رؤية الهلال في فقه اهل البيت علیهم السلام

هوية الكتاب

رؤية الهلال في فقه اهل البيت (علیهم السلام)

محمّد عيسى البنّاي

مؤسسة الامام الرضا (علیه السلام)

للبحث والتحقيق العلمي

قم المقدسة

27 محرم 1440

ص: 1

اشارة

ص: 2

رؤية الهلال

في

فقه اهل البيت(علیهم السلام)

ص: 3

جنسية الكتاب

ص: 4

كلمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد، فقد تميز فقه أهل البيت (علیهم السلام) عن غيره من المذاهب بعدة مميزات جعلته تُحرز قصبَ السبق على فقه المكاتب الأُخر. وان اطلالة سريعة على كتب الفقه الامامي كفيلة برسم صورة واضحة لتلكم المميزات، حيث يجد القارئ فيها العمق والتجديد والتطور في الآراء والنظريات، مضافاً للحيوية الظاهرة في جميع جوانبه بدون استثناء، كما وإنه يحيط بتلبية كل احتياجات المكلفين، ومواكبته لكل العصور، مهما طرأ عليها من تقدم وتطور؛ وذلك لقوة متانته ومصادره، واستحكام أدلته غير المشوبة بآراء البشر واستحساناتهم؛ واقتصاره على التنوير بأنوار كلام أهل البيت (علیهم السلام) مع بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه. فلا جرم في أنه بقي غضاً طرياً لا جمود فيه ولا نقص يعتريه. ومن جملة أبحاثه المهمة بحث الهلال؛ إذ بثبوته تتعين وتحدد مواقيت كثير من العبادات وغيرها. فإن هذا البحث مستلّ من المحاضرات التي ألقاها سماحة الاستاذ والفقيه المحقق آية الله الشيخ مسلم الداوري دام ظله في المسائل المستحدثة على عدة من فضلاء وطلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية. وقد أفرد هذا البحث القيم أحد فضلاء هذه الحوزة المباركة العلامة المحقق حجة الاسلام الشيخ محمد

ص: 5

عيسى البناي من تلك المحاضرات. ومما لفت نظرنا ما ذكره سماحة الشيخ الاستاذ المعظم حول هذا البحث حيث قال: >إننا غالباً نحترم ونوافق قول المشهور. وفي هذا المقام كان سعينا على عدم مخالفة المشهور ولكن ظواهر الأدلة لم تسمح لنا بذلك. ونؤكد بأن العصمة لله ولأهل البيت (علیهم السلام) . ونرجو من الله أن يحفظنا عن الخطأ ويجعل ما وصلنا إليه هو الصواب وإن كان الاحتياط حسنا على كل حال<.

وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نشكر الإخوة الذين بذلوا جهداً في تحقيق الكتاب وإخراجه بهذه الصورة البهية منهم: فضيلة العلامة حجة الاسلام الشيخ مرتضى الصالحي والأخ كمال زين العابدين. نسأل الله تبارك وتعالى أن يديم لنا بقاء سماحة آية الله المعظم الشيخ الاستاذ في خير وعافية تحت رعاية سيدنا ومولانا الحجة بن الحسن العسكري >صلوات الله عليه وعلى آبائه< وينفعنا بعلمه إنه سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين.

مؤسسة الامام الرضا (علیه السلام)

للبحث والتحقيق العلمي

قم المقدسة

27 محرم 1440

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله جاعل القمر نوراً ومقدّره منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب، وجاعل الأهلّة مواقيت للنّاس والحج، وصلى الله وسلّم على أفضل خلقه وأشرف بريّته سيدنا ونبينا محمد وآله أنوار الدجى وأهلّة سماء الهدى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً واللعن على أعدائهم وظالميهم أجمعين إلى قيام يوم الدين

وبعد، فإنّ هذا البحث مستلّ مما كتبته تقريراً لمحاضرات الاُستاذ المعظّم آية الله الحاج الشيخ مسلم الداوري مد ظلّه في المسائل المستحدثة التي ألقاها على عدّة من فضلاء وطلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بمدينة قم المشرّفة، وقد أفردته عنها لما لموضوعه من أهميّة كبرى؛ إذ بثبوت الهلال تتعيّن وتتحدّد مواقيت كثير من العبادات وغيرها، كتعيين أول شهر رمضان وليلة القدر وأوّل شهر شوال، وتعيين التاسع من ذي الحجة للوقوف بعرفات وما بعده للكون بمنى، ومقدار عِدد النساء، وحلول آجال الديون والبيوع والإجارات، وغير ذلك مما يبتني عليه تحديد الوظائف

ص: 7

الفردية والاُسرية والاجتماعية العبادية والمعاملاتية.

ويتناول هذا البحث إحدى أهم المسائل المرتبطة بالهلال، وهي مسألة كفاية ثبوت الهلال في بلدٍ لغيره من البلدان المشتركة معه في جزء من الليل وعدم كفايته، مستعرضاً أدلة الطرفين والمناقشات التي دارت حولهما ليخلص إلى ما هو الصحيح من القولين. فلذا كان القسم الأول منه في بيان أدلة القائلين بعدم شرطية اتحاد الاُفق أو ما يمكن أن يستدلّ به على ذلك مع إيراد ما نوقشت به، والجواب عن تلك المناقشات. وأما القسم الثاني منه فكان في بيان أدلة القائلين باشتراط اتحاد الاُفق مع مناقشتها. وبعد ذلك تم استعراض مقتضى الأصل العملي على فرض عدم تماميّة أدلة الطرفين. وكانت خاتمة البحث بذكر تنبيهين مهمين:

أولهما: في بيان المراد من الرؤية المعتبرة في ثبوت الهلال.

والثاني: في ثبوت الهلال بحكم حاكم الشرع.

واللهَ أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله بقبول حسنٍ. وأسأله تعالى أن يديم لنا بقاء الشيخ الاُستاذ المعظّم في خير وعافية تحت رعاية سيّدنا ومولانا الحجّة بن الحسن صلوات الله عليه وعلى آبائه، وينفعنا بعلمه، إنّه سميع مجيب.

محمّد عيسى البنّاي

ص: 8

تحرير محل البحث

اشارة

ثبوت الهلال في اُفق بلد هل يوجب ثبوته في بلد آخر إذا كان البلدان مختلفي الاُفق وكانا مشتركين في ليل واحد ولو في قسم منه أم لا؟.

المشهور على اعتبار اتحاد الاُفق. وعن بعضٍ اشتراط تقارب البلدان كما في مكة المكرمة والمدينة أو بغداد والكوفة أو قم وأصفهان بالنسبة إلى اتحاد الاُفق.

وعن جماعة - منهم العلامة في المنتهى والفيض في الوافي وظاهر الدروس وصاحب الجواهر والمحدِّث البحراني في الحدائق والمحقق النراقي في المستند، والمحقق الخوانساري وسيدنا الاُستاذ قدست أسرارهم - عدم اعتبار اتحاد الاُفق. فإذا ثبت في بلد كفى ذلك لبقيّة البلدان المشتركة معه ولو في جزء من الليل.

يقع الكلام في اشتراط اتحاد الاُفق في ثبوت الهلال لبلد آخر وعدمه.

وتنقيح القول في ذلك يقتضى تحديد محل البحث، ثم ذكر أدلة الطرفين وتقييمها.

أما محل البحث فإنّ للمسألة صوراً؛ إذ الهلال تارة يُرى في البلد،

ص: 9

واُخرى خارج البلد، وثالثة يُرى في بلد آخر، وهذا البلد تارة يتّحد مع بلد المكلّف في الاُفق، واُخرى يختلف معه فيه. وفي الصورة الأخيرة تارة يكون البلد الذي رئي فيه الهلال غربيّاً بالنسبة إلى بلد المكلّف واُخرى يكون شرقيّاً بالنسبة إليه.

أما الصور الثلاث الاُول فلا إشكال فيها، فإنّه إذا رئي الهلال في البلد أو خارجه أو في بلد آخر متّحد معه في الاُفق فإنّه يثبت بلا ريب. وكذا إذا رئي في بلد مختلف الاُفق وكان شرقيّاً بالنسبة إلى بلد المكلّف؛ لأنّ لازم ذلك رؤيته في الجملة. فهذه الصور الأربع عليها الإجماع.

إنّما الكلام في الصورة الخامسة، وهي ما إذا رئي الهلال في بلد غربي وكان بلد المكلّف في جهة الشرق، فالمشهور كما قلنا على عدم الثبوت؛ إذ قد يرى الهلال في البلد الغربي بينما لم يكن قابلاً للرؤية في بلد المكلّف الذي هو شرقي بالنسبة إليه.

ولكن عن جماعة عدم اعتبار اتحاد الاُفق؛ فإنّ الهلال يثبت إذا رئي في البلد الغربي حتى لو اختلفت البلدان في الاُفق وكانت بينهما عدّة ساعات بعد أن يكون ليل البلدين واحداً.

وهذان القولان للعامة أيضاً؛ فإنّ مذهب القاسم وسالم وإسحاق لزوم وحدة الاُفق. وقال الليث وبعض أصحاب الشافعي بعدم اشتراط وحدة الأفق

ص: 10

وأنّه إذا رآه أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم((1)).

ص: 11


1- ([1]) المغني3: 7. وعن ابن رشد: (فيه خلاف. فأما مالك فإنّ ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنّه إذا ثبت عند أهل بلد أنّ أهل بلد آخر رأوا الهلال أنّ عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه وصامه غيرهم. وبه قال الشافعي وأحمد. وروى المدنيون عن مالك: أنّ الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية، إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك. وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من اصحاب مالك. واجمعوا على أنّه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالاندلس والحجاز) بداية المجتهد ح1 / 288. وممن جمع الأقوال الشوكاني في نيل الأوطار فقال: (قد اختلفوا في ذلك على مذاهب ذكرها صاحب الفتح، احدها: أنّه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية غيرهم. حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمد وسالم واسحاق. وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه. وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية. وثانيها: أنّه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم، فيلزم الناس كلّهم؛ لأنّ البلاد في حقه كالبلد الواحد؛ إذ حكمه نافذ في الجميع. قاله ابن الماجشون. وثالثها: أنّها إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً، وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر. قاله بعض الشافعية. واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب. وحكاه المعنوي عن الشافعي. وفي ضبط البعد أوجه ... رابعها: أنّه يلزم أهل كل بلد لا يتصوّر خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم. حكاه السرخي. خامسها: مثل قول ابن الماجشون المتقدم . سادسها: أنّه يلزم إذا اختلفت الجهتان ارتفاعاً وانحداراً، كأن يكون أحدهما سهلاً والآخر جبلاً، أو كان كل بلد في إقليم. حكاه المهدي في البحر عن الإمام يحيى والهادوية .... والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية، واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنّه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلّها، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أنّ هذا القول خلاف الاجماع، قال: لأنّهم إنّما أجمعوا على أنّه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والأندلس؛ وذلك لأنّ الاجماع لا يتم، والمخالف مثل هؤلاء الجماعة) نيل الاوطار ح4 ص194.

ص: 12

ادلة القائلين بعدم شرطية اتحاد الاُفق

· الدليل الأول: الاعتباري العقلي

· الدليل الثاني: الدليل النقلي

ص: 13

ص: 14

أدلة القائلين بعدم شرطية اتحاد الاُفق أو ما يمكن أن يستدل به

الدليل الأول: الظاهرة الكونية، وهو ما أفاده السيد الاُستاذ(قدس سره)

إنّ القمر لما كان يكتسب النور من الشمس لمواجهته إيّاها، فنصفه المقابل للشمس مستنير دائماً، ونصفه الآخر مظلم كذلك، وهو يطلع في الليلة الرابعة عشرة من كل شهر، بل الخامسة عشرة فيما لو كان الشهر تامّاً للرائي من جهة الشرق مقارناً لغروب الشمس بقليل ويكون مستنيراً لمواجهته الكاملة مع الشمس، ثم هذا النور يأخذ في قوس النزول شيئاً فشيئاً في الليالي اللاحقة إلى أن ينتهي في أواخر الشهر إلى نقطة المغرب فلا يرى منه أي جزء ؛ لأنّ الطرف المستنير غير مواجه للرائي ويكون المواجه له هو النصف المظلم منه، وهو المعبّر عنه بتحت الشعاع والمحاق. ثم يخرج عن تحت الشعاع، ويظهر مقدار من نوره تدريجياً، وأول ما يرى - عند إمكان رؤيته - بصورة هلال ضعيف، فأول ما يمكن رؤيته منه يسمى هلالاً، وهو معنى تكوّن الهلال وتولّده، أي أنّ القمر للشهر السابق انقضى وهذا قمر جديد لهذا الشهر الحالي. ثم إنّ هذا المقدار المضيء من الهلال

ص: 15

يزداد تدريجياً فيصل إلى نصف النصف، أي يرى نصف البدر، وذلك في الليلة السابعة من الشهر القمري، ويسمى: التربيع. حتى إذا بلغ الليلة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة صار بدراً. وفي هذه الحالة تتوسط الأرض بين الشمس والقمر، ولذلك يكون طلوع البدر مقارناً لغروب الشمس. ومن ثَمَّ يأخذ في الليالي اللاحقة لها في التناقص فيقل السطح المستنير للقمر حتى يرى ربعه، وذلك في الليلة الحادية والعشرين، فيقال لتلك الحالة: التربيع الثاني. ويكون طلوع القمر في هذه الحالة في منتصف الليل، حتى يعود في آخر الشهر هلالاً ليدخل بعد ذلك تحت الشعاع وبهذا ينتهي الشهر، وهكذا.

ومن هذا يظهر أنّه لا ارتباط لتكوّن الهلال بالأرض، فإنّ حالات القمر من الهلال والتربيع والبدر تحصل بواسطة حركته، وإن كان بواسطة حركته حول الأرض، فتولّد الهلال أمر تكويني واحد ينشأ من النسبة الحاصلة بين الشمس والقمر بلا مدخلية لحركة الأرض في ذلك؛ ولذا لا يؤثر اختلاف بقاع الأرض في حدوث هذا الأمر الكوني، ويكون خروج القمر من وضع المحاق بداية شهري قمري جديد لجميع بقاع الأرض اتحدت مشارقها ومغاربها أو اختلفت، لا لخصوص البلد الذي يُرى فيه، ولا يفرق الحال بين أن يُرى في البقعتين المختلفتين في مغربهما ومشرقهما أو يُرى في بقعة دون اُخرى لمانع خارجي؛ لأنّ خروجه من المحاق حدث كوني واحد لا يتعدّد بتعدّد بقاع الأرض. وهذا بخلاف طلوع الشمس مثلاً فإنّه يتعدّد بتعدّد البقاع المختلفة فيكون لكل بقعة منها طلوع خاص بها من جهة حركتها.

وعلى هذا تكون رؤية الهلال في بلدٍ أمارة قطعية على خروج القمر عن

ص: 16

تحت الشعاع لأهل الأرض جميعاً لا لخصوص بلد الرؤية. وهذا إنّما يتّجه في البلدان المشاركة لمحل الرؤية في الليل ولو في جزء يسير منه بحيث تكون ليلة واحدة ليلة لهما، وإن كانت أول ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر، وهذا سيكون في نصف الكرة الأرضية، وأما النصف الآخر الذي تشرق عليه الشمس عندما تغرب عن النصف الأول فلا يشمله الحكم بكون الليلة أول الشهر لهم؛ لوضوح أنّ الوقت نهار عندهم((1)).

مناقشة الاستدلال وردّها:

نوقش استدلال السيد الاُستاذ (قدس سره) من قبل جماعة بوجهين: نقضي وحلّي.

أما الوجه النقضي فبالحالات الاُخرى للقمر من التربيع والبدر وغيرهما؛ فإنّ هذه الحالات تظهر للناظر من الأرض، ولا تتصوّر في الجانب المستنير من القمر؛ حيث إنّه لمقابلته للشمس مستنير دائماً؛ فلا هلال ولا تربيع ولا بدر إلا بالإضافة إلى الأرض وفرض الناظر منها إليه. ففي حال مقارنة الأرض والقمر للشمس لا يرى الناظر إلا النصف المظلم من القمر، وبعد خروجه من المحاق يرى خيطاً رفيعاً من النور وهو الهلال، ثم يأخذ هذا الخيط في الازدياد إلى أن يصل إلى نصف ما كان مظلماً من الوجه المقابل للناظر وهو التربيع، ثم يزداد الجزء المنير إلى أن يصل إلى البدر، وبعدها يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى الهلال ليدخل في المحاق مرة اُخرى.

ص: 17


1- ([1]) انظر المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 116-118.

فلو فرض عدم وجود الأرض وعدم الناظر لم يكن هناك إلا حالتين للقمر إحداهما الاستنارة الكاملة لنصفه المواجه للشمس والاُخرى الظلمة الكاملة للنصف الآخر غير المواجه لها.

والشاهد على ذلك أنّه لو فرض الناظر في كوكب آخر غير الأرض لما رأى تلك الحالات، وإنما يرى حالة واحدة وهي كون نصف منه مظلماً ونصف منه مستنيراً.

فاتضح بهذا صحة قياس طلوع القمر على طلوع الشمس، فكما أنّ هناك مشارق ومغارب للشمس فهناك أيضاً طلوع متعدّد للقمر حسب اختلاف المناطق على الأرض.

وفيه: أنّه وإن كان نصف القمر مضيئاً دائماً لمواجهته للشمس والنصف الآخر مظلم كذلك لعدم مواجهتها، إلا أنّ هذا لا يمنع من تكوّن الحالات المذكورة له. وليس حركة القمر تابعة لحركة الارض التي يتحقق منها الزوال والمغرب والفجر؛ إذ القمر متحرّك غير مستقر وبقياسه إلى الشمس وحركته تتولّد هذه الحالات. فالجزء المضيء منه لا يبقى على حاله وإنّما يدور وينتقل شيئاً فشيئاً، وتقابل كل جزء منه ظلمة في الجانب الآخر منه بسبب تلك الحركة، فتتكوّن حالة التربيع والبدر وغيرهما. فهي اُمور واقعيّة ولا مدخلية لبقاع الأرض والناظر منها في حدوثها، بل لجميع البقاع هلال واحد.

ومن هذا يظهر ما في الشاهد الذي ذكروه؛ فإنّ الناظر من كوكب آخر

ص: 18

أيضاً يرى هذه الحالات للقمر بنفس هذه الحركة لها. غايته أنّه قد يراها في زمان أو مكان مختلفين عمّا هو في الأرض.

وأما الوجه الحلي فهو التمسك بقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}((1)).

وقد قرّب بتقريبين:

التقريب الأول: أنّ الأهلة جعلت ميقاتاً للناس، وليس الهلال إلا خيطاً عريضاً يُرى عند الغروب، وسمّي هلالاً؛ لأنّه حين يُرى يهلُّ الناس بذكره. فالميقات ليس هو تكوّن الهلال في وقتٍ وخروجه عن المحاق مطلقاً، بل تكوّنه ورؤيته عند الغروب، وهذا هو المتبادر من الآية الشريفة بحكم كونها خطاباً لعامة الناس في أقطار الأرض. فميقات كل إنسان هو هلاله وقت غروب الشمس عن بلده. ومعنى هذا أنّ المقوّم لهلاليّة الهلال ثلاثة اُمور: رؤية الهلال وكونها عند الغروب وكونها في بلد الرائي. نعم قام الدليل على أنّ الرؤية طريق، وأما الأمران الآخران فلا بد منهما في اعتبار الهلال، فإذا انتفى أحد الأمرين فليس بهلال. وعليه فلا يقال لما يُرى في البلاد البعيدة إنّه هلال، والهلال منصرف عنه، وقد وقع في الآية طريقاً إلى معرفة بداية الشهر إذا رُئي في البلد لا ما إذا رُئي في بلاد بعيدة.

ص: 19


1- ([1]) سورة البقرة: 189.

يلاحظ عليه: بأنّ الآية الشريفة بصدد تقرير ما عليه العرب من جعل الأهلّة لضبط التاريخ ومعرفة أيام الشهر بالنظر إلى حال القمر في الليل لسهولة هذا الطريق، وليست بصدد التقييد بكون الرؤية في بلد الرائي، وأنّها لا تشمل الرؤية في غير بلده لو رُئي هناك.

وبعبارة اُخرى: الآية تدلّ على أنّ الهلال معيار للمواقيت، ولا دلالة فيها على أنّ أول الشهر مخصوص بمن يمكنهم رؤية الهلال، وأنّ غيرهم ممّن يشترك معهم في ليل واحد لا يكون أول الشهر بالنسبة لهم.

أضف إلى ذلك أنّه على القول بتقييد الرؤية بمحل الرائي يلزم عدم كون الأهلة مواقيت؛ إذ يكون يوم السبت مثلاً أول الشهر في بلد المكلّف؛ لرؤية الهلال في ليلته، بينما يكون يوم الأحد هو أول الشهر للبلاد التي يختلف اُفقها عن البلد الأول بنصف ساعة مثلاً. فلا دلالة للآية على التقييد بمكان الرائي، ولا يفهم الانصراف عن الهلال الذي يُرى في بلاد اُخرى، بل يمكن إبداء قرينة على كون الأهلة لجميع الناس وهي قوله تعالى: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} فالأهلة مواقيت لجميع الناس ولا اختصاص لها ببلد دون آخر. وكذا قوله تعالى {وَالْحَجِّ}، فإنّ الحجاج يجتمعون لأداء المناسك في زمان واحد وهم من أماكن متعدّدة وآفاق مختلفة.

لا يقال: يلزم من اعتبار الشروط المتقدمة أن لا يكون الهلال ميقاتاً للناس في البلاد التي يزيد فيها النهار عن أربع وعشرين ساعة كما هو المقرّر في الآية الشريفة، فإما أن لا يكون لهم ميقات، أو يكون لهم ذلك

ص: 20

بلا اعتبارٍ لتلك الشروط، ويكون المعتبر هو الهلال.

لأنّا نقول: إنّ الهلال وإن اختلفت رؤيته إلا أنّ حركته لما لم تكن مرتبطة بالشمس والأرض فحالاته واحدة بالنسبة لنقاط الأرض، فحتى لو لم يكن في نقطة من الأرض غروب إلا أنّ الهلال موجود، وحركة القمر يمكن أن تكون من طرق تحديد الليل والنهار في تلك النقطة التي ليس فيها غروب.

وعلى هذا يمكن أن يكون ما ذكرناه شاهداً على عدم اعتبار تلك الشروط. فلا يصح الاستدلال بالآية الشريفة على اعتبارها واستفادتها من ظاهر الآية لتكون دليلاً على لزوم اتحاد الاُفق في ثبوت الهلال.

التقريب الثاني: ما عن بعض الاعلام حيث جعله أول الشواهد على مختاره الموافق للمشهور. وسيأتي مع مناقشته في الشاهد الأول على قول المشهور.

الدليل الثاني: الدليل النقلي

اشارة

وهو النص القرآني وجملة من الروايات استدل بها سيدنا الاُستاذ (قدس سره):

أما الأوّل فيمكن الاستدلال بآيتين، الاُولى: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} حيث إنّ الظاهر منها أنّ المراد بالميقات هو تعيين الأيام والشهور والسنين لا أنّ المراد به مواقيت الصلاة كالظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر؛ والشاهد على ذلك ذيل الآية

ص: 21

الشريفة (الحج). فتعيين الشهور وحساب الأيام من الأول والثاني والعاشروالعشرين وغيرها يقاس بالأهلّة. ومن المعلوم أنّه لا يفرق في ذلك بين رؤية الهلال في بلد في أوّل الليل عند الغروب وفي بلد آخر يقع بعده بساعة أو ساعتين. فجميع البلدان في نصف الكرة الأرضيّة بحساب واحد والهلال علامة وميقات لأَهلها. فلا يكون لبلد اليوم الثاني ولبلد آخر اليوم الثالث لهم إذا كان الفرق بينهما نصف ساعة كقم وخراسان مثلاً، بل يعدّ في العرف هذا أمراً مستهجناً. إن قلت: أنتم نقلتم عن بعض المحققين أنّ المواقف في الحج قبل سيطرة الوهابيين قد تختلف، فكان موقف عرفات يوماً لجماعة ويوماً آخر لجماعة آخرين من جهة اختلافهم في بداية الشهر، وكان هذا أمراً معتاداً عندهم. قلت: نعم، هذا من جهة الاختلاف في الصغرى، أي من جهة الثبوت وعدمه لا من جهة الكبرى والاختلاف في الاُفق؛ فإنّ الهلال يثبت عند بعضهم بشاهد واحد ولم يثبت عند بعضهم إلا بشاهدين، بل عدلين، فالاختلاف كان من هذه الجهة لا غير.

الثانية: قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.

وقد دلّ على أنّ ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم في آفاقهم، وهذا يستفاد من جهات:

الاُولى: أنّ القرآن نزل في ليلة واحدة، وهي ليلة القدر.

الثانية: أنّه يفرق في ليلة القدر كل أمر حكيم، وتفريق كل أمر حكيم لا يختصّ ببقعة معينة من الأرض دون غيرها، بل يشمل جميع البقاع.

ص: 22

الثالثة: أنّه يكتب فيها المنايا والبلايا والأرزاق كما في عدّة من الروايات، وكتابة هذه الاُمور في هذه الليلة تكون لأهل العالم قاطبة لا لأهل بقعة خاصة.

والحاصل: أنّ ليلة القدر ليلة واحدة لجميع أهل البقاع والأمصار بالرغم من اختلافها في الآفاق والمطالع.

ويشهد على ذلك ما ورد في دعاء صلاة يوم العيد من قوله (علیه السلام) : «أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً»، فإنّ اليوم المشار إليه هو يوم معيّن لجميع المسلمين في كل البلدان على اختلاف آفاقهم، لا لخصوص أهل بلد تقام فيه صلاة العيد((1)).

وأورد عليه بعض الاعلام بقوله: (إنّ الوحدة الشخصية ليوم العيد ولليلة القدر لا تتحقق حتّى على مسلكه (قدس سره)؛ لما مرّ من أنّه اختار لاحقاً أنّ خصوص البلاد التي تشترك مع بلد الرؤية في جزء من الليل تشترك معه في أول الشهر، وأما البلاد الاُخرى فيكون أوّل الشهر فيها في اليوم التالي، فكيف يقول (قدس سره) بأنّ يوم العيد يوم معيّن خاص لجميع المسلمين، وكذلك القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم في الآفاق؟! وبالجملة: لا محيص من الالتزام بأنّ وحدة يوم العيد وليلة القدر إنّما هي وحدة نوعية وليست شخصية)((2)).

ص: 23


1- انظر: المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 122، منهاج الصالحين 1: 282.
2- أسئلة حول رؤية الهلال: 33.

الجواب عمّا أورده:

أما الجواب عمّا أورده على الاستدلال بآية ليلة القدر فهو يقتضي الكلام في تلك الوقائع المذكورة بلحاظ مقام الثبوت والإثبات.

ففي مقام الثبوت يحتمل في تلك الوقائع ثلاثة احتمالات:

الأول: أن تكون الوقائع التي تحصل في ليلة القدر من نزول القرآن وتنزّل الملائكة والروح وتقسيم الأرزاق وكتابة المنايا والبلايا في ليلتين بحسب ثبوت الهلال، فليلة القدر عندنا وهي الليلة الثالثة والعشرون هي الليلة اللاحقة لمن هم في النصف الآخر من الكرة الأرضية، ولا فرق حينئذٍ بين القائلين باشتراط اتحاد الأفق وغيرهم إلا في شيء واحد، وهو أنّ القائلين بالاختلاف تكون ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة القدر، والليلة اللاحقة لها هي ليلة القدر عند من هم في النصف الآخر من الأرض، بينما عند القائلين بالاتحاد قد تتعدّد إلى ثلاث ليالٍ أو أربع.

الثاني: أن تكون الوقائع في ليلة واحدة نوعيّة من الليلتين إما ليلتنا أو ليلتهم، وكذا الكلام عند القائلين باتحاد الاُفق.

الثالث: أن تكون الوقائع في ليلة واحدة وهي ليلة القدر عندنا، لا عند النصف الآخر من الكرة الأرضية الذي هو نهار، فيكون النصف الآخر تابعاً للّيل عندنا، فتقدر كل المقدرات بالنسبة إلى من هم فيه أيضاً.

ويبعد جداً أن تكون الوقائع مقسّمة على الليالي بأن تكون الكتابة وتقسيم الأرزاق أو المنايا مقسمة على ليلتين أو أكثر، فقسم منها في هذه

ص: 24

الليلة والقسم الآخر في الليلة اللاحقة، كما بَعُد أن يكون تنزيل القرآن والروح في ليلتين بأن تخص ّكل ليلة بقسم، فإنّ جميع هذه الوقائع إما أن تكون في ليلتين أي أنّها تتكرّر، أو تكون في إحدى الليلتين - على الإبهام - أو في ليلة واحدة وهي ليلة القدر عندنا، لا عند النصف الآخر من الكرة الأرضية؛ لأنّ ليلتهم تابعة لليلتنا.

وأما في مقام الإثبات فالصحيح اعتباراً وشرعاً - أي من جهة الروايات - هو الاحتمال الثالث.

أما من جهة الاعتبار فإنّ إنزال القرآن كان على النبي صلى الله عليه وآله في زمانه في مكة والمدينة، وتنزل الملائكة والروح عليه وعلى الأئمة من بعده (علیهم السلام) في ليلة واحدة شخصية، فيها يفرق كل أمر حكيم وتكتب المقدرات إلى السنة اللاحقة، لا أنها تؤخّر، فالوقائع لا تقع مرتين. فنزول الملائكة والروح كتنزيل القرآن نزول واحد في وقت فارد، وهو ليلة القدر، فهو مثل بقيّة الوقائع والحوادث. فيقال مثلاً (ميلاد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في الليلة السابعة عشرة)، فهو في الليلة السابعة عشرة عندنا لا في الليلة اللاحقة لليلتنا في البلاد البعيدة التي يختلف ليلها ونهارها عندنا.

وأما من جهة الروايات فكذلك، كما في رواية الجهني؛ فإنّ الليلة التي كان يطلبها هي خصوص الليلة التي أمره الرسول صلى الله عليه وآله بالحضور في المدينة فيها وهي ليلة ثلاث وعشرون، والمدينة المنورة مع مكة المكرمة هما مورد الروايات، وهما مورد نزول القرآن على النبي

ص: 25

الأعظم صلى الله عليه وآله، فالوقت فيهما هو المعيار، أي أنّ ليلهما هو المعتبر، وأما ليل النصف الآخر من الكرة الأرضية فهو لاحق له.

وظاهر السيد الاُستاذ (قدس سره) أنّ الليلة الثالثة والعشرون هي ليلة واحدة حقيقية، وهي الليلة الثالثة والعشرون عندنا فهي وقت واحد يقع فيه جميع تلك الوقائع المذكورة.

وأما الاحتمالان الآخران فهما وإن صحّا ثبوتاً إلا أنّه لا دليل عليهما إثباتاً، ولا يخرج مراد بعض الاعلام من الوحدة النوعية عنهما. فما ذكره من النقض غير تام؛ لما ذكرناه.

وقد اُجيب أيضاً عن الاستدلال بالوحدة الشخصية لليلة القدر بجواب حلّي، حاصله:

إنّ اليوم هو عبارة عن تمامية دورة كاملة للأرض حول نفسها، وتستغرق هذه الدورة أربعاً وعشرين ساعة، فالنهار هو دورة تدريجية كاملة على تمام الكرة الأرضية خلال أربع وعشرين ساعة، وكذا الليل. فالمراد بالليل هذا المقدار من الزمان، لا أنّ الليل اثنتا عشرة ساعة حتى يتعدّد؛ فإنّه من بدء حركة الأرض حول محورها من نقطة معينة واقعة في الجهة المظلمة منها لا تعود بحركتها إلى تلك النقطة إلا بعد أربع وعشرين ساعة، فالليل واحد على كلا القولين لا تعدّد فيه؛ ولذا ورد في الروايات أنّ نهار الليالي ذات الشرف والفضيلة بحكم ليلها في الثواب.

وفيه: إنّ الأمر وإن كان بحسب الدقة الفلكية كما ذُكر، إلا أنّ

ص: 26

المتعارف في ألسنة النصوص والفهم العرفي أنّ كون الوقت نهاراً في النصف الثاني يمنع من وحدة تلك الحوادث، فالحوادث لا يختص وقوعها بالليل، بل تنزل الملائكة والروح على المعصوم مثلاً يحدث في الليل وفي النهار، أي الزمان الذي يصير ليلاً بعد ذلك، وإن كان فعلاً نهاراً.

والمراد من مساواة نهار الليالي الشريفة معها في الثواب هو النهار الآتي في نفس البلد الذي حلّ عليه الليل، وهو نهار هذه الليلة، لا النهار الآتي في البلاد النائية التي يكون نهارها متأخراً عن نهار هذا البلد.

ولعل الوجه في عدم تعرّض بعض الاعلام لهذا الجواب الحلي لكونه واضح الوهن.

أما الجواب عمّا أورده على الاستشهاد بدعاء قنوت صلاة العيد فهو عين الجواب عن نوعية ليلة القدر، فإنّ يوم العيد شخصي لجميع المسلمين كما مرّ.

ثم إنّ بعضهم ذكر أنّ السبب في استشهاد السيد الاُستاذ (قدس سره) بهذا الدعاء لا الاستدلال به لعلّه من جهة السند((1)).

لكنّ الظاهر أنّه ليس من هذه الجهة؛ وذلك لورود الدعاء في روايات متعدّدة، وبعضها معتبر عنده (قدس سره) كمعتبرة أبي الصباح قال: قال سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن التكبير في العيدين، فقال: « اثنتا عشرة: سبعة في الاُولى، وخمسة في الأخيرة، فإذا قمت إلى الصلاة فكبر واحدة تقول: أشهد أن لا

ص: 27


1- ([1]) اعتبار اتفاق الأفق في إثبات رؤية الهلال (مطبوعة ضمن ميراث فقهى2: رؤيت هلال ج2):8.

إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، اللهم أنت أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل القدرة والسلطان والعزة، أسألك في هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً... »((1)).

فلعلّ جعله مؤكداً أو شاهداً لأجل المناقشة في الدلالة؛ فإنّ جعل الله سبحانه اليوم عيداً للمسلمين لا ينافي أن يكون اليوم مثلاً عيداً عند بعضهم وما بعده عيداً عند آخرين، فإنّ من كان في النصف الآخر من الأرض لا يكون نهارهم عيداً، بل يكون اليوم اللاحق هو العيد.

ثمّ إنّ المراد بالمسلمين - على ما هو الظاهر - هو جماعة المسلمين على البدل؛ إذ يصح إطلاق المسلمين عليهم ولا يلزم أن يكون اليوم عيداً للمسلمين بنحو الاستغراق، فالمجعول عيداً للمسلمين هو هذا اليوم لا أنه جعل لهم العيد في نهار واحد. وعلى هذا لا يمكن التمسك به كدليل على أنّ الفطر في يوم واحد شخصي؛ لتطرّق الاحتمال المذكور.

أَمّا الروايات فهي على قسمين:

القسم الأول: ما دلّ بإطلاقه - من نصوص البينة الواردة في رؤية الهلال ليوم الشك في شهر رمضان أو شوال وأنّه في الأول يقضي يوماً لو أفطر - على عدم الفرق بين ما إذا كانت الرؤية في بلد الصائم أو غيره المتّحد معه في الأفق أو المختلف.

ص: 28


1- ([1]) وسائل الشيعة 7: 469، ب26 من أبواب صلاة العيد،ح5.

فمنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في حديث - قال: قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال: « لا، إلا أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنّهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم»((1)).

ومنها: ما في ذيل معتبرة أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخراز «وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر»((2)). وغيرهما من الروايات التي يأتي بعضها في نقد كلام بعض الأعلام للرواية الأولى من النصوص الخاصة تبعاً لما في المستند((3)).

ودعوى الانصراف إلى أهل البلد كما ترى، ولاسيّما مع التصريح في بعضها بأنّ الشاهدين يدخلان المصر ويخرجان، فهي طبعاً تشمل الشهادة الحاصلة من غير البلد على إطلاقها((4)).

القسم الثاني: النصوص الخاصة، وهي عدّة روايات:

الرواية الأولى: صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال فيمن صام تسعة وعشرين قال: «إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنّهم

ص: 29


1- وسائل الشيعة10: 264، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.
2- وسائل الشيعة10: 289، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح10.
3- مستند الشيعة 10 : 421.
4- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 116-120، بتصرّف.

صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً»((1)).

فإنّها بمقتضى إطلاقها تدلّ على أنّ الرؤية في مصر كافية لسائر الأمصار من دون فرق بين كون هذه الأمصار متفقة في آفاقها أو مختلفة وإن لم يُر فيها الهلال لعلّة.

لا يقال: إنّ المراد من كلمة مصر المصر المعهود المتفق مع بلد السائل في الأفق، وعليه إذا رُئي فيه ثبت في بلد السائل لوحدة الأفق بينهما، فلا يتم الاستدلال بهذه الصحيحة.

لأنّه يقال: لو كان المراد ذلك لكان على الإمام (علیه السلام) أن يبيّنه، فعدم البيان وهو (علیه السلام) في مقام البيان يكشف طبعاً عن الإطلاق((2)).

وناقشه بعض الاعلام: بأنّه لا إطلاق لها لمحل البحث، لأنّها في صدد بيان أمر آخر وهو لزوم عدم وجود معارض حكمي للشهادة على رؤية الهلال في البلد الآخر، وذلك بأن تكون الرؤية قد ثبتت فيها بالشياع القطعي أو البينة غير المعارضة ببينة النفي، وهذا ظاهر في صحيحة هشام حيث اعتبر فيها قيام البينة على صوم أهل مصر، فالتعبير ب- «أهل مصر» إنّما هو بعناية اعتبار اجتماعهم على ثبوت الرؤية الذي لا يكون عادة إلا عن شياع قطعي أو بينة غير معارضة بغيرها. وهو الذي أشير إليه في بعض الروايات الأخرى((3))

ص: 30


1- وسائل الشيعة10: 265، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13.
2- انظر: المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 120، منهاج الصالحين 1: 281.
3- تهذيب الأحكام4: 156- 164.

بأنّ الرؤية هي أن يقول القائل: رأيت فيقول القوم: صدقت، أو إذا رآه واحد رآه عشرة وإذا رآه عشرة رآه ألف.

وبالجملة: المقصود هو التركيز على قيام الحجّة والتأكد من ثبوتها عند أهل ذلك المصر، فلا يكفي وجود شاهدين منهم على الرؤية مطلقاً كما لو انفردا بإدعاء الرؤية مع كثرة المستهلين... .

وإذا كان الإمام (علیه السلام) بصدد بيان ما ذُكر فلا ينعقد لكلامه إطلاق ليشمل المصر الذي لا يحرز كونه متفق الأفق مع بلد المكلف، فإنّه قد قُرّر في محله من علم الأصول أنّه متى أُحرز كون المتكلّم في مقام البيان من جهة وشك في كونه في مقام البيان من جهة أخرى فإنّه لا يوجد أصل عقلائي يقتضي كونه في مقام البيان من الجهة الثانية ليمكن التمسك بالإطلاق من هذه الجهة أيضاً )((1)) .

ولكن الظاهر عدم تماميّة هذه المناقشة، لأنّ الظاهر أنّ الإمام (علیه السلام) في مقام بيان حجيّة البينة العادلة، وليس في مقام بيان حجيّة متعلّق الشهادة، فلا فرق بين إخبار الشاهدين بالرؤية بأنفسهما أو برؤية بعض أهل مصر أو كلّهم.

وإلا لو كان (علیه السلام) بصدد بيان ما يوجب اليقين كشهادة أهل المصر كلّهم للزم عدم الفائدة من شهادتهم، لأنّ الطريق إليها غير قطعي وهو البينة، لعدم

ص: 31


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 23-25، مخطوط لسماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد علي السيستاني دام الله في طول بقائه.

