصاد نحو سياسة الاكتفاء الذاتي، وعدم انتاج ما يزيد على الحاجة.

ولكن ما ان التهبت شرارة الحروب الصليبية التي ذهبت بكثير من النبلاء والاقطاعيين، وما ان حدثت تطورات اجتماعية أخرى كالنزوح من الريف إلى المدينة، وتأييد الملك، واختراع المدفع الذي ذهب بقيمه الحصون ... ما ان حدث هذا حتى عادت التجارة فنشطت نشاطاً عظيماً، ونشأت طبقة البرجوازيين التجارية التي يتنقل افرادها بين البلدان، واستتبع ذلك ارتفاع مستوي الانتاج، فزرع الزراع أنواعاً جديدة لم يكن ليزرعها لولا طلب التجار لها، واشترى أشياء جديدة (ملابس وأسلحة، وآنية، وأدوات زينة) لم يكن ليقدر على شرائها لولا نشاطه الجديد، وتفنن الصانع في صنعه، فلم يعد يصنع ما يسد الحاجة فقط، وإنما أخذ يصنع ما يرضي حاسة الجمال أيضاً. وقامت المشاريع الصناعية الكبرى فنشأت البرجوازية المالية والبرجوازية الصناعية. وهكذا ارتفع مستوى الانتاج بسبب نشاط الحركة التجارية.

وعندما نبحث عن أسباب التدهور الذي حل بفرنسا وغيرها من دول أوربا في عصر الاقطاع نجد أسباباً مختلفة.

منها عدم وجود الطرق التجارية الصالحة في جميع الأوقات بين مختلف أنحاء البلاد.

ص: 121

ومنها قطاع الطرق، وعصابات اللصوص والقتلة التي تترصد القوافل التجارية.

ومنها عدم وجود سلطة مركزية تبث الامن، وتضرب على أيدي المفسدين في الأرض، لان السلطة المركزية في عصر الاقطاع كانت واهنة وكان السلطان الفعلي بأيدي الاقطاعيين وكان هؤلاء في حالة حرب دائمة فيما بينهم في شغل عن تأمين السبل والضرب على أيدي المفسدين.

ومنها الرسوم الكمركية الفاحشة، والضرائب الباهظة التي تفرض على البضاعة عند حدود كل مقاطعة، وعند كل جسر ومعبر مما يرتفع بثمن السلعة إلى مبلغ كبير لا يقوى عليه الفرد المحدود الدخل.

هذه الأمور أضعفت الحركة التجارية وحصرتها في نطاق شديد الضيق.

ولكن الوضع تغير عندما حدثت التطورات الاجتماعية التي أشرنا إليها. فلقد استتبع ضعف شأن الاقطاعيين تحول الشعب إلى تأييد الملك فاشتد ساعد السلطة المركزية، وعند ذلك ضربت هذه السلطة على أيدي اللصوص وقطاع الطرق ومهدت السبل التجارية وأمنتها، ووحدت الضرائب فاتسع مجال التجارة، ونجم عنها الازدهار الاقتصادي الذي أشرنا إليه.

وما نشك في أن الامام كان على وعي لهذا كله يوم كتب للأشتر عهده الذي عهد إليه.

ص: 122

فقد استوصاه بالتجار خيراً، وأمره بأن يوصي بذلك ولاته وعماله.

وما هذا الخير الذي أراده لهم إلا تسهيل مهمتهم، ليؤدوا خدماتهم للمجتمع على الوجه الأكمل، فلا يجوز أن تكون المكوس والضرائب باهظة تستصفي الربح كله، أو تبقى منه شيئاً لا يسد الحاجة، ولا يحمل صاحبه على المخاطرة، لان ذلك يلجئه إلى أن يجمد ماله فلا ينميه بالتجارة، ويلحق بالمجتمع من ذلك ضرر كبير ينشأ من توقف حركة العرض والطلب التي ينجم عنها هبوط المستوى الاقتصادي.

ويجب أن تكون الطرق التجارية صالحة في جميع الأمکنة ليتيسر للتجار التنقل بين أطراف البلاد، وليتمكنوا من تلبية الرغبات في جميع الأنحاء، وليستطيعوا نقل فائض الانتاج من منطقه فيسدوا به حاجة منطقة أخرى تعاني نقصا فيه.

ويجب أن يستتب الامن، لئلا يمسك الخوف التاجر عن التنقل، ويقعد به الفرق من أن يذهب ضحية العدوان.

قال عليه السلام:

(ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم، والمضطرب بماله (1)، والمترفق د.

ص: 123


1- المضطرب بماله: التاجر المتنقل بين البلاد.

ببدنه (1)، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق (2)، وجلّابُها من المباعد والمطارح (3)، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، لا يلتئم (4) الناس لمواضعها، ولا يجترؤن عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته (5)، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك).

عهد الأشتر

* * *

ذهب (سان سيمون) إلى أن الوجدان الطبقي الذي يميز طبقة الصناع والتجار هو الانتاج، وإنماء بالثروة الفردية عن طريق تشكيل المادة على نحو ينتفع به الانسان، أو عن طريق الاتجار بهذه المادة.

وهم، بهذا، يخالفون طبقة الحاكمين لان هؤلاء يجعلون مظهر سلطانهم على الانسان (كان سيمون يكتب هذا في سنة 1818) أما التجار والصناع فقد جعلوا سلطانهم على المادة، ولذلك فهم طبقة ن.

ص: 124


1- والمترفق ببدنه : العامل اليدوي.
2- المرافق: الأدوات والآلات، وما إليها.
3- المطارح: الأماكن البعيدة.
4- يلتئم: يجتمع الناس.
5- البائقة: الداهية، والخطر، اي ان التجار والصناع مسالمون.

مسالمة لا يخشى منها شر، بخلاف من كان سلطانهم على الانسان، فإنهم ينزعون إلى الشر والتسلط.

وهو يرى أن البرجوازية الصناعية والتجارية قد حققتا انقلاباً هائلاً في نظرة الانسان إلى وسيلة جمع المال، وبدلتا المفاهيم الاقتصادية التي سيطرت على العقل الانساني آلاف السنين.

فبينما كانت هذه المفاهيم تقتضي بأن أحسن الوسائل لجمع المال هي السيطرة على طائفة من الناس واستخدامها، نرى هذه الطبقة الناشئة تؤكد أن السبيل الأفضل لذلك هو السيطرة على المادة وتسخيرها لحاجات الانسان بواسطة قوى العلم.

ويرى سيمون أن من الضروري للتقدم الانساني أن تتاح لهذه الطبقة جميع فرص النمو، لتعم ثروتها المباركة على النظرة التقليدية لوسائل جمع المال (1) وهذه الفكرة بديهية. وقد أكدت جميع التجارب صحتها.

ولا يصعب عليناً أن نتبين روح هذه الفكرة في عهد الامام، فقد رأيت أنه قد أوصى الحاكم بالتجار والصناع، وأمره أن يرعى شؤونهم ويتفقد أحوالهم، ويفسح لهم في المجالات ليتسنى لهم أن يساهموا مساهمة خصبة في رفع مستوى الانتاج وانماء الحياة الاقتصادية.

وتأمل في قوله: ( ... فإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته) فإنه يؤكد فيه وجوب العناية بهم والرعاية لهم، لأنهم لا 1.

ص: 125


1- دكتور محمد ثابت الفندي: الطبقات الاجتماعية ص: 47 - 51.

يخشى منهم شر، فطبيعة عملهم، والوجدان الذي يدفعهم إلى هذا العمل فيهما خير المجتمع ورفاهه.

وأما قوله: (وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك) بعد أن أمره وأمر عماله برعايتهم، فإنه يشبه أن يكون أمراً بانشاء دائرة خاصة تعنى بشؤون التجار.

* * *

قلت: اننا لا يصعب علينا أن نتبين روح هذه النظرية في عهد الامام ولكن في هذا العهد ملاحظة عميقة واعية غفل عنها سان سيمون، وأولتها الأبحاث الاجتماعية الحديثة عناية كبيرة.

وذلك أنه إذا كان من الحق أن نعترف بأن طبقة التجار والصناع طبقة محبة للسلم، طبقة يعود نشاطها على المجتمع بالخير، فان من الحق أن نعترف أيضاً انها تصير في بعض الأحيان ذات نشاط عدواني مضر بالمجتمع فعندما تستحكم (العقلية التجارية) في التاجر والصانع إلى حد أنها تدفع بهما إلى التماس الثروة من أقرب الطرق - عندما يحدث هذا تجنح هذه الطبقة إلى التسلط والسيطرة على الانسان بصورة غير مباشرة، ولكنها بالغة الضرر، وذلك بالاحتكار والتوسل به إلى السيطرة على الأسواق والتحكم بالاسعار، وبالتطفيف في الموازين، وبالغش وبيع الأصناف الرديئة، وبكل طريق يضمن ربحاً وفيراً في مقابل رأسمال قليل.

عندما يحدث هذا الانحراف في عمل هذه الطبقة تصير خطراً.

ص: 126

واذن فكما تجب معونتها، تجب مراقبتها أيضاً لئلا تنحرف انحرافاً يضر بالشعب، ويحرم الفقير من بلغة عيشه، فحينما ترتفع الأسعار وتبقى الأجور كما هي تحدث أزمة عند من لا تفي أجورهم بالاسعار الجديدة.

هذه الظاهرة، ظاهرة انقلاب هذه الطبقة إلى خطر، لاحظها الامام، وتقدم إلى عامله بأن يلاحظها، وبين له العلاج.

فعندما يحدث الانحراف يتعين على الحاكم بأن يقوم بتدبير زجري يرجع الأمور إلى نصابها، وذلك إما بمنع المحتكر من الاحتكار، وإجباره على البيع بالسعر المعقول، وإما بتعميم المادة المحتكرة على تجار عديدين يبيعونها بالسعر العادل بالنسبة إلى الفريقين: البائع والمستهلك، فإذا ما احتكر تاجر بعد النهى عوقب ليرتدع.

وأمر عامله أن يجعل الأسعار على مستوى لا يعجز عنه أوساط الناس، ولا يخسر به التاجر.

وأمره أن يضبط المكاييل والموازين لئلا يبخس البائع المبتاع.

قال عليه السلام:

(واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً (1) فاحشاً، وشحاً (2)، قبيحاً، واحتكاراً ل.

ص: 127


1- سوء الخلق في المعاملة .
2- الشح: البخل.

للمنافع: وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة.

فامنع من الاحتكار فان رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف (1) بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف (2) حكرة من بعد نهيك إياه فنكل (3) به وعاقبه من غير إسراف).

عهد الأشتر ه.

ص: 128


1- الاجحاف: الظلم، يعني أن تكون الأسعار عادلة بالنسبة إلى: التاجر والمستهلك.
2- قارف: ارتكب وفعل.
3- النكال: العقاب اي عاقب التاجر إذا احتكر بعد نهيك له.

العُمّالُ وَ مَنْ لَا يَسْتَطيعُونَ عَمَلاً

10

هذه الطبقة، طبقة الفقراء تتألف ممن لا يستطيعون عملاً، لعاهة فيهم لا يقدرون معها على العمل، أو لا يستطيعونه لكبر السن وضعف البنية، أو لا يستطيعونه لصغر السن كالأيتام الذين لا كافل لهم، أو يستطيعون ويعملون، ولكن عملهم لا يمدهم بالكفاية، ولا ييسر لهم مستوى لائقاً من العيش.

هذه الطبقة تتألف من هذه الطوائف، وإذا لم تلاق عناية من المجتمع ينحرف قويها إلى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً، وهي في الحالين سبة وخطر على المجتمع. واذن فلا بد من تدبير يدفع البؤس عن أفرادها، ويحول قويهم إلى خلية انسانية عاملة وينهض بهم إلى مستوى الحياة الحرة الكريمة.

ص: 129

وقد سن الإمام عليه السلام قانوناً تعامل به هذه الطبقة استجاب فيه إلى أحكام الاسلام.

وفي كلام الامام عن هذه الطبقة نرى تشريعاً عمّالياً ناضجاً إلى أبعد الحدود، ومستوعباً تمام الاستيعاب، وهو على نضجه الكامل واستيعابه التام، سابق للتشريعات العمالية الحديثة بأكثر من الف ومائتي عام.

* * *

ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت طلائع الثورة الصناعية في انكلترا، وهي أول بلد أو ربي شهد الانقلاب الصناعي الحديث.

وقد تمت للثورة الصناعية عناصرها المكونة حين اخترع البخار كقوة محركة، وعمم في صناعة المحركات. واستتبع ذلك اتساع نطاق الصناعة وتركزها في المدن، وحينئذ حدثت الهجرة من الريف إلى المدينة، فقد باع الفلاحون أرضهم من كبار الملاك، وانتقلوا إلى المصانع الجديدة كعمال، وعند ذلك ظهرت طبقة العمال إلى الوجود على نحو فعال، وانتقلت مراكز الكثافة في المجتمع من الفلاحين إليها.

ومن هذا الحين بدأت هذه الطبقة تستشعر الظلم أفدح وأقسى ما يكون، فلم يكن لمطامع أصحاب المصانع حد ولا غاية، وكان العامل يعمل أكثر ساعات نهاره بأجر زهيد، فإذا ما استغنى عنه صاحب

ص: 130

العمل، أو حلت به آفة، أو اعتراه وهن، أو بلغ سنا لا يقوى فيها على العمل، طرد من عمله.

وبدا كأن هذا الوضع الشائن سيستمر إلى الأبد.

وبدا كأن الكيان الاقتصادي القائم على هذا الاستغلال سيبقى منيعاً.

وبدا كأن واقع العمال التعس أمر لا مفر منه ولا معدى عنه.

ولكن شيئاً من هذا لم يستمر، فقد نبهت هذه المظالم الوعي العمالي، ودفعتهم إلى تحسين مستواهم الاقتصادي عن طريق الصراع.

وقد عملوا كثيراً، وقد أخفقوا كثيراً، ولكنهم وفقوا أخيراً إلى تخفيض ساعات العمل ورفع الأجور، والتعويض عند الصرف من العمل، والضمان الاجتماعي بإعانة مالية تدفع للعامل المتعطل من صندوق الدولة.

ونقدم هنا ملاحظات:

الأولى: ان هذا لم يتم إلا بجهود العمال أنفسهم، فلا المجالس التشريعية ولا أصحاب العمل انتبهوا إلى حالة العمال واهتموا بتحسينها، ولم يستجب أصحاب العمل لمطالب العمال، ولم تسن التشريعات الملائمة إلا بعد صراع دام عقوداً من السنين.

الثانية: إن هذه الإعانة التي تعطى للعامل المتعطل إنما تعطى له

ص: 131

بشكل إحسان وصدقة، ولا باعتبار ها حقاً له.

الثالثة: ان هذه التشريعات لا تشمل بعض الحالات، فمن يعمل ولا يكفيه عمله لا يدخل فيها، ومن يعمل ويحصل على أجر مناسب ولكن عرض له ما جعله مفتقراً إلى المزيد من المال لا يدخل فيها، وكذلك لا يدخل فيها الأيتام، ومن لا كافل لهم ولا يستطيعون العمل لصغر السن أي لا تعتبر الدولة نفسها مسؤولة عنهم.

وإذا رجعنا إلى عهد الامام لنقارن بينه وبين النتائج التي خرجنا بها؟ فماذا نجد؟

نلاحظ أولا: ان التشريعات الكافلة للطبقة العاملة ومطلق من لا يستطيع العمل للمرض أو لكبر السن أو لصغره - هذه التشريعات صدرت من فوق، من طبقة الحاكمين، ومغزى أن تكون التشريعات الحامية لطبقة العمال قد صدرت من فوق من دون أن يحدث من هذه الطبقة تحسس يلجئ إلى هذا، كبير القيمة، فهو يدل على أن الامام كان يفكر في هذه الطبقة ويعمل لخيرها.

وثانياً: ان ما تدفعه الدولة إلى هؤلاء ليس احساناً منها إليهم، وإنما هو حق لهم عليها، يجب أن تؤديه. وعهد الامام صريح في هذا كما سترى.

ومغزى هذه الملاحظة عظيم، فعندما يأخذ المعوز ما يأخذه على أنه (احسان) يشعر بالدونية، اما حين يأخذه على أنه (حق) فإنه يشعر بشئ من هذا.

ص: 132

وثالثاً: ان التشريع الذي سنه الاسلام وذكره الامام يشمل كل حالة عجز، فمن لا يستطيعون عملا لمرض أو هرم أو صغر سن، أو يعملون ولكن أجرهم لا يكفيهم - هؤلاء جميعاً تكفلهم الدولة، وتعتبر نفسها مسؤولة عنهم.

وعهد الامام صريح في أن على الحاكم أن ينشئ لهذه الطبقة دائرة خاصة ترعى شؤونها، فهو يقول:

(ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم).

وقد جرى عليه السلام على هذا فيما نقل ابن أبي الحديد إذ قال:

(وكان لأمير المؤمنين علي عليه السلام بيت سماه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم).

واذن، فبالرغم من سبق عهد الامام على التشريعات العمالية الحديثة بأكثر من الف ومائتي عام نلاحظ أنه أوعى لحاجات هذه الطبقة وأرعى لشؤونها، وأشمل لطوائفها من هذه التشريعات.

نعم تمتاز هذه التشريعات بأنها أكثر تفصيلاً من عهد الامام، وبأنها تشتمل على ملاحظات لم ترد في هذا العهد، ولكن ذلك لا يكسبها ميزة حقيقية، فالعبرة بروح التشريع وبشموله، ولا شك، بعدما عرفت، في أن عهد الإمام أشمل.

ص: 133

قال عليه السلام:

(ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى (1) والزمني (2) فان في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً (3).

واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات (4) صوافي (5) الاسلام في كل بلد، فان الذي للأقصى (6) منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه (7).

ولا يشغلنك عنهم بطر (8) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لاحكامك الكثير ة

ص: 134


1- البؤسی: جمع بائس، الذين يعانون من الفقر الشديد.
2- الزمنى: جمع زمين - والزمانة العاهة.
3- القانع: السائل - المعتر: المتعرض لاخذ العطاء دون - سؤال وطلب.
4- الغلات: المحاصيل الزراعية.
5- الصوافي: الأرض المفتوحة عنوة (بالقوة)، فإنها ملك لجميع المسلمين، ويعود ريعها إلى بيت مال المسلمين.
6- الأقصى: الابعد في القرابة أو في المكان. والأدنى: الأقرب، أي انه لا فرق في لزوم الرعاية لهؤلاء بين القريب والبعيد.
7- وجبت عليك رعاية حقه .
8- البطر: الطغيان بالنعمة

المهم، فلا تشخص همك عنهم (1)، ولا تصعر (2) خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون (3) وتحتقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه (4)، فان هؤلاء من الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم.

وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه.

وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن (5) ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه.

وذلك على الولاة ثقيل [والحق كله ثقيل]، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العافية، فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم).

عهد الأشترة.

ص: 135


1- لا تشخص همك: لا تصرف عنايتك واهتمامك عن هؤلاء الفقراء
2- لا تتكبر عليهم.
3- تقتحمه العيون: تحتقره، فلا تنظر إليه .
4- ليكن عملك بالنسبة إلى هؤلاء الفقراء عذراً لك عند الله تعالى .
5- ذوي الرقة في السن: الذين بلغوا مرحلة الشيخوخة.

ونستطيع أن نتصور عظيم اهتمامه عليه السلام بهذه الطبقة حين نتأمل قوله (ثم الله الله ...) وقوله: (فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم) يأمر واليه بأن يتواضع لهم لئلا يشعروا بالذل من جهة، وليضرب لأغنياء رعيته مثلا من نفسه في معاملته لهذه الطبقة. وقوله: (فان هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم). وأما قوله: (فان في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً) وقوله: (وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم) وقوله: (وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه) فإنها تنطوي على مضمون عظيم القيمة، فهؤلاء الذين يمنعهم الحياء وشرف النفس من إظهار فقرهم ومن نصب أنفسهم للمسألة يموتون جوعاً إذا لم يبحث عنهم الحاكم ويرعى أمورهم، ولذلك أمر الامام واليه بأن يتفقد هؤلاء وأمثالهم، ويوكل بهم من يتفقدهم.

ولا أظن أن حكومة من الحكومات الحديثة بلغ فيها التشريع العمالي، والتأمين الاجتماعي من النضوج والوعي للمسؤولية الاجتماعية إلى حد أن تؤلف هيئة تبحث عن ذوي الحاجة والفاقة فترفع حاجتهم بأموال الدولة، كما نرى ذلك في عهد الامام.

ولا أظن أن قلوب المشرعين وعقولهم اجتمعت على أن تخرج للدنيا تشريعاً عمالياً فأفلحت في أن تخرجه أنبض من تشريع الامام بالشعور الانساني العميق.

راجع عهد الأشتر

ص: 136

المجْتَمَعُ القَبَليّ.

مَوْقِفُ الامَام مِنَ الرُّوحِ القَبَلِيَّة

11

كنا فيما نتحدث عن آراء الإمام في المجتمع باعتبار تركيبه الداخلي، أعني الطبقات الاجتماعية.

والآن نريد أن نتحدث عن رأي الامام في المجتمع كوحدة عامة، فلا ننظر إليه من داخل كما صنعنا في بحث الطبقات، وإنما ننظر إليه من خارج باعتباره وحدة إنسانية عامة لا نلحظ فيها الفروق.

وكنا نتحدث عن آراء الإمام في اصلاح المجتمع على هدي الإسلام عن طريق التأمين الاقتصادي واصلاح جهاز الحكم، ونتحدث الآن عن آراءه في إصلاح المجتمع عن طريق العوامل النفسية ذات الأثر في الجماعة الإنسانية.

للإجتماع الإنساني مظهران: مظهر حقيقي، ومظهر مزيف.

أما المظهر الحقيقي للإجتماع الإنساني فهو ذلك الذي يبدو

ص: 137

الناس فيه وقد شاعت بينهم الألفة، وجمعتهم المحبة، وقاربت ما بينهم وحدة الوسائل والغايات.

وهو ذلك الذي يعي فيه الافراد المسؤولية، ويشعرون ان القانون الذي يجب ان يسود هو قانون. حقي وواجبي.

وهو الذي يعي فيه الافراد أن الغاية من الإجتماع الانساني هي التعاون على إيجاد الفرص المناسبة التي تمكن كل فرد من إظهار قدرته، وتحقيق ذاته على نحو فعال مجد، وليس عملاً يراد منه إيجاد الفرص المناسبة لطائفة من الناس على حساب آخرين.

وأما المظهر المزيف للاجتماع الانساني فهو ذلك الذي يبدو فيه الافراد (مجتمعين) فحسب، فلا توحد بينهم الفة، ولا تلم شتاتهم محبة، ولا يلتقون على هدف صحيح.

وهو ذلك الذي يسعى فيه كل فرد أو كل جماعة إلى امتلاك كل ما يستطيع دون وعي لحاجات الآخرين ودون اهتمام لمصائرهم.

وهو ذلك الذي يسود فيه قانون الكلمة الواحدة، قانون: حقي، فقط. ان هذا الطراز من الإجتماع أحق بأن يسمى (تجمعاً) ذئبياً من أن يسمى اجتماعاً: إنسانياً.

هذان مظهران للاجتماعي الانساني ويحسن بنا أن نلتمس الأسباب التي تسوق إلى هذا وذاك.

* * *

ص: 138

روح العدوان غريزة أصيلة في نفس الانسان.

وإنما كانت أصيلة فيه لأنها ضرورية لحياته، فلولاها لما كان في الانسان ما يحفزه إلى حماية نفسه من كواسر السباع، وفواتك الهوام، ولما كانت له القدرة على الصيد، ولا على أي عمل يتطلب صراعاً مع كائن حي آخر في سبيل حفظ الحياة.

وأوقات الحاجة إلى هذه الغريزة هي حين تتعرض الحياة الانسانية لخطر فاتك سواء كان من الانسان أو الحيوان.

وليس في النفس الانسانية جهاز يولد هذه الغريزة في أوقات الخطر ويعدمها في أوقات الأمان. ولذا فان هذه الغريزة موجودة في جميع الأوقات.

وهي في أوقات الخطر تعمل عملها الذي يسرت له وأودعت في الإنسان لأجله. وأما في أوقات الأمان فان وجودها يصبح مشكلة خطيرة قد تمتد بآثارها إلى الآخرين من أفراد وجماعات.

ففي المجتمعات التي تدين بحضارة لا تجعل للانسان هدفاً سامياً في الحياة، ولا تعلمه إلا أن يبالغ في إرواء شهواته ونزعاته، تعبر هذه الغريزة عن نفسها في عدوان بعض الافراد على بعض أو عدوان بعض الجماعات على بعض، لأنها - كغريزة - لابد لها من التعبير عن نفسها، وحيث لا تقدم لها الحضارة موضوعاً للتعبير يصرفها ويحولها عن الافراد، لابد أن تعبر عن نفسها في هؤلاء الافراد، وحينئذ ينقلب المجتمع الإنساني إلى مجتمع ذئبي تناحري، ذي غرائز عدوانية

ص: 139

ضارية، تعبر عن نفسها باستمرار.

هذه هي الأسباب التي تذهب بروح الإجتماع الإنساني وتسبغ عليه مظهراً اجتماعياً مزيفاً.

وجاء الاسلام والمجتمع الإنساني كله في واقع تعس نشأ من أن الحضارات التي كان يدين بها كانت في الغالب حضارات لا تتجاوز بالإنسان مدى الحس.

وكان المجتمع العربي يعاني الأزمة في أحد مظاهرها، فقد كان يقوم إلى جانب ما يعانيه من جدب روحي على أساس قبلي. وكان هذان العاملان: الجدب الروحي والروح القبلية يثيران غريزة العدوان أعتى وأضرى ما تكون.

وقد عالج الاسلام هذه المشكلة.

أولاً، بأن حارب عناصر الفساد والانحلال في الإرث الثقافي المهلهل الذي دعت إليه تلك الحضارات، وجاء بثقافة جديدة حرية بأن تعيد تكوين الإنسان الروحي من جديد، وجعل للحياة الإنسانية هدفا أعلى من إرواء الحس باللذة، جعل لها الفضيلة هدفاً، وأمر الإنسان بالمسير إليه

وثانياً، بأن وجه غريزة المقاتلة إلى موضوعين: أحدهما أعداء الاسلام الذين يكيدون له، ويبغون عليه، ويريدون اطفاء نور الله فيه. والثاني هو الشيطان، هذا الكائن الذي هو أعدى أعداء الإنسان: يزين له الظلال، ويحبب إليه الإنحراف، ويدفعه عن طريق الإغواء والإغراء

ص: 140

إلى تشويه شخصية الإنسانية وتلويثها.

وقد أكد الإسلام عداوة الشيطان للانسان تأكيداً مطلقاً، وأكد وجوب الاحتراز منه، والحذر من مكائده، والتحصن من شباكه، تأكيداً مطلقاً وبذلك وجه غريزة القتال والعدوان إلى موضوع يستفيد منه المجتمع أعظم الفائدة، فالإنسان، منذ اليوم، يكافح الشيطان من أجل أن يسمو ... من أجل أن يحقق الإنسان.

وقد أحرز النبي صلى الله عليه وآله نصراً باهراً حين استطاع، عن طريق الإسلام، أن يجمع العرب على عقيدة توحد بينهم في الوسائل والغايات، وأن يكون من الشراذم العربية أمة عربية. ولكن الظرف الزماني لم يسعفه على استئصال الروح القبلية من نفس العربي، فما أن قبضه الله إليه حتى حدث ما بعث هذه الروح من جديد ... حتى ولي الخلافة عثمان فعبرت عن نفسها بسبب سياسات معينة تعبيرات شديدة، فلما ولي الامام الحكم جوبه بهذا الواقع، واقع المجتمع العربي المسلم الذي ساقته الروح القبلية إلى مصير وبيل. فنصب نفسه لمحاربة هذه الروح.

* * *

وقد كانت طريقته في العلاج فذة رائعة، سنقف في فصل آت على جانب منها يتناول التثقيف الفردي، وتعليم أصحابه روح الإسلام أما هنا فنتحدث عن كفاحه للروح القبلية باعتبارها نزعة هدامة.

ولابد انه عليه السلام تكلم كثيراً في هذا الموضوع، لان واقعه

ص: 141

كان يدعوه إلى ذلك، ولئن لم يصل إلينا كل ما قال أو أكثره فان ما في نهج البلاغة يغني في مقام التعرف على آراءه في هذه المسألة، وثمة خطبة من طوال خطبه خصصها لمحاربة هذه النزعة في مجتمعه، وقد ذكر الشريف مختاراً منها، ونحن ذاكرون طرفاً مما اختار نستشهد به على أن الامام كان يعي العمليات الإجتماعية، وكان يعي ما وراء هذه العمليات من دوافع نفسية تحمل عليها وتدفع إليها.

