نهج البلاغة فوق الشبهات و التشكيكات

هوية الکتاب

الطبعة الأولى

1435 ه - 2014

جميع حقوق النشر محفوظة ومسجلة للناشر ولا يحق لأي شخص أو مؤسسة أو جهة اعادة طبع أو ترجمة أو نسخ الكتاب أو أي جزء منه إلا بترخيص خطي من الناشر تحت طائلة الشرع والقانون

تأليف

الشيخ أحمد سلمان

دار البیضاء

للطباعة والنشر والتوزيع

بيروت - لبنان

دار البیضاء

بغداد - شارع المتنبي - فرع المتحف

موبايل: 07901814736 - 07702714205

هاتف: 4142299

Email: daralbaydaa@yahoo.com

محرر رقمي: روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نهج البلاغة

فوق الشبهات والتشكيكات

ص: 3

نهج البلاغة

فوق الشبهات والتشكيكات

تأليف

الشيخ أحمد سلمان

دار الرّایةُ البیضاء

ص: 4

الإهداء

إلى سيدي ومولاي ...

أمير المؤمنين، وسيد الموحِّدين

وقائد الغر المحجِّلين، وإمام المتقين، وولي المؤمنين

أول الناس إسلاماً، وأعظمهم إيماناً

مظلوم هذه الأمة

الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

ص: 5

نهج البلاغة

إنّه في البَيَانِ شَمْسٌ فَلا *** الفانوسُ مِنْ سِنْخِه ولا القِنديلُ

نَظَمَ الرَّائعاتِ مبنىً ومعنىً *** فإذا الأحرفُ الشَّذى والخميلُ

كلُّ فَصْلٍ أبو ترابٍ به یَب_ *** _دُو فتهتزُّ بالهديرِ الفُصُولُ

غيرَ أنَّ النفسَ المريضةَ تَهْوى *** أنْ يُغطِّي الحقائقَ التضليلُ

زَعَمُوه نَسْجَ الرضيِّ وَمَهْلاً *** أينَ مِنْ هادرِ الفُحُولِ الفَصِيلُ؟

لا تُعِرْ قَولَهم فما هو شَيءٌ *** كي يصفيه الجَرْحُ والتعديلُ

ودَرَى الباحثونَ في أنَّ دعوى *** عَزْوِهِ للرضيِّ قولٌ عليلُ

وأبَى الحاقدونَ أنْ ينظروا إلا *** ازْوِرَاراً وأَعْيُنُ الحقدِ حُوْلُ

ولو (النَّهْجُ) نهجُ صخرِ بْنِ حَرْبٍ *** فعلى القَطْعِ إنَّه مقبولُ

لَكِنِ النهجُ كَانَ نهجَ علىٍّ *** وعليٌّ على الدَّنيِّ ثقيلُ

المرحوم الشيخ أحمد الوائلي

ص: 6

تقديم آية الله الشيخ مهدي المصلي

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين و بعد:

فإن كتاب نهج البلاغة الذي ألفه الشريف الرضي قدس سرّه، جامعا فيه طائفة من خطب أمير المؤمنين علیه السلام وكلماته التي اختارها بما تمثل من كلام المخلوق الذي ينطف بلسان الخالق، فإنه من الذين لا ينطقون عن هوى بل هو قرآن موحى.

وكانت هناك محاولات كثيرة لإسقاط هذا الكتاب عن الإعتبار وإبعاد الناس عن المعين الصافي لتمرير الأفكار التجسيمية أو الجبرية أو تعيين من عينوا أنفسهم على رقاب الناس دون إذن من الله ورسوله وتسريب الأفكار المخالفة لكتاب الله وسنة الرسول وعترته علیهم السلام إلى القلوب التي لا يمكن أن تقبلها ما دامت ترى نماذج فكرية مثل نهج البلاغة، سبكا بلاغيا، ودقة علمية، وكثافة معرفية.

وتصدى للرد عليهم عبر التاريخ كوكبة ممن امتلأت قلوبهم بحب هذا البيت الطاهر وسيده البحر الزاخر الذي أشغل الناس بما ترك من آثار، وما زال ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.

ص: 7

وممن تصدى لذلك الفاضل الجليل سماحة الشيخ أحمد سلمان حفظه الله ورعاه، وقد حاول حصر ما يشكلون به على نهج البلاغة، ويجيب عنه ببيان عذب ودليل فصل، يقطع ألسنة المغرضين ويطيب خواطر المحبين فجزاه الله عن عترة نبيه جزاء الصالحين.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

مهدي المصلي

المدينة المنورة

20 جمادى الأول 1434 ه

ص: 8

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، فاطر السماوات والأرضين، وبارئ الخلائق أجمعين، وبه نستعين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيِّد الأنبياء وخاتم المرسلين، المبعوث المسدَّد، والمنصور المؤيَّد المصطفى الأمجد، والمحمود الأحمد، أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين المنتجبين، واللعنة الدائمة على أعدائهم ومبغضيهم من الآن إلى قيام يوم الدين، أما بعد:

فإن كل طائفة من الطوائف الدينية وخصوصاً المذاهب الإسلامية لها تراث خاص بها، متمثّل في مجموعة من الكتب والمصنّفات التي تعتبر مرجعاً لها في آرائها، ومصدراً تستقي منه معتقداتها.

وقد اهتم الشيعة كغيرهم من المسلمين والطوائف الدينية المختلفة عبر التاريخ بجمع تراثهم وحفظه عن الضياع، فتناقلوا كتبهم جيلاً عن جيل وطبقة عن طبقة، حتى وصل لنا هذا التراث الضخم من المصنّفات المطبوعة والمخطوطة.

ولأجل هذا ضحى علماء الشيعة بالغالي والنفيس لإيصال هذه الدرر إلى شيعة آل محمد علیهم السلام إلى زماننا هذا، فواجهوا تقتيلاً وتشريداً واضطهاداً على مر العصور، وتناقلوه كابراً عن كابر، واكتنزوه كما يكتنز أهل الدنيا ذهبهم وفضتهم؛ من أجل الحفاظ عليه و إيصاله للأجيال القادمة.

ولعل أقل ما نقدّمه كرد لهذا الجميل هو السير على خطى علمائنا الأعلام

ص: 9

لحفظ هذا التراث وإيصاله للناس؛ كي نكون مصداقاً لقول الإمام الرضا علیه السلام: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت له - الراوي - : فكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا، ويعلِّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا (1).

وقد اخترت جوهرة من جواهر التراث الشيعي وكنزاً من كنوز المسلمين، ألا وهو كتاب (نهج البلاغة) من كلام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، الذي جمعه الشريف الرضي قدس سره لنناقش كل ما أثير حوله من علیه السلام تشكيكات وطعون وإشكالات قديماً وحديثاً.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا للدفاع عن هذا السفر الجليل، ورد شبهات الطاعنين فيه، بحوله وقوته، إنه أكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيِّبين الطاهرين.

في 15 رمضان 1433 ه

أحمد سلمان.

ص: 10


1- معاني الأخبار: 158.

لماذا نهج البلاغة؟

نهج البلاغة هو ما انتخبه الشريف الرضي قدس سره من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام، من خُطَب وحِكَم ورسائل ورتبها ترتيباً فنيَّا رائعاً، وقد يشتبه على البعض فيظن أن الشيعة ينسبون هذا الكتاب للإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فيزعمون أنه هو الذي جمعه، وهذا خطأ كما قدمنا؛ لأن الخطب التي في الكتاب من اختيار وجمع الشريف الرضي قدس سره.

ولعل أول سؤال ينقدح في ذهن القارئ هو: لماذا اخترنا نهج البلاغة دون غيره من الكتب أمثال الكافي الشريف الذي قيل فيه: «إنه ما صُنِّف في الإسلام كتاب مثله» أو بقية الكتب الأربعة؟

والجواب على هذا في نقاط:

النقطة الأولى: أن كتاب (نهج البلاغة) يحوي خطباً منسوبة لأمير المؤمنين علیه السلام، وهو من أعظم الشخصيات التي عرفها الإسلام، فهو عند الشيعة إمام منصَّب من الله عزّ وجل، معصوم من كل نقيصة، وعند العامة هو من أكابر أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ومن المبشّرين بالجنة، وخليفة مفترض الطاعة، فعظمة الكتاب تكمن في نسبته لشخصية عظيمة جدَّا، خصوصاً أن بعض مضامين النهج تعتبر وثائق مهمة، مثل رسائل الإمام علي علیه السلام وعهوده لولاته وغيرها التي تؤرخ لتلك الفترة الزمنية المهمة.

النقطة الثانية: إضافة إلى عظمة أمير المؤمنين علیه السلام فإن هذه الشخصية متنازع فيها بين المسلمين، فكل طائفة تحاول إثبات انتسابها إليه، وتنفي ذلك عن غيرها، فمثلاً: الشيعة يقولون: إن عليّا علیه السلام هو إمامهم، وكل من خالفهم

ص: 11

هو منحرف عنه، وفي المقابل نرى أن المخالفين للشيعة يتّهمونهم بأنهم خالفوا عليّا علیه السلام، وأنهم مبتدعون لا متّبعون، ولذلك فإن كل تصريح يصدر عنه علیه السلام وينسب إليه سيكون مهمًّا جدًّا؛ والمتنازعون سيختلفون في التعاطي معه بنحو متباين جدًّا، فإن بعضهم سيثبته، وآخرون سينفونه، وهذا عين ما حصل مع نهج البلاغة، فإن مخالفي الشيعة حاولوا على مر العصور الطعن فيه وتسقيطه، وأما الشيعة فإنهم دافعوا ونافحوا عنه؛ لإثبات صحّة غالبيته واعتباره.

النقطة الثالثة: هي أن الشريف الرضي قدس سره كان غرضه من جمع هذه الكلمات هو إظهار بلاغة أمير المؤمنين علیه السلام، فكان الضابط الوحيد في جمع هذه الخطب والرسائل هو ما اشتملت عليه من نكات ومحسنات بلاغية، لكن بعضهم نقل الكتاب من هدفه الأساس، وصار يحتج به في علوم مختلفة، فنجد أن بعضهم يحتج بنصوص من نهج البلاغة في مسائل العقائد، أو التاريخ، أو الأخلاق والرقائق أيضاً.

ولهذا فإن تنقيح كتاب نهج البلاغة، ووضع منهجية للتعامل مع مروياته مهم جدًّا؛ لفض النزاع القائم حوله وحسم الخلاف فيه.

هذه الأمور الثلاثة تجعلنا نقدم البحث في نهج البلاغة على كل الكتب الحديثية الموجودة عند الشيعة، ونشمر عن ساعدي الجد لدفع كل الشبهات التي أثيرت حوله.

ص: 12

من هو الشريف الرضي؟

جامع كتاب نهج البلاغة هو الشريف محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام، ولد في سنة 359 ه ببغداد، وكان أبوه نقيب العلويين في العراق، وأمه سيِّدة جليلة القدر من بيت علم وتقوى، عاش في بغداد طوال حياته، وكان وجيهاً عند كل الطوائف بلا خلاف بل كان ذا حظوة عند الدولتين المتصارعتين في ذلك الوقت: العباسية والبويهية.