إيجابها اليقين، وغاية ما تفيده الظن، مع أنّ الإمام (علیه السلام) بصدد بيان ما يوجب اليقين حسب الفرض.

وعليه لا يمكن القول إنّ الصحيحة كانت بهذا الصدد. بل الظاهر أنّها بصدد بيان حجيّة البينة بغض النظر عن متعلّقها، فمثلها مثل الروايات الكثيرة الدالة على حجية البينة.

فمن تلك الروايات:

معتبرة زيد الشحام، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سئل عن الأهلة؟ فقال: «هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر» قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال: « لا، إلا أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنّهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم»((1)).

ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في حديث - قال: قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً أقضي ذلك اليوم؟ فقال: « لا، إلا أن يشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنّهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم »((2)). ومثلها صحيحة عبيد الله بن علي الحلبي((3)).

ومنها: معتبرة عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الأهلة؟

ص: 32


1- وسائل الشيعة10: 262، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.
2- وسائل الشيعة10: 264، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.
3- ([3]) وسائل الشيعة10: 266، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح17.

فقال: «هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر» قلت: إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً، أقضي ذلك اليوم؟ قال: «لا، إلا أن تشهد لك بينة عدول، فإن شهدوا أنّهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم»((1)).

ومنها: رواية صابر (صبار) مولى أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن الرجل يصوم تسعة وعشرين يوماً ويفطر للرؤية ويصوم للرؤية، أيقضي يوماً؟ فقال: «كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: لا، إلا أن يجئ شاهدان عدلان فيشهدا أنّهما رأياه قبل ذلك بليلة فيقضي يوماً»((2)).

ومنها: صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر بافطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلى بهم»((3)).

ومنها: صحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنّهما رأياه

فاقضه»((4)).

ومنها: صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سئل عن اليوم الذي

ص: 33


1- وسائل الشيعة10: 267، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح19.
2- المصدر نفسه، ح21.
3- وسائل الشيعة10: 275، ب6 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
4- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.

يقضي من شهر رمضان؟ فقال: «لا يقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر ... الحديث»((1)).

ومنها: ما رواه حبيب الخزاعي قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية»((2)).

وظاهرها جميعاً مطابق لمضمون صحيحة هشام فقد جعل القضاء منوطاً بقيام البينة العادلة بلا اشتراط كونها من بلد المكلّف أو من بلاد قريبة من بلده، بل البينة حجة مطلقاً أو إذا كانت من خارج المصر وتخبر عن قوم أو مصر، فالاختلاف في متعلّق الشهادة فتارة يكون رؤية جميع أهل المصر وأخرى رؤية بعضهم، وعليه يحصل العلم على الأولى ولا يحصل على الثانية، فلو كانت الصحيحة في مقام بيان جهة ما يفيد العلم لصحّ ما أفاده مدّ ظله، وتكون هذه الجهة هي المحرزة لا غيرها فلا يمكن التمسك بالإطلاق كما أفاد، لكن إذا قلنا إنّها ليست في مقام بيان متعلّق الشهادة أصلاً، بل هي في مقام بيان حجيّة أصل البينة العادلة، ولذا يكون إطلاق المصر باقياً، ولمّا كان مطلقاً غير معيّن بمصر معيّن شمل الأمصار متحدة الأفق ومختلفته. إن قلت: إنّ الرواية في مقام بيان أنّ القضاء لا يجب إذا

ص: 34


1- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح5.
2- وسائل الشيعة 10: 290، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13.

كان الشهر ناقصاً حتى تكمل العدة كما يقول بذلك بعض الفقهاء في ذاك العصر وليست في مقام بيان حجيّة الشهادة برؤية الهلال من أيّ بلد. قلت: إنّ هذا الاحتمال بعيد حيث إنّ بعض هذه الروايات ورد في أوّل الشهر وزمان كون المكلف مشتغلاً بصيام شهر رمضان وقبل انقضاء الشهر كما يأتي، ومما يمكن التائييد به للاطلاق حسن التقييد بقوله (إذا كان قريباً) لا من باب تعدّد الدال، فحسن التقييد شاهد على ثبوت الاطلاق.

الرواية الثانية: صحيحة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: « لا تصمه إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه»((1)).

فإطلاقها يدلّ على عدم اشتراط اتحاد الأفق؛ فإنّ شهادة أهل بلد آخر بالرؤية موجب للقضاء، والبلد الآخر مطلق يشمل متحد الأفق مع بلد المكلّف ومختلفه، ولو لم يكن الاطلاق مراداً لكان لابد من التقييد بمقتضى ورود هذه الصحيحة في مقام البيان((2)) ولا ريب في حسن التقييد أيضاً.

الرواية الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان فقال: «لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه»((3)).

ص: 35


1- وسائل الشيعة10: 278، ب8 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح3.
2- انظر: المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 121، منهاج الصالحين 1: 282.
3- وسائل الشيعة10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.

ودلالتها كدلالة الرواية الثانية، بلا فرق.

وناقش في دلالتهما بعض الأعلام: بأنّ موردهما هو صورة الشك في دخول شهر رمضان من جهة الشك في وجود الهلال في سماء البلد مستوراً بالسحاب وعدمه، فلا إطلاق لها لصورة الشك فيه مع إحراز عدم وجود الهلال في سماء البلد من جهة الشك في وجوده في بلد آخر يشترك مع البلد في جزء من الليل.

وتوضيح ذلك: أنّ مورد السؤال في كلتا الروايتين هو ما إذا غمّ هلال رمضان، و(غمّ) لغة بمعنى ستر، ولكن من الواضح أنّه ليس المقصود هنا هو ستر الغمام للهلال، إذ لو أحرز ذلك لكفى في ثبوت الشهر، فإنّه لا يعتبر فيه الرؤية الفعلية كما هو ظاهر، فلابدّ إذن أن يكون إسناد الستر إلى الهلال إسناداً مجازياً يراد به الإسناد إلى محلّه، أي ستر الغمام لمطلع الهلال، فمرجعه إلى الشك في وجود الهلال في مطلعه في أفق البلد، وحاصل السؤال هو أنّه إذا ستر الغمام - وهو السحاب الأبيض أو الرقيق - مطلع الهلال وشك في وجوده تحته فما هي وظيفة المكلف عندئذ؟ وأجاب الإمام (علیه السلام) بأنّه لا يجب عليه صيام ذلك اليوم مع عدم رؤية الهلال، ولكن إذا شهد أهل بلد آخر على رؤيته في تلك الليلة فلابد من القضاء، ومرجع هذا بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع إلى أنّه إذا زال الشك في وجود الهلال في أفق البلد في تلك الليلة بملاحظة رؤية أهل بلد آخر قريب من البلد الأوّل، بأن استكشف منها وجوده في أفق البلد وكونه مستوراً بسبب الغمام عن أعين الناظرين يلزم القضاء، وعلى هذا فلا إطلاق للفظ البلد في

ص: 36

الروايتين للبلد البعيد الذي لا تكون رؤية الهلال فيه شاهداً على وجوده في بلد المكلف، كما لو أحرز عدم ظهور الهلال فيه أو ظل الأمر مشكوكاً فيه بالرغم من إحراز رؤيته في بلد آخر)((1)).

ويلاحظ على كلامه: أنّه كما يمكن أن يكون البلد الآخر قريباً تُلازم رؤية الهلال فيه رؤيته في بلد المكلّف - كما رامه هذا البعض - كذلك يمكن أن يكون البلد قريباً ومع ذلك يمكن رؤية الهلال فيه دون البلد الآخر لاختلاف الغروب بينها بعشر دقائق، وكذلك يمكن أن يكون بلداً بعيداً مختلف الأفق عن بلد المكلّف والاحتمالان متساويان. فلو أراد الإمام(علیه السلام) البلد القريب لكان لا بدّ من التقييد حتى لا يقع المكلّف في الاشتباه. لأنّه لو كانت هناك ملازمة بين وجود الهلال في البلد الآخر وبين وجوده في بلد المكلّف، مع وضوح هذه الملازمة في ذهن السائل، لما كان على الإمام (علیه السلام) البيان، ولم يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لو لم يقيّد كلامه بالبلد القريب، لانصراف الذهن إلى البلد المتّحد الأفق، لكن إذا لم تكن الملازمة واضحة في ذهن السامع فلا بد أن يبيّن الإمام (علیه السلام) القيد حتى لا يقع السامع في الاشتباه في أنّه يثبت الهلال وإن لم يكن ثابتاً في بلد المكلّف، وإن كان ثبوته في البلاد البعيدة، فلو لم يبيّن لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهنا الملازمة غير واضحة، فإنّه يمكن أن يُرى في بلد آخر ولا يُرى في بلد المكلّف فإنّه كما يحتمل وجوده تحت الغيم يحتمل عدم

ص: 37


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 22- 23.

وجوده، وقد يكون البلد الذي رُئي فيه بعيداً فلا انصراف إلى البلد القريب. وما دام البلد غير مقيّد فإنّه يشمل البلد القريب والبعيد على السواء، بل الغالب في الغيوم انتشارها في البلاد القريبة دون البعيدة.

أضف إلى ذلك أنّ التعبير جاء ب- (اقضه) فلو كان البلد هو البلد القريب لناسب التعبير ب- (أدّه)، لا ب- (اقضه)، وهذا يكشف عن تأخّر وصول الخبر لكون البلد ليس من البلدان القريبة لبلد المكلّف.

الرواية الرابعة: صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان فقال: « لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر»، وقال: «لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه»((1)).

وقد استدل سيدنا الأستاذ (قدس سره) بجملتين منها:

الجملة الأولى: قوله (علیه السلام) «لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر» فإنّه يدل - بوضوح - على أنّ رأس الشهر القمري واحد بالإضافة إلى جميع أهل الصلاة على اختلاف بلدانهم باختلاف آفاقها ولا يتعدّد بتعدّدها، بل هو حكم وحداني عام لجميع المسلمين، فمتى قامت البينة على الرؤية من أي بلد من بلدان هذا المجموع المركب - وهم كافة أهل الصلاة - سواء كان هذا البلد قريباً أم بعيداً كفى.

ص: 38


1- وسائل الشيعة10: 292، ب12 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

الجملة الثانية: قوله (علیه السلام) : «لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه ». فإنّه كسابقة واضح الدلالة على أنّ الشهر القمري لا يختلف باختلاف الأمصار في آفاقها فيكون واحداً بالإضافة إلى جميع أهل البقاع والأمصار، وإن شئت فقل: إنّ هذه الجملة تدل على أنّ رؤية الهلال في مصر كافية لثبوته في بقية الأمصار من دون فرق في ذلك بين اتفاقها معه في الآفاق أو اختلافها فيها فيكون مرده إلى أنّ الحكم المترتب على ثبوت الهلال - أي خروج القمر عن المحاق - حكم تمام أهل الأرض لا لبقعة خاصة)((1)).

ولاحظ عليه بعض الأعلام: بأنّ الموضوع في روايتي أبي بصير - أو الجملتين من روايته كما عبّر (قدس سره) - هو اليوم الذي يقضى من شهر رمضان، ويعلم من هذا التعبير أنّ بعض الناس كانوا لا يصومون يوم الشك أداءً ثم يقضونه بعد انتهاء شهر رمضان، والإمام (علیه السلام) منع من القضاء إلاّ أن يثبت سبق رؤية الهلال.

وحيث إنّه لم يتأكد أنّ المراد باليوم الذي يقضى من شهر رمضان مطلق يوم الشك منه - بل يجوز أن يكون المراد خصوص اليوم الذي كان الشك فيه لوجود علّة في السماء يحتمل كونها حاجباً عن رؤية الهلال - لم ينعقد لجواب الإمام (علیه السلام) إطلاق يقتضي وجوب القضاء وإن ثبتت رؤية الهلال في بلد بعيد لا ملازمة بين رؤية الهلال فيه ورؤيته في بلد المكلف.

ص: 39


1- انظر: المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 121، منهاج الصالحين 1: 282.

هذا مضافاً إلى عدم تمامية الاستدلال بأيّ من الروايتين (الجملتين) ... أما الأولى فلأنّ ظاهرها - كما أفاده المحدّث الكاشاني (قدس سره)((1)) هو الاكتفاء في الشاهد على رؤية الهلال بكونه مسلماً وعدم اعتبار الإيمان فيه، ولا دلالة فيها على كفاية انبعاث الشهادة من أيّ من بلاد المسلمين إلاّ بضرب من التأويل، بأن يكون المراد بأهل الصلاة بلاد أهل الصلاة على سبيل حذف المضاف ويكون المراد بلفظ الجميع الظاهر في الاستغراق معنى (أي) أي البدلية، ولا وجه لتأويل الرواية ثم الاستدلال بها.

وأما الثانية فلأن ظاهرها وجوب صيام ذلك اليوم بقضاء أهل جميع الأمصار المغيمة من بلاد المسلمين، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، ولذلك حمل (قدس سره) الألف واللام في كلمة (الأمصار) الظاهرة في العموم الاستغراقي على العموم البدلي ليصير المعنى لا تصم ذلك اليوم إلاّ أن يقضي أهل أي من الأمصار، ولكن هذا لا معيّن له، بل يدور الأمر بينه وبين أن يراد ب-- (الأمصار) خصوص الأمصار القريبة من بلد المكلّف التي يتيسّر له الاطلاع على عمل أهلها عادة، بل هذا أقرب إلى ظاهر الرواية مما أفاده(قدس سره).

وهكذا يتّضح أنّ أيّاً من الروايات التي استدلّ (قدس سره) بإطلاقها على مرامه مما لا يفي بإثباته، مع أنّه لو سلّم إطلاقها في حدّ ذاتها فإنّ الشواهد الخمسة المتقدمة((2)) تصلح لتقييدها ورفع اليد عن الإطلاق

ص: 40


1- الوافي 11: 137.
2- وهي الشواهد الخمسة الأولى التي تأتي تحت عنوان (شواهد تؤيّد قول المشهور) ص99.

المزعوم لها، فتدبّر)((1)).

وحاصل ما أفاده هو ثلاث ملحوظات:

الملحوظة الأولى: أنّ يوم الشك لا إطلاق فيه، لاحتمال أن يكون المراد خصوص اليوم الذي كان الشك فيه لوجود علّة في السماء يحتمل كونها حاجباً عن رؤية الهلال، فيكون جواب الإمام كذلك، وعليه يكون الشاهدان من بلد قريب من بلد السائل.

ويرد عليها:

أولاً: إنّ يوم الشك الوارد في السؤال لم يقيّد بشك معيّن، فيكون المراد مطلق يوم الشك الذي يقضى، ومجرد وجود احتمال أن يكون الشك فيه من علّة لا يكفي في رفع الإطلاق، بل هو خلاف المتفاهم العرفي وإلاّ إذا كان مجرد الاحتمال موجباً لعدم الاخذ بالاطلاق فلا يبقى مورد للأخذ بالاطلاق فإنّه في كل مورد يوجد احتمال الخلاف ولا ريب في حسن التقييد إذا لم يكن المراد منه الاطلاق.

والشاهد على ذلك: أنّه لو شهد الشاهدان بالرؤية وكان أفقهم بلا علّة كالغيم ونحوه، أفلا يجب قبول شهادتهم، ويجب القضاء؟.

وثانياً: إنّ الأمر بالقضاء عن تأخّر وصول الخبر يدل على أنّ البلد ليس من البلدان القريبة لبلد المكلّف، وإلا لقال: أدّه.

ص: 41


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 25- 27.

الملحوظة الثانية: عدم تمامية دلالة الجملتين المذكورتين:

أما الجملة الأولى: فلأنّ ظاهرها - كما عن المحدّث الكاشاني في الوافي - الاكتفاء في الشاهد على رؤية الهلال بكونه مسلماً وعدم اعتبار الإيمان فيه.

ولا دلالة فيها على كفاية مجيء الشهادة من أيّ من بلاد المسلمين إلاّ بتأويل أهل الصلاة ببلاد أهل الصلاة على سبيل حذف المضاف ويكون المراد بلفظ الجميع البدلية، وهذا تأويل للرواية ومن ثَمّ الاستدلال بها، ولا وجه له.

وأما الجملة الثانية: فلأنّ ظاهرها وجوب القضاء على أهل جميع الأمصار، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، مما يعني أنّ جميع الأمصار يقضون لوجود الغيم المانع من الرؤية، ولذلك حمل (قدس سره) الألف واللام في كلمة (الأمصار) على العموم البدلي ليصير المعنى لا تصم ذلك اليوم إلاّ أن يقضي أهل أيٍّ من الأمصار، ولكن هذا لا معيّن له، بل يدور الأمر بينه وبين أن يراد ب-- (الأمصار) خصوص الأمصار القريبة التي يتيسّر له الاطلاع على عمل أهلها عادة، وهذا أقرب إلى ظاهر الرواية مما أفاده (قدس سره).

ويمكن الجواب عنها:

أما عن الجملة الأولى: فبأنّ ما أفاده المحدّث الكاشاني عجيب صدوره منه؛ إذ الوارد في الصحيحة: « شاهدان عادلان » والوصف بالعدالة كافٍ في الدلالة على الإيمان كما لا يخفى. ثم إنّه لا حاجة إلى التأويل

ص: 42

المزبور؛ إذ (أهل الصلاة) مطلق شامل لجميع المسلمين، سواء كانوا قريبي البلاد أم بعيديها متحدي الأفق أم مختلفيها((1)).

وأما عن الجملة الثانية:

فأولاً: بأنّ الإطلاق لوجوب القضاء على أهل جميع الأمصار وإن كان بعيداً كما أفاد إلا أنّه ليس بغير ممكن؛ فإنّ من الممكن أن تكون جميع الأمصار فيها غيم - وإن بعُد ذلك - ويرى الهلال في ليلة التاسع والعشرين، فيظهر لأهل بلد المكلّف لزوم قضاء أول الشهر لكونهم قد صاموا ثمانية وعشرين يوماً.

وثانياً: بأنّ المتفاهم العرفي هو الحمل على الشمول العرفي، وهو البدلي في مثل (أهل الأمصار أو الناس)، لا الاستغراق الحقيقي، وهذا ليس تأويلاً، بل هو أمر عرفي.

وثالثاً: لو سلمنا بالاستغراق الحقيقي فإنّه لو لم يقض الجميع في الأمصار القريبة - التي أَوَّلَ المستشكل الأمصار بها - أفلا يثبت القضاء؟، مع أنّ من المتيقن لزوم القضاء بقضاء أهل مصر واحد، وهذا كاشف عن أنّه ليس المراد من العموم العموم الاستغراقي، بل هو العموم البدلي.

ص: 43


1- أقول: حتى لو كان الكلام بحاجة إلى تقدير – كما هو الظاهر – فإنّه تقدير يتوقف عليه صحة الكلام، وهو المسمى بدلالة الاقتضاء، وليس هو من التأويل في شيء، فلا يصح قول بعض الأعلام أنّه تأويل للرواية ثم الاستدلال بها. [م.ع]

الملحوظة الثالثة: أنّه على فرض إطلاقها - أي هذه الصحيحة وغيرها مما تقدّم - في حدّ ذاتها فإنّ الشواهد الخمسة المتقدمة((1)) تصلح لتقييدها ورفع اليد عن الإطلاق المزعوم لها.

ويمكن الخدشة فيها: بأنّ غاية ما أفاده سابقاً هو عدم الاطلاق فيها، لا أنّه أثبت التقييد، فإنّه بعد دفع الإطلاق يكون المورد فرداً، وأين هذا من التقييد؟، أضف إلى ذلك أنّا أثبتنا إطلاقها سابقاً، فيتمّ المطلوب.

الرواية الخامسة: - وهي مما يمكن أن يستدل بها على هذا القول أيضاً - رواية أبي حمزة الثمالي قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك، الليلة التي يرجى فيها ما يرجى، فقال في ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، قال: فإن لم أقو على كلتيهما، فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب؟ قال: قلت فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى؟ فقال: ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها ...)((2)).

فإنّ قوله «وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى » يفيد مجيء من يخبر برؤية الهلال من أرض أخرى في ليلة سابقة على الليلة التي رُئي فيها في بلد السائل، وقد رتّب الحكم بالاحتياط لأربع ليالٍ رعاية لاحتمال الثبوت في تلك الأرض، ولم يرد فيها التفصيل بين الأرض القريبة من بلد السائل والبعيدة، وهذا يدل على عدم الفرق بينهما، فإذا رُئي الهلال في بلد

ص: 44


1- وهي الشواهد الخمسة الأولى التي تأتي تحت عنوان (شواهد تؤيّد قول المشهور) ص99.
2- وسائل الشيعة 10: 354، ب32، من أبواب أحكام شهر رمضان، ح3.

كفى في دخول الشهر في جميع البلدان، ولو كان المدار على رؤية الهلال في بلد المكلّف وأنّ لكل بلد شهره وليلة قدره فلِمَ حسُنَ طلب ليلة القدر في ضمن أربع ليالٍ، بأن تكون ليلة إحدى وعشرين مطلوبة في ليلتين وليلة ثلاث وعشرين مطلوبة في ليلتين بمجرد مجيء خبر بالهلال من أرض أخرى؟.

وناقشها بعض الاعلام سنداً ودلالة:

أما السند: فبأنّ ابن أبي حمزة الراوي عن الإمام هو البطائني لا الثمالي كما ورد في بعض النسخ، والبطائني غير موثّق على المختار((1)).

وأما الدلالة: فب- (أنّ الإمام (علیه السلام) لمّا امتنع عن تعيين ليلة القدر قائلاً: «ما أيسر ليلتين فيما تطلب» حاول ابن أبي حمزة أن ينتزع منه (علیه السلام) تعيينها بافتراض تردد أول الشهر بين يومين مما يقتضي عدم كفاية الاحتياط لإدراك ليلة القدر بين ليلتين، ولعلّه إنما فرض انبعاث دعوى رؤية الهلال في الليلة السابقة من أرض أخرى بالنظر إلى اعتقاده أنّه لو كان المدعي للرؤية من أهل بلد السائل نفسه يكون الاعتداد باحتمال صحة دعواه منافياً لما ورد في النصوص من أنّه إذا رأته عين رأته ألف عين.

وبالجملة: إنما قصد السائل بقوله: «فربما رأينا الهلال ...» مجرد افتراض حالة يتردد فيها أول الشهر بين يومين في بلده ولم يكن يقصد أنّ ذلك

ص: 45


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 31.

يحصل أيّاً كان المكان الذي تدّعى فيه رؤية الهلال في خارج البلد، وكذلك الإمام (علیه السلام) إنما أراد بيان أنّ تردد أول الشهر بين يومين كما فرضه السائل يقتضي الاحتياط بأربع ليالٍ لمن يريد إدراك ليلة القدر ولم يكن بصدد بيان أنّ دعوى الرؤية في خارج البلد توجب التردد في أول الشهر فيه مطلقاً.

وبعبارة أخرى: المقطع الأخير من الرواية مسوق لبيان أنّه مع تردد أول الشهر في البلد بين يومين فلا بد لإدراك ليلة القدر من الاحتياط لأربع ليالٍ، وليس مسوقاً لبيان أنّه مع احتمال رؤية الهلال في مكان آخر يتردد أول الشهر في بلد المكلّف بين يومين لينعقد له الإطلاق من حيث كون المكان الآخر متحد الأفق مع بلد المكلّف وعدمه)((1)).

وهذان الإشكالان قابلان للجواب:

أما السند فهو وإن كان كما ذكر من أنّ المراد من ابن أبي حمزة هو البطائني الضعيف، قال السيد الأستاذ في المعجم - بعد أن ذكر عنوان علي بن أبي حمزة الثمالي - : ( كذا في الطبعة القديمة والمرآة ونسخة من الوسائل أيضاً، وفي نسخة أخرى: علي بن أبي حمزة، من غير تقييد بالثمالي، وهو الصحيح الموافق للفقيه: الجزء2، باب الغسل في الليالي المخصوصة في شهر رمضان، الحديث 459، والتهذيب: الجزء3، باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه، الحديث 201، وذلك بقرينة كثرة رواية القاسم

ص: 46


1- أسئلة حول رؤية الهلال:30- 31.

بن محمد الجوهري عن علي بن أبي حمزة البطائني، كما تقدّم)((1)).

ولكن مع ذلك يمكن إبداء بعض الشواهد لتصحيح الرواية:

منها: أنّها في الكافي وتشملها شهادته بالصحة، ولعلّه رواها قبل قوله بالوقف،كما أنّ له أصلاً فلعلّ الكليني رحمه الله نقلها من أصله الذي كان قبل الوقف.

ومنها: أنّها في كتاب الحسين بن سعيد، لنقل الشيخ إيّاها عنه في التهذيب مبتدئاً باسمه - على ما هي عادة الشيخ في الرواية من كتاب الشخص حيث يبدأ باسم الراوي الذي ينقل من كتابه -، وكتب الحسين بن سعيد (كتب مشهورة، عليها المعول وإليها المرجع) كما قال الصدوق((2))، و(كتب ابني سعيد كتب حسنة معمول عليها) كما عن النجاشي((3)).

ومنها: أنّ طريق الشيخ الصدوق إلى هذه الرواية صحيح، وهو: (عن محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه، عن محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن علي بن أبي حمزة)((4)).

لا يقال: إنّ محمد بن علي ماجيلويه لم يوثّق فلا يصحّ الطريق؛ لأنّه

ص: 47


1- معجم رجال الحديث 12: 253: 7849.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 3.
3- رجال النجاشي: 58: 136-137.
4- من لا يحضره الفقيه 4، المشيخة: 488.

يقال: إنّ ترضّي مثل الشيخ الصدوق عنه كافٍ في وثاقته فالطريق صحيح.

كما أنّ أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ممن لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة، فتكون روايته عن البطائني قرينة على أنّه رواها عنه قبل انحرافه، كما أنّ البزنطي من أصحاب الإجماع فعلى القول بأنّ معنى تصحيح ما يصحّ عنهم هو صحة الرواية لا التوثيق لمن يروون عنه تصحّ الرواية أيضاً.

ومنها: شهادة الصدوق في أول من لا يحضره الفقيه((1)) على صحة رواياته التي أوردها فيه، فإنّها شاملة لهذه الرواية.

كما أنّ متن الرواية لا إشكال فيه فإنّه لا معارض له وليس فيه ما يخالف العقل ولا الاحتياط، فهذه كلّها قرائن على صحة الرواية، فإذا كان مبنى بعض السادة الأعلام على التصحيح عن طريق تجميع القرائن - وهي متعدّدة - فلا وجه لتضعيف هذه الرواية.

وأما الدلالة:

فإنّ حاصل المناقشة يرجع إلى أمرين: الأوّل: أنّ الغرض من سؤال أبي بصير انتزاع تعيين ليلة القدر من الإمام(علیه السلام) وتكرار المحاولة لنفس الغرض الثاني: أنّ إناطة سبب التردّد بمجيء دعوى الرؤية في الليلة السابقة من أرض أخرى دون بلد السائل لكونه يعتقد أنّ له الاعتداد باحتمال صحة ادّعاء الرؤية من أهل بلد السائل نفسه منافٍ لما ورد في النصوص من أنّه

ص: 48


1- من لا يحضره الفقيه 1: 3.

إذا رأته عين رأته ألف عين.

وكلاهما بعيدان أمّا الأوّل: فلأنّه إذا كان الإمام (علیه السلام) امتنع من أن يعيّن ليلة القدر مع معلومية أول الشهر فكيف يعيّن مع التردّد فيه؟ ألا يكون هذا إِخباراً عن ما في نفس السائل؟.

وأما الثاني: فلأنّ الأرض الأخرى إذا كانت قريبةً لبلد السائل فالتثبت من ثبوت الهلال وعدمه سهل فلا يبقى وجه للتردّد، نعم إذا كانت بعيدة بحيث يصعب التثبت فحينئذ يحصل التردّد فإذا لم تكن الأرض الأخرى منصرفة إلى البعيدة فلا أقل من كونها مطلقة.

هذا تمام الكلام في الأدلة على عدم شرطية اتحاد الأفق ما دامت الآفاق مشتركة في ليل واحد.

وقد ذكر مؤيدات من الروايات غير ما ذكره السيد الاستاذ (قدس سره) لهذا القول وكذلك تفاصيل عليه وبما أنّها كلهّا قابلة للمناقشة وليست تامة فلا يهمنا البحث فيها ولنكتف بما تقدّم والله هو العالم بالصواب.

ص: 49

ص: 50

أدلة القائلين باشتراط اتحاد الأفق

· الدليل الأول: الاعتباري العقلي

· الدليل الثاني: الكتاب المجيد

· الدليل الثالث: الروايات وهي على طوائف

ص: 51

ص: 52

أدلة القائلين باشتراط اتحاد الأفق

اشارة

يمكن الاستدلال لذلك بعدّة أدلة:

الدليل الأول:

أنّ خروج القمر عن تحت شعاع الشمس بمقدار يكون قابلاً للرؤية - ولو في الجملة - مثل أوقات الصلاة أعني شروق الشمس وغروبها، فكما أنّ لكل أفق من الآفاق مشرقاً ومغرباً - إذ الأرض لكرويتها يكون نصفها مواجهاً للشمس دائماً ويعبّر عنه بقوس النهار، ونصفها الآخر غير مواجه لها ويعبّر عنه بقوس الليل، وبسبب حركة الأرض الوضعية حول نفسها يكون القوسان في حال حركة وانتقال دائمين، ويتولّد من ذلك مشارق ومغارب، بل إنّ اختلاف أوقات الصلاة باختلاف الآفاق والبلدان منصوص عليه بقوله(علیه السلام) : (إنّما عليك مشرقك ومغربك)((1)) - وكذا الهلال؛ فإنّ خروج القمر عن تحت الشعاع يختلف بحسب اختلاف الآفاق فقد يخرج عن تحت الشعاع ويُرى ما يظهر للرائي من وجهه المضاء في بلد ويكون ذلك

ص: 53


1- وسائل الشيعة4: 198، ب20 من أبواب المواقيت، ح2.

دليلاً على خروجه عنه في ذاك الوقت من دون أن تكشف تلك الرؤية عن خروجه عن تحت الشعاع في بلد آخر واقع في شرق البلد الأول؛ إذ لعل القمر كان في المحاق وقت غروب الشمس عن هذا البلد الثاني.

فالحاصل: أنّ ارتباط خروج القمر عن تحت الشعاع ببقاع الأرض كارتباط طلوع الشمس وغروبها بها.

وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قدس سره): بأنّ هذا القياس باطل وبعيد عن الواقع بمراحل؛ فإنّ المقيس عليه - وهو الحالات المتبادلة من شروق الشمس وغروبها ونصف النهار ونصف الليل وبين الطلوعين وما بينها من أوقات تتشكّل من حركة قوسي الليل والنهار حسب حركة الأرض - حالات منتزعة من كيفيّة اتجاه الكرة الأرضيّة مع الشمس، فهي نسبة قائمة بين الأرض والشمس، ولما كانت الأرض في تبدل وانتقال دائمين كانت النسب مختلفة حسب اختلاف جهتها مع الشمس، فتكون هذه الحالات المختلفة منتشرة في بقاع الأرض، ففي كل آنٍ يتحقق شروق مثلاً في نقطة من الأرض وغروب في نقطة أخرى مقابلة لها. وكذا الكلام في الفجر والزوال وغيرهما.

وأما في المقيس - وهو الهلال - فالأمر مختلف؛ فإنّه إنما يتولّد ويتكوّن من كيفيّة نسبة القمر إلى الشمس من دون مدخل لوجود الكرة الأرضيّة، فحالات القمر تطرأ عليه ولو فرض عدم وجودها في الفضاء.

ونتيجة هذا البيان: أنّ قياس خروج القمر عن تحت الشعاع على طلوع

ص: 54

الشمس وغروبها قياس مع الفارق، إذ لا يمكن بمقتضى كروية الأرض وارتباط طلوع الشمس وغروبها بحركة الأرض أن يكون للأرض مشرق واحد ومغرب كذلك، بل يكون لكل بقعة مشرق ومغرب خاصين بها، ولذا يكون لكل أهل بقعة تكليف خاص بهم، بينما لا يتعدّد خروج القمر عن تحت الشعاع لعدم ارتباطٍ له ببقاع الأرض فلا يتعدّد بتعدّدها((1)).

وبعبارة أخرى - كرويّة الارض واختلاف شروقها وغروبها لا مدخليّة لها في هلال القمر وتثليثه وتربيعه وبدره وغيرها من الحالات فإنّها ناشئة من نفس حركة القمر بالنسبة إلى الشمس فبدورانه وحركته الوضعيّة والانتقالية تحصل له هذه الحالات ولا ربط للأرض وكروّيتها بها أصلاً، فلو لم تكن أرض وكنّا نحن في نقطة من هذا الفضاء أيضاً نجد للقمر هذه الحالات في تمام الشهر وتكون لجميع الناس على حدّ سواء.

فالحاصل: أنّ الشروق وغيره نسبة قائمة بين الشمس والأرض بخلاف خروج القمر من المحاق فإنّها نسبة بين الشمس والقمر، فقياس أحدهما على الآخر في غير محله.

الدليل الثاني: الكتاب المجيد

وهو قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ

ص: 55


1- انظر المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 116-118.

مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}((1)).

جاء السؤال عن أحوال الأهلة في زيادتها ونقصانها وعن الحكمة في ذلك فأمر الله سبحانه رسوله الكريم صلى الله عليه وآله بأن يجيبهم بأنّ إحدى أوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه التوقيت به في أمور الدنيا وأمور الآخرة كالحج، فالمقياس المجعول هو الهلال، وهو المعروف لدى الناس من ظهور القمر من تحت الشعاع كخيط عريض عند غروب الشمس، والمتبادر من الآية هو أنّ ميقات كل مكلّف هو هلاله وقت غروب الشمس عن بلده، فالميقات هو هلال كل منطقة لأهلها عند غروب الشمس عن تلك المنطقة، فإذا رُئي الهلال في العراق عند الغروب ولم يُر في الصين مثلاً كان دخول الشهر للعراق دون الصين التي تبعد عنه بست ساعات ويكون الوقت عندهم منتصف الليل حينئذٍ.

جواب الدليل الثاني:

وقد سبق الجواب منّا عن هذا الاستدلال بأنّ الآية الشريفة بصدد تقرير جعل الأهلّة لمعرفة أيام الشهر بالنظر إلى حال القمر في الليل لسهولة هذا الطريق، وليست بصدد التقييد بكون الرؤية في بلد الرائي، وأنّها لا تشمل الرؤية في غير بلده لو رُئي هناك، أضف إلى ذلك أنّه على القول بتقييد الرؤية بمحل الرائي يلزم عدم كون الأهلة مواقيت للناس، ولا يفهم

ص: 56


1- سورة البقرة: 189.

الانصراف عن الهلال الذي يُرى في بلاد أخرى،كما أنّ قوله تعالى: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يعني أنّ الأهلة مواقيت لجميع الناس بلا اختصاص لها ببلد دون آخر، وكذا قوله تعالى {وَالْحَجِّ}، فإنّ الحجاج يجتمعون لأداء المناسك في زمان واحد وهم من أماكن متعدّدة وآفاق مختلفة.

الدليل الثالث: الروايات، وهي على طوائف

الطائفة الأولى:

ما دلّ على استحباب صوم يوم الشك من شعبان، إذا كان في الأفق علّة.

منها: معتبرة هارون بن خارجة قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «عد شعبان تسعة وعشرين يوماً فإن كانت متغيمة فأصبح صائماً، وإن كان مصحية وتبصرته ولم تر شيئاً فأصبح مفطراً»((1)). فقد دلّت على حصر استحباب صوم يوم الشك في الشك المسبّب عن علّة كالغيم في أفق بلد المكلّف، فلو لم يكن حكم الآفاق مختلفاً لما كان لحصر منشأ الشك في العلّة في بلد المكلّف معنى، ولأطلق ذلك وكان اشتراط استحباب صوم يوم الشك بالشك في الرؤية شاملاً لجميع الآفاق.

ومنها: معتبرة معمّر بن خلاد عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: كنت جالساً عنده آخر يوم من شعبان فلم أره صائماً فأتوه بمائدة فقال: «ادن<

وكان ذلك بعد العصر فقلت له: جعلت فداك صمت اليوم. فقال لي: «ولِمَ ؟< قلت: جاء عن

ص: 57


1- وسائل الشيعة 10: 299، ب16 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.

أبي عبد الله (علیه السلام) في اليوم الذي يشك فيه أنّه قال: «يوم وفّق له<. قال: «أليس تدرون إنّما ذلك إذا كان لا يعلم أهو من شعبان أم من شهر رمضان فصامه الرجل فكان من شهر رمضان كان يوماً وفّق له، فأمّا وليس علّة ولا شبهة فلا ... <((1)). ودلالتها كالسابقة.

ومنها: معتبرة الربيع بن ولاد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا رأيت هلال شعبان فعد تسعاً وعشرين يوماً، فإن صحت ولم تره فلا تصم وإن تغيمت فصم »((2)). ودلالتها كسابقتيها. وإنّما عبّرنا عنها بالمعتبرة - مع أنّ الربيع بن ولاد لم يوثّق - لصحة السند إلى محمد بن زياد وهو ابن أبي عمير الذي هو من أصحاب الإجماع فيصح ما صحّ عنه.

ويمكن الجواب عنها - مضافاً إلى ما يأتي في مناقشة بعض الأعلام -:

بأنّ هذه الطائفة في مقام المنع عن إلحاق يوم الشك بشهر رمضان، فالنهي عن الصوم فيها في حال كون الأفق صحواً إنما هو لأجل عدم إلحاق اليوم الذي يصومه بشهر رمضان، لا أنّ صوم آخر شعبان ممنوع إذا كان الجو صحواً، بل صيامه ذو ثواب كثير جداً، وروايات الباب نفسه تحثّ على صومه وترغّب فيه كما عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح، عن الرضا (علیه السلام) ، عن آبائه (علیهم السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صام يوم الشك فراراً بدينه فكأنّما صام ألف يوم من أيام الآخرة غراً

ص: 58


1- وسائل الشيعة 10: 24، ب5 من أبواب وجوب الصوم، ح12.
2- وسائل الشيعة 10: 298، ب16 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.

زهراً لا تشاكل أيام الدنيا»((1)).

وعن زيد بن علي، عن آبائه (علیهم السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوموا سر الله»، قيل: ما سر الله؟ قال: «يوم الشك»((2)).

وعن محمد بن سنان قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن يوم الشك؟ فقال: «إنّ أبي كان يصومه فصمه»((3)).

وعن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل صام في اليوم الذي يشك فيه فوجده من شهر رمضان؟ فقال: «يوم وفقه الله له»((4)).

وعن زكريا بن آدم، عن الكاهلي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اليوم الذي يشك فيه من شعبان؟ فقال: «لإن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من شهر رمضان»((5)).

وفي القبال توجد روايات فيها الإشكال في صوم يوم الشك كما عن أبي خالد الواسطي قال: أتينا أبا جعفر (علیه السلام) في يوم شك فيه من رمضان فإذا مائدته موضوعة وهو يأكل ونحن نريد أن نسأله، فقال: «ادنوا للغداء، إذا كان مثل هذا اليوم ولم تجئكم فيه بينة رؤيته فلا تصوموا - إلى أن قال: -

ص: 59


1- وسائل الشيعة 10: 300، ب16 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح6.
2- المصدر نفسه، ح7.
3- المصدر نفسه، ح8.
4- المصدر نفسه، ح9.
5- وسائل الشيعة 10 : 300 ، ب16 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح10.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ألحق في رمضان يوماً من غيره متعمداً فليس بمؤمن بالله ولا بي»((1)).

وهي كروايات هذه الطائفة، وإن كان النهي فيها مطلقاً إلا أنّها تقيّد بالصوم بنيّة الإلحاق بشهر رمضان، فاذا كانت في مقام بيان هذه الجهة فلا يصح الأخذ باطلاقها في مقام آخر عند الشك.