* * *

تكرر ذكر الشيطان في نهج البلاغة كثيراً:

1 - قصة آدم (ع) وإغراء الشيطان له.

2 - الشيطان أخطر عدو للانسان، يزين له المعصية، ويحمله على تسويف التوبة، ويدفعه إلى مقارفة الاثم، حتى إذا حق الحق تبرأ منه وتركه بين يدي عذاب غليظ.

3 - من جملة مهام الأنبياء الكبرى ان يحذروا الناس من إغواء الشيطان.

وقد كان الامام يهدف من كل ذلك إلى تأكيد عداوة الشيطان في النفوس لتنصرف إليه غريزة العدوان.

وأعظم خطبة تضمنت ذلك، وتجلى فيها غرض الامام الإجتماعي هي خطبته المسماه (القاصعة).

ففيها صرح الامام بأن الإجتماع الإنساني الحق لا يمكن أن يجتمع مع النزعة القبلية.

ص: 142

وفيها صرح الإمام بأن الإجتماع الإنساني الحق لا يمكن أن يجتمع مع النزعة القبلية .

وفيها يصرح بأن النزعة القبلية ان هي إلا ارث شيطاني يزينه الشيطان لأوليائه.

وفيها يبين أن الشيطان أحق بالمحاربة من هؤلاء الضعفاء الذين يقع عليهم الظلم ويلحقهم الحيف بسبب النزعة القبلية.

وفيها يضرب الأمثال التي تشهد لدعاواه والتي تدل على أن النزعة القبلية، بما لها من آثار سيئة، هي التي محقت المجتمعات القديمة.

قال عليه السلام:

(الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده.

(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه، وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب:

(إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ

ص: 143

الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿73﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ (1). اعترضته الحمية، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لاصله، فعدوُّ الله إمام المتعصبين. وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية ... ).

- الخطبة القاصعة - رقم النص: 190.

وبعد أن بين أن الله ابتلى خلقه بهذا لينفي عنهم التكبر والخيلاء، وبعد أن أمرهم أن يعتبروا بما صار إليه إبليس حين تكبر، قال:

(فاحذروا عباد الله أن يُعْدِيَكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله (2)، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد (3)، وأغرق لكم بالنزع الشديد (4)، ورماكم من مكان قريب، وقال: ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (5) قذفاً

9.

ص: 144


1- سورة ص، آية 71 - 74.
2- أجلب بخيله، يعني استعان بفرسانه. وأجلب برجله، يعني استعان بمشاته.
3- فوق السهم: أعده للرمي.
4- أغرق بالنزع: شد وتر قوسه إلى أقصاه ليصيب الهدف إصابة مهلكة.
5- سورة الحجر، آية 39.

بغيب بعيد، ورجماً بظن غير مصيب، صدّقه أبناء الحميَّة وإخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم (1)، واستحكمت الطماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السر الخفي إلى الأمر الجلي (2)، استفحل سلطانه عليكم، ودلَفَ (3) بجنوده نحوكم، فأقحموكم ولجأت الذلّ (4)، وأحلوُّكم ورطات القتل، وأوطؤوكم إثخان الجراحة (5) ... فأصبح أعظم في دينكم جرحاً، وأورى (6) في دنياكم قدحاً من الذين أصبحتم لهم مناصبين، وعليهم متألبين، فاجعلوا عليه حدَّكم وله ة.

ص: 145


1- الجامحة: من جمح الفرس، إذا فر وشرد، يريد الامام بذلك من عصاه من أصحابه الذين تأثروا بالروح القبلية.
2- نجم: ظهر، يريد أن العصبية القبلية كانت في أول الأمر مجرد فكرة، ولكنها بعد أن أثر الشيطان أثره، تحولت العصبية من مجرد فكرة خفية إلى حقيقية خارجية ظاهرة جلية.
3- دلف: تقدم.
4- ولجات: مفرده: ولجة، المأوى في الطريق، يلجأ إليه الناس.
5- أوطأ: أركب، (اثخان الجراحة) يقال: أثخن في العدو: أي أوقع فيه إصابات شديدة، فيكون معنى قوله (ع) (أوطؤكم اثخان الجراحة) انهم أشعلوا نار الفتنة بينكم، ففتك بعضكم بالبعض الآخر فتكا شديدا.
6- أورى النار: جعلها تشتعل بشدة وقوة.

جَدَّكم (1) ، فلعمر الله لقد فخَرَ على أصلكم ، ووقع في حَسَبكم ، ودفع في نسبكم ، وأجلب بخيله عليكم ... فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحميَّة تكون في المسلم من خَطَرات الشيطان ونخواته، ونزغاته (2) ونفثاته (3)، واعتمدوا وضع التذلُّل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلعَ التكبر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مَسْلَحَة (4) بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنوداً وأعواناً ورَجلاً وفرساناً، ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد).

- الخطبة القاصعة - رقم النص: 190 -

ر.

ص: 146


1- الحد: هنا الغضب. والجد هنا القطع. يريد: صُبُّوا عليه غضبكم، واقطعوا الصلة بينكم وبينه.
2- النزغ: الإفساد.
3- النفث: النفخ. كأن الشيطان ينفخ الشر والفساد في عقول الناس وقلوبهم.
4- المسلحة: مكان تجمع الجنود المسلمين على الحدود لدفع العدو. يريد: اجعلوا التواضع سلاحكم في حد إبليس الذي يدعوكم إلى التكبر.

ثم يضرب لهم الشواهد، ويبصِّرهم عِبَر التاريخ.

فهذا الواقع الإجتماعي المزري جرَّ أُمماً قبلهم إلى الانهيار، وجدير بهم أن يعتبروا بمن قبلهم ممن غفلوا عن عدوهم الكامن في أعماقهم، وصرفوا - بإغرائه وإيحائه - عدوانهم إلى إخوانهم في الدين والإنسانية:

(فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومُثلاته (1)، واتعضوا بمثاوي خدودهم (2) ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر (3)، كما تستعيذوه من طوارق الدهر (4).

واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المُثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.ه.

ص: 147


1- المثلات: العقوبات الشديدة.
2- المثوى: المنزل - مثاوي الخدود: موضع الخد على التراب بعد الموت. كناية عن أن المصير الأخير هو الموت، فلماذا الأحقاد والصراعات. وهذا المعنى هو المراد من الفقرة التاليه (ومصارع جنوبهم).
3- لواقح: من اللقاح، ومعناه معروف. أي أن الكبر يلقح النفس بالشر فاستعيذوا بالله من ذلك.
4- طوارق الدهر: مصائبه.

فإذا تفكَّرتم في تفاوت حاليْهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم، ومُدَّت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم: من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاض عليها والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فِقرتهم (1)، وأوهن مُنَّتهم (2): من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي).

- الخطبة القاصعة - رقم النص: 190 -

ثم يضرب لهم الأمثال بحال بني إسرائيل كيف جمعتهم الدعوة الواحدة، ولمَّ شعثهم الهوى الجميع، فعظم أمرهم، ثم اختلفوا فذهب ريحهم ووهنوا وذلوا.م.

ص: 148


1- كسر فقرتهم: كسر ظهورهم، لان الفقار في ظهر الإنسان يقوم عليها كيانه فإذا كسرت عجز عن الوقوف والعمل.
2- أوهن منتهم: أضعف قوتهم.

وضرب لهم الأمثال بحال العرب قبل الإسلام كيف كانوا، ثم كيف اتحدوا بالإسلام فأصبحوا يطاعون في بلاد كانوا فيها أذلَّة ضعفاء.

ثم ذكر أن أعظم ما أمتنَّ الله به عليهم هو أنه جمعهم، وألَّف بين قلوبهم، وجعلهم إخوانا، قال:

(فإن الله سبحانه قد أمتنَّ على جماعة هذه الأمة فيما عقَدَ بينهم من حَبْل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلِّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر).

- الخطبة القاصعة - رقم النص: 190 -

* * *

ورؤساء القبائل هم أصحاب المصلحة في استِشْراء العصبية القبلية والتفكك الإجتماعي، فلو وعى الناس الحياة الإجتماعية الصحيحة وراعوا المصلحة العامة وحدها، لما بقيت لهؤلاء الرؤساء قيمة، لان وجودهم منوط بهذه العصبية.

وقد عرف الإمام عليه السلام ذلك، فوجه إليهم صفعة مدوية حين صرخ بالناس:

ص: 149

(ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذي تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم وألقوا الهجينة (1) على ربهم، وجاحدوا الله على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه ومغالبة لآلائه (2)، فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية (3)، فاتقوا الله ... ولا تطيعوا الأدعياء (4) الذين شربتم بصفوكم كدَرهم وخلطُّتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق وأحلاسُ العقوق (5) اتخذهم إبليس مطاياً ظلال وجنداً بهم يصول على الناس، وتراجِمة ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم فجعلكم م.

ص: 150


1- الهجينة: الفعلة القبيحة.
2- آلاء الله: نعمة وإحسانه.
3- الاعتزاء: الانتساب، اعتزاء الجاهلية: العادات الجاهلية في المفاخرة بالسلالة والنسب.
4- الدعي هو الذي ينتسب إلى غير أصله. يريد هنا أن رؤساء القبائل أدعياء على أهل الخير وأهل الصلاح، وهم في الحقيقة أشرار.
5- الحلس كساء يكون على ظهر البعير ملازم له، واستعير للتعبير عن كل ملازم لشئ. فيقال لزمه: حلس بالمكان: لم يفارقه. ويريد الامام هنا أن هؤلاء الزعماء ملازمون للعقوق، عقوق الله وعقوق إمامهم.

مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده).

- الخطبة القاصعة - رقم النص: 190

وعلى هذا النسق العالي من البيان الشامخ يمضي الامام صلوات الله عليه في بيان أمراض المجتمع. ويكشف عن أسبابها النفسية، ويبرهن بذلك على وعي خارق للعمليات الإجتماعية وأسباب انحرافها، وطرق اصلاحها.

وننصح بالرجوع إلى الخطبة القاصعة وقراءتها بامعان، فقد لا يعطي ما قدمناه فكرة تامة عن جميع الأفكار التي تحتويها.

ص: 151

ص: 152

الحاكم

صفاته - حقوقه - واجباته - طبيعة الحكم

ص: 153

ص: 154

الحُكْمُ ضَرُورَة لِكُلِّ مُجتَمَع

(هل الإمامة أمر محتم، فلا يجوز أن يمضي على المسلمين وقت دون إمام يسير بهم على كتاب الله وسنة الرسول؟ أم أنها أمر جائز وليس فرضاً، فإذا شاء المسلمون أقاموا إماماً، وإذا لم يريدوا فليس في الشريعة ما يلزمهم بذلك، بل الامر في ذلك منوط بهم وموكل إليهم؟

(اختلفت الفرق الإسلامية بين هذين المبدأين، فذهبت الكثرة العظمى من المسلمين إلى أن الإمامة أمر محتم، فهو مذهب أهل السنة جميعاً، ومذهب الشيعة جميعاً، ومذهب الكثرة الغالبة من المعتزلة والكثرة الغالبة من الخوارج. أما الجواز فقد ذهب إليه (الهشامية) من المعتزلة أصحاب هشام بن عمرو الفوطي، فهم يقولون: (يجوز عقدها في أيام الاتفاق والسلامة أما في أيام الفتنة فلا) وهو كذلك مذهب (المحكمة الأولى من الخوارج) فإنهم أجازوا ألا يكون في العالم إمام أصلاً ...

ص: 155

وكذلك (النجدات) ... و (العجاردة) من الخوارج أيضاً) (1).

وإذن فالمسلمون جميعاً مجمعون على وجوب نصب الحاكم، ومن رأيت خلافه فهو شاذ لا يعتنى به، وتشهد للوجوب النصوص الكثيرة الصريحة فيه.

وبعد، فلو لم تكن ثمة نصوص تقضي بوجوبه لكفى العقل في الالزام به، فالحكم من ضرورات الإجتماع، لان النشاط الإنساني - وقد تشابك بفعل الحياة الإجتماعية - لابد له من هيئة تشرف عليه وتنظمه، وتشق له القنوات، وتوجهه الوجهة الصحيحة المستقيمة، وبدون هذه الهيئة يتسيب هذا النشاط فيطغى لون منه على لون، ويتجه اتجاهات غير محمودة تؤول به في النهاية إلى الضمور، ومن ثم تنتهي بالمجتمع إلى الانحلال.

والحكومة في الأصل مؤسسة اجتماعية، لان طبيعة الإجتماع تقتضيها كما رأينا، ولكنها في الإسلام، تتخذ بالإضافة إلى صفتها الإجتماعية، طابعاً دينياً أيضا وذلك لان المجتمع الإسلامي مجتمع ديني في الدرجة الأولى، أي أن الذي يُستلهم في التنظيم: الاقتصادي والسياسي والعسكري هو الدين وحده.

وها هو الإمام عليه السلام يقرر هذه الحقيقة، راداً على الخوارج يوم نادوا (لا حكم إلا الله) قائلاً:

(كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا 1.

ص: 156


1- راجع كتابنا: نظام الحكم والإدارة في الإسلام ص 70 - 71.

حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير برِّ أو فاجر، يعمل في امرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويُبلِّغُ الله فيها الاجل ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بَرّ ويستراح من فاجر) (1).

فقوله (انه لابد للناس من إمام ...) تقرير لهذه الضرورة، التي يفرضها واقع الإجتماع الإنساني، ولا معدى عنها بحال من الأحوال، ولئن كانت إمرة الامام الفاجر - حين لا يوجد العادل - شراً - ، فهي على ما فيها من شر خير من الفوضى التي تمزق أواصر الإجتماع.

وغير خفي ان الامام لم يقصد في كلمته الآنفة إلى بيان طبيعة الحكم الإسلامي، وإنما قصد فيها إلى بيان ضرورة الحكم في قِبَال دعوى الخوارج الفوضويين.0.

ص: 157


1- نهج البلاغة، رقم النص: 40.

ص: 158

مِن شُروط الحاكِم

1

وإذا كانت الإمامة أمراً لازماً فهل يصح أن يتولاها كل من قدر على بلوغها دون نظر إلى صفاته الشخصية وكفاءاته أم أن من يصح له أن يلي منصب الإمامة يجب أن تتوفر فيه شروط خاصة يمتاز بها عن غيره من الناس؟

المسلمون على اتفاق فيما بينهم على أن منصب الإمامة لا يليه إلا من توفرت فيه شروط مميزة، واختلفوا في أمور أخرى فذهب بعض إلى اشتراطها وذهب آخرون إلى عدمه.

ولسنا هنا في مقام استعراض شروط الامام الحاكم عند مختلف الفرق الإسلامية. وقد عالجنا هذا الموضوع علاجاً وافياً في كتابنا (نظام الحكم والإدارة في الإسلام).

فإذا رجعنا إلى نهج البلاغة لم نجد فيه تفصيلاً دقيقاً لهذه

ص: 159

الشروط، فليس فيما بين أيدينا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام قسم مستقل تعرض فيه لبيانها وإنما ذكر منها، في عرض كلامه، طائفة وأهمل طائفة.

فاشترط في الامام أن يكون كريم النفس لئلا تدفعه الطماعية وشدة الحرص إلى العدوان على أموال المسلمين.

واشترط فيه أن يكون عالماً لأنه قائد المسلمين الاعلى فيجب أن يهديهم ولو كان جاهلا لأضلَّهم.

واشترط فيه أن يكون لين العريكة، رحب الصدر.

واشترط فيه أن يكون عادلاً في إعطاء الأموال فيسوّي بين الناس في العطاء ولا يفضل قوماً على حساب آخرين استجابة لشهوات نفسه وميول قلبه.

واشترط فيه أن يكون نزيهاً في القضاء فلا يرتشي لان ذلك مؤذن بذهاب العدل في الاحكام.

واشترط فيه أن يكون عاملاً بالسنَّة فيجري الحدود ولو على أقرب الناس إليه، ويعطي الحق من نفسه كما يطلبه من غيره.

قال عليه السلام:

( ... وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج، والدماء، والمغانم، والاحكام وإمامة المسلمين

ص: 160

البخيل، فتكون في أموالهم نهمته (1)، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم (2)، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع (3)، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة) (4).

وقال عليه السلام:

(لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع (5) ولا يضارع (6) ولا يتبع المطامع) (7).

وقال متحدثاً عن الامام:

(من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم 0.

ص: 161


1- النهمة: الافراط في الشهوة.
2- الحائف للدول - الحائف: الظالم، والحيف: الظلم، والدول: المال لأنه يتداول أي ينتقل من يد إلى يد. مراده: الإنسان الظالم في تقسيم الأموال فيفضل قوماً على قوم بغير موجب للتفضيل.
3- المقاطع: حدود الله.
4- نهج البلاغة، رقم النص: 129.
5- يصانع: يداري، أي أن الذي يقيم أمر الله هو الذي لا يداري أحدا في إحقاق الحق.
6- يضارع: المضارعة المشابهة، أي لا يتشبه في عمله بالمبطلين.
7- نهج البلاغة، باب المختار من كلام أمير المؤمنين، رقم النص: 110.

نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) (1).

وهذه الكلمات تقوم على فلسفة للحكم عند الإمام عليه السلام تتلخص في أن الحكم، وهو ضرورة اجتماعية، أقيم لصالح المجتمع، ولا يمكن أن يعمل الحكم لصالح المجتمع إلا إذا كان على رأسه إنسان كامل الصفات، واع لمهمته، أما حين يكون الحاكم إنساناً غير واع للمسؤولية وغير عامل على إصلاح المجتمع ورفع شأنه، فإن الحكم ينقلب إلى وسيلة للظلم، وستتضح لنا الخطوط الكبرى لهذه الفلسفة فيما يأتي.3.

ص: 162


1- نهج البلاغة، نفس الباب، رقم النص: 73.

طبيعَة الحكم عِندَ الإِمَام ، وَعَلَاقَةُ الحاكِم بالشّعْب

2

حقوق الرعية على الحاكم تستمد معناها من طبيعة الحكم الذي يمارسه الحاكم.

فهناك حكم يقوم لأجل عائلة من العائلات الكبيرة وحينئذ يعمل الحاكم لأجل هذه العائلة، ويسخر جميع مرافق الدولة لها ولمن يقوم عليه سلطانها.

وهناك حكم يقوم لصالح طبقة من الطبقات وحينئذ يعمل الحاكم لأجل هذه الطبقة، ولا ينيل الرعية شيئاً إلا إذا كان فيه ما يعود بالخير على هاتيك الطبقة التي يقوم من أجلها الحكم.

ومرة يقوم الحكم من أجل الرعية وحدها، وحينئذ يعمل الحاكم للرعية وحدها.

وفي هذا اللون من الحكم توجد للرعية على الحاكم حقوق يصح أن نتحدث عنها.

ص: 163

فأي لون من ألوان الحكم بشر به نهج البلاغة، ووضع قواعده الامام؟

إذا رجعنا إلى نهج البلاغة وجدنا ان الحكم الذي كان يمارسه الإمام عليه السلام والذي كان يحمل عماله على أن يمارسوه هو هذا الحكم الذي يقوم من أجل الرعية وحدها.

وقد تقدم منا في حديثنا عن المجتمع والطبقات الإجتماعية في نهج البلاغة أن عرضنا إلى طرف من ذلك، فرأينا كيف أن الامام في عهده العظيم إلى مالك الأشتر قد وضع الأسس المتينة لانشاء جهاز حكم يعمل للشعب وللشعب فقط، غير ملقٍ بالاً إلى منافع طبقة خاصة تسعد على حساب الشعب وتنعم بجهوده.

وسنعرض في حديثنا هذا طرفاً من الشواهد التي تدل على أن الحكم الذي مارسه الإمام عليه السلام ودعا إلى ممارسته هو الحكم من أجل الشعب، وما تقدم في بحث الطبقات الإجتماعية، وما سيمر هنا يؤلف هيكلاً يكاد أن يكون كاملاً لفلسفة الحكم عند الإمام عليه السلام.

* * *

من ضرورات الحكم الصالح المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية، إذ بها يستطيع الحاكم أن يتعرف على آمال المحكومين وآلامهم ومطامحهم، وأن يعي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل لخيرهم ويضع كل شئ مما يصلحهم موضعه.

ويشعرهم ذلك برعايته لهم،

ص: 164

وحياطته لأمورهم، وعمله لصالحهم، فيدعمون حكمه بحبهم وإيثارهم له، ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء.

ولا يحصل شئ من هذا إذا ما أغلق الحاكم دونهم قلبه وأغمض عنهم عينه. إنه حينذاك لا يعرف شيئاً من أمورهم ليعمل على الاصلاح، وتكون عاقبة ذلك أن يفقد حبه في قلوبهم، ويشعرون بأنه شئ غريب عنهم مفروض عليهم، كالحشرة الطفيلية التي تعيش على دماء الحيوان الذي تلتصق به.

قال عليه السلام:

( ... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم. فإنهم صنفان: امّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل (1)، وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه).

عهد الأشتر

ولكي تحصل هذه المشاركة الوجدانية ولكي تؤتي أكلها يجب أ.

ص: 165


1- يفرط منهم الزلل: يفرط: يسبق، الزلل: الخطأ.

على الوالي أن يخالط الرعية، وأن يمكنهم من مخالطته ومطالعته بما يريدون، لان احتجابه عنهم سبب لجهله بأحوالهم، وسبب لانصراف قلوبهم عنه وتفاقم موجدتهم عليه.

قال عليه السلام:

( ... فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سِمَات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب) (1).

عهد الأشتر

ولكي يبقى ما بين الوالي ورعيته من وشائج الود، ويبقى ما للوالي في قلوب الرعية من جميل الأثر وحسن الظن، يجب عليه أن يبدّد من أذهانهم كل ما يتوهمون فيه الظلم والحيف، فَيُبَيِّن لهم خطته ة.

ص: 166


1- سمات: جمع سمة، وهي العلامة، أي ليس للحق علامات ظاهرة يتميز بها الصدق من الكذب، وإنما يعرف ذلك بالامتحان والتجربة.

ويشرح لهم نهجه ليؤيدوا سياسته عن قناعة بها وإيمان بصلاحها وجدواها.

ويجب عليه ألا يمنّ على رعيته بما يفعل، فإن منصبه يفرض عليه أن يخدمهم، ولو منَّ عليهم لذهب جميل أثره من قلوبهم. وعليه أن يتجنب الكذب فيما يعطي من عهد، والتزيد فيما يصف من عمل، فإن الكذب داعية المقت، والتزيد أخو الكذب.

قال عليه السلام:

(وإن ظنت الرعية بك حيفاً (1) فأصحر (2) لهم بعذرك، واعدل (3) عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة (4) منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، وإعذاراً (5) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق).

عهد الأشتر ة.

ص: 167


1- الحيف: الظلم.
2- أصحر: أظهر، والاصحار: الاظهار. يعني إذا ظنت الرعية أنك كنت ظالماً في تصرف من التصرفات فاكشف عذرك لهم، وبين الأسباب الموجبة التي دعتك إلى اتخاذ ذلك الاجراء.
3- اعدل، هنا، معناها: حول. أي ان إعلانك لتفسير موقفك يجعلهم يحولون ظنونهم واتهاماتهم لك بالظلم، عنك.
4- رياضة: تعويداً لنفسك على أن تكون عادلاً، وصريحاً.
5- الإعذار: هو إعلان العذر والحجة.

وقال عليه السلام:

(وإياك والمنّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيد (1) فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المنّ يبطل الإِحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت (2) عند الله والناس، قال الله تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (3)).

عهد الأشتر

والسبيل الأقوم الذي يؤدي إلى تأكيد حب الحكم في نفوس الرعية ويحملها على عضد والدفاع عنه هو ما أشار عليه السلام بقوله:

(واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عنهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قِبَلهم (4)، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن ويقطع م.

ص: 168


1- التزيد - كالتقيد - إظهار الزيادة في الأعمال، وإظهارها بأكبر من حقيقتها في الواقع، فيكون من المفاخرة بالباطل والكذب.
2- المقت: البغض.
3- سورة الصف، الآية: 3، وقبلها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون).
4- قبلهم: عندهم.

نصباً (1) طويلاً، وأن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك لمن ساء بلاؤك عنده) (2).

عهد الأشتر

ولمَ كل هذا؟

لان الحكم إنما أُقيم لصالح الشعب، ولذلك فيجب أن يرعى مصالح الشعب، ويجب أن يستلهم في أعماله حاجات هذا الشعب.

أما هذه الطبقة، طبقة الخاصة والنبلاء، التي تحسب أن كل شئ مسخر لها وما عليها إلا أن تدعو فتجاب وتأمر فتطاع، هذه الطبقة ليس لها في حكومة الامام امتيازات، فهي وسائر الناس سواء، وعلى الحاكم، حين تتعدى حدودها وتطلب ما ليس لها، أن يردها إلى قصد السبيل.

قال عليه السلام:

(أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك (3)، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن س.

ص: 169


1- النصب: التعب.
2- البلاء، هنا، الصنع مطلقاً، حسناً كان أو سيئاً. أي ان من صنعت معه صنيعاً حسناً يكون موضعاً لحسن ظنك به. ومن صنعت معه صنيعا سيئا يكون موضعا لسوء ظنك به.
3- من لك فيه هوى: تميل إليه أكثر من غيره من الناس.

ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته (1) وكان لله حربا حتى ينزع (2) أو يتوب، وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم (3) فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد).

(وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف (4) برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإِنصاف، وأسأل بالإِلحاف (5)، وأقل شكرا عند الإِعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً

ص: 170


1- أدحض حجته: أبطل حجته.
2- ينزع: يكف عن ظلمه.
3- الإقامة على الظلم: الاصرار عليه، وعدم الرجوع عنه.
4- يجحف: يذهب. أي أن سخط عامة الشعب لا ينفع معه رضا طبقة المترفين الاريستوقراطية. أما إذا رضيت عامة الشعب وسخط المترفون فلا يضر سخطهم مع رضى عامة الشعب.
5- الالحاف: الالحاح والشدة في السؤال.

عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع (1) المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك (2) لهم وميلك معهم).

عهد الأشتر

وهكذا حكم الإمام عليه السلام بأن الحكم إنما أُقيم من أجل الشعب فيجب أن يبقى خالصاً للشعب وللشعب وحده.

وإذا كان الحكم قد أقيم من أجل الشعب، فهذه الأموال التي تجبى منه لم تجب لتنفق على إرواء شهوات طائفة من الناس يومها دهرها، وبغيتها لذتها، وهي تتمتع بحياة فارغة لاهية، إنما جبي هذا المال من الشعب ليردّ عليه في صورة خدمات عامة، ومؤسسات عامة، هذا هو مصرف أموال الدولة.

وأمير المؤمنين عليه السلام صريح في هذا فقد تكرر منه أمره إلى عماله بصيانة مال الأمة، وصرفه في موارده وعدم التفريط به.

قال عليه السلام:

( ... فانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك (3) من ذوي ك.

ص: 171


1- أي جماعة الإسلام.
2- صغوك: ميلك، فليكن ميلك إلى عامة الشعب لا إلى الخاصة المترفين.
3- قبلك: عندك.

العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة (1) والخلات (2)، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا) (3).

* * *

راجع في باب الكتب: كتابه إلى أشعث بن قيس عامل أذربيجان / رقم النص 5 / وكتابه إلى زياد بن أبيه / رقم النص 20 /، ووصيته لمن كان يستعمله على الصدقات / رقم النص 25 / والنص رقم 26 / والنص رقم 41 /، وكتابه إلى مصقلة بن هبيرة / رقم النص 43 / وكتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة / رقم النص 45 / وكتابه إلى عماله على الخراج / رقم النص 51 / وعهد الأشتر / رقم النص 53 / وكتابه إلى قثم بن العباس عامله على مكة / رقم النص 67 /.7.

ص: 172


1- الفاقة: الفقر.
2- الخلات: الحاجات.
3- نهج البلاغة، باب الكتب، رقم النص 67.

حُقوقُ الرّعِيَّةِ عَلى الحاكِم

3

وإذا كان الإمام عليه السلام قد وضع أسس هذا اللون من الحكم ومارسه، ودعا إلى ممارسته، فللحديث عن حقوق الرعية محل في هذا البحث كما أسلفنا.

ولم يغفل الامام الحديث عن هذه الحقوق بل عرض لها بالذكر في مواطن كثيرة فما هي حقوق الرعية على الوالي؟

لقد تحدث مرة عن هذه الحقوق فقال:

(ويجمع به الفئ (1)، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر) (2).0

ص: 173


1- الفئ: الخراج وما يحويه بيت المال.
2- نهج البلاغة: رقم النص: 40

وقال:

( ... فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا) (1).