1 - الشريف الرضي قدس سره عند الشيعة:

أجمع الشيعة كلهم بلا خلاف على وثاقة الرضي قدس سره، بل على عدالته وجلالة قدره، ولم يطعن فيه أحد أو يغمز فيه بشيء:

قال ابن عنبة: وأما محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الأبرش، فهو الشريف الأجل الملقب بالرضي، ذو الحسبين، يُكنى أبا الحسن، نقيب النقباء، وهو ذو الفضائل الشائعة والمكارم الذائعة، كانت له هيبة وجلالة، وفيه ورع وعفة وتقشف ومراعاة للأهل والعشيرة، ولي نقابة الطالبيين مراراً، وكانت إليه إمارة الحاج والمظالم، كان يتولى ذلك نيابة عن أبيه ذي المناقب، ثم تولى ذلك بعد وفاته مستقلاً، وحجّ بالناس مرات، وهو أوّل طالبي جعل عليه السواد (1). وكان أحد علماء عصره، قرأ على أجلاء الأفاضل وله من التصانيف كتاب (المتشابه) في القرآن، وكتاب (مجازات الآثار النبوية)، وكتاب (نهج البلاغة)، وكتاب (تلخيص البيان عن مجازات القرآن)، وكتاب (الخصائص)، وكتاب

ص: 13


1- أي لبس العمامة السوداء التي يلبسها السادة في عصرنا الحاضر وما قبله.

(سيرة والده الطاهر)، وكتاب انتخاب شعر ابن الحجاج، سماه (الحسن من شعر الحسين)، وكتاب (أخبار قضاة بغداد)، وكتاب رسائله ثلاث مجلدات، وكتاب (ديوان شعره)، وهو مشهور (1).

وترجم له السيد محسن الأمين العاملي قدس سره، فقال: كان أوحد علماء عصره، وقرأ على أجلاء الأفاضل، فكان أديباً بارعاً متميِّزاً، وفقيهاً متبحِّراً، ومتكلِّماً حاذقاً، ومفسراً لكتاب الله وحديث رسوله محلِّقاً، وأخفتْ مكانةُ أخيه المرتضى العلمية شيئاً من مكانته العلمية، كما أخفتْ مكانتُه الشعرية شيئاً من مكانة أخيه المرتضى الشعرية، ولهذا قال بعض العلماء: لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس، ولولا المرتضى لكان الرضي أعلم الناس. وظهر فضله في مؤلفاته، فقد ألف كتباً، منها: كتاب (حقائق التأويل في متشابه التنزيل)، قال عنه ابن جني أستاذ الرضي: صنَّف الرضي كتاباً في معاني القرآن الكريم يتعذر وجود مثله، والحق يقال: إن من يتأمّل فيما ذكره الرضي في ذلك الكتاب من دقائق المعاني يعلم صدق قوله: إنه يتعذَّر وجود مثله، وقد وُجد منه الجزء الخامس فقط، وطبع في العراق وكتاب (مجازات الآثار النبوية)، أبدع فيه ما شاء، وأبان عن فضل باهر ومعرفة بدقائق العربية، وقد طُبع في بغداد، ثم أُعيد طبعه طبعاً متقناً في مصر، وكتاب (تلخيص البيان عن مجازات القرآن) نظير كتاب مجازات الآثار النبوية، قال فيهما مؤلفهما: إنهما عرينان لم أُسبَق إلى قرع بابهما، وكتاب (الخصائص)، ذكر فيه خصائص أئمة أهل البيت، وكتاب (أخبار قضاة بغداد)، وتعليق على خلاف الفقهاء، وتعليق على إيضاح أبي علي الفارسى، وكتاب (الزيادات في شعر أبي تمام)، ومختار شعر أبي إسحاق الصابي، وكتاب (ما دار بينه وبين إسحاق الصابي من الرسائل)، وكتاب رسائله في ثلاث مجلدات، ومن ذلك يظهر أنه ألف في النحو والتاريخ والفقه والتفسير.

ص: 14


1- عمدة الطالب 207.

وغيرها (1).

2 - الشريف الرضي قدس سره عند المعتزلة:

ترجم الشريفَ الرضيَّ: ابنُ أبي الحديد المعتزلي في مقدمة شرحه لنهج البلاغة، وذكر في حقّه سيلاً من المدائح، فقال: وحفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة، وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قويًّا، وكان رحمه الله عالماً أديباً، وشاعراً مفلقاً، فصيح النظم، ضخم الألفاظ، قادراً على القريض، متصرِّفاً في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح أتى بما لا يُشقّ فيه غباره، وإن قصد في المراثي جاء سابقاً، والشعراء منقطع أنفاسها على أثره، وكان مع هذا مترسِّلاً ذا كتابة قوية، وكان عفيفاً شريف النفس، عالي الهمة ملتزماً بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة، حتى إنه ردَّ صلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس وشدة ظلف، فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل (2).

3 - الشريف الرضي قدس سره عند أهل السنة:

لم ينفرد الشيعة والمعتزلة بالنص على وثاقة الرضي وعدالته، بل حتى أهل السنة والجماعة وافقوهم على ذلك، ومدحوا الرضي، ولم يجدوا فيه مطعناً ولا مغمزاً، ونكتفي في هذا المقام بذكر ما قاله عَلَمان من أعلام المؤرّخين وأئمة الحديث والرجال:

قال عبد الرحمن ابن الجوزي (3): كان الرضي نقيب الطالبيّين ببغداد،.

ص: 15


1- أعيان الشيعة 218/9.
2- شرح نهج البلاغة 40/1.
3- من أعلام الحنابلة، كتب في علم الحديث: (الموضوعات)، و(العلل المتناهية)، وفي التاريخ: كتاب المنتظم في التاريخ، ومصنّفاته كثيرة جدًّا.

حفظ القرآن في مدة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة، وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قويًّا، وكان عالماً فاضلاً وشاعراً مترسِّلاً عفيفاً عالى الهمة متديناً، اشترى في بعض الأيام جزازاً (1) من امرأة بخمسة دراهم، فوجد فيه جزءاً بخط أبي عبد الله بن مقلة فقال للدلال: أحضر المرأة، فأحضرها، فقال: قد وجدت في الجزاز جزءاً بخط ابن مقلة، فإن أردت الجزء فخذيه، وإن أردت ثمنه، فهذه خمسة دراهم، فأخذتها ودعت له وانصرفت، وكان سخيًا جواداً (2).

وترجم له الخطيب البغدادي (3): محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن العلوي نقيب الطالبيين ببغداد، كان يلقَّب بالرضي، ذا الحسبين، وهو أخو أبي القاسم المعروف بالمرتضى، وكان من أهل الفضل والأدب والعلم، ذكر لي أحمد بن عمر بن روح عنه أنه تلقن القرآن بعد أن دخل في السن، فجمع حفظه في مدة يسيرة ... قال: وصنّف كتاباً في معاني القرآن يتعذر وجود مثله، وكان شاعراً محسناً ... سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسن بن محفوظ وكان أحد الرؤساء يقول: سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون: الرضي أشعر قريش، فقال ابن محفوظ: هذا صحيح، وقد كان من قريش من يجيد القول إلا أن شعره قليل، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي (4).

مما ذُكر سابقاً يمكننا الخروج باستنتاجين مهمّين سيكونان ركيزة لنا في.

ص: 16


1- عمدة الطالب 207.
2- المنتظم 15 / 115.
3- هو من أئمة علم الحديث، صنّف كتاب (الكفاية في علم الرواية)، و(شرف أصحاب الحديث)، وغيرهما في هذا الفن، وفي التاريخ والتراجم صنّف الموسوعة المعروفة بتاريخ بغداد.
4- تاريخ بغداد 2/ 243.

كل ما نتعرّض له لاحقاً، خصوصاً في دفعنا للطعونات التي وُجِّهت لكتاب نهج البلاغة، وهذان الاستنتاجان هما:

الأول: أن جلالة الشريف الرضي قدس سره تكاد أن تكون مجمعاً عليها بين المسلمين كافة، وهذا ما سيكون شوكة في حلق من يتشدّق بأن نهج البلاغة موضوع نسبه جامعه لأمير المؤمنين علیه السلام.

الثاني: تميّز الشريف الرضي قدس سره الأدبي ونبوغه الشعري من الأمور المتفق عليها أيضاً بين الخاصة والعامة بل شهد له أهل الاختصاص بأنه أشعر القرشيين، وهذا ما يدفع تشغيب كل من حاول الإشكال على نهج البلاغة من ناحية أدبية كما سنبيِّن ذلك لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ص: 17

ص: 18

بذرة التشكيك في نهج البلاغة

صُنِّف نهج البلاغة في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة، فاشتهر بين المسلمين، وتلقّوه بالقبول دون أن يطعن أحد منهم في الكتاب، أو في مؤلّفه أو حتى يشكِّك فيه.

وبحسب تتبّعي القاصر فإن بذرة التشكيك زُرعت في أواخر القرن السابع على يد المؤرّخ المعروف بابن خلكان فإنه تعرّض في كتابه الموسوم بوفيات الأعيان في ترجمة الشريف المرتضى لكتاب نهج البلاغة، وقال ما نصّه: وقد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه، والله أعلم (1).

وقد اعترف سليمان الخراشي بهذه الحقيقة في تحقيقه لكتاب (تشريح شرح نهج البلاغة) حيث قال: قال ابن خلّكان وهو أوّل من شكّك في نسبة الكتاب عند ترجمته للشريف المرتضى (2).

وهذا الكلام لا يمكن قبوله لعدة أمور:

أولاً: أنه مجرّد عن أي دليل أو برهان، فإن ابن خلكان لم يأت بشاهد واحد على صحّة كلامه، بل الأغرب أنه نسبه للناس، ولا نعلم من يقصد بهم: فإن كان العلماء فكتبهم موجودة، ولم نجد أحداً منهم شكّك في نهج البلاغة قبله، وإن كانوا العوام فإن تحكيمهم في مسألة علمية تخصصية هو عين السفه،

ص: 19


1- وفيات الأعيان 313/3.
2- تشريح شرح نهج البلاغة: 8.

وإن كان رأياً شخصيًّا فهو مردود على صاحبه الذي لا يجيد إلا الدفع بالصدر.

ثانياً: أن ابن خلكان لا يمكن قبول شهادته في خصوص هذا الموضوع؛ لأن الرجل له عداوة تاريخية مع أهل البيت علیهم السلام.

ويمكن إثبات هذا الأمر بقرينتين:

1 - سرّ تسميته بابن خلكان هو أن الرجل كان كثير الافتخار بأجداده فيُكثر من قوله: «كان أبي كان جدي كان أجدادي»، فكان يقال له: «خَلِّ كان، وتكلم عن نفسك»، إلى أن أصبحت لقباً له.

وقد نقل ذلك ابن العماد الحنبلي في شذراته عن أحد مشايخه ومن إفاداته أن لفظ ابن خلكان ضبط على صورة الفعلين خل أمر من التخلية وكان الناقصة قال وسببه أنه كان يكثر قول كان والدي كذا كان جدي كذا كان فلان كذا فقيل له خل كان فغلبت عليه (1).