وثانياً: لابد من القطع بعدم خصوصية سماء بلد المكلّف؛ لأنّ الشبهة والشك لايختصان بسماء بلد المكلّف، وإنّما اعتبر الميزان بها لسهولة نيل ذلك بالنظر وصعوبة الاستعلام عن سماء البلدان البعيدة، وإلا فقد ورد أنّه لو جاءت بينة بالثبوت في البلاد البعيدة فإنّه يجب على بلد المكلّف القضاء، ولو جاء خبر غير واجد لشرائط الحجيّة بثبوت الهلال فإنّه يحصل الشك فلا اختصاص للشك ببلاد المكلّف. وأوضح من ذلك أنّه لو جاء خبر من البلاد القريبة بالثبوت فيها وكان فيها غيم وكذا في بلد المكلّف فإنّه يحصل الشك أيضاً، فلا خصوصية لسماء بلد المكلّف.

الطائفة الثانية:

اشارة

ما ورد في أنّه لا عبرة بغيبة الهلال بعد الشفق ولا بتطوّقه ولا برؤيته قبل الزوال، كما قاله المشهور؛ فإنّ هذه العلامات لو كانت معتبرة لكان معنى ذلك إمكان أن يُرى الهلال في بلاد أخرى بعيدة مما يكشف عن أنّ اختلاف الآفاق غير معتبر وإلا لاعتبرت هذه العلامات.

ص: 60


1- وسائل الشيعة 10: 298، ب16 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

وتوضيح ذلك: أنّ ارتفاع الهلال عن الأفق بحيث يغيب الشفق مع بقاء الهلال - وقد يمتدّ بقاؤه زماناً؛ لأنّه لو كان بقاؤه في الأفق في الليلة الأولى نصف ساعة مثلاً ففي الليلة الثانية سيبقى ساعة - يُعدّ أمارة على أنّ الليلة هي الليلة الثانية من الشهر من دون رؤية في الليلة السابقة كما ذهب إليه بعضهم، مع العلم أنّه لو غاب الهلال قبل الشفق لكان أمارة على أنّها الليلة الأولى منه.

فلو كان اختلاف الآفاق معتبراً لاعتبرت هذه الأمارة، لأنّ معنى ذلك إمكان أن يُرى الهلال في بلاد أخرى بعيدة مما يكشف عن أنّ اتحاد الآفاق غير معتبر، لكنّها ليست كذلك فلا بد من القول باشتراط وحدة الأفق. وكذا الكلام في العلامتين المذكورتين.

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: في إمكان اعتبار العلامات المذكورة وعدمه.
المقام الثاني: في أنّه هل يمكن الاستدلال بعدم اعتبار تلك العلامات على القول باتحاد الأفق أم لا؟

أما المقام الأول فالبحث فيه يقتضي البسط في أدلة هذه العلائم واستعراض الروايات الواردة في المقام وملاحظة مقدار دلالتها ليتضح الحال فيما أفاده المشهور.

العلامة الأولى: وهي غيبوبة الهلال بعد الشفق، ففيها روايتان:

الأولى: معتبرة أبي علي بن راشد قال: كتب إليّ أبو الحسن العسكري(علیه السلام)

ص: 61

كتاباً وأرّخه يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شعبان وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان يوم الأربعاء يوم شكّ فصام أهل بغداد يوم الخميس، وأخبروني أنّهم رأوا الهلال ليلة الخميس ولم يغب إلا بعد الشفق بزمان طويل، قال: فاعتقدت أنّ الصوم يوم الخميس وأنّ الشهر كان عندنا ببغداد يوم الأربعاء. قال: فكتب إليّ «زادك الله توفيقاً فقد صمت بصيامنا< قال: ثم لقيته بعد ذلك فسألته عمّا كتبت به إليه. فقال لي: «أولم أكتب إليك إنّما صمت الخميس ولا تصم إلا للرؤية<((1)).

فإنّها صريحة في عدم الاعتبار بغيبوبة الهلال بعد الشفق، وقول السائل: (فاعتقدت أنّ الصوم يوم الخميس) أي من إخبارالإمام (علیه السلام) .

ولا يضرّ باعتبار الرواية وجود أحمد بن محمد بن الحسن، وهو أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد؛ لأنّ روايات الشيخ عنه عن أبيه معتبرة؛ لوجود طريقين معتبرين من الشيخ إلى جميع روايات أبيه((2)).

الثانية: معتبرة إسماعيل بن الحر، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة، وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين»((3)).

وهي صريحة في الاعتبار بغيبوبة الهلال بعد الشفق، وأنّ الهلال يكون لليلتين.

ص: 62


1- وسائل الشيعة 10: 281، ب9 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- أصول علم الرجال 2: 343.
3- وسائل الشيعة 10: 282، ب9 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح3.

وفي سندها إسماعيل بن الحر - كما هو الصحيح المنقول في الكافي والفقيه والتهذيب - الذي لم يرد في حقه توثيق، وقد وجد أيضاً (ابن الحسن) في بعض نسخ الكافي والتهذيب وهو كسابقه في عدم ورود التوثيق بحقه.

ولها سندان آخران يصلان إلى حماد بن عيسى، فيشتركان مع السند الأول في الضعف؛ لوجود إسماعيل بن الحر.

ورواها الكليني بسند آخر وهو: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ومحمد بن خالد جميعاً عن سعد بن سعد، عن عبد الله بن الحسين، عن الصلت الخزاز، عن أبي عبد الله (علیه السلام) .

لكن عبد الله بن الحسين لم نعرفه، والصلت الخزاز مجهول.

إلا أنّ حماد بن عيسى من أصحاب الإجماع فحتى على القول بأنّ معنى تصحيح ما يصحّ عنهم هو صحة الرواية لا التوثيق لمن يروون عنه تصحّ الرواية أيضاً، كما أنّ الرواية مذكورة في كتب الحسين بن سعيد، ونقلها الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه فيمكن القول بأنّها معتبرة.

وبناء على هذا يقع التعارض بينها وبين الرواية الأولى حيث إنّ الأولى تفيد عدم الاعتبار بالغيبوبة بعد الشفق، والثانية تفيد اعتباره، فالمدلولان متنافيان ويكون التعارض مستقرّاً.

وقد أخذ السيد الأستاذ (قدس سره) بالرواية الأولى وحكم بعدم اعتبار المغيب بعد الشفق وفاقاً للمشهور من عدم اعتباره بعد أن ضعّف الرواية الثانية، لكن

ص: 63

غير المشهور على اعتباره لكونه أمراً وجدانيّاً، فإنّ الشفق يزول بعد غروب الشمس بساعة أو أكثر، وفي الرواية الأولى: (ولم يغب إلا بعد الشفق بزمان طويل) ولا يمكن أن يكون الهلال لليلته، بل هو لليلتين. فعليه لابد من توجيه الرواية الأولى بعد وضوح أنّ الثانية تقتضي كونه لليلتين إذا غاب بعد الشفق كما هو الثابت بالوجدان.

هذا، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يقال: إنّ قول الراوي: (وأخبروني أنّهم رأوا الهلال ليلة الخميس) لا يدلّ على أنّ الخبر خبر ثقة أو كان بينة عادلة، والإخبار بحدّ نفسه لا يمكن الاعتماد عليه، إذ ليس هو بينة كما أنّه لم يقل إنّه رأى الهلال بنفسه، وعلى هذا يمكن القول بأنّ غياب الهلال بعد الشفق يدلّ على أنّه لليلة السابقة وأنّه كان قابلاً للرؤية في بلاد أخرى.

وبعد ما عرفت أنّ الرواية الثانية أيضاً معتبرة وعرفت كيفية رفع التنافي بين الروايتين يتضح أنّ الصحيح هو اعتبار هذه العلامة.

العلامة الثانية:

التطويق، وهو أن يكون الهلال مطوّقاً بأن يكون النور في جميع أطراف القمر كطوق محيط به فهو أمارة كونه لليلتين، فيحكم بأنّ الليلة السابقة هي الليلة الأولى ولو لم ير الهلال فيها.

المشهور على عدم اعتباره علامة على ثبوت الهلال، وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المدارك)((1)). وعن بعضٍ الاعتبار كما

ص: 64


1- جواهر الكلام 16: 375.

هو المنسوب إلى الشيخ الصدوق((1)) ومال إليه الفاضل الخراساني في الذخيرة((2))، ويظهر من الشيخ في التهذيب القول به إذا كان في السماء علّة من غيم وما يجري مجراه((3)). فالشيخ ارتضاه في الجملة مع عدم وضوح دليل على هذا التقييد كما قال السيد الأستاذ (قدس سره)((4)).

ومستند القائلين بهذه العلامة ما رواه الكليني والصدوق والشيخ عن محمد بن مرازم، عن أبيه، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا تطوّق الهلال فهو لليلتين، وإذا رأيت ظل رأسك فيه فهو لثلاث»((5)). وسند الشيخ والكليني صحيحان، وعن العلامة في التذكرة المنع من صحة سندها((6)) وهذا وجيه في سند الصدوق لجهالة طريقه إلى محمد بن مرازم دون سند الكليني والشيخ.

فالرواية صحيحة السند وتامّة الدلالة ولا معارض لها فيصحّ جعل التطويق علامة، إلا أنّ المشهور لم يعملوا بها فلم يذكروه من جملة ما يثبت به الهلال.

العلامة الثالثة:

رؤية الهلال قبل الزوال، وهو فرض نادر التحقّق، وقد ذهب جماعة إلى أنّها علامة كونه متكوّناً وموجوداً في الليل وإن لم يُر من

ص: 65


1- ([2]) من لا يحضره الفقيه 2: 124،ح 1916.
2- ([3]) ذخيرة المعاد 1: 534.
3- ([4]) تهذيب الأحكام 4: 178.
4- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 101.
5- وسائل الشيعة 10: 281، ب9 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.
6- ([3]) تذكرة الفقهاء 6: 141.

باب الاتفاق، فهو لليلة الماضية وهذا اليوم أول الشهر، ومن هؤلاء السيد المرتضى في المسألة السادسة والعشرين والمائة من الناصريات حيث قال بعد قول الناصر: «إذا رئي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية»: (هذا صحيح وهو مذهبنا)((1)) قال في الحدائق: (وربما أشعرت هذا العبارة بدعواه الإجماع عليه، وإليه مال المحدّث الكاشاني في الوافي والمفاتيح والفاضل الخراساني في الذخيرة، وقال العلامة في المختلف إنّ الأقرب اعتبار ذلك في الصوم دون الفطر ... وظاهر المحقق الشيخ حسن في المنتقى الميل إلى هذا القول أيضاً)((2)). وقال السيد الأستاذ (قدس سره) إنّه الأقوى((3)).

وأما المشهور فعلى عدم اعتبارها علامة وأنّ المعتبر هو رؤيته في الليل، قال في الجواهر: (لا اعتبار برؤيته يوم الثلاثين قبل الزوال في ثبوت أنّه لليلة الماضية على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة يمكن تحصيل الإجماع معها، ولذا نسبه في المنتهى إلى أكثر علمائنا إلا من شذّ منهم، بل في الغنية دعواه على ذلك معللاً له بأنّ من خالف من أصحابنا لم يؤثر خلافه في دلالة الإجماع، بل نسبه في التذكرة إلى علمائنا أجمع من دون إشارة إلى شذوذ المخالف، وفي الخلاف نسبته إلى الرواية عن أمير المؤمنين ((علیه السلام) ) وابن عمر وأنس، ثم قال: ولا مخالف لهم، فدلّ على أنّه إجماع الصحابة)((4)).

ص: 66


1- مسائل الناصريات: 291، المسألة: 126.
2- الحدائق الناضرة 13: 284.
3- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 100.
4- جواهر الكلام 16: 366.

والروايات فيها على قسمين:

القسم الأول: ما طابقت قول المشهور، وهي على نحوين:

الأول: النحو العام، وهي ما جُعل الميزان فيها الرؤية كعموم «صم للرؤية وأفطر للرؤية» المنصرفة إلى الرؤية عند الغروب.

الثاني: النحو الخاص، وهي عدّة روايات.

منها: صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه عدل من المسلمين [وأشهدوا عليه عدولاً]، وإن لم تروا الهلال إلا من وسط النهار أو آخره فأتموا الصيام إلى الليل، وإن غمّ عليكم فعدوا ثلاثين ليلة [يوماً] ثم أفطروا»((1)).

وقد دلّت على أنّ الرؤية في وسط النهار غير معتبرة، بناء على أنّ وسط النهار هو ما قبل الزوال باعتبار أنّ مبدأ النهار هو طلوع الفجر؛ حيث إنّ ما بين الطلوعين ساعة ونصف تقريباً، فيكون وسط النهار ما يقارب من ثلاثة أرباع الساعة قبل الزوال.

ومحمد بن قيس وإن كان مشتركاً بين جماعة إلا أنّ المعروف منهم اثنان وكلاهما ثقة. كما أنّ يوسف بن عقيل ثقة أيضاً، فالرواية صحيحة.

ومنها: موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال

ص: 67


1- وسائل الشيعة 10: 278، ب8 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: «لا تصمه إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه، وإذا رأيته من وسط النهار فأتمّ صومه إلى الليل»((1)). وظاهرها أنّ إتمام الصيام إلى الليل إنّما هو لأجل ثبوت الهلال بالرؤية وسط النهار، فالرواية دالّة على أنّ الرؤية في وسط النهار معتبرة ولذا أمر بإتمام الصوم إلى الليل.

لكن إذا قلنا بأنّ المراد من الرؤية وسط النهار في ذيل الرواية هو رؤيته في وسط نهار يوم الشك في آخر شهر رمضان، مع أنّ صدرها وارد في هلال رمضان، فتكون تلك الرؤية غير معتبرة ولا يثبت بها أول شوال، ولذا أمر (علیه السلام) بإتمام الصيام إلى الليل. وبهذا التكلّف تكون دليلاً على قول المشهور.

ومنها: معتبرة جراح المدائني قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «من رأى هلال شوال بنهار في شهر رمضان فليتم صيامه»((2)). وهي مطلقة لم تفصّل بين رؤية الهلال قبل الزوال أو بعده.

قال السيد الأستاذ (قدس سره): (وهي وإن كانت ضعيفة عند القوم؛ إذ لم يرد في جرّاح ولا في القاسم بن سليمان الواقع في السند مدح ولا توثيق في كتب الرجال، ولكنها معتبرة عندنا لوجودهما في أسناد كامل الزيارات)((3)).

ص: 68


1- وسائل الشيعة 10 : 278 ، ب8 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح3.
2- المصدر نفسه، ح2.
3- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 96.

ومنها: مكاتبة محمد بن عيسى قال: كتبت إليه (علیه السلام) : جعلت فداك، ربما غمّ علينا هلال شهر رمضان فنرى من الغد الهلال قبل الزوال، وربّما رأيناه بعد الزوال، فترى أن نفطر قبل الزوال إذا رأيناه أم لا؟ وكيف تأمر في ذلك؟ فكتب (علیه السلام) : «تتمّ إلى الليل، فإنّه إن كان تامّاً رؤي قبل الزوال»((1)).

وقد ذكر فيها اختلاف بين نسخة التهذيب المطابقة لما في الوسائل ونسخة الاستبصار، ففي نسخة التهذيب: «ربما غمّ علينا هلال شهر رمضان...» وظاهرها فرض يوم الشك من شعبان، مع الصوم بنيّة الاستحباب أو القضاء، وورد الأمر بإتمام الصيام، والبناء على أنّ اليوم من شهر رمضان، فإنّه إذا كان شهر رمضان تاماً يمكن أن يُرى الهلال فيه قبل الزوال، وحينئذٍ لا تكون الرواية موافقة للمشهور، بل تدلّ على كشف الرؤية قبل الزوال عن كون اليوم أول الشهر.

وأما في نسخة الاستبصار فقد ذكر هكذا: «ربما غمّ علينا الهلال في شهر رمضان ...» وظاهرها فرض يوم الشك من شهر رمضان، والهلال المشكوك فيه هو هلال شوال، ويكون السؤال عن جواز الإفطار فيه بسبب رؤية الهلال قبل الزوال، بعد أن كان لزوم صوم يوم الشك في آخر شهر رمضان من الوضوح بمكان. وورد الأمر بإتمام الصيام، لعدم ثبوته بالرؤية قبل الزوال، وشهر رمضان إذا كان تاماً أمكن رؤية هلال الشهر اللاحق في هذا اليوم، ولا تكون الرؤية كاشفة عن كونه أول شوال، بل يُبنى على أنّه آخر شهر

ص: 69


1- وسائل الشيعة 10: 279، ب8 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.

رمضان. فعلى هذا تكون الرواية موافقة للمشهور.

وقد قيل: إنّ نسخة الاستبصار واضحة المعنى وخالية عن التكلّف والتأويل فترجّح على نسخة التهذيب، كما عن غير واحد منهم صاحب الحدائق((1)).

القسم الثاني: الروايات المفصّلة بين رؤية الهلال قبل الزوال فيكون لليلة الماضية وبين رؤيته بعده فيكون لليلة المستقبلة.

منها: موثقة عبيد بن زرارة وعبد الله بن بكير قالا: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «إذا رؤي الهلال قبل الزوال فذلك اليوم من شوال، وإذا رؤي بعد الزوال فذلك اليوم من شهر رمضان»((2)).

ومنها: صحيحة حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا رأوا الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وإذا رأوه بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة»((3)).

ومنها: مرسلة الصدوق في المقنع قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «إذا رئي الهلال قبل الزوال، فذلك اليوم من شوال، وإذا رئي الهلال بعد الزوال، فذلك اليوم من شهر رمضان»((4)).

وهذه الرواية معتبرة لما ذكرناه في كتابنا أصول علم الرجال من أنّ

ص: 70


1- انظر: الحدائق الناضرة 13: 286-287.
2- وسائل الشيعة 10: 279، ب8 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح5.
3- وسائل الشيعة 10: 280، ب8 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح6.
4- مستدرك وسائل الشيعة 7: 414، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.

جميع روايات كتاب المقنع - وإن كانت محذوفة الأسانيد لغرضٍ- صحيحة وأنّ رجالها كلّهم ثقات((1)). وعلى فرض التنزّل عمّا ذكرناه تكون مؤيّدة للروايتين السابقتين.

الجمع بين القسمين:

جمع السيد الأستاذ (قدس سره) بين القسمين بالقول بأنّ الاستدلال فيما قيّد من القسم الأول بالرؤية وسط النهار - وهي صحيحة محمد بن قيس، وموثقة إسحاق بن عمار - متوقّف على احتساب مبدأ النهار من طلوع الفجر، وهذا لا يساعد عليه الفهم العرفي ولا المعنى اللغوي؛ لأنّ مبدأ النهار هو طلوع الشمس والزوال هو منتصف النهار كما أُشير إليه في عدّة روايات في باب الزوال، وعلى هذا فغاية ما تدلّ عليه هاتان الروايتان أنّ الرؤية وسط النهار - أي عند الزوال وما بعده - تستوجب احتساب اليوم من الشهر السابق، وهذا أمر صحيح. ولا تدلّان على الاحتساب من الشهر السابق حتى لو رُئي قبل الزوال كما هو محل الكلام.

وأما ما لم يقيّد بالرؤية وسط النهار - وهي معتبرة جرّاح المدائني - فهو قابل للتقييد، وتحمل معتبرة جرّاح على الرؤية ما بعد الزوال فيكون اليوم من الشهر السابق.

وأما مكاتبة محمد بن عيسى فلما كانت على نسختين مختلفتين فعلى

ص: 71


1- أصول علم الرجال 1: 329-332.

فرض عدم الترجيح بينهما، يلزم الرجوع إلى الطائفة الثانية لوضوحها وإجمال المكاتبة.

ومما يسهّل الخطب أنّها ضعيفة في نفسها وغير صالحة للاستدلال بها على أي تقدير؛ فإنّ محمد بن جعفر المكنّى بابن بطة ضعيف((1))، قال عنه النجاشي: (المؤدب، أبو جعفر القمي، كان كبير المنزلة بقم، كثير الأدب والفضل والعلم (العلم والفضل)، يتساهل في الحديث، ويعلّق الأسانيد بالإجازات، وفي فهرست ما رواه غلط كثير. وقال ابن الوليد: كان محمد بن جعفر بن بطة ضعيفاّ مخلّطاً فيما يسنده)((2)). ولعلّه كان يتساهل في الأسانيد لا الروايات.

وأما النحو العام وهي ما جُعل الميزان فيها الرؤية كعموم «صم للرؤية وأفطر للرؤية» المنصرفة إلى الرؤية عند الغروب فلا تنافي الطائفة الثانية ويمكن الجمع بينهما بالإطلاق والتقييد فالطائفة الثانية تقيّد هذه المطلقات.

ولا يقال - كما عن بعضهم - إنّها غير قابلة للتقييد وآبية عنه، لأنّه يقال: إنّها قد قيّدت بالبينة وبالشياع في بلاد أخرى، فهي قابلة للتقييد.

والحاصل: رأي السيد الأستاذ هو أنّ الأقوى - كما اختاره غير واحد - ثبوت الهلال برؤيته قبل الزوال وإن كان فرضاً نادر التحقّق لدلالة النص الصحيح الواضح الدلالة عليه، وعدم المعارض، بعد أن لم يكن خلاف

ص: 72


1- انظر: المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22 : 99.
2- رجال النجاشي: 372/ 1019.

الإجماع لقبول جماعة بمفاده.

ولا يضرّ عدم عمل المشهور به بعد أن كان إعراضهم - لو كان معتبراً - لتخيّل معارضته للقسم الأول.

ملاحظات على هذا الجمع:

ولكن لنا على هذا الجمع ثلاث ملاحظات:

الأولى: أنّه (قدس سره) قال باعتبار رواية جرّاح المدائني لوجوده هو والقاسم بن سليمان في أسناد كامل الزيارات. ولكنّه (قدس سره) رجع عن الاعتماد على التوثيق لمن هم في أسناد في كامل الزيارات وخصّه بمشايخ ابن قولويه فقط، وهو الصحيح، فتكون الرواية أيضاً ضعيفة حتى على مبناه هذا.

ولكن حيث إنّ القاسم بن سليمان ورد في أسناد تفسير القمي((1)) فيكون ثقة على مبناه، وهو الصحيح أيضاً.

لا يقال: إنّ الصدوق ذكر طريقه إلى جرّاح المدائني في المشيخة فيكون كتابه معتمداً لشمول شهادته في أول الفقيه له.

لأنّه يقال: إنّ الصدوق ذكر رجالاً فيها ولكنّه لم يرو عنهم فلا تشملهم الشهادة بأنّ كتبهم معتمدة ومعمول عليها.

هذا، لكن يمكن القول: إنّ كتاب جرّاح المدائني مشهور((2)) فعليه لا

ص: 73


1- أصول علم الرجال 1: 285.
2- أصول علم الرجال 1: 140.

حاجة لملاحظة الطريق إلى كتابه. كما أنّ هذه الرواية من كتب الحسين بن سعيد فتكون معتبرة.

الثانية: أنّه (قدس سره) قال بضعف سند مكاتبة محمد بن عيسى لوجود محمد بن جعفر المكنّى بابن بطة، وهو ضعيف كما عن النجاشي، فلا تنهض هذه الرواية لمعارضة الطائفة الثانية.

ولكن يمكن القول بوجود طريق لتصحيح هذه الرواية حيث إنّ للشيخ في الفهرست طريقاً معتبراً إلى كتب محمد بن عيسى، وهو: (أخبرنا بكتبه ورواياته جماعة، عن التلعكبري، عن ابن همام، عنه)((1)). وقد عرضنا هذه الطريقة على السيد الأستاذ (قدس سره) فقبلها وكلّفنا بعمل قائمة بأسماء من كان للشيخ طريق معتبر إلى كتبهم ورواياتهم ليعوّض به السند الضعيف إليهم، ولكن كان ذلك بعد انتهاء بحثه لكتاب الصوم فلذا حكم بضعف هذه الرواية.

الثالثة: أنّه (قدس سره) قال بضعف دلالة مكاتبة محمد بن عيسى للإجمال الناتج من اختلاف نسختي التهذيب والاستبصار الموجب لاختلاف الحكم، فلا يتم الاستدلال بها.

قد يقال بجريان أصالة عدم الزيادة فتكون نسخة الاستبصار هي المرجّحَة وهي قوله: (ربما غمّ علينا الهلال في شهر رمضان) فلا تكشف الرؤية قبل الزوال عن ثبوت الهلال.

ص: 74


1- الفهرست: 216-217/ 611.

لكنّ الصحيح عدم جريانها هنا - وإن قبلناها في بعض الموارد - وذلك لأنّ موردها ما إذا تعدّد الناقل فنقل بعضهم بنحوٍ وبعضهم بنحوٍ آخر بحيث كان الاختلاف بينهما بالزيادة والنقصان، دون ما إذا كان الناقل واحداً واختلفت النسخ في النقل عنه، فيكون المنقول مجملاً فلا يمكن التمسك به، والمقام من هذا القبيل.

وعلى هذا تبقى صحيحة حمّاد بن عثمان وموثقة عبيد بن زرارة وعبد الله بن بكير ومرسلة الصدوق بلا معارض فيتمّ القول بثبوت الهلال برؤيته قبل الزوال.

وقفة مع الشيخ الحر العاملي:

قال الشيخ الحر العاملي - بعد أن ذكر حمل الشيخ لهما على ما إذا شهد برؤيته شاهدان من خارج البلد ورأوه قبل الزوال- (أقول: ويحتمل الحمل على الأغلبية وعلى التقيّة)((1)).

أما الأغلبية فبمعنى أنّه لا ملازمة بين رؤية الهلال قبل الزوال فيكون لليلة الماضية، ورؤيته بعد الزوال فيكون لليلة المستقبلة، نعم هذا هو الغالب، والغالبية لا تفيد كونَ الشيء علامة، فإنّ مدار العلامية على كون الشيء دائميّاً.

وأما الحمل على التقيّة فلا يمكن المساعدة عليه، إذ رواياتهم عن بعض

ص: 75


1- وسائل الشيعة 10: 280.

الصحابة كعلي (علیه السلام) وعائشة وعمر وإن كانت على التفريق - بأنّ رؤية الهلال إن كانت قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن كانت بعد الزوال فهو لليلة المقبلة - وذهب إليه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وابن حبيب ونسبه إلى مالك إلا أنّ المشهور عندهم رفض التفريق بين الرؤية قبل الزوال وبعده، ورووه عن سالم وعمر وعبد الله بن عمر وابن مسعود، ونسبوه إلى علي (علیه السلام) وعثمان ومروان بن الحكم وعطاء بن أبي رباح، وقد رفض أبو حنيفة ومحمد بن الحسن التفريق في هلال شهر رمضان وشوال، وعن مالك بن أنس والشافعية والحنابلة اختيار عدم التفريق((1)). فلا موجب للحمل على التقيّة لا من جهة الروايات عندهم ولا من جهة الأقوال.

أضف إلى ذلك أنّ الحمل على التقيّة إنّما يُصار إليه إذا لم يمكن الجمع العرفي، والحال إنّه يمكن الجمع الدلالي في المقام بين الإطلاق والتقييد، فلا تصل النوبة إلى الجهة.

وحاصل البحث في هذا المقام أنّ الأقوى بالنظر إلى الأدلة اعتبار العلامات الثلاث فلا مجال لجعل عدم قول المشهور باعتبارها دليلاً على لزوم اتحاد الأفق.

و اما المقام الثاني وهو البحث في إمكان الاستدلال بعدم اعتبار تلك العلامات وإعراض المشهور عن الروايات الدالة عليها على القول باتحاد الأفق فيمكننا ذكر وجوه تفيد عدم إمكان إثبات اتحاد الأفق بذلك. بعد أن

ص: 76


1- انظر: الموسوعة الفقهية 22: 29.

كان من الواضح أنّ إعراضهم - لو كان معتبراً - غير تام؛ لتخيّلهم التعارض بين الروايات، وقد سبق عدم تمامية التعارض.

الوجه الأول: لزوم الدور من الاستدلال على اتحاد الأفق بعدم عمل المشهور بهذه الروايات؛ لأنّ صحة قول المشهور باتحاد الأفق يتوقف على عدم عملهم بهذه العلامات، وإلا لو لم يعتبر اتحاد الأفق لكانوا يعملون بها، مع أنّ عدم عملهم بها إنما هو من جهة قولهم باعتبار اتحاد الأفق.

الوجه الثاني: إنّه لا ملازمة بين عدم اعتبار هذه العلامات والقول باعتبار اتحاد الأفق؛ إذ يمكن رؤية الهلال قبل الزوال ومع ذلك لا يكون ذلك اليوم أول الشهر، ولا ربط لذلك بالقول باتحاد الأفق، فإنّه إذا فرض خروج القمر عن تحت الشعاع بعد طلوع الفجر أمكننا رؤيته بعد خمس ساعات مثلاً، وهذه الرؤية قبل الزوال في اليوم الطويل نسبيّاً -

كما إذا كان اليوم من أيام الصيف - مع أنّه لم يكن قابلاً للرؤية في غير بلد الرؤية من سائر الآفاق، كما أنّه لم يكن قابلاً للرؤية في الليلة السابقة في سائر البلدان، ومع هذا لا يقال إنّ اليوم هو أول يوم من الشهر، فلا ملازمة بين الرؤية قبل الزوال والرؤية في سائر البلدان، وعليه لا يلزم من عدم اعتبارها في هذا المورد القول باعتبار اتحاد الأفق.

الوجه الثالث: أنّه وإن صحّ أنّ النهار إذا كان شتويّاً يستغرق تسع ساعات وجزم بأنّ القمر ابتعد عن تحت الشعاع بمقدار 6 درجات مثلاً، فنعلم أنّه تكوّن بحيث رئي قبل إحدى عشر ساعة ونصف تقريباً.

ص: 77

وهذا معناه اشتراك هذا البلد مع بلد آخر رئي فيه الهلال في الليل السابق عند الغروب، بحيث يكون بلد المكلّف مشتركاً معه في آخر الليل، وتحرّك القمر مبتعداً عن تحت الشعاع كلّ درجة ساعتين تقريباً فرئي في بلد المكلّف في الليل اللاحق على 6 درجات بعداً من نقطة تحت الشعاع، فيثبت له الهلال من الليل السابق بناء على وحدة حكم الآفاق وعدم لزوم الاشتراك مع أنّ المشهور أعرضوا عن هذه العلامة، فيكون اختلاف حكم الآفاق هو الصحيح؛ إذ لو كان اتحاد الآفاق صحيحاً لوجب العمل بهذه العلامة.

إلا أنّا نقول إذا غيّرنا الفرض وقلنا إنّ اليوم الصيفي نهاره 14 ساعة، فإذا رئي الهلال عند الغروب وطال مكثه بعد الشفق، بحيث قطعنا أنّ القمر خرج من تحت الشعاع قبل 11 ساعة، أي بعد الفجر بثلاث ساعات، فنحن وإن كنّا مشتركين مع ذلك البلد الذي رئي فيه الهلال أوّلاً إلا أنّه من الواضح أنّه لا يعتد به، لعدم رؤيته في الليل، وكذا يقال في نفس المثال بالنسبة إلى رؤيته قبل الزوال، فصحيح أنّه رئي قبل الزوال، لكن هذه الرؤية غير معتد بها، للعلم بعدم رؤيته في الليل السابق يقيناً.

الطائفة الثالثة:

ما دلّ على قبول شهادة العدلين من خارج البلد إذا كان في البلد غيم وإلا لم تقبل.

إذ لو لم يكن اتحاد الأفق شرطاً لما كان لتقييد قبول شهادة العدلين بالغيم وجه؛ فإنّ الآفاق لو كانت متحدة الحكم لما كان الصحو أو عدمه في أفق خاص مؤثراً في حجيّة البينة وعدمها، ولما كان عدم رؤية الهلال

ص: 78

مع عدم العلّة في السماء مسقطاً لحجية مطلق البينّة التي تشهد بالرؤية في أفق بعيد عن أفق بلد المكلّف، فاشتراط وجود العلّة والغيم في حجية البينّة معناه الريب في شهادتها بالرؤية في أفق متحد مع الصحو، ولو كانت شهادتهما لا ريب فيها لرئي في البلد لعدم العلّة واتحاد أفق بلد الشهادة مع بلد المكلّف.

وهي روايتان:

الرواية الأولى: معتبرة أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخراز، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: كم يجزي في رؤية الهلال؟ فقال: «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر»((1)).

والظاهر أنّ العباس بن موسى هو أبو الفضل الورّاق كان من أصحاب يونس، وثقه النجاشي((2)) وعليه لا يصح التعبير عن هذه المعتبرة بالخبر.

الرواية الثانية: رواية حبيب الخزاعي قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة، وإنّما تجوز

ص: 79


1- وسائل الشيعة 10: 289، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح10.
2- رجال النجاشي: 280: 742.

شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية»((1)).

ولم يرد في حبيب الخزاعي توثيق، كما أنّه لم ترد رواية بهذا العنوان إلا هذه الرواية، وجاء في نسخةٍ: (الخثعمي) فيكون المراد به حبيب بن المعلل الخثعمي المدائني روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن والرضا (علیهم السلام) ، قال عنه النجاشي: (ثقة ثقة صحيح)((2)). وقال عنه الشيخ - بعد عدّه في أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) - : أنّه مولى كوفي((3))، بدل الخثعمي.

كما جاء في نسخة أخرى، وفي الجواهر أيضاً: (الجماعي)((4))، عدّه المفيد من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم((5)).

فهو مردّد بين الثقة وغيره، والنتيجة أنّ الرواية ضعيفة.

ولكن يمكن تصحيحها:

أولاً: بأنّ الرواية إن كانت من كتب يونس فقد صحّت لشهادة ابن الوليد بأنّها صحيحة، قال أبو جعفر بن بابويه: سمعت ابن الوليد رحمه الله يقول:

ص: 80


1- وسائل الشيعة 10: 291، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13.
2- رجال النجاشي: 141/ 368.
3- ([3]) رجال الطوسي: 185/ 2259.
4- جواهر الكلام 16: 354.
5- ([5]) معجم رجال الحديث 19 : 273.

كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلّها صحيحة يعتمد عليها، إلا ما ينفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ولم يروه غيره، فإنّه لا يعتمد عليه ولا يفتي به((1)).

والنجاشي وإن ذكر طريقاً إلى جميع كتبه((2)) ولكن من المحتمل أن تكون هذه الرواية من جملة رواياته التي ليست في كتبه فلا يكون هذا الطريق مفيداً إلا أنّ الشيخ ذكر عدّة طرق في الفهرست إلى جميع كتبه ورواياته((3)). وهذه الرواية داخلة في أحدهما فلا إشكال.

وثانياً: يونس بن عبد الرحمن من أصحاب الإجماع والأقوى أنّ معنى تصحيح ما يصحّ عنهم هو صحة الرواية فعليه تكون هذه الرواية صحيحة.

والبحث في هذه الطائفة يقتضي الكلام في مقامين:

المقام الأول:

في أنّ شهادة العدلين هل تقبل مطلقاً أو لا تقبل كذلك، أو يختص قبولها بحال وجود الغيم، وأما في حال الصحو فلا بد من شهادة الخمسين عدد القسامة؟.

المقام الثاني:

على فرض تمامية الاستدلال بهذه الطائفة على التفصيل المذكور هل تدل على اتحاد الأفق أم لا؟.

ص: 81


1- فهرست الطوسي: 266/ 813 .
2- رجال النجاشي: 448/ 1208.
3- ([3]) فهرست الطوسي: 266/ 813 .

أما المقام الأول فالمشهور أنّ شهادتهما معتبرة مطلقاً سواء كان في السماء علّة أو لا((1)). وعن بعضهم أنّها لا تقبل مطلقاً، وفي الجواهر: (ولكن لم نعرف القائل)، وعن جماعة منهم الصدوق والشيخ وبنو زهرة وحمزة والبراج وأبو الصلاح: تقبل مع العلّة خاصة، ومع عدمها يعتبر الخمسون((2)). وتأمّل السيد الأصفهاني في حجية البينة من البلد فيما إذا لم يكن في السماء علة، وكذلك السيد الحكيم إذا لم يحصل الاطمئنان بصدقها((3)).

استدل للقول المشهور بروايات عامة وأخرى خاصة:

أما العامة فما دلّ على اعتبار شهادة العدلين مطلقاً، منها: قوله صلى الله عليه وآله - في صحيحة هشام بن الحكم -: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض»((4)).

وأما الخاصة بالهلال فروايات كثيرة، قال بعضهم بتواترها إجمالاً:

منها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) : «إنّ عليّاً (علیه السلام) كان يقول: لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين»((5)).

ومنها: معتبرة حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال أمير

ص: 82


1- جواهر الكلام 16: 355.
2- ([2]) جواهر الكلام 16: 354.
3- ([3]) العروة الوثقى 3: 628-629.
4- وسائل الشيعة 27: 232، ب 2 من أبواب كيفية الحكم، ح1.
5- ([5] ) وسائل الشيعة 10: 286، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

المؤمنين (علیه السلام) : لا يجوز شهادة النساء في الهلال، ولا يجوز إلا شهادة رجلين عدلين»((1)).

ومنها: معتبرة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه»((2)).

ومنها: صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سئل عن اليوم الذي يقضي من شهر رمضان؟ فقال: «لا يقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر ..» الحديث((3)).

وفي القبال وردت أربع روايات تدلّ على عدم اعتبار شهادة العدلين في شهر رمضان أو في بعض الموارد، الأولى صحيحة الخراز، والثانية رواية الخثعمي، وقد مضتا.

فإنّه قد يقال بدلالة صحيحة الخراز على أنّ السماء إذا لم تكن فيها علّة لا تقبل شهادة الاثنين حينئذٍ ولا الأكثر منهما. وأنّ رواية الخثعمي لا تجوّز شهادة أقل من خمسين في أمر الهلال في الصحو، وإنما تقبل البينة إذا كانت من خارج المصر وبالمصر علّة.

الرواية الثالثة: رواية أبي العباس، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الصوم

ص: 83


1- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح3.
2- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.
3- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح5.

للرؤية والفطر للرؤية، وليس الرؤية أن يراه واحد، ولا اثنان، ولا خمسون»((1)).

الرواية الرابعة: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية، والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف، وإذا كان علّة فأتم شعبان ثلاثين».

وزاد حماد فيه: «وليس أن يقول رجل: هو ذا هو» لا أعلم إلا قال: «ولا خمسون»((2)).

فلا عبرة بالبينة، بل إذا لم يكن في السماء علّة لم يكف في الرؤية رؤية الواحد والاثنين، وإن كانت فيها علّة لزم إتمام شعبان ثلاثين. وعلى هذا يقع التعارض بينها وبين الروايات الأولى الدالة على حجية البينة.

هذا، وأجاب السيد الأستاذ (قدس سره) بعدم التعارض بينهما؛ وذلك:

لأنّ صحيحة الخزاز بصدد بيان عدم جواز العمل بالظنّ كما عنون (علیه السلام) كلامه بذلك، فالمقصود إنّما هو المنع عن التظنّي في فريضة رمضان ولزوم تحصيل العلم، ولذا لم تفرض العدالة في الأقلّ من الخمسين، ولا بدّ من حمل هذا العدد على المثال، وإلاّ فلا يمكن أن يقال: إنّ الخمسين يوجب العلم،

ص: 84


1- وسائل الشيعة 10: 290، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح12.
2- وسائل الشيعة 10: 289، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح11.

وتسعة وأربعين لا يوجبه، فالمراد التمثيل بعدد يستوجب حصول العلم عادةً.

وكيفما كان، فهي مسوقة لبيان عدم حجّيّة الظنّ، لا عدم حجّيّة البيّنة، فلا تنافي دليل اعتبارها بوجه.