وقال:

( ... انه ليس على الامام إلا ما حمل من أمر ربه الا بلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار السُّهمان (2) على أهلها) (3).

وفي هذه النصوص أجمل الامام حقوق الرعية على الراعي في توفير الأمن في الداخل والخارج، وتأمين الحياة الاقتصادية، والتعليم والتوجيه الإجتماعي، وإقامة العدل.

ولا يضرنا اجمال هذه النصوص بعد أن عرفنا أن أطول وثيقة كتبها عليه السلام وأجمعها لحقوق الرعية هي عهده إلى الأشتر، ففي صدر هذا العهد أجمل هذه الحقوق إجمالاً ثم فصلها بعد ذلك تفصيلاً. أجملها فقال:3.

ص: 174


1- نهج البلاغة: رقم النص: 34
2- إصدار السهمان: السهمان - بالضم - جمع سهم، بمعنى الحظ والنصيب. وإصدار السهمان: إعادتها إلى أهلها المستحقين لها بدون انقاص شئ منها.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 103.

(هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر:جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها).

عهد الأشتر

ثم فصلها بعد ذلك.

فأفاض أولاً في بيان وظيفة العسكريين وواجباتهم والسبيل الذي يحسن بالحاكم أن يتبعه للاستفادة منهم.

ثم فصل الكلام في جهاز الحكم: الولاة والوزراء والقضاة، فوضع أسس الحكم العادل التقدمي الواعي.

وتكلم بعد ذلك على الزراع والتجار والصناع والفقراء، فبيَّن حقوقهم على الحاكم من توفير المجالات لهم، وإعداد أحسن الفرص لنجاحهم في أعمالهم.

ثم تحدث عن حالة البلاد العمرانية فأفاض في الحديث وبيّن خطورة هذه الناحية في أمن الرعية ورفاهها واطراد تقدمها.

في هذا العهد نظر الإمام عليه السلام إلى المجتمع كله بما فيه من طوائف وطبقات، وبيّن فيه حقوق هذا المجتمع كلها، ولا نرى ما يدعونا إلى تفصيل الكلام في ذلك هنا بعد أن تبين من خلال حديثنا عن الطبقات الإجتماعية، لأنه حينما تحدث عن الطبقات لم يتناولها على

ص: 175

نحو تجريدي، وإنما تناولها بالحديث باعتبار ما لها من حقوق، وقد قدمنا ملاحظة بين يدي ذلك الحديث قلنا فيها:

( ... لم يفرغ آراءه الإجتماعية كلها في قالب علمي مجرد، وإنما قدم بعضها مفرغاً في التجربة العملية التي قام بها، ولا يسلبها قيمتها، كحقيقة موضوعية، أنها مفرغة في قالب تجريبي اجتماعي يسبغ عليها بدل جمود الحقيقة العلمية المجردة، حيويةً وحركيةً تنشأن من حيوية الجماعات وحركتيها).

ص: 176

طبيعَة الحَقّ ، وَحُقوقُ الحَاكِم عَلى الرّعيَّة

4

تحدث الإمام عليه السلام عن طبيعة الحق فلاحظ أنه لا يمكن أن يكون لاحد حق على غيره إلا ويكون عليه لغيره واجب، وهناك تقابل دائم بين الحق والواجب فحيثما يكون الحق يتبعه الواجب.

ولكن الناس - غالباً - يريدون استيفاء حقوقهم دون أن يؤدوا ما عليهم من واجبات غير عالمين انه حينما يتمرد الإنسان على واجبه فلا يأتي به يسقط حقه الذي يدعيه.

قال عليه السلام:

( ... فالحق أوسع الأشياء في التواصف (1)، وأضيقها في التناصف، لا ف.

ص: 177


1- يتسع القول في وصف الحق، حتى إذا حان وقت العمل والتنفيذ على الإنسان الذي يصف الحق يفر من أداء الحق ولم ينصف.

يجري لاحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لاحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله) (1).

وقال عليه السلام:

( ... ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ (2) في وجوهها ويوجب افتراضها بعضها بعضاً، ولا يُستوجب بعضها إلا ببعض) (3).

وننبه هنا إلى أن هذه الحقوق، حقوق الامام، ليست امتيازات على سائر الناس يحصل عليها الامام بسبب الحكم، وذلك لان الحكم، عند الامام، لا يسبب للحاكم أي امتياز شخصي أبداً.ق.

ص: 178


1- نهج البلاغة، رقم النص: 214.
2- تتكافأ: تتساوى.
3- نهج البلاغة، نفس النص السابق.

وها هو يخاطب الأشتر، عامله على مصر، بقوله:

(إياك والاستئثار (1) بما الناس فيه أسوة (2)، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم).

عهد الأشتر

وقال عليه السلام مخاطباً أصحابه في صفين (3):

(. وإن من أسخف (4) حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم اني أحب الاطراء واستماع الثناء، ولست - بحمد الله - كذلك ولو كنت أحب أن يقال ذلك، لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء وربما ر.

ص: 179


1- الاستئثار: تخصيص النفس بزيادة في الحصة عن الآخرين.
2- أسوة: متساوون. والتغابي: التغافل.
3- صفين كسجين - موقع عده الجغرافيون من بلاد الجزيرة (ما بين الفرات ودجلة) والمؤرخون العرب عدوه من أرض سوريا. وهو اليوم في محافظة حلب.
4- وان من أسخف ... أصل السخف رقة العقل وغيره، والمراد: ان أدنى حالات الولاة أن يظن بهم الصالحون أنهم يحبون الفخر، ويبنون أمورهم على أساس الكبر.

استحلى الناس الثناء بعد البلاء (1) فلا تثنوا علي بجميل بلاء لاخراجي نفسي إلى الله واليكم من التقية (2) في حقوق لم أفرغ بعد من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا في بما يتحفظ به عند أهل البادرة (3)، ولا تخالطوني بالمصانعة) (4) - (5).

عهد الأشتر.

وإذا لم تكن حقوق الحاكم من هذا الباب فما هي طبيعتها إذن؟ حقوق الحاكم كما يجملها الامام فيَّ نهج البلاغة هي أمور يعطاها لأنها ضرورية لاستمرار الحكم وصلاحه فهذه الحقوق هي:

( ... وأما حقي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة4.

ص: 180


1- البلاء: إجهاد النفس في اتقان العمل واحسانه.
2- التقية: الخوف، والمراد هنا بها العقاب، ومعنى الجملة: أي لا أستحق الثناء لأني قمت بأداء حقوق واجبة علي خوفاً من عقاب الله إذا تركت أداءها.
3- أهل البادرة: سريعو الغضب. ينهاهم أن يكلموه بألقاب العظمة التي اعتاد الناس أن يخاطبوا بها الجبارين، وينهاهم عن أن يقابلوه بالتحفظ والرهبة خشية غضبه.
4- ولا تخالطوني بالمصانعة: يعني لا تصانعوني فتتظاهرون بطاعتي دون أن تكونوا راغبين في ذلك.
5- نهج البلاغة: رقم النص: 214.

حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم) (1).

وهي:

( ... ولي عليكم حق الطاعة وألا تنكصوا عن دعوة (2)، ولا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات (3) إلى الحق) (4).

وهي:

( ... فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل) (5).

وتكاد ترجع كل هذه الحقوق إلى الوفاء بالبيعة، فإن الامام يبايع على السمع والطاعة. وإذا لم يسمع المحكومون حين يدعوهم ولم يطيعوا حين يأمرهم، ولم ينصحوا له ولم يثبتوا على ولائه لم يستطع الامام أن يسير أداة الحكم على نحو صالح.4.

ص: 181


1- نهج البلاغة، رقم النص: 34.
2- نكص: تأخر ورجع: يعني لا تتأخروا عن إجابتي إذا دعوتكم.
3- الغمرات: الشدائد.
4- نهج البلاغة، باب الكتب، رقم النص: 50.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 214.

ص: 182

التعاوُن بَيْنَ الحكْم والشّعْب

5

ولا يمكن أن يصلح شئ من أمور الدولة إلا إذا وجد جو صالح للعمل، ويوجد هذا الجو بتحقق الرغبة المشتركة بين الحاكم والمحكومين في إصلاح ما يفتقر إلى الإصلاح وتقويم ما يحتاج إلى التقويم من شؤون الناس وشؤون البلاد. والذي يعبر عن هذه الرغبة المشتركة هو تعاون الوالي مع الرعية على القيام بذلك كله، ويتحقق التعاون بينهما بأن يقوم كل منهما بما عليه من واجبات بعد أن يتلقى كل منهما ما له من حقوق.

فعلى الرعية أن تعطي الوالي ما له عليها من حقوق، فتطيعه إذا أمر، وتجيبه إذا دعا، وتنصحه إذا كان في حاجة إلى ذلك.

وعلى الوالي إذا حصل على ذلك كله أن يستغله في إصلاح شؤون رعيته.

ص: 183

أما حين لا تبذل الرعية للوالي طاعتها ولا تمحضه نصيحتها، ولا تلبي دعوته إذا دعا، وأما حين تفعل ذلك كله ولكن الوالي يستغله في رعاية مصالح نفسه، ويهمل مصالح رعيته فإن ذلك مؤذن بشيوع الظلم، وسيطرة الظلمة، وفساد الدولة.

قال عليه السلام:

( ... وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍ على كلٍ، فجعلها نظاماً لإلفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالِها السنن (1)، فصلح - بذلك - الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته (2)، اختلفت ه.

ص: 184


1- ذل الطريق - بكسر الذال - وسطه. والسنن: جمع سنة، هي أوامر الله ونواهيه، وهي طريق المؤمن في حياته، معنى الجملة: إن أحكام الله حينئذٍ تطبق بدقة واحكام.
2- أجحف الوالي، الاجحاف: الظلم، يعني ظلم الوالي رعيته.

هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الأدغال في الدين (1) وتركت مَحاجُّ السنن (2)، فعُمِل بالهوى وعطلت الاحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل (3) ولعظيم باطل فعل، فهناك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه) (4).

وقال في التعاون بين الراعي والرعية:

(. ولكن من واجب حقوق الله على العباد: النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ - وان عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن 4.

ص: 185


1- الأدغال في الشئ: ادخال ما يفسده فيه، والادغال في الدين: إفساده.
2- محاج السنن: جمع محجة، وجمع سنة: تركت طرق الله وأحكامه الواضحة وانحرف الناس عنها.
3- لا يستوحش الناس ولا يستغربون من تعطيل الحق لتعودهم على تعطيل الحقوق وأفعال الباطل.
4- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 214.

يعان (1) على ما حمله الله من حقه. ولا امرؤ - وان صغرته النفوس واقتحمته العيون (2) - بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه) (3).4.

ص: 186


1- أي بأعلى من أن يحتاج إلى المساعدة والإعانة.
2- اقتحمته العيون: احتقرته (بدون أن يعين) أي بأعجز من أن يساعد غيره.
3- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 214.

المغيبات

ص: 187

ص: 188

مَوْقِفُ الرّفض لِلمغيبَات

في ناس هذا العصر من إذا وقعت أبصارهم على هذا العنوان طاف على ثغورهم شبح ابتسامة، ولاح في أعينهم بريق الهزء، واتسمت معالم وجوههم بامارات الاستنكار. ولِم كل هذا.؟ لأننا في هذا العصر الآلي لا نستطيع - إذا أردنا أن نحترم أنفسنا وعقولنا - أن نؤمن بوجود إنسان يعلم الغيب، إنسان تنقشع من أمام عينيه حجب القرون وتنطوي المسافات فيقرأ المستقبل البعيد أو الخاطر المحجوب كما يقرأ في كتاب مفتوح، ويعي حوادثه كأنها بنت الساعة التي هو فيها.

وكل إنسان يقول هذا فلابد أن يكون واحداً من اثنين: اما مجنوناً، وإما جاهلاً بما قدر للعقل الإنساني أن يعيه من نظام الكون ... وقد لا يقولون هذا بألسنتهم ولكنهم يقولونه بوجوههم وأيديهم.

ص: 189

ص: 190

فَلسَفَةُ مَوْقفِ الرّفض :

نَزْعَة التّجريْب : عَرضٌ وَمُنَاقَشَة

1

في ناس هذا العصر من يقول هذا.

وطبيعة الثقافة المنحرفة التي يُلقَاها إنسان هذا العصر في كل مكان هي التي تدفع بهؤلاء إلى أن يقفوا هذا الموقف ويتجهوا هذا المتّجه في إنكار كل دعوى تذهب إلى أن في الإنسان شيئا آخر وراء غدده وخلاياه.

الثقافة الحديثة هي التي تفرض على الإنسان مثل هذا الموقف فهذه الثقافة تعتبر الإنسان - آلة - آلة دقيقة الصنع فقط، وهي تخضع في عملياتها لقانون الآلة وحده، فلا شئ وراء الغدد والأعصاب يمكن أن يعتبر موجها للنشاط الإنساني وباعثاً له.

هذه النظرية، نظرية الإنسان الآلة، وجدت أول تعبير لها على لسان ديكارت في فلسفته حينما اعتبر الإنسان آلة، وأنشأ ثنائية النفس

ص: 191

والجسد، ثم وجدت تعبيراً أشد صراحة على لسان توماس هوبس في فلسفته الميكانيكية، والذي جرد الكائن الإنساني من كل قوة غير مدركة. وبينما كان ديكارت يعترف بنشاط داخلي سماه (الأفكار الباطنية) نرى هوبس قد تنكر لهذا وأرجع مضمون الفكرة إلى الخبرة الحسية وحدها.

وبين القرنين - الثامن عشر والتاسع عشر - ساهمت علوم أخرى غير الفلسفة في تأكيد هذه النظرية.

ومهما تكن حظوظ هذه العلوم من قوة التأثير وضعفها في صياغة هذه النظرية وإقرارها فلا مراء في أن علم النفس المعاصر من أعظم العلوم أثراً في تأكيدها.

فقد بدأ علم النفس عهده التجريبي في أواخر القرن التاسع عشر (1879) على يد فلهلهم فونت الذي أسس سيكولوجيا الاستبطان، والذي حاولت مدرسته إحلال كلمة (شعور) المرادفة للحس في العمليات النفسية محل كلمة (روح) التي هي إرث ديني وغير مدرَك.

وبعدها تتابعت المدارس النفسية: السلوكية، التحليل النفسي، علم النفس التحليلي، علم النفس الفردي، الجشطلت، القصد. وكلها تتنكر للروح، ولأي قوة غيبية أخرى، وترد السلوك الإنساني إلى إفرازات الغدد، وعمليات الجهازين الحشوي والعصبي، واللاوعي، والغرائز.

وقد بلغ التعصب لهذه العلوم ذروته في القرن التاسع عشر، ففيه

ص: 192

استحوذ الغرور على العلماء المحدثين، وظنوا أنهم قد تمكنوا من اكتشاف جميع القوانين الميكانيكية التي تسير الكون، وذهبوا إلى أن كل دعوى يراد منها اثبات أن ثمة قوى غير مدرَكة تهيمن علينا، وتتحكم فينا هي دعوى خرافة ذهب زمنها - خرافة صنعها الإنسان يوم كان أفق تفكيره غائماً وضبابياً إلى حد يثير الاشفاق.

ولعل من الخير لنا أن نتبين الأساس الذي يقوم عليه إنكار الروح في الثقافة الحديثة.

* * *

الميزة الكبرى للحضارة الحديثة التي هي معطىً للثقافة الحديثة أنها حضارة التجريب، فكل شئ يجب أن يخضع للتجربة المعملية ليصح أن يؤمَن به، فإذا لم يخضع للتجربة لم يصح أن يؤمن به كما لو خضع لها وكشفت زيفه.

وقد عاد هذا الاتجاه التجريبي على الحضارة بما لا يتصور مدى خصبه من النتائج، ولكن الخطأ وقع حين داخلت العلم العزة بنفسه فادّعى أن بوسعه أن يدخل الإنسان إلى المعمل ويجعله موضوعاً للتجريب. وليس الإنسان موضوع التجريب هنا هو هذه الكتلة من اللحم والعظم المشدودة إلى بعضها بجهاز من العصب، وإنما هو النفس الإنسانية. فقد ادّعى العلم الحديث أن بإمكانه أن يفحص صحة الدعوى الكبرى القائلة بوجود الروح والنفس ليثبت صحتها أو بطلانها عن طريق التجربة المعملية.

وقد اضطلع بهذه المهمة علمان تجريبيان، هما الفيزيولوجيا

ص: 193

والسيكولوجيا، هذان العلمان أدخلا الإنسان إلى المعمل ليريا أحق ما يقال من أن وراء هذه التشكيلة الدقيقة من الغدد والخلايا والأجهزة العصبية والحشوية شيئاً يسمى نفساً وروحاً، أو ان هذه خرافة من جملة الخرافات؟

ولقد كانت النتيجة بطبيعة الحال - وهذا شئ كان من الممكن أن نجزم به سلفاً - هي أن لا روح ولا نفس ولا شئ وراء جسم الإنسان.

وأُذيعت هذه النتائج على أنها (حقائق) أثبتها العلم التجريبي وآمن بها الناس، لان العلم التجريبي والتطبيقي، الذي أخضع الأمراض لسلطانه، وكشف عللها ووضع أدويتها، والذي لا يزال يفجؤنا كل يوم بجديد لا يمكن أن يستعصي عليه هذا الموضوع.

وعلى هذا النحو المسرحي حلّت المشكلة - أعقد وأعضل مشكلة واجهت العقل الإنساني منذ القدم - واعتبر أمر الروح الإنسانية قد انقضى.

وهنا نقول كلمتنا في المسألة.

نحن نؤمن بالعلم قوة في يد الإنسان وسبيلاً إلى إنماء الحياة الإنسانية وإغنائها.

ونحن نؤمن بالتجربة منهجاً للبحث أفضل من جميع المناهج الأخرى.

ولكننا نؤمن بالعلم إلى حد محدود، ونؤمن بالتجربة منهجاً للبحث فيما هو قابل للتجربة.

ص: 194

إن الميذان الأصيل للعلم التجريبي هو الموضوع القابل لأن يقع تحت أدوات التجريب: يد الإنسان وعينه وحاسة الشم فيه وموازين الحرارة والضغط والمشارط وأنابيب الاختبار وما إليها. فكل موضوع خارجي يصلح أن يقع تحت أداة التجريب يصلح أن يكون ميداناً للعلم الذي يستخدم هذه الأداة، ويمكن أن يتوصل فيه بواسطتها إلى نتائج معتمدة نسبياً.

ونتسأل:

هل الروح من هذا القبيل؟ وهل يمكن أن تقع موضوعاً صالحاً لأداة التجربة المعملية؟ اللهم لا. فالباحثون عنها لا يجرؤن على القول بأنها شئ ذو كيان يمكن أن يصل إليه الحس أو ما يصطنعه الإنسان من أدوات.

ونتسأل كرة أخرى:

إذا كانت الروح شيئاً لا يمكن أن يقع موضوعاً لأداة التجربة فكيف يصح أن تتخذ هذه الأداة سبيلاً إلى البت في أمرها؟

نعم، إن (أساطين) السيكولوجيا - وخاصة السلوكيون - والفيزيولوجيا يقولون لنا إن باستطاعتهم أن (يختبروا) وجود الروح عن طريق مراقبة الانفعالات التي تطرأ على مختلف أجهزة الإنسان بفعل السوائل الكيماوية المختلفة.

ونتسأل ثالثة:

هل عواطف الإنسان ومطامحه وأفكاره تتجمع كلها في بضعة من

ص: 195

عصب، تنفعل بالسوائل الكيمائية التي تراق عليها لنحكم بأن لا روح ولا شئ سوى هذه البضعة الخاضعة للفعل الكيماوي؟ وهل يمكن أن يعتمد على نتيجة هذه مقدماتها في تقرير موقفنا من الحياة والكون، وفي تحديد مصيرنا الذي نريد؟

إن العلم التجريبي نفسه يأبى علينا الاخذ بنتيجة هذه مقدماتها، فنتيجة كهذه لا يمكن أن تسمى نتيجة علمية بحال.

وإذن، فلا دليل يمكن أن ينهض على أن الروح الإنسانية لا واقع لها، وأكثر من دليل يدل على أن الروح الإنسانية، أعظم واقعية من بعض الأشياء التي نحسبها واقعية.

ما هو الواقعي؟

أهو الشئ الذي تدركه حواسنا؟ لا، لقد أصبح هذا التفسير الساذج (للواقعي) شيئاً بعيداً عن المفهوم العلمي الحديث، ولو شئنا أن نفسر الواقعي بهذا التفسير لوجب علينا أن نكفر بأشيع الحقائق في حياتنا الحاضرة وأعني بها الكهرباء. (فالكهرباء - كما يقول يعقوب فأم في البراجماتزم - لا صورة ذهنية لها عندنا ولا شكل نستطيع أن نراه بعين العقل أو نتخيله، ومع ذلك فمدلوله له وجود ذاتي مستقل في هذا النظام الموضوعي للكون. وبعبارة أخرى: الكهرباء موجود حقيقي وإن كان الذهن لا يستطيع أن يتخيلها لأننا نشاهد آثارها وعملها في الحياة اليومية).

واذن، فليس الواقع هو ما نحسه، وإنما الواقع هو ما يعمل على صياغة حياتنا بآثاره وإن لم يبلغ علمنا مدى كنهه. وإذا كان هذا هو

ص: 196

الواقع فما الذي يمنع أن تكون الروح حقيقة من الحقائق الجمة التي تصنع حياتنا بآثارها؟ إن جهلنا بحقيقتها لا يبرر نكران وجودها. وقد عرفت ان الذين ينكرونها يبنون نكراهم على ما لا يصلح أن يكون أساساً للموقف العقلي الذي التزموه تجاه الروح فالأداة التي اصطنعوها لمعرفة الروح قاصرة عن أن تنيلهم ما أرادوا.

لقد حدس القدماء فلم يهدهم حدسهم إلى شئ، ولقد جرب المحدثون فلم تهدهم تجربتهم إلى شئ، ويقف الإنسان مكتوف اليدين أمام غياهب الأسرار، ويردد حكم القرآن في اعتراف بالعجز: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (1).

ونخلص من هذا كله إلى القول بأن منكري (المغيبات) ليسوا سوى طائفة من الناس تنظر إلى الإنسان من أحد جوانبه وتبني أحكامها على ما ترى غير حاسبة أن ثمة غير هذا الجانب، وأن حكمها على الإنسان قبل الإحاطة به من أقطاره - في الحدود التي تبلغها المعرفة - ضرب من الخبط العشوائي الذي لا يليق بمن يدّعي العلم ويستهديه فيما يفعل أو يقول، وهؤلاء أشبه بمن يحكم بأن لون الهرم أحمر لمجرد أنه رأى ضلعاً واحداً من أضلاعه بهذا اللون قبل أن يرى بقية الأضلاع.

وحيث قد عرفنا أن في الإنسان قوى وراء جهازه العصبي 5.

ص: 197


1- سورة الإسراء: آية 85.

والحشوي ووراء غدده وخلاياه لا ندركها بما لدينا من وسائل المعرفة، فلا مبرر لانكار (إمكان) أن يكون لدى إنسان من الناس، بسبب ما يتمتع به من سمو روحي ونقاء داخلي - وهذه صفات قابلة للتفاوت - قدرة على معرفة ما يخبئه الغد وتضطم عليه أحشاء المستقبل.

وإذا كان (يمكن) أن يوجد إنسان كهذا فلنقم بنقلة تثبت أن إنساناً كهذا (موجود بالفعل).

ص: 198

اِهتَمامُ العِلْم الحديث بطاقاتِ الإنسان الخَفِيَّة

2

منذ القدم لاحظ الناس في بعض الافراد شيئاً خارقاً للعادة، وكان ذلك الشئ هو الاطلاع على حادث وقع في مكان يبعد عن مكان الرائي بمئات الأميال، أو قراءة أفكار الآخرين الخفيَّة، أو التنبؤ بما سيقع لبعض الناس في الغد القريب أو البعيد.

وقد اعتبر القدماء هذه الظواهر شيئاً صادقاً ولكن لا سبيل إلى تعليله، وانتهت المسألة عند هذا الحد.

وغبرت القرون والناس يؤمنون بهذا حتى نجمت طلائع الثقافة الحديثة، فجرفت فيما جرفته من مخلفات القرون هذه الفكرة، استناداً إلى أن الروح لا واقع لها، فلا شئ من هذا يمكن أن يكون موضع إيمان وإذعان.

ولكن ظاهرة كهذه لا يمكن أن تذهب وتنسى بمثل هذه السهولة،

ص: 199

فليس أمراً عادياً أن يتمتع إنسان من الناس بقوى خارقة تتجاوز كل قانون علمي معروف.

وهكذا عادت هذه الظاهرة ففرضت نفسها على العلماء من جديد، وغدَتْ موضوعاً للبحث العلمي عند علماء مشهورين مشهود لهم بدقة النظر، أمثال: سير اوليفر لودج، ووليم كروكس، وألفرد رسل ولاس، وهؤلاء الثلاثة من أعضاء الجمعية العلمية الملكية. ووليم جيمس، وشارل ريشيه، وهنري سدجوك، وهانز دريش، وهنري برجسون، والدكتور ميرس، ورتشارد هودسون، وتشارلس اليوث نورثون أستاذ بجامعة هارفارد، ووليم ر. ليوبولد أستاذ علم النفس والفلسفة في جامعة بنسلفانيا، والفلكي الفرنسي المشهور كاميل فلامريون، وتوماس هكسلي ... وغيرهم، وهذا العدد في تعاظم يوماً بعد يوم.

وكانت أول خطوة جدية في سبيل التثبت من صدق هذه الظاهرة هي تأليف جمعية المباحث النفسية في بريطانيا سنة 1882، وقد اشترك فيها عدد جم من العلماء والفلاسفة، فأصدرت مجلة تنطق بلسانها. وكان أول رئيس انتخب لها هو البروفيسور هنري سدجوك.

وقد انتهجت هذه الجمعية في بحثها طريقة جمع الوثائق وفحصها، فإذا سمع الباحثون بشخص ما يمتلك موهبة خارقة أرسلوا إليه ملاحظين معتمدين يقومون بدراسة ما يقوم به ذلك الشخص ويضعونه تحت المراقبة الدقيقة، ثم يقدمون عنه تقريرا بما شاهدوه.

وقد كان لنجاح هذه الجمعية صداه في أنحاء العالم، فأسست

ص: 200

لها فروع في أقطار أخرى كفرنسا وأمريكا وهولندا والدانمارك والنرويج وغيرها.

وقد اكتشف الباحثون الذين اشتملت عليهم هذه الجمعيات وغيرهم أن في الإنسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثلاث: تناقل الأفكار، ورؤية الأشياء من وراء حاجز أو عن بُعد، والتنبؤ.

وقد تعزى إصابة الإنسان في التنبؤ إلى الصدفة، ولكِن جمعيات المباحث النفسية أثبتت كذب هذه الدعوى بصورة قاطعة، فقد أثبت السير أو ليفر لودج عضو جمعية المباحث النفسية البريطانية والعالِم الطبيعي المشهور، أن قدرة الإنسان على التنبؤ أعلى جداً من مستوى الصدفة حسب قانون الاحتمالات.

وعلى أثر اطلاع البروفيسور راين على حلم عجيب ذي تفاصيل عجيبة دقيقة تحقق في الخارج بحذافيره، أسس في سنة 1930 فرعاً في جامعة ديوك في ولاية كارولينا الشمالية في أمريكا لدراسة القوى النفسية دراسة مختبرية.

وقد أيّده وساعده في عمله وليم مكدوجل الباحث النفساني المشهور.

وقد اتخذ راين في بحثه طريقاً غير طريق جمعيات المباحث النفسية، فبينما كانت تلك الجمعيات تهتم بذوي المواهب الخارقة وحدهم اهتم هو بفحص الفرد العادي لمعرفة مقدار ما لديه من قوى خارقة. وقد أثبتت التجارب المتعددة التي أجراها راين وغيره، أن

ص: 201

الإنسان يملك في الغالب قدرة على الحدس بمعدل يفوق معدل الصدفة قليلاً أو كثيراً.

وذلك هو ما أثبته اختبار جامعة (كولورادو) الذي أُجري على ثلاثمئة شخص.

وقد أثارت تجارب راين ضجة كبرى في الأوساط العلمية، حتى لقد حاول بعض الباحثين أن يجري تجاربه سراً مخافة أن ينفضح أمره بين زملائه فيكون موضع السخرية منهم.