ولما رجعنا إلى نسب الرجل وجدنا أنه برمكي، ومن له اطلاع على التاريخ يعلم يقيناً أن البرامكة كانوا أشد الناس عداوة للعلويين، وقد كانوا اليد الضاربة للدولة العباسية في أوائل تأسيسها، وسبب اعتماد العباسيين عليهم هو فقدانهم للثقة بالعرب والعجم نظراً لتعاطفهم مع العلويين بسبب خيانة العباسيين للعهد الذي كان مبرم بينهم من إعطاء الخلافة للرضا من آل محمد في حال إسقاطهم لدولة بني أمية، وتفرّدهم بالحكم دونهم، فكانوا بمثابة السيف الحاد المسلط على أعداء العباسيين وخصوصاً العلويين.

وعليه فهناك عداء تاريخي متجذّر بين البرامكة وبين العلويين، ولا نشك أن كلام ابن خلكان ناشيء عن هذا.

2 - أن ابن خلكان كان من عشاق يزيد بن معاوية وشعره، إذ أنه ذكر في.

ص: 20


1- شذرات الذهب 422/8.

ترجمة المرزباني: وهو أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي واعتنى به، وهو صغير الحجم، يدخل في مقدار ثلاث كراريس، وقد جمعه من بعده جماعة، وزادوا فيه أشياء كثيرة ليست له، وكنت حفظت جميع دیوان یزید؛ لشدة غرامي به وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمدينة دمشق، وعرفت صحيحه من المنسوب إليه الذي ليس له وتتبّعته حتى ظفرت بصاحب كل أبيات، ولولا خوف التطويل لبيَّنت ذلك، وشعر يزيد مع قلَّته في نهاية الحسن (1).

وهنا لا بد لنا من طرح عدة تساؤلات:

ما سبب غرام ابن خلكان الشديد بشعر يزيد؟

إن كان حبّه لنفس الشعر، فهذه طامة تنبىء عن سوء سريرة ابن خلكان، إذ أن شعر يزيد ليس شعراً في ذكر الله، ولا في الثناء على نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم، بل كله فسق وفجور، وليس هناك أفضل من الذهبي في تلخيصه السيرة يزيد بن معاوية بقوله: وكان ناصبيًّا، فظًّا غليظاً، جلفاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره (2).

وإن كان حبه لشعر يزيد من أجل حبه ليزيد نفسه فيكفينا هذا مطعناً في هذا الرجل؛ إذ أن حب يزيد من أقوى الأدلة على النصب وبغض أهل البيت علیهم السلام، وقد كفانا ابن كثير الدمشقي مؤونة إثبات هذه القضية بقوله: الناس في يزيد بن معاوية أقسام، فمنهم من يحبّه ويتولاه وهم طائفة من أهل الشام، من.

ص: 21


1- وفايات الأعيان 354/4.
2- سير أعلام النبلاء 4 / 38.

النواصب (1).

ثالثاً: لو افترضنا أن ما ذكره ابن خلكان هو رواية عن معاصريه، لا رأياً له فهذا أيضاً لا يمكن قبوله؛ لأن هذا الرجل فاسق مشهور بالفجور والعياذ بالله!

ذكر الكتبي في ترجمة ابن خلكان: وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك، وله فيه أشعار رائقة، يقال: إنه أول يوم زاره بسط له الطرحة، وقال له: ما عندي أعز من هذه، طأ عليها. ولما فشا أمرهما وعلم به أهله منعوه الركوب، فقال ابن خلکان:

يا سادتي إني قنعتُ وحقِّكم *** في حُبِّكم منكم بأيسرِ مطلبِ

إن لم تجودوا بالوصالِ تعطّفاً *** ورأيتمُ هجري وفرطَ تجنبي

لا تمنعوا عيني القريحةَ أن تَرَى *** يومَ الخميس جمالَكم في الموكبِ

لو كنتَ تعلمُ يا حبيبي ما الذي *** ألقاه مِنْ كَمَدٍ إذا لم تركبِ (2)!

ونقل في نفس المصدر: كان الذي يهواه القاضي شمس الدين بن خلكان: الملك المسعود بن الزاهر صاحب حماة، وكان قد تيّمه حبّه، وكنت أنا عنده في العادلية، فتحدّثنا في بعض الليالي إلى أن راح الناس من عنده، فقال: من أنت ههنا؟! و ألقى علىَّ فروة قرظ، وقام يدور حول البركة في بيت العادلية، ويكرّر هذين البيتين إلى أن أصبح، وتوضينا وصلينا. والبيتان المذكوران:

أنا والله هالكٌ *** آيسٌ مِنْ سلامتي

أو أرى الَقامةَ التي *** قد أقامتْ قيامتي (3).

ص: 22


1- البداية والنهاية 256/6.
2- فوات الوفايات 112/1.
3- فوات الوفايات 113/1.

كما أن الكتبي نقل بإنصاف قصة تبيِّن رأي الشاميين في ابن خلكان، حيث قال: ويقال: إنه سأل بعض أصحابه عما يقوله أهل دمشق فيه، فاستعفاه، فألحَّ عليه، فقال: يقولون إنك تكذب في نسبك، وتأكل الحشيشة، وتحب الصبيان. فقال: أما النسب والكذب فيه فإذا كان لا بد منه كنت أنتسب إلى العباس، أو إلى علي بن أبي يطالب، أو إلى أحد الصحابة، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقية، وأصلهم قوم مجوس فما فيه فائدة، وأما الحشيشة فالكل ارتكاب محرم، وإذا كان ولا بد فكنتُ أشرب الخمر؛ لأنه ألذ، وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة (1).

فهنا نجده ينفي ما نُسب له سوى ما أسماه بمحنة الغلمان والعياذ بالله!

فهل يمكن أن يحكم مثل هذا على تراث أهل البيت علیهم السلام، ويكون رأيه سيفاً قاطعاً يفصل بين الحق والباطل؟

إذن هذا الرجل هو أول من بذر بذرة التشكيك في نهج البلاغة، وتعاهدها اللاحقون من المخالفين بالسقي والاعتناء، حتى تحوَّلت إلى يقين عند البعض بأن نهج البلاغة كتاب موضوع منحول على الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام!.

ص: 23


1- فوات الوفايات 113/1.

ص: 24

على خطى ابن خلّكان

تواصلت حملة التشكيك في نهج البلاغة بعدما افتتحها ودشّنها ابن خلكان، فكل من جاء بعده إنما تبنى رأيه دون تحقيق ولا تبيان، بل حتى لفظ ابن خلكان حافظوا عليه بنفسه ولم يغيِّروه!

وهذا يدل على أنهم مقلّدة وأبواق للسابقين، وليسوا بأهل بحث وتحقيق، وإلا فالعالم لا يعتمد على قول غيره دون تبيان ولو كان الغير من أعاظم العلماء؛ لأن قول العالم يُحتج له ولا يُحتج به عند المحقّقين.

وسنطرح بعض الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر لكي يتأكد القارئ من صحة ما نقوله في هؤلاء:

الأول: ما ذكره الذهبي (توفي 748 ه) في تاريخ الإسلام، فإنه قال: قلت: وقد اختلف في كتاب نهج البلاغة المكذوب على عليّ علیه السلام، هل هو من وضعه، أو وضع أخيه الرضيّ (1).

الثاني: ما ذكره الصفدي (توفي 764 ه) في كتابه الوافي بالوفيات: وقد اختلف في كتاب نهج البلاغة، هل هو وضعه، أو وضع أخيه الرضى (2).

الثالث: ما ذكره اليافعي (توفي 768 ه): وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أو جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما أحدهما هو الذي وضعه، ونسبه

ص: 25


1- تاريخ الاسلام 29/ 434.
2- الوافي بالوفايات 231/20.

إليه، والله تعالى أعلم (1).

الرابع: ما ذكره ابن العماد الحنبلي (توفي 1089 ه): وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله أعلم (2).

الخامس: ما ذكره القنوجي (توفي 1357 ه) في كتابه أبجد العلوم: وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه (3).

وكما يرى القارئ الكريم أن هؤلاء هم مجرد نقلة لا أكثر ولا أقل، بل لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء تغيير عبارة ابن خلكان!

والغريب أنهم يعبرون ب (قلت) رغم أن هذا القول هو منقول عن ابن خلكان فهل يُتَوقَّع من هؤلاء الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء التحقيق في هذه المسألة، أن ينصفوا كتاب نهج البلاغة؟.

ص: 26


1- مرآة الجنان 43/3.
2- شذرات الذهب 257.
3- أبجد العلوم 66/3.

الذهبي أنموذجاً

اشارة

يتهمني البعض بأني تحاملت على هؤلاء المذكورين، وأن ما ذُكر ليس إلا من باب تشابه العبارات وإلا فإن القوم قد بحثوا ونقبوا ووصلوا إلى نفس النتيجة التي توصَّل إليها ابن خلكان، وليسوا مقلدة كما ادّعينا.

ولدرء هذه الشبهة ودفع هذه الظنون سنناقش تقييم الذهبي لكتاب نهج البلاغة، لنصل إلى نتيجة ربما تكون أعظم مما ذكرناه.

من هو الذهبي؟

الذهبي هو إمام علم الجرح والتعديل عند القوم، وأعظم المؤرِّخين، بل إن كتبه هي عمدة المتأخرين في علم الحديث والرجال.

قال فيه معاصره ابن كثير الدمشقي وفي ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة توفي الشيخ الحافظ الكبير مؤرِّخ الاسلام وشيخ المحدِّثين شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي بتربة أم الصالح، وصُلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق، ودُفن بباب الصغير، وقد ختم به شيوخ الحديث و حفاظه رحمه الله (1).

قال ابن الفداء في الذهبي: وفيه صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ شمس الدين بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي الدمشقي، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، محدث كبير، مؤرخ من مصنفاته كتاب تاريخ الإسلام، وكتاب الموت وما بعده، وكُفَّ بصره في آخر عمره، ومولده سنة

ص: 27


1- البداية والنهاية 260/14.

ثلاث وسبعين وستمائة (1).

رأيه في نهج البلاغة:

ذكرنا سابقاً قول الذهبي في نهج البلاغة، وهو تقريباً نفس عبارة ابن خلكان التي سار عليها كل من جاء بعده.

لكن الذهبي استدرك على عبارته تلك في مورد آخر، وذكر أموراً جعلها مانعاً من قبول هذا الكتاب العظيم والسفر الكريم.

قال في سير أعلام النبلاء: هو جامع كتاب (نهج البلاغة)، المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، و لا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات، حاشا الامام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟! (2).

إذن هو يسلّم بوجود أمور ثابتة الصدور عن أمير المؤمنين علیه السلام في كتاب (نهج البلاغة)، ويثبت وجود موضوعات فيه.

لكن لم يصرّح بالنسبة بينهما، ولم يعطنا أنموذجاً من هذه الأمور الباطلة التي حكم باستحالة صدورها من الامام علیه السلام، بل الأمر مجرد دعوى مجردة عن كل دليل وبرهان و كما قال هو: أين المنصف؟

رأينا في ما قاله:

والذي يظهر لأول وهلة من قراءة هذه الفقرة أن الذهبي قد اطلع على نهج البلاغة، وسبر رواياته ونقّحها، ثم خرج لنا بهذا الحكم، لكن الحقيقة غير هذا؛ فإن الذهبي ليس فقط مقلداً لابن خلكان كما قدمنا، بل الأعظم والأدهى أنه لم يقرأ كتاب نهج البلاغة البتة، ولم يطلع على ما فيه!