وممّا يؤكّد ذلك أنّه (علیه السلام) حكم بقبول الشهادة إذا كانت في السماء علّة فيما إذا قدم الشاهدان من خارج المصر، إذ نسأل حينئذٍ: أنّ المحلّ الذي يقدم الشاهدان منه هل في سمائه أيضاً علّة أو لا؟ فعلى الأوّل كان حاله حال البلد فكيف لا تقبل شهادة الرجلين من البلد وتقبل من خارجه؟! وعلى الثاني وهو المتعيّن يلزمه قبول الشاهدين من البلد أيضاً إذا لم يكن في سمائه علّة، إذ التفكيك بينهما بقبول شاهدي الخارج دون الداخل مع تساويهما في عدم العلّة غير قابل للتصديق، فلا تعارض الصحيحة حجّيّة البيّنة أبداً، بل تؤكّدها حسبما عرفت((1)).

ورواية أبي العباس ضعيفة سنداً بالقاسم بن عروة، فإنّه لم يوثّق، ودلالة؛ لأنّها في مقام بيان أنّ مجرد دعوى الرؤية لا أثر لها وإن تعدّد المدعي فبلغ خمسين رجلاً لجواز تواطئهم على الكذب، فإنّ غاية ما تفيده الدعوى الظن، وهو لا يغني من الحق، فلا يسوغ التعويل عليه، بل لا بد من الاعتماد على العلم أو ما هو بمنزلته، ومعلوم أنّ مجرد دعوى الرؤية غير كافٍ في الشهادة وكأنّ الرواية تعرّيض بما عليه العامة من الاستناد على مجرد دعوى الرؤية ممن يصلي ويصوم. فهي أجنبية عن فرض قيام البينة، ولذا لم يفرض

ص: 85


1- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 69.

فيها أنّ الخمسين كان فيهم العدول، فلا تنافي بينها وبين ما دلّ على حجية البينة وأنّها بمثابة العلم تعبداً.

وكذا الكلام في دلالة صحيحة محمد بن مسلم؛ فإنّ سياقها يشهد بأنّها في مقام بيان عدم الاكتفاء بالظنّ وعدم الاعتماد على الرأي الناشئ من كبر الهلال أو ارتفاعه ونحو ذلك، فلا أثر لكلّ ذلك وإن كثر المدّعون حتّى زادوا على الخمسين مثلًا ما لم يُطمأنّ بصدقهم، واحتمل تواطؤهم على الكذب، ولذا لم يفرض فيها أنّ في المدّعين عدولاً أو ثقات. وأين هذا من حجّيّة البينة؟! فإنّه لا تنافي بين هذه وبين دليل الحجّيّة بوجه كما هو ظاهر جدّاً((1)).

وأما رواية الخزاعي فناقشها (قدس سره) سنداً بما مرّ قريباً من أنّ راويها وهو حبيب مردّد بين الموثق وغيره فلا يحكم بصحة السند.

كما ناقشها دلالة إذ ظاهرها عدم جواز الاعتماد على شهادة العدد الكثير في أمر الهلال إذا كانت السماء صحواً، ومعناه عدم الاتكال على الاحتمال أو التظني؛ إذ عند استهلال جماعة كثيرين مع عدم العلّة في السماء لو ادعى الرؤية رجلان منهم فإنّه قد يطمأن بخطئهما، لعدم رؤية العدد الكثير إيّاه، ولو كان في السماء لرآه غيرهما، فلا تكون مثل هذه البينة مشمولة لدليل الحجية. ولا ينافي ذلك حجية البينة في نفسها، لولا الاطمئنان المذكور، ولذا أجاز (علیه السلام) شهادة الرجلين مع وجود العلّة وكون المخبر بالرؤية من

ص: 86


1- انظر المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 67-68.

خارج البلد لانتفاء الاطمئنان بخطأهما حينئذ، ولو لم يكن هذا هو سبب قبول شهادتهما فما الفرق بين كون الشاهدين من داخل البلد أو من خارجها وهذا كاشف عن اعتبار البينة في نفسها، وأنّها حجة بمنزلة العلم.

ولو سلمنا دلالتها على عدم حجية البينة إذا لم يكن في السماء علّة فهي تعارض الروايات الخاصة المتقدمة الدالة على حجية البينة في خصوص الهلال فيتساقطان، ويكون المرجع بعد ذلك إلى عمومات حجية البينة على الاطلاق((1)).

وقد يقال: الطائفة الأولى دلّت على حجية البينة مطلقاً سواء وجدت العلّة في السماء أم لم توجد وسواء كانت البينة من الخارج أو الداخل، بينما الطائفة الثانية خصصت حجيتها بوجود العلّة في السماء وكون البينة من الخارج، فتحمل الطائفة الأولى على ما إذا كان في السماء علّة وكانت البينة من الخارج.

لكنّه موهون، فإنّه يلزم من حمل المطلقات على ما إذا كان في السماء علّة وكانت البينة من الخارج التخصيص بالفرد النادر، فلا بد من الحكم بتساقط الطائفتين، والرجوع إلى المطلقات.

والحاصل: أنّ الطائفة الثانية لا تدلّ على عدم حجية البينة لعدم كونها بصدد بيان هذا المطلب أولاً، وعلى فرض دلالتها فهي تعارض الطائفة الأولى الدالة على حجية البينة مطلقاً، فيتساقطان، ويلزم الرجوع إلى

ص: 87


1- انظر المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 66.

المطلقات ثانياً. فما ذهب إليه المشهور من حجية البينة على الهلال من غير فرق بين ما إذا كان في السماء علّة أم لا هو الصحيح((1)).

هذا ما ذكره (قدس سره)، ولكن فيه مواقع للنظر:

أما صحيحة الخزاز فما أفاده في ضعف دلالتها وإن كان تامّاً ظاهراً إلا أنّ ما جعله مؤكداً قابل للجواب حيث إنّه (قدس سره) قال: إنّ المحلّ الذي يقدم الشاهدان منه يحتمل فيه احتمالان:

الأول: أن يكون في سمائه أيضاً علّة فحاله حال البلد فكيف لا تقبل شهادة الرجلين من البلد وتقبل من خارجه؟!.

الثاني: أن لا تكون في سمائه علّة وهو المتعيّن فيلزمه قبول الشاهدين من البلد أيضاً إذا لم يكن في سمائه علّة، إذ التفكيك بينهما بقبول شاهدي الخارج دون الداخل مع تساويهما في عدم العلّة غير قابل للتصديق فلا تعارض الصحيحة حجّيّة البيّنة أبداً، بل تؤكّدها.

ولكن في كلا الاحتمالين ما لا يخفى.

أما الأول فهو مرفوض؛ إذ كيف يشهدان بالرؤية مع وجود العلّة؟!، ويكون السؤال الذي فرّعه عليه في غير محلّه.

وأما الثاني فيمكن القول فيه بالتفكيك بين شهادة الشاهدين من داخل البلد فلا تقبل وشهادتهما من خارجه فتقبل؛ أما عدم قبول شهادتهما إذا

ص: 88


1- انظر المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 69 -70.

كانا من البلد فلعدم انحصار الرؤية بهما، فشهادتهما دون غيرهما ربما تكون موجبة لحصول الريب فيها والاطمئنان بخطئهما، وأما قبول شهادتهما إذا كانا من خارج البلد فلعدم وجود أشخاص آخرين معهما فيكون احتمال الصدق قويّاً، وأصالة عدم الخطأ جارية، وهذا كافٍ في التفكيك بين الشهادتين.

نعم، الصحيحة لا تنفي حجية شهادة العدلين إذا كان البلد صحواً مطلقاً، بل ذلك مخصوص بما إذا حصل الاطمئنان بخطئهما، كما إذا كثر المستهلّون وقال بعضهم بأنّهم رأوا الهلال، وقال الآخرون بأنّهم لم يروه، أو ادعى الرؤية رجلان مثلاً دون البقيّة، ولم يكن لهما خصوصية تميّزهما عن الآخرين.

وأما إذا لم يحصل الاطمئنان بالخطأ كما إذا قلّ المستهلّون أو كان الشاهدان حادّي البصر وعارفين بمحل الهلال، أو شهدا على قوم آخرين أنّهم صاموا فلا دليل على عدم حجيّة الشهادة حينئذٍ.

وعلى هذا يمكن أن يقال بأنّ ما ذكره في ذيل كلامه حول الصحيحة - من أنّ الصحيحة لا تخصص المطلقات الدالة على حجيّة البينة مطلقاً بما إذا كان في السماء علّة وكانت البينة من الخارج كما هو مقتضى الجمع للزوم التخصيص بالفرد النادر، فلا محالة يقع التعارض بينهما وبين المطلقات، ومع تساقط الطائفتين يُرجع إلى عمومات حجية البينة على الإطلاق - قابل للمناقشة فإنّه إذا خصصنا عدم حجية البينة بصورة الاطمئنان بالخطأ دون

ص: 89

غيرها كما إذا لم يكن المستهلون كثيرين، أو لم يكن للشاهدين خصوصيّة وامتياز على غيرهما فلا يلزم تخصيص الأكثر، والالتزام به أمر مقبول.

والحاصل: أنّه لا مانع من القول بتقييد الاطلاقات بصورة ما إذا كان البلد صحواً وكثر المستهلّون، أو ادعى الرؤية رجلان غير متميزين بحدّة البصر أو بمعرفة محل الهلال فإنّ الشهادة حينئذٍ لا تُقبل.

وأما في غير هذه الصورة - وهي ما إذا كانا من خارج البلد وشهدا بالرؤية، أو شهدا برؤية قوم آخرين، أو كانا من داخل البلد إلا أنّ المستهلّين ليسوا بكثيرين، أو كان لهما امتياز من جهة حدّة البصر أو معرفة محل الهلال دون غيرهما - فتقبل الشهادة، فما اختاره جماعة - وهم الصدوق والشيخ ومن تابعهما كما تقدّم - صحيح في الجملة.

اللهم إلا أن يقال بعدم التقييد لكون الروايات الأربع موافقة للتقية؛ حيث ذهب أبو يوسف القاضي إلى أنّه إذا كان الجو صافياً لم يقبل في رؤية الهلال أقل من خمسين((1)). وعن أبي حنيفة أنّه في الصحو لا يقبل إلا الاستفاضة؛ لأنّه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة فيراه واحد دون الباقين((2)).

وأما إذا رفضنا ذلك فلم نحملها على التقيّة؛ لعدم ذهاب معظمهم إلى ما ذهبا إليه فلا مانع من تخصيص الروايات المطلقة بهذه الروايات الأربع.

ص: 90


1- المحلى 4: 375.
2- ([2]) المغني 3: 93.

ويشهد له أنّ الجماعة المتقدم ذكرها قبلوها وقيّدوا بها المطلقات، ولم يحملوها على التقيّة، فلو كان يلزم من التقييد التقييد بالفرد النادر لما حملوها عليه.

والنتيجة: أنّه يمكن القول بأنّ السماء إذا كانت صحواً وكان المستهلّون كثيرين وشهد اثنان منهم برؤية الهلال لم تقبل شهادتهما للاطمئنان بخطئهما.

نعم لو شهد أكثر من اثنين بحيث لا يكون هناك اطمئنان بخطئهم قبلت شهادتهم، ولا يلزم أن يكون الشهود خمسين فرداً، وإنّما المعتبر أن يكون الشهود بحيث لا يجتمع مع شهادتهم الاطمئنان بخطئهم.

وأما رواية أبي العباس فقد قال (قدس سره) بأنّها ضعيفة سنداً بالقاسم بن عروة، فإنّه لم يوثّق.

ولكنه ورد في نوادر الحكمة، وروى عنه المشايخ الثقات((1)) فيكون ثقة، ويحمل ما دلّ على ضعفه على الضعف في مذهبه.

وأما رواية الخزاعي فقد تقدّم قريباً إمكان تصحيحها، وما ذكره من الجواب عن دلالتها هو في محلّه ظاهراً، لكنه (قدس سره) قال بعد التنزّل والتسليم بدلالتها على عدم حجية البينة إذا لم يكن في السماء علّة هي تعارض الروايات الدالة على حجية البينة في خصوص الهلال فيتساقطان، ويكون المرجع بعد ذلك إلى عمومات حجية البينة على الإطلاق.

ص: 91


1- أصول علم الرجال: 1 : 234 ، وج 2 : 206.

ويشكل بأنّه لماذا حكم بالتعارض والتساقط مع أنّ ظاهر هذه الرواية عدم حجيّة البينة في الهلال إذا كانت السماء صحواً، وأما إذا كانت فيها علّة وكانت البينة من خارج البلد فهي حجة، فهي أخص من الروايات الدالة على حجية البينة في الهلال حيث إنّ تلك الروايات مطلقة تشمل ما إذا كان في السماء علّة أم لم يكن فيها علّة، وكانت البينة من خارج البلد أم من داخله، ومقتضى الجمع تخصيصها بهذه الرواية لا الحكم بالتعارض والتساقط.

لكنّه (قدس سره) أجاب عن هذا الإشكال في ذيل جوابه عن صحيحة الخزاز بأنّه يلزم من حمل المطلقات على ما إذا كان في السماء علّة وكانت البينة من الخارج كما هو مقتضى الجمع التخصيص بالفرد النادر، فلا بد من الحكم بتساقط الطائفتين، والرجوع إلى عمومات حجية البينة على الإطلاق((1))، وقد مضى قريباً ما فيه.

وأما المقام الثاني - وهو الاستدلال بهذه الطائفة على اعتبار اتحاد الأفق - فقد يقال بأنّه قابل للمنع، وبيان ذلك:

أولاً: إنّ هذه الطائفة في مقام بيان حجية البينة وعدمها، وأنّها متى تكون معتبرة ومتى لا تكون كذلك، وليست في مقام بيان اعتبار اتحاد الأفق فليس فيها إطلاق من هذه الناحية.

ثانياً: يمكن أن يقال: إنّه ليس للشرط مفهوم في المقام؛ لأنّه إذا لم يكن

ص: 92


1- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم : 69.

في البلد غيم فالهلال يثبت بالرؤية أو لا يثبت بعدمها فلا يتوقف على الشهادة من خارج البلد هذا دائماً أو غالباً، فالقيد مَسوق لبيان تحقّق الموضوع.

وثالثاً: على فرض كونها مطلقة من هذه الناحية هي منصرفة عن البلاد البعيدة، فإنّ قوله: (خارج المصر) ينصرف إلى البلاد القريبة وأطراف البلد، بقرينة قوله (يدخلان ويخرجان من مصر) الدالّ على أنّ هذا هو ما اعتادا عليه، وهذا يلتئم مع كونهما من بلاد قريبة ، كما أنّ متعلق شهادتهما هو هلال شهر رمضان ولا تتصور الشهادة به لو كانا من بلاد بعيدة جداً.

رابعاً: على فرض الإطلاق وعدم الانصراف فإنّ قول الشاهدين حجة في صورة وجود الغيم ونحوه، لعدم حصول الاطمئنان بالخطأ، وشهادتهما ليست مقبولة في حال الصحو، للاطمئنان بخطئهما، وليس في هذه الطائفة ما يدلّ على أنّ الشاهدين لو كانا من بلاد بعيدة لم تعتبر شهادتهما فيما إذا لم يكن في بلد الشهادة غيم، بخلاف ما إذا كان بلد الشهادة صحواً وشهد شاهدان من خارجه وكانا من بلاد قريبة فإنّ شهادتهما غير معتبرة، وإلا لرآه أهل البلد أنفسهم، بينما إذا كانا من بلاد بعيدة لا يشترط وجود الغيم ونحوه، فإنّه يمكن أن يكون الهلال قد تكوّن عندهم ولم يكن قد تكوّن في بلد المكلّف لاختلاف أفقه عنه، فلا نعلم ولا نطمئن بخطئهم، فالوجه في ردّ البينة في حال صحو سماء البلد هو في البلاد القريبة، فلابد لقبولها من وجود الغيم ونحوه حتى لا يحصل الاطمئنان بخطئهم، وأما إذا كانت البينة من بلاد بعيدة فلا يأتي فيها لزوم التقييد بوجود الغيم، بل يمكن أن

ص: 93

يقال إنّ الإمام (علیه السلام) إذا كان في مقام بيان المحلّ الذي تكون فيه البينة حجة والمحلّ الذي لا تكون فيه حجة فلا بد من تقييد البينة بالتي تكون من بلاد متحدة الأفق مع بلد الشهادة، وأنّ الشهادة من مختلفي الأفق تكون غير معتبرة، وهذا الحكم مورد للابتلاء والحاجة وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع عدم المانع قبيح، فالحكم بحجية البينة من الخارج مطلقاً بلا تقييد دليل على عدم الفرق بين كون شهادتها عن الرؤية في مكان متحد الأفق أو مختلفه.

الطائفة الرابعة:

ما دلّ على عدم اعتبار قول المنجمين والهيويّين، وأنّ المعتبر هو الرؤية.

إذ لو كان الهلال يثبت وإن رُئي في أفق مختلف فلابد وأن يُعتدّ بقول المنجمين والهيويّين إذا حصل من قولهم الاطمئنان، لأنّ الميزان في الثبوت حينئذٍ ليس خصوص الرؤية الحسيّة، بل يعم تكوّن الهلال خارجاً بحيث يُرى. لكن النصوص تنفي الاعتماد على قولهم.

ومن هذه الطائفة هي صحيحة محمد بن عيسى قال: كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي إنّه ربَّما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه ونرى السماء ليس فيها علّة، ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحسّاب قِبَلنا: إنّه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر، وإفريقية، والأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع (علیه السلام) :

ص: 94

«لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته»((1)).

وهي وإن كانت مضمرة إلا أنّ محمد بن عيسى اعتمد عليها وأخبر بها بعد أن رأى المكاتبة، كما أنّ فيها نداء المسؤول ب- (يا مولاي) وهذا الكلام يخاطَب به المعصوم (علیه السلام) ، فلذا تكون هذه الرواية صحيحة.

ويظهر منها أنّ اتحاد الأفق في الحكم كان مركوزاً في ذهن السائل حيث قال: (حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا)، كما أنّ سؤاله كان عن إمكان تكوّن الهلال في مصر وإفريقية والأندلس، وأنّ تحقق رؤية الهلال فيها هل يستلزم الثبوت في بغداد حتى يجب على أهلها الصيام؟ والإمام (علیه السلام) - مع إقراره السائل على هذا الارتكاز - أجاب بعدم الاعتداد بقول الحسّاب، وجعل الرؤية الحسيّة هي الميزان في وجوب الصيام أو الإفطار.

وسيأتي أنّ بعض الاعلام جعلها شاهداً على اعتبار اتحاد الأفق، من جهة أنّ الظاهر منها أنّ اتحاد الأفق في الحكم كان مركوزاً في ذهن السائل قال دام بقائه: ( ولم يخطر بباله احتمال أن يجب الصيام على أهل بلده بالرغم من عدم قابلية الهلال فيه للرؤية وإن رُئي في بلد آخر.

وأما جواب الإمام (علیه السلام) فلا يدلّ على ردع السائل عن المرتكز المذكور إن لم يدل على إقراره عليه)((2)).

ص: 95


1- وسائل الشيعة 10: 297، ب15 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- أسئلة حول رؤية الهلال: 19.

ويمكن الاستدلال بها من جهة أخرى وهي: أنّ نفي اعتبار قول الحسّاب والمنجمين مطلقاً والاعتبار بالرؤية فقط يدلّ على اعتبار اتحاد الأفق فلا يثبت الهلال إذا اختلفت؛ لأنّه لو كان يثبت الهلال مع اختلاف الآفاق بتكوّنه في أي نقطة من البلدان مع قابليته للرؤية فيها لم يكن لنفي اعتبار قول الحسّاب والمنجمين مطلقاً وجه، بل لابد من اعتباره إذا حصل الاطمئنان بقولهم، فنفي ثبوت الهلال بقولهم مطلقاً والاعتبار بالرؤية فقط يدلّ على اعتبار اتحاد الأفق.

هذا، ولكن الظاهر أنّ الجهتين كلتيهما قاصرتان عن الدلالة على المقصود، بل دلالة الصحيحة على عدم اعتبار الإتحاد أقوى، وذلك:

أما الجهة الأولى - وهي ارتكازية عدم اعتبار اتحاد الآفاق في ذهن السائل - ففيها:

أولاً: إذا كان ذلك مركوزاً في ذهنه، والحكم معلوماً عنده فما وجه السؤال عنه؟ وأمّا أنّ السؤال كان عن إمكان أمرٍ تكويني وعدمه فبعيد جداً.

وثانياً: إنّ جواب الإمام (علیه السلام) لا يكون حينئذٍ مطابقاً للسؤال، فإنّ الجواب المطابق لسؤال السائل ينبغي أن يكون بالجواز أو بعدم الجواز، لا بقوله: «لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته».

وثالثاً: ما يأتي في مناقشة الشاهد الخامس لبعض الاعلام من أنّ منشأ الشك في الصحيحة له ثلاثة احتمالات:

أحدها: اشتباه أمر الهلال وعدم وضوحه، وقد عبّر عنه السائل بأشكل

ص: 96

علينا، فكان الشك حاصلاً عند المستهلين من أول الأمر وقبل أن يبلغهم كلام الحسّاب.

الاحتمال الثاني: قول الحسّاب، وأنّه لو رُئي في البلاد البعيدة فمن المحتمل أنّه كان يُرى في بلد السائل، والحال أنّه لم يُر.

الاحتمال الثالث: الثبوت في تلك البلدان، لصحة حسابات الحسّاب، فإنّه إذا ثبت الهلال في تلك البلدان أوجب هذا الشك؛ لاحتمال حجيّة ذلك الثبوت بالنسبة لغير تلك البلدان.

وسيأتي أنّ الظاهر هو الأخير؛ فإنّ قول الحسّاب صار موجباً للشك، ويكون قوله (علیه السلام) : «لا تصومنّ الشك» جواباً عن سؤال السائل ودليلاً على عدم حجية قولهم، وأنّه لا اعتبار بالشك الذي أوجبه كلامهم، ولابد في ثبوت الهلال من تحصيل اليقين.

وعلى هذا لو كان اتحاد الأفق معتبراً لما كان قول الحسّاب موجباً للشك لو رُئي في تلك البلدان ولم يُر في بلد السائل، لكن لما كان عدم اتحاد الأفق معتبراً فلو رُئي هناك ولم يُر في بلد السائل لتمّ الثبوت فيه أيضاً، لكن قول الحسّاب ليس بحجة فيوجب الشك، ولذا نهي عن الصوم إذا كان الشك مسببّاً عن قولهم، وتكون الرؤية هي الميزان في وجوب الصوم، فإذا حصل اليقين برؤية الهلال فقد حصل المعيار في ثبوت الهلال، وهذا لا يختصّ ببلد السائل، ففي أي مكان رُئي فيه الهلال - ولو في بلاد بعيدة مختلفة الأفق - فقد تحقّق معيار الثبوت وما عليه المدار في الصوم

ص: 97

والإفطار، فدلالة الصحيحة على اعتبار اختلاف الآفاق أقوى.

وعلى فرض عدم ظهورها في هذا الاحتمال لا أقلّ من الشك، وهو يوجب الإجمال وعدم صحة الاستدلال بها.

وأما الجهة الثانية - وهي أنّ نفي اعتبار قول الحسّاب والمنجمين مطلقاً وعدم التقييد بما إذا لم يحصل الاطمئنان من قولهم، والاعتبار بالرؤية فقط يدلّ على اعتبار اتحاد الأفق - فقاصرة أيضاً عن الدلالة على اعتبار اتحاد الأفق في الثبوت، وذلك لأنّ الظاهر منها أنّ قول الحسّاب لا يوجب الاطمئنان، ولا يحصل ذلك منه ، وإلا فمع حصول العلم والاطمئنان كيف يُنفى اعتباره؟.

والشاهد على ذلك أنّ نفي اعتبار قول الحسّاب والمنجمين لا يختص بمورد ثبوت الهلال، بل ورد نفي اعتبار قولهم وعدم جواز العمل به في الحج والتجارة وغيرهما.

الطائفة الخامسة:

ما ورد من الروايات في ثبوت الهلال بالرؤية، إذ هي على قسمين:

الأول: مطلق لم يقيّد الرؤية برؤية المكلّف والمخاطب في بلده.

الثاني: مقيّد للرؤية برؤية المكلّف والمخاطب في بلده.

أما القسم الأول فهو عدّة روايات:

منها: صحيحة أبي العباس، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الصوم للرؤية

ص: 98

والفطر للرؤية وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون»((1)).

ومنها: معتبرة محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) - في حديث - قال: «صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية»((2)).

ومنها: معتبرة سماعة قال: «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن ..» الحديث((3)).

ومنها: معتبرة إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «في كتاب علي (علیه السلام) : صم لرؤيته، وأفطر لرؤيته، وإياك والشك والظن، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين»((4)).

ومنها: معتبرة الفضيل (الفضل) بن عثمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، أنّه قال: «ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية»((5)).

ومنها: معتبرة علي بن محمد القاساني قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا ؟ فكتب: «اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية»((6)).

ص: 99


1- وسائل الشيعة 10: 253، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.
2- المصدر نفسه، ح5.
3- المصدر نفسه، ح6.
4- وسائل الشيعة 10: 255، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح11.
5- المصدر نفسه،ح12.
6- المصدر نفسه، ح13.

وغيرها من الروايات.

وأما القسم الثاني فهو أيضاً عدّة روايات:

منها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إنّه سئل عن الأهلة ؟ فقال: «هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر»((1)).

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية ..» الحديث((2)).

ومنها: معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال شهر رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ قال: «لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه»((3)).

ومنها: صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : إذا رأيتم الهلال فأفطروا ..» الحديث((4)).

ومنها: صحيحة عبد السلام بن سالم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «إذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيت الهلال فأفطر»((5)).

ص: 100


1- وسائل الشيعة 10: 252، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- المصدر نفسه، ح2.
3- وسائل الشيعة 10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.
4- وسائل الشيعة 10 : 254 ، ب3 من ابواب أحكام شهر رمضان، ح10.
5- وسائل الشيعة 10: 257، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح20.

ومنها: معتبرة عبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن الأهلة؟ فقال: «هي أهلة الشهور ، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر...» الحديث((1)).

وغيرها من الروايات.

ويدور الأمر بين رفع اليد عن المطلقات بتقييدها بما دلّ على الرؤية في بلد المكلّف والمخاطب فتدلّ حينئذٍ على اعتبار اتحاد الأفق، أو رفع اليد عن خصوصية رؤية بلد المكلّف والتمسك بالإطلاق فتدلّ حينئذٍ على عدم اعتبار اتحاد الأفق.

والصحيح هو الأول فتحمل الرؤية في القسم الأول على خصوص الرؤية في بلد المكلّف، وذلك لأمور:

الأمر الأول: انصراف المطلقات إلى الرؤية في بلد المكلّف والمخاطب؛ لأنّ الموضوع هو رؤية المكلّف والحكم هو وجوب الصوم، فرؤية المكلّف نفسها موضوع لوجب الصوم عليه، ورؤية المكلّف لا تكون إلا في بلده، لا أنّ الموضوع تحقق صرف وجود الرؤية في بلادٍ ما.

الأمر الثاني: وجود القرينة في بعض روايات القسم الأول - وهي الروايات المطلقة - على أنّ المراد من الرؤية فيها هي الرؤية في بلد المكلّف، كما في صحيحة محمد بن عيسى حيث جاء فيها: (ويقول قوم من الحسّاب قِبَلنا:

ص: 101


1- المصدر نفسه، ح18.

إنّه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر، وإفريقية، والأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع (علیه السلام) : «لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته»((1))، فإنّ تعبير الإمام(علیه السلام) في الجواب وإن كان مطلقاً كسائر تعبيرات روايات القسم الأول إلا أنّ الظاهر إرادة رؤية بلد المكلّف بقرينة السؤال عن الاعتداد بقول الحسّاب وإمكان تحقّق ما قالوه من إمكان تحقّق الرؤية في مصر دون العراق، وأنّه إذا تحقّقت الرؤية في مصر فهل يستلزم ذلك تحقّق الرؤية في العراق؟ والمرتكز عند السائل أنّه سيختلف الحكم في الصيام لذلك، ويظهر من جواب الإمام إمضاء هذا الارتكاز فاختلاف الحكم على هذا يدلّ على أنّ المدار على رؤية بلد المكلّف.

الأمر الثالث: ظهور روايات القسم الأول في رؤية المكلّف؛ للمقابلة المتكرّرة في عدّة روايات بين الرؤية وشهادة العدلين، كما في صحيحة منصور بن حازم من قوله (علیه السلام) : «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنّهما رأياه فاقضه»((2)).

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان فقال: «لا تصم إلا أن

ص: 102


1- وسائل الشيعة 10: 297، ب15 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.

تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه»((1)).

ورواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: «لا تصم إلا للرؤية أو يشهد شاهدا عدل»((2)). ولا إطلاق في الشهادة ولا البينة.

الأمر الرابع: تقييد حجية البينة الآتية من خارج البلد بصورة وجود علّة في سماء البلد، وعدم الصحو، وأما مع صفاء السماء وعدم وجود علّة فيها فلا حجية لها، فلو كانت الرؤية حجة مطلقاً لما كان هناك داعٍ لهذا التقييد.

والظاهر أنّ الاستدلال بهذه الطائفة مدعّمة بهذه الأمور الأربعة أضعف مما تقدّم من الاستدلال، وذلك:

أما الأمر الأول - وهو الانصراف - فلا وجه له؛ لأنّ القسم الثاني من الروايات وإن ظهر منها اختصاص الرؤية بالمخاطب إلا أنّ هذا من باب الغلبة؛ فإنّ رؤية المكلّفين تتحقّق غالباً في بلدهم لا في بلاد أخرى، وأما كون خصوصية الرؤية في بلد المكلّف مأخوذة في الموضوع، بمعنى أنّ الرؤية المعتبرة هي ما كانت في بلد المكلّف لا في غيره فلا يستفاد من إلقاء الخطاب إلى المخاطبين، ومجرد الغلبة لا يوجب التقييد إلا بدليل، بل عدم وجود الدليل على أخذ الخصوصية المزبورة مع وجود المطلقات يرجّح الأخذ بالمطلقات، وأنّ الموضوع هو مطلق الرؤية سواء تحقّقت في بلد المكلّف أم في غيره من البلدان، وسواء تحقّقت من المكلّف أم من غيره.

ص: 103


1- وسائل الشيعة 10: 293، ب12 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.
2- وسائل الشيعة 10: 292، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح16.

وأما الأمران الثاني والثالث فيأتي فيهما ما تقدّم في الأمر الأول من أنّ ظهور القسم الأول في رؤية المكلّف في بلده للقرينة أو لمقابلة الرؤية مع البينة لا يوجب التخصيص بها.

وأما الأمر الرابع ففيه:

أولاً: ما سبق منّا من أنّ تقييد حجية شهادة العدلين بوجود العلة في السماء، وكونهما من خارج البلد لا يدل على اعتبار اتحاد الأفق ولا على عدمه؛ لأنّ الظاهر من الشاهدين هما الذين يدخلان ويخرجان من البلد، أي يكونان في أمكنة قريبة من البلد، والوجه في عدم اعتبار شهادتهما إذا كانت سماء البلد صحواً هو مساواة سمائها لسماء البلاد القريبة منها في كون كل منها صحواً، مما يعني الاطمئنان بخطأ الشاهدين في رؤية الهلال؛ إذ لو كانا قد رأياه خارج البلد لرآه المستهلون أيضاً، فعدم رؤيتهم له مع كثرتهم يوجب سلب الاطمئنان عن شهادة الشاهدين.

والحاصل: أنّه مع التصريح في قسم من الروايات بكون الرؤية من المكلّف وظهور ذلك في القسم الآخر منها إلا أنّ ذلك لا يدلّ على أنّ خصوصية بلد المكلّف معتبرة.

وثانياً: على فرض تسليم الدلالة فلا إشكال في أنّ رؤية قوم آخرين أو أهل مصر آخر غير مصر المكلّف - كما هو المستفاد من الروايات - تكون معتبرة أيضاً بالنسبة إلى غير بلد المكلّف من البلدان الأخرى، لا أنّ اعتبار رؤيتهم مختص ببلد المكلّف دون غيره، فحينئذٍ لابد من رفع اليد عن التقييد والأخذ بإطلاق الرؤية.

ص: 104

شواهد تؤيّد قول المشهور

اشارة

ثم إنّه ذكرت شواهد عرفية وشرعية تؤيّد قول المشهور، وهي أهم ما يمكن الاستشهاد به على كون العبرة في دخول الشهر القمري في كل مكان بقابلية الهلال للرؤية فيه، وهي:

الشاهد الأول:

هو التقريب الثاني للآية الكريمة قال بعض الاعلام: (إنّما اتخذ العرب الأشهر القمرية المقياس الأساس عندهم لحساب الأيام ولم يعتمدوا في ذلك على الأشهر الشمسية التي كانت متداولة عند الفرس والروم - مع أنّ كثيراً من شؤون الحياة من الزراعة وغيرها مما يختلف باختلاف الفصول التي هي أقسام للسنة الشمسية - من جهة أنّ الشهر القمري كان مقياساً يناسب حالهم من حيث إنّ معرفته لا تحتاج إلى الحساب - بخلاف الأشهر الشمسية - كما أنّه كان يناسب مناطقهم التي تكون السماء فيها في غالب أيام السنة صحواً مما يتيح معرفة أيام الشهر بالنظر إلى حال القمر في الليل بكل سهولة.

والمنسجم مع اعتمادهم على الأشهر القمرية دون الشمسية هو أن تكون العبرة عندهم في ابتداء الشهر في كل مكان بقابلية الهلال للرؤية في ذلك المكان، فإنّه أمر يعدّ في متناول الجميع: الحضري والبدوي، القريب من أوّل موضع يرى فيه الهلال والبعيد عنه.

وأما جعل المعيار هو ظهور الهلال وقابليته للرؤية في مكان ما - ولو في بلاد الروم أو الفرس أو في بعض البحار - يكون مشتركاً مع مناطقهم في

ص: 105

جزء من الليل فهو مما لا ينسجم بوجه مع ما ذكر في وجه اعتمادهم على الأشهر القمرية، فإنّه مقياس لا يصل إليه الجميع، لوضوح أنّه لا سبيل إلى التأكد من رؤية الهلال في الأماكن البعيدة إلا من جهة الحساب العلمي الدقيق، أو مع توفر طرق الاتصالات السريعة، وأنّى كان لهم ذلك؟!.

ولما جاء الدين الإسلامي الحنيف أقرّ العرب على اعتمادهم على الأشهر القمرية، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}((1)).

أي أنّها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم، وقد بنى الشارع المقدس مختلف أحكامه وتشريعاته على حساب الشهور القمرية، ولم يرد منه ما يفي بالردع عمّا جرت عليه سيرة الناس في ما هو المعيار في بداية الشهر القمري، ولو ورد لاشتهر وذاع لمسيس الحاجة إليه كما هو ظاهر)((2)).

ويلاحظ على هذا الشاهد: أنّ ما أفاده - من كون الاعتماد على الشهر القمري دون غيره لسهولته وأنّ المنسجم مع اعتمادهم على الأشهر القمرية هو أن تكون العبرة عندهم في ابتداء الشهر في كل مكان بقابلية الهلال للرؤية في ذلك المكان فهو تام، وأما ما أفاده من أنّ المعيار هو ظهور الهلال وقابليته للرؤية في مكانٍ ما فهو مما لا ينسجم مع السهولة التي كانت

ص: 106


1- سورة البقرة: 189.
2- أسئلة حول رؤية الهلال: 10-13.

الوجه في اعتمادهم على الشهر القمري، لكونه مقياساً لا يصل إليه الجميع، فإنّه لا سبيل إلى التأكد من رؤية الهلال في الأماكن البعيدة إلا من جهة الحساب العلمي الدقيق، أو مع توفر طرق الاتصالات السريعة- .

فمناقش بإمكان إخبار مَن في الآفاق البعيدة - التي تفصلها عن بلد المكلّف مسافة يوم أو نصف يوم مثلاً - برؤية الهلال، وهو أمر قريب، ولا بُعد فيه ولا ينافي الانسجام المذكور، بل يأتي من كلامه في الشاهد الثالث الاعتراف بذلك بقوله: بل لم تكن معرفة ذلك اجمالاً بالذي يتوقف على إجراء المحاسبة الدقيقة.

كما أنّه لا دليل على أنّ العبرة عندهم في ابتداء الشهر في كل مكان بقابلية الهلال للرؤية في ذلك المكان لكونه في متناول الجميع لا أنّ المعيار عندهم هو ظهور الهلال وقابليته للرؤية في مكان ما؛ لأنّ غاية ما تدلّ عليه الآية والسيرة العملية لهم هو أنّهم لا بد أن يبنوا على بداية الشهر إذا رأوا الهلال في بلدهم، لكنها لا تدلّ على أنهم إذا علموا برؤية الهلال في بلاد أخرى، فليس لهم البناء على بداية الشهر.

الشاهد الثاني:

اشارة

(إنّ مقتضى الالتزام بدخول الشهر في البلاد الواقعة في شرق بلد الرؤية من جهة اشتراكها معه في جزء من الليل هو إما تبعّض الليلة الواحدة فيها بين شهرين بأن يكون أولها إلى اللحظة التي رُئي الهلال فيها في ذلك البلد الغربي من الشهر السابق وما بقي من الشهر اللاحق، وإما ابتداء الشهر فيها قبل قابليّة الهلال للرؤية في أيّ مكان في الأرض، وكلا

ص: 107

الأمرين بعيد عن المرتكزات العرفيّة)((1)) .

وفيه:

أولاً: ما أفاده سيدنا الأستاذ (قدس سره) في بعض مكاتباته من النقض بعدم اختصاص الإشكال المذكور - لو صحّ - بالقول بعدم لزوم اشتراك الآفاق، بل هو مشترك الورود حتى على القول بلزوم الاشتراك في الآفاق، وتوضيح ذلك:

أنّه (إذا افترضنا أنّ خروج الهلال عن الشعاع بنحو قابل للرؤية بالعين المجردة قد صادف المغرب في نقطة من سطح الأرض مشتركة في الأفق مع نقطة أخرى واقعة على خطّ طول آخر يحلّ فيه غروب الشمس من قبل - أي شرق النقطة المفروضة بحيث تغرب الشمس فيها قبل ما تغرب في النقطة الأولى بمدة - فإنّه مثل هذه الفرضية سوف يكون خروج الهلال عن تحت الشعاع بالنسبة إلى النقطة الثانية بعد المغرب فيها بزمان، مع أنه بداية الليل يعتبر من الشهر اللاحق)((2)).

وثانياً: أنّه يمكن القول بأنّه ليس المدار على لحظة رؤية الهلال؛ لأنّ رؤية الهلال كاشفة عن خروج القمر من المحاق، ففي أيّ وقت من الليل حصلت الرؤية كانت كاشفة عن أنّ الليلة ليلة أول الشهر، فنبني على أنّ

ص: 108


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 13-14.
2- رسالة حول مسألة رؤية الهلال (مطبوعة ضمن ميراث فقهى2: رؤيت هلال ج2): 118، بتصرّف.

الليلة المذكورة من شهر شعبان مثلاً إلى أن ينكشف الخلاف، ومثل هذا موجود في الشرع كما في إجازة بيع الفضولي على الكشف.

وقد جاء في الروايات أنّ الشهر ثلاثون ما لم ينكشف الخلاف، فإن انكشف الخلاف فهو ليس منه، كما في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال شهر رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: «لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه»((1)).

وموثقة عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من الزيادة والنقصان، فإن تغيّمت السماء يوماً فأتموا العدة»((2)).

وصحيحة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في حديث - قال: «إن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين»((3)).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال فيمن صام تسعة وعشرين قال: « إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً »((4)). وغيرها من الروايات.

الشاهد الثالث:

اشارة

(إنّ مقتضى كون العبرة في دخول الشهر الجديد في بلد

ص: 109


1- وسائل الشيعة 10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.
2- وسائل الشيعة 10: 264، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح10.
3- وسائل الشيعة 10: 265، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح12.
4- وسائل الشيعة 10: 265، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13.