ويروي راين أن أحد الباحثين في أمريكا توصل في تجاربه إلى نتائج هامة، ولكنه امتنع عن نشرها وقال: إن عائلتي تريد طعاماً. أي أنه يخشى نشر أبحاثه فتعزله الجامعة التي يعمل فيها وتبقى عائلته بغير طعام.

وقد كان من آثار هذه الضجة أن اجتمع مؤتمر الاحصاء الرياضي في أمريكا وناقش الناحية الاحصائية من أبحاث راين، ثم أذاع البلاغ التالي:

(إن أبحاث راين لها ناحيتان: تجريبية وإحصائية. والرياضيون لا يستطيعون أن يقولوا شيئاً عن الجانب التجريبي منها. أما الناحية الاحصائية، فقد أظهرت الأبحاث الرياضية الحديثة أن التحليل الاحصائي فيها صحيح. وإذا كان من الممكن أن تهاجم أبحاث راين فإنها ينبغي أن تهاجم من ناحية أخرى غير الناحية الرياضية).

ويظهر أن الرأي العلمي أخذ يتجه حديثاً إلى الاعتراف بحقيقة

ص: 202

هذه القوى الخارقة، وقد أدلى البروفيسور ثولس أستاذ علم النفس بجامعة كمبردج ببيان في هذا الصدد قال فيه:

(إن هذه الظاهرة يجب أن تعتبر حقيقة ثابتة كأية حقيقة أخرى توصّل إليها البحث العلمي، فلنترك إذن أمر البرهنة على وجودها في سبيل إقناع المرتابين، ولنتوجه عوض ذلك نحو الاستمرار على دراستها بقدر الامكان، فإننا باطلاعنا على طبيعتها اطلاعاً أوفى نجد الصعوبات التي تكتنف التصديق بوجودها قد قلّت إلى حد بعيد) (1).ة.

ص: 203


1- هذا البحث مقتبس من الدكتور علي الوردي: خوارق اللاشعور، ص 165 - 176. ولأجل التوسع في الموضوع يحسن بالراغب مراجعة: على أطلال المذهب المادي بأجزائه الأربعة للباحث محمد فريد وجدي، فقد أفاض إفاضة طيبة في الناحية الوصفية للمسألة.

ص: 204

التَّعْلِيلُ العِلمِي لِظَاهَرَة المغيبات

وإذ قد اعتبرت هذه الظاهرة شيئاً واقعاً لا سبيل إلى نكرانه فقد اتجه العلماء إلى تبيُّن القانون العلمي الذي يمكن إدراجها فيه، وإلى معرفة ماهية هذه القوى ومصادرها في الإنسان.

وقد وضعت لأجل هذا فرضيات كثيرة تعتمد كل واحدة منها وجهة نظر معينة في المسائل الطبيعية، ولكن لفرضية سينل من بين هذه الفرضيات مؤيدين كثيرين، ويبدو أن عدداً كبيراً من العلماء الطبيعيين يميلون إليها، وذلك لما فيها من بساطة وملائمة للنظريات الفيزيائية الحديثة.

فالرأي السائد بين الفيزيائيين يتجه إلى اعتبار الكون كله مؤلفاً من أمواج كهربائية، وما المادة إلا أمواج كهربائية قد كورت في حيز ضيق.

وعلى هذا الأساس يبني سينل فرضيته، فهو يرى أن كل مادة في

ص: 205

الكون تبعث ذبذبات وأمواجاً أثيرية خاصة لا تدركها الحواس الخمس (وهذه حقيقة قررها البروفيسور دنكان أستاذ العلوم الطبيعية في جامعة نيويورك سابقاً).

ويؤيد فرضية سينل هذه أن الأبحاث الحديثة اكتشفت أنواعاً معينة من الأمواج الكهربائية تنطلق من دماغ كل إنسان. ويذهب الدكتور دايفس إلى القول بأن كل فرد يطلق من رأسه أمواجاً دماغية خاصة به دون غيره.

وإذن، فسبب هذا الاحساس الخارق هو أن منطقة معينة من جسم الإنسان تتلقى أمواجاً كهربائية يتأثر بها الإنسان من حيث لا يشعر.

وقد اعترض على هذا التفسير، أولا: بأن الأمواج الكهربائية تضعف ببعد المسافة، وقد اكتشف الباحثون أن الاحساس الخارق لا يتأثر بالمسافة. وثانياً: بأن التنبؤ يدخل في جملة الظواهر الخارقة عند الإنسان كما عرفت، وهذا ينافي فرضية الأمواج إذ لا يتصور صدور أمواج من شئ لم يوجد بعد.

وقد أجيب عن الاعتراض الأول بأن سرعة الأمواج الكهربائية تختلف باختلافها طولاً وقصراً، فالموجة القصيرة لا يؤثر عليها البعد والقرب، وقد تكون الأمواج التي يطلقها الدماغ ويتلقاها من أقصر الأمواج الكهربائية.

وأما التنبؤ فيمكن أن يبنى على نظرية البرت اينشتاين في الزمان.

ص: 206

يختلف تصورنا التقليدي للفضاء عن تصور اينشتاين له. فالفضاء - كما نتصوره - فراغ ذو ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع، بينما يذهب اينشتاين إلى إن للفضاء أربعة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع والزمان.

وإذن، فللزمان، في النظام الموضوعي للكون، كيان حقيقي وليس عبارة عن اختراع أقررناه لنقيس أعمالنا. وهو، لذلك، بُعد للفضاء لا يفترق عن الابعاد الثلاثة الأخرى، غير أننا لا نعيه لان أدوات الادراك عندنا قاصرة عن إدراكه.

ومعنى هذا أن التنبؤ عن حوادث المستقبل لا يختلف في جوهره عن الاحساس بأشياء موجودة في الوقت الحاضر، فالنفس البشرية التي تستطيع أن تخترق حاجز المسافة المكانية بما تملك من قوى خارقة تستطيع أيضاً أن تخترق حاجز المسافة الزمانية بهذه القوى. إنها قد تبصر بها شيئاً مغيباً عنها في ثنايا المستقبل، بنفس السهولة التي تبصر بها شيئاً مغيباً عنها في أحد الابعاد الثلاثة الأخرى من الفضاء.

والأمواج الكهربائية على مختلف أنواعها تتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد، أي الابعاد الثلاثة مضافا إليها بعد الزمان، والقرائن التي تدل على هذا هي:

أولا: كشفت الأبحاث الفيزيائية الحديثة ان شعاع الضوء يظهر على شكل موجات تارة وعلى شكل دفقات متتالية تارة أخرى. وقد حار العلماء في تفسير هذا الازدواج العجيب في شخصية الشعاع الضوئي. ومن المحتمل أننا حين نرى الضوء على شكل دفقات متتالية، إنما

ص: 207

نستبين منه قمم الموجات فقط أما البقية المختفية من الموجات فتذهب في الزمان أي في البعد الرابع، لان أمواج الضوء تتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد.

ثانيا: كشفت الأبحاث الذرية عن أن الالكترون يقفز داخل الذرة من مدار إلى آخر ولا يلتزم مداراً ثانیاً. وهو حين يقفز من مدار إلى آخر لا يمر بالمسافة التي تفصل بين المدارين، إنه يختفي من مدار ليظهر في المدار الآخر، فأين يذهب أثناء القفز؟ إنه في الظاهر يذهب في الزمان الذي هو بعد رابع، لأنه يسبح في فضاء ذي أربعة أبعاد.

ثالثاً: لا يخضع الالكترون في سيره لقانون، وإنما هو يسير سيراً عشوائياً في الظاهر. وهناك طائفة كبيرة من العلماء يفسرون هذه الحركة العشوائية في سير الالكترون بأنها ناتجة عن قصورنا عن مراقبة حركته على نحو صحيح، وذلك أننا، في نظر هؤلاء العلماء، نراقب ظل الالكترون فقط ولا نستطيع أن نراقبه نفسه لأنه يتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد، ونحن نراقبه من خلال أبعادنا الثلاثة، فهذه الفوضى التي نراها في سير الالكترون إنما ترجع إلى أننا لا نراه نفسه وإنما نرى ظله، لان ما يتحكم في سيره كامن في الزمان الذي هو بعد يخضع له الالكترون في سيره.

فهذه الفرضية، فرضية سير الأمواج الكهربائية في فضاء ذي أربعة أبعاد، لا نجد صعوبة في قبولها بناء على ما جاء به اينشتاين من مفهوم جديد للزمان والمكان. وعلى هذا، فالتنبؤ بحوادث المستقبل ليس مستحيلاً، لان الأمواج الخفية التي تساعدنا على الاحساس

ص: 208

الخارق لا يصعب عليها أن تتصل بالمستقبل وتكشف ما يحدث فيه، فهي تتحرك في كون ليس فيه مستقبل ولا ماض (1).

* * *

وإذن فهذه الظاهرة التي تشمل الرؤية عن بعد، وانتفال الأفكار، والتنبؤ، أمر واقع لا سبيل إلى نكرانه، كما اعترف بذلك جمهرة من العلماء الاثبات مرّت عليك أسماء بعضهم.

وقد عرفت أيضاً أن العلم الحديث يتجه إلى البحث عن ماهية هذه الظاهرة وحقيقتها.

وقد رأيت الفرضية التي يفسرون بها هذه الظاهرة، وهي، إذا صحّت، لا تبين لنا حقيقتها وماهيتها، فالعلم لا يعرف عن ماهية هذه الأمواج النفسية شيئاً وإنما توضح آليات عملها ومجالاته.

وإذا كان العلم الحديث يقبلها كحقيقة موضوعية لا مراء فيها.

وإذا كان العلماء المحدثون يسعون إلى الكشف عن حقيقتها والتعرف على آلياتها فهل يبقى بعد ذلك مجال لنكرانها لأننا لا نعرف ماهيتها؟ اللهم لا، لأننا سنكون حينئذ كذلك الأعمى الذي ينكر وجود النور لأنه لا يراه.

وإذ كانت هذه الظاهرة حقيقة واقعة، وإذ كانت القوانين العلمية الحديثة لا تأباها، فلا حرج علينا إذن في أن ندرسها عند أمير المؤمنين عليه السلام، كما تبدو لنا في نهج البلاغة وغيره.6.

ص: 209


1- هذا البحث مقتبس من الدكتور علي الوردي: خوارق اللاشعور، ص: 179 - 196.

ص: 210

المغيبات في نَهْج البَلاغَة

4

قد دلّت الأبحاث الحديثة كما عرفت على أن كل إنسان يملك مقداراً من هذه القوة الخارقة التي تكشف له عما اضطمت عليه أحشاء المستقبل، ولكن الناس إذا تساووا في نوع هذه القوة فإنهم يختلفون في مقدارها.

فقد ثبت أن هذه الحاسة توجد عند بعض الناس بقوة تثير الدهشة، بينما توجد في بعض آخر على حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه، فما السبب في هذا التفاوت؟

لقد تبين للباحثين أن قوة هذه الحاسة تتناسب تناسباً طردياً مع درجة الصفاء الروحي والنقاء الداخلي التي يتمتع بها الشخص، فكلما كان الإنسان صافي النفس، نقي الضمير، منعتقاً من أسر التقاليد الإجتماعية الضارة، متفلتاً من قيد الضرورة وما إليها، خالي النفس من

ص: 211

العقد والاحقاد والمطامع، كانت هذه الحاسة فية قوية بالغة القوة، وكلما كان الإنسان مشوش النفس موزع الضمير مستغرقاً في حواسه، أسيراً لضرورات جسده وشهواته، غارقاً في مجتمعه، كانت هذه الحاسة فيه ضامرة لا تكاد تبين (1).

فهذه الحاسة لا تنشط إلا في ساعات الصفاء العقلي والروحي والوجداني، فعند ذلك تبلغ أقصى قوتها.

فإذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة في حياة الإمام عليه السلام طالعتنا فيه على أتم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحي حداً لم يدانِه فيه إنسان على الاطلاق ولم يَزِدْ عليه فيه إلا النبي صلى الله عليه وآله.

وتاريخ حياته عليه السلام سلسلة ذهبية من هذه الظواهر الرائعة الفاتنة.

وإذا صحّ أن تجرداً وصفاءً وقتيين يقوم بهما إنسان عادي يتيحان له إطلاق قواه الخارقة، فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرداً روحياً وصفاء لا يعدله في بني الإنسان صفاء؟

إن هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخ حياته لتدلّ على أنه كان يدخل في وسعه أن يطلق قواه الخارقة متى أراد، وأن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متى شاء.ر.

ص: 212


1- الدكتور علي الوردي: خوارق اللاشعور.

ويصدق قولنا هذا ما أثبته المؤرخون وتسالموا عليه من إخباراته بالمغيبات وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بأزمان.

* * *

لم يعن الشريف رحمه الله، حين آلى على نفسه أن يجمع كلامه عليه السلام، بهذه الناحية عناية تستحق الذكر، فما في نهج البلاغة من اخباراته بالمغيبات لا يبلغ عشر ما نسب إليه وصح عنه.

وهذه الطائفة التي ذكرها الشريف من إخباراته تجئ على أقسام:

1 - غرق البصرة.

2 - تسلط الظالمين على الكوفة.

3 - تغلب معاوية على الخلافة.

4 - مصير الخوارج ونهاية أمرهم.

5 - مروان وخلافته.

6 - حرب الزنج.

7 - ولاية الحجاج.

8 - الأتراك.

9 - بنو أمية: ظلمهم ونهايتهم.

10 - خروج المهدي عجل الله فرجه.

11 - فتن تشمل الدنيا وتهلك الحرث والنسل.

في هذه العناوين ينحصر ما ذكره الشريف في نهج البلاغة من

ص: 213

الاخبار بالمغيبات، وسنتكلم في كل واحد من أولئك على حدة. ذاكرين بعد ذلك ما أهمله الشريف ولم يعن به.

* * *

لقد تحدث الإمام عليه السلام عن علمه بالمغيبات في مناسبات كثيرة منها قوله:

( ... فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (1)، وقائدها، وسائقها، ومُنَاخ (2) ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني، ونزلت بكم كرائه الأمور (3) وحوازب الخطوب (4)، لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين) (5).1.

ص: 214


1- ناعقها: الداعي إليها مأخوذ من (نعق بغنمه) إذا صاح بها لتجتمع.
2- مناخ ... في الأصل: محل بروك الإبل، استعمل هنا للتعبير عن مصير الفئة الضالة أو الهادية ونهايتها.
3- كرائه الأمور: جمع كريهة، المصائب الكبرى.
4- الحازب: الخطب الشديد، يقال (حزبه الامر) إذا اشتد عليه.
5- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 91.

وقد ذكر عليه السلام أنه استقى علمه هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد أتى في كلام له بعد أن هزم أصحاب الجمل في البصرة، على ذكر بعض ما يلم بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك الامام وقال للرجل:

(ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدد الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) الآية ... فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله لنبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم (1) عليه جوانحي) (2).

وقال مخاطباً أصحابه في موقف آخر:

(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه (3) وجميع شأنه لفعلت،ل.

ص: 215


1- تضطم: افتعال، من الضم، أي وتنظم عليه جوانحي، والجوانح: الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر، وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها.
2- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 146.
3- المخرج: محل الخروج، والمولج: محل الولوج، الدخول، أي: أخبره من أين يخرج، وأين يدخل.

ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلى الله عليه وآله، ألا وإني مفضيه (1) إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك كله، وبمهلك من يُهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الامر، وما أبقى شيئاً يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (2).

وقال:

(أيها الناس لا يَجرِمنَّكم شِقاقي (3)، ولا يستهوينكم (4) عصياني، ولا تتراموا بالابصار (5) عندما تسمعونه مني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة (6)، إن الذي ح.

ص: 216


1- مفضيه: أصله من (أفضى إليه) إذا خلا به. والمراد أنه موصله إلى أهل اليقين ممن لا تخشى عليهم الفتنة.
2- نهج البلاغة: رقم الخطبة: 173.
3- لا يجرمنكم: لا يحملكم ويكسبنكم، (شقاقي) عصياني. أي لا يكسبنكم عصياني الخسران والضياع.
4- لا تقعوا في هوى العصيان.
5- تتراموا بالابصار ... ينظر بعضكم إلى بعض تعجباً واستنكاراً.
6- أنبت الحبة، وخلق الروح.

أنبأكم به عن النبي الأمي صلى الله عليه وآله، ما كذب المبلغ ولا جهل السامع) (1).

في هذه النصوص يصرح الإمام عليه السلام بأن علمه بالمغيبات جاءه عن طريق رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم.

والذي يستوقفنا في هذا هو أننا لا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الامام بكل حادثة من الحوادث المقبلة على نحو التفصيل، لان الظرف الزماني الذي جمع بين النبي والامام لا يسع شيئاً مثل هذا حتى لو فرضنا أن الامام قد اختص بأوقات فراغ النبي كلها، فهو عليه السلام يقول:

(فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها.) (2).

ويقول:

(سلوني قبل أن تفقدوني، فلانا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض.) (3).7.

ص: 217


1- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 99، ولاحظ في النص رقم: 16 قوله: (ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم).
2- نهج البلاغة، رقم النص: 91.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 187.

ويقول:

( ... والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ... وقد عهد إليّ بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا الامر، وما أبقى شيئا يمرّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ) (1).

فهذا علم واسع بالغ السعة متراحب الآفاق، ومهما يكن الظرف الزماني الذي قضاه الامام مع النبي طويلاً، ومهما تكن الأوقات الخاصة التي يفرغ فيها النبي للامام وحده طويلة وكثيرة، فإن ذلك كله لا يسع الافضاء ببعض هذا العلم إلى الامام على نحو التفصيل، بحيث يتناول التعليم الجزئيات الدقيقة، والتفصيلات الكثيرة، فضلاً عن أن يسع الافضاء إليه بكل هذا العلم على هذا النحو من الافضاء.

وإذ كانت الحال على هذا فلا نستطيع أن نتصور أن النبي قد أفضى إلى الامام بكل حادثة من الحوادث المقبلة إلى قيام الساعة على نحو التفصيل، ولكن الإمام عليه السلام يصرح بما لا يدع مجالا للشك بأنه قد استقى علمه هذا من النبي صلى الله عليه وآله، فكيف السبيل إلى ملاءمة هذا الذي يقوله الامام مع ما تبين لنا من عدم استيعاب الظرف الزماني للافضاء بكل هذه العلوم؟

الذي أراه هو أن النبي صلى الله عليه وآله لم يُفْضِ إلى 3.

ص: 218


1- نهج البلاغة، رقم النص: 173.

الامام بالمغيبات على نحو التفصيل الذي يلمّ بجميع الجزئيات، فقد رأينا أن العقل يحيل ذلك لان الزمان مهما يطلْ لا يتسع له. وإنما أفضى إليه بهذه المغيبات على نحو الاجمال لا التفصيل.

فقد رأينا ان نشاط هذه القوى الخفيّة المودعة في الإنسان والتي تَصِله بالمجهول المحجوب في أحشاء الزمان أو ثنايا المكان، يتوقف على الحالة العقلية والروحية والوجدانية التي يكون عليها الإنسان، فكلما كان الإنسان على حال رفيعة من الصفاء العقلي والطهارة الروحية والنقاء الوجداني كانت هذه القوى أنشط وأبلغ في النفوذ إلى المغيب المحجوب، والذي نراه بالنسبة إلى الإمام عليه السلام هو ان النبي قد أخبره بالمغيبات على نحو الاجمال ثم هداه إلى أقوم السبل التي تؤدي به إلى أرفع درجات هذه الحالة الروحية التي تتيح لقواه الخفية ان تعمل عملها الخارق فيعي بسببها تفصيل ما أجمله له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وبهذا التفسير وحده نستطيع ان نلائم بين علم الإمام الواسع بالمغيبات الذي يسنده إلى الرسول وبين الظرف الزماني الضيق نسبياً الذي جمع بينه وبين الرسول، وليس هذا التفسير اعتباطياً فلدينا عليه شاهد مقبول.

وهذا الشاهد الذي نعني هو ان النبي صلى الله عليه وآله خلى بالامام فأدخله في ثوبه وناجاه في اللحظات القليلة الأخيرة التي قبض بعدها، فلما فرغ من نجواه خرج الامام من عنده فسأله الناس عما أفضى به إليه فقال: (علمني ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب).

ص: 219

فمهما كانت اللحظات التي خلا بها النبي مع الامام كثيرة لا نستطيع أن نتصور كيف أفضى إليه فيها بألف باب من العلم على نحو التفصيل، لأنها مهما طال مداها لا تتسع للافضاء ببعض هذا العدد الكبير، فلابد من القول بأنه أفضى إليه بهذه الألف باب على نحو الاجمال وذلك بإعطاء الظوابط الكبرى التي تشمل كثيراً من الأبواب.

ولعل قوله: (ينفتح لي من كل باب ألف باب) أبلغ دلالة على ما نقول من أنه علمه على نحو الاجمال لاعلى نحو التفصيل، وأنه اتكل في معرفة الجزئيات والتفاصيل إلى ما يتمتع به الامام من مواهب تسعفه في معرفة ما غاب وتهديه إلى شريعة الصواب.

* * *

قلنا إن إخباراته التي ذكرها الشريف تجئ على أقسام، منها إخباره بما يلم بالبصرة من الخطوب.

فأخبر بعد فراغه من أصحاب الجمل، عن غرق البصرة كلها بقوله:

( ... وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة (1) أو نعامة جاثمة) (2) (3).3.

ص: 220


1- الجؤجؤ: الصدر. هنا: صدر السفينة.
2- جثم الطائر: تلبد بالأرض، وهيئة النعامة الجاثمة على الأرض كهيئة السفينة من مقدمها.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 13.

وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن البصرة غرقت مرتين: مرة في أيام القادر بالله (1)، ومرة في أيام القائم بأمر الله (2)، غرقت بأجمعها ولم يبقَ منها إلا مسجدها الجامع بارزا كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين. وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم) (3).

وأخبر عن هلاك البصرة بالزنج، فقال مخاطبا الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل:

(يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غُبار ولا لجَب (4) ولا قعقعة لجم (5) ولا حمْحَمة خيل (6)، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. ويلر.

ص: 221


1- القادر بالله، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر. بويع بالخلافة في يوم 12 رمضان سنة 381 ه. (3 أكتوبر (تشرين الأول) 991 م) واستمر خليفة إلى أن توفي في نهاية ذي الحجة سنة 422 ه (18 ديسمبر (كانون الأول) 1031 م).
2- القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر. بويع بالخلافة في ذي الحجة سنة 422 ه (1031 م) واستمر خليفة إلى 13 شعبان سنة 467 ه (3 ابريل (نيسان) سنة 1075 م).
3- ابن أبي الحديد، شرح النهج: 1 - 84.
4- اللجب: الصياح.
5- اللجم، جمع لجام. وقعقعة اللجم ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.
6- الحمحمة: صوت البرذون عند الشعير.

لسِككِكم العامرة (1) والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور (2) وخراطيم كخراطيم الفيلة (3)، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يفتقد غائبهم (4) أنا كأبّ الدنيا لوجهها، وقادرها بقدْرها، وناظرها بعينها) (5).

هذه النبوءة صدقتها الحوادث، ففي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر المدعو علياً بن محمد بن عبد الرحيم وجمع الزنوج وخرج بهم على المهتدي العباسي (6)، واستشرى أمره، وكاد يبيد البصرة ويفني أهلها، واستمرت الحرب بينه وبين السلطة المركزية خمسة عشر عاماً، فقد قتل في سنة سبعين ومائتين، وقد كتب ابن أبي الحديد فصلاً كبيراً عن هذه النبوءة (7).1.

ص: 222


1- السكك: جمع سكة، وهي الطريق المستوي الممهد. وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق وما حولها من المنازل من الخراب والتهديم.
2- أجنحة الدور: رواشنها (جمع روشن، بمعنى شرفة (برندة)) وذلك على التشبيه بأجنحة الطير.
3- خراطيم الدور: هي الميازيب تطلى بالقار.
4- أصحاب الزنجي، وإنما لا يندب قتيلهم، لان ليس لهم زوجات وأهل يبكون عليهم لأنهم كانوا عبيدا ليست لهم أسر.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 126.
6- المهتدي بالله، محمد بن هارون الواثق، ابن المعتصم بن الرشيد بويع له بالخلافة يوم 27 رجب سنة 255 ه (11 يوليو (تموز) 869 م)، وخلع في 14 رجب سنة 256 (17 يونيو سنة 870 م).
7- ابن أبي الحديد: شرح النهج 2 - 310 - 361.

ولا يفوتنا التنبيه على تنبوئه عليه السلام، في النص الآنف، بما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانية.

وأخبر عن هلاك البصرة بالتتر فقال:

( ... كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجَانُّ المطرقة (1)، يلبسون السَّرَقَ (2) والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق (3)، ويكون هناك استحرار (4) قتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور) (5).

هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم للممالك حتى وصلوا إلى العراق فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحلَّ بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الاحداث في زمن ابن أبي الحديد فكتب عنها فصلاً كبيراً (6).

* * * 1.

ص: 223


1- المجان، جمع مجن - بكسر الميم - وهو الترس، وسمي مجناً لأنه يستتر به عن العدو، والجنة - بالضم - السترة، والمطرقة، هي التي الزق بها الطراق - ككتاب - وهو جلد يفصل على مقدار الترس ثم يلزق به.
2- السرق: شقق الحرير الأبيض.
3- يعتقبون الخيل ... أي يحتبسون كرائم الخيل لأنفسهم ويمنعون غيرهم منها.
4- استحرار قتل ... اشتداد قتل.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 126.
6- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2 / 361 - 371.

وقد تنبّأ عليه السلام بما سيحلُّ بالكوفة من الظالمين فقال:

(كأني بك يا كوفة تُمدّين مدَّ الأديم العكاظي (1)، تُعرِكين بالنوازل (2)، وتُركبين بالزلازل (3)، وإني لاعلم انه ما أراد بك جبار سوءاً إلا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل) (4).

وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور، وأعوان الظلمة، أذاقوها الصاب وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيد الله ابن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبد الله القسري وأضرابهم ... كلهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وأنهار من الدماء (5).

* * *

وقد تنبّأ عليه السلام بتغلب معاوية على الخلافة وسيطرته على 7.

ص: 224


1- الأديم: الجلد المدبوغ، والعكاظي نسبة إلى عكاظ - كغراب - وهو سوق كانت تقيمه العرب في صحراء بين نخلة والطائف، يجتمعون إليه من بداية شهر ذي القعدة ليتعاكظوا، أي يتفاخروا، وأكثر ما كان يباع الأديم بتلك السوق فنسب إليها. وقوله: (تمدين مد الأديم العكاظي) استعارة لما ينالها من العسف والشدائد، كأن ما ينزل بها من الظلم يشبه ما ينزل بالجلد حين يراد أن يدبغ من الخبط والدق.
2- تعركين مأخوذ من (عركتهم الحرب) إذا مارستهم حتى أتعبتهم، والنوازل: الشدائد.
3- الزلازل: المزعجات من الخطوب.
4- نهج البلاغة، رقم النص: 47.
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 1 / 286 - 287.

الكوفة وأنه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسبّ الامام والبراءة منه، فقال:

(أما انه سيظهر (1) عليكم بعدي رجل رحب البلعوم (2)، مندحق البطن (3)، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبِّي والبراءة مني، أما السبّ فسبُّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرَّؤوا مني (4)، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الايمان والهجرة) (5).

هذه النبوءة تحققت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن وأمر الناس بسبّ الامام صلوات الله وسلامه عليه، والبراءة منه، وقتل طائفة من عظماء أصحابه (ع) لأنهم ثبتوا على ولائه فلم يتبرَّؤوا منه، منهم حجر بن عدي الكندي وجماعته. وقال قوم إن المعنى بهذا الكلام زياد بن أبيه، وقال قوم إنه المغيرة بن شعبة، وكلٌّ وَليَ الكوفة، وأمر بالسبّ والبراءة (6).5.

ص: 225


1- سيظهر: سيغلب.
2- الرحب: الواسع.
3- مندحق البطن: عظيم البطن بارزه، كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه.
4- قد يكون السب نتيجة للإكراه من الظالم مع إبطان الحب والولاء، وأما البراءة من إنسان فهي الإنسلاخ من مذهبه.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 57.
6- ابن أبي الحديد: شرح النهج 1 - 355.

وتنبّأ عليه السلام بما سيصير إليه أمر الخوارج من بعده فقال:

( ... أما إنكم ستلقون من بعدي ذلًّا شاملاً وسيفاً قاطعاً وأَثَرَةً (1) يتخذها الظالمون فيكم سنة) (2).

وهكذا كان، فإن الخوارج، بعد العدل الذي لاقوه من حكومته والحرية التي تمتعوا بها، لم يعامَلوا في جميع العهود التالية إلا بالاضطهاد والحرب والمطاردة.