والدليل على هذا أمور:

ص: 28


1- تاريخ أبي الفداء 4/ 150.
2- سير أعلام النبلاء 589/17.

الأول: نسب الذهبي للشريف الرضي قدّس سرّه كتاباً في معاني القرآن، والمقصود منه هو التفسير المطبوع بعنوان (حقائق التأويل)، والذي يتبادر للذهن من كلام الذهبي أنه اطلع على هذا الكتاب، إذ أنه قال: الرضي الشريف أبو الحسن، محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى، الحسيني الموسوي البغدادي الشاعر، صاحب الديوان، له نظم في الذروة حتى قيل: هو أشعر الطالبيين، ولي النقابة بعد أبيه، وديوانه يكون أربع مجلدات، وله كتاب معاني القرآن، ممتع يدل على سعة علمه (1).

علماً أن في هذا الكتاب نص الشريف الرضي قدس سره على أن نهج البلاغة من تصنيفه وجمعه فقال: إني لأقول أبداً: إنه لو كان كلام يلحق بغباره، أو يجري في مضماره - بعد كلام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم - لكان ذلك كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، إذ كان منفرداً بطريق الفصاحة، لا تزاحمه عليها المناكب ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه ب (نهج البلاغة)، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في جميع الأنحاء و الأغراض، والأجناس والأنواع: من خطب وكتب ومواعظ وحكم، وبوَّبناه أبواباً ثلاثة لتشتمل على هذه الأقسام مميزة مفصلة، وقد عظم الانتفاع به، وكثر الطالبون له لعظيم قدر ما ضمنه: من عجائب الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها، وجواهر الفقر وفرائدها (2).

فلو كان الذهبي قرأ الكتاب الذي حكم عليه بأنه ممتع وأنه يدل على سعة علمه لما اشتبه، ونسب الكلام للشريف المرتضى قدس سره دون الرضي رحمه الله!

والذهبي رغم أنه يكثر في كتبه من تقييم الكتب والحكم على مضامينها.

ص: 29


1- سير أعلام النبلاء 17 / 285.
2- حقائق التأويل: 167.

إلا أن تعليقاته هي مجرد نقولات سماعية دون تأكد أو تدقيق، لذلك يقع في هذه الاشتباهات، ودونك ما ذكره في ترجمة شيخنا المفيد قدس سره حيث أقرَّ أنه كان يحفظ كتب مخالفيه، في حين أن الذهبي يحمد ربه على عدم اطلاعه على كتب المفيد التي عدّها بالمئات!

قال الذهبي في السير: قيل: إنه ما ترك للمخالفين كتاباً إلا وحفظه، وبهذا قدر على حل شبه القوم وكان من أحرص الناس على التعليم، يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة، فيتلمح الصبي الفطن فيستأجره من أبويه، قال: وبذلك كثر تلامذته وقيل: ربما زاره عضد الدولة، ويقول له اشفع تشفع، وكان ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستّا وسبعين سنة، وله أكثر من مئتي مصنف ....

إلى أن قال: مات سنة ثلاث عشرة وأربع مئة، وشيَّعه ثمانون ألفاً ... وقيل: بلغت تواليفه مئتين، لم أقف على شيء منها والله الحمد (1).

فهذا هو حال الذهبي، يفتخر بجهله، ويحمد الله على قلة اطلاعه على كتب الشيخ المفيد قدس سره، فهل مثل هذا يمكن أن تقبل شهادته؟

الثاني: الأدهى والأمر أن الذهبي لو اطلع كتاب (نهج البلاغة) لرأى فيه إحالات على كتاب (المجازات النبوية)، فقال: وهذا من الاستعارات العجيبة كأنه شبه السه بالوعاء، والعين بالوكاء، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء، وهذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي الله، وقد رواه قوم لأمير المؤمنين الله، وذكر ذلك المبرد في كتاب (المقتضب) في باب اللفظ بالحروف وقد تكلّمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية (2).

ولا يختلف اثنان من المسلمين أن كتاب (المجازات النبوية) تأليف.

ص: 30


1- سير أعلام النبلاء 17 / 345.
2- نهج البلاغة 4 / 107.

الشريف الرضي قدس سره هول و ولو اطلع الذهبي على كتاب نهج البلاغة لعلم من هذه الإحالات أنه كتاب الشريف الرضي دون المرتضى.

الثالث: الطامة الكبرى أن المحقّق المدقّق الذهبي لم يتصفّح بضع وريقات من كتاب (نهج البلاغة)، ولو أنه فعل ذلك لما وقع في هذا الاشتباه، إذ أن في أول كتاب النهج وبالتحديد في مقدمة النهج ذكر المصنف أنه هو مؤلف كتاب (الخصائص النبوية)، حيث قال: فإني كنتُ في عنفوان السن، وغضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب (خصائص الأئمة علیهم السلام) يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام وفرغت من الخصائص التي تخصّ أمير المؤمنين عليًّا علیه السلام وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام (1).

من هنا نعلم أن الذهبي لم يطلع على نهج البلاغة، ولم يقرأه، ولا رآه بعينيه، بل هو حكم جزافي لا مستند عليه، بل منشؤه التعصّب الأعمى واتباع الهوى.

ولستُ أنا من أنسب هذا الأمر إلى الذهبي، بل حتى تلاميذه شهدوا عليه بهذا الذي قلته، وحكموا عليه بالتعصّب والتسرّع في الحكم على مخالفيه!

قال السبكي مصوّراً حال شيخه الذهبي: وهذا شيخنا الذهبي رحمه الله من هذا القبيل، له علم وديانة، وعنده على أهل السنة تحمّل مفرط، فلا يجوز أن يعتمد عليه. ونقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه الله ما نصّه: الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك في دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله الناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات، ومنافرة التأويل، والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه، وميلاً قوياً.

ص: 31


1- نهج البلاغة 1/ 11.

إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته، ويتأوَّل له ما أمكن، وإذا ذكر أحداً من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه، ويُكثر من قول من طعن فيه، ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده ديناً، وهو لا يشعر ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها، وكذلك فعله في أهل عصرنا، إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته والله يصلحه ونحو ذلك، وسببه المخالفة في العقائد انتهى ... والحال في حق شيخنا الذهبي أزيد مما وصف، وهو شيخنا ومعلّمنا غير أن الحق أحق أن يُتَّبع، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يُسخر منه، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية، فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة عند من لعل أدناهم عنده أوجه منه، فالله المسؤول أن يخفِّف عنه، وأن يلهمهم العفو عنه، وأن يشفعهم فيه (1).

فإذا كان هذا حاله مع موافقيه في الاعتقاد، ومن يعتقد بإسلامهم، وأنهم بنو جلدته، فكيف مع الشيعة الذين يعتقد كفرهم وخروجهم عن الاسلام، بل نعتهم بأقبح الألفاظ في كتابه! (2).

الذهبي ليس إلا أنموذجاً من هؤلاء، وإلا لو تتبّعنا كلمات هؤلاء وبحثنا في مصنّفاتهم لعلمنا أنهم أبعد ما يكونون عن البحث العلمي والنقد الهادف، بل كلّ ما يصدر منهم هو عصبية محضة وهوى متّبع..

ص: 32


1- طبقات الشافعية الكبرى 14/2.
2- قال في ميزان الاعتدال 3 / 242 قال أبو أحمد الزبيري: رافضي، كأنه جرو كلب ... قلت:خراء الكلاب كالرافضي.

طعونات في نهج البلاغة

اشارة

ذكر مجموعة من النقاد مجموعة من الأمور اعتبروها مطاعن في نهج البلاغة، وجعلوها عللاً تمنع من قبول هذا الكتاب وصيَّروها قرائن دالة على عدم صدور فقرات كتاب (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين علیه السلام.

الشبهة الأولى: سب الصحابة:

ارتكز الذهبي على هذه الشبهة للطعن في كتاب (نهج البلاغة)، فقال في ميزان الاعتدال: ومن طالع كتابه (نهج البلاغة) جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيِّدين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (1).

ووافقه على هذا محب الدين الخطيب في تعليقته على (المنتقى من منهاج السنة): وهذان الأخوان تطوّعا للزيادة على خطب أمير المؤمنين سيّدنا علي كرَّم الله وجهه بكل ما هو طارئ عليها وغريب منها من التعريض بإخوانه الصحابة، وهو بريء عند الله عزّ وجل من كل ذلك، وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم (2).

والجواب على هذا:

أولاً: بحثتُ في كل نهج البلاغة فلم أجد فيه أي (سب صراح) كما ادّعى الذهبي، وهذا ليس بمستغرب؛ إذ أنه كما أثبتنا سابقاً لم يقرأ (نهج البلاغة)، ولم يطلع عليه، ولهذا لم يأت بشاهد واحد على هذا (السب الصراح) المدَّعى، ولو

ص: 33


1- میزان الاعتدال 124/3.
2- حاشية المنتقى من منهاج السنة: 22.

اشتمل الكتاب على سبّ صراح كما ادعى لاستشهد به عند ذكره لهذا الكلام.

ثانياً: لو سلَّمنا بوجود هذا السب الصراح؛ فإنه لا ملازمة بينه وبين الحكم على الكتاب كله بالوضع، فغاية ما يدل وجود السب الصراح - على مباني القوم طبعاً - هو الحكم على خصوص هذا المورد بالوضع، وليس على كل الكتاب، ووجود حديث موضوع لا يعني وضع كل الكتاب أو جله.

ثالثاً: لو سلمنا جدلاً بوجود السب والشتم في الكتاب، فإن ذلك لا يدل حتى على أن هذا السب مكذوب، والدليل على ذلك وجود أحاديث كثيرة فيها سب وشتم بين الصحابة في أصح كتب المسلمين:

من ذلك كلام الإمام علي علیه السلام في الشيخين: فقد روى مسلم في صحيحه حديثاً قال فيه عمر بن الخطاب لعلي والعباس: جئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ما نُورَث ما تركنا صدقة»، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ولي أبي بكر، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً، والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع للحق (1).

وأضاف ابن حبان قوله: ثم أقبل على علي والعباس قال: وأنتما تزعمان أنه كان فيها ظالماً فاجراً، والله يعلم أنه صادق بار تابع للحق، ثم وليتها بعد أبي بكر سنتين من إمارتي، فعملتُ فيها بمثل ما عمل فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأبو بكر، وأنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر، والله يعلم أني فيها صادق بار تابع للحق (2).

وقد حاول البعض تأويل هذه الرواية بحملها على المزح والهزل، وليس.

ص: 34


1- صحیح مسلم 152/5.
2- صحيح ابن حبان 577/14.