المكلف برؤية الهلال ولو في بلد آخر بعيداً عنه جداً هو أنّ صيام النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمة (علیهم السلام) وفطرهم وحجهم وسائر أعمالهم التي لها أيام محدّدة في الأشهر القمرية لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيامها الحقيقية، لوضوح أنّهم (علیهم السلام) كانوا يعتمدون في تعيين بدايات الأشهر الهلالية على الرؤية في بلدانهم أو البلدان القريبة منها مع أنّ في كثير من تلك الشهور كانت الرؤية متيسرة في الليلة السابقة في بعض الأماكن البعيدة جداً كما يعرف ذلك بمراجعة البرامج الكمبيوترية الحديثة التي تبيّن أوضاع القمر لآلاف السنين الماضية والآتية.

أي أنّه في حالات غير قليلة كان هلال شوال - مثلاً - قابلاً للرؤية في استراليا أو جنوب أفريقا أو أمريكا الجنوبية في ليلة السبت مثلاً، ولكنّه لما لم يكن قابلاً للرؤية في المدينة المنورة أو العراق في تلك الليلة - كما يحدث مثله في زماننا كثيراً - كان النبيّ صلى الله عليه وآله أو الإمام (علیه السلام) يصوم ذلك اليوم مع أنّه في واقع الحال كان يوم عيد الفطر الذي لا يشرع فيه الصوم في حقّه، وهذا بعيد في حدّ ذاته.

ويزيده بعداً أنّهم (علیهم السلام) لم يكن ينقصهم العلم بما يعرف به وضع الهلال في الأماكن الأخرى؛ لأنّه لا يتوقف إلا على إجراء محاسبة علمية دقيقة للتوصل إلى درجة ارتفاع الهلال على الأفق ومقدار بعده الزاوي عن الشمس ونسبة القسم المنار إلى أكبر قطر يبلغه القرص، وهذه المحاسبة لم تكن بعيدة عن معرفة أهل الحساب من العرب وغيرهم حتّى في عصرهم(علیهم السلام) ، فمتى علم أنّ الهلال سيكون في استراليا مثلاً بارتفاع اثنتي

ص: 110

عشرة درجة، وبعيداً عن الشمس بمقدار ثماني درجات وتبلغ نسبة القسم المنار (3% ) مثلاً يقطع عندئذ بكونه قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة في تلك البلدان لولا الموانع من غيم أو نحوه وإن لم يكن قابلاً للرؤية في الجزيرة العربية أو العراق، ولا حاجة في معرفة ذلك إلى علم الغيب لكي يقال: إنّهم(علیه السلام) لم يكونوا يستخدمونه في هذه المجالات.

بل لم تكن معرفة ذلك - إجمالاً - بالذي يتوقّف على إجراء المحاسبة الدقيقة وإنّما يكفي فيها الوقوف من خلال الاختبار والتجربة على اختلاف حال الأمكنة والبلدان من حيث إمكانية رؤية الهلال فيها، وهو ما كان معلوماً للكثيرين.

ومهما يكن فلا ريب في أنّ صيام النبي صلى الله عليه وآله والأئمة (علیهم السلام) وفطرهم إنّما كان وفق ما تقتضيه رؤية الهلال في بلدانهم أو ما يقرب منها وإن كان الهلال - في واقع الحال - قابلاً للرؤية من قبل ذلك في بعض الأماكن البعيدة جداً كبلاد الشام والحبشة.

ومن الروايات التي تؤكد ذلك معتبرة أبي علي بن راشد قال: كتب إليّ أبو الحسن العسكري (علیه السلام) كتاباً وأرّخه يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شعبان وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان يوم الأربعاء يوم شكّ وصام أهل بغداد يوم الخميس، وأخبروني أنّهم رأوا الهلال ليلة الخميس ولم يغب إلا بعد الشفق بزمان طويل. قال: فاعتقدت أنّ الصوم يوم الخميس وأنّ الشهر كان عندنا ببغداد يوم الأربعاء. قال: فكتب إليّ «زادك الله توفيقاً فقد صمت بصيامنا< قال: ثم لقيته بعد ذلك فسألته عمّا كتبت به إليه. فقال

ص: 111

لي: «أولم أكتب إليك إنّما صمت الخميس ولا تصم إلا للرؤية<((1)).

ووجه الاستشهاد بهذه الرواية هو تصريح الإمام الهادي (علیه السلام) فيها بأنّ يوم الخميس كان أول أيام رمضان عام 232 للهجرة سواء في بلد سكناه(علیه السلام) آنذاك وهو المدينة المنورة أو في بلد السائل وهو بغداد، مع أنّ مقتضى الحسابات الفلكية الدقيقة أنّ هلال رمضان كان قابلاً للرؤية بكل وضوح في ليلة الأربعاء الموافق «20 نيسان عام 847 للميلاد< في معظم القارة الأفريقية والأمريكيتين)((2)) .

وفيه:

أولاً: إنّ العلم الإجمالي المذكور بوقوع بعض أعمالهم (علیهم السلام) على خلاف الواقع متوقف على العلم بثبوت الهلال في الآفاق البعيدة والعلم بتاريخ تلك الأعمال، وهذا مما لا سبيل إليه، ولعل أعمالهم (علیهم السلام) كانت موافقة للواقع دائماً.

وثانياً: لو سلمنا ثبوت العلم الإجمالي بما ذُكر لم ينفع ذلك لإثبات ما ذكره دام بقائه؛ إذ غايته صدور العمل على خلاف الواقع بسبب العمل بالأمر الظاهري، وهذا لا ضير فيه؛ لأنّ الأمر الظاهري مجزٍ فللمكلّف العمل به إلى أن يثبت الخلاف، وهذا جارٍ في حق المعصوم (علیه السلام) أيضاً، بل هذا في حق المعصوم (علیه السلام) آكد حيث إنّه المحافظ والمثبِّت للأحكام الظاهريّة،

ص: 112


1- وسائل الشيعة 10: 281، ب9 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- أسئلة حول رؤية الهلال: 14-16.

والمصلحة العامّة تقتضي ذلك، فالنبي والإمام يعملان معاً تاكيداً لإثباتها، وقد وقع نظائرها في الشريعة كما في قوله صلى الله عليه وآله: إنّما أقضي بينكم بالبينّات والأيمان، وغيره من الموارد مع علمهم بالواقع. فلو لم يصم المكلّف في أول الشهر لعدم ثبوت الهلال في بلده - وإن كان ثابتاً في البلاد البعيدة ولم يصله خبره - لم يكن ذلك ضائراً، نعم يلزم عليه القضاء إذا وصله خبر ثبوته في تلك البلاد كسائر المكلّفين.

والشاهد على ذلك ما ورد في معتبرة عبد الله بن سنان عن رجل - نسي حماد بن عيسى اسمه - قال: صام علي (علیه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً شهر رمضان، فرأوا الهلال فأمر منادياً ينادي: «اقضوا يوماً، فإنّ الشهر تسعة وعشرون يوماً»((1)).

فقد عُلم من ثبوت الهلال أنّهم لم يصوموا يوماً من أول الشهر وأنّ عليهم قضاءه، فبما أنّه قد انكشف الخلاف لابد من العمل بالوظيفة الثانية وهي العمل على ما يقتضيه الدليل من لزوم القضاء، ولو لم ينكشف الخلاف لكانوا مطالبين بالعمل بالحكم الظاهري، فلو فرض ثبوت الهلال حين ذاك في بلاد بعيدة كإفريقيا مثلاً ولم يصل خبره أهلَ الكوفة لم يضر هذا بمدّعانا، إذ ليسوا مطالبين إلا بالعمل بالظاهر، لكن لو وصل الخبر لوجب ترتيب أثره وهو قضاء اليوم الذي لم يصوموه.

ويؤيدها أيضاً ما في موثقة إسحاق بن جرير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

ص: 113


1- وسائل الشيعة 10: 296، ب14 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّ الشهر هكذا وهكذا وهكذا، يلصق كفيه ويبسطهما، ثم قال: وهكذا وهكذا وهكذا، ثم يقبض إصبعاً واحدة في آخر بسطة بيديه وهي الإبهام، فقلت: شهر رمضان تام أبداً أم شهر من الشهور؟ فقال: هو شهر من الشهور، ثم قال: «إنّ علياً (علیه السلام) صام عندكم تسعة وعشرين يوماً، فأتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين قد رأينا الهلال، فقال: أفطروا»((1)) فهي تدلّ على لزوم العمل بالأمر الظاهري وإجزائه إلا أن ينكشف الخلاف؛ وقد روى العامّة أنّ رجلاً جاء وشهد عند النبي صلى الله عليه وآله وفي رواية أخرى جاء رجلان وشهدا برؤية الهلال فأمر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بلال أن ينادي بذلك وأجاز شهادتهما.

وثالثاً: لم يُعلم وجوب الفحص عن ثبوت الهلال في غير بلد المكلّف، وقد ورد: «إنّما عليك مشرقك ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا»((2))، ولا يختص هذا بالصلاة، على احتمالٍ، بل يجري في سائر العبادات أيضاً ومنها الصوم.

وأما ما ورد في رواية علي بن راشد من أنّ يوم الخميس كان أول أيام شهر رمضان عام 232 للهجرة مع أنّ مقتضى الحسابات الفلكية الدقيقة أنّ هلال رمضان كان قابلاً للرؤية بكل وضوح في ليلة الأربعاء الموافق «20 نيسان عام 847 للميلاد< في معظم القارة الأفريقية والأمريكيتين.

ص: 114


1- وسائل الشيعة 10: 262، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.
2- وسائل الشيعة 4: 198، ب20 من أبواب المواقيت، ح2.

ففيه: أنّه على فرض ثبوت ذلك - مع أنّ حساب الفلكيين والبرامج الكامبيوتريّة الحديثة لا اعتبار بها الآن فكيف يستشهد بها قبل ألف سنة؟ وبعد وضوح عدم اشتراك معظم الأمريكيتين مع العراق أو الحجاز في الليل - إنّما يتمّ فيما لو كان عمل الإمام (علیه السلام) وأتباعه غير مجزٍ، والحال أنّ عملهم بالظاهر مجزٍ بلا ريب، لعدم انكشاف الخلاف، فحتى لو فرض ثبوت الهلال في أفريقيا مثلاً فما دام لم يُعلم بالثبوت ولم يصل خبره لا يجب الصوم.

الشاهد الرابع:

اشارة

(خبر معمّر بن خلاد عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: كنت جالساً عنده آخر يوم من شعبان فلم أره صائماً فأتوه بمائدة فقال: «ادن< وكان ذلك بعد العصر فقلت له: جعلت فداك صمت اليوم. فقال لي: «ولِمَ؟< قلت: جاء عن أبي عبد الله (علیه السلام) في اليوم الذي يشك فيه أنّه قال: «يوم وفّق له<. قال: «أليس تدرون إنّما ذلك إذا كان لا يعلم أهو من شعبان أم من شهر رمضان فصامه الرجل فكان من شهر رمضان كان يوماً وفّق له، فأمّا وليس علّة ولا شبهة فلا...<((1)).

ووجه الاستشهاد بهذه الرواية هو أنّ الإمام (علیه السلام) قد جعل المناط في مطلوبيّة الاحتياط بصيام اليوم الذي يعقب التاسع والعشرين من شعبان هو عدم العلم بكونه من شعبان أو من رمضان، مع أنّ أقصى ما يقتضيه خلو السماء من الغيم ونحوه وعدم الشبهة في وجود ما يمنع من رؤية الهلال في

ص: 115


1- وسائل الشيعة 10: 24، ب5 من أبواب وجوب الصوم، ح12.

بلد المكلّف هو العلم بعدم ظهوره فيه بنحو قابل للرؤية بالعين المجرّدة، فلو كان يكتفى في دخول الشهر في بلد بقابلية الهلال للرؤية ولو في أُفق بلد آخر لصدق على ذلك اليوم أنّه مما لا يعلم كونه من شعبان أو رمضان، فلا يتجه نهي الإمام (علیه السلام) عن صيامه احتياطاً، وهذا ظاهر)((1)).

وفيه:

أولاً: النقض بالبلاد القريبة لبلد المكلّف فإنّه (علیه السلام) لم يستثنها في قوله: (ليس علّة ولا شبهة)، كما لم يستثن البلاد البعيدة، فالبلاد القريبة لو كان فيها علة أو شبهة لحسن الاحتياط بصوم يوم الشك بمقتضى هذه المعتبرة، ولا بد على القائل، أن يلتزم بذلك بعد أن كان بلد المكلّف خالياً عن العلّة والشبهة، فلا يصحّ اختصاص العلة أو الشبهة ببلد المكلّف.

وثانياً: بالحل؛ فإنّ المعتبرة لم تشترط في حسن الاحتياط وجود الشبهة والعلّة في بلد المكلّف فقط، بل جعلت المدار في حسن الاحتياط وجود الشبهة أو العلّة، وعدم حسنه بعدم وجودهما، والشبهة لا تختصّ بوجود الغبار ونحوه ببلد المكلّف، فلو وجدت الشبهة بسبب البلاد البعيدة - كما يأتي بيانه في الكلام في الشاهد اللاحق - كفى ذلك في حسن الاحتياط.

ثم إنّه لم يُعلم الوجه في تعبيره عن هذه الرواية بالخبر؛ فإنّ معمّر بن خلاد ثقة كما عن النجاشي((2)) وطريق الشيخ في الفهرست والصدوق في

ص: 116


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 17-18.
2- رجال النجاشي: 421/ 1128.

الفقيه إلى كتابه صحيح وبما أنّه ابتدء به في السند فمقتضى شهادته في أول الكتاب أنّه نقل الرواية عن كتابه، واحتمال أنّه لم ينقلها عن كتابه، بل أخذها من كتب آخرين احتمال خلاف شهادته، ولا يعتنى به((1)).

الشاهد الخامس:

(معتبرة محمّد بن عيسى، قال: «كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي إنّه ربما أشكل علينا هلال رمضان فلا نراه ونرى السماء ليس فيها علّة، فيفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحسّاب قبلنا: إنّه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وإفريقية والأندلس. فهل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع (علیه السلام) : «لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته»((2)).

وجه الاستشهاد بهذه الرواية هو دلالة كلام السائل على ارتكاز فكرة اختلاف الآفاق في ذهنه، بحيث لم يكن يشك في أنّه على تقدير صحّة قول الحسّاب من رؤية الهلال في تلك الليلة بمصر وإفريقية والأندلس سيختلف الفرض على أهل الأمصار، أي يكون صيام رمضان واجباً على خصوص من كان الهلال قابلاً للرؤية في بلدانهم، ولم يخطر بباله احتمال أن يجب الصيام على أهل بلده بالرغم من عدم قابلية الهلال فيه للرؤية وإن رُئي في بلد آخر.

ص: 117


1- الفهرست: 252/ 764، من لا يحضره الفقيه (المشيخة) 4: 472.
2- وسائل الشيعة 10: 297، ب15 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

وأما جواب الإمام (علیه السلام) فلا يدلّ على ردع السائل عن المرتكز المذكور إن لم يدل على إقراره عليه كما سيأتي توضيحه إن شاء الله)((1)).

وفيه: أنّ هذه المعتبرة على خلاف ما رامه أدلّ؛ لأنّ الإمام (علیه السلام) بصدد نفي الاعتماد على قول الحسّاب حيث قال «لا تصومنّ الشك»، وهذا القول منه (علیه السلام) مترتّب على قول الحسّاب؛ إذ قولهم هو الذي أوجب الشك، ولو لم تعتبر الرؤية في بلاد بعيدة لما كان هناك سبب للشك، ويكون المعنى: لا تصومنَّ اليوم الذي يُشكّ فيه بسبب قول الحسّاب، لا أنّه مترتب على ما ارتكز في ذهن السائل من أنّ اختلاف البلدان يوجب اختلاف الفرض والتكليف، وبما أنّ السائل ليس بصائم، بل هو مفطر كما صرّح به وليس بشاكّ فلا يناسب مخاطبته بالنهي عن الصوم.

فلو فرضنا أنّ كلام الحسّاب مقبول وأخبروا بثبوت الهلال فمن أين يأتي الشك؟، فإنّه لو لم يكن الثبوت في البلاد البعيدة معتبراً لما كان للشك معنى، فلا بدّ من القول بأنّ الثبوت في البلاد البعيدة معتبر وهو حجة، لكنّ ذلك إنّما يكون بالرؤية لا بقول الحسّاب الذي يدخل في الرأي والتظنّي، وسيأتي التصريح في النصوص بعدم اعتبارهما في إثبات الهلال.

وعلى هذا لا يقال: إنّ الشك لم يكن مستنداً إلى قول الحسّاب فيكون الجواب رادعاً عن صوم الشك المستند إلى قولهم، بل هو مستند إلى ما في صدر المعتبرة من قوله «ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان»، فقد عبّر

ص: 118


1- أسئلة حول رؤية الهلال: 18-19.

السائل بما يفيد الشك في شهر رمضان قبل السؤال عن قول الحسّاب، فيكون جواب الإمام (علیه السلام) تقريراً لما ارتكز في ذهن السائل من اختلاف الفرض باختلاف البلدان.

لأنّه يقال: إنّ المحتمل بدواً في منشأ الشك ثلاثة أمور:

الأمر الأول: عدم الوضوح واشتباه أمر الهلال، المعبّر عنه في كلام السائل بأشكل علينا، فكان الشك حاصلاً عندهم من أول الأمر.

وفيه: أنّ الإشكال غير الشبهة والشك((1))، بل هو بمعنى أنّ أمره كان غير متيسّر فبعد الفحص والبحث عنه لم نجده.

ثم إنّه لو كان المراد أنّ الشبهة حاصلة في الهلال، لبقي سؤال السائل عن قول الحسّاب بلا جواب.

كما أنّ قوله: (فلا نراه ونرى السماء ليس فيها علّة) لا يُبقي معنى للشك.

أضف إلى ذلك أنّ السائل قال: «فيفطر الناس ونفطر معهم»، فيكون قوله(علیه السلام) «لا تصومنّ الشك» طلباً لتحصيل الحاصل؛ إذ من الواضح المصرّح به في كلام السائل أنّه ليس بصائم، فكيف يقال له لا تصومنّ؟.

ص: 119


1- أقول: الإشكال لغة هو الالتباس والاختلاط فلا يصحّ نفيه، والصحيح أن يقال: إنّ الإشكال قد استعمل هنا في ما صعب أمره ولم يكن يسيراً، ولذا قال: «أشكل علينا هلال شهر رمضان ولا نراه»، أي بعد الفحص والبحث عنه، وليس المراد أنّه التبس عليهم، قبل البحث والفحص كما قال المستشكل لأنّه قال بعد ذلك: «ونرى السماء ليست فيها علّة» [م.ع].

اللهم إلا أن يقال بأنّ قول الحسّاب صار موجباً للشك في وجود الهلال في أفق بلد السائل ولو لم يره الناس، وهذا بعيد جداً.

الأمر الثاني: قول الحسّاب، وأنّه لو رُئي في البلاد البعيدة فلعلّه كان يُرى في بلد السائل، والحال أنّه لم يُر.

وفيه: أنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر؛ فإنّ السماء كانت صافية ولا علّة فيها، وقد تمّ الفحص عن الهلال ولم يُر.

الأمر الثالث: حجية قول الحساب والثبوت في تلك البلدان بناء على قولهم، فإنّه إذا ثبت عندهم الهلال أوجب هذا الشك لاحتمال حجيّة ذلك الثبوت بالنسبة لغير تلك البلدان، وعليه يكون قوله (علیه السلام) «لا تصومنّ الشك» ناظراً إلى ما أفاده قول الحسّاب من الشك، وجواباً عن سؤال السائل، وبياناً لعدم حجية قولهم، فإنّ الصوم والفطر لا يكونان بالرأي والتظنّي.

ولو كان اتحاد الأفق معتبراً لما كان قول الحسّاب موجباً للشك لو رُئي في تلك البلدان ولم يُر في بلد السائل، لكن لمّا كان عدم اتحاد الأفق معتبراً فلو رُئي هناك ولم يُر هنا لتم الثبوت هنا أيضاً، لكن بما أنّ قول الحسّاب ليس بحجة فيوجب الشك، ولذا نهي عن الصوم إذا كان الشك مسببّاً عن قولهم، وتكون الرؤية هي المعتبرة في الصوم، فإنّه إذا حصل اليقين برؤية الهلال فقد حصل المعيار في ثبوت الهلال، وهذا لا يختصّ ببلد المكلّف، ففي أي مكان رُئي فيه الهلال - ولو في بلاد بعيدة - فقد تحقّق معيار الثبوت وما عليه المدار في الصوم والإفطار.

ص: 120

ومن هذا يظهر أنّ هذا الاحتمال هو الأظهر، ويكون هذا الشاهد دليلاً للقول بعدم لزوم اتحاد الأفق.و بعبارة اخرى اذا كان السؤال عن قول الحُسّاب برؤية الهلال في البلاد القريبة بدلاً عن البلاد البعيدة فاجاب امام عليه السلام بانّ الصوم والفطر بالرؤية، فهل يستفاد منه : اعتبار اتحاد الافق اويستفاد منه عدم حجية قول الحُسّاب؟ والظاهر ان هذا واضح.

وأمّا احتمال: أن يكون سؤال الامام (علیه السلام) عن أمر تكويني وامكان ذلك فقط دون الحكم الشرعي فهو في غاية البعد بحيث لا ينبغي الالتفات إليه.

الشاهد السادس:

ما ذكره بعض الأعلام من أنّه على القول بعدم اشتراط اتحاد الأفق يلزم لغوية وإهمال الروايات المتظافرة المتكاثرة الدالة على دخالة الرؤية، وذلك لأنّا نعلم في آخر كل شهر قمري أنّ القمر خرج عن تحت الشعاع ورُئي في مكان ما وبهذا يبدأ الشهر الحسابي، وبعد مضي 29 يوماً و12 ساعة و44 دقيقة - وهي المدة الفاصلة بين مقارنتي الشمس والقمر - يكون قد عاد إلى وضع الاقتران مع الشمس، ومعه لا حاجة إلى الرؤية؛ إذ يكون وقت تقارن النيّرين معلوماً، وكذا مدّة مكث القمر في التقارن ووقت تولّد الهلال وكل ذلك بالحساب الدقيق، فلو كانت الرؤية في بلد كافية للحكم بدخول الشهر في جميع البلدان المشتركة معه في الليل لم يبق مورد لروايات الرؤية.

ص: 121

وفيه: أنّ كبرى الحساب صحيحة لا نقاش فيها((1))، إنّما الكلام في صغراها، فوقت دخول القمر في هذا الشهر المعيّن تحت الشعاع ووقت خروجه عنه، وقابلية رؤيته في بلدٍ هذا كلّه محل شكٍ، فإنّ المنجمين يختلفون - مع دقّة حسابهم - في وقت دخوله وخروجه ومدة مكثه في حال الاقتران.

الشاهد السابع:

ما ذكره بعض الأعلام من أنّه (ما من شهر تام في بلد إلا ويمكن رؤية الهلال ليلة الثلاثين منه في بلد آخر، مثلاً إذا كان في بلدنا غير قابل للرؤية غروب الجمعة فلا يبعد أن يصير قابلًا للرؤية بعد أربع ساعات في بلاد المغرب.

فيصير لنا هذا الشهر أيضاً ناقصاً فيتوالى ويكثر في السنة إلينا الشهور الناقصة، بل يمكن أن يصير شهر بالنسبة إلينا ثمانية وعشرين يوماً، مثلاً إذا رُئي هلال رمضان في بلاد جاوة غروب يوم الجمعة، وفي مراكش غروب يوم الخميس وهلال شوال في جاوة غروب يوم السبت وفي مراكش غروب يوم الجمعة بحيث كان شهر رمضان في كل منهما تسعة وعشرين يوماً، فإذا أخذنا نحن هلال رمضان من بلاد جاوة بالتلغراف يوم الجمعة وهلال شوال من مراكش يوم الجمعة صار شهر رمضان بالنسبة إلينا ثمانية

ص: 122


1- بل قد يقال: النقاش أيضاً في الكبرى فضلاً عن الصغرى؛ لأنّ للقمر حركات مختلفة أوصلوها إلى تسعٍ أو أكثر والجمع بين الحركات وانسجامها لم يتحقّق إلى الآن حتى بالآلات المستحدثة كالحاسوبات الدقيقة، وقد أقرّ بهذا الخواجه نصير الدين الطوسي وعلماء زماننا.

وعشرين يوماً وهذا مما لا يكون)((1)).

وهذا الشاهد مكوّن من شقين: الأول لزوم توالي الشهور الناقصة. والثاني: لزوم كون الشهر ثمانية وعشرين يوماً.

أما الشق الأول ففيه:

أولاً: أنّه لا محذور في نقص الشهور كثيراً في ضمن السنوات، فإنّه لا يجب أن يكون شهر رمضان تامّاً دائماً ولا أن يكون ناقصاً دائماً، فلا محذور في توالي نقصانه وكثرة ذلك((2)).

وثانياً: إنّ ما ذكره من نفي البعد عن أن يصير الهلال قابلاً للرؤية بعد أربع ساعات في بلاد المغرب، هذا مجرّد احتمال ويحتمل أن يخرج عن تحت الشعاع في النهار، فلا يلزم النقص في الشهر.

وأما الشق الثاني ففيه: أنّا لو أخذنا هلال شوال من مراكش يوم الجمعة فلنأخذ هلال شهر رمضان غروب يوم الخميس عندهم أيضاً ما دام اتحاد

ص: 123


1- دروس معرفة الوقت والقبلة:531-532.
2- أقول: لعل المراد من الشق الأول من هذا الشاهد أنّ الشهر القمري الهلالي الشرعي كالشهر القمري الهلالي الفلكي في أنّه لا يكون إلا تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، فيمكن أن تتوالى ثلاثة أشهر متواليات كل واحد منها تسعة وعشرين يوماً ولا يمكن أزيد من ذلك، ويمكن أن تتوالى أربعة أشهر متواليات كل واحد منها ثلاثون يوماً ولا يمكن أزيد من ذلك، فإذا كان هذا الشاهد ناظراً إلى لزوم توالي أكثر من أربعة أشهر كل واحد منها ثلاثون يوماً لم يتم الجواب عن هذا الشق من الشاهد. [م.ع].

الأفق غير معتبر، فلا يكون شهر رمضان إلا تسعة وعشرين يوماً، وهذا لا ضير فيه.

نعم، لو لم نعلم بثبوت هلال شهر رمضان عندهم وعلمنا بثبوت هلال شوال فمع لزوم كون الأيام ثمانية وعشرين يوماً يلزم قضاء يومٍ، كما اتفق وقوع ذلك في زمان أمير المؤمنين (علیه السلام) .

إلى هنا تم البحث في أهم أدلة القولين، أعني قول جماعة بكفاية الرؤية في بلدٍ لثبوت الهلال لسائر البلدان المشتركة مع بلد الرؤية في الليل الواحد، وقول المشهور من عدم كفاية ذلك، وأنّه إذا رُئي في بلد لم يكف في الثبوت للبلدان المختلفة الأفق عنه.

والمتحصّل من كل ما سبق: أنّه ليس في المقام نصّ صريح في إثبات أحد القولين، ولكنّا قدّمنا أنّه يمكن التمسك بالاطلاقات أو الاستظهار من بعضها لإثبات القول الأول.

ومما يؤيّد عدم ثبوت قول المشهور أنّ المسألة ابتلائيّة، فهي مما يحتاج إلى البيان صريحاً، خصوصاً مع الحاجة إليها في مهمات العبادات كالصوم والحج، بل تتكرّر الحاجة إليها في كل شهر من الشهور الهلالية، ولا وجود لرواية في المجاميع الروائية تدل على لزوم الاتحاد، ومع ذلك كلّه كيف يتمسك في مثل هذه المسألة المهمة بالانصراف ونحوه، فهذا مما لا يتناسب مع أهمية هذه المسألة.

نعم، يمكن أن يقال: إنّه ورد في مواقيت الصلاة: « وإنّما عليك مشرقك

ص: 124

ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا»((1)).

بتقريب أنّ المدار على مشرق ومغرب أفق المكلّف والمكان الواحد، فما دام الوقت محصوراً بمشرق ومغرب المكان الواحد فكيف يُتعدى إلى المكان البعيد؟.

ص: 125


1- وسائل الشيعة 4: 198، ب20 من أبواب المواقيت، ح2.

ص: 126

ولكن هذه الرواية وإن كانت معتبرة سنداً لوقوع حماد بن عيسى في سندها((1))، إلا أنّ دلالتها ضعيفة؛ لكونها واردة في أوقات الصلاة، والتعدي إلى غيرها من العبادات كالصوم يحتاج إلى دليل. كما أنّ التعبير بالمشرق والمغرب هو مما يناسب الشمس لا القمر، فهي التي لها حالة الشروق وحالة الغروب، ولهاتين الحالتين أحكام، ولا يقال شروق الهلال لطلوعه كما لا يقال غروب الهلال لعدم طلوعه.

نعم، يقال لخروج القمر عن تحت الشعاع طلوع، وليس له غروب، بل لا يترتب على غروبه - لو صحّ - حكم أصلاً، فهذه الرواية غير ناظرة إلى غير الصلاة من العبادات، كما لا يخفى.

مقتضى الأصل العملي

وعلى فرض عدم الدليل فأي القولين يكون هو مقتضى الأصل العملي؟.

نسب بعضهم الاستدلال بالأصل إلى المشهور، وأنّ مقتضاه اعتبار اتحاد الأفق، وذلك: أنّ مقتضى الأصل بقاء شهر شعبان، فلا يجب الصوم في يوم

ص: 127


1- أقول: هي معتبرة بطريق الصدوق حيث رواها بإسناده إلى أبي أسامة زيد الشحام، ولا يضرّ وقوع أبي جميلة مفضل بن صالح في الطريق، لوقوعه في أسناد تفسير علي بن إبراهيم ورواية المشايخ الثقات عنه، وأما تضعيف النجاشي له فيرجع إلى ضعف مذهبه لأجل رميه بالغلو، وهذا هو طريق الجمع بين توثيقه وتضعيفه. وأما طريق الشيخ – والذي صحّحه الشيخ الأستاذ مدّ ظلّه – فهو وإن كان مرسلاً، لأنّ الشيخ رواها عن أبي أسامة أو غيره، إلا أنّه يمكن تصحيحه لوجود حماد بن عيسى وهو من أصحاب الإجماع. [ م.ع ].

الشك، كما أنّ مقتضاه بقاء شهر رمضان فلا بد من الصوم وعدم الإفطار في آخر شهر رمضان عند الشك في هلال شوال، فلو لم يشترط اتحاد الأفق لوجب صوم يوم الشك إذا رُئي في بلاد أخرى، والحال أنّه لا يجب للأصل.

وقد أجيب عن هذا الدليل بأنّ مقتضى الأصل كما لا يكون مع قول غير المشهور لا يدلّ على قول المشهور أيضاً، وذلك لأنّ المراد بالأصل إما الاستصحاب أو البراءة وكلاهما لا يوافقان قول المشهور.

أما الاستصحاب فإن أريد به الاستصحاب الموضوعي بمعنى بقاء الشهر السابق وهو شهر شعبان عند الشك في دخول شهر رمضان، فهو لا يجري؛ لكون الشبهة مفهومية وليست موضوعية حتى يجري استصحاب بقاء الموضوع؛ لأنّه لا يوجد شك في الموضوع لليقين بخروج القمر عن تحت الشعاع ورؤية الهلال في البلاد المختلفة الأفق، وإنّما الشك في صدق عنوان الشهر الجديد بمجرد رؤية الهلال في تلك البلاد، فالشك في سعة مفهوم الشهر وضيقه؛ فإنّ الشهر يثبت قطعاً برؤية الهلال في بلد الرؤية، لكن هل يختص به أم أنّ الشهر يثبت بذلك في بلاد أخرى مختلفة الأفق عن بلد الرؤية؟.

ومن المقرّر في بحث الأصول عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهومية، والمقام نظير الشك في كون مرتكب الصغيرة فاسقاً أم باقياً على عدالته السابقة؛ إذ لا يجري فيه استصحاب العدالة المتيقنة سابقاً قبل اقترافه للصغيرة.

ص: 128

وإن أريد به الاستصحاب الحكمي، أي استصحاب بقاء حكم الشهر السابق فهو أيضاً لا يجري في وجوب الصوم ليوم الشك من شوال؛ لأنّ الحكم السابق بوجوب الصوم ثابت لرمضان بما هو رمضان فعنوان شهر رمضان مأخوذ بنحو الحيثية التقييدية لوجوب الصوم، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ}((1)) بحيث يكون احتمال زواله وارتفاعه من ارتفاع الموضوع، لا أنّ وجوب الصوم ثابت لواقع الزمان لكونه رمضان بنحو الحيثية التعليلية.

وأما في يوم الشك من رمضان فيجري فيه استصحاب عدم وجوب الصوم الثابت لشهر شعبان؛ لأنّ عدم وجوب الصوم ليس حكماً ثابتاً لعنوان شعبان، بل هو ثابت لشهر شعبان لعدم دخول شهر رمضان بعدُ، أي أنّ عدم وجوب الصوم مرتبط بعدم رمضان، ولا خصوصية لشعبان في عدم الوجوب، فلا مانع من جريان استصحاب عدم الحكم لا بقاء الحكم حتى يشكل بعدم إحراز الموضوع مع الشك.

وأما البراءة فهي تجري في أول الشهر وفي آخره فلا يجب الصوم على التقديرين، وهذا خلاف مراد المشهور، وهو لزوم الصوم إذا رُئي الهلال في بلد آخر مختلف الأفق مع بلد المكلّف.

فمقتضى الأصل العملي لا يثبت قول المشهور، سواء أريد به الاستصحاب أو البراءة.

ص: 129


1- سورة البقرة: الآية 185.

هذا، ولكن استدل الشيخ (قدس سره) برواية علي بن محمد القاساني على جريان الاستصحاب في المقام، بل ذكر أنّها أظهر ما في الباب من أخبار الاستصحاب((1)) والرواية هي: (قال: كتبت إليه - وأنا بالمدينة - أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية)((2)).

وذلك بتقريب أنّ الإمام (علیه السلام) حكم بأنّ اليقين بشيء لا ينقض بالشك ولا يزاحم به، ثم فرّع على هذه الكبرى تحديد الصوم والإفطار برؤية هلالي رمضان وشوال بقوله (علیه السلام) : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» وهذا لا يستقيم إلا بإرادة عدم جعل اليقين السابق بشعبان أو برمضان مدخولاً بالشك، أي مزاحماً به، فلا بد في الصوم والإفطار من اليقين، وهو الحاصل بالرؤية.

وعلى هذا يكون الأصل موافقاً لقول المشهور.

والكلام هنا يقع في مقامين:

المقام الأول: في إمكان جريان الاستصحاب وعدمه.

المقام الثاني: في إمكان جريان الاستصحاب بالنسبة لمحل الكلام وعدمه.

أما المقام الأول فقد نوقشت الرواية بوجوه، أهمها وجهان:

ص: 130


1- فرائد الأصول 3: 71.
2- ([2]) وسائل الشيعة 10: 255، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13.

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية فقد ناقش فيها من جهتين:

الأولى: من ناحية السند حيث عبّر عنها بخبر الصفار، عن علي بن محمد القاساني. ولعلّ ذلك - بعد الغض عن كونها مكاتبة ومضمرة - لعدم توثيق علي بن محمد القاساني، بل هو ضعيف كما عن الشيخ في رجاله((1)).

الجهة الثانية: من ناحية الدلالة فإنّ المراد من اليقين في هذه الرواية ليس هو اليقين السابق بشعبان أو رمضان، بل المراد هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لا يجب الصوم إلا مع اليقين ولا يدخل المشكوك فيه في المتيقن، كما ورد في عدّة من الروايات: أنّه لا يصام يوم الشك بعنوان أنّه من رمضان، وأنّ الصوم فريضة لابد فيها من اليقين، ولا يدخلها الشك((2)).

وذكر المحقق النائيني (قدس سره) تأييداً لصاحب الكفاية: أنّ قوله (علیه السلام) : «اليقين لا يدخله الشك» ظاهر في عدم دخول اليوم المشكوك كونه من رمضان فيه، وحمله على الاستصحاب وعدم نقض اليقين بالشك- بدعوى أنّ المراد منه: أنّ اليقين هو اليقين بشعبان أو عدم دخول هلال رمضان والشك في بقائهما - بعيد؛ لغرابة هذا الاستعمال؛ لأنّ إرادة النقض من الدخول تحتاج إلى عناية ورعاية، وعلى هذا تكون الرواية أجنبيّة عن باب الاستصحاب((3)).

ص: 131


1- رجال الطوسي: 388: 5712.
2- انظر: كفاية الأصول: 397.
3- انظر فوائد الأصول 4: 366.

الوجه الثاني: ما عن المحقق العراقي (قدس سره) من أنّ وجوب صوم رمضان ووجوب إفطار أول يوم من شوال ليس مطلقاً، بل هو مقيّد بكونه في شهر رمضان، فهو مترتب على إثبات كون الزمان المشكوك من رمضان أو من شوال بنحو مفاد كان الناقصة، وباستصحاب الوجود المحمولي لا يثبت الوجود النعتي، فإنّ الاستصحاب إنّما يجري هنا بمفاد كان التامة وهو استصحاب بقاء شهر رمضان، أو بمفاد ليس التامة وهو استصحاب عدم دخول شوال، وهو مما لا يترتب عليه أثر شرعي فلا فائدة من استصحاب بقاء شهر رمضان أو عدم دخول شوال؛ إذ لا يترتب عليه أثر شرعي، ومعه لا يبقى مجال لتطبيق مفاد الرواية على الاستصحاب، فلا بد حينئذ من حمل اليقين فيها على ما ذكره المحقق الخراساني((1)).

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين:

أما الوجه الأول فالجهتان ممنوعتان:

أما الجهة الأولى وهي السند فقد ترجم النجاشي لعلي بن محمد بن شيرة القاساني قائلاً: «علي بن محمد بن شيرة القاساني (القاشاني) أبو الحسن، كان فقيهاً، مكثراً من الحديث، فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى، وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك»((2))، كما أنّ الشيخ نفسه ذكر في رجاله شخصاً تحت عنوان: علي بن

ص: 132


1- انظر نهاية الأفكار 4 ق1: 65.
2- رجال النجاشي: 255/ 669.

شيره، ووثقه((1))، فإن أمكن القول بأنّ علي بن محمد القاساني متحد مع علي بن محمد بن شيرة القاساني - كما استظهره العلامة في الخلاصة((2)) - أو قلنا إنّ من عنونه الشيخ ووثقه منسوب إلى جده فيكون أيضاً متحداً معه، تعارض توثيق النجاشي والشيخ مع تضعيف الشيخ له، وأمكن الجمع بينهما بحمل الضعف على مذهبه، ويحمل التوثيق على توثيقه في حديثه. وإن لم نقل بالاتحاد بقي علي بن محمد بلا نص على توثيقه بالخصوص.

إلا أنّه ورد في أسناد كتاب نوادر الحكمة ولم يستثن فيكون ثقة((3))، كما أنّ طريق الشيخ إلى الصفار صحيح، فلا إشكال في السند.

وأما الجهة الثانية فالمناقشة - كما عن السيد الأستاذ (قدس سره) - غير واردة؛ لأنّ المراد باليقين فيها إن كان هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لا بد في الصوم من اليقين بكون ظرفه هو شهر رمضان، ولذا لا يصح صوم يوم الشك على أنّه منه، لم يصح تفريع قوله (علیه السلام) : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» على قوله: «اليقين لا يدخله الشك»؛ إذ أنّ صوم يوم الشك في آخر شهر رمضان واجب؛ لقوله (علیه السلام) : «وأفطر للرؤية» مع أنّه يوم مشكوك في كونه من رمضان، فكيف يصح تفريع قوله (علیه السلام) : «وأفطر للرؤية» الدالّ على وجوب صوم يوم الشك في آخر شهر رمضان على قوله (علیه السلام) : «اليقين لا

ص: 133


1- رجال الطوسي: 388/ 5711.
2- ([2]) خلاصة الأقوال: 364/ 1431.
3- أصول علم الرجال1 : 231.