* * *

وقال لما قتل الخوارج وقيل له: هلك القوم بأجمعهم:

(كلا والله، إنهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وقرارات النساء (3)، كلما نَجمَ منهم قرن قطع (4) حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين) (5).

وقد صحّت نبوءته، فلم يمضِ زمن طويل حتى نجمَ أمرهم مرة أخرى واستمرت بينهم وبين السلطات المركزية المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم أن صاروا قطّاع طرق ولصوصاً سلابين.9.

ص: 226


1- الأثرة: الاستبداد بفوائد الملك، وحرمان الآخرين منه.
2- نهج البلاغة، رقم النص: 58.
3- قرارات النساء: كناية عن الأرحام.
4- كلما نجم منهم قرن قطع: كلما ظهر منهم رئيس قتل.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 59.

وقد تنبّأ بعدد من يُقتَل من أصحابه وبقدر من يبقى من الخوارج قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال:

(مصارعهم دون النطفة (1)، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة) (2).

فلم يقتل من أصحاب الإمام إلا ثمانية، ولم ينج من الخوارج إلا تسعة (3).

* * *

وقد كثر كلامه عما سيحل بالناس من بني أُمية وظلمهم، وكأنه يعد بذلك أنفس الناس لتلقي فادح الظلم.

وقد تنبأ بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحل بالأمة منه ومن أولاده، وتنبأ عن نهاية بني أُمية متى تحين.

قال متنبأ بمصير الخلافة إلى مروان:6.

ص: 227


1- يعني بالنطفة ماء النهر، وقد جرت المعركة معهم عند النهروان.
2- نهج البلاغة، رقم النص: 59.
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 1 - 379 - 380 - و 424 - 427 و 445 - 446.

(اما أن له إمرة كعلقة الكلب أنفه (1) وهو أبو الأكبش الأربعة (2) وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر) (3).

وقد تم كل ما قال، فقد كانت إمرة مروان قصيرة جداً إذ لم تزد على تسعة أشهر، وقد كان له من الأبناء أربعة هم: عبد الملك، وعبد العزيز وبشر، ومحمد. ولي عبد الملك الخلافة، وولي محمد الجزيرة، وولي عبد العزيز مصر، وولي بشر العراق. وقد حل بالمسلمين منهم ظلم عظيم (4).

* * *

وقال في ظلم بني أُمية:

( ... والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرماً إلا استحلوه (5)، ولا عقداً إلا حلوه، وحتى لا يبقى بيت مَدر ولا وَبَر (6) إلا دخله ظلمهم، وَنبَا به سوء رعيهم (7)،ن.

ص: 228


1- تصوير بالحركة لقصر ملك مروان بن الحكم.
2- كناية عن أولاده.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 71.
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 - 53 - 60.
5- استحلال المحرم: استباحته.
6- بيوت المدر: المبنية من حجر، وبيوت الوبر: الخيام، أي أن ظلم بني أمية يشمل جميع الناس حيث كانوا.
7- أصله من (نبا به المنزل) إذا لم يوافقه، فارتحل عنه. أي أن ظلم بني أمية وسوء سياستهم في الناس، يجعل المجتمع مضطربا غير مستقر ولا آمن.

وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه) (1).

ولا يجهل أحد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني أُمية وانتهاكهم للحرمات، واستهتارهم بالفضيلة حتى صار خلفاؤهم مثلاً في الظلم والفسق والتهتك (2).

* * *

وقد تحدث عليه السلام كثيراً عن نهاية بني أُمية وأن الامر سيصير إلى أعدائهم بعدهم في الوقت الذي يحسب الناس فيه أنهم مخلدون.

قال عليه السلام:

(حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أُمية (3)، تمنحهم دَرّها (4) وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظانُّ لذلك. بل هيا

ص: 229


1- نهج البلاغة، رقم النص: 96.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2 - 466 - 467 وراجع 2 - 193 - 194 و 408 - 409 في شأن عبد الملك بن مروان والفتن في عهده.
3- معقولة على بني أمية: مقصورة عليهم، مسخرة لهم، كأنهم شدوها بعقال الناقة.
4- درها: لبنها

مَجَّة (1) من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة (2).

وقال:

(فأقسم بالله يا بني أُمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم) (3).

هذه النبوءات بزوال ملك بني أمية على يد العباسين، وما يصنعه العباسيون من القتل والتشريد قد تحققت بحذافيرها (4).

وقد تنبأ بولاية الحجاج وبما سيحل بالعراق من بلوائه فقال:

(أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيَّال الميَّال (5)، يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم، إيه أبا وَذحَة) (6) - (7).4.

ص: 230


1- مجة: مصدر من (مج الشراب من فيه) إذا رمى به.
2- نهج البلاغة، رقم النص: 85 آخر النص.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 103 ولاحظ النص رقم: 167.
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2 - 132 - 178 - 200 - 202 و 466 - 467.
5- الذيَّال: الطويل القد، الطويل الذيل، المتبختر في مشيته، والميال: الجائر المائل عن طريق الحق والعدل.
6- الوذحة: قال الشريف الرضي رحمه الله بعد أن أورد هذا النص: الوذحة الخنفساء. راجع الجزء 7 ص 279 - 280 من شرح نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار إحياء الكتب العربية سنة 1960 م. وهذا القول يومئ به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره. وقد أورد ابن أبي الحديد عند شرح هذه الفقرة عدة روايات عن الحجاج الثقفي في شأن الوذحة.
7- نهج البلاغة، رقم النص: 114.

وقال فيما رواه ابن أبي الحديد من تتمة خطبة أخرى تنبأ فيها بولاية الحجاج ابن يوسف الثقفي ويوسف بن عمرو الثقفي:

( ... وستليكم من بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط والحديد. وسيأتيكم غلاما ثقيف: أخفش وجعبوب، يقتلان ويظلمان وقليل ما يمكثان).

قال ابن أبي الحديد:

( ... الأخفش الضعيف البصر خلقة، والجعبوب القصير الدميم، وهما الحجاج ويوسف بن عمرو وفي كتاب عبد الملك إلى الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرتين. ومن كلام الحسن البصري (ره) يذكر فيه الحجاج: أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمرو كان يغضب إذا قيل له قصير) (1).

* * *

راجع النصوص التالية: رقم 13 و 14 و 46 و 56 و 57 و 70 و 84 (آخر النص) و 90 و 95 و 98 و 99 و 102 و 105 و 113 و 125 و 136 و 145 و 148 و 149 و 156 و 164 و 173 و 185 و 187.8.

ص: 231


1- شرح نهج البلاغة: 2 - 132 - 133 و 257 - 258.

ص: 232

مغيبات أخرى ذكرَهَا ابْن أبي الحَديد

5

قلنا أن الشريف رحمه الله لم يذكر في نهج البلاغة كل ما صح عن أمير المؤمنين من أخباره بالمغيبات، ولكن ابن أبي الحديد قد سد هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صح عنه عليه السلام في هذا الباب.

ومما يحسن ذكره هنا أن ابن أبي الحديد لم ينقل كلما وقع إليه من أخبار الامام بالمغيبات، بل حقق فيما وقع إليه من ذلك فطرح المشتبه أمره، وذكر ما صح عنه عليه السلام.

قال ابن أبي الحديد:

( ... وقد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم (1) فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه وما لا يجوز أن ينسب إليه، ة.

ص: 233


1- الملاحم: جمع ملحمة، وهي الواقعة العظيمة.

ووجدت في كثير منها اختلالاً ظاهراً. وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام وجدته متفرقاً في كتب مختلفة) (1).

وعلل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذة في الامام بقوله:

(واعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات، وقد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه الكفاية (2)، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات، لان القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكل قوة في نفس حادثة فهي متناهية. فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام لا على أن يريد به عموم العالمية، بل يعلم أموراً محدودة من المغيبات، مما اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهله لعلمه ...) (3).

* * *

ولابن أبي الحديد هذا نص طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الامام بالمغيبات، نذكره لطرافته، ولما له من الصلة ببحثنا هذا، على أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن الحديد ذكره في هذا النص وذكره في مناسبات أخرى. قال:

( ... وهذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادعاء الربوبية ولا 8.

ص: 234


1- ابن أبي الحديد: شرح النهج 2 - 508.
2- تقدم منه كلام في هذا في 1 - 425 و 426 - 427.
3- المصدر السابق 2 - 508.

ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.

(كإخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته.

(وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام، وما قاله في كربلاء حيث مرَّ بها.

(وإخباره بملك معاوية الامر من بعده.

(وإخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمروٍ.

(وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان.

(وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب.

(وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

(وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها.

(وإخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه: (خب ضب، يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش).

(وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج ...

ص: 235

(وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق - بتقديم المهملة - وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية.

(وكإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله عليه السلام:

(وإن لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره الله إذا شاء، دعاؤه حق، حتى يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله).

(وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة وقوله إنه يقتل عند أحجار الزيت.

(وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباخمرا:

(يُقتل بعد أن يظهر ويُقهَر بعد أن يَقهَر).

وقوله فيه أيضاً:

(يأتيه سهم غرب تكون فيه منيته، فيا بؤساً للرامي شُلَّتْ يده ووهنَ عضده).

(وكإخباره عن قتلى وجّ وقوله فيهم: هم خير أهل الأرض.

(وكإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله، وهو

ص: 236

يشير إلى أبي عبد الله المهدي، وهو أولهم: (ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء المسجى بالرداء). وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة، رخص البدن، تارّ الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام وهو المسجى بالرداء لان أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.

(وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: (ويخرج من ديلمان بنو الصياد) إشارة إليهم، وكان أبوهم صياد السمك، يصيد منه بيده ما يتقوَّت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله عليه السلام فيهم: (ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء)، فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال:(مائة أو تزيد قليلاً). وكقوله فيهم: والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة، وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين، وكان معز الدولة أقطع اليد، قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عز الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه. فأما خلعه للخلفاء، فان معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر. وكانت مدة ملكهم كما أخبر به عليه السلام.

ص: 237

(وكإخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الامر إلى أولاده، فان علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي عليه السلام، فأخذه وتفل في فيه وحنَّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الاملاك.

(وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاءه لكسرنا كراريس كثيرة، وكتب السيَر تشتمل عليها مشروحة) (1).

وقال:

( ... والمراد بقوله: فلانا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور ولا سيما في الملاحم والدول، وقد صدّق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الاخبار بالغيوب المتكررة لا مرة ولا مائة مرة حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم وليس عن طريق الصدفة والاتفاق) (2).

* * *

ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في النص السابق وأتى على ذكره في مناسبات أخرى.

1 - ... لما شجرهم (3) - الخوارج - علي عليه السلام بالرماح م.

ص: 238


1- المصدر السابق 2: 175 - 176.
2- المصدر السابق.
3- شجرهم: حاربهم أو رماهم.

قال: (اطلبوا ذا الثدية) فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتي به وإذا رجل على ثديه مثل سبلات السنور، فكبّر علي عليه السلام وكبّر الناس معه (1).

* * *

2 - قال عليه السلام لمن قال له: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة الشعر، بعد كلام: وإن في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله. قال ابن أبي الحديد: وكان ابنه، قاتل الحسين عليه السلام طفلاً يحبو، وهو سنان ابن أنس النخعي (2).

* * *

3 - وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له، فقال عليه السلام: والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ظلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب، فقال: أنت حبيب بن حمار؟ قال: نعم، فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار، فقال: اي والله، قال: أما والله إنك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب، وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة.

قال ثابت - وهو راوي الحديث - : فوالله ما مات حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي عليه 8.

ص: 239


1- المصدر السابق 1 - 205.
2- المصدر السابق 1 - 208.

السلام، وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل (1).

4 - ... كان جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي عليه السلام: يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء، فقال علي عليه السلام: وانها لهي هذه السلقلقة الجلعة الجعة، وانها لهي هذه الشبيهة الرجال والنساء التي ما رأت دماً قط، قال يزيد الأحمسي - وهو راوي الحديث - فولت هاربة منكسة رأسها، فتبعها عمرو ابن حريث، فلما صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك، فلما دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشفها وقالت: أنا والله كما قال، لي ركب النساء وأنثيان كأنثيي الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها، ورجع إلى مجلسه مع الإمام عليه السلام فحدث بذلك (2).

* * *

5 - قام أعشى باهلة وهو يومئذ غلام حدث إلى علي عليه السلام، وهو يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين:

ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة.

ص: 240


1- المصدر السابق نفس الصفحة.
2- المصدر السابق 1: 208 - 209.

فقال علي عليه السلام:

إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف، ثم سكت.

فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟

قال غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه.

فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟

قال: عشرين إن بلغها.

قالوا: فيقتل قتلاً أم نموت موتاً؟

قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.

قال إسماعيل بن رجاء - وهو الراوي - فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الاسرى الذين أُسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج فقرعه وونجه واستنشده بشعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس (1).

* * *

6 - قال عليه السلام لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث:9.

ص: 241


1- المصدر السابق 1 - 209.

يا عمرو انك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس نقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما انك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك.

قال شمير بن سدير الأزدي - وهو الراوي - فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض احياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (1).

* * *

7 - دخل جويرية بن مسهر العبدي على علي عليه السلام يوماً وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية:

أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب بها لحيتك.

قال حية العربي - وهو الراوي - فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام وقال: وأحدثك يا جويرية بأمرك، اما والذي نفسي بيده لتُتلَنَّ إلى العتل الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر.

قال حية العربي: فوالله ما مضت الأيام على ذلك، حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب ابن مكعبر وكان جذعاً 9.

ص: 242


1- المصدر السابق 1 - 209.

طويلاً فصلبه على جذع قصير إلى جانبه (1).

* * *

8 - قال الامام لميثم التمار يوماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص:

يا ميثم إنك تُؤخذ بعدي وتُصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتى يخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طُعنت بحربة تقضي عليك فانتظر ذلك، والموضع الذي تُصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، يعني الأرض، ولأرينك النخلة التي تُصلب على جذعها، ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين.

وقد تحققت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام (2).

* * *

9 - روى إبراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي إلى زياد بن النضر الحارثي أنه قال:

كنت عند زياد وقد أُتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي عليه السلام، فقال له زياد: ما قال لك خليلك أنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذبن 1.

ص: 243


1- المصدر السابق 1 - 209 - 110.
2- المصدر السابق 1 - 210 - 211.

حديثه، خلو سبيله، فلما أراد أن يخرج، قال: ردوه، لا نجد شيئاً أصلح مما قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا وءاً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم. فقال: اصلبوه خنقاً في عنقه، فقال رشيد: قد بقي لكم عندي شئ ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال: نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين أخبرني بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (1).

* * *

10 - حدث سعد بن وهب، فقال في حديث:

فأتيته - يعني علياً عليه السلام - في كربلاء، فوجدته يشير بيده ويقول: ههنا ههنا فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ثقل لآل محمد صلى الله عليه وآله ينزل ههنا، فويل لهم منكم وويل لكم منهم، فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النار (2).

* * *

11 - ذكر ابن أبي الحديد تتمة خطبته في الملاحم تنبأ فيها الامام بأن السلاح سيحمل على الظهر بقوله: ( ... وحتى يكون موضع 8.

ص: 244


1- المصدر السابق 1 - 300 - 211.
2- المصدر السابق 1 - 278.

سلاحكم على ظهوركم ...) وكأنه يشير بذلك إلى البندقية وما إليها من الأسلحة الحديثة، وتنبأ فيها بولاية الحجاج ويوسف بن عمر (1).

* * *

12 - قال ابن الحديد: ( ... ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم وهو يشير إلى القرامطة: (ينتحلون لنا الحب والهوى ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك قتلهم وراثنا وهجرهم أحداثنا.

قال ابن أبي الحديد: وصح ما أخبر به، لان القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقاً كثيراً وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني. وفي هذه الخطبة قال، وهو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: كأني بالحجر الأسود منصوباً هنا، ويحهم ان فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأُسه، يمكث هنا برهة، ثم ههنا برهة، وأشار إلى البحرين، ثم يعود إلى مأواه وأم مثواه. ووقع الامر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به (2).ن.

ص: 245


1- المصدر السابق 2 - 133.
2- المصدر السابق 2 - 508، وذكر ابن أبي الحديد في 2 - 49 - 50 عن المدائني في كتاب صفين خطبة للامام في الملاحم خطبها بعد النهروان.

ص: 246

الوعظ

ص: 247

ص: 248

تمهيد: خَطأ أسلوب الوُعّاظ التّقليدييّن وَ الطَّريقَة الصَّحِيحَة لدرَاسَةِ النَّصُوص

يحسب بعض المثقفين من ناشئة هذا الجيل أن الإسلام يدعو إلى التنكر للدنيا والتزهيد فيها واعتبارها أذى كبيراً لا يجمل بالمرء أن يصيب منه قليلاً ولا كثيراً.

والكتب الموضوعة للتبشير بالحضارة الغربية، عدوة كل دعوة روحية، تساعد على تركيز هذه الفكرة عن الإسلام في نفوس هؤلاء. وتسهم إسهاماً كبيراً في تركيزها أيضاً البرامج التعليمية المدخولة التي تهمل دور الإسلام العظيم في إنقاذ العالم وتقدمه، وإن عرضته فإنما تعرض إسلاماً مشوهاً خالياً من الحياة.

كل هذا جعل هذه الناشئة تنظر إلى الإسلام نظر ذعر وتخوف مبعثهما الجهل لا العلم، والعمى لا البصر.

وتوجه هذه النظرة أيضاً إلى التراث الإسلامي في ميادين الفلسفة والأخلاق والأدب.

ص: 249

ونهج البلاغة من جملة هذا التراث الذي ينظر إليه على هذا النحو.

فهذا الكتاب، عند ناشئة الجيل، يحتوي على طائفة من الخطب قيلت في التزهيد بالدنيا والتنفير منها، والنعي على المتمسكين بها، والآخذين بنصيب من مباهجها وأفراحها، وهو لذلك كتاب لا يلائم روح عصرنا هذا، لأنه يشلُّ في الإنسان رغبته في العمل ويعطل حس الحياة فيه، ويدفعه إلى القناعة بحياة ذليلة واهنة مظلمة شوهاء.

ولمَ لا؟ ألم تصدر هذه الخطب والأقوال من رجل ركل الدنيا بقدمه، وخرج عنها، ودعا الناس إلى أن يركلوها بأقدامهم ويخرجوا عنها؟

هذه نظرة طائفة كبيرة من شباب الجيل إلى نهج البلاغة.

والأسلوب الوعظي الذي يتناول فيه كثير من الوعاظ في المساجد والمحافل مهمتهم يدعم نظرة ناشئة الجيل إلى نهج البلاغة ويعززها، فهم يتناولون مهمتهم على نحو خاطئ، لأنهم يعتمدون في وعظهم اعتماداً مطلقاً على التنفير من الدنيا وعلى ذمّها والتزهيد فيها واعتبارها أذى كبيراً يحول بين الإنسان وبين أن يصبح إنساناً حقاً، ويجدون في نهج البلاغة على الخصوص مَعيناً لا ينضب من الشواهد على ما يقولون.

* * *

إننا إذ نرجع إلى مبادئ الإسلام لنتعرف على وجهة نظره إلى

ص: 250

الدنيا نجد هذه المبادئ تشجع الاقبال على الدنيا، وتحترم العمل، وتمجد العامل، وتعنى بنشاط الإنسان الدنيوي كما تعنى بنشاطه الأخروي، يدل على ذلك ما شرعه الإسلام من قوانين تتناول جميع ألوان نشاطه الدنيوي.

والإمام عليه السلام هو أعظم أصحاب النبي (ص) فهماً للإسلام ووعياً لاسراره فلا يعقل أن يقول شيئاً يخالف روح الإسلام العامة ونظرته الشاملة إلى الإنسان. ولكننا نرجع إلى نهج البلاغة فنجده مكتظاً بالتنفير من الدنيا، وردع الناس عنها.

فكيف نلائم بين ما نراه في نهج البلاغة، وبين ما نعرفه عن الإمام عليه السلام.

الذي أراه هو أن الوعاظ والناشئة جميعاً راحوا ضحية خطأ كبير سبب لهم سوء الفهم وسوء التأويل لما جاء في نهج البلاغة من ذمّ الدنيا.

فعندما نريد أن نفهم نصاً من النصوص يتضمن رأياً في الإنسان وفي مصيره يجب علينا أولاً أن نفهم الثقافة التي صدر عنها هذا النص، ثم يجب علينا ثانياً أن نفهم الواقع التأريخي الذي صدر فيه النص، فإذا تمّ لنا من ذلك ما أردنا وضعنا النص في إطاره التاريخي الخاص وأحطناه بظروفه النفسية المعينة، وفسرناه من وجهة نظر الثقافة التي ألهمته قائله، فحينئذٍ يتهيأ لنا أن نفهم النص فهماً صحيحاً.

أما حين نجرد النص من إطاره التأريخي، ثم ننظر إليه بغير الروح

ص: 251

التي صدر عنها، فإن أملنا بالفهم الصحيح يكون عقيماً لأننا حينئذ لن نحصل على الفهم الصحيح أبداً.

وهنا يكمن الخطأ الكبير الذي انزلق إليه من حسب نهج البلاغة كتاباً يدعو إلى رفض الحياة الدنيا والتنفير عنها.

إن هؤلاء حينما ذهب بهم الوهم هذا المذهب كانوا على جهل بالمثل الاعلى للحياة في الإسلام من جهة أولى، وكانوا على جهل بنظرة الإسلام الواقعية إلى الحياة والموت والمال من جهة ثانية، وكانوا على جهل بالواقع التاريخي الذي صدر فيه القسم الوعظي من نهج البلاغة من جهة ثالثة.

فعلينا لكي نفهم القسم الوعظي من نهج البلاغة فهماً صحيحاً أن نعني بفهم هذه الأمور الثلاثة، وسيكون هذا سبباً في دراسة الواقع الإجتماعي في زمان الإمام دراسة موسعة.

ص: 252

المثَلُ الأعلى لِلحَيَاةِ في الإسلام ، وَالْوَاقِعُ الإجتماعي وَالسَّيَاسِي حِينَ تَوَلّى الامام علىّ الحُكْم ، إصْلاحات الامام عَلىّ وَرُدُودُ الفِعل ضدّهَا

1

ونبدأ بالمثل الاعلى للحياة في الإسلام.

لقد عرفنا أن المثل الاعلى للحياة في الإسلام هو التقوى.

وقد فهمنا أن التقوى هي الفضيلة في أرفع معانيها، وعرفنا أن الإنسان المتقي هو الإنسان الذي وعى وجود الله وأمره ونهيه في كل ما يلم به من فعل أو قول، وجعل من نفسه خلية إنسانية حية تعمل بحرارة وإخلاص على رفع مستوى الكيان الإجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدر في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام.

هذا هو المثل الاعلى للحياة في الإسلام، فما الذي يحول بين الإنسان وبين بلوغه؟

الذي يحول بين الإنسان وبين بلوغ هذا المثل الاعلى هو أن تقفر حياته من الشعور بالله كطاقة نفسية فاعلة، ويتبع ذلك بصورة حتمية أن

ص: 253

يفقد الدين ما له من أثر توجيهي في حياة الإنسان، وإذا فقد الإنسان هذين (الشعور بالله، والدين) لم تعد الجماعة التي يعيش فيها تعني بالنسبة إلى شيئاً، ولا يعود يستلهم في سلوكه سوى ذاته هو، والنتيجة الطبيعية لهذا هي أن يصبح إنسانا فردياً أنانياً.

إذا استوى وجود الإنسان على هذا النحو كان بعيداً عن التقوى، وكان واقعه حائلاً بينه وبين التقوى.

وقد قلنا إن وجه الفائدة في جعل التقوى مثلاً أعلى للحياة هو أن يكون مفهوم الطبقة الذي يستتبع حكماً تقويمياً لطائفة من الناس منبثقاً من التقوى، بدلاً من أن ينبثق هذا المفهوم من الاقتصاد أو الحرب، وبذلك تكون الطبقات ظاهرة اجتماعية تعود على المجتمع بالخير، بدلاً من أن تكون تعبيراً حاداً عن التفسخ الإجتماعي.

فإذا عدنا لنرى واقع المجتمع الإسلامي في الوقت الذي ولِّي فيه الامام الحكم ألفيناه مجتمعاً مريضاً منحرفاً فقد الدين قوته الدافعة عندهم، واستشرت الروح القبلية فيهم، وعاد المثل الاعلى للحياة عندهم المال والقوة.

ويقتضينا فهم هذا الواقع أن نلم بالأسباب التي أدت إليه.

* * *

ولي عثمان بن عفان الخلافة بعد عمر بن الخطاب فكانت خلافته إيذاناً بأفول سياسة وبزوغ عهد سياسي جديد.

ص: 254

فلقد اتبع عثمان منذ ولي الحكم سياسة خطرة في المال والولايات.

فقد طفق يهب خواصه وذوي رحمه ومن يمت إليه بنسب أو سبب الأموال العظيمة ويخصهم بالمنح الجليلة، ويحملهم على رقاب الناس.

وولى على البلدان الإسلامية شباناً من بني أمية، لا يحسنون الحكم ولا السياسة، ذوي روح تسلطية عاتية، لم ينل منها الإسلام شيئاً مذكوراً.

وهكذا كوّنت هذه الطبقة طبقة أريستوقراطية من الأغنياء المترفين الذين لا تزال تعتمل في صدورهم القيم البدوية الجاهلية.

وقد امتد نفوذ هذه الطبقة في خلافة عثمان امتداداً هائلاً، فسيطرت على الحكم سيطرة مطلقة، وحازت الأموال العظيمة التي أفاءها الله على المسلمين، والتي كان المفروض فيها أن تذهب إلى المعدمين والفقراء، وانتشرت هذه الطبقة في طول البلاد الإسلامية وعرضها حين فتح لها عثمان باب الهجرة والتنقل في البلاد الإسلامية.

والى جانب هؤلاء كانت ثمة طبقة أخرى تتألف من الاعراب وأهل البادية وكانت القوى المسلحة في الدولة الإسلامية مكونة منهم، ينضم إليهم من دخلوا في الإسلام من الأمم غير العرب، هؤلاء كانوا يلقون في زمن عثمان حيفاً كبيراً من طبقة الاريستوقراطيين الناشئة، الطامحة إلى مزيد من القوة والاستعلاء بسبب ما يعتمل في نفوس أفرادها من قيم البداوة.

ص: 255

وكانت عاقبة ذلك أن تضخمت الفروق بين الطبقات تضخماً كبيراً من الناحية المادية والمعنوية.

وانقلبت الأثرة إلى طغيان، وانقلب الحقد إلى زئير، وتراكم الطغيان حتى وجد رد فعل طاغ في ثورة المظلومين، الذين أثقلهم الظلم الفادح، على حكومة عثمان وعلى ولاته.

وكانت عاقبة ذلك كله قتل عثمان.

وجاء الناس إلى الامام يطلبون منه أن يلي الحكم، ولكنه أبى عليهم ذلك، لا لأنه لم يأنس من نفسه القوة على ولاية الحكم وتحمل تبعاته، فقد كان عليه السلام على تمام الأهبة لولاية الحكم، كان قد خبر المجتمع الإسلامي من أقطاره، وخالط كافة طبقاته، وراقب حياتها عن كثب، ونفذ إلى أعماقها، وتعرف على الوجدان الطبقي الذي يشدها ويجمعها.

وقد مكنه من ذلك كله المركز الفريد الذي كان يتمتع به من النبي صلى الله عليه وآله، فهو وزيره ونجيبه، وأمين سرّه، وقائد جيوشه، ومنفذ خططه، ومعلن بلاغاته ... هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتع بها أعدته إعداداً تاماً لمهمة الحكم.

وقد كان النبي يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلها به إعداده للمنصب الإسلامي، ليصل إليه وهو على أتم ما يكون أهلية واستعداداً.

ولقد غدا من نافلة القول أن يقال أنه عليه السلام هو الخليفة

ص: 256

الذي كان يجب أن يلي حكومة النبي في المجتمع الإسلامي.

وإذا لم يقدر له أن يصل إلى الحكم بعد النبي فإنه لم ينقطع عن الحياة العامة، بل ساهم فيها مساهمة خصبة، فقد كان أبو بكر ثم عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آراءه في السياسة والقضاء والحرب، وخاصة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتم الصلة بالتيارات التي تمخر المجتمع الإسلامي، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الامام يقدمه إليه لان بطانة متعفنة كانت تحيط بهذا الخليفة.