على حقيقتها، لكن يكفينا في رد هذا التأويل البارد أن البخاري حذف هذه الألفاظ، وأسقطها من الرواية (1)، وعلّق ابن حجر بقوله: في رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض: اقضِ بيني وبين هذا الظالم، استبَّا، وفي رواية جويرية: وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم قوله في رواية عقيل: «استبا»، واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث (2)

ومن ذلك أيضاً سب عمر لأبي هريرة: فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال لي عمر: يا عدو الله وعدو الإسلام، خنت مال الله؟ قال: قلت: لست عدو الله ولا عدو الإسلام، ولكني عدو من عاداهما، ولم أخن مال الله، ولكنها أثمان إبلي، وسهام اجتمعت. قال: فأعادها عليَّ، وأعدت عليه هذا الكلام. قال: فغرَّمَني اثني عشر ألفاً. قال: فقمت في صلاة الغداة فقلت: اللهم اغفر لأمير المؤمنين. فلما كان بعد ذلك أرادني على العمل، فأبيت عليه، فقال: ولم وقد سأل يوسف العمل وكان خيراً منك؟ فقلت: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا ابن أميمة، وأنا أخاف ثلاثاً واثنتين. قال: أو لا تقول: خمساً؟ قلت: لا، قال: فما هن؟ قلت: أخاف أن أقول بغير علم، وأن أفتي بغير علم، وأن يُضرب ظهري، وأن يُشتم عرضي، وأن يؤخذ مالي بالضرب (3).

فلماذا لم يحكم الذهبي على هذه الكتب بالوضع؟

ولماذا لم يحكم على خصوص هذه الروايات بالوضع والكذب؟.

ص: 35


1- صحيح البخاري 2/ 952 ح 3094
2- فتح الباري 143/6.
3- المستدرك على الصحيحين،387/2، قال الحاكم: هذا حديث صحيح بإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

بل العكس وجدناه، فإنه صحَّح رواية سب عمر لأبي هريرة، وحكم عليها بأنها على شرط الشيخين!

الرابع: الموجود في كتاب (نهج البلاغة) هو نقد لبعض سلوكيات الصحابة التي لم يرتضها أمير المؤمنين علیه السلام، وهذا ليس شتماً أو سبًّا لكل الصحابة كما حاول الذهبي تصوير الأمر، ولم يقل أحد: «إن نقد الصحابة ليس بجائز، وأنهم فوق النقد»، بل وجدنا أن كبار علماء المخالفين يشهدون بصدور بعض الموبقات من الصحابة.

قال سعد الدين التفتازاني: إن ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقاة يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرياسة والميل إلى اللذات والشهوات (1).

وقال ابن عثيمين ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزني بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة (2).

فهل نقل هؤلاء نقوداً الجملة من الصحابة ونسبة الموبقات لهم لا يدل على كذب كتبهم، ونقل السيّد الرضي قدس سره ذلك عن أمير المؤمنين علیه السلام يدل على كذب نهج البلاغة؟!

الخامس: العجيب أن الذهبي تمسَّك بما ظنّه سبَّا للصحابة وأغمض جفنيه عن النصوص المادحة لصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الوارد في كتاب (نهج 2.

ص: 36


1- شرح المقاصد 310/5.
2- شرح العقيدة الواسطية 292/2.

البلاغة)، مثل قول أمير المؤمنين علیه السلام: قد رأيت أصحاب محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً،غبراً، وقد باتوا سُجَّداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب (1).

نختم بتصريح مهم جدّا للمعلمي اليماني الذي قال في كتابه التنكيل: وقد عذر أهل السنة بعض من قاتل علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وجاهر بسبّه ولعنه، فإن كان الحميدي مخطئا فهو أولى وأجدر بأن يعذر ويؤجر (2)!

فإن كنتم قد عذرتم من سبّ عليها علیه السلام ولعنه وحاربه، فكيف لا تعذرون الشريف الرضي قدس سره وهو مجرد ناقل لقضايا تاريخية قد ثبتت بالدليل والبرهان؟

فهذه الأجوبة الخمسة كافية لدحض هذه الشبهة ورد هذا الافتراء عن كتاب (نهج البلاغة).

الشبهة الثانية: سبك العبارات

من جملة الأمور التي ذكروها للطعن في كتاب (نهج البلاغة) هي وجود عبارات ركيكة في بعض مضامين الكتاب كما نصَّ الذهبي على ذلك وانفرد به فقال: وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفَس القرشيين الصحابة وبنفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخِّرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل (3).

ص: 37


1- نهج البلاغة 1 / 190.
2- التنكيل 297/1.
3- ميزان الاعتدال 1 190.

والجواب على هذا:

أولاً: ادّعى الذهبي وجود عبارات ركيكة في كتاب (نهج البلاغة) تدل على أنها ليست من سبك الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام المعروف بالفصاحة والبلاغة والاحاطة بأساليب العرب، وكالعادة لم يأتِ الذهبي بشاهد أو دليل أو قرينة على ما ذكره سوى إلقاء الكلام على عواهنه، دون إثبات لصدق ما يدّعيه، وهذه عادة من لا يكون عنده حجة يثبت بها دعاواه الباطلة.

ثانياً: شهادة الذهبي لا يمكن قبولها؛ لما ذكره هو بنفسه من أن (من له علم بنفَس القرشيين يجزم بأن هذا الكتاب موضوع مجعول)، إذ أن الرجل قد نصَّ في ترجمته للشريف الرضي قدس سره أنه فارس في ميدان الأدب والشعر (1)، وقد قدَّمنا شهادة فطاحل المترجمين على نبوغ الرجل في هذا الفن في المقابل نجد أن الذهبي لا سابقة له في علوم الأدب والبلاغة، بل هو ليس بعربي أصلاً، وإنما هو تركماني، في حين أن الرضي عربي قرشي هاشمي علوي، فكيف تقبل شهادة هذا في هذا؟

ثالثاً: شهادة الذهبي معارضة بشهادة مجموعة من أهل الاختصاص المشهود لهم بأنهم من أهل المعرفة باللغة والأدب والبلاغة:

- قال ابن أبي الحديد المعتزلي (2) في شرحه: ويكفي هذا الكتاب الذي.

ص: 38


1- قال عنه في سير أعلام النبلاء 286/17: الشريف أبو الحسن، محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى، الحسيني الموسوي البغدادي الشاعر، صاحب (الديوان)، له نظم في الذروة حتى قيل: هو أشعر الطالبيين.
2- عرّفه الذهبي في تاريخ الإسلام 202/48: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد عز الدين أبو حامد المدائني، المعتزلي الفقيه الشاعر، الأديب، أخو الموفق، وُلِد سنة ست وثمانين وخمسمائة، روى بالإجازة عن: عبد الله بن أبي المجد الحربي، وهو معدود في أعيان الشعراء كأخيه.

نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ولا يبارى في البلاغة وحسبك أنه لم يدوَّن من لأحد من فصحاء الصحابة العُشْر، ولا نصف العُشْر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه (1).

- الشيخ محمود شكري الآلوسي (2): فإنه قال: هذا كتاب (نهج البلاغة) قد أستودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي، وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبوي (3).

- الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد (4): فإنه قال: هو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الكتاب الذي ضمَّ بين دفتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة، ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، منطقاً، وأشدهم اقتداراً، وأبرعهم حجة، وأملكهم للغة، يديرها كيف شاء، الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه والخطيب الذي يملأ القلب سحر بيانه، والعالم الذي تهيأ له من خلاط الرسول، وكتابة الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ لأحد سواه (5).

هذا غيض من فيض، ولو أردنا استقصاء كلمات أهل الاختصاص في.

ص: 39


1- شرح نهج البلاغة 35/1.
2- وهو من كبار علماء السلفية في العراق ومن المتشددين في العقائد السلفية، ألف كتاباً أسماه (بلوغ الأماني)، انتصر فيه لآراء ابن تيمية في التوسل والاستغاثة والزيارة.
3- بلوغ الارب 3/ 180.
4- من كبار علماء الأزهر المعروفين بتخصصهم في علوم اللغة، ولذلك نجد أن جملة من الكتب النحوية المتداولة في هذا العصر من تحقيقه، كقطر الندى، وشذور الذهب، ومغني اللبيب وغيرها.
5- مقدمة نهج البلاغة: 7.

نهج البلاغة لطال بنا المقام ولاحتجنا إلى كتاب خاص لسرد هذه الشهادات المهمة التي ضرب بها الذهبي عرض الجدار.

الشبهة الثالثة: مصادر النهج وأسانيده

من أهم الإشكالات التي يتمسَّك بها الطاعنون في نهج البلاغة في هذا العصر هو خلو كتاب نهج البلاغة من الأسانيد، وعدم وجود جملة من (نصوص الكتاب في المصادر المتقدِّمة عليه.

وقد أسَّس لهذه الشبهة ابن تيمية الحراني في كتابه (منهاج السنة) بقوله: وهذه الخطب المنقولة في كتاب (نهج البلاغة) لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف، منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها، فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيراً منها بل أكثرها لا يُعرف قبل هذا عُلِم أن هذا كذب، وإلا فليبيِّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك؟ ومن الذي نقله عن علي؟ وما إسناده؟ وإلا فالدعوى المجرّدة لا يعجز عنها أحد (1).

والجواب على هذا بأمور:

أولاً: أن الشريف الرضي قدس سره كان بصدد تصنيف كتاب أدبي، وليس مصدراً من مصادر الحديث الشيعية، أو مرجعاً للعقائد والفقه، ولذلك فإنه اختصر الطرق، واستغنى عن الأسانيد مراعاة لمقتضى الحال، فمن أراد أن يتثبَّت من صحة النقولات فعليه بالرجوع إلى المصادر الأصلية التي نقل منها الجامع، وليس أن يعتمد رأساً على نهج البلاغة.

وما فعله الرضي ليس بمبتدَع أو تدليس كما يحاول البعض إلصاق هذه التهمة به، بل هذا أمر متعارف عليه بين أهل العلم، ولذلك إذا راجعت مثلاً كتب تراجم الصحابة أمثال كتاب (الإصابة في معرفة الصحابة)، أو كتاب

ص: 40


1- منهاج السنة 55/8.

(الاستيعاب)، أو غيرها من كتب التاريخ، مثل كتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، لا تجد ذكراً للأسانيد والرواة إلا قليلاً جدًّا، بل عادة يكتفى بذكر آخر راو فقط.

ثانياً: بمراجعة مقدمة كتاب (نهج البلاغة) نجد أن الشريف الرضي قدس سره قد اعترف فيها بأن الكلمات التي نسبها لأمير المؤمنين علیه السلام في كتابه قد نقلها عن مصادرها الأصلية.

قال في المقدمة: وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردَّد والمعنى المكرَّر، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافاً شديداً، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنُقل على وجهه، ثم وُجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة، أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهاراً للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام، وربما بَعُدَ العهد أيضاً بما اختير أولاً، فأعيد بعضه سهواً، أو نسياناً، لا قصداً واعتماداً (1).

فالرجل قد أفصح عن منهجه، وأبان مقصده، وأوضح أنه مجرد ناقل لكلمات أمير المؤمنين علیه السلام الفصيحة وعباراته المليحة، وليس واضعاً أو ناحلاً كما يدَّعون.

ثالثاً: لو اطلع ابن تيمية أو غيره على كتاب (نهج البلاغة) لوجدوا أن الشريف الرضي قدس سره ذكر في موارد كثيرة من كلامه مصادره التي نقل منها هذه الخطب والرسائل، ومنها:

منها: كتاب المقتضب للمبرد: قال السيد الرضي قدس سره: وقد رواه قوم لأمير المؤمنين علیه السلام، وذكر ذلك المبرد في كتاب (المقتضب) في باب اللفظ الحروف، وقد تكلّمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار.