يدخله الشك»، بناء على أنّ المراد منه عدم دخول اليوم المشكوك فيه في رمضان؟.

وأما ما استشهد به صاحب الكفاية (قدس سره) من الروايات الدالة على عدم صحة الصوم في يوم الشك بعنوان أنّه من شهر رمضان، ففيه: أنّ هذه الروايات وإن كانت صحيحة معمولاً بها في موردها، إلا أنّها لا تكون قرينة على صرف هذه الرواية عن ظهورها في الاستصحاب؛ إذ لا منافاة بين الحكمين.

وأما ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من غرابة إرادة النقض من الدخول، ومعناه أنّه لم يعهد هذا الاستعمال في روايات الاستصحاب ففيه أنّه وقع هذا التعبير نفسه في صحيحة زرارة الثالثة، وهو قوله (علیه السلام) : «ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر»((1))، كما وقع في كلمات العلماء أيضاً في قولهم دليله مدخول أي منقوض، وهو مما تساعد عليه اللغة أيضاً؛ فإنّ دخول شيء في شيء يوجب التفكيك بين أجزائه المتصلة، فيكون موجباً لنقضه وقطع هيئته الاتصالية((2)).

وأما الوجه الثاني: - وهو ما عن المحقق العراقي (قدس سره) - فقد أجبنا عنه في محلّه من بحث الأصول بالتفصيل، ومحصله: أنّ الموضوع المستصحب تارة يكون بسيطاً وأخرى مركباً، والمركب على قسمين مركب على نحو

ص: 134


1- وسائل الشيعة 8 : 216، ب10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح3.
2- ([2]) انظر مصباح الأصول 3: 67-68.

الاقتران في الوجود ومركب على نحو التقييد والتوصيف، والاستصحاب يجري في الموضوع البسيط والمركب على نحو الاقتران في الوجود فيحرز الجزآن بالتعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، ولا يجري في المركب على نحو التوصيف؛ لأنّه لو استصحبنا أحد الجزأين لما أمكن استصحاب تقييده إلا بنحو الإثبات.

ومحل الكلام من القسم الثاني، وهو التركيب على نحو الاقتران والاجتماع في الوجود، فلا مانع من استصحاب وجوب الصوم كما لا مانع من استصحاب نهار شهر رمضان.

وتوضيح ذلك: أنّ الموضوع إذا كان مركباً من شيئين فهو على نحوين:

أحدهما: أن يكون مركباً من المعروض وعرضه، فالمأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي، حيث إنّ العرض نعت لمعروضه كالماء الكر، الذي هو موضوع للاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجاسة، فهو مركب على نحو التوصيف، إذ الكريّة عارضة للماء وقائمة به، ولابد في ترتب الحكم على هذا الموضوع من إثبات العارض والمعروض بنحو كان الناقصة، أي أنّه لا بد من استصحاب الوجود النعتي لا المحمولي الذي هو بمفاد كان التامة، فإذا شُكّ في بقاء كريّة الماء لم يُجد استصحابها بمفاد كان التامة بأن يقال: كانت الكريّة موجودة والآن هي كما كانت؛ فإنّ استصحاب الكريّة لا يثبت أنّ هذا الماء كر إلا على نحو الأصل المثبت، والمفروض أنّ الموضوع هو كريّة الماء أي اتصاف الماء بالكريّة لا الكريّة المطلقة سواء كانت في الماء أم في غيره، فاللازم

ص: 135

استصحاب كريّة الماء بأن يقال: هذا الماء كان كراً والآن هو باقٍ على كريّته.

ثانيهما: أن يكون مركباً على نحو الاجتماع في الوجود، كما في المركب من جوهرين كوجود زيد ووجود عمرو أو من عرضين - سواء كان كل واحد من العرضين قائماً بموضوع غير موضوع الآخر، كما في الركوعين أو السجدتين؛ فإنّ اجتماعهما في زمان واحد موضوع لصلاة الجماعة، وأحدهما قائم بالإمام والآخر قائم بالمأموم، أم كانا قائمين بموضوع واحد كالاجتهاد والعدالة المأخوذين في جواز التقليد القائمين بالمُقلَّد - أو من جوهر وعرضٍ قائمٍ بموضوع آخر كوجود الوارث حين موت المورّث المأخوذ موضوعاً لاستحقاق الإرث، ففي هذه الأقسام يكون الموضوع هو اجتماع أمرين في الوجود، ولا يعقل اتصاف أحدهما بالآخر، ولابد في ترتب الحكم على مثل هذا الموضوع من احراز كلا الجزأين إما بالوجدان في كليهما أو بالتعبد كذلك أو يحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، فإذا شُك في أحدهما جرى الاستصحاب فيه بمفاد كان التامة، ولا يصح بمفاد كان الناقصة، فالصلاة والطهارة عرضان ولا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر، والموضوع هو إحراز اجتماعهما في الوجود، فإذا شُك في بقاء الطهارة كفى استصحابها بنحو كان التامة، ويُحرز أحد جزأي الموضوع المركب تعبداً، والآخر وهو الصلاة وجداناً.

ومحل الكلام من هذا القبيل؛ لأنّ الصوم عرض قائم بالمكلّف، والنهار أمر خارجي مستند إلى طلوع الشمس واستمراره، ولا يتقيّد فعل الصوم

ص: 136

بالنهار ولا العكس، وحينئذٍ يكفى اجتماعهما في الوجود، ويكفي استصحاب النهار بمفاد كان التامة ولا يلزم الإثبات.

وإذا كان الموضوع هو وجوب الصوم في نهار شهر رمضان، فمع ثبوت الحكم بالوجوب في زمانٍ والشك في بقائه للشك في بقاء الزمان المأخوذ قيداً للمتعلّق فلا مانع من استصحابه، إذ النهار أمر خارجي كما مرّ، والوجوب أمر اعتباري مستند إلى الشارع، والأول محرز بالوجدان، والثاني بالتعبد فيتحقق الموضوع المركب وهو وجوب الصوم في نهار شهر رمضان.

وعلى ضوء هذا لا مانع من جريان الاستصحاب في الموضوع ولا الحكم في نفسه ولا يلزم من جريانه الإثبات.

المقام الثاني

وهو جريان الاستصحاب وعدمه في محل الكلام فتمام الكلام فيه أن نقول:

إنّ منشأ الشك في أول الشهر وآخره إما أن يكون لوجود العلّة في السماء أو لادعاء الرؤية في البلد المجاور لبلد المكلّف بأن يكون تحقق الرؤية محتملاً وإن لم تعتبر فإنّه يكون منشأ للشك، والشبهة هنا مصداقية؛ للشك في وجود الهلال، وإما للرؤية في البلاد البعيدة فهي موجبة للشك في الثبوت في بلد المكلّف، فوجود الهلال معلوم لكن لا يُعلم أنّ رؤيته في تلك البلاد موجبة للثبوت في بلد المكلّف أم غير موجبة لذلك، والشبهة هنا مفهومية؛ فإنّه من الواضح حينئذٍ تردد مفهوم ثبوت الهلال بين الاختصاص

ص: 137

ببلد المشاهدة وما جاورها وبين الأعم منه ومن البلاد البعيدة المختلفة الأفق المشتركة في ليلة واحدة، فالشك إنّما هو في سعة المفهوم وضيقه.

فإذا كانت الرواية ناظرة إلى الصورة الثالثة وهي كون الشك لأجل الرؤية في البلاد البعيدة فلا يجري فيها الاستصحاب الموضوعي لكون الشبهة مفهومية، ولا الحكمي وهو وجوب صوم شهر رمضان فهو مما لا يمكن إثباته لا بالوجدان ولا بالتعبد؛ إذ الوجوب أمر اعتباري مستند إلى الشارع، وصوم شهر رمضان أمر خارجي مستند إلى عدم كون رؤية الهلال في بلد آخر معتبراً في بلد المكلّف، وهذه شبهة مفهومية ولا يجري الاستصحاب فيها فلا يمكن إثبات وجوب الصوم في آخر الشهر.

وكذا الكلام في حكم الصوم أول الشهر لاتحاد منشأ الشك، وهو الرؤية في بلادٍ نائية، فإنّ الهلال إذا رُئي في بلاد نائية لا يُعلم هل هو مختص بتلك البلاد أو لا؟، فالشبهة مفهومية فلا يجري استصحاب عدم وجوب صوم شهر رمضان.

وأمّا إذا كانت الرواية ناظرة إلى الصورتين الأولتين فلا مانع من استصحاب الحكم وهو عدم وجوب الصوم واستصحاب الموضوع بعدم كونه من رمضان في أولّه، وأمّا بالنسبة الى آخره فلا يجري استصحاب الحكم ولا الموضوع لما تقدّم، نعم يجري استصحاب عدم كونه من شوال فلا يحكم بالحرمة فلعله المراد بقوله: أفطر للرؤية.

بقي الكلام في جريان البراءة في المقام، وبيان ذلك:

ص: 138

أنّ البراءة تجري في أول الشهر لعدم ثبوته فلا يجب الصوم، وأما في آخره فقد يقال بعدم جريانها؛ لأنّها لو جرت لاقتضت عدم وجوب الصوم في اليوم المشكوك أنّه من شوال، مع أنّ معنى قوله (علیه السلام) : «وأفطر للرؤية»: حرمة الإفطار عند الشك.

ولكن يمكن القول بأنّ الحكم المشكوك هو حرمة الصوم لاحتمال دخول شهر شوال فتجري البراءة عن الحرمة، ومن ثمّ يتحقق وجوب الصوم، ولا يلزم الإثبات هنا وإن لزم في غير هذا المورد؛ لوضوح أنّ نفي أحد الضدين لا يثبت الضد الآخر، وعدم الحرمة لا يثبت الوجوب، لكونه أعم فقد يثبت الاستحباب مثلاً، لكن في خصوص المورد إذا لم يكن الصوم حراماً فهو واجب شرعاً بأدلة الصيام، ومما يدلّ على أنّ صيام عيد الفطر حرام، الروايات الواردة في الباب الأول من أبواب الصوم المحرم والمكروه من الوسائل، ومنها ما رواه الزهري، عن علي بن الحسين (علیه السلام) - في حديث - قال: «وأما الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى...»((1)).

والحاصل: أنّ أصالة البراءة مطابقة لرأي المشهور في أول الشهر وآخره، أما بالنسبة لأول الشهر فهي تقتضي البراءة عن وجوب الصوم كما هو واضح، وأما بالنسبة إلى آخر الشهر فهي تقتضي البراءة عن حرمة الصوم التي تلازم شرعاً في هذا المورد وجوب الصوم ولا مثبت في البين.

ص: 139


1- وسائل الشيعة 10: 513، ب1 من أبواب الصوم المحرم والمكروه، ح1. ورواه في الوسائل أيضاً عن الكليني في موضع آخر بسند معتبر، ص 22، ب5 من أبواب وجوب الصوم، ح8 .

لكن مع دعوى وجود الدليل الاجتهادي لا تأتي مرحلة الأصل العملي، فجريان البراءة غير مفيد في المقام، بل لا تجري.

نتيجة البحث:

والنتيجة المتحصلة مما تقدّم - بعد استعراض أدلة الطرفين ومناقشتها-: هي ضعف أدلة المشهور.

وأما أدلة غير المشهور فإنّها عبارة عن دليلين: اعتباري وشرعي، وبغض النظر عن الدليل الاعتباري يكون الدليل الشرعي الذي عمدته الروايات على قسمين:

أحدهما: ما يدلّ بالإطلاق على عدم لزوم اتحاد الآفاق كصحيحة الحلبي ومعتبرة أبي أيوب الخزاز، وهذا القسم دلالته قوية جداً.

والثاني: ما يظهر منه عدم لزوم الاتحاد كصحاح هشام بن الحكم وإسحاق بن عمار وعبد الرحمن بن أبي عبد الله وأبي بصير، وقد مضى بيان دلالتها، وأظهر منها معتبرة محمد بن عيسى الظاهرة في السؤال عن إمكان الاعتماد على قول المنجمين برؤية الهلال في بلد مختلف الأفق كمصر والأندلس مع عدم رؤيته في بلد المكلّف، فإنّه يظهر منها:

أولاً: أنّ المسألة محلّ للابتلاء، ولذا وقعت مورداً للسؤال.

ثانياً: أنّ سؤال الناس بعد وضوح إمكان رؤية الهلال في البلاد البعيدة عندهم إنما هو عن اعتبار قول المنجمين في الثبوت، وجواب الإمام (علیه السلام)

ص: 140

بأنّ المعتبر هو الرؤية والعلم بالهلال لا ينفي أصل إمكان ثبوت الهلال برؤيته في تلك البلدان، ولذا قال: « لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته»((1)). ولم يقل أفطر لرؤيتك إيّاه أو للرؤية في بلدك.

نعم، الممنوع هو الاعتماد على قول المنجمين، فإنّه موجب للشك ليس إلا، ولذا قال: « لا تصومنّ الشك »، فالمدار على الرؤية، وهي ظاهرة في مطلق الرؤية فمتى ما تحققت ولو في بلد آخر ثبت الهلال.

وما يقال من انصراف المطلق إلى البلاد القريبة أو متحدة الأفق كدعوى عدم الإطلاق لندرة الاطلاع على حال البلاد البعيدة في غاية المنع، فإنّ دعوى الانصراف بلا وجه، وكذا دعوى ندرة الاطلاع، كما أفاده المحقق النراقي (قدس سره) حيث قال في المستند: (فإن قيل: المطلقات إنما تنصرف إلى الأفراد الشائعة، وثبوت هلال أحد البلدين المتباعدين كثيراً في الآخر نادر جداً.

قلنا: لا أعرف وجهاً لندرته، وإنّما هي تكون لو انحصر الأمر في الثبوت في الشهر الواحد، ولكنه يفيد بعد الشهرين وأكثر أيضاً. وثبوت الرؤية بمصر في ببغداد أو بغداد لطوس أو للشام في إصفهان ونحو ذلك بعد شهرين أو أكثر ليس بنادر، لتردد القوافل العظيمة فيها كثيراً)((2)).

ويضاف إلى ما ذكره وجود البريد بين البلدان، وهو أسرع بمراتب كثيرة من القوافل.

ص: 141


1- وسائل الشيعة 10: 297، ب15 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- مستند الشيعة 10: 425.

هذا مضافاً إلى أنّ الندرة الخارجية والمصداقية لا توجب عدم انعقاد الإطلاق كما قرّر في الأصول.

وبهذا كلّه يتضح أنّ هذا القول هو الأوفق بالأَدلة، وإن كان الاحتياط في الحكم سبيل النجاة، والعلم كلّه عند الله عز وجل وعند رسوله وخلفائه أئمة الهدى عليهم الصلاة والسلام، ونسأل الله تعالى أن يعجّل فرج مولانا وسيدنا الحجة بن الحسن العسكري ‘ وبه يلم الشعث وتنحلّ الخلافات بين المسلمين، بل بين جميع أهل العالم.

تنبيهان مهمان

التنبيه الأول: في المراد من الرؤية

هل المراد من الرؤية - سواء في الآفاق المتحدة أو البعيدة - مطلق الرؤية فتشمل كل رؤية أم الرؤية الخاصة وهي الرؤية بالعين المجردة؟.

ولتوضيح هذا البحث نقول:

إنّ الرؤية على ثلاثة أنحاء:

الأول: الرؤية المتعارفة، وهي ما تتحقق بالعين المجردة.

الثاني: الرؤية غير المتعارفة، وهي ما تتحقق بالعين الحادّة.

الثالث: الرؤية غير المتعارفة أيضاً، وهي ما تتحقق بالعين المسلّحة بالتلسكوب وغيره من المكبّرات المستحدثة.

أما النحو الأول فقد ادعى بعضهم الشهرة على أنّ المعتبر في الرؤية هذا

ص: 142

النحو دون الآخرين.

ولا ريب في اعتبار النحو الأول في ثبوت الهلال بالكتاب والسنة المستفيضة أو المتواترة والاجماع قولاً وعملاً، أي سيرة عملية. وهو القدر المتيقن من الرؤية، ويترتب عليه الحكم من وجوب الصوم في شهر رمضان ووجوب الإفطار في شوال.

أما الكتاب فقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}((1)). فإنّ ظاهر الشهود هو الشهود الشخصي بالعين.

وأما السنة فطائفتان من الأخبار

الطائفة الأولى: ما علّقت الثبوت على رؤية المخاطب كصحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إنّه سئل عن الأهلة ؟ فقال: «هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر»((2)). وصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية .. » الحديث((3)).

وصحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: « قال أمير المؤمنين(علیه السلام) : إذا رأيتم الهلال فأفطروا .. » الحديث((4)).

ص: 143


1- سورة البقرة: الآية 185.
2- وسائل الشيعة 10: 252، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
3- ([3]) المصدر نفسه، ح2.
4- وسائل الشيعة 10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان،ح10.

وصحيحة عبد السلام بن سالم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: « إذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيت الهلال فأفطر»((1)).

ومعتبرة زيد الشحام، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سئل عن الأهلة؟ فقال: «هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر»((2)).

ومعتبرة عبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن الأهلة؟ فقال: «هي أهله الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر...» الحديث((3)).

ومعتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن هلال شهر رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ قال: «لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه»((4)).

ومعتبرة إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «في كتاب علي(علیه السلام) : صم لرؤيته، وأفطر لرؤيته»((5)).

الطائفة الثانية: ما علّقت الثبوت على مطلق الرؤية كمعتبرة الفضيل (الفضل) بن عثمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، أنّه قال: «ليس على أهل القبلة

ص: 144


1- وسائل الشيعة 10: 257، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح20.
2- وسائل الشيعة10: 262، ب5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.
3- وسائل الشيعة 10: 257، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان،ح18.
4- وسائل الشيعة 10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.
5- وسائل الشيعة 10: 255، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح11.

إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية»((1)).

ومعتبرة علي بن محمد القاساني قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا ؟ فكتب: «اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية»((2)).

وأما الإجماع بقسميه فهو محقّق وقد صرح به جماعة كما في المستند والجواهر((3)).

وأما النحو الثاني - وهو الرؤية بالعين الحادة - فقد يقال: إنّ ثبوت الهلال بها خلاف المشهور، ولكن يظهر من الجواهر أنّ على من تفرّد بالرؤية مطلقاً الصيام في أول الشهر والإفطار في آخره حيث قال: (لصدق الرؤية المأمور بالصوم والإفطار لها، وصدق شهادة الشهر، وللسنة المستفيضة أو المتواترة، والإجماع بقسميه، خلافاً لما عن بعض العامة من عدم صوم المنفرد وفطره إلا في جماعة الناس، وهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع)((4)).

لكن هل تقبل شهادة ذي العين الحادة إذا انضمت لها شهادة آخر مثله في حدّة البصر؟.

ص: 145


1- المصدر نفسه،ح12.
2- وسائل الشيعة 10 : 255 ، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح13.
3- مستند الشيعة 10: 393 -394، جواهر الكلام 16: 352.
4- جواهر الكلام 16: 352.

الظاهر من الجواهر أنّهما إذا كانا عادلين فهي بينة اكتفى الشارع بهما في جميع الموضوعات التي فيها ما هو أعظم من رؤية الهلال بمراتب كالدماء ونحوها، فلا ينبغي التوقف في ذلك ولا الإطناب في فساد ما يخالفه((1)).

ويمكن التمسك بروايتين في المقام، وهما:

صحيحة علي بن جعفر، أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر (علیه السلام) عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره، أله أن يصوم؟ قال: « إذا لم يشك فليفطر وإلا فليصم مع الناس » . ورواه الشيخ باسناده عن علي بن جعفر إلا أنّه قال: « إذا لم يشك فليصم وإلا فليصم مع الناس»((2)). بناء على إرادة حدّة البصر من قوله (لا يبصره غيره)، لا أنّه رآه وحده ولم يره غيره.

وصحيحته الأخرى عن أخيه قال: سألته عمّن يرى هلال شهر رمضان وحده لا يبصره غيره، أله أن يصوم؟ فقال: «إذا لم يشك فيه فليصم وحده وإلا يصوم مع الناس إذا صاموا»((3)). ودلالتها كدلالة الصحيحة السابقة بناء على نقل الشيخ (قدس سره).

وأما النحو الثالث - وهي الرؤية بالعين المسلحة - فالمشهور على عدم اعتبار الرؤية بالعين المسلحة، بل ادعي عليه الاتفاق.

ويمكن الاستدلال له بوجهين:

ص: 146


1- انظر جواهر الكلام 16: 357.
2- وسائل الشيعة 10: 260، ب4 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
3- وسائل الشيعة 10: 261، ب4 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.

الوجه الأول: انصراف الرؤية التي يترتب عليها ثبوت الهلال إلى الرؤية المتعارفة بالعين المجردة كما في سائر الموضوعات التي تترتب عليها الأحكام الشرعية كالقدم والقدمين المأخوذين في تحديد وقت الظهرين، والأشبار المأخوذة في تحديد مساحة الكر، وخفاء الجدران وخفاء صوت الأذان في تحديد حدّ الترخص في السفر؛ فإنّ المعتبر هو الخفاء عن العين والأُذن المتعارفة، لا العين والأُذن المجهزة، وإلا لأمكن رؤية الجدران وسماع الأذان من مسافات بعيدة.

وعلى هذا تكون الرؤية في الروايات الكثيرة - مثل قوله (علیه السلام) «ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية»((1))، و« صم للرؤية وأفطر للرؤية»((2))، و«إذا رأيتم الهلال فأفطروا»((3))، و«الصوم للرؤية والفطر للرؤية، وليس الرؤية أن يراه واحد، ولا اثنان، ولا خمسون»((4)). وغيرها من الروايات - هي الرؤية بالعين المتعارفة.

ومما يؤكّد هذا أنّ التعليق على الرؤية هو من باب التحديد وإعطاء الضابط في الحكم بوجوب الصوم أو بوجوب الإفطار، والضابط والحدّ لا بد أن يتوفّر فيه أمران:

ص: 147


1- وسائل الشيعة 10 : 255 ، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح12.
2- ([2]) المصدر نفسه، ح13.
3- وسائل الشيعة 10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان،ح10.
4- ([4]) وسائل الشيعة 10: 290، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح12.

الأول: أن يكون في متناول جميع الناس.

الثاني: أن لا يختلف اختلافاً فاحشاً من فردٍ إلى فردٍ.

فلو لم يتوفّر فيه هذان الأمران لم يكن لضابطيته معنى، ومقتضى توفّرهما في التحديد في المقام أن يراد بالرؤية الرؤية بالعين المجردة؛ إذ هي في متناول الأفراد، كما أنّها لا تختلف اختلافاً كثيراً من فرد لآخر، بينما إذا كانت الرؤية بالعين المسلحة لم يتوفّر فيها الأمران ولا يكون جعل الرؤية المذكورة ضابطاً لإثبات الهلال أمراً صحيحاً، أما الأول فلوضوح عدم تيسّر الرؤية بالعين المسلحة لكل أحد، وأما الثاني فلأنّ مدى الرؤية بالعين المجردة يتفاوت عن الرؤية بالعين المسلحة تفاوتاً فاحشاً جداً.

وعلى ضوء ذلك يظهر أنّ الرؤية جزء الموضوع، بمعنى أنّ المعتبر هو إمكان وقابلية الرؤية، لا الرؤية نفسها للجزم بكفاية رؤية الغير، فهي مع كونها طريقاً إلا أنها مأخوذة بنحو الجزئية، فليس الموضوع هو الهلال مستقلاً ولا الرؤية هي الموضوع منفردة، بل أخذت الرؤية طريقاً ولها دخل في ثبوت الهلال والكشف عنه.

الوجه الثاني: تعليق الحكم بوجوب الصوم أو الإفطار على الهلال في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}((1))، وفي الروايات المتقدمة مثل قول الإمام (علیه السلام) «إذا رأيتم الهلال فأفطروا»((2)

ص: 148


1- سورة البقرة: الآية 189.
2- وسائل الشيعة 10: 254، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان،ح10.

ومثل: «إذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيت الهلال فأفطر»((1))، و«فإذا رأيت الهلال فصم ، وإذا رأيته فأفطر...»((2)) وغيرها، فإنّ تحقّق الهلال وصدقه لغة وعرفاً إنَّما هو بعد استكماله بحيث يكون قابلاً للرؤية بالعين المتعارفة، وعندها يكون ميقاتاً للناس في الصوم والإفطار وغيرهما، وبتحققه يتحقق الشهر والميقات، لا بمجرد حركة القمر ودورته الجديدة فإنّه لا يسمى هلالاً، نعم مقتضى كون القمر مواجهاً للشمس ومقارناً لها في مرحلة المحاق أن يكون نصفه المظلم مواجهاً لمن في الأرض، وهو يخرج عن تحت الشعاع بعد اثنتي عشرة درجة من المقارنة، وكلّ درجة مدتها ساعتان تقريباً، فإذا شرع في الخروج عن تحت الشعاع ظهر مقدار قليل جداً من النور على حافته من جهة الشرق بالنسبة للرائي ويأخذ هذا النور في الزيادة شيئاً فشيئاً تبعاً لابتعاد القمر عن هذه المرحلة من سيره، وبعد قطعه تلك الدرجات إذا أصبح قابلاً للرؤية بالعين المجردة يسمى حينئذٍ هلالاً، وأما قبل ذلك فلا يسمى هلالاً، وبمجرد تكوّنه وخروجه عن تحت الشعاع لا يصير هلالاً عرفاً، وعلى هذا فلو علمنا بتحققه وتكوّنه بالقطع واليقين لم يكن لذلك أثر، فما بالك بما إذا كانت الرؤية بالعين المسلحة.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ الالتزام بكون الرؤية بالعين المسلحة موضوعاً لوجوب الصوم والإفطار فيه محذوران:

ص: 149


1- وسائل الشيعة 10: 257، ب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح20.
2- المصدر نفسه، ح18.

أحدهما: لزوم وقوع المسلمين في الخطأ في أكثر الشهور من أول زمان الصوم إلى زماننا هذا، إن لم نقل بذلك في جميع الشهور؛ وذلك لأنّه يمكن رؤية الهلال بالعين المسلحة في ابتداء خروجه عن تحت الشعاع، فإذا قلنا باعتبار هذه الرؤية وثبوت ابتداء الشهر بها يلزم أن يكون ما كان يعتبره المسلمون أول الشهر بالرؤية العادية هو ثانيه غالباً إن لم يكن دائماً فمن جهة الوضع كانوا على خطأ، وإن كانوا من جهة التكليف لا قضاء ولا كفارة عليهم؛ لعدم علمهم بالحال، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

ثانيهما: لزوم الاختلاف الفاحش في المعيار المفروض؛ فإنّ أجهزة التكبير والتقريب متفاوتة ومدى الرؤية بها مختلف فبعضها يمكن رؤية القمر به حين خروجه من تحت الشعاع، وبعضها لا يمكن رؤيته إلا بعد خروجه منه بخمس ساعات، وبعضها الآخر باثنتي عشرة ساعة، فأيُّ رؤية هي المعيار في إثبات الهلال؟.

وأما القول بكفاية الرؤية بالعين المسلحة فيمكن الاستدلال له بوجهين:

الوجه الأول: إطلاق الرؤية في الروايات المتقدمة، فكما أنّها مطلقة من حيث كون الرائي رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً فكذا هي مطلقة من حيث كونها بالعين المجردة العادية أو بالعين المسلحة، ولا يضر بالإطلاق عدم كون الرؤية بالعين المسلحة رؤية غالبة أو متعارفة بين الناس، فلا معنى للقول بانصراف المطلق إلى الرؤية الغالبة والمتعارفة وهي الرؤية بالعين المجردة لعدم تحقق مناط الانصراف.

ص: 150

وفيه: أنّ الرؤية تارة تقع موضوعاً لحكم كقوله (علیه السلام) : «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته»((1)). وأخرى تقع متعلقاً للحكم لا بنحو الموضوعية، كما في (إذا رأيت دماً فاغسله) أو (يحرم عليك النظر إلى الأجنبية).

فإن كانت على النحو الأول لزم أن تحمل على الرؤية العادية، لكونها موضوعاً للحكم المترتب عليها، فيرجع فيها إلى العرف، ويعتبر فيها ما يعتبر في المعيار من سهولة التناول لجميع الأفراد، وانضباطها تحت حدّ، فلا إطلاق لها ليشمل الرؤية بالعين المسلحة، وكذا في مثل قوله: «إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر»((2))، فإنّه محمول على السماع العادي، ولعله محل وفاق بين الفقهاء.

وإن كانت على النحو الثاني كان للرؤية أو السماع موضوعية، فلم تجعل ضابطاً وحدّاً للحكم، بل جعلت متعلقاً له، وعليه يشمل العنوان كل ما يصدق عليه الرؤية أو السماع، ولو كانا عن طريق الأجهزة الحديثة.

والرؤية المأخوذة في لسان الروايات هي على النحو الأول، فلا إطلاق فيها ليشمل الرؤية بالعين المسلحة.

الوجه الثاني: إنّ الرؤية بالعين الحادة، أو بواسطة النظارات الطبية معتبرة، وهي رؤية غير متعارفة، فلا فرق بينها وبين الرؤية بالعين المسلحة، بل التفريق بينهما بلا وجه.

ص: 151


1- وسائل الشيعة 10: 287، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح4.
2- وسائل الشيعة 8 : 472، ب6 من أبواب صلاة المسافر، ح3.

وفيه: أنّ الرؤية بواسطة النظارات هي رؤية عادية، إذ أنّ وظيفة النظارات تصحيح النظر وتقوية الرؤية بالحد المتعارف، لا تكبير المرئيات بحدٍ غير متعارفٍ. وأما الرؤية بالعين الحادة فالحكم فيها مورد للخلاف، وليس مورداً للتسالم، وأكثر الفقهاء حكموا بعدم اعتبارها، كما لم يعتبروا العين والأذن الحادتين في خفاء الجدران وسماع الأذان في حدّ الترخص.

نعم، سبق منّا الاعتبار لقيام الدليل الخاص، وأما الرؤية بالعين المسلحة فلم يقم دليل على اعتبارها، فالتعدي إليها بلا دليل.

والحاصل: أنّه لم ينهض دليل على كفاية رؤية الهلال بالعين المسلحة، فلا بد من الاقتصار على الرؤية بالعين المجردة، تبعاً للدليلين السابقين.

وعلى فرض التنزل والقول بحصول الشك في ثبوت الهلال من الرؤية بالعين المسلحة: فمقتضى الاستصحاب الموضوعي عدم دخول شهر رمضان إذا كان الشك في أول الشهر، وبقاء شهر رمضان إذا كان الشك في آخر الشهر، كما أنّ مقتضى الاستصحاب الحكمي عدم وجوب الصوم في آخر شعبان، ووجوبه في آخر شهر رمضان، وبهذا يظهر أنّه لا أثر للرؤية بالعين المسلحة في ثبوت الهلال، نعم، للآلات المكبّرة أدوار يمكن التعويل على بعضها:

الأول: أن يثبت بها أنّ الهلال غير موجود، أي أنّه لم يخرج من تحت الشعاع، وبهذا يحصل العلم أو الاطمئنان بعدم ثبوت الشهر. وعليه يكون مدعي الرؤية مشتبهاً.

ص: 152

الثاني: أن يثبت بها أنّ جرم القمر صغير جداً لا يُرى بالعين المجرّدة، وهذا أيضاً يوجب العلم بعدم ثبوت الشهر.

الثالث: أن يثبت بها أنّ القمر - بعد الخروج عن تحت الشعاع - كبير بحيث إنّه قابل للرؤية بالعين المجردة، لكن يمنع عنها مانع كوجود الغيم ونحوه في السماء، بحيث لو لم يكن المانع لرئُي حتماً، فمع اليقين بما أثبتته تلك الرؤية يقال بالاعتبار، لإحراز قابلية الرؤية في الواقع، والتي هي جزء الموضوع،؛ إذ لا يلزم فعليّة الرؤية، ولذا يقبل قول من رآه وإن لم نره.

الرابع: أن يثبت بها أنّ القمر - بعد الخروج عن تحت الشعاع - كبير بحيث إنّه قابل للرؤية بالعين المجردة، مع كون الجو صحواً، فهنا من قال بلزوم الرؤية بالعين المجردة لا يثبت عنده، بخلاف من لم يشترطها فإنّه يثبت عنده.

الخامس: أن يعيّن بها جهة وجود القمر ومكانه بنحو دقيق لتتم بعد ذلك رؤيته بالعين المجردة، ولا إشكال في ثبوت الهلال بهذه الطريقة، فإنّ الرؤية الأولى كانت عبارة عن مقدمة للرؤية الثانية المعتبرة.

التنبيه الثاني: في ثبوت الهلال بحكم حاكم الشرع

يستند حكم الحاكم بثبوت الهلال إما إلى البينة أو الشياع المفيد للعلم به أو إلى علمه الناشئ عن رؤيته له بنفسه.

وعلى كلٍّ فإما أن لا يعلم بخطئه أو يعلم بخطئه.

ص: 153

فهنا مبحثان

المبحث الأول:

اشارة

إذا استند حكمه إلى البينة ولم يعلم بخطئه فهل يثبت الهلال ويجب قبول حكمه حتى على المجتهدين الآخرين أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما أنّه يثبت، وهو (ظاهر الأصحاب) كما عن الحدائق((1)).

والثاني عدم الثبوت، وهو المنسوب إلى بعض متأخري المتأخرين، ومال إليه في الحدائق، وقوّاه في مستند الشيعة، واستشكل فيه السيد الأستاذ في المستند ((2)).

استدل على قول المشهور بأدلة، أهمّها طوائف من الروايات((3)):

الطائفة الأولى:

ما دلّ على أنّ الفقهاء حجج على الناس من قبل الأئمة(علیهم السلام) ، ولزوم متابعة حكمهم.

وأظهرها مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في حديث طويل في رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث - قال: «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا،

ص: 154


1- الحدائق الناضرة 13: 258.
2- الحدائق الناضرة 13: 261، مستند الشيعة 10: 420، المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 89 .
3- استعرض الشيخ الأستاذ أكثر أدلة المثبتين والنافين للولاية العامة للفقيه مع مناقشاتها في كتاب التقية 2: 367-490، واقتصر على القليل منها هنا.

وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والراد علينا الراد على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»((1)).

ومثلها معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) : «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا [قضائنا] فاجعلوه بينكم [قاضياً] فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»((2)). وهي مروية بأربعة طرق، فقد رواها الصدوق في الفقيه بسند معتبر، ورواها الكليني بسند صحيح، كما رواها الشيخ بسند معتبر يشترك مع سند الكليني في الحسن بن علي، أعني الوشاء.

وتوجد رواية أخرى لأبي خديجة نقلها الشيخ بسنده عن الحسين بن سعيد عن أبي خديجة قال: بعثني أبو عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابنا فقال: « قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»((3)). وهي ضعيفة بأبي الجهم المجهول.

ص: 155


1- وسائل الشيعة 1: 34، ب2 من أبواب مقدمة العبادات، ح12، وج27: 136، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح1.
2- وسائل الشيعة 27: 13، ب1 من أبواب صفات القاضي، ح5.
3- وسائل الشيعة 27: 139، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح6.

فالحاصل:

أنّ أسناد هذه الطائفة معتبرة - ما عدا رواية أبي خديجة الثانية - وهي تفيد أنّ الفقهاء حجج على الناس من قبل الأئمة (علیهم السلام) .

وأما دلالتها على ما نحن فيه فهي أنّ الروايتين وإن كان موردهما النزاع والتخاصم والقضاء إلا أنّه يمكن الاستدلال بهما على التعميم بوجهين:

الوجه الأول: بنتقيح المناط كما استظهره الشيخ الأنصاري (قدس سره) حيث قال: (الظاهرة - أي المقبولة - في كونه كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه، والانتهاء فيها إلى نظره، بل المتبادر عرفاً من نصب السلطان حاكماً وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه)((1)). فهي ظاهرة في الرجوع إلى الحاكم في جميع الأمور العامة، وإن نصبه الإمام(علیه السلام) للفصل بين الخصومات.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ المستفاد منهما - بضميمة ما ورد في أنّ الحكومة مختصة بالإمام كما في صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «اتقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنَّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي»((2)). وما في رواية إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لشريح: يا شريح! قد جلست مجلساً لا يجلسه [ما جلسه] إلا نبي أو وصي نبي أو شقي»((3)) - أنّ

ص: 156


1- كتاب المكاسب 3: 554.
2- وسائل الشيعة 27: 17، ب3 من أبواب صفات القاضي، ح3.
3- المصدر نفسه: ح2.

منصب الحكومة والقضاء للإمام (علیه السلام) ، فإذا فوّض الإمام هذا المنصب إلى شخص كان هذا الشخص قائماً مقام الإمام، ويثبت له كل ما ثبت للإمام(علیه السلام) من صلاحية الرجوع إليه في الأمور العامة، بلا اختصاص بأمور المنازعات والقضاء.

هذا، ولكنهما نوقشتا من ناحيتي السند والدلالة.

أما من ناحية السند فقد ناقش المحقق النائيني (قدس سره) في سند رواية أبي خديجة بأنّ لأبي خديجة حالتي استقامة تفصلهما حالة اعوجاج عن طريق الحق، وهي زمان متابعته للخطابية، ولم يعلم أنّ ما رواه هل كان في حالة اعوجاجه أم حال استقامته فلا يمكن القول بصحة سندها.

وأما من ناحية الدلالة فقال إنّها مختصة بالقضاء، ولا تشمل الأمور العامة.

وأما المقبولة فلم يناقش في سندها، ويظهر من كلامه التسليم بدلالتها على المدعى لظهور الحكومة في الولاية العامة، فإنّ الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسوط، وليس ذلك شأن القاضي.

إلاّ أنّه ناقش في هامش منية الطالب وقال بعدم ظهور المقبولة أيضاً في المدّعى، لإطلاق الحاكم على القاضي وتفسيره به في غير واحد من الأخبار، فيكون المتيقّن هو الرجوع إلى الفقيه في الفتوى وفصل الخصومة بتوابعها ومن جملتها التصدّي للأمور الحسبية((1)).

وعلى ضوء هذا يختص مورد المقبولة بالقضاء أيضاً كرواية أبي خديجة.

ص: 157


1- منية الطالب في شرح المكاسب 2: 237.

والسيد الأستاذ (قدس سره)، قال بضعف سند المقبولة، لعدم ثبوت توثيق عمر بن حنظلة، كما أنّ موردها مختص بالقضاء، وأما رواية أبي خديجة فهي وإن صحّت سنداً (إلا أنَّها قاصرة الدلالة لكونها ناظرة إلى قاضي التحكيم، أي الذي يتراضى به المتخاصمان الذي لا يشترط فيه إلا معرفة شيء من أحكام القضاء لا إلى القاضي المنصوب ابتداءاً الذي هو محل الكلام ويعتبر فيه الاجتهاد كما تقدّم، وإلا فقاضي التحكيم لا يكون حكمه نافذاً في غير خصم النزاع الذي رفعه المتخاصمان إليه ورضيا به حكماً، لا في الهلال ولا في غيره بلا خلاف فيه ولا إشكال)((1)).

وأما الوجه الثاني وهو استفادة الدلالة على منصب الحكومة من الروايتين بضميمة ما دلّ على أنّ منصب الحكومة والقضاء للإمام (علیه السلام) فلم يناقش فيه الأعلام بشيء، ولعل ذلك لوضوح عدم الملازمة بين نصب الإمام (علیه السلام) شخصاً للحكم، وكونه قائماً مقامه في جميع الأمور.