فأنت ترى أنه لم يأبَ الحكم لأنه لم يأنس من نفسه القوة عليه، وإنما أباه لأمر آخر:

لقد كان يرى المجتمع الإسلامي وقد تردى في هوّة من الفوارق الإجتماعية التي ازدادت اتساعاً بسبب السياسة التي اتبعها ولاة عثمان مدة خلافته.

ولقد كان يرى التوجيهات الدينية العظيمة التي عمل النبي طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع العربي قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس.

وكان عليه السلام يعرف السبيل الذي يردّ الأشياء إلى نصابها، فإنما صار الناس إلى واقعهم هذا لأنهم فقدوا الثقة بالقوة الحاكمة التي تهيمن عليهم. فقدوا الثقة بهذه القوة كناصر للمظلوم وخصم للظالم، فراحوا يسعون إلى إقرار حقوقهم وصيانتها بأنفسهم.

ص: 257

وهكذا، رويداً رويداً انقطعت الصلة بينهم وبين الرموز المعنوية التي يجب أن تقود حياتهم.

والسبيل إلى تلافي هذا الفساد كله هو إشعار الناس أن حكماّ صحيحاّ يهيمن عليهم، لتعود إلى الناس ثقتهم الزائلة بحكامهم.

ولكن شيئاّ كهذا لم يكن سهلاّ قريب المنال، فهناك طبقات ناشئة لا تسيغ مثل هذا، ولذلك فهي حَرِيَّة أن تقف في وجه كل برنامج إصلاحي وكل محاولة تطهيرية، ولذلك أبى عليهم قبول الحكم، لأنه قدر - وقد أصاب - انه سيلاقي معارضة عنيفة من كل طبقة تجد صلاحها في أن يبقى الفساد على حاله.

لأجل هذا قال للجماهير يوم هرعت إليه تسأله أن يلي الحكم:

(دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول (1)، وإن الآفاق قد أغامت (2) والمحجة قد تنكرت (3)، واعلموا اني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، ة.

ص: 258


1- لا تصبر له، ولا تطيق احتماله.
2- أغامت: غطيت بالغيم.
3- المحجة: الطريق المستقيمة. تنكرت: تغيرت معالمها فصارت مجهولة.

وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً) (1).

ولكن القوم أبوا عليه إلا أن يلي الحكم، وربما رأى عليه السلام انه إذا لم يستجب لهم فربما توثب على حكم المسلمين من لا يصلح له، فيزيد الفساد فساداً، ورجا أن يخرج بالناس من واقعهم الإجتماعي التعس الذي أحلتهم فيه اثنتا عشرة سنة مضت عليهم في خلافة عثمان، إلى واقع أنبل وأحفل بمعاني الإسلام، وهكذا استجاب لهم، فبويع خليفة للمسلمين.

ولقد دأب، بعد أن بويع، على بيان الهدف الذي ابتغى من وراء ولاية الحكم، وذلك بأن يكون في مركز يمكنه من أن يصلح ما يفتقر إلى الاصلاح من شؤون الناس، وأن يرفع عن المظلومين فادح ما رزحوا تحته من ظلم، فتراه يقول:

( ... أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة (2)، لولا حضور الحاضر (3) وقيام الحجة بوجود الناصر (4)، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة (5) ظالم س.

ص: 259


1- نهج البلاغة، رقم النص: 90.
2- برأ: خلق. والنسمة: الروح.
3- من حضر لبيعته من الناس.
4- أي أنه مع وجود المقاتلين الناصرين للحق لا يجوز القعود عن التصدي للقيام بمهمات الحكم والاصلاح. فوجود الأنصار على الحق حجة على القائد لابد معها من الحركة والقيام بالامر.
5- الكظة: ما يعتري الآكل من الضيق عند امتلاء البطن بالطعام. والمراد هنا تعدي الظالم على حقوق الناس.

ولا سَغَب (1) مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (2)، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عَفْطةَ (3) عَنز) (4).

وقال:

(اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام (5)، ولكن لنردَّ المعالم (6) من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك) (7).

وقال:

(ولكني آسى (8) أن يليَ (9) أمرُ هذه الأمة ة.

ص: 260


1- السغب: شدة الجوع. والمراد هنا هضم حقوق الضعيف.
2- الغارب: الكاهل، الناقة حين يتركها قائدها فلا يقودها يرخي لها الخطام، فالكلام تصوير للترك وإرسال الامر.
3- عفطة العنز ما تنثره من فمها.
4- نهج البلاغة، رقم النص: 31 (جزء من الخطبة الشقشقية).
5- الحطام: ما يحطم ويتفتت من عيدان الزرع إذا يبس. والمراد هنا: متاع الحياة الدنيا.
6- المعالم جمع معلم - بفتح، فسكون، - وهو الأثر الذي يستدل به على الطريق.
7- نهج البلاغة، رقم النص: 129.
8- آسي: فعل مضارع من (أسيت عليه) أي حزنت، والمراد انه (ع) يحزن أن يتولى أمر الأمة السفهاء والفجار.
9- يلي: يحكم الأمة.

سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دُوَلاً (1)، وعباده خَوَلاً (2)، والصالحين حرباً (3)، والفاسقين حزباً، فان منهم الذي قد شرب فيكم الحرام (4)، وجلد حداً في الإسلام، وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له (5) على الإسلام الرضائخ.) (6).

لأجل هذا كله قبل عليه السلام أن يتولى الحكم.

وما أن بويع حتى عالن الناس بسياسته التي عزم على اتباعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها.

وقد عرفت أن هذه السياسة لم تكن شيئاً مرتجلاً اصطنعه لنفسه يوم وليَ الخلافة، وإنما كانت خططاً مدروسة ومنتزعة من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك، ومعدة لان تبلغ بهذا المجتمع خطوات إلى أمام، ومهيَّأة لتنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها.2.

ص: 261


1- دولاً: أي شيئاً يتداولونه بينهم، كأن الحكم لعبة أو كرة يتقاذفونها.
2- خولاً: أي عبيدا.
3- حرباً ... أي يحاربون الصالحين، وينصرون الفاسقين، ويتخذونهم حزباً لهم.
4- الحرام: الخمر.
5- الرضائخ: العطايا، ورضخت له: أعطيت له. وقالوا أن عمرواً بن العاص لم يسلم حتى طلب عطاء من النبي (ص) فلما أعطاه أسلم.
6- نهج البلاغة (باب الكتب) من كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها، رقم النص: 62.

وقد كانت إصلاحاته السياسة تتناول ثلاثة ميادين: الإدارة، والحقوق، والمال.

أ - الإدارة:

ففيما يرجع إلى سياسة الإدارة عزل ولاة عثمان عن الأمصار، هؤلاء الولاة الذين كانوا السبب المباشر في الثورة لظلمهم وبغيهم وعدم درايتهم بالسياسة وأصول الحكم، وولى من قبله رجالاً ذوي دين وعقل وبعد نظر وحسن تدبير.

ب - الحقوق:

وفيما يرجع إلى الحقوق نادى بأن المسلمين جميعاً سواء في الحقوق والواجبات في الإسلام، وقد كانت هناك فروق حقوقية جاهلية نسفها الإسلام ولكن عهد عثمان أعادها، فقريش ذات الماضي العريق في السيادة على القبائل العربية عادت في زمن عثمان فأتلعت جيدها وأعادت تلك الفروق، فغدا أناس ليس لهم ماض مشرف بالنسبة إلى الإسلام ونبيه يتعالون على أعظم المسلمين جهاداً وسابقة وبلاء، لمجرد أنهم قرشيون ... هذه الفروق المعنوية الجاهلية حطمها الامام، فقال:

(الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه) (1).7.

ص: 262


1- نهج البلاغة، رقم النص: 37.

ج - المال:

وفيما يرجع إلى سياسية المال وقف موقفاً صارماً، فصادر جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الاريستوقراطيين، وقد صرح بذلك في أول خطبة خطبها بعد خلافته، فقال:

(أيها الناس! إني رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم، وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما أمر به، ألا وان كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال فإن الحق لا يبطله شئ، ولو وجدت قد تزوَّجَ به النساء، ومُلِكَ الإماء، وفُرِّقَ في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) (1).

وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله في توزيع الأموال هي التسوية بين الفاضل والمفضول، لان النظر في هذا الامر إلى الحاجة لا إلى الفضل، ولان الفضل ليس عرضاً يشرى ويباع، ولان الفاضل يجد عند الله وعند الناس ثواب فضله، ولكن أبا بكر وعمر فضلا بعض ة.

ص: 263


1- نهج البلاغة، رقم النص: 15 ولم يذكر الشريف الرضي هذا النص بتمامه، وإنما ذكره ابن أبي الحديد، وغيره من شراح نهج البلاغة.

الناس على بعض، وإذا كانا قد فضلا فإنهما قد فعلا ذلك بحكمة أما عثمان فقد فضل دون مقياس للتفضيل، وبذلك زاد التفاوت بين الطبقات فحشاً وبعداً، فلما جاء الإمام عليه السلام عدل عن هذه السياسة وسوى بين الناس في العطاء.

وبقدر ما كانت هذه السياسة مصدر جذل وفرح للطبقة المستضعفة الفقيرة الرازحة تحت أثقال من الظلم كانت أيضاً صفعة مدوية لقريش ولغرورها وخيلائها واستعلائها على الناس.

فمن أين لها بعد اليوم أن تحوز الأموال العظيمة دون أن تنفرج شفتان تقولان لها: من أين لك هذا.

وكيف لها بعد اليوم أن تستعلي، وتستبد، وتفرض على الناس في ظل الإسلام سلطانها عليهم في الجاهلية؟

وكانت هذه السياسة صفعة مدوية لزعماء القبائل العربية الذين كانوا يقبضون ليسكتوا.

وكانت هذه السياسة صفعة مدوية لمن مالا ولاة عثمان على سياستهم من أهل المدينة وغيرهم.

وكانت صفعة مدوية لولاة عثمان المعزولين، المجردين من السلطان، الذين ينتظرهم مصير لا يحسدون عليه عند الحاكم الجديد، بما ظلموا، وأساءوا السيرة، وجاروا على الرعية.

كل هؤلاء أورثهم كرباً شديداً مصير الحكم إلى علي بن أبي طالب، ولعلهم قد فكروا أن يساوموه على بذل طاعتهم له، على أن

ص: 264

يغضي عما سلف منهم، ويأخذهم باللين والهوادة فيها يستقبلون، فأرسلوا إليه بعض زعماء بني أمية يقول له:

(يا أبا الحسن ... انك قد وترتنا جميعاً ... ونحن نبايعك على أن تضع عنا ما أصبناه من المال أيام عثمان ...) (1).

ولكنه أبى عليهم ذلك وأصر على أن يحملهم على الخطة التي يريد، والتي يرى الصلاح في اتباعها.

* * *

وقد حدث ردّ الفعل عند هؤلاء في حرب الجمل، التي كانت تدبيراً دبره من لم يماش الحكم الجديد أهواءهم من بني أمية وغيرهم من ولاة عثمان إلا أن الحركة في صميمها كانت أموية خالصة.

وقد كان القائمون بهذه الحركة يريدون أن يَعطفوا أزمّة الحكم إلى جانبهم بعد أن صَفِرت أيديهم من مساعدة الامام لهم على ما يبتغون. ولكن الإمام عليه السلام قضى على الحركة في مهدها، ففر من أخطأه السيف، ممن تولى كبرها، إلى الشام.

* * *

وانتقل الامام، بعد أن فرغ من أمر الجمل، بحكومته من الحجاز إلى العراق، واتخذ الكوفة قاعدة لحكمه. والكوفة يومئذٍ مركز الثقل في المجتمع الإسلامي الناشئ.2.

ص: 265


1- شرح النهج، 2 - 172.

وفي العراق استمر الامام على سياسته المالية والإدارية التي استنها لنفسه، وأذاعها في الناس، فالمساواة في الأعطية أمر مفروغ منه، ومؤاخذة العمال على الصغيرة والكبيرة، ومراقبتهم وإذكاء العيون عليهم أمر لازم لا معدى عنه.

وكانت العناصر المسلمة غير العربية كثيرة في الكوفة، فكانت تضم عدداً كبيراً من الفرس وغيرهم ممن دخلوا في الإسلام، وكان هؤلاء يحتلون طبقة اجتماعية منحطة في نظر العرب ذوي النزعة القبلية، وكان من العسير على العربي أن يتصور أنه مساوٍ في القيمة لهؤلاء، ولذلك كان يطمح إلى أن يتميز عليهم، ولكن الإمام عليه السلام لم يُلْقِ بالاً إلى كل هذا، فالمساواة مبدأ شامل يسري على كل فرد عربياً كان أو أعجمياً.

لقد كان حرباً بهذه السياسة الواعية لآلام الشعب وآماله، الطامحة إلى إسعاده، أن تنجح لو لم تعاكسها سياسة أخرى.

ففي الوقت الذي قامت فيه حكومة الامام في الكوفة، قامت حكومة أخرى في الشام برياسة معاوية بن أبي سفيان.

وبينما كانت حكومة الامام تسير على نهج إسلامي خالص، أي أنها كانت تحقق للرعية أقصى قدر مستطاع - في ظروفها الاقتصادية والسياسية والعسكرية - من الرفاهية والامن والعدالة، كانت حكومة معاوية تسير على نهج آخر في الحكم يقوم على شراء الضمائر بالمال، وتفضيل طائفة على حساب حرمان طائفة أخرى، وتعطيل السبل، وتعكير الامن.

ص: 266

ولم يكن معاوية يبالي في أن يُنْزِل بدافعي الضرائب من الزراع والتجار أفدح الظلم، في سبيل أن يحصل منهم على مزيد من المال يغذي به أطماع حفنة من رؤساء القبائل العربية يؤلفون جهازه العسكري المتأهب دائماً لقمع أي حركة تحررية تقوم بها جماعة من الناس.

وقد آتت هذه السياسة أكلها جيداً في العراق.

فقد كان رؤساء القبائل في العراق يرون سياسة معاوية فيعجبون بها، فهي تلبي ما يطمحون إليه من غنى ووجاهة وارتفاع قدر، بينما هم لا يجدون شيئاً من هذا في حكومة الامام.

وقد كان المجتمع العراقي قبلياً، فلكل قبيلة رئيسها وأشرافها وتقاليدها وأمجادها.

والرجل ذو الروح القبلية - كما يثبت علم الإجتماع - عالمه قبيلته، فهو ينفعل بانفعالاتها، ويطمح إلى ما تطمح إليه، ويعادي من تعادي، وينظر إلى الأمور من الزاوية التي تنظر منها هذه القبيلة، وذلك لأنه يخضع للقيم القبلية التي تدين بها هذه القبيلة.

وتتركز مشاعر القبيلة كلها في رئيسها، فالرئيس في المجتمع القبلي هو المهيمن، والمرجع، والموجه الأوحدي للقبيلة كلها. فيكفي أن يقول الرئيس كلمة لتصبح قانون القبيلة كلها، ويكفي أن يتخذ موقفاً ليكون موقف القبيلة كلها، ولا أحسب أن من يتعالون على هذا الأسرِ يتجاوزون أصابع اليدين كثيرا.

ص: 267

هذه هي طبيعة المجتمع القبلي.

وقد أثر الإسلام على هذه الطبيعة بلا شك، ولكن التأثير لم يكن حاسماً، فقد وقعت في الحقب السياسية التي خلفت النبي أخطاء سببت عودة الروح القبلية على أشدها.

وإذا عرفنا هذا وسعنا أن نفهم الأثر البعيد الذي كانت تتركه سياسة معاوية في المجتمع العراقي أبَّان ذلك العهد.

فهذا المجتمع قبلي يدين لرؤسائه بالطاعة المطلقة.

وهؤلاء الرؤساء يطمحون إلى مزيد من القوة والسلطان والغنى والمنزلة الإجتماعية ولا يجدون شيئاً منها عند الامام بينما هم يجدونها عند معاوية كما يشتهون.

ويقول هؤلاء الرؤساء إن حكومة معاوية خير من حكومة علي وهي خير لهم بلا إشكال، وتسمع القبيلة كلها مقالة زعيمها فتدين بها، غير واعية أن حكومة معاوية ان كانت خيراً لرؤسائها فحكومة علي خير لها، وذلك لأن هذه تَسْتنُّ المساواة سياسة لهما بينما تستن تلك سياسة الأثرة، وهم لا يعون هذا، لأنهم ينظرون إلى الأمور بالمنظار الذي ينظر به الرؤساء.

على هذا النحو كانت سياسة معاوية تؤثر في العراق، وقد وعى ذلك جماعة من المخلصين للامام فقالوا له:

(يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الاشراف من

ص: 268

العرب وقريش على الموالي والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس) (1).

ناظرين إلى ما يصنع معاوية، ولم يكن رؤساء القبائل العربية في العراق يطمعون بأكثر من هذا، ولكن الامام أجابهم قائلاً:

(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سَمَر سمير (2)، وما أم نجم في السماء نجماً (3)، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟ ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله) (4).

وقد صارت الشام ملاذاً لمن يغضب عليه الامام لخيانة خانها في عمله، أو جريرة جرها على نفسه. ومطمحاً لمن يريد الغنى والمنزلة، فيجد عند معاوية الإكرام، والرفعة، والعطاء، والمنزلة الإجتماعية.4.

ص: 269


1- شرح النهج، 1 - 182.
2- ما أطور: من (طار يطور حول الشئ) إذا حام حوله، أي: ما أمر به، ولا أقاربه (ما سمر سمير) أي مدى الدهر، وهو مثل. قالوا: السمير هو الدهر.
3- أم: قصد: أي ما قصد نجم نجماً.
4- نهج البلاغة، رقم النص: 124.

وقد كتب علي عليه السلام مرة إلى عامله سهل بن حنيف في شأن قوم من أهلها لحقوا بمعاوية:

(وإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومُهْطِعون إليها (1)، وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا أسوة، فهربوا إلى الأَثَرَة (2)فبُعداً لهم وسُحقاً (3)

وقد وصف عليه السلام سياسة معاوية بقوله:

(طبيب دوار بطبّه، قد أحكمَ مراهمه، وأحمى مواسمه (4)، يضع ذلك حيث الحاجة إليه: من قلوب عمي، وآذان صُمّ، وألسنة بُكم، متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة ...) (5).

وهكذا فعلت سياسة معاوية فعلها في مجتمع الامام، فتمالا رؤساء أصحابه على الخيانة، وتخاذلوا عن نصره فلا يجيبونه حين 6.

ص: 270


1- مهطع: مسرع.
2- الأثرة - بالتحريك - اختصاص النفس بالنفع، وتفضيلها على غيرها. والسحق - بضم السين - البعد.
3- نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: 70.
4- مواسمه، جمع ميسم - بكسر الميم - وهو المكواة.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 106.

يدعوهم، ولا ينصرونه حين يستنصرهم، وما أكثر خطبه وكلماته التي أعلن فيها شكواه منهم، وبَرَمَه بهم، من ذلك قوله عليه السلام:

(يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال (1). لَوَددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سَدَماً (2). قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نُغَب التهْمام أنفاساً (3)، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب ...) (4).

وقد ظهر أثر هذه السياسة على أشدّه بعد صفين، فحين انتهت مهزلة التحكيم كما شاء دهاء عمرو بن العاص وغباء أبي موسى الأشعري أو سوء نيّته - دأب معاوية على إرسال جيوش صغيرة سريعة فتضرب، وتقتل، وتنهب، وتروع الآمنين دون أن يعترضها معترض. 7.

ص: 271


1- حجال: جمع حجلة، وهي القبة تكون فيها المرأة، وموضع يزن بالثياب للعروس. وربات الحجال: النساء.
2- السدم: الهم مع أسف أو غيظ.
3- النغب: بمعنى جرع، وعلى وزنها، وهي جمع نغبة كجرعة، وبمعناها. والتهمام - بالفتح - الهم. وقوله (أنفاساّ) أي جرعة بعد جرعة.
4- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 27.

فإذا ما دعا الامام رؤساء أصحابه إلى اللحاق بها تقاعسوا عنه وصمُّوا أسماعهم دونه.

وأظهر مصاديق هذه الخيانة تجلَّت يوم سَيّر معاوية جيوشه إلى مصر، فقد دعا الامام رؤساء أصحابه إلى إنجاد محمد بن أبي بكر قبل أن تفوت الفرصة وتملك عليهم مصر، فلم يجبه منهم مجيب حتى انتهى الامر بسقوط مصر في يد معاوية ومقتل محمد بن أبي بكر رحمه الله.

وقد كان عليه السلام يعرف كيف يجعلهم إلى صفه لو أراد، فيفضلهم، ويعطيهم الأموال، ويحملهم على رقاب الناس، ويرضي غرورهم القبلي، ولكن ذلك كان ينقلب به إلى جبار يدعم ملكه بالسيف، بدل أن يكون أباً للرعية تدعم سلطانه القلوب ... لقد قال لهم مرة:

( ... وإني لعارف بما يصلحكم ويقيم أودكم (1)، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي) (2).

* * *

هذا هو الواقع الإجتماعي والسياسي الذي كان عليه مجتمع الامام.7.

ص: 272


1- أودكم: إعوجاجكم.
2- نهج البلاغة، رقم النص: 67.

ومن الجليّ ان مجتمعاً يمارس حياته الإجتماعية والسياسية على هذا النحو مجتمع بعيد عن التقوى بُعداً شاسعاً، فالتقوى والقبلية شيئان متضادان، والتقوى ونصرة الباطل شيئان متضادان، والتقوى وحب الأثرة والتكبُّر شيئان متضادان.

هذا الواقع كيف كان يَسَع الامام أن يعدّله، هل كان عليه أن يجاري أهواء أصحابه فيبذل لهم ما تطمح إليه أنفسهم؟ ... لقد قال:

(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور ...).

هل يقتلهم؟ إن ذلك كفيل بإحراج مركزه وإثارة الناس عليه.

هل ينفيهم؟ إن ذلك يدفعهم إلى المجاهرة بولائهم لمعاوية وبذلك يجرون وراءهم قبائلهم.

لقد كان آمن المواقف معهم ابقاؤهم تحت سمعه وبصره، إن قعدوا عن نصرته لا يستطيعون نصرة عدوه. ثم حاول أن يبدل نظرة الناس إليهم ويبدل نظرتهم إلى هذه المطامح التي يطمحون إليها بوسيلتين:

الأولى: - وقد كان يتوجه بها إلى الرجل العادي - هي محاربة النزعة القبلية. فقد كان عليه السلام يعلم أن قوة هؤلاء الرؤساء مستمدة من إيمان قبائلهم بهم، فإذا تزعزع هذا الايمان لم يعد لهم من قيمة.

الثانية: هي الموعظة، وهو بين فيها للرؤساء أن ما يطمحون إليه

ص: 273

وهم من الوهم، وان حاضرهم خير لهم من دنيا يصيبونها عن طريق الخيانة والغدر ونصرة الباطل.

وسنرى أن الألوان الوعظية في نهج البلاغة تدور حول هذا القطب.

وقد كان يتوجه بهذه المواعظ أيضاً إلى الافراد العاديين الذين يخشى من أن يفتنهم رؤساؤهم بتحبيب دنيا معاوية إلى أنفسهم.

ولعل هذا يفسر كثرة تكرار الامام لمواعظه. فقلما ترى خطبة من خطبه خالية عن الموعظة. إنه كان يقصد من وراء هذا التكرار أن يثبت توجيهاته في ضمائرهم، لتكتسب هذه التوجيهات قوة الطاقة الشعورية فيأمن زيغهم وانحرافهم.

هذا عن الحالة السياسية والإجتماعية التي كانت تسود عصره عليه السلام وعن صلتها بالقسم الوعظي من النهج.

* * *

راجع في تعليل طلبه للحكم وسياسته النصوص التالية: 3 (الشقشقية) و 15 و 37 و 85 و 90 و 124 و 129 و 157 و 222 و 230 وكتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة - باب الكتب - رقم النص: 45 وكتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه امارتها - باب الكتب - رقم النص 62.

وراجع في ذمه لأصحابه وتبرمه بهم النصوص التالية:

ص: 274

25 و 27 و 29 و 34 و 39 و 67 و 95 و 104 و 160 و 117 و 123 و 164 و 178 و 180 و 190 (القاصعة) وكتابه إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر - باب الكتب - رقم النص: 35 وكتابه إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية - باب الكتب - رقم النص: 70 ورقم: 261 في المختار من حكم أمير المؤمنين.

ص: 275

ص: 276

النّظرَةُ الوَاقِعَيَّة إِلى الحَياةِ في الإسلام وَ الخُلُق العَربيّ

2

في الخلق (1) العربي الأصيل ظاهرة جديرة بالتنويه، حقيقة بالشرح، لأنها مفتاح كثير من الأخلاق العربية الكريمة. هذه الظاهرة التي عنيت هي (الواقعية) كما يفهمها العربي ويسير على ضوئها في الحرب، ومنع الجار، ونصر الضعيف، وبذل المال. وطلب اللذة.

إن الموت حتم على كل إنسان ومصير لكل حي. وموعد الموت مجهول غامض فلا يدري متى يحل ويأزف، وكما يدخل في الظن أن يكون بعيداً يدخل في الظن كذلك أن يكون قريباً. وماذا بعد الموت؟ إنه القبر والوحدة والوحشة. والمصير إلى القبر لازم فلا مفر منه ولا معدى عنه.ظ.

ص: 277


1- فكرة هذا الفصل مقتبسة من الأستاذ عبد اللطيف شرارة في كتابه: روح العروبة، من فصل قيم أدار فيه الحدث حول ظاهرة الكرم العربي وقد نقلنا عنه الشواهد الشعرية الأربع الأول، ونقلنا بقية الشواهد عن كتاب البخلاء للجاحظ.

والدنيا؟ ... أليس التقلب طبعاً أصيلاً فيها؟ أليس التلون ملازماً لها؟ فقد ينقلب الحال بالعزيز إلى الذل، وبالغني إلى الفقر، بالصحيح إلى المرض، وبالسعيد إلى الشقاء.

وإذا كان هذا كله حقاً فلماذا أصدّ النفس عن اللذة حين تشتهي اللذة؟ ولماذا الفرار من الحرب حين تستعر الحرب؟ ولماذا إمساك اليد عن بذل المال حين يَفِد صاحب الحاجة الفقير، وصاحب الغُرم الثقيل؟.

ان أيامنا على الأرض معدودة، ونهايتنا بعد الحياة الموت، وبعد الموت القبر، وبعد ذلك في حسبان الجاهليين - النسيان والفراغ، فلماذا لا نمتع أنفسنا بلذاتها؟ ولماذا نمسك أيدينا عن صنع وجود كريم لنا يبقى بعد ذهابنا في قلوب الناس وعلى ألسنتهم بما نصنع من خير، وبما نسدي من معروف؟

ان العجز كل العجز، والخرق كل الخرق أن يتمرد انسان على واقعه فيظن الخلود لنفسه، ويدفعه ذلك إلى إمساك يده عن البذل، وإمساك نفسه عن الحرب، والظن عليها بلذتها.

هذه النظرة الواقعية ليست شيئاً مرتجلاً، وإنما هي نتاج تفكير يفلسف الحياة والموت، وتقلب الأنساب بينهما، وهي أكثر ما تكون شيوعاً في الشعر العربي.

إسمع طرفة بن العبد كيف يقول في تعليل إسرافه في إنفاقه، وإسرافه في ملاذه، وعدم إمساك يده عن البذل، وعدم إمساك نفسه عن اللذة:

ص: 278

أرى قبر نحامٍ (1) بخيلٍ بماله *** كقبر غويٍّ في البطالة مفسد

ألا أيها ذا اللائمي أحضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي؟

فإن كنتَ لا تسْتطيعُ دفعَ منيّتي *** فدعني أبادرها بما ملكتْ يدي

* * *

ويقول يزيد بن الحكم الثقفي وهو ينصح ابنه:

ما بخلُ من هو للمنون *** وريبها غرض رجيم؟

ويرى القرونَ أمامه *** همَدوا كما هَمَد الهشيم (2)!

* * *

وحاتم الطائي يقول لزوجته:

أماويَّ ما يغني الثراءُ عن الفتى *** إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدر؟

أماويَّ إن يصبح صداي (3) بقفرة *** من الأرض لا ماء لديَّ ولا خمر

تري أن ما أنفقتُ لم يكُ ضرَّني *** وأن يدي مما بخلت به صفر (4)

* * *

ص: 279


1- النحيم: الزحير والتنحنح، وذلك لان البخيل إذا طلبت إليه حاجة كثر سعاله عندها ليداري ارتباكه.
2- الهشيم: اليابس من النبت.
3- صداي: الصدى، ذكر البوم. والصدى: الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها. والصدى: العطش. والصدى هنا: ما يبقى من الميت في قبره، يكني الشاعر بذلك عن الوحدة والوحشة.
4- الصفر - بالكسر - : الخالي، (بيت صفر) خال من المتاع. ورجل صفر اليدين: ليس فيها شئ.