ص: 41


1- نهج البلاغة 1/ 13.

النبوية (1).

ومنها: كتاب تاريخ الطبري: قال السيد الرضي قدس سره: وروى ابن جرير الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه، وكان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث أنه قال فيما كان يحض به الناس على الجهاد: إني سمعت عليٍّا علیه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام ... (2).

ومنها: كتاب البيان والتبيين: قال السيد الرضي قدس سره: أقول: هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، وهي من كلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي لا يشك فيه، وأين الذهب من الرغام، والعذب من الأجاج؟ وقد دلَّ على ذلك الدليل الخريت، ونقده الناقد البصير: عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب (البيان والتبيين)، وذكر من نسبها إلى معاوية ثم قال: هي بكلام علي علیه السلام أشبه (3).

فهذه التصريحات تدل على أن الشريف الرضي قدس سره مجرد ناقل لكلمات أمير المؤمنين علیه السلام من الكتب السابقة وغيرها.

لكن يبق هنا إشكال مهم: وهو خلو الكتب المتقدّمة من النصوص المنقولة في كتاب (نهج البلاغة)، وهو مفاد قول ابن تيمية: «فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيراً منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا»، فمن أين جاء الشريف الرضي له بهذه النصوص؟

هنا لا بد من الوقوف على مقدمتين:

الأولى: أن خطب أمير المؤمنين علیه السلام كانت موجودة ومتداولة بين أيدي.

ص: 42


1- نفس المصدر 107/4.
2- نفس المصدر 88/4.
3- نفس المصدر 79/1.

الناس قبل أن يخلق الشريف الرضي قدس سره.

قال الجاحظ في البيان: هذه خطب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مدوَّنة محفوظة ومخلدة مشهورة، وهذه خطب أبي بكر وعمر وعثمان و علي رضي الله عنه (1).

قال المسعودي في المروج: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته 400 خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، وتداولها الناس ذلك عنه قولاً وعملاً (2).

واذا استقرأنا الكلمات والخطب المتداولة الآن دون المذكورة في كتاب (نهج البلاغة) وغيره نجد أن مجموعها لا يصل إلى نصف هذا العدد الذي ذكره المسعودي، الذي توفي قبل أن يصنف نهج البلاغة، بل قبل أن يولد الشريف الرضي قدس سره.

الثانية: أن كل من طعن في كتاب (نهج البلاغة) نصَّ على وجود حق فيه، وثبوت صدور جملة من كلماته عن أمير المؤمنين علیه السلام، فالخلاف هو جزئي أي في بعض فقرات النهج لا كله.

بعد هذه المقدمتين نجيب عن ايراد ابن تيمية بالآتي:

أولاً: من أراد الوقوف على مصادر كتاب (نهج البلاغة) عليه الرجوع إلى الأصول المعتبرة، كالكتب الأربعة عند الشيعة (الكافي، التهذيب الاستبصار، الفقيه) وغيره من كتب الصدوق والمفيد والشيخ الطوسي، ولاختصار الطريق على الباحث هناك كتب اهتمت بتخريج أحاديث النهج وذكر المصادر، مثل كتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) للسيد عبد الزهراء الخطيب، وكتاب (بهج الصباغة) للمحقق التستري..

ص: 43


1- البيان والتبيين 201/1.
2- مروج الذهب 419/2.

ثانياً: في حال عدم وجود مصدر للخطب المذكورة في (نهج البلاغة)، فإن هذا لا يوجب الطعن في جميع الكتاب ولا في المؤلف نفسه، إذ أن هناك أموراً كثيرة منعت من وصول تراث أهل البيت علیهم السلام، ومن قرأ التاريخ وتتبّع حوادثه علم أن هناك حملة ممنهجة شُنّت على أهل البيت علیهم السلام الإخفاء تراثهم، وللتعتيم على حديثهم، وكانت هذه الحملة على مراحل

1 - الإعراض عن أحاديث النبي وأهل البيت علیهم السلام: بمراجعة أهم كتب الحديث نجد عدة قرائن تدل على وجود إعراض متعمَّد من المحدِّثين والفقهاء عن كل ما يتعلق بآل محمد علیهم السلام.

منها: ما نقله الحاكم النيسابوري في المستدرك بسنده عن سعيد بن جبير، قال: كنا مع ابن عباس بعرفة فقال لي: يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت: يخافون من معاوية. قال: فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك، فإنهم قد تركوا السُّنّة من بغض علي رضي الله عنه (1).

وهذا الحديث نص من ابن عباس رضي الله عنه وشهادة منه على أن القوم قد أعرضوا عن سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهجروها بغضاً وكرهاً وعداوة لأمير المؤمنين علیه السلام، فإن كان هذا حال الصحابة الذين تُدّعى فيهم العدالة والصلابة في الدين، فكيف بالذين جاؤوا بعدهم، وثبت نصبهم وعداوتهم لأهل البيت علیهم السلام؟!

2 - المنع من التحديث عن النبي وأهل البيت علیهم السلام: فقد ثبت في كتب

التاريخ والحديث والسيرة أنه بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم منع الحكام من التحديث بسنّته والرواية عنه، وكان لهذا القرار عواقب وخيمة، لاسيما طمس آثار النبي صلی الله علیه و آله و سلم، بل إقصاء لكل السنة النبوية التي تمثل المصدر الثاني من مصادر التشريع.

وممن منع من التحديث بالسنة أبو بكر بن أبي قحافة: فإنه قد فرض.

ص: 44


1- المستدرك على الصحيحين 464/1.

حضراً على التحديث بسُنّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ولعل هذا القرار كان من أول القرارات التي اتخذها أبو بكر بعد وفاة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم:

فقد روى الذهبي: عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنكم تحدِّثون عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه (1).

وهذا الأثر واضح صريح في أن الخليفة الأول نهى عن التحديث نهياً صريحاً لا يقبل التأويل والتبديل، حيث قال: فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً»، وأمرهم بالرجوع إلى كتاب الله وحصر التشريع فيه بقوله: «فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه».

وما فعله أبو بكر قد حذَّر منه النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حياته، ونبَّه أمَّته عليه، فقد روى الحاكم (2) و الدارمي (3) وابن ماجة (4) وابن داود (5) وأحمد واللفظ له بعدة طرق عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه (6).

وفي هذا الحديث عدة أمور مهمة لا بد من الوقوف عندها:.

ص: 45


1- تذكرة الحفاظ 3/1.
2- المستدرك على الصحيحين 108/1.
3- سنن الدارمي 153/1.
4- سنن ابن ماجة 106/1.
5- سنن أبي داود 2/ 392.
6- مسند أحمد 1314.

الأمر الأول: عبَّر النبي صلی الله علیه و آله و سلم بلفظ: «يوشك»، ولم يقل: «سيكون» أو «سيحصل كذا وكذا»، وفي هذا دلالة على قرب ووقوع هذا الأمر، فإن فعل أوشك يدل على الإسراع المفضي إلى القرب كما نصَّ على ذلك أهل اللغة، ولا يوجد أقرب من هذه الحادثة كمصداق لهذا التحذير.

الأمر الثاني: من أهم الألفاظ المهمة في هذا الحديث، التعبير بالأريكة وهي كما قال ابن أثير: السرير في الحجلة من دونه ستر، ولا يسمّى منفرداً أريكة، وقيل: هو كل ما اتُّكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة (1) ... وهي في هذا الخبر كناية عن السلطة والحكم، فالشخص الذي يمنع من الحديث ليس إنساناً من عوام الناس بل هو رجل مبسوط اليد وصاحب نفوذ، وهو ما يتلاءم مع فعل أبي بكر المذكور.

الأمر الثالث: تطابق لفظ الحديث النبوي مع قول أبي بكر مطابقة تامة، بحيث لا تدع مجالاً للشك في كون الثاني هو مصداق للأول، ففي الحديث النبوي عبر بقوله: «عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه»، وأما في كلام أبي بكر فقوله: «بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرِّموا حرامه»، وهذا من دلائل النبوة ومن معجزات الرسالة.

وأما عمر بن الخطاب: فإنه هو أول من قاد هذه الحملة، وصاحب السبق فيها، فقد بدأ منذ حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم في التشكيك في حجية قوله وفعله وتقريره، ولذلك نجد أنه كان من أكثر الصحابة المعترضين على ما يفعله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي لا ينطق عن هوى، إن هو إلا وحي يوحى!

ولذلك أطلق أهل السنة اسم الموافقات على هذه الحالة، وهي أن يقول.

ص: 46


1- النهاية في غريب الحديث والأثر 40/1.

النبي صلی الله علیه و آله و سلم شيئاً، ويخالفه عمر بن الخطاب فيه، فينزل الوحي موافقاً لقول عمر، ومخَطّئا لقول خير البشر صلی الله علیه و آله و سلم.

وقد جعل السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) باباً أسماه: في موافقات عمر رضي الله عنه (1)، قال فيه: قد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين!

بل إن ابن حجر العسقلاني يصرّح بأن عمر بن الخطاب فهم القرآن الكريم، في حين أن النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم لم يفهمه، فنزل الوحي مُصوِّباً لفهم عمر في قصة الصلاة على ابن سلول!

قال ابن حجر: عن ابن عباس: فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلى عليه؟ قال: أين؟ قال قال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية. وهذا مثل رواية الباب، فكان عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن «أو» ليست لتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور، أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره، وفهم عمر أيضاً من قوله: ﴿سَبْعِينَ مَرَّةً) أنها للمبالغة، وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه وفهم أيضاً أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة، لذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أُبَي، هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من.

ص: 47


1- تاريخ الخلفاء: 111.

الفضل كشهوده بدراً وغير ذلك لكونه كاتب قريشاً قبل الفتح: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقد نافق. فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلی الله علیه و آله و سلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة (1).

وبناء على هذا فإن عمر بن الخطاب قد طعن في حجية سُنّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم في أواخر حياته بقولته المعروفة: «حسبنا كتاب الله» (2)، التي تحصر الحجية في القرآن الكريم فقط، وتسقط كل ما سواه من الأمور التي ثبتت حجيتها، وبالخصوص السُّنّة النبويّة المطهَّرة.

ولا يقولن أحدكم: إننا بصدد التحامل على عمر وإلزامه بما يلتزم، إذ أن البعض جعل هذه العبارة من فقه عمر كما ذكر النووي، حيث قال: اتفق قول العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها، فاستحقوا العقوبة؛ لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه صلی الله علیه و آله و سلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه، وأشار بقوله: «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ (3).

بل إننا ندين القوم بما ذكروه والتزموا به، فأولاً نقول: إن اللفظ أريد به عمومه؛ لعدم وجود قرينة تدل على تخصيصه، أو عدم إرادة ظاهره.

وثانياً: ما ذكره الذهبي من أن هذا اللفظ هو من قول الخوارج!

فقد قال في (تذكرة الحفاظ) في تعليقه على رواية ميراث الجدة: هذا.