ولا يخفى أنّ السيد الأستاذ (قدس سره) وإن اعترف بنصب الشارع للقاضي لكون إهمال نصبه موجباً لاختلال نظام الاجتماع بسبب كثرة التنازع والتخاصم في الأموال وشبهها من الزواج والطلاق والمواريث، ونحوها، فيجب القضاء كفاية قطعاً، والقدر المتيقن ممن ثبت له الوجوب هو المجتهد الجامع للشرائط، ولذا اعتبر الفقهاء الاجتهاد في القاضي المنصوب وما ذلك إلا لكون القدر المتيقن محصوراً فيه، وإنّما تعيّن المصير إلى

ص: 158


1- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 88-89.

القول بأنّ النصب عن هذا الطريق لعدم الدليل اللفظي على لزوم النصب حتى يمكن التمسك بإطلاقه؛ فإنّ المقبولة وإن دلّت على نصب القاضي ابتداء لكنّها واردة في الترافع.

أضف إلى ذلك أنّها ضعيفة السند، فعلى هذا يكون الدليل لبيّاً لابد فيه من الاقتصار على القدر المتيقن - وهو ما إذا كان المنصوب مجتهداً، وكان المورد من موارد النزاعات - لا غير.

ويمكن الجواب:

بأنّ ما أورده المحقق النائيني والسيد الأستاذ على استدلال الشيخ بهذه الطائفة وإن كان في محلّه؛ وذلك لاختصاص مورد الروايتين بالتنازع والقضاء ورفع الخصومات؛ فإنّ رواية أبي خديجة واردة في قاضي التحكيم، وهو خارج عن محل الكلام كما أنّ مورد المقبولة هو القاضي المنصوب، وقوله فيها: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» بمنزلة التعليل لقوله: «فليرضوا به حكماً»، فيعلم أنّه (علیه السلام) كان قد نصبه سابقاً، كما يفهم أيضاً من التعبير ب- « عليكم حاكماً » دون: بينكم حاكماً، فالتعدي عن المورد إلى سائر الأمور يحتاج إلى دليل، إلا أنّ إشكالهما على سندي الروايتين غير تام، بل سندهما معتبر، وذلك لأنّ المقبولة رواها الكليني في الكافي((1))، كما رواها الشيخ بطريقين في التهذيب((2))، وكل هذه الطرق صحيحة إلى عمر

ص: 159


1- الكافي 1: 67، باب اختلاف الحديث، ح10.
2- ([2]) تهذيب الأحكام 6: 218، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين، ح6. و301، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، ح52.

بن حنظلة، وأما هو فقد بحثنا عنه مفصلاً في مباحثنا الرجالية((1))، وقلنا إنّه وإن اختلف في وثاقته، إلا أنّا اعتمدنا على وجهين من الوجوه التي أقيمت على وثاقته. وهما: رواية صفوان بن يحيى عنه، وهو كافٍ في الحكم باعتبار روايته، وما ورد في معتبرة يزيد بن خليفة من وصفه بعدم الكذب حيث قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : «إذاً لا يكذب علينا»((2)). وهذه الرواية معتبرة؛ فإنّ يزيد بن خليفة وإن لم ينص على توثيقه وكان واقفياً إلا أنّ صفوان روى عنه في عدّة موارد، وواقفيته لا تنافي وثاقته.

وأما رواية أبي خديجة فقد تقدّم أنّها رويت بأسانيد أربعة ثلاثة منها معتبرة إلى أبي خديجة، وأما هو فالمعتمد وثاقته لما ذكرناه في أبحاثنا الرجالية من تقوية جانب توثيق النجاشي له((3)).

وأما ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أنّ الفقيه (كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه، والانتهاء فيها إلى نظره، بل المتبادر عرفاً من نصب السلطان حاكماً وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه)((4)). فإثباته مشكل، فإنّ نصب النبي أو الأئمة لشخص كان تارة بعنوان

ص: 160


1- أصول علم الرجال 2: 397-401.
2- وسائل الشيعة 4: 133، ب5 من أبواب المواقيت، ح6.
3- أصول علم الرجال 2: 361-368.
4- كتاب المكاسب 3: 554.

أنّه والٍ وأخرى بعنوان أنّه قاضٍ، وبين العنوانين فرق، فالذي يُرجع إليه في جميع الأمور هو الأول، بينما يختص الثاني بموارد المرافعات، وعمل قضاة العامة من التصدي لجميع الأمور التي تبتلي بها عامة الناس غير معتبر، ولعلهم ابتدعوا هذه الصلاحيات لأنفسهم كسائر بدعهم، فلا يصح الاحتجاج بعملهم والتفريع عليه بأنّ للقاضي ما لقضاة العامة، وأما دعوى التبادر فأيضاً غير مسلمة؛ فإنّه مع كثرة استعمال لفظ الحاكم في الآيات والروايات في القاضي كيف يصح دعوى التبادر في غيره.

فالظاهر أنّ هذه الطائفة تدلّ على القدر المتيقن وهو القاضي المنصوب، والذي لابد من أن يكون مجتهداً لقوله (علیه السلام) : «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» كما هو مورد الرواية وعدم التعدي إلى سائر الأمور، ومما يؤيّد هذا ما ورد في ذيل المقبولة من أنّه في مورد اختلاف حكم الحكمين لابد من العمل بالمشهور ثم بما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.

الطائفة الثانية:

ما دلّ على الإرجاع إلى العلماء وأهل الحديث، وأنّ مجاري الأمور بأيديهم.

وهي روايتان:

الرواية الأولى: وهي أظهرهما: التوقيع الشريف عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (علیه السلام) : «أما ما

ص: 161

سألت عنه أرشدك الله وثبتك» - إلى أن قال: - «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي وكتابه كتابي»((1)).

فإنّه يمكن الاستدلال بها بوجهين:

الوجه الأول: بمفاد قوله (علیه السلام) : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» والحوادث ظاهرة في مطلق الوقائع التي لا بد من الرجوع فيها إلى الإمام

(علیه السلام) مع حضوره، من غير فرق بين الأحكام والسياسات: من إجراء الحدود وأخذ الزكوات ونحو ذلك، لا خصوص المسائل الشرعية، والشبهات الحكمية، وثبوت الهلال هو أحد تلك الحوادث التي أمرنا بالرجوع إلى رواة حديث الأئمة فيها، وحكم الراوي والفقيه به نافذ كما كان حكم الإمام نافذاً.

وقد ذكر الشيخ الأعظم ثلاثة شواهد على التعميم لمطلق الوقائع لا خصوص المسائل الشرعية.

الشاهد الأول: (أنّ الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع في حكمها إليه).

الشاهد الثاني: (التعليل بكونهم «حجتي عليكم وأنا حجة الله»، فإنّه إنما

ص: 162


1- وسائل الشيعة 27: 140، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح9.

يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر، فكان هذا منصب ولاة الإمام (علیه السلام) من قبل نفسه، لا أنّه واجب من قبل الله سبحانه على الفقيه بعد غيبة الإمام (علیه السلام) ، وإلا كان المناسب أن يقول : «إنّهم حجج الله عليكم» كما وصفهم في مقام آخر ب- «أنّهم أمناء الله على الحلال والحرام»).

الشاهد الثالث: (أنّ وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء - الذي هو من بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف - مما لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب، حتى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامة إلى رأي أحد ونظره، فإنّه يحتمل أن يكون الإمام (علیه السلام) قد وكله في غيبته إلى شخص أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمان.

والحاصل: أنّ الظاهر أنّ لفظ «الحوادث» ليس مختصاً بما اشتبه حكمه ولا بالمنازعات)((1)).

الوجه الثاني: بمقتضى التعليل، وهو قوله (علیه السلام) : «فإنّهم حجتي» لأنّه يفيد أنّ الرواة لأحاديث الأئمة حجج ونوّاب من قبل الإمام (علیه السلام) في كل ما يكون للإمام، لأنّ الحجة هو عبارة أخرى عن الخليفة القائم مقام الإمام، وهو أخص من الوكيل.

ولا يضر وجود إسحاق بن يعقوب الراوي له حيث إنّه غير معروف، ولم ينص أحد على وثاقته؛ وذلك لأنّ الراوي عنه هو الكليني في زمان الغيبة

ص: 163


1- كتاب المكاسب 3: 555-556.

الصغرى، وفي زمن السفراء، وروى هذا التوقيع عنه أجلاء الأصحاب، فلو لم يكن صادراً عن الناحية المقدسة لأنكره الأصحاب أو صدر تكذيبه عن الناحية المقدسة، كما هو الحال في الأقل منه أهمية، فهو مع اشتماله على عشرين أمراً مهمّا توفّرت الدواعي على تكذيبه لو لم يكن صادراً، ولو لم يكن الكليني مطمئناً بصحته.

وقد نوقشت دلالة التوقيع على عموم الولاية للفقيه بمنع كلا وجهي الاستدلال.

أما الوجه الأول وهو استفادة العموم من صدر التوقيع وهو قوله (علیه السلام) : «وأما الحوادث الواقعة» فقد ناقش فيه المحقق النائيني بأنّ استفادة العموم منه غير تام، لأنّ سؤال السائل غير معلوم، فلعل المراد من الحوادث: هي الحوادث المعهودة بين الإمام (علیه السلام) والسائل، ولا معنى للعموم مع العهد أو احتماله، بل ينصرف اللام إلى المعهود، وعلى فرض العموم وعدم العهد إلا أنّ العموم إنّما يؤخذ به إذا لم يكن هناك قدر متيقن في البين، والمقام ليس كذلك، لأنّ المتيقن من الحوادث هي الفروع المتجدّدة والأمور الراجعة إلى الإفتاء، وهي الشبهات الحكمية، لا الأعم((1)).

ويمكن أن يقال في جوابه:

أولاً: إنّه لو كان هناك عهد بين السائل والإمام (علیه السلام) في مسائل معينة لكان مقتضى مناسبة الكلام ذكرها أو الإشارة إليها على الأقل، أسوة بمثيلاتها مما

ص: 164


1- انظر: منية الطالب في شرح المكاسب 2: 234.

جرى ذكره كالسؤال عن حكم المنكرين للحجة (علیه السلام) من قرابته، والسؤال عن حكم الفقاع والشلماب، والسؤال عن قول من زعم أنّ الحسين (علیه السلام) لم يقتل، فلماذا لا يوجد عين ولا أثر لتلك المسائل المعهودة؟.

وثانياً: على فرض التسليم بأنّ هناك مسائل معهودة، إلا أنّ التعليل بكون الرواة حجة ربما يفيد التعميم فالرواة لكونهم حجة يلزم الرجوع إليهم، وهذا لا يختص بمورد دون آخر، وفي المسائل المعهودة دون غيرها، فلابد من الرجوع إليهم في كل ما يصدق عليه أنّه من الحوادث الواقعة فيعم الشبهات الحكمية وغيرها.

وأما السيد الأستاذ (قدس سره) فقال: إنّ في (الحوادث الواقعة) ثلاثة احتمالات:

أحدها: الشبهات الحكمية وهي الأمور التي تتّفق خارجاً ولم يعلم حكمها كما لو مات شخص وله مصاحف أو خواتم عديدة، وشك في أنّ الحبوة هل تشمل الكل أم أنّها تختص بواحد، وغير ذلك من الشبهات الحكمية التي تتضمنها الحوادث الواقعة، وقد أوجب (علیه السلام) الرجوع فيها إلى رواة الأحاديث، وهو ظاهر في الرجوع في استعلام حكمها، وعليه تكون من أدلة حجية الخبر لو كان المراد من الرواة راوة الأحاديث فقط، أو من أدلة حجية فتوى العالم لو كان المراد من الرواة العلماء، وعلى كل تقدير لا يستفاد منها التعميم لكل حادثة بعدما كان المراد خصوص الشبهات الحكمية التي تتضمنها الحوادث الواقعة، ويكون التوقيع أجنبياً عن محل الكلام.

ومما يؤيد إرادة أحد الأمرين: أنّ الإمام (علیه السلام) أرجع إلى الرواة بصيغة

ص: 165

العموم، ولم يرجع إلى شخص معيّن، فإنّ الإرجاع بهذا النحو هو حكم الجاهل بالمسألة، فيرجع إلى العالم بها، إما لأنّه مجتهد يُرجع إليه فيما أشكل من الشبهات الحكمية أو لأنّه راوٍ كما كان الشأن في الرجوع في المسائل في زمانهم (علیهم السلام) وما بعده بقليل.

الثاني: الشبهات الموضوعية التي تقع مورداً للخصومات والمرافعات، كما لو ادعى زيد ملكية شيء وأنكرها عمرو، ونحو ذلك من موارد الدعاوى، فيكون التوقيع من أدلة نفوذ القضاء، ويبعد إرادة هذا المعنى؛ لأنّ الحادثة بمعنى مورد المرافعة ترفع إلى الحاكم فهي ترجع إليه، لا أنّه يرجع فيها إليه، فلو كانت مرادة لقال: (فارجعوها)، بدل: (فارجعوا فيها).

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر دخالة أن يكون المرجوع إليه في الحوادث الواقعة راوياً، ولا مدخلية للراوي بما هو راوٍ في القضاء وفصل الخصومة، فيبعد أن تراد المرافعات من الحوادث.

الثالث: مطلق الحوادث - سواء كانت من قبيل المرافعات أم لا - التي منها إثبات الهلال. وهذا الاحتمال هو مبنى الاستدلال.

ولكن يبعد أيضاً إرادة هذا المعنى؛ لأنّ الرجوع إلى الحاكم فيما تمس الحاجة إلى الرجوع إليه، بحيث لو كان الإمام بنفسه حاضراً لوجب الرجوع إليه، لكن إذا لم تكن الواقعة من هذا الباب، بأن كان لاستعلام الحال فيها طرق أخرى فلا يجب الرجوع إلى الإمام (علیه السلام) في حال حضوره فضلاً عمّن هو حجة من قِبله (علیه السلام) وهم رواة أحاديث المعصومين (علیهم السلام) ، ومسألة إثبات

ص: 166

الهلال من هذا القبيل، إذ يمكن إثباته عن طريق التواتر والشياع والرؤية والبينة وعدّ ثلاثين يوماً، من دون حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي، فيجوز للمكلّف الاقتصار على أحد هذه الطرق فإن تمّت أفطر وإلا بقي على صومه، بل لم يعهد من الناس أنّهم كانوا يراجعون الأئمة (علیهم السلام) في هذا الشأن - كما هو المتعارف في زماننا من الرجوع إلى مراجع التقليد في أمر الهلال - حتى مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي كان متصدّياً للخلافة الظاهرية، فلم يذكر ذلك حتى في رواية واحدة ولو ضعيفة.

وعلى ضوء هذا فإما أن يراد المعنى الأول كما هو الظاهر، أو الثاني، وأما الثالث فهو غير مراد، فيخرج التوقيع عن صلاحية الاستدلال به على نفوذ حكم الحاكم في عموم الحوادث ومنها قضية الهلال((1)).

والحاصل أنّه (قدس سره) استظهر إرادة الشبهات الحكمية، وأنّ الحوادث لا تشمل المرافعات ولا الأعم.

ويلاحظ عليه:

أما استظهاره لها فلم يقم الدليل على هذا الاستظهار، فإن كان الاستظهار من باب كون الشبهات الحكمية هي القدر المتيقن من الحوادث الواقعة، فإنّ ذلك معلوم؛ إذ هي مرادة يقيناً لكونها القدر المتيقن، كما أنّ العدول من العلماء هم القدر المتيقن في مثل قولهم (أكرم العلماء)، لكن هذا لا يعني عدم إرادة الزائد على القدر المتيقن، وتعيين أنّ القدر المتيقن هو

ص: 167


1- انظر: المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 82-84 .

المراد والقول بعدم الظهور في غيره يحتاج إلى دليل.

وأما ما أيّد به استظهاره من أنّ الإمام (علیه السلام) أرجع إلى الرواة بصيغة العموم، ولم يرجع إلى شخص معيّن، لكون الإرجاع بهذا النحو هو حكم الجاهل بالمسألة، فيرجع إلى العالم بها، فقيهاً كان المرجوع إليه أم راوياً، فيمكن الجواب عنه بالقول إنّ الإتيان بصيغة العموم هو للإشارة إلى أنّهم المرجع في تلك الأمور، لا أنّ المراد لزم الرجوع إليهم جميعاً، فلازم الرجوع إلى واحد من هذا الجمع يكون مصداقاً من مصاديق الجمع المذكور، فالمقام مثل ما مرّ في الطائفة الأولى في قوله (علیه السلام) في المقبولة: «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»((1)).

وقوله في معتبرة أبي خديجة: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا [قضائنا] فاجعلوه بينكم [قاضياً] فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»((2)).

فإنّ المراد بالمرجوع إليه كل من كان بتلك الصفات، أي واحد ممن يحمل هذه الصفات لا أنّ المراد فرد معيّن. بل حتى لو أريد من الحوادث الشبهات الحكمية لما كان المراد لزوم الرجوع إلى جميع العلماء، بل واحد

ص: 168


1- وسائل الشيعة 1: 34، ب2 من أبواب مقدمة العبادات، ح12، وج27: 136، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح1.
2- وسائل الشيعة 27: 13، ب1 من أبواب صفات القاضي، ح5.

منهم وهو من توفّرت فيه الشروط.

وأما ما أفاده من استبعاد أن تشمل الحوادث المرافعات؛ لأنّ الحادثة بمعنى مورد المرافعة ترفع إلى الحاكم فهي ترجع إليه، لا أنّه يرجع فيها إليه، فلو كانت مرادة لقال: (فارجعوها)، بدل: (فارجعوا فيها).

فنقول: إنّ هذا بعينه جارٍ لو أريد بالحوادث الشبهات الحكمية، إذ يصح القول ارجعوا في القضايا أي المرافعات إلى الرواة، كما يصح القول ارجعوا في حكمها إلى الرواة، فالأمر بالإرجاع يصح أن يتعلق بالقضايا وبحكمها، وعلى هذا لا يكون ما ذكره دليلاً على التخصيص ولا على التعميم؛ لقابلية الجملة للحمل على كل منهما.

وأما ما ذكره أيضاً في وجه عدم الشمول للمرافعات من أنّ الظاهر دخالة أن يكون المرجوع إليه في الحوادث الواقعة راوياً، ولا مدخلية للراوي بما هو راوٍ في القضاء وفصل الخصومة فيمكن الجواب عنه بأنّ القضاة لابد لهم من العلم بالأحكام، ومن المعلوم أنّ أكثر مصدر لها هو الروايات، فلابد أن يكونوا رواة حتى يحصل لهم العلم بالأحكام.

أضف إلى ذلك أنّ الحاكم في المرافعات هم الرواة كما ورد في المقبولة: «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا»، ومبناهم في الأحكام مستند إلى الروايات، «واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ... فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ..»((1)).

ص: 169


1- الكافي 1: 67، باب اختلاف الحديث، ح10.

وأما ما أفاده من استبعاد أن يراد من الحوادث جميع الأمور، لأنّ الرجوع إلى الحاكم فيما تمس الحاجة إلى الرجوع إليه، مما يجب أن يُرجع فيه إلى الإمام، لكن إذا وجدت طرق أخرى لاستعلام الحال في الواقعة فلا يجب الرجوع إلى الإمام (علیه السلام) في حال حضوره فضلاً عن رواة الأحاديث، ومسألة إثبات الهلال من هذا القبيل.

ففيه: أولاً: إنّ هذا الوجه أخصّ من المدعى؛ فإنّ عدم احتياج الرجوع في أمر الهلال إلى الإمام (علیه السلام) فضلاً عن نائبه لا يعني أنّ مطلق الأمور كذلك، ومجرد نفي عدم الحاجة لمراجعة الإمام (علیه السلام) في أمر الهلال - لو سلّم - لا يجعل لفظ الحوادث منصرفاً عن جميع الأمور التي يُرجع فيها إليه.

وثانياً: القول بعدم الحاجة للرجوع إلى الإمام في أمر الهلال مطلقاً غير مسلّم؛ إذ قد يلزم ذلك في بعض الحالات كتعارض البينة وتعارض الشهرة وأمثالهما.

والشاهد على ذلك رجوع الناس إلى الأئمة (علیهم السلام) في أمر المواقيت في الصوم والحج، بل وردت روايات خاصة في حكم الإمام في الهلال، وستأتي في الطائفة الرابعة من الروايات.

فالقول بأنّ الناس لا يرجعون إلى الإمام في أمر الهلال، و أنّه لا حكم له فيه، ولا حاجة للرجوع إليه فيه ولو كان حاضراً، فلا يراد بالحوادث الأعم من الشبهات الحكمية والموضوعية غير تام.

ص: 170

وعلى ضوء هذا كلّه يتضح أنّ المناقشة في عموم الحوادث وعدم اختصاصها بالشبهات الحكمية غير تامة.

وأما الشواهد التي أقامها الشيخ الأنصاري (قدس سره) على تعميم الحوادث الواقعة، وعدم اختصاصها بالشبهات الحكمية فقد نوقشت أيضاً.

أما الشاهد الأول - وهو أنّ الظاهر إرجاع نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها، فتكون ظاهرة في الأمور العامة، لا الرجوع في حكمها إليه حتى تكون ظاهرة في الإفتاء والقضاء - فأجاب عنه المحقق النائيني (قدس سره) بأنّ أدنى المناسبة بين نفس الحوادث وحكمها كافٍ للسؤال عن حكمها، فيكون الفقيه هو المرجع في الأحكام لا في نفس الحوادث((1)).

وأما الشاهد الثاني - وهو التعليل بكون الرواة حجة من قبل الإمام كما أنّه (علیه السلام) حجة من قبل الله، فما كان له (علیه السلام) من قبل الله وكان قابلاً للتفويض فهو للرواة - فقد أجاب عنه (قدس سره) بأنّ الحجة تناسب المبلغية في الأحكام والرسالة على الأنام أيضاً، كما في قوله عز من قائل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}((2))، وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ}((3))، ونحو ذلك مما ورد بمعنى البرهان الذي به يحتج على الطرف. وبهذا المعنى أيضاً ورد قوله (علیه السلام) : «إنّ الأرض لا تخلو من حجة»((4))، لأنّ به يتم الحجة، ويهلك من

ص: 171


1- منية الطالب 2: 234.
2- سورة الأنعام: الآية 149.
3- ([3]) سورة الأنعام: الآية 83 .
4- ([4]) الكافي 1: 168- 174، باب الاضطرار إلى الحجة، ح9.

هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. ولذا وصفهم برواة الأحاديث الذين شأنهم التبليغ((1)).

وأما الشاهد الثالث - وهو أنّ إسحاق بن يعقوب أجلّ من أن يخفى عليه لزوم الرجوع في المسائل الشرعية إلى الفقهاء فإنّها من بديهيات الإسلام، بخلاف الرجوع إليهم في الأمور العامة، فإنّه يحتمل أنّ يكون الإمام قد جعله لشخص أو أشخاص معينين من ثقات ذلك الزمان فيريد إسحاق معرفته، فأجاب الإمام بأنّ جميع الرواة مراجع لهذه الأمور - فناقشه (قدس سره) أيضاً بأنّ جلالة القدر لا تنافي السؤال عن أمور غير خفية، وقد وقع نظير ذلك لأجلاء أصحاب الأئمة (علیهم السلام) كزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما حيث سألوا الإمام (علیه السلام) عمّا لا يخفى على أحد((2)).

ويمكن الجواب عمّا أفاده (قدس سره) في مناقشة الشواهد الثلاثة:

أما ما أورده على الشاهد الأول - من كفاية وجود أدنى مناسبة بين الحوادث وحكمها في جواز السؤال عن حكمها، وعليه فالرجوع إلى الفقيه مختص بالأحكام الشرعية لا جميع الأمور - فهو بمجرده لا يوجب انصراف لفظ الحوادث عن العموم.

وأما ما أورده على الشاهد الثاني - من أنّ الحجيّة من الاحتجاج فلا ينطبق على المقام، لاختصاصها بالأحكام الشرعية ولذا تناسب المبلّغية، فلا

ص: 172


1- منية الطالب 2: 234.
2- انظر منية الطالب 2: 235.

تعم التصرفات الشخصية في الأموال والنفوس وغيرهما - فجوابه: أنّ الحجة وإن جاءت بمعنى الاحتجاج، والغلبة، وما يتخذ حجة، إلا أنّ الظاهر منها في اصطلاح العرف والروايات أنّه إذا أطلق على شخص أنّه حجة أو أنّه من حجج الله فالمراد أنّ ما صدر عنه من فعل هو صحيح وحق، وأنّه لابد من إطاعته والاقتداء به، وليس معنى ذلك أنّه مبلّغ للأحكام الشرعية فقط. والشاهد على ذلك ما ورد في عدة روايات:

منها: صحيحة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : إنّ الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال : « صدقت »، قلت: إنّ من عرف أنّ له رباً، فينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطاً وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجة وأنّ لهم الطاعة المفترضة.

وقلت للناس: تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان هو الحجة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول الله صلى الله عليه وآله من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجة إلا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن؟ فقالوا ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كلّه؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال: إنّه يعرف ذلك كلّه إلا علياً (علیه السلام) وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال

ص: 173

هذا: لا أدري ، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ علياً(علیه السلام) كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنّ ما قال في القرآن فهو حق، فقال: « رحمك الله»((1)).

وموضع الشاهد منها: قوله: (فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجة وأنّ لهم الطاعة المفترضة)، وقوله: (فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، فما قال فيه من شيء كان حقاً)، وقوله: (وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله)، وهذه الأقوال وإن كانت من الراوي إلا أنّ الإمام (علیه السلام) أقرّها وأمضاها وترحّم على قائلها.

ومنها: صحيحة أبان قال: أخبرني الأحول أنّ زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام بعث إليه وهو مستخفٍ قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منّا أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، قال: قلت: لا ما أفعل جعلت فداك، قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال: قلت له: إّنما هي نفس واحدة فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلّف عنك ناجٍ والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء((2)).

ص: 174


1- الكافي 1: 168، باب الاضطرار إلى الحجة، ح2.
2- الكافي 1: 174، باب الاضطرار إلى الحجة، ح5.

وموضع الشاهد قوله: (فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلّف عنك ناجٍ والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء).

والحجة هنا هو المفترض الطاعة الذي يجب الاقتداء به، كما هو الحال في الخليفة، لا أنّ المراد بها من كان مبلغاً للأحكام.

وأما ما أورده (قدس سره) على الشاهد الثالث - من أنّ جلالة الشخص لا تنافي سؤاله عن أمور واضحة، فلا لزوم للقول بأنّ ما سأل عنه ليس من الواضحات وإلا لما ناسب السؤال مكانة السائل - ففيه أنّ السؤال كان عن المرجع في تلك الحوادث، والرجوع إلى العلماء في استعلام الأحكام ليس من بديهيات الإسلام فقط، بل من بديهيات العقلاء، فلا ينبغي الريب في أنّه ليس بصدد السؤال عنه لبداهته، فلا يقاس بالسؤال عمّا قد يخفى حكمه كحكم الفقاع والشلماب، وحكم منكري قتل الحسين (علیه السلام) وغيرها، وبهذا يكون تقريب الشاهد تامّاً، هذا كلّه حول الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني وهو الاستدلال بمقتضى التعليل، وهو قوله (علیه السلام) : «فإنّهم حجتي» لإفادته أنّ الرواة حجج ونواب من قبل الإمام (علیه السلام) في كل ما يكون للإمام؛ لأنّ الحجة هو عبارة أخرى عن الخليفة القائم مقام الإمام، فقد أورد عليه ما أورد على الشاهد الثاني، وأوضح المحقق الإيرواني الإيراد بقوله: (الحجيّة تكون في تبليغ أمر، فيخصّص مدلولها في المقام بتبليغ الأحكام الشرعيّة، ولا يشمل التصرفات الشخصيّة في الأموال

ص: 175

والنّفوس أو التصدّى للمصالح العامّة من الحكومة وفصل الخصومة أو إجراء الحدود، فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن مفهوم الحجيّة الَّتي هي من الاحتجاج، فإنّ اللَّه تعالى يحتجّ على العباد ببعث الأنبياء، والأنبياء بنصب الخلفاء، والخلفاء باستنابة الفقهاء في تبليغ الأوامر والنواهي، والتصرّفات ليس من محلّ الاحتجاج، فالتّوقيع الشّريف أجنبيّ عن ما هو المدّعى، ومنه يظهر عدم صلاحيّته للاستدلال به على نيابة الفقيه في الأمور المزبورة، ويختصّ مدلوله بالفتوى)((1)).

وقد أجبنا عنه قريباً في رد مناقشة الشاهد الثاني الذي استشهد به الشيخ(قدس سره) على التعميم لغير الشبهات الحكمية، وعليه يكون التعليل عامّاً يشمل جميع الأمور والتصرفات التي يرجع فيها إلى الإمام (علیه السلام) ، هذا كلّه حول الرواية الأولى (التوقيع الشريف).

الرواية الثانية: ما رواه في المستدرك عن تحف العقول عن الحسين بن علي عليهما السلام: «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه»((2)). وهي دالّة بظاهرها على أنّ شأن العلماء هو التصدّي لأمور الناس العامة، ولهم الحاكمية العامة في شؤون الناس.

ولكنّها نوقشت سنداً ودلالة.

أما من حيث السند فهي مرسلة، ولم يذكر مؤلف الكتاب في الأصول الرجالية.

ص: 176


1- حاشية كتاب المكاسب 2: 372.
2- مستدرك وسائل الشيعة 17: 315، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح16.

وأما من حيث الدلالة فقد ذكر كل من المحققين النائيني والأصفهاني والسيد الأستاذ قدس الله أسرارهم أنّ الظاهر من القرائن في صدر الرواية وذيلها أنّ المراد بالعلماء هم الأئمة (علیهم السلام) .

قال المحقق النائيني (قدس سره): (فإنّ فيه قرائن تدلّ على أنّ المراد من العلماء فيه: هم الأئمة (علیهم السلام) ، فإنّهم هم الأمناء على حلال الله وحرامه)((1)).

وقال المحقق الأصفهاني (قدس سره): (وسياقها يدلّ على أنّها في خصوص الأئمة (علیهم السلام) ، والظاهر أنّه كذلك، فإنّ المذكور فيها هم العلماء بالله لا العلماء بأحكام الله، ولعل المراد أنّهم (علیهم السلام) بسبب وساطتهم للفيوضات التكوينية والتشريعية تكون مجاري الأمور كلّها حقيقة بيدهم (علیهم السلام) لا جعلاً، فهي دليل الولاية الباطنية لهم كولايته تعالى، لا الولاية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة)((2)).

وأضاف السيد الأستاذ (قدس سره) بأنّه (لو تنزّلنا وفرضنا أنّ المراد بالعالم هو الفقيه فقوله (علیه السلام) : «الأُمناء على حلاله وحرامه» قرينة على أنّ مجاري الأُمور من حيث الأحكام والحلّية والحرمة بيد الفقيه؛ إذ لو لم يبيّن حلّية بعض الأفعال وحرمة بعضها الآخر لتوقّفت الأُمور وتحيّر الناس لعدم العلم بحكمه، فهو لا يدلّ على الولاية المطلقة بوجه، وإنّما يدلّ على أنّ للفقيه أن يبيّن الحلال والحرام، وأمّا نفوذ تصرّفاته في الأموال والأنفس فلا، كما

ص: 177


1- منية الطالب 2: 234.
2- حاشية كتاب المكاسب 2: 388.

هو أوضح من أن يخفى)((1)).

وأوضحه المحقق الإيرواني (قدس سره) ببيان آخر حيث قال: (مجرى الأمر هو منبعه الذي ينبعث منه تشبيهاً له بمنبع الماء، فلو كانت عبارة الحديث «العلماء هم مجاري الأمور» أو كانت العبارة «الأمور بيد العلماء» كان ظاهر ذلك: أنّ العلماء بوجودهم مجاري للأمور، وذلك لا يكون إلا بأن تكون تصرّفاتهم الشخصيّة نافذة مؤثّرة فلو باعوا مال زيد أو أوقعوا النّكاح على هند كان ذلك مؤثراً في أثره، وأمّا هذه العبارة فتدلّ على أنّ المجرى بيد العلماء، والمجرى الَّذي يمكن فرض كونه بيدهم هو الأحكام والقوانين الشرعيّة الَّتي ينبغي أن يصدر المكلفون في حركاتهم وسكناتهم عنها، ولا يتخلَّفوا عنها)((2)).

ويمكن الجواب عن ذلك:

أما من جهة السند فالكتاب - تحف العقول بشهادة الحر العاملي - يعدّ من الكتب المعتمدة، بل المشهورة على ما نقله المحدث القمي، فالرواية ليست بمرسلة، ومصنّف الكتاب هو الذي حذف السند لغرض التخفيف والإيجاز.

وأما مصنّف الكتاب فهو وإن لم يذكر في الأصول الرجالية إلا أنّه كان من المشهورين فقد كان معاصراً للشيخ الصدوق، وذكر بالفضل والجلالة

ص: 178


1- التنقيح في شرح المكاسب، البيع 37: 166.
2- حاشية كتاب المكاسب 2: 373.

في كتب المتأخرين كأمل الآمل، والفرقة الناجية للشيخ إبراهيم القطيفي، ورسالة الشيخ حسين بن علي البحراني في رسالته في الأخلاق والسلوك إلى الله على طريقة أهل البيت (علیهم السلام) كما نقله المحدث القمي في سفينة البحار((1))، ومن البعيد أن يكون ثناؤهم ومدحهم له بلا مستند، ومن القوي أن يكون مستندهم في ذلك أقوال أو كتب المتقدمين، وإن لم تصلنا، وهذا كافٍ في اعتباره والحكم بوثاقته، بل الظاهر أنّه من الأجلاء.

نعم لما كانت شهادة المصنف مجملة لا صراحة فيها بالحكم بصحة روايات كتابه - ومن جملتها هذه الرواية - ذكرنا في بحوثنا الرجالية أنّ الاحتياط بالأخذ بها في محلّه((2)).

وأما من جهة الدلالة فما ذكره الأعلام قدست أسرارهم من أنّ المراد من العلماء بالله هم الأئمة غير تام؛ لأنّ الظاهر من الرواية من أولها إلى آخرها أنّ المراد منهم هم العصابة التي خاطبها الإمام في أول الرواية بقوله: «اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار .. » ثم خاطبهم (علیه السلام) بقوله: «ثم أنتم أيّتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفس الناس مهابة. يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها وتمشون في الطريق بهيبة

ص: 179


1- أمل الآمل 2: 74: 198، سفينة البحار4: 441.
2- أصول علم الرجال 1: 484.

الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيعتم وأما حقكم بزعمكم فطلبتم»، وقال: «لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته».

وقال أيضاً: «وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله محقورة [مخفورة]»، ثم قال: «كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون» إلى أن قال: «ولكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات»، ثم قال (علیه السلام) : «فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا»، ثم ختم كلامه بقوله: «اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافسا في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم. وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير»((1)).

وليس المعنيّ بهذه الخطابات الأئمة (علیهم السلام) قطعاً لتضمنها اللوم والعتاب الشديدين للمخاطبين، ونسبة الاستخفاف بحق الأئمة إليهم، وغفلتهم عن

ص: 180


1- تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم): 237 - 239.

الأوامر والنواهي وتمكين الظالمين، وتسليم أمور الله إليهم، وما إلى ذلك، فعلى هذا لا وجه لرجوع تلك الجملة إلى الأئمة، فما ذكره الأعلام من رجوعها إلى الأئمة لا يمكن المصير إليه.

وأما ما جعله المحقق النائيني (قدس سره) قرينة على إرادة الأئمة من العلماء بالله وهي قوله (علیه السلام) : «الأمناء على حلاله وحرامه» فغير تام أيضاً؛ لورود هذا التعبير في كلام الإمام الصادق (علیه السلام) في وصف بعض أصحاب أبيه فقد روى الكشي بسند صحيح عن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست»((1)).

وروى أيضاً بسند صحيح عن سليمان بن خالد الأقطع قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيى ذكرنا، وأحاديث أبي (علیه السلام) إلا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي (علیه السلام) على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة»((2)).

فقد وصفهم الإمام (علیه السلام) تارة بأمناء الله على حلاله وحرامه، وأخرى

ص: 181


1- وسائل الشيعة 27: 142، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح14.
2- وسائل الشيعة 27: 144، ب11 من أبواب صفات القاضي، ح21.

بأمناء أبي على حلال الله وحرامه، فهذا الوصف غير مختص بالأئمة (علیهم السلام) ، فلا يكون قرينة على إرادتهم منه.

وأما ما ذكره المحقق الأصفهاني من أنّه بسبب وساطتهم (علیهم السلام) للفيوضات التكوينية والتشريعية تكون مجاري الأمور كلّها حقيقة بيدهم(علیهم السلام) فهو معنى دقيق بعيد عن أذهان المخاطبين ومخالف للفهم العرفي.

وأما ما ذكره المحقق الإيرواني والسيد الأستاذ (قدس سره) في تفسير مجاري الأمور والتي هي بيد العلماء فغير تام أيضاً؛ لاشتمال الرواية على ذكر الأمور والأحكام معاً، وهما متغايران، فلا معنى لحمل الأمور على الأحكام، وأيضاً: ليس الإمام (علیه السلام) بصدد بيان أنّ الإفتاء سلب عن المخاطبين، بل جميع الأمور من المصالح العامة والأحكام قد سلبت من أيديهم، ويؤيّد ذلك قوله (علیه السلام) : «ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم». ولا شبهة في دلالته على شموله لجميع الأمور لا خصوص الأحكام.

ولكن مع ذلك كلّه يتمحّض الإشكال في أصل المراد؛ إذ المحتمل فيه أنّ هذه المنزلة - وهي كون مجاري جميع الأمور بأيديهم - للعصابة من حيث أنّهم علماء، أو من حيث أنّ الأئمة (علیهم السلام) في ضمن العلماء، بمعنى أنّ مجاري الأمور بأيدي العلماء في طول كونها في أيدي الأئمة (علیهم السلام) وإلا لما كانت هذه المنزلة ثابتة للعلماء، وليس معنى هذا أنّ الأئمة معنيّون في الخطابات الموجهة للعصابة، بل المراد أولويتهم (علیهم السلام) بمجاري الأمور،

ص: 182

وأنّها لهم أولاً وبالذات وللعلماء ثانياً وبالعرض، ومع وجود هذا الاحتمال يضعف الاستدلال بهذه الرواية على المدعى.

الطائفة الثالثة: وهي قسمان:

القسم الأول: ما دلّ على أنّ العلماء خلفاء للنبي صلى الله عليه وآله، وهي عدّة روايات:

منها: ما رواه الصدوق مرسلاً: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»((1)).

ورواها أيضاً في المعاني بسنده عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم ارحم خلفائي، الله ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، قيل له: يا رسول الله من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي»((2)).

ورواها أيضاً في الأمالي بسنده عن علي (علیه السلام) قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يبلّغون [يتبعون] حديثي وسنّتي ثم يعلّمونها أمّتي»((3)).

ص: 183


1- من لا يحضره الفقيه 4: 420، باب النوادر، ح 5922.
2- معاني الأخبار: 494، باب معنى قول النبي صلى الله عليه وآله «اللهم ارحم خلفائي» ثلاثاً، ح1.
3- الأمالي: 247، المجلس الرابع والثلاثون، ح4.

والمراد بالخلفاء هنا هم الفقهاء، لأنّهم هم الذين يقومون بالتعليم، وأما الرواة فليس شأنهم إلا الرواية، ومضمون هذه الروايات الثلاث واحد.

ورواية الفقيه وإن كانت مرسلة إلاّ أنّه يمكن الاعتبار بمراسيل الصدوق في الفقيه.

وأما سندها في المعاني فقد رواها عن أبيه، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) .

وفيه علي بن داود اليعقوبي ولم يوثّق، لكنّه واقع في أسناد نوادر الحكمة بعنوان اليعقوبي((1)) فيكون ثقة.