وأياس بن القائف يقول:

يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم *** وترمي النوى (1) بالمقترين (2) المراميا

فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً *** كفى بالممات فرقة وتنائيا

* * *

وقال النمر بن تولب:

وحثَّت على جمع ومنع، ونفسها *** لها في صروف الدهر (3) حق كذوب

وكائن رأينا من كريم مرزأ (4) *** أخي ثقة، طَلْقِ اليدين وهوب

شهدتِ، وفاتوني وكنتُ حسبتني *** فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي

أعاذلُ إن يصبح صدَاي بقفرةٍ *** بعيداً نآني صاحبي وقريبي

تَرَي أن ما أبقيت لم أكُ ربَّه *** وأن الذي أمضيت كان نصيبي

وذي إبل يسعى ويحسبها له *** أخي نَضَبٍ (5) في رعيها ودؤ وب

غدت وغدا ربَّ سواه يسوقها *** وبدل أحجاراً وجال قليب (6)

وقال أيضا:

قامت تباكي أن سَبَأت (7) لفتيةٍ *** زِقاً (8) وخابيةً بعَودُ مقطَعِ (9) ل.

ص: 280


1- النوى: البعد. يقولون: (بعدت نواهم) إذا بعدوا بعداً شديداً.
2- المقترين جمع مقتر: الفقير المقل.
3- صروف الدهر: تقلباته ومصائبه.
4- رجل مرزأ: أي كريم، يصيب الناس خيره.
5- النصب: التعب والجهد.
6- القليب: البئر. والجال: جدار البئر.
7- سبأ الخمر: إذا اشتراها ليشربها. ولا يقال ذلك إلا في الخمر خاصة.
8- الزق - بالكسر - : السقاء، أو جلد يجز شعره أو صوفه ولا ينتف، يتخذ للشراب وغيره.
9- العود: الجمل المسن. والمقطع - بفتح الطاء - فحل الإبل الذي انقطع عن الضراب. يريد الشاعر أن صاحبته تباكت أسفاً على أن اشترى لأصدقائه خمراً ببعير مسن انقطع عن الضراب لا خير في لحمه ولا ينسل.

وقَريْت في مِقرى (1) قلائص أربعاً *** وقريت بعد قرى قلائص (2) أربعِ

أتبَكِّيا من كل شئ هيِّنٍ؟ *** سَفهٌ بكاء العين ما لم تدمعِ

فإذا أتاني إخوتي فدَعيهم *** يتعللوا بالعيش أو يلهوا معي

لا تطرديهم عن فراشي إنه *** لابدَّ يوماً أن سيخلو مضجعي

هلّا سألتِ بعادياءَ (3) وبيته *** والخلّ والخمرِ التي لم تُمْنَعِ؟

* * *

وقال الحارث بن حلزة:

بَيْنا الفتى يَسعى ويُسعى له *** تاح (4) له من أمره خالِجُ (5)

يترك ما رَقَّح (6) من عيشه *** يعيث فيه هَمَجِ هامج (7) ه.

ص: 281


1- المقرى - بكسر الميم - ، وسكون القاف، وفتح الراء - إناء يقرى فيه الضيف وقريت الضيف: أحسنت إليه.
2- قلائص: جمع قلوص: والقلوص من النوق الشابة، وهي بمنزلة الجارية من النساء.
3- عادياء. مراده: السموأل بن عادياء. قوله: (هلا سألت بعادياء.) الباء هنا بمعنى (عن) مراده (هلا سألت عن عادياء.) على نحو قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) أي عن عذاب، فالباء هنا بمعنى عن. يريد الشاعر أن يقول لصاحبته التي تلومه على بذله وكرمه أن عليها أن تسأل عن ابن عادياء الكريم الباذل لتعرف أن صاحبها مثله.
4- ناح له الشئ، وأتيح له: قدر له.
5- الخالج: الشاغل، يقال: خلجني كذا، أي شغلني، ويقال: خلجته أمور الدنيا.
6- رقح ماله: أصلحه.
7- الهمج: ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها. وقوله: هامج توكيد. يريد أن الإنسان إذا أصلح عيشه واطمأن يعرض له ما يفسد حاله وينغص عليه عيشه.

لا تكسَع الشَّوْل بأغبارها (1) *** إنك لا تدري من الناتج (2)

* * *

وقال الهذلي:

إنَّ الكرامَ مناهِبوك المجدَ كلهم فناهِبْ *** أخلف وأتلف، كل شئ * ذَرَّ عنه الريح ذاهِبْ

* * *

وقالت امرأة:

أنتَ وهبتَ الفتيةِ السلاهب (3) *** وإبلاً يَحارُ فيها الحالِب

وغنماً مثل الجراد الهارب *** متاع أيامٍ وكلِّ ذاهب

* * *

وقال تميم بن مقبل:

فأخلفْ وأتلفْ إنما المال عارة *** وكُلْهُ مع الدهر الذي هو آكله

* * *

هذه الواقعية هي في العربي خلق أصيل كما رأيت.

وقد جاء الإسلام فأكدها، وهذبها، وسما بها، ووجّهها وجهة اجتماعية.ض.

ص: 282


1- الكسع: أن تضرب دبر الإنسان بيدك أو بصدر قدمك. والشول - بسكون الواو - النوق التي خف لبنها. والاغبار جمع غبر - بضم فسكون - بقية اللبن في الضرع. وكسعت الناقة بغبرها أي ضربت ضرعها بالماء البارد ليتراد اللبن في ظهرها.
2- الناتج: الذي ستنتج له هذه النوق، فربما تكون أنت، وربما يكون غيرك. فإذا كان الموت شيئا لازما لنا، وكنا نعتقد بأن وراء دنيانا هذه دنيا أخرى أعظم وأحفل وأنبل، أو دنيا أخرى أنكد وأجفى وأبلغ في الايذاء فلماذا لا نعد العدة لرحيلنا، ولماذا لا يلهينا حاضرنا الحقير عن مستقبلنا المرقوب؟
3- السلهب من الخيل: الفرس الطويل على وجه الأرض.

فإذا كان الموت شيئاً لازماً لنا ، وكنا نعتقد بأن وراء دنيانا هذه دنيا أخرى أعظم وأحفل وأنبل ، أو دنيا أخرى أنكد وأجفى وأبلغ في الإيذاء فلماذا لا نعدّ العدة لرحيلنا ، ولماذا يلهينا حاضرنا الحقير عن مستقبلنا المرقوب ؟ ولماذا التكالب والوحشية؟ ولماذا نُصرّ على أخذ الدنيا عن طريق الختل والغدر؟ ولماذا نصر على ظلم إخواننا من الناس في سبيل أن نزيد ذهبنا المكدس درهماً جديداً؟ ولماذا نباغض إخواننا في الدين والإنسانية والوطن في سبيل عرض حقير؟ فنفسد حياتنا على أنفسنا، ونفسد حياة إخواننا، ونعيش غرباء، لا تجمعنا عاطفة، ولا تصل بين قلوبنا رحمة، ولا يتألق في أعيننا لإخواننا حب ... ألا يكفينا أن الموت سيفرق بيننا؟ لا ... لا ... أكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً.

هذه الواقعية الوادعة المحببة، وهذا الشعور الإنساني الفياض الدافق، كانا غريبين عن نفوس الناس وقلوبهم في مجتمع العراق أيام الإمام عليه السلام، وقد كان الامام يعمل على إعادة الشعور بها إلى النفوس، وسنجده في بعض الألوان التي احتواها القسم الوعظي من كلامه ينعى على الناس تركها، ويحضهم على الرجوع إليها، والصدور في سلوكهم عنها.

* * *

وثمة لون آخر من كلامه عليه السلام ربما لا يسمى وعظاً، ولكنه يندد فيه بالناس على تركهم لهذا اللون من النظر إلى الحياة والموت، ويدعوهم إلى الرجوع إليه.

قال:

( ... وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير

ص: 283

فيه إلا إدباراً، والشرُّ إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً ... اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدَّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً (1)، أو متمرداً كان بأذنه عن سمع المواعظ وقراً (2) ...) (3).

وقال:

( ... فمن آتاه الله مالاً فليَصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسيرَ والعاني، وليعطِ منه الفقير والغارم (4)، وليصبر نفسه (5) على الحقوق والنوائب، فإن فوزاً بهذه الخصال شرَف مكارم الدنيا ودَرْك فضائل الآخرة) (6).

* * *

راجع النصوص التالية: رقم 23 و 108 و 115 و 127 و 140 و 164 و 165.0.

ص: 284


1- الوفر: المال الكثير
2- الوقر: ثقل الاذن وقلة سماعها.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 127.
4- الغارم: من عليه دين.
5- صبر نفسه: حبسها.
6- نهج البلاغة، رقم النص: 140.

دَعْوَةٌ إِلى التَوازن بَيْن الدّنيا والآخرَة مَوقِفُ الإِمَام مِنَ العَمَل لِلدُّنيا ، مَوْقِفُهُ مِنَ الفَقْر

3

لا يريد منا الإمام عليه السلام أن نقطع أنفسنا عن دنيانا وأن نحرمها لذات هذه الدنيا، وأن نغلّ غرائزنا وشهواتنا عن الانطلاق. إن التحرر عن طريق الحرمان شئ عظيم ونبيل، ولكن أكثر الناس لا يستطيعونه، ولا يقوون على احتماله.

فها هو عليه السلام يقرر في إحدى كلماته المضيئة الهادية عقم كل محاولة ترمي إلى اقتطاع الإنسان من واقعه: واقع جسمه وغرائزه ورغباته كإنسان، وواقع حياته ذات المطالب والحاجات، وواقع كينونته الإجتماعية.

يقرر عليه السلام عقم كل محاولة ترمي إلى اقتطاعه من هذا الواقع بالتنكر لغرائزه ورغباته وحاجات حياته ولكن لماذا؟. لان أسر هذه الغرائز والرغبات مودع في طبيعة الإنسان، ولا يسعه التفلت من أسرها إلا بالاستحالة إلى ذات أخرى.

ص: 285

قال عليه السلام:

(الناس أبناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب أمه) (1).

كنى بذلك عن أن دوافع الإنسان إلى إجابة حاجات نفسه وشهواتها مودعة فيه، وإذا كانت مودعة فيه فهي جزء من كيانه، وهي تسهم في حَبْك جزء من نسيج وجوده الإنساني، ولذلك فهو يحبها ويقبل عليها، ويأخذ بحظ منها، ولكن لا لوم عليه في ذلك، فهو حينما يقبل عليها إنما يلبي بإقباله هاتفاً ملحاً لا قبل له بكتم صوته مهما أوتي من عزيمة ومضاء.

وهنا تأتي قصة عاصم بن زياد شاهد صدق على ما نقول:

دخل عليه السلام على العلاء بن زياد الحارثي يعوده فلما رأى سعة داره قال:

(ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ وبلى ان شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها (2)، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة).

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن ة.

ص: 286


1- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 303.
2- أطلع الحق مطلعه: أظهره حيث يجب أن يظهر. ومطالع الحقوق مصارفها الشرعية.

زياد. قال: وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليَّ به، فلما جاء قال:

(يا عدي (1) نفسه لقد استهام بك الخبيث (2)، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك).

فقال عاصم: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مطعمك؟ ... قال:

(ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا (3) أنفسهم بضعفة الناس كيلا يَتَبَيَّغَ (4) بالفقير فقره) (5).

ففي هذه القصة نرى الإمام عليه السلام يلوم العلاء على سعة داره، ويتخذ لومه سبيلاً إلى بيان وجوه الانتفاع بها، فيشير إلى أنه لا حرج على المرء في أن يجمع بين الدنيا والآخرة، فيمتع نفسه في الدنيا بمباهجها، ويبلغ في الآخرة عليا الدرجات.

ثم يؤنب عاصماً على فعله حين هجر الدنيا ولبس العباءة، فبين له 7.

ص: 287


1- عدي: مصغر عدو.
2- الخبيث: الشيطان. استهام بك: تعلق بك.
3- يقدروا أنفسهم: يساووا أنفسهم بضعفاء الناس، فيكونوا قدوة للأغنياء.
4- يتبيغ: يهيج بالفقير ألم الفقر فيهلكه.
5- نهج البلاغة، رقم النص: 207.

أنه بفعله هذا أناني يعمل لنفسه، إذ أن جدوى عمله لو استطاعه ووالاه لا ترجع إلا إليه، وأما غيره من الناس فلا يصيب منه نفعاً وخاصة أهله وولده وهم الصق الناس به، وبين أن من الخير له أن يجمع بين العمل لنفسه والعمل لغيره، وأن يجمع بين الدنيا والآخرة. والطيبات.؟ هل حرمها الله؟ كلا ان الإنسان مدعو لان يصيب منها شريطة ألا يستغرق فيها على نحو يلهيه عن الغاية الرفيعة لوجوده.

* * *

وقال عليه السلام:

(للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه وساعة يَرُمّ معاشه (1)، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمُل. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم) (2).

وقال عليه السلام:

(خذ من الدنيا ما أتاك، وتولّ عما تولى 9.

ص: 288


1- يرم معاشه: يصلح معاشه.
2- نهج البلاغة، باب المختار من الحكم، رقم النص: 39.

عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب) (1) - (2).

* * *

هذا موقفه من الدنيا: لا حرج على الإنسان أن يطلب الدنيا ويسعى إليها ويصيب من لذاتها، ولكن عليه أن يطلب الدنيا من طريق الحلال، ويصيب من لذتها ما يحل ويجمل، ثم لا يتهالك على الدنيا ولذاتها على نحو غير إنساني، بحيث ينقلب من انسان ذي مشاعر نبيلة، وإمكانات رفيعة عالية إلى مجرد آلة ... آلة لجمع النقود وتكديسها، لتنفق في وجوه غير إنسانية. إن هذا ليس جديراً بالإنسان أن يفعله، أجمل في الطلب لتعطي لنفسك حقها ولربك حقه.

* * *

والفقر ...؟ ما موقف الامام منه؟

إن الامام ليكره الفقر، ويستعيذ بالله منه، ويأمر الناس بالاستعاذة بالله منه، وينعته بأقبح النعوت. قال عليه السلام:

(الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة) (3).

(الفقر يخرس الفطن عن حجته) (4).3.

ص: 289


1- أي فإن لم تترك ما تولى عنك وأردت أن تطلبه، فليكن طلبك جميلاً، واقفاً بك عند الحق.
2- نهج البلاغة، باب المختار من الحكم رقم النص: 293.
3- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 56.
4- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 3.

(الفقر الموت الأكبر) (1).

(ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب.

ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) (2).

وقال لابنه محمد بن الحنفية:

(يا بني إني أخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت) (3).

وإن إنساناً ينعت الفقر بهذه النعوت لا يمكن أن يقال عنه إنه يحبذ الفقر ويكره الغنى، ولقد كان عليه السلام يستعيذ بالله من الفقر، ويسأله أن يغنيه، فمن دعاء له عليه السلام:

(اللهم صُنْ وجهي باليسار (4)، ولا تبذل جاهي بالاقتار (5)، فأسترزق طالبي ه.

ص: 290


1- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 163.
2- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 388.
3- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 319.
4- صيانة الوجه: حفظه من ذل السؤال، واليسار الغنى. يسأل الله تعالى أن يغنيه لئلا يضطر إلى السؤال.
5- بذل الجاه: إسقاط المنزلة. والافتقار الفقر. يسأل الله تعالى ألا يفقره فتسقط منزلته.

رزقك، واستعطف شرار خلقك، وأبتلى بحمد من أعطاني، وافتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله وليُّ الإعطاء والمنع، إنك على كل شئ قدير) (1).

ومن دعاء له عليه السلام:

(اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أضام في سلطانك، أو اضطهدوا لأمر لك) (2).

وهكذا ترى أنه عليه السلام يحارب الفقر حرباً لا هوادة فيها، ويحذر منه، ويستعيذ بالله أن يبتليه به.

ان الدنيا عنده جديرة بالإقبال عليها، والعمل فيها، والاخذ بحظ من متعها ولذاتها، وإن الفقر عنده أمر مذموم خطر، على الإنسان أن يتخلص منه ويستعيذ بالله من بلوائه.

* * *

راجع النصوص التالية: 207 و 213 و 223، وفي باب المختار من حكم أمير المؤمنين راجع النصوص التالية: رقم 3 و 56 و 163 و 319 و 388 و 390 و 393 و 416.3.

ص: 291


1- نهج البلاغة، رقم النص: 223.
2- نهج البلاغة، رقم النص: 213.

ص: 292

إتّباعُ الهَوى وَطُولُ الأمَل : مَا يَعني بهمَا الإِمَامُ ؟ وَمَا آثارُهُمَا فِي حَيَاةِ الإِنسَان؟

4

وإذ قد تم لنا أن نلّم بالمثل الاعلى للحياة في الإسلام، والواقع الإجتماعي الذي كان يعانيه الامام، والواقعية العربية التي احتضنها الدين، ورأي الإمام عليه السلام في الدنيا والآخرة، والغنى والفقر، فلنأخذ سبيلنا إلى دراسة القسم الوعظي من نهج البلاغة.

والقسم الوعظي على ضروب وألوان، ففيه مواعظ بالتحذير من اتباع الهوى وطول الامل، وأخرى بالحث على العمل قبل فوات الفرصة، وثالثة بالتذكير بالماضين، ورابعة بتقلب الدنيا.

* * *

ماذا يعني اتباع الهوى وطول الامل في الدنيا؟

أما اتباع الهوى فهو يعني أن الإنسان يبني مشاريعه على أسس

ص: 293

غير عقلية، ومن ثم فهي غير واقعية، وإنما هي قائمة على نزوات وشهوات ضخمها الخيال.

وأما طول الامل فيعني أن الإنسان يغمض عينيه عن أعظم حقيقة هو لابد ملاقيها وهي الموت.

وإذاً فهذا اللون من الوعظ موجه إلى الذين يتهالكون على الدنيا تهالكاً خطراً يجرهم إلى أمرين خطيرين: أولهما تزييف الواقع الذي يحيونه، وهذا ما يسميه بطول الامل، وثانيهما ضمور الحاسة الأخلاقية في النفس، إلى حد يجعل الإنسان ضعيفاً أمام رغائبه وأهوائه. ويترك إلى هذه الرغائب والأهواء أمَر صياغة مصيره.

قال عليه السلام:

(أيها الناس، ان أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الامل. فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وأما طول الامل فينسي الآخرة. ألا وان الدنيا قد ولت حذَّاء (1)، فلم يبق منها إلا صُبابة (2) كصُبابة الاناء اصطبها صابها، ألا وإن الآخرة قد أقبلت، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم ء.

ص: 294


1- حذاء: سريعة.
2- الصبابة: البقية من الماء واللبن في الاناء.

القيامة وان اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل (1)).

العمل للدنيا على نحو يوجب ضمور الحس الأخلاقي في النفس، وعلى نحو يوجب تزييف الواقع وحسبان الخلود، مما يوجب نسيان الآخرة، والاندفاع في حياة مادية، تجرد الإنسان من معناه الإنساني لتحيله إلى مجرد آلة لجمع النقود والاستمتاع، هذا العمل شر كله، لأنه يفسد الشخصية الإنسانية ويهبط بها، ولذلك فهو عمل منهي عنه.

ثم نبه إلى أن طول الامل والتزييف للواقع أمر لا مبرر له فالدنيا سريعة (حذاء) وهي بالنسبة إلى كل شخص، (لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء) فلماذا طول الامل وما مبرره؟

وهاتان الآفتان النفسيتان: اتباع الهوى وطول الامل، لا تحلان إلا في نفس اطرحت النظرة الواقعية الإسلامية. وقد كان الواقع الإجتماعي في زمن الامام يبعد بين الإنسان وبين هذه الواقعية وينأى به عنها.

وهذا النحو من العمل للدنيا يُسبِّبُ التفسخ الإجتماعي، فهو لا يقتصر بآثاره الضارة على الفرد وحده، وإنما يمتد بهذه الآثار إلى المجتمع.

قال عليه السلام:2.

ص: 295


1- نهج البلاغة، رقم النص: 42.

( ... قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة. وإنما أنتم إخوان على دين الله، ما فرّق بينكم إلا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا توازرون، ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادُّون، ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه؟ ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم وقلة صبركم عما زوي (1) منها عنكم، كأنها دار مقامكم، وكأن متاعها باق عليكم!! زوي عنكم: زواه أي نحاه. وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله. قد تصافيتم على رفض الآجل، وحب العاجل، وصار دين أحدكم لعقة (2) على لسانه، صنيع من قد فرغ من عمله وأحرز رضى سيده) (3).1.

ص: 296


1- زوي عنكم : زواه أي نحاه .
2- عبر باللعقة عن الاقرار باللسان مع كونه مخالفاً بالقلب.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 111.

وقال عليه السلام:

( ... قد اصطلحتم على الغل فيما بينكم (1)، ونبت المرعى على دِمَنِكم (2)، وتصافيتم على حب الآمال، وتعاديتم في كسب الأموال، لقد استهام بكم الخبيث (3) وتاه بكم الغرور) (4).

أرأيت إلى هؤلاء الذين جمعتهم الإنسانية فوحَّدت غرائزهم وقواهم ومداركهم، ثم جمعهم الدين والوطن فوحدا آمالهم، وآلامهم، وأهدافهم، ومطامحهم، كيف جعلهم العمل للدنيا، على نحو جنوني، يفقدون أجلّ ميزاتهم الإنسانية فلا يتوازرون، ولا يتناصحون ولا يتباذلون. واستحالت هذه النبالات في أعماقهم إلى غرائز ذئبية فخبثت سرائرهم، وفسدت ضمائرهم، وانفصمت عرى الودِّ فيما بينهم، وانظر كيف ساقهم ذلك إلى الجبن الإجتماعي، فيغضي أحدهم عن عيب صاحبه، لأنه يخشى أن يواجهه بعيبه.1.

ص: 297


1- اصطلحتم: اتفقتم، والغل: الحقد. أي اتفقتم على تمكين الحقد في النفوس.
2- الدمن: جمع دمنة، وهي الحقد القديم. ونبت المرعى على دمنكم: أي أن حقد بعضكم على بعض مستور بظواهر النفاق فيما بينكم. وأصل معنى الدمن: نفايات الإنسان من بطنه وأرواث الماشية وأبوالها، وسميت بها الأحقاد لأنها أشبه شئ بها، وقد تنبت على هذه القذارات الأعشاب الخضراء فتسترها بمنظر جميل، يخفي تحته قذارة تعافها النفس، فهكذا الأحقاد الإنسانية المخبأة تحت ستار من التصنع والرياء.
3- استهام: أصله من (هام على وجهه) إذا خرج لا يدري إلى أين يذهب، أي أخرجكم الشيطان من نور الفطرة وضياء الشريعة إلى ظلمات الضلال والحيرة.
4- نهج البلاغة، رقم النص: 131.

وقد عرفت أنه عليه السلام لا يتنكر لمن يعمل للدنيا على نحو لا يلهيه عن الآخرة، ولا يحيله إلى آلة جشعة لا تعرف معنى للشبع ولا للوقوف، وهو في هذا اللون الوعظي لا يدعو إلى هجر الدنيا وإنما يدعو إلى التخفيف من الظراوة في طلبها ويدعو إلى النظر إليها من زاوية الواقع وحده.

وإن طائفة من الناس تحيا هذا اللون البشع من الحياة المادية الخالصة التي وصفها الإمام عليه السلام في النص الذي قدمناه لبعيدة كل البعد عن المثل الاعلى للحياة في الإسلام، فهؤلاء الذين أقفرت ضمائرهم من الشعور بالله، وصار دين أحدهم لعقة على لسانه، قد انقلب كل منهم إلى أنانية تمشي، فيتنكر لمجتمعه ويسير على هدى شهواته.

وإن العمل للدنيا على هذا النحو الذي يفقد الإنسان أجلّ ميزاته لهو عمل جدير بأن يحارب.

* * *

راجع النصوص التالية: رقم 42 و 84 و 103 و 111 و 131، وفي باب المختار من الحكم راجع: رقم 18 و 36.

ص: 298

المَوَعْظَةُ بالتّاريخ ، وظيفة التّاريخ

5

والتذكير بالماضين وبما عرض لهم من طوارق الدهر ونوازل الأيام، وبما ألمّ بهم من نكبات وآلام، وكيف أن كل ما نصبوا أنفسهم لجمعه من مال لم يغن عنهم شيئاً حين حلَّ بهم الموت ... هذا التذكير بالماضين يتخذه الإمام عليه السلام وسيلة إلى تجسيم الواقع الذي يزيفه الناس، ويفرون منه، ويتمردون عليه.

والتاريخ عند العاملين للدنيا على نحو جنوني ينقلب إلى مادة للتسلية واللهو بدل أن يكون منبعاً للعبرة ومقيلاً من العثرة، وينقلب أيضاً صدى ميتاً لكائنات لا تصلهم بها صلة، ولا تشدهم إليها وشيجة، فلا تثير مآسية فيهم طائف حزن، ولا تمدهم تجاربه بالبصيرة.

ويحاول الامام في هذا اللون من مواعظه أن يصل ما انقطع بينهم وبين التاريخ بصلات الفكر والعاطفة، ووشائج العقل والقلب، ليعود

ص: 299

التاريخ في أنفسهم مادة غنية بالحياة والحركة، فهي توجه وترشد، وتمسك بالإنسان عن الزيغ والانحراف.

قال عليه السلام:

( ... وخلّف لكم عِبراً من آثار الماضين قبلكم،من مُستمتع خلاقهم (1) ومُستفتح خَناقهم (2)، أرهَقتهم (3) المنايا دون الآمال، وشذَّبهم عنها تخرُّم الآجال (4)، لم يَمْهَدوا في سلامة الأبدان (5) ولم يعتبروا في أنف الاوان (6) ... أوَ لستم أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء؟ تحتذون أمثلتهم، وتركبون قِدَّتهم (7)، وتطأون جادتهم (8)؟ فالقلوب قاسية عن حظها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها، كأن المعنيَّ سواها (9)، وكأن الرشد في إحراز دنياها (10)).1.

ص: 300


1- الخلاق: النصيب الوافر من الخير.
2- الخناق: حبل يخنق به. كناية عن أنهم لم يغتنموا الفسحة في العمر.
3- أرهقتهم: أعجلتهم.
4- انقضاء آجالهم قطعهم (شذ بهم) عن بلوع آمالهم.
5- لم يمهدوا. أي لم يهيأوا أنفسهم للقاء الله تعالى، وهم في حال السلامة.
6- أمر أنف - بضمتين - أي أمر جديد مستأنف لم يسبق به قدر.
7- القدة: الطريقة.
8- تطأون جادتهم: تسيرون على سبيلهم، بلا انحراف عنهم في شئ.
9- كأن المعني: كان المقصود بالتكاليف الشرعية سواها.
10- نهج البلاغة، رقم النص 81.

وهكذا يقرر عليه السلام صلة التاريخ بهم، وأنه ليس غريباً عنهم فهو تأريخ آبائهم وأمثالهم.

ويقرر أيضاً أن هذا التاريخ مشلول عن عمله، فهو لا يقوم بدوره في صياغة حياتهم، لأنهم لا يزالون ينتهجون نفس الخطة التي انتهجها من قبل آباؤهم، فكأن الدنيا عندهم غاية كل شئ ومنتهى كل غاية.

وقال عليه السلام:

( ... فقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال، وحذر الإقلال (1) وأمن العواقب - طولَ أمل واستبعاد أجل - كيف نزل به الموت، فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه، محمولاً على أعواد المنايا (2) يتعاطى به الرجال الرجال، حملاً على المناكب، وإمساكاً بالأنامل. أما رأيتم الذين يأملون بعيداً، ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً كيف أصبحت بيوتهم قبوراً وما جمعوا بوراً (3)، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين) (4).0.

ص: 301


1- الاقلال: الفقر.
2- أعواد المنايا: النعش. (يتعاطى به الرجال.) يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء، وأخرى على أكتاف هؤلاء.
3- البور: الفاسد الهالك. وقال تعالى: (وكنتم قوماً بوراً) أي هالكين.
4- نهج البلاغة، رقم النص: 130.

وإذن فلم يغن عن هؤلاء تزييفهم لواقعهم، وغرورهم بأنفسهم، وحسبانهم أنهم خالدون.