ص: 48


1- فتح الباري 253/8.
2- صحيح البخاري 9/7.
3- فتح الباري 102/8.

المرسل يدلك أن مراد الصدِّيق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر، ولم يقل: «حسبنا كتاب الله» كما تقوله الخوارج (1).

فكلام الذهبي واضح صريح في أن هذه المقالة هي من مختصات الخوارج، وأن المقصود منها سد باب الرواية، وإسقاط حجية السنة كما هو عندهم.

صلى وتواصلت هذه الحملة الشعواء على سُنّة النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بعد انتقاله صلی الله علیه و آله و سلم إلى الرفيق الأعلى، فزجر الخليفة الثاني كل من كان يحدِّث بسُنّة المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم وينشرها بين الناس.

فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح: عن قرظة بن كعب، قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار، فتوضأ، ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مشيت معنا؟ قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تبدونهم بالأحاديث، فيشغلونكم، جرِّدوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وامضوا وأنا شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدِّثْنا. قال: نهانا ابن الخطاب (2).

وذكر ابن سعد في طبقاته حادثة مهمة تؤكِّد هذه الحقيقة، حيث قال: أرسل عمر أُبيًّا، قال: وأقبل أبي على عمر، فقال: يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ فقال عمر: يا أبا المنذر لا والله ما اتهمتك عليه، ولكني كرهت.

ص: 49


1- تذكرة الحفاظ 3/1.
2- المستدرك على الصحيحين 102/1، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وله طرق. ووافقه الذهبي في التلخيص، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 100.

أن يكون الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ظاهرا (1).

قال ابن كثير الدمشقي: ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوماً لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك. هذا معروف عن عمر (2).

وقال الذهبي: هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث، وهذا مذهب لعمر ولغيره (3).

وقال ابن قتيبة: وكان عمر أيضاً شديداً على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية (4).

ومن هنا عاقب عمر بن الخطاب كل من خالف سياسته في منع التحديث بأشد العقوبات كائناً من كان، واتخذ عدّة إجراءات:

منها: حبسه لبعض كبار الصحابة: كما روى الطبراني بسنده عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال: بعث عمر بن الحطاب إلى ابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأبي الدرداء، فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟! فحبسهم بالمدينة حتى استشهد (5).

وروي عن عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذافة.

ص: 50


1- الطبقات الكبرى 22/4.
2- البداية والنهاية 115/8.
3- سير أعلام النبلاء 601/2.
4- تأويل مختلف الحديث: 41.
5- المعجم الأوسط 378/3.

وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الآفاق؟ قالوا: أتنهانا؟ قال: لا أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ ونرد عليكم. فما فارقوه حتى مات (1).

ومنها: ضربه لمن يجاهر بالتحديث بدرّته الشهيرة: ولذلك قال أبو هريرة أكبر محدِّثي المخالفين: ما كنا نستطيع أن نقول: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم» حتى قُبض عمر، كنا نخاف السياط (2).

وروي عن أبي هريرة بسند صحيح قوله: أفإن كنت محدِّثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذاً لألفيت المخفقة ستباشر ظهري (3).

وروى الذهبي بسنده عن ابن عجلان: أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدِّث أحاديث، لو تكلِّمت بها في زمن،عمر، لشَجَّ رأسي (4).

وهذا التصريح من أبي هريرة فيه إقرار بأن العقوبة التي كانت تطال من ينشر أحاديث النبي صلی الله علیه و آله و سلم هى الضرب بالدرّة والسياط.

ومنها: النفي والإبعاد عن مركز الخلافة الإسلامية وهي المدينة: فقد روي عن عمر بن الخطاب بإسناد صحيح أنه قال لأبي هريرة: لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أو الألحقنَّك بأرض دوسر (5).

وقال أيضاً لكعب الأخبار لتتركنَّ الحديث عن الأول أو لألحقنَّك بأرض القردة (6)..

ص: 51


1- كنز العمال 293/10.
2- البداية والنهاية 115/8.
3- جامع معمر بن راشد الملحق بمصنَّف عبد الرزاق 262/11.
4- سير أعلام النبلاء 601/2.
5- البداية والنهاية 115/8، صحّح الخبر شعيب الأنؤوط في تحقيقه لسير اعلام النبلاء 2/ 601.
6- البداية والنهاية 115/8، صحّح الخبر شعيب الأنؤوط في تحقيقه لسير اعلام النبلاء 601/2.

فهذه القيود الشديدة والرقابة الدقيقة هى التى جعلت الرعيل الأول من الصحابة والتابعين يتخوَّفون من التحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ويتجنّبون تذاكر سُنّته وبثّها بين الناس.

والذين جاؤوا من الحكّام والخلفاء بعد الخليفتين لم يجدوا صعوبة في السير على هذا المنوال ومواجهة السنة المطهرة فما كان عليهم إلا مواصلة ما أسَّسه سابقوهم، والسير على خطاهم:

فمثلاً صرَّح الخليفة الثالث عثمان بن عفان باتباعه لسياسة عمر بن الخطاب في تعامله مع الحديث ورواته قائلاً: لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (1).

وجاء بعده معاوية بن أبي سفيان مترسّما لخطى أسلافه، فقال للناس كما نقل مسلم في صحيحه: إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد عمر، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عزّ وجل (2).

ولهذا تأثر الناس بهذه السياسة، فامتنعوا عن التحديث، إما خوفاً ورهبة من العقاب، أو عن رغبة في نيل رضا الخلفاء.

فهذا الشعبي ينقل لنا أن عبد الله بن عمر كان على منهج كان على منهج أبيه، فقد نقل عنه أحمد بن حنبل بسند صحیح أنه قال: جالست ابن عمر سنتين، ما سمعته روی شيئاً عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (3).

وهذا السائب بن يزيد يشهد على سعد بن أبي الوقاص بقوله: صحبت سعد بن أبي وقاص سنة، فما سمعته يحدِّث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلا حديثاً.

ص: 52


1- تاريخ مدينة دمشق 39 / 180.
2- صحیح مسلم 3 / 95.
3- مسند أحمد 2 / 157، صحَّحه شعيب الأنؤوط في تعليقه على المسند.

واحداً (1).

وقد صرَّح المؤرِّخون بهذه الحقيقة دون تحرّج أو تحفظ، فقال ابن قتيبة: وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلّون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (2).

وقال ابن قيم الجوزية: فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ويعظّمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص، ويحدِّثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلی الله علیه و آله و سلم مراراً، ولا يصرِّحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (3).

3 - منع تدوين أحاديث النبي وأهل البيت علیهم السلام: الصورة الثانية للحرب المعلنة على السنة النبوية المطهرة هي منع الناس من تدوينها وكتابتها حرصاً على ضياعها وتلفها مع الأزمان.

وقد تمّت هذه الخطوة على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: شرعنة منع تدوين الحديث النبوي بوضع أحاديث ونصوص شرعية تنهى عن الكتابة والتدوين.

منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (4).

وما رواه الخطيب البغدادي: عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله.

ص: 53


1- الحد الفاصل: 557.
2- تأويل مختلف الحديث: 42.
3- أعلام الموقعين 148/4.
4- صحیح مسلم 229/8.

صلی الله علیه و آله و سلم ونحن نكتب الأحاديث، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله! أَتدرون ما ضلَّ الأمم قبلكم؟ ألا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى (1).

فهذه النصوص المنسوبة زوراً وبهتاناً إلى النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، جعلت غطاء شرعيًّا لمنع تدوين السُّنّة وكتابتها.

المرحلة الثانية: تطبيق سياسة المنع بزجر الناس عن الكتابة وتخويفهم من عواقبها، ومن أمثلة ذلك ما رواه عبد الرزاق الصنعاني بسند صحيح: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً (2).

وروى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السُّنّة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه (3). فهذه التصريحات ليست مجرد آراء شخصية بل كانت بمثابة القوانين التي يجرم من خالفها ويعاقب على فعلته.

المرحلة الثالثة: إتلاف كل ما كان من الأحاديث النبوية بين يدي الصحابة مدوَّناً، سواء تم ذلك في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أو بعد وفاته..

ص: 54


1- تقييد العلم: 34.
2- مصنف عبد الرزاق 258/22
3- جامع بیان العلم وفضله: 275.

فقد روي أن أبا بكر قد أحرق مجموعة من الأحاديث كما روى عنه ذلك الذهبي بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً. قالت: فغمَّني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بُنيَّة، هلمي الأحاديث التي عندك. فجئته بها، فدعا بنار فحرقها، فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذاك (1).

وروى الخطيب البغدادي بسنده عن القاسم بن محمد أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها، وكرهها، وقال: أيها الناس، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب؛ فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقينّ أحد عنده كتاب إلا أتاني به فأرى فيه رأيي. قال: فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها، ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب (2).

وروي عن أبي موسى الأشعري نفس الفعل: عن أبي بردة قال: كان أبو موسى يحدثنا بأحاديث، فنقوم أنا ومولى لي فنكتبها، فحدثنا يوماً بأحاديث فقمنا لنكتبها، فظن أنا نكتبها، فقال: أتكتبان ما سمعتها مني؟ قالا: نعم ... قال: فجيئاني به. فدعا بماء فغسله، وقال: احفظوا كما حفظنا (3).

بل ورد نص صريح يدل على أن هذه الحرب كان الغرض منها هو محاربة كل ما يتعلق بأهل البيت علیهم السلام، وهو ما ذكره البغدادي بسنده عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة.

ص: 55


1- تذكرة الحفاظ 1 / 5.
2- تقييد العلم: 52.
3- تقييد العلم: 40.

فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبي صلى الله عليه، فاستاذنا على عبد الله فدخلنا عليه قال فدفعنا إليه الصحيفة قال: فدعا الجارية، ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها، فإن فيها أحاديث حساناً. قال: فجعل يميثها فيها، ويقول: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ)، القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه (1).

وهكذا فإن تظافر المراحل الثلاثة من منع تدوين السنة النبوية المطهرة كان لها الأثر الكبير في حرمان الأمة من هذه الدرر المحمدية والآثار العلوية، بل كان السبب الأساس لتقسيم هذه الأمة.

4 - اتلاف مكتبات الشيعة عبر التاريخ: بمراجعة التاريخ نجد أن مكتبات الشيعة قد تعرَّضت إلى حملة إتلاف منظمة كان الغرض منها القضاء على تراث الشيعة، والتخلص منه للأبد، ولعل هذا هو السبب الأساس الذي يبرِّر خلو الكتب من بعض ما ورد في (نهج البلاغة).

ومن باب المثال لا الحصر نذكر:

ما ذكره الحموي في معجم البلدان، حيث قال: بين السُّورَيْن: تثنية سُوْر المدينة: اسم لمحلة كبيرة كانت بكرخ بغداد، وكانت من أحسن محالها وأعمرها، وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرَّرة، واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447 ه (2).

وهذه المكتبة تعتبر من أهم المتاحف العلمية في عصرها، إذ أن الحموي.

ص: 56


1- تقييد العلم: 54.
2- معجم البلدان 1 / 534.