وفيه أيضاً عيسى بن عبد الله، وعبد الله بن محمد بن عمر، ومحمد بن عمر، ولم يوثقوا، لكنهم أيضاً واقعون في أسناد نوادر الحكمة((2))، وهذا كافٍ في الحكم بوثاقتهم.

كما أنّ كتاب عيسى بن عبد الله معروف، فقد رواه جماعة - كما عن النجاشي((3)) - فليس بحاجة إلى الطريق. فسند الرواية معتبر.

وأما سندها في الأمالي فقد رواها عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن

ص: 184


1- أصول علم الرجال 1: 251.
2- المصدر نفسه: 232، 228، 238.
3- رجال النجاشي: 295: 799.

محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن محمد بن حسان الرازي، عن محمد بن علي، عن عيسى بن عبد الله العلوي العمري، عن أبيه، عن آبائه عن علي (علیه السلام) .

والحسين بن أحمد بن إدريس شيخ الصدوق، وقد ترضّى عنه كثيراً، وهذا كافٍ في اعتباره، والظاهر أنّ المراد بمحمد بن علي هو الصيرفي المعروف بأبي سمينة وهو الراوي لكتاب عيسى بن عبد الله وهو ضعيف فهذا السند غير تام.

اللهم إلاّ أن يقال إنّ للشيخ طرقاً معتبرة إلى كتبه مما ليس فيها تخليط أو غلو أو تدليس أو ينفرد به ولا يعرف من غير طريقه كما في الفهرست((1))، وحيث إنّ هذه الرواية مما لم ينفرد محمد بن علي بروايتها فيمكن حينئذ اعتبار روايته من هذه الجهة، وبناء على ذلك فكل رواية وردت عن هذا الطريق فلا بأس في الاعتماد عليها، ولا إشكال في الأخذ بها نظراً إلى أنّ روايات هذا الطريق كلّها نقية عن الغلو والتخليط والتدليس.

هذا، وقد رواها الصدوق أيضاً في العيون بسنده عن عبد الله بن أحمد بن عامر بن سليمان، عن أبيه، عن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) ، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم ارحم خلفائي ثلاث مرات، قيل له: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي وسنّتي فيعلّمونها الناس من بعدي»((2)).

ص: 185


1- الفهرست: 223: 624.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 2: 40، باب فيما جاء عن الرضا (علیه السلام) من الأخبار المجموعة، ح94.

وقد رواها بسندين آخرين ينتهي أولهما إلى أحمد بن عبد الله الهروي الشيباني وينتهي ثانيهما إلى داود بن سليمان الفراء.

والطرق الثلاثة هي طرق صحيفة الرضا (علیه السلام) وكلّها ضعيفة((1)).

ومنها: ما أورده في المستدرك عن صحيفة الرضا (علیه السلام) وهي نفس رواية العيون((2)). ونقلها أيضاً عن العوالي وزاد في آخرها: «أولئك رفقائي في الجنة»((3)).

ومنها: ما نقله أيضاً عن القطب الراوندي في كتاب لبّ اللباب عن النبي صلى الله عليه وآله قال: «رحمة الله على خلفائي»، قالوا: وما خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها عباد الله، ومن يحضره الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء درجة»((4)).

ومنها: ما في المستدرك أيضاً عن السيد هبة الله في المجموع الرائق نقلاً عن الأربعين لأبي الفضل محمد بن سعيد القطب الراوندي عن أمير المؤمنين(علیه السلام) عن النبي صلى الله عليه وآله قال: «أدلّكم على الخلفاء من أمتي ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي، هم حملة القرآن والأحاديث عنّي وعنهم في الله، ولله عز وجل، ومن خرج يوماً في طلب العلم فله أجر سبعين نبياً»((5)).

ص: 186


1- انظر: أصول علم الرجال1: 493-494.
2- مستدرك وسائل الشيعة 17: 287، ب8 من أبواب صفات القاضي، ح10.
3- ([3]) المصدر نفسه، ذيل الحديث 10.
4- مستدرك وسائل الشيعة 17: 300، ب8 من أبواب صفات القاضي، ح48.
5- مستدرك وسائل الشيعة 17: 301، ب8 من أبواب صفات القاضي، ح52.

ومنها: ما ورد في منية المريد: قال: وقوله صلى الله عليه وآله: «رحم الله خلفائي»، فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها عباد الله»((1)).

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: ما دام العلماء خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وخليفة المرء هو نائبه في جميع الأمور والقائم مقامه في كل شؤونه على نحو الإطلاق، إلا ما خرج بالدليل، فلهم أن يحكموا فيما يحكم فيه النبي صلى الله عليه وآله، ومن ذلك قضية الهلال، لعدم الدليل على خروجها.

وقد نوقشت هذه الطائفة بأنّ الخلافة لو كانت مطلقة لكانت الدلالة تامّة ولكنها ليست كذلك، فإنّ جميع هذه الروايات وردت مقيدة برواية الحديث والتعليم وإحياء السنة ونحو ذلك.

وبذلك يظهر أنّ دلالة الخلافة إنّما هي في هذا المقدار من تبليغ الأحكام وتعليم الناس وإرشادهم، لا خلافة العلماء للنبي صلى الله عليه وآله من جميع الجهات.

والقسم الثاني: ما دلّ على أنّ العلماء ورثة الأنبياء، أو كالأنبياء

وهي عدة روايات:

منها: ما ورد في العوالي، من قول الرسول صلى الله عليه وآله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»((2)).

ص: 187


1- منية المريد: 101.
2- عوالي الئالي 4: 77.

ومنها: ما ورد في جامع الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: «أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي فأقول: علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي»((1)).

ومنها: ما أرسله الصدوق في الفقيه قال: وقال أمير المؤمنين في وصيّته لابنه محمد بن الحنفية رضي الله عنه - وهي وصية طويلة وموضع الشاهد منها قوله (علیه السلام) - : «وتفقّه في الدين فإنّ الفقهاء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكنّهم ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ... إلى أن قال: لأنّ الفقهاء هم الدعاة إلى الجنان والأدلاء على الله تبارك وتعالى»((2)).

وهي وإن كانت مرسلة إلاّ أنّه يمكن اعتبارها كما تقدّم.

ومنها: موثقة السكوني، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول الله: وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»((3)).

ويؤيّد هذه الطائفة رواية أبي البختري عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء. وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً،

ص: 188


1- جامع الأخبار:111.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 387، باب النوادر، ح5834.
3- الكافي 1: 46، باب المستأكل بعلمه، ح5.

فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»((1)).

وما في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين (علیه السلام) : «إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤا به»((2)).

وغيرها من الروايات، وهي بمجموعها تدلّ على أنّ الفقهاء بمنزلة الأنبياء وورثتهم وأمناؤهم فكلّ ما ثبت لهم (علیهم السلام) فهو ثابت لورثتهم إلاّ ما أخرجه الدليل، والتصرّف في الأمور المهمة لم يخرج بدليل، ولمّا كان التصرّف في الأمور المهمة ثابتاً للأنبياء (علیهم السلام) فهو ثابت للفقهاء أيضاً.

ولكن دلالة هذا القسم على المدعى أوهن من دلالة القسم الأول، وذلك:

أولاً: إنّ هذه الروايات تضمّنت تشبيه العلماء بالأنبياء ومقتضاه أن يكون المشبّه بمنزلة المشبه به في كل شيء إذا لم تكن هناك صفة ظاهرة عند العرف كالشجاعة في التشبيه بالأسد مثلاً، وإلاّ انصرف التشبيه إلى خصوص الصفة البارزة، كما إذا قيل زيد كالأسد أو أسد فإنّه ينصرف إلى أنّ وجه الشبه هو الشجاعة فقط دون سائر الأوصاف.

وهنا توجد صفات ظاهرة في الأنبياء وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق أحكام الله تعالى، فإنّهم الدعاة إلى الله والأدلاّء عليه، فإذا قيل العالم أو الفقيه كالنبي فإنّه ينصرف إلى أنّه مثله في هذه الصفة دون

ص: 189


1- الكافي 1: 32، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح2.
2- نهج البلاغة: 484، الحكمة رقم 96.

غيرها من سائر الصفات.

وثانياً: على فرض التسليم بأنّ مقتضى التنزيل المذكور هو الإطلاق في جميع الصفات إلاّ أنّه يتم فيما إذا لم يكن في اللفظ قرينة على التقييد.

وقد ورد في موثقة السكوني، وغيرها تقييد الوراثة بالعلم، ومعناه أنّ العلماء ورّاث الأنبياء في المعارف الحقّة والعلم بأحكام الدين، وأنّه ليس همّ الأنبياء جمع الدينار والدرهم وإنّما همّهم العلم وذخيرتهم المعارف، والعلماء أيضاً كذلك.

والحاصل: أنّ دلالة هذه الطائفة غير تامّة.

والمتحصل إلى هنا أنّه بناء على تمامية بعض هذه الطوائف تثبت للفقيه الجامع لشرائط الفتوى الولاية العامة، فيكون حكمه بالهلال نافذاً كما لا يخفى.

الطائفة الرابعة:

ما دلّ على نفوذ حكم الحاكم في خصوص الهلال

منها: صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار [وصلى] في ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، فإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلى بهم»((1)).

ص: 190


1- وسائل الشيعة 7: 432، ب9 من أبواب صلاة العيد، ح1. وج10: 275، ب6 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.

وقد استدل بها على أنّ شوال يثبت بأمر الإمام إذا قامت عنده البينة بلا فرق بين أن تتم الشهادة عنده قبل الزوال أو بعده.

نعم لو قامت عنده بعد الزوال لترتب عليه فوات صلاة العيد، دون ما إذا قامت قبله لبقاء وقتها، وأمر الإمام بالإفطار دخيل في الحكم، وحاكم الشرع نائبه فحكمه نافذ إذا قامت عنده أيضاً.

ولهذه الرواية سندان:

الأول: سند الكليني في الكافي، وهو: محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عيسى عن يوسف بن عقيل، عن محمد بن قيس.

الثاني: سند الصدوق إلى محمد بن قيس.

وفيهما محمد بن قيس، وهو مشترك بين ستة أشخاص، منهم اثنان معروفان مشهوران وموثقان:

أحدهما: محمد بن قيس البجلي، قال عنه النجاشي: محمد بن قيس أبو عبد الله البجلي ثقة، عين، كوفي ، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام . له كتاب القضايا المعروف، رواه عنه عاصم بن حميد الحناط، ويوسف بن عقيل وعبيد ابنه((1)).

الثاني: محمد بن قيس الأسدي، أبو نصر، قال عنه النجاشي: محمد بن قيس أبو نصر الأسدي ... وجه من وجوه العرب بالكوفة ... روى عن أبي

ص: 191


1- رجال النجاشي: 323/ 881 .

جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام . وله كتاب في قضايا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وله كتاب آخر نوادر((1)). ووثّقه الشيخ في الرجال((2)).

وسند الصدوق إلى محمد بن قيس في المشيخة: أبوه رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمد بن قيس((3)). والسند معتبر.

وسنده إلى ما تفرّق من قضايا أمير المؤمنين (علیه السلام) : أبوه ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما، عن سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن هاشم، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمد بن قيس((4)). ولم يقيّده لا بالبجلي ولا بالأسدي.

وفي الفهرست: محمد بن قيس البجلي، له كتاب قضايا أمير المؤمنين(علیه السلام) ، أخبرنا به جماعة، منهم: محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيد الله وجعفر بن الحسين بن حسكة القمي، عن ابن بابويه، عن أبيه، عن سعد والحميري، عن إبراهيم بن هاشم، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن قيس ، عن الباقر (علیه السلام) . وله أصل أيضاً، أخبرنا به جماعة، عن أبي المفضل، عن ابن بطة، عن أحمد بن

ص: 192


1- رجال النجاشي: 322/ 880.
2- ([3]) رجال الطوسي: 293/ 4269.
3- من لا يحضره الفقيه، المشيخة 4: 486.
4- من لا يحضره الفقيه، المشيخة 4: 526.

محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عنه((1)).

وسنده إلى كتابه: قضايا أمير المؤمنين (علیه السلام) معتبر، وأما سنده إلى أصله فضعيف.

وأما سنده إلى كتاب القضايا لأبي نصر محمد بن قيس الأسدي - على ما في الفهرست - فهو: جماعة عن أبي المفضل، عن ابن بطة، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عنه((2)). وهو سنده أيضاً لكتاب نوادره، وهو ضعيف بأبي المفضل، وابن بطة.

فإن أريد بمحمد بن قيس في هذه الرواية - والتي هي مأخوذة من كتاب القضايا - أبو نصر الأسدي كان سندها ضعيفاً، وإن أريد البجلي كان معتبراً.

والظاهر أنّ المراد هنا هو البجلي فيكون السند معتبراً، وذلك؛ لأنّ الراوي عنه في سند الكليني هو يوسف بن عقيل، وهو الراوي لكتاب البجلي فبه يميّز كما يميّز أيضاً برواية ابنه عبيد وعاصم بن حميد الحناط.

وأما سند الصدوق إليه فالراوي عنه عاصم بن حميد الحناط فيراد به البجلي أيضاً.

والحاصل: أنّ كلا سندي الرواية معتبران، ولذا لم يناقش فيه السيد الأستاذ (قدس سره).

ص: 193


1- الفهرست: 206/ 590.
2- الفهرست:227/ 644.

نعم، ناقش في دلالتها بأنّ أمر الإمام بالإفطار أمر ولائي تجب إطاعته؛ لكونه من أولي الأمر الذين تجب طاعتهم، ولا يشاركهم أحد في هذا المنصب، فلا يمكن التعدي والتسرية إلى حاكم الشرع، ولا حاجة إلى صدور حكم منه - الذي هو إنشاء واعتبار خاص كاعتبار اليوم الفلاني عيد الفطر - إذ لم يفرض في الرواية، والموجود فيها مجرد قيام البينة وصدور الأمر منه، وهو غير الحكم المحتاج إلى قصد الإنشاء((1)).

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الأوامر الصادرة عن المعصومين (علیهم السلام) على ثلاثة أنحاء:

الأول: أن يكون الغرض منها الإخبار بالواقع والأحكام الشرعية، كقولهم(علیهم السلام) : أعد، ويصلي، ونحو ذلك، فالحكم موجود وهم يخبرون عنه بصورة الأمر.

والثاني: الأمر الولائي، وهو الصادر منهم لمصلحة يرونها باعتبار كونهم أولي الأمر الذين تجب طاعتهم.

والثالث: الأمر الحكومي السلطاني، لكونهم أئمة وحكاماً على الناس، والحاكم لابد له من قصد الإنشاء.

والظاهر أنّ الإمام (علیه السلام) إذا أراد إصدار أمر حكومي سلطاني لا يلزمه قصد الإنشاء، فيكفي إصدار الأمر فقط من قبله لتجب إطاعته، بلا حاجة

ص: 194


1- انظر المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 80-81 .

إلى قصده إنشاء الحكم، نعم حاكم الشرع لا ينفذ أمره إذا كانت للمأمور به مصلحة في نفسه إلا إذا قصد الإنشاء، وأما الإمام (علیه السلام) فلا يحتاج أمره إلى قصد الإنشاء، بل أمره مقابل للإخبار؛ فإنّه إذا أخبر فقد بيّن الحكم الواقعي فقط، ولو كان ذلك بصورة الأمر، وأما إذا كان أمره لكونه إماماً وحاكماً فأمره واجب الإطاعة وإن لم يقصد الإنشاء، فأمره إنشاء - في مقابل الإخبار - ولا يحتاج إلى أن يقصد الإنشاء، فعلى هذا إن أراد سيدنا الأستاذ (قدس سره) أنّ هذا القسم غير موجود في الإمام تم ما ذكره، لكن الظاهر وجوده مع عدم الحاجة إلى قصد الإنشاء، فما يأمر به من باب كونه مفترض الطاعة هو حكم مولوي سلطاني نافذ.

فإذا قلنا إنّ للفقيه الجامع للشرائط ما للإمام في الموارد التي يرجع فيها للإمام، وهي الأمور المهمة التي يتحيّر فيها الناس ويراجعون فيها الإمام، وللإمام أمر فيها كما في مثال الإفطار كان للفقيه التدخّل فيمكنه أن يأمر ويكون أمره نافذاً.

نعم، يحتمل من جهة أخرى أنّ ما صدر من الإمام (علیه السلام) كان من النحو الأول وهو الإخبار عن الحكم، أي أنّ الهلال قد ثبت وأنّ هذا اليوم أول شوال.

لكنّه خلاف الظاهر؛ فإنّ الظاهر أنّهم شهدوا عند الإمام (علیه السلام) ، وهو أمر بالإفطار وتأخير الصلاة، وظاهر ذلك أنّ عليهم إطاعة هذا الأمر، لا أنّه (علیه السلام) أمرهم وكان أمره من باب الإخبار عن الحكم الشرعي، فالظاهر أنّ لأمره(علیه السلام) دخالة في الحكم الشرعي.

ص: 195

فعلى ضوء هذا كلّه يتضح تمامية دلالة هذه الرواية مع ضم أنّ المورد المرفوع للحاكم هو من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها أو من الحوادث الواقعة التي يلجأ فيها الناس إلى الإمام، فيكون حكم الحاكم فيها نافذاً وإن لم نقل بعموم الولاية للفقيه.

ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) «إنّ علياً (علیه السلام) كان يقول: لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين»((1)).

ونحوها صحيحته الأخرى وهي قوله (علیه السلام) : «إنّ علياً (علیه السلام) كان يقول: لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين»((2)).

وقد استدلّ بهما على أنّ الإمام هو الذي يجيز وهو الذي لا يجيز، والظاهر أنّه يراد بالإجازة السماح في مقابل عدمها وهو المنع، فيكون هذا حكماً ولائياً، ويثبت لنائب الإمام (علیه السلام) .

وفيه: أنّ هذا الاستدلال أدنى مرتبة من سابقه لوجود الأمر هناك في صحيحة محمد بن قيس فيحتمل أن يكون أمراً ولائياً، بينما الموجود في هاتين الصحيحتين عدم التجويز والمراد عدم الإجازة واقعاً، فهما بيان للحكم الواقعي، كما في قوله (علیه السلام) : «أنّ علياً (علیه السلام) قال: لا أجيز في الطلاق ولا في الهلال إلا رجلين»((3)).

ص: 196


1- وسائل الشيعة 10: 286، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1.
2- وسائل الشيعة 10: 288، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح8.
3- وسائل الشيعة 10: 289، ب11 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح9.

ومنها: ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن الحكم عن رفاعة، عن رجل، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: « دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا فقال: يا غلام علي بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله أنّه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله»((1)).

وقد استدلّ بها على أنّ أمر الصيام والإفطار بيد الإمام (علیه السلام) فتثبت لنائبه، والإمام (علیه السلام) وإن كان في ظرف تقية كما هو ظاهر من هذه الرواية، إلا أنّ التقية كانت في تطبيق الإمام على الحاكم الجائر في عصره، وأما الكبرى المستفادة من قوله «ذاك إلى الإمام» - وهي أنّ أمثال قضية الهلال بيد الإمام والحاكم الشرعي، وأنّ حكمه نافذ - فلا تقية فيها؛ إذ كان بإمكانه (علیه السلام) أن يكتفي بقوله: «إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا» ويحقّق بذلك ما رامه من التقيّة.

والشاهد على ذلك خلو صحيحة خلاد بن عمارة عن ذكر الكبرى، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «دخلت على أبي العباس في يوم شك وأنا أعلم أنّه من شهر رمضان وهو يتغدّى، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا من أيامك، قلت: لم يا أمير المؤمنين؟ ما صومي إلا بصومك، ولا إفطاري إلا بإفطارك»، قال: فقال: ادن، قال: «فدنوت فأكلت وأنا - والله - أعلم أنّه من شهر رمضان»((2)).

ص: 197


1- وسائل الشيعة 10: 132، ب57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح5.
2- وسائل الشيعة 10: 133، ب57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح6.

وأيضاً ما رواه داود بن الحصين، عن رجل من أصحابه [ أصحابنا ]، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس: «إنّي دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان، فسلّمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله أصمت اليوم ؟ فقلت: لا، والمائدة بين يديه، قال: فادن فكل، قال: فدنوت فأكلت، قال: وقلت: الصوم معك والفطر معك، فقال الرجل لأبي عبد الله (علیه السلام) : تفطر يوماً من شهر رمضان؟! فقال: إي والله، أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي»((1)).

فالظاهر من هذا أنّ التقية كانت في تطبيق الكبرى على الحاكم الجائر، وأما الكبرى فلا تقيّة فيها، لتحقق التقيّة بدونها، كما هو الحال في الروايتين المذكورتين.

ويفهم من تلك الكبرى أمران:

أحدهما: أنّ أمر الإمام بالصيام أو الإفطار عند الشك في وجوبهما تجب إطاعته.

والثاني: أنّ هذا المنصب ثابت للإمام (علیه السلام) ، دون القاضي والوالي؛ لأنّ الحيرة كان فيها قاضٍ ووالٍ في ذاك الوقت، كما هو المعمول به في ذاك الزمان، ومع ذلك خصّ الإمام هذا المنصب بالإمام، فقال: «ذاك إلى الإمام»، ولم يقل وللقاضي وللوالي.

اللهم إلا أن يقال: إنّ ذكر الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.

ص: 198


1- وسائل الشيعة 10: 131، ب57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح4.

لكن الظاهر من الجملة الاختصاص، واحتمال إرادة غيره معه بعيد. فدلالة هذه الرواية على أنّ ما ذُكر من الأمر بالصيام أو الإفطار من جملة مناصب إمام الحق (علیه السلام) لا غيره تامّة، بل هي أظهر ما يمكن التمسك به من هذه الطائفة، فإذا انضم إلى ذلك كون القضية المرفوعة مما لا يرضى الشارع بتركها أو كانت من الحوادث التي يرجع فيها إلى الإمام (علیه السلام) فيكون حكم الحاكم فيها نافذاً وإن لم نقل بعموم الولاية للفقيه. هذا ما يتعلّق بدلالة هذه الرواية.

وأما سندها فالذي يبدو أنّها ضعيفة لأمرين:

الأول: اشتمال السند على سهل بن زياد، والمعروف بينهم أنّه ضعيف.

والثاني: الإرسال؛ فإنّ فيه: عن رجل.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الأمرين:

أما الجواب عن الأول - وهو اشتمال السند على سهل - فبالإمكان تصحيح طريق الكليني بواسطة طريقين للشيخ، وبيان ذلك:

أنّ للشيخ طريقاً معتبراً في الفهرست إلى كتاب علي بن الحكم، وطريقاً آخر كذلك إلى رفاعة، والطريقان لا يشتملان على سهل.

أما طريقه إلى كتاب علي بن الحكم فهو: (ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن الصفار وأحمد بن إدريس والحميري ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عنه)((1)).

ص: 199


1- الفهرست: 151/ 376.

وأما طريقه إلى رفاعة فهو: (ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد ومحمد بن الحسين، عن محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، عنه)((1)).

والشيخ الكليني روى هذه الرواية عن العدّة عن سهل، وبما أنّ العدّة التي تروي عن سهل فيها محمد بن الحسن الصفار، كما هو المشهور والراجح عندنا، فيظهر مما ذكرناه من طريقي الشيخ أنّ للصفار طريقاً آخر إلى كتاب علي بن الحكم وكتاب رفاعة، بل يمكن القول بتعدّد تلك الطرق.

وأما الجواب عن الثاني - وهو ضعف السند بالإرسال - فيمكن القول باعتبار الرواية وإن كانت مرسلة؛ لوجهين:

الأول: شمول شهادة الكليني في مقدمة الكافي لها، حيث شهد بصحة ما فيه عن الصادقين (علیهم السلام) ، وهذه الرواية من جملة ما فيه.

والثاني: أنّ النجاشي قال في حق رفاعة: (كان ثقة في حديثه مسكوناً إلى روايته، لا يعترض عليه بشيء من الغمز، حسن الطريقة)((2)). والسكون إلى روايته وإن لم يرتقِ بها إلى أن تكون كروايات ابن أبي عمير مثلاً، لكنّه يعني أنّها قابلة للاعتماد وحرية بالاعتناء.

وبضم هذين الوجهين يمكن القول بقابليتها للاعتناء، خصوصاً مع تأييدها بصحيحة خلاد بن عمارة ورواية داود بن الحصين؛ فإنّ مضمون

ص: 200


1- الفهرست: 129/ 296.
2- رجال النجاشي: 166/ 438.

الكل واحد، وإن كانت الروايتان خاليتين عن قوله (علیه السلام) : «ذاك إلى الإمام».

والنتيجة من هذه الرواية ثبوت الولاية للفقيه في الحكم بثبوت الهلال، ويكون حكمه نافذاً تجب إطاعته.

والمتحصل من هذا كلّه ثبوت ولاية الحكم بثبوت الهلال للفقيه الجامع لشرائط الفتوى، سواء قلنا بثبوت الولاية العامة له أم لا.

هذا تمام الكلام حول المبحث الأول

المبحث الثاني:

إذا استند حكم الحاكم إلى البينة وعلم بخطئه فهل يثبت الهلال ويجب قبول حكمه؟.

إنّ البينة وحكم الحاكم من الأمارات غير العلمية التي لوحظ في حجيتهما طريقيتهما إلى الواقع، فبقيامهما لا يتغيّر الواقع ولا ينقلب عمّا هو عليه، وذلك لكون الكاشفية في الأمارة غير العلمية كاشفية ناقصة عن الواقع، ويكون قيامها موجباً للبناء على وجود الواقع الذي حكت عنه - وهو معنى حجيتها - لأجل ترتيب آثاره في ظرف الشك.

والعلم بخطأ الحاكم في حكمه وأنّه مخالف للواقع تارة يكون بالقطع الوجداني فلا يكون حكمه حجة قطعاً، للزوم التناقض من فرض حجية حكمه مع القطع بعدم الواقع، إذ الحجية توجب ترتيب الأثر، والقطع بعدم الواقع يوجب القطع بعدم الحكم في الواقع، ولا سبيل للتعبّد على خلاف القطع.

وأخرى يكون بالقطع بخطأ مستنده في الحكم بثبوت الهلال كما لو عُلم

ص: 201

تقصيره في بعض المقدمات أو عدم تماميّة شرائط شهادة الشاهدين أو (كما لو استند في عدالة الشاهدين إلى أصالة العدالة، ونحن نقطع بأنّهما مشهوران بالفسق وهو لا يعلم، أو جاءه عادل فشهد وخرج، ثم جاءه مرّة أخرى ليؤكّد شهادته الأولى وقد غيّر زيّه لغرض من الأغراض، فتخيّل القاضي أنّه رجل آخر، أو شهد عنده جماعة لا يفيد إخبارهم عند متعارف الناس الاطمئنان فضلاً عن اليقين، بل غايته الشياع الظني، ولكن القاضي لحسن اعتقاده بهم مع اعترافه بعدم حجية الشياع الظني حصل له اليقين. وهكذا سائر موارد الخطأ في المستند عن عذر)((1)) ففي كل هذه الموارد وأمثالها لا يترتّب أثر لحكمه، لكون الموضوع للحكم هو ثبوت الهلال في الواقع لا ما يعتقد الحاكم ثبوته، فلا يكون حكمه نافذاً.

هذا تمام الكلام في هذه الرسالة والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 202


1- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 90.

الفهارس الفنية

· فهرس المصادر

· فهرس المحتويات

ص: 203

ص: 204

فهرس المصادر

1- أسئلة حول رؤية الهلال مع أجوبتها وفق ما أفاده سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، الطبعة الأولى1431ه ، دار المؤرخ العربي، بيروت لبنان.

2- أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، تقرير بحث آية الله الشيخ مسلم الداوري، تقرير الشيخ محمد علي المعلّم، الطبعة الثانية 1426 ه ، تصحيح الشيخ حسن العبودي، مؤسسة المحبين للطباعة والنشر.

3- اعتبار اتفاق الأفق في إثبات رؤية الهلال، آية الله الحاج حسن قديري (مطبوعة ضمن ميراث فقهى2: رؤيت هلال ج2) إعداد وتحقيق: پژوهشگاه علوم وفرهنگ اسلامى. مركز احيا آثار اسلامى، بمساعي: رضا مختاري ومحمد رضا نعمتي، الطبعة الثالثة، مؤسسه بوستان كتاب - قم.

4- الأمالي، الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القُمِّي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، الطبعة الأولى

ص: 205

1417 ه ، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة.

5- أمل الآمل (القسم الثاني)، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، الطبعة الثانية 1403 ه ،مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان.

6- تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليهم، الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني رحمه الله، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية 1363 - ش 1404 - ق، مؤسسة النشر الإسلامي (التابعة) لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

7- تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت ((علیهم السلام) ) لإحياء التراث - قم، الطبعة الأولى - محرم 1415 ه .

8- التقيّة في فقه أهل البيت (علیهم السلام) ، تقريراً لبحث سماحة آية الله الحاج الشيخ مسلم الداوري دام ظله، الشيخ محمد علي المعلّم رحمه الله، الطبعة الأولى 1419ه، المطبعة العلمية.

9- التنقيح في شرح المكاسب، البيع (المطبوع ضمن موسوعة الإمام الخوئي) تقريراً لأبحاث الأستاذ الأعظم سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره)، تأليف: سماحة آية الله الشهيد الشيخ ميرزا علي الغروي، الطبعة الأولى، 1425 ه ، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره).

ص: 206

تهذيب الأحكام، شيخُ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي،

10- تحقيق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة, سنة: 1365، نشر دار الكتب الإسلامية.

11- جامع الأخبار أو معارج اليقين وأصول الدين، الشيخ محمد بن محمد السبزواري، تحقيق: علاء آل جعفر، الطبعة الأولى 1413 ه ، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

12- جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية، الإمام الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان ابن المعلم أبي عبد الله العكبري البغدادي، تحقيق: الشيخ مهدي نجف، الطبعة الثانية 1414 ه ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

13- جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، الطبعة الثانية 1365 هش، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.

14- حاشية كتاب المكاسب، المحقق الفقيه الحاج ميرزا علي الإيرواني الغروي(قدس سره)، تحقيق: باقر الفخّار الإصفهاني، الطبعة الأولى1421ه . ق، نشر: دار ذوي القربى.

15- حاشية كتاب المكاسب، الفقيه الشيخ محمد حسين الاصفهاني، تحقيق: عباس محمد آل سباع القطيفي، الطبعة الأولى للناشر1418ه . ق، نشر أنوار الهدى.

ص: 207

16- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، العالم البارع الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره) ، تحقيق وتعليق: محمد تقي الإيرواني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

17- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي، تحقيق: جواد القيومي، الطبعة الرابعة 1431 ه .ق، مؤسسة نشر الفقاهة، قم - إيران.

18- دروس معرفة الوقت والقبلة، الشيخ حسن حسن زاده آملى، الطبعة الثالثة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

19- ذخيرة المعاد، العلامة المحقق ملا محمد باقر السبزواري، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

20- رجال الطوسي، شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق جواد القيومي الأصفهاني، الطبعة الأولى 1415 ه ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

21- رجال النَّجاشي, أبو العباس أحمد بن علي النَّجاشي، الطبعة الخامسة, سنة 1416 ه . ق, مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

22- رسالة حول مسألة رؤية الهلال، آية الله السيد محمد حسين الحسيني الطهراني (مطبوعة ضمن ميراث فقهى2: رؤيت هلال ج2) إعداد

ص: 208

وتحقيق: پژوهشگاه علوم وفرهنگ اسلامى. مركز احيا آثار اسلامى، بمساعي: رضا مختاري ومحمد رضا نعمتي، الطبعة الثالثة، مؤسسه بوستان كتاب - قم.

23- سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، المحدث الخبير والمحقق الجليل الشيخ عباس القمي، الطبعة الثانية 1416 ه ، دار الأسوة للطباعة والنشر.

24- العروة الوثقى، آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام ، الطبعة الأولى 1420 ه ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

25- عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية،الشيخ المحقق المتتبع محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبى جمهور ((قدس سره))، تحقيق: البحاثة المتتبع الحاج آقا مجتبى العراقي، الطبعة المحققة الأولى 1405 ه ، مطبعة سيد الشهداء ((علیه السلام) )، قم - إيران.

26- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) ، الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القُمِّي، تصحيح وتعليق: الشيخ حسين الأعلمي، الطبعة الأولى 1404 ه ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

27- فرائد الأصول، الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الأولى، شعبان المعظم 1419 ه .ق.

28- الفهرست,شيخُ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق: جواد القيومي، الطبعة الأُولى, سنة: 1417 ه ، نشر مؤسسة نشر الفقاهة.

ص: 209

29- فوائد الأصول، تقرير أبحاث آية الله العظمى الشيخ محمد حسين النائيني، تأليف الفقيه المحقق العلامة الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، الطبعة الأولى 1418 ه . ق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

30- الكافي، ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، الطبعة الثالثة 1388 ه ، نشر دار الكتب الإسلامية، تهران - بازار سلطانى.

31- كتاب المكاسب، الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الثالثة، ربيع الأول 1420 ه .ق.

32- كفاية الأصول، الشيخ محمد كاظم الخراساني (الآخوند)، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الثالثة 1429 ه .ق، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، بيروت - لبنان.

33- المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، تحقيق الدكتور عبد الغفار سليمان البنداري، الطبعة الثالثة 1424ه، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.

34- مختلف الشيعة، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي (العلامة الحلي)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة الأولى 1413 ه ، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

ص: 210

35- مسائل الناصريات، السيد الشريف علي بن الحسين (المرتضى، علم الهدى)، تحقيق: مركز البحوث والدراسات العلمية، 1417 ه ، طهران - إيران.

36- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل،خاتمة المحدثين الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الثانية 1408 ه ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث بيروت.

37- مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - مشهد المقدسة، الطبعة الأولى، 1417 ه ، نشر مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم.

38- المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم (المطبوع ضمن موسوعة الإمام الخوئي) تقريراً لأبحاث الأستاذ الأعظم سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره)، تأليف: سماحة آية الله الشهيد الشيخ مرتضى البروجردي، الطبعة الثالثة، 1421 ه ، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره).

39- مصباح الأصول، تقريراً لأبحاث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، تأليف آية الله السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، الطبعة الأولى 1422 ه . ق، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي.

40- معاني الأخبار, الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القُمِّي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفَّاري. الطبعة السادسة 1431 ه

ص: 211

نشر جماعة المُدرِّسين, مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

41- معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، الطبعة الخامسة 1413 ه .

42- المغني، عبد الله بن قدامة، بعناية جماعة من العلماء، نشر دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع بيروت لبنان.

43- مَن لا يحضره الفقيه, الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القُمِّي، تحقيق علي أكبر غفَّاري. الطبعة الثانية نشر جماعة المُدرِّسين, مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

44- منهاج الصالحين، فتاوى آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، الطبعة الثامنة والعشرون ، ذو الحجة 1410 ه ، نشر مدينة العلم، قم المقدسة.

45- منية الطالب في شرح المكاسب، تقريرات المحقق الميرزا محمد حسين النائيني ((قدس سره))، تأليف الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري ((قدس سره))، الطبعة الأولى 1418 ه ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

46- منية المريد في أدب المفيد والمستفيد، الشيخ زين الدين بن علي العاملي (قدس سره) (الشهيد الثاني)، تحقيق: رضا المختاري، الطبعة الأولى

ص: 212

1409 ه ، مكتب الإعلام الإسلامي.

47- الموسوعة الفقهية، مجموعة من الباحثين، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت.

48- نهاية الأفكار، تقرير أبحاث العلامة المحقق آية الله العظمى الشيخ آغا ضياء الدين العراقي، تأليف آية الله الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي، الطبعة الثالثة، 1417 ه . ق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

49- نهج البلاغة، اختيار الشريف أبي الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب(علیه السلام) ، ضبط نصّه وابتكر فهارسه العلميّة الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الأولى 1387 ه - 1967 م، بيروت.

50- الوافي، الشيخ محمد محسن المشتهر بالفيض الكاشاني، تحقيق وتعليق: ضياء الدين الحسيني، الطبعة الأولى 1409 ه ، نشر مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) العامة، أصفهان.

51- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الفقيه المُحدِّث الشيخ محمد بن الحسن الحُر العاملي، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الثانية 1414 ه ، قم المقدسة.

ص: 213

ص: 214

فهرس المحتويات

المقدمة.......... 7

تحرير محل البحث.......... 9

أدلة القائلين بعدم شرطية اتحاد الأفق.......... 15

الدليل الأول: الاعتباري العقلي.......... 15

مناقشة الاستدلال وردّها.......... 17

الدليل الثاني: الدليل النقلي.......... 21

الاستدلال بالروايات.......... 21

الاستدلال بالآية.......... 28

أدلة القائلين باشتراط اتحاد الأفق.......... 53

الدليل الأول: الاعتباري العقلي.......... 53

مناقشة الدليل.......... 54

الدليل الثاني: الكتاب المجيد.......... 55

الدليل الثالث: الروايات، وهي على طوائف.......... 57

الطائفة الأولى:.......... 57

ص: 215

الجواب عنها.......... 58

الطائفة الثانية: وفيها مقامان.......... 60

المقام الأول: في إمكان اعتبار العلامات المذكورة وعدمه.......... 61

العلامة الأولى: وهي غيبوبة الهلال بعد الشفق.......... 61

العلامة الثانية: التطويق.......... 64

العلامة الثالثة: رؤية الهلال قبل الزوال.......... 65

الجمع بين القسمين من الروايات الواردة في المقام.......... 71

ملاحظات على هذا الجمع.......... 73

وقفة مع الشيخ الحر العاملي.......... 75

المقام الثاني: في أنه هل يمكن الاستدلال بعدم اعتبار العلامات على القول باتحاد الأفق أم لا؟.......... 76

الطائفة الثالثة:.......... 78

الكلام فيها في مقامين.......... 81

المقام الأول: في حدود قبول شهادة العدلين.......... 82

مناقشة ما أفاده السيد الخوئي (قدس سره).......... 84

المقام الثاني: في دلالة هذه الطائفة على اتحاد الأفق وعدم دلالتها .......... 92

الطائفة الرابعة.......... 94

الطائفة الخامسة.......... 98

شواهد تؤيّد قول المشهور.......... 105

الشاهد الأول.......... 105

ص: 216

مناقشة.......... 106

الشاهد الثاني.......... 107

مناقشة.......... 108

الشاهد الثالث.......... 109

مناقشة.......... 112

الشاهد الرابع.......... 115

مناقشة.......... 116

الشاهد الخامس.......... 117

مناقشة.......... 118

الشاهد السادس.......... 121

مناقشة.......... 122

الشاهد السابع:.......... 122

مناقشة.......... 123

مقتضى الأصل العملي.......... 127

استدلال برواية علي بن محمد القاساني على جريان الاستصحاب في المقام.......... 127

الكلام في الرواية في مقامين:.......... 130

المقام الأول: في إمكان جريان الاستصحاب وعدمه.......... 130

المقام الثاني: في إمكان جريان الاستصحاب بالنسبة لمحل الكلام وعدمه.......... 137

ص: 217

الكلام في جريان البراءة في المقام.......... 138

نتيجة البحث:.......... 140

تنبيهان مهمان.......... 142

التنبيه الأول: في المراد من الرؤية.......... 142

التنبيه الثاني: في ثبوت الهلال بحكم حاكم الشرع.......... 153

المبحث الأول: ما إذا استند حكمه إلى البينة ولم يعلم بخطئه.......... 154

الطائفة الأولى:.......... 154

الطائفة الثانية:.......... 161

الطائفة الثالثة:.......... 183

الطائفة الرابعة:.......... 190

المبحث الثاني: ما إذا استند حكمه إلى البينة وعلم بخطئه.......... 201

فهرس المصادر.......... 205

فهرس المحتويات.......... 215

ص: 218

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.