لقد دهمهم هذا الواقع وهم يحسبون أنهم في أمان، فهل أغنت عنهم أموالهم وهل حصنتهم قصورهم؟ لا، لقد ذهبوا، فليكن لك فيما صار إليه أمرهم عبرة تدفعك إلى اليقظة، وترحض عنك الغفلة.

ومن البيّن أن الإمام عليه السلام في هذا اللون من مواعظه لا يريد الناس على أن يفروا من دنياهم، ويتركوا العمل لها، فقد رأيناه يكره هذا اللون من السلبية

إنما يريد ان يحملهم على أن ينظروا إلى الحياة من زاوية الواقع وأن يصدروا في سلوكهم عن هذه النظرة الواقعية الوادعة المصيبة.

* * *

راجع النصوص التالية: رقم 20 و 32 و 81 و 109 و 130 و 180 و 224 وفي باب الكتب وصيته إلى ولده الإمام الحسن عليه السلام رقم: 31.

ص: 302

نَظَرَةُ الإسلام في تكوينِ الشَّخْصِيَّة الفَاضِلَة

6

ذكر الإمام عليه السلام أن طول الامل ينسي الآخرة.

ومن البيِّن أن الإنسان حين ينسى أن ثمة عالماً آخر سيصير إليه، فإنه يحصر جميع وجوه نشاطه في العمل لدنياه، ولا يتورع في عمله هذا عن سلوك أقبح الطرق الموصلة إلى حيازة المزيد من المال، والتمتع بالمزيد من القوة، وهكذا يدفع طول الامل إلى اتباع الهوى، الذي عرَّفه الامام بأنه يصدُّ عن الحق، فهو يحمل صاحبه على ركوب كل شئ في سبيل الوصول إلى ما يريد.

فإذا تمكن طول الامل واتباع الهوى من نفس إنسان حملاه على طلب الدنيا على نحو جنوني يجعله خطراً اجتماعياً، وعلى نسيان العمل للآخرة.

في بعض الألوان الوعظية التي يحتويها القسم الوعظي من نهج

ص: 303

البلاغة يحارب الإمام عليه السلام هذا الانحراف، ويدعو الغافلين عن مصيرهم إلى العمل له.

فإذا كان طول الامل غروراً خادعاً، وكان اتباع الهوى باطلاً، وكنا نعلم بأن المصير هو الموت، واننا سنصير بعد الموت إلى دنيا أخرى نجزى فيها بما قدمناه من أعمالنا: نثاب إن أحسنا ونؤخذ بجرائرنا إن كنا من ذوي الجرائر.

وإذا كان هذا كله حقاً فلماذا لا نقدم لأنفسنا ما نحرزها به غداً، ونحن نعلم أننا حينذاك لا نملك أن نعمل شيئاً، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، ونحن نعلم أن الموت قد يلمُّ بنا في أي لحظة، فلماذا التسويف؟

ومن البيِّن أنه عليه السلام لا يدعو إلى ترك الدنيا وإنما يدعو إلى العمل للآخرة. وكأن الامام يدعو إلى الجمع بين الآخرة والدنيا، فهو لا ينهى عن العمل للدنيا، وإنما ينهى عن الاستغراق في هذا العمل، بحيث ينسى الإنسان الآخرة ويقفر ضميره من الشعور بالله، وينقطع ما بينه وبين مجتمعه من أواصر الود والرحمة، وذلك كله يحول بينه وبين أن يبلغ المثل الاعلى في الإسلام.

قال عليه السلام:

(فليعمل العامل منكم في أيام مَهَله (1) قبل إرهاق أجله (2)، وفي فراغه قبل أوان ل.

ص: 304


1- المهل: المهلة والفسحة.
2- إرهاق الاجل: أن يقرب الاجل، فلا يبقى للمفرط فرصة يتدارك بها ما فاته من العمل.

شغله، وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكَظَمِهِ (1)، وليمهد لنفسه وقدومه، وليتزود من دار ظَعْنِه لدار إقامته) (2).

* * *

وما نشك في أن هؤلاء الذين كان الإمام عليه السلام يدعوهم إلى العمل للآخرة قبل فوات الفرصة كانوا قوماً يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويصومون رمضان، ويحجون البيت، فماذا كان يريد الامام منهم غير هذا؟

نعم، إن هؤلاء كانوا يأتون كل هذا وزيادة، وقد يحسب السطحيون ان هذا وحده كاف لجعل الإنسان فاضلاً، ولكنه في ميزان الامام أضعف الايمان.

فهؤلاء الذين كان يتوجه إليهم الامام بكلامه هذا كانوا يصلون ويصومون، ويحجون البيت.

ولكن القبلية كانت تعصف بهم عصفاً شديداً.

ولكن الأحقاد والمطامع كانت تدفعهم إلى التناكر فيما بينهم، وكانت تسِلُّ من أرواحهم كل خلق إنساني حميد.

ولكن سياسة معاوية كانت تستهويهم، فتحملهم على الخيانة وتحملهم على الرضا بالذلة، وتحملهم على أن يصيروا عبيدا.4.

ص: 305


1- الكظم - بالتحريك - الحلق، أو مخرج النفس. والاخذ بالكظم كناية عن التضييق عند قرب الاجل أو حلوله.
2- نهج البلاغة، رقم النص: 84.

ولكنهم كانوا فرديين لا يأبهون للمجتمع ولا يحسبون لآلامه حساباً.

كانوا غرباء عن هذه الخلائق. ولذلك لم يرضَ عنهم الامام، ولذلك استثارهم إلى العمل للآخرة قبل فوات الفرصة.

ولم يكن هذا العمل الذي أراده منهم صلاة ولا صوماً ولا حجاً، فتلك أمور كانوا يأتون بها، ولا يقعدون عنها.

لقد كان العمل الذي أراده هو الفضيلة، هو ان يكون كل منهم خليَّة اجتماعية حية، تكدح في سبيل خير المجموع، هو أن يكونوا أحراراً فلا تستعبدهم الشهوات، فتحملهم على الانحراف عن الحق، ولا تستعبدهم الحياة فتحملهم على الرضا بها مسفَّة حقيرة عارية من كل نبالة رفيعة وهدف عظيم. كان يريدهم أن يحطموا أصنام اللحم التي يعبدونها، أعني ساداتهم ورؤسائهم ومن له عليهم سلطان ليخلصوا العبادة لله وحده.

قال عليه السلام:

( ... إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب، ولها يرضى ويسخط، أنه لا ينفع عبداً - وان أجهد نفسه وأخلص فعله - أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفس، أو

ص: 306

يَعُرَّ (1) بأمر فعله غيره، أو يستنجح (2) حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه، أو يلقى الناس بوجهين، أو يمشي فيهم بلسانين، إعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه) (3).

وقال عليه السلام:

( ... ولا تُرخِّصوا لأنفسكم (4) فتذهب بكم الرخص فيها مذاهبَ الظلمة، ولا تُداهِنوا فيهجم بكم الادهان على المعصية (5). عبادَ الله: إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وإن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه، والمغبون من غبن نفسه (6)، والمغبوط من سلم له دينه (7)، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من ه.

ص: 307


1- يَعُرِّ: يعيب ويلطخ، أي أن من أعظم الجرائم أن يعيب الإنسان غيره بأمر قد فعله هو.
2- يستنجح: أي يطلب نجاح حاجته من الناس بالابتداع في الدين.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 151.
4- أي لا تسامحوا أنفسكم في ترك المعصية، ولا تستهينوا لصغائر الذنوب، لان ذلك يصير عادة لكم فتقعوا فيما وقع فيه الظلمة من الاستهانة بالجرائم.
5- المداهنة: النفاق، وإظهار خلاف ما في الباطن. والادهان مثله.
6- المغبون: المخدوع.
7- المغبوط: الذي نال نعمة استحق بها ان تتطلع النفوس إليه، وأن ترغب في نيل مثل نعمته.

انخدع لهواه وغروره. واعلموا أن يسير الرياء (1) شرك، ومجالسة أهل الدنيا مَنْسَاة للايمان (2) ومحضرة للشيطان (3). جانبوا الكذب فإنه مجانب للايمان ... ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب، ولا تباغضوا فإنها الحالقة (4)، واعلموا أن الامل يسهي العقل، وينسي الذكر، فأكذبوا الامل فإنه غرور، وصاحبه مغرور) (5).

في كل هذا لا يدعو الامام إلى ترك الدنيا والانعتاق من أسرها، وإنما يدعو إلى تناولها برفق، ويدعو الناس إلى أن يكونوا كائنات سامية، تجمع الدنيا إلى الآخرة، فلا تمعن في تلك إمعاناً يلهيها عن الاستعداد لهذه، ولا تغرق في هذه إلى حد يعطل فيها شخصية الإنسان.

* * *

راجع النصوص التالية: رقم 28 و 62 و 81 و 83 و 84 و 88 و 92 و 151 و 155 و 171 و 181 و 188 و 196 و 201 و 212 و 228 و 235.4.

ص: 308


1- الرياء. أن تعمل ليراك الناس، وقلبك غير راغب في العمل.
2- منساة للايمان. موجبة لنسيان الايمان، والغفلة عنه.
3- محضرة للشيطان. مكان لحضوره.
4- فإنها الحالقة. فان المباعظة الحالقة، أي الماحية لكل خير وبركة.
5- نهج البلاغة، رقم النص 84.

نماذِجُ مِنْ وَعْظِ الامام بتقلّبِ الدّنيا مَعْنَى الزّهد وَعَناصره

7

والقسم الذي يعظ فيه الإمام عليه السلام بتقلب الدنيا وعدم قرارها على حال هو أشد الألوان الوعظية، فيما يبدو، حلوكة وتشاؤماً، إنه يصف فيه الدنيا بالتقلب، والمكر، والخداع. ويشبهها بالحية السامة، ويدعو إلى الزهد فيها، والانقطاع عنها.

ويلوح، في بادي النظر، أن الامام في هذا القسم يدعو إلى ترك العمل للحياة، ويدعو إلى الاستراحة إلى خيالات الموت والقبر، فيشل في الإنسان الرغبة في الحياة والاقبال عليها، ويقعد به عن الجهاد من أجلها، ويحيله إلى إنسان متذائب واهن القوى.

ولكن قليلاً من التأمل والامعان كفيل بأن يبين خطأ هذا الرأي.

فقد سبق منا أن تعرفنا على رأيه في الدنيا والعمل لها، فرأيناه يحبذ العمل للدنيا والاقبال عليها، والتمتع بطيباتها، شريطة ألا يقعد

ص: 309

به ذلك عن العمل لآخرته والاستعداد لها، وشريطة ألا ينقلب به العمل للدنيا إلى وحش يصيب مجتمعه بالضرر في سبيل أن يزيد ثرائه، ورأيناه لا يشجع الانقطاع عن الدنيا والاستغراق في العمل للآخرة وحدها، ويعتبر ذلك أنانية لا يجمل بالرجل الكامل أن يمارسها، يتبين ذلك كله في موقفه من العلاء بن زياد وأخيه عاصم. ورأيناه يجمل رأيه في الدنيا والآخرة في هذه الفقرات:

(للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم) (1).

هذا هو موقف الامام من الدنيا والآخرة، فهو يشجع على العمل للدنيا في غير إسراف، ويأمر بالعمل للآخرة ولكن في غير إعنات. وهذا هو الموقف الطبيعي المعقول من الدنيا والآخرة، فلا هو يقعد بالمجتمع عن تقدمه، ولا هو يحيل الإنسان إلى آلة حاسبة فحسب.

ولكن هذا الموقف لا يلائم ما يقال عن هذا اللون من ألوان وعظه عليه السلام من أنه يدعو فيه إلى الاستراحة إلى خيالات الموت والقبر.

وإذا شئنا أن نلتمس حلاً صحيحاً لهذا التنافي الذي يلوح بين0.

ص: 310


1- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص: 390.

رأي الامام في الدنيا وبين ما يبدو من هذا اللون الوعظي وجدنا مفتاح هذا الحل في وصفه للزهد وتعريفه له.

فالإمام عليه السلام يعرض في هذا اللون الوعظي جملة من الحقائق التي لا مراء فيها بأسلوب وعظي أعني مثير للرهبة في النفس.

فهو يقرر في كلامه أن حياتنا بقدر ما تبدو رتيبة هي متقلبة في عنف، وبقدر ما تبدو مسالمة هي تتربص في كتمان، وبقدر ما تبدو جميلة عظيمة فإنها تنطوي على حقارات وقبائح كثيرة، ثم يكون ختامها الموت، وهو حتم علينا سواء أرضيناه أم كرهناه.

وإذن فهؤلاء الذين يحسبونها مسالمة وادعة دائماً، ويعتبرونها جميلة عظيمة دائماً، ويعتبرونها حلوة سائغة دائماً، مخدوعون إذ لا واقع لما يحسبون، فهي في واقعها خليط من السعادة والشقاء، والقلق والاطمئنان، والشدة واللين.

والإمام عليه السلام يبتغي في هذا اللون الوعظي أن يعرفهم بواقعها ليزهدوا فيها.

والزهد الذي يريده الامام غير الزهد في وعي العامة من الناس.

فالزهد في وعي هؤلاء لا يعدو أن يكون موقفاً سلبياً من الحياة، يشل في الإنسان إمكانات الخلق والابداع عنده، ويحيله إلى إنسان متذائب واهن. وكلمة (زاهد) في وعي هؤلاء تستدعي صورة كائن أقل ما يقال فيه أنه عالة على المجتمع.

ص: 311

أما الزهد عند الامام فهو تعبير آخر عن رأيه السابق في الدنيا والآخرة.

قال عليه السلام في صفة الزهد:

(أيها الناس: الزهادة قصر الامل، والشكر عند النعم، والورع (1) عند المحارم، فإن عَزَبَ ذلك عنكم (2) فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم) (3).

فقد رأينا أن طول الامل ينسي الآخرة، ونسيان الآخرة يدفع بالمرء إلى اتباع هواه، وعند ذلك يعود الإنسان خطراً اجتماعياً، لان ذلك ينقلب به إلى حيوان ذي غرائز طاغية، لا كابح لها، تطلب المزيد من كل شئ.

فقصر الامل عبارة عن وعي الإنسان لواقع حياته، وأن الموت مدركه الآن أو غداً. وهذا الوعي يمسك يده عن الظلم حين لا يستطيع أن يصل إلى أغراضه إلا عن طريق الظلم، ويسلّ من نفسه الشره والمطامع والاحقاد.9.

ص: 312


1- الورع. الكف عن الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، وأيضا الكف عن المعاصي مع القدرة عليها وترك الشبهات.
2- فإن عزب ... أي بعد. أي فان عسر عليكم أن تقصروا آمالكم، وتكونوا في الزهادة على الكمال المطلوب فلا يفوتكم التحلي بفضيلة شكر النعم، والصبر عند المحرمات.
3- نهج البلاغة، رقم النص 79.

والشكر عند النعم، وهو الركيزة الثانية التي يقوم عليها الزهد، عبارة عن فعل الخير، وإسداء المعروف إلى الناس، فليس المراد من الشكر هنا الشكر باللسان، لان الشكر باللسان لا يقدم ولا يؤخر في رقي المجتمع وتقدمه. إن الشكر المراد هنا هو الشكر بالفعل. فهذا الذي يعرف الدنيا على واقعها زاهد فيها ولذلك فهو لا يمسك يده عن اصطناع المعروف لأنه يعي أن ما ينفقه في سبل الخير باق له عند الله وعند الناس. أما ما أمسك يده عليه فيصير إلى غيره ليتمتع به.

والورع عند المحارم وهو الدعامة الثالثة من دعائم الزهد نتيجة طبيعية لفهم الدنيا على واقعها، فإذا كانت الدنيا لا تستقر على حال، وكانت خاتمتها الموت، فلماذا نتهالك عليها على نحو يذهب بما فيها من بهجة، فتغدو سلسلة من القلق والتربص والخداع والآلام؟ لماذا لا نأخذ منها بقدر، مترقبين نهايتها سعيدة كانت أو شقية، فلئن كانت سعيدة فستنقضي ولماذا لا نقضيها على نحو أفضل، ولئن كانت شقية فستنقضي أيضاً، ولماذا نزيدها شقاء وتعاسة؟ ... حسبنا ما نلقى منها.

هذا هو الزهد.

فهل تجد فيه تنفيراً من الدنيا، وإقصاء عنها؟ لا، إنه الموقف الصحيح من الدنيا بين موقف المتهالكين عليها على نحو جنوني وبين موقف المباعدين لها على نحو مرضي.

وقال عليه السلام:

ص: 313

(الزهد كلمة بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما أتاكم) (1)، ومن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه) (2).

فأولئك الذين يملك عليهم ألبابهم فوات شئ كانوا يترقبون الحصول عليه، لا يؤمَن منهم أن يقارفوا الاثم في سبيل الحصول عليه، وهؤلاء الذين تمتلئ أنفسهم بتصورات هذا الفائت لا يعود لديهم من فراغ النفس وصفاء الضمير ما يتيح لهم التسامي إلى دنيا أرحب وأنبل وأحفل بمثل الخير.

وهؤلاء الذين يأسون على ما فاتهم، ويفرحون بما أتاهم لا يستطيعون أن يشكروا الله على نعمته بأفعالهم، فليسوا، والحال هذه، ذوي فائدة للمجتمع.

إن الزاهدين هم الذين ينظرون إلى الأمور نظرة واقعية، فلا يملك عليهم ألبابَهم فوات ما فاتهم، ولا يعمي بصائرَهم عن واقع حياتهم فرحُهم بما أوتوا.

هذا هو الزهد الذي دعا إليه الامام أصحابه وأرادهم عليه، فهل فيه تنفير عن الدنيا؟ اللهم لا، وإنما هو كما قلنا الموقف الطبيعي بين9.

ص: 314


1- سورة الحديد، الآية 23. وتتمة الآية ( ... والله لا يحب كل مختال فخور).
2- نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين - رقم النص 439.

موقف المتهالكين على الدنيا على نحو جنوني، والمباعدين لها على نحو مَرَضي.

هذا هو الزهد الذي يدعو إليه الإمام عليه السلام في هذا القسم الوعظي من كلامه، وهو موقف يوازن بين حاجات الإنسان الجسمية والروحية، وهو موقف يجعل من الإنسان كائناً اجتماعياً ذا جدوى لمجتمعه، ينفعه ويغنيه. ويجب أن نعي أن المتهالك على الدنيا، الفاقد للحس الأخلاقي، المجرد من الإنسانية، غير الشاكر، وبعبارة وجيزة غير الزاهد، هو خطر على المجتمع وعالة عليه أكثر من خطر ذلك الزاهد الذي فهم الزهد فهماً خاطئاً فاتخذ من الدنيا موقفاً سلبياً مَرَضياً.

لان غاية صنيع هذا انه لا يعمل، وانه يعيش عالة على أهله وذويه، أما ذاك فعمله انه يمتص دماء الفقراء بنشاطه الذي لا يعود على هؤلاء الفقراء في صورة خدمات اجتماعية.

ولا نريد أن ننكر أن هذا اللون من وعظ الامام يظهر الدنيا في صورة كالحة منفرة إلى حد بعيد، ولكن هذا لا يدل على رأي الامام في الدنيا بقدر ما يدل على أن معاصريه الذين توجه إليهم بهذا الخطاب كانوا مغرقين في الدنيا إغراقاً خطراً دفعهم إلى الخيانة: خيانة مجتمعهم وكيانهم السياسي، ودفعهم إلى التناحر فيما بينهم، ودفعهم إلى عبادة أصنام اللحم: رؤساء القبائل والزعماء، فإنسان يمارس هذا اللون من الحياة لا يمكن انتشاله من واقعه لحظة يتملى فيها مصيره بعين بصيرة إلا بهذا اللون من التعبير والتصوير، وقديماً قال علماء البلاغة:

ص: 315

ان المخاطب كلما ازداد إغراقاً في الانكار حسن من المتكلم أن يمعن في تأكيد ما يقول.

وهؤلاء الذين كان الامام يتوجه بخطابه إليهم كانوا على هذا الحال أو قريب منه، فقد بلغ من تزييفهم لواقع حياتهم أن خانوا مجتمعهم فتمالأوا مع معاوية وباعوه ضمائرهم بالمال، وأشعلوا في هذا المجتمع روح القبلية التي دفعت بهيئاته إلى أن يقف كل منها موقفاً تناحرياً ذا عواقب وخيمة.

وإذن فليس في هذا اللون الوعظي تشويه للحياة الدنيا، وإبعاد عنها، وذم لها، إذا تناولها الإنسان كما ينبغي أن يتناولها، فلم يسرف فيها إسرافاً يحمله على الظلم، وينقلب به إلى حيوان خطر.

وإنما هو كبقية الألوان التي قدمنا فيما سبق، ينصح فيه بالنظر إلى الدنيا كما هي لا كما تصورها لنا أوهامنا وأحلامنا، فإذا ما تم لنا فهمها دعانا إلى العمل فيها على هدى هذا الفهم. وقد رأينا أن موقفه من الحياة هو الموقف الصحيح الذي يدعو إليه الإسلام، أما الوعاظ الذين أخذوا كلامه على ظاهره، وأما ناشئة الجيل التي انفعلت بايحاءات غربية، فهم جميعاً مخطئون في فهمهم للقسم الوعظي من نهج البلاغة، لأنهم لم يلقوا بالاً إلى المثل الاعلى في الإسلام الذي أراد الامام أصحابه على الصعود إليه، ولم يلقوا بالاً إلى الواقع الإجتماعي الذي حمل الامام على أن يفيض في مواعظه هذه الإفاضة ويعرض فيها هذه الألوان. ولم يعرفوا النظرة الواقعية الإسلامية إلى الحياة الدنيا، النظرة التي تعبر عن نظرة الامام إلى الحياة والإنسان.

* * *

ص: 316

وفي خاتمة هذه الدراسة نقدم بعض نماذج هذا اللون الوعظي الذي أدرنا حوله هذا الحديث.

قال عليه السلام:

(عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كسَفْر (1) سلكوا سبيلاً فكأنهم قد قطعوه، وأمّوا عَلَماً (2) فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى المُجْري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها (3)؟ وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها؟ فلا تنافَسوا في عز الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها، فإن عزها وفخرها إلى انقطاع، وإن زينتها ونعيمها إلى زوال، وضرائها وبؤسها إلى نفاد (4)، وكل مدة فيها إلى ء.

ص: 317


1- السفر - بفتح، فسكون - جماعة المسافرين، أي أن الإنسان في هذه الحياة كالمسافر في مسافة الطريق، فإنه يصل إلى نهاية طريقه، والإنسان لابد واصل إلى نهاية حياته.
2- أمّوا: قصدوا.
3- المجري: الذي يجري فرسه إلى غاية معلومة، فإنه مهما طال جريه لابد واصل في النهاية إلى غايته.
4- نفاد: فناء.

انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء، أوليس لكم في آثار الأولين مُزْدَجر (1)؟ وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر ان كنتم تعقلون؟ أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون؟ والى الخلف الباقين لا يبقون؟ أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتى: فميت يبكى، وآخر يعزى، وصريع مبتلى، وعائد يعود، وآخر بنفسه يجود (2)، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه؟ وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي).

(ألا فاذكروا هادم اللذات ومنغص الشهوات وقاطع الأمنيات عند المساورة للأعمال القبيحة، واستعينوا الله على أداء واجب حقه وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه) (3).

وقال عليه السلام:

(أما بعد، فإني أحذركم الدنيا فإنها 7.

ص: 318


1- مزدجر: مكان للانزجار والارتداع.
2- من (جاد بنفسه) إذا قارب أن يقضي نحبه، كأنه يسخو بها ويسلمها إلى خالقها.
3- نهج البلاغة، رقم النص: 97.

حلوة خَضِرة، حُفّت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة وراقت بالقليل، وتحلّت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حَبرتها (1)، ولا تؤمن فجعتها، غرَّارة ضرَّارة، حائلة (2) زائلة، نافذة بائدة (3)، أكّالة غوَّالة (4)، لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا بها - أن تكون كما قال الله تعالى سبحانه (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا (5) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) (6) لم يكن امرؤٌ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة (7)، ولم يلقَ في سرائها بطناً إلا منحته من ضرائها ظهراً (8)، ولم تُطلَّه (9) فيها دِيمةُ ف.

ص: 319


1- الحبرة - بالفتح - السرور والنعمة.
2- حائلة: متغيرة.
3- نافذة: فانية، بائدة: هالكة.
4- غوالة: مهلكة.
5- الهشيم: النبت اليابس المتكسر.
6- سورة الكهف، الآية: 45، وأول الآية: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا).
7- العبرة: الدمعة قبل أن تفيض.
8- كنى بالبطن والظهر عن الاقبال والادبار.
9- الطل: المطر الضعيف.

رخاء (1) إلا هَتنتْ عليه مزنةُ (2) بلاء، وحَريٌّ إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له متنكرة، وان جانب فيها اعذوذب واحلولى أمرَّ منها جانب فأوبى (3)، لا ينال امرؤ من غضارتها رغباً (4) إلا أرهقته من نوائبها تعباً (5)، ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم (6) خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية فانٍ من عليها. لا خير في شئ من أزوادها إلا التقوى) (7).

* * *

راجع النصوص التالية: رقم 45 و 52 و 61 و 79 و 80 و 81 و 97 و 101 و 109 و 111 و 112 و 131 و 143 و 189 و 194 و 244 وكتابه إلى الحارث الهمداني - باب الكتب رقم: 69 وفي باب المختار من الحكم النص رقم: 119 ورقم: 191.

وصف الزهد ومعناه: رقم النص 79 وفي باب المختار من الحكم النص رقم: 439.9.

ص: 320


1- الديمة: مطر يدوم في سكون، لا برق ولا رعد معه. والرخاء: السعة.
2- المزنة: السحابة البيضاء. وهتنت: انصبت وتدفقت.
3- أوْبَى: صار كثير الوباء.
4- الغضارة: النعمة والسعة.
5- ألحقت به التعب.
6- القوادم: جمع قادمة، وهي الواحدة من أربع أو عشر ريشات في مقدم جناح الطائر.
7- نهج البلاغة، رقم النص: 109.

فهرس الكتاب

مقدمة الطبعة الثالثة ... 5

مقدمة الطبعة الثانية ... 7

مقدمة الطبعة الأولى ... 11

المجتمع والطبقات الإجتماعية

17 - 151

فكرة المجتمع في نهج البلاغة ... 19

الطبقة الإجتماعية ... 25

القيمة العليا في الإسلام : التقوى والتقسيم الطبقي ... 35

مدخل إلى دراسة الطبقات في نهج البلاغة ... 55

العسكريون ... 63

القضاة ... 75

الولاة ... 85

الكتاب ... 95

ص: 321

الزراع ... 105

التجار والصناع ... 111

العمال ومن لا يستطيعون عملاً ... 129

المجتمع القبلي. موقف الإمام من الروح القبلية ... 137

الحاكم

153 - 186

الحكم ضرورة لكل مجتمع ... 155

من شروط الحاكم ... 159

طبيعة الحكم عند الإمام ، وعلاقة الحاكم بالشعب ... 163

حقوق الرعية على الحاكم ... 173

طبيعة الحق ، وحقوق الحاكم على الرعية ... 177

التعاون بين الحكم والشعب ... 183

المغيبات

187 - 245

موقف الرفض للمغيبات ... 189

فلسفة موقف الرفض : نزعة التجريب : عرض ومناقشة ... 191

اهتمام العلم الحديث بطاقات الإنسان الخفية ... 199

التعليل العلمي لظاهرة المغيبات ... 205

المغيبات في نهج البلاغة ... 211

مغيبات أُخرى ذكرها ابن أبي الحديد ... 233

ص: 322

الوعظ

247 - 320

تمهيد : خطأ أسلوب الوعاظ التقليديين ، والطريقة الصحيحة لدراسة النصوص ... 249

المثل الأعلى للحياة في الإسلام ، والواقع الإجتماعي والسياسي حين تولى الإمام علي الحكم إصلاحات الإمام علي وردود الفعل ضدها ... 253

النظرة الواقعية إلى الحياة في الإسلام والخلق العربي ... 277

دعوة إلى التوازن بين الدنيا والآخرة موقف الإمام من العمل للدنيا ، موقفه من الفقر ... 285

اتباع الهوى وطول الأمل : ما يعني بهما الإمام ؟ وما آثارهما في حياة الإنسان ... 293

الموعظة بالتاريخ ، وظيفة التاريخ ... 299

نظرة الإسلام في تكوين الشخصية الفاضلة ... 303

نماذج من وعظ الإمام بتقلب الدنيا معنى الزهد وعناصره ... 309

الفهرس ... 321

ص: 323

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.