عبّر عنها بقوله: «كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة»، ونحن نقطع أنها كانت مما اعتمد عليه الشريف الرضي في (نهج البلاغة)؛ لأنه كان يعيش ببغداد في الفترة السابقة لحرق هذه المكتبة.

ومن ذلك أيضاً ما ذكره ابن الأثير في كتاب الكامل، حيث قال: وفي جملة ما أحرقوا دارين للكتب، إحداهما وُقفت قبل أيام عضد الدولة بن بويه، فقال عضد الدولة: هذه مكرمة سبقنا إليها وهي أول دار وُقفت في الإسلام. والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاء مردان، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن (1).

وهذا النص أيضاً لا يقل أهمية عن سابقه، وذلك لأن هذه المكتبة كانت أيضاً ببغداد، وحرقت عندما هجم الأعراب على البصرة في سنة 483 ه، أي أن الشريف الرضي قد أدركها قبل الحرق، أضف إلى هذا أن المكتبة هي وقف من بني بويه، وقد قدمنا سابقاً أن علاقة الشريف الرضي بهم كانت قوية جدًّا، فمن هنا نقطع أنه اطلع على هذه المكتبة القيمة، لاسيما وأن ابن الأثير قد عبَّر عنها بقوله: وكان بها نفائس الكتب وأعيانها، ولا يعقل أن الشريف الرضى لا يطلع على مثل هذا الكنز.

ومن ذلك أيضاً ما ذكره الذهبي في أكثر من مورد من كتبه من حرق المخالفين لمكتبة الشيخ الطوسي قدس سره مرارا وتكراراً!

قال في السِّيَر: وأعرض عنه الحفاظ لبدعته، وقد أحرقت كتبه عدة نُوَب في رحبة جامع القصر (2).

وقال في تاريخه: روى عنه ابنه أبو علي الحسن، وقد أحرقت كتبه غير مرة،.

ص: 57


1- الكامل في التاريخ 10/ 184.
2- سير أعلام النبلاء 335/18.

واختفى لكونه ينقص السلف وكان ينزل بالكرخ، ثم انتقل إلى مشهد الكوفة (1).

وهذه الحادثة أيضاً من النكسات التاريخية التي ابتليت بها الأمة، فإن فقدان مثل هذه الكتب يعتبر خسارة كبيرة جدًّا لا تقدَّر بذهب أو بفضة، ومن أراد معرفة مقدار الكتب التي كانت عند الشيخ الطوسي فما عليه إلا أن يتصفَّح كتابه الموسوم بالفهرست؛ ليقف على عظم الجناية التي اقترفت في حق تراث المسلمين.

علماً أن الشيخ الطوسي هو من أقران الشريف الرضي والمرتضى وكلهم تتلمذوا على يد الشيخ المفيد قدس سره، فهذه المكتبة التي أتلفت مراراً كما نصَّ الذهبي هي من مصادر النهج أيضاً، لكنها ضاعت هباء منثوراً.

كما أنّ هناك بعض المكتبات المهمّة تلفت بسبب عوامل أخرى منها الحروب والفتن التي عصفت ببلاد المسلمين، ومنها ضياع الكتب بسبب عدم اهتمام الورثة وغيرها من الأسباب المختلفة.

وقد نقل ابن النديم نموذجا عن هذه المكتبات التي تلفت وضاعت كتبها فقال: كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين ويعرف بابن أبى بعرة، جمّاعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب الغريبة في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات فآنس بي، وكان نفورا ضنينا بما عنده وخائفا من بني حمدان؛ فاخرج إلى قمطرا كبيرا فيه نحو ثلثمائة رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصر وورق صيني وورق تهامي وجلود ادم وورق خراساني فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم، وشئ من النحو والحكايات والاخبار.

ص: 58


1- تاريخ الاسلام 491/30.

والأسمار والأنساب وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم؛ وذكر ان رجلا من أهل الكوفة، ذهب عنى اسمه، كان مستهترا بجمع الخطوط القديمة، وانه لما حضرته الوفاة خصه بذلك لصداقة كانت بينهما وأفضال من محمد بن الحسين عليه ومجانسة بالمذهب فإنه كان شيعيا فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا الا ان الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج، توقيع بخطوط العلماء واحدا إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيع، توقيع آخر خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض البعض، ورأيت في جملتها مصحفا بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي علیه السلام ثم وصل هذا المصحف إلى أبي عبد الله ابن حاني رحمه الله، ورأيت فيها بخطوط الأئمة من الحسن والى الحسين علیهم السلام، ورأيت عدة أمانات وعهود بخط أمير المؤمنين علي علیه السلام وبخط غيره من كتاب النبي علیه السلام (1).

وقد طبع مؤخرا كتاب تحت عنوان (نزهة الأبصار ومحاسن الآثار) لأحد علماء أهل السنة والجماعة (2) المتقدمين عن الشريف الرضي رضي الله عنه، ذكر فيه جملة من روايات (نهج البلاغة) التي لم يعرف لها مصدر غيره.

إذن من هنا نعلم أن الشريف الرضي رضي الله عنه قد اطلع على كتب كثيرة لم تصل إلينا، واعتمد عليها في جمع (نهج البلاغة)، وهذا ما يفسِّر خلو الكتب.

ص: 59


1- الفهرست 46.
2- المقصود هو علي بن مهدي المامطيري الطبري (360 ه) ترجم له السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:466/3: تلميذ الشيخ أبى الحسن الأشعري صحبه بالبصرة وأخذ عنه وكان من المبرزين في علم الكلام والقوامين بتحقيقه وله كتاب تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات وكان مفتنا في أصناف العلوم؛ قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسن الأسدي كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن علي بن مهدى الطبري الفقيه مصنفا للكتب في أنواع العلوم مفتنا حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله.

المتداولة الآن بين أيدينا من بعض خطب النهج.

وقد أنصف أحد علماء السنة وهو امتياز علي عرشي الحنفي (1) حين قال: وليس بخاف على أبناء العلم والمولعين به أن معظم محتويات (نهج البلاغة) توجد في كتب المتقدِّمين، ولو لم يذكرها الشريف الرضي، ولو لم يَعْرُ بغداد ما عراها من الدمار على يد التتر، ولو بقيت خزانة الكتب الثمينة التي أحرقها الجهلاء لعثرنا على مرجع كل مقولة مندرجة في نهج البلاغة (2).

بقي الكلام في نقطة أخيرة، وهي: لو قيل: إن ما ذكرناه آنفاً لا يدل إلا على براءة ساحة (الشريف الرضي) من الوضع والتقوّل على أمير المؤمنين علیه السلام، لكن هذا لا يثبت صحّة ما أخرجه في كتابه هذا؛ وذلك لأنه يجب علينا مراجعة أسانيد روايات النهج رواية رواية وخطبة خطبة؛ للتأكد من صحّتها وإثبات حجّيتها، وهذا دون إثباته خرط القتاد؛ لأنه قد ذكرنا أن جملة من روايات النهج لا أسانيد لها، بل لا مصدر لها سوى الكتاب المختلف فيه!

فكيف نثبت اعتبار الكتاب، وصحة ما فيه ما فقدان الأسانيد؟

والجواب حول هذا الإشكال يكون في نقاط:

الأولى: أن السند ليس الطريق الوحيد لإثبات صحّة صدور الخبر، بل هناك عدة طرق أخرى اتفق عليها العقلاء قبل علماء الحديث أنه من خلالها نثبت صحة الصدور، منها:

1 - الشهرة: وهو أن يشتهر الخبر بين الناس، ويشيع بحيث يطمئن.

ص: 60


1- من كبار محققي الهند، كان مديراً لمكتبة رضا الشهيرة في مدينة رامفور، قام بفهرسة مخطوطاتها، واطَّلع على النوادر الموجودة فيها، فكتب مقالاتٍ وأبحاثًا في التعريف بها ودراستها في المجلّات العلميّة باللُّغة الأُردية، واشتهر في الأوساط العلميَّة في البلاد العربية بعدما حقَّق (تفسير سفيان الثَّوري)، وغيره من النوادر، توفي سنة 1981م.
2- استناد نهج البلاغة: 20.

الإنسان بصحة صدوره، وقد نصَّ علماء الحديث والرجال عند السنة والشيعة أنه إذا اشتهر الخبر بين العلماء، وتلقوه بالقبول دون طعن أو غمز، فإنه يُحكم بصحته ولو لم يكن له سند صحيح.

قال الحافظ السيوطي: كذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول، قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح (1).

وقال القاسمي: الصحيح لغيره هو ما صُحِّح لأمر أجنبي عنه، إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن، فإنه إذا روي من غير وجه، ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة، وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول، فإنه يحكم له بالصحة وإن لم يكن له إسناد صحيح (2).

وقال ابن قيم الجوزية: هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها (3).

وكلام هؤلاء واضح وصريح، وهو أنه قد يُستغنى أصلاً عن الإسناد إذا تُلقَى الحديث بالقبول بين الناس.

والأعظم من هذا أن ابن حجر العسقلاني أمير المؤمنين في الحديث كما يحلو لبعضهم تسميته ذكر أن الحديث الذي تلقته العامة بالقبول دون أن يكون له سند صحيح، هو حجة، بل قد يكون ناسخاً لكتاب الله!

قال في النكت: من جملة صفات القبول التي لم يتعرَّض لها شيخنا: أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث، فإنه يقبل حتى يجب العمل به، وقد.

ص: 61


1- تدريب الراوي 67/1.
2- قواعد التحديث 80/1.
3- أعلام الموقعين 202/1.

صرَّح بذلك جماعة من أئمة الأصول، ومن أمثلته قول الشافعي رضي الله عنه: وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه، ويروى عن النبي من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلاف، وقال في حديث لا وصية للوارث: لا يثبته أهل العلم بالحديث ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية للوارث (1).

ووافقه على هذه القاعدة السخاوي، حيث قال: وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى إنه ينزَّل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في حديث: «لا وصية لوارث»: إنه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية له (2).

وهذه القاعدة الجليلة قد طبَّقها الأمير الصنعاني على أحد نصوص النهج كما في كتابه سبل السلام، حيث قال: ولأمير المؤمنين علي علیه السلام في عَهْدٍ عَهِدَه إلى الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم، وهو معروف في النهج، لم أنقله لشهرته (3).

فكما اعتمد المخالفون هذه في إثبات جملة من أحكامهم الشرعية، بل نسخوا به آية قرآنية كما ذكر ابن حجر العسقلاني، فيلزمهم تطبيق هذه القاعدة على (نهج البلاغة) أيضاً، وإلا يكون الأمر كيل بمكيالين واتباع للهوى.

2 - المضمون: وهو أن ينظر في متن الرواية، ويقيَم مضمونها، فإن كان مما يليق نسبته لقائله كانت هذه قرينة على صحة النسبة إليه، وإن كان العكس فإنه يُضرب به عرض الجدار..

ص: 62


1- النكت على مقدمة ابن الصلاح: 495.
2- فتح المغيث 289/1.
3- سبل السلام 119/4.

ولذلك نجد أن ابن القيم قد تعرَّض إلى دراسة المتن في أكثر من مورد من كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف:

منها: قوله ومنها: أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله الذي هو وحي يوحى كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (1) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) أي وما نطقه إلا وحي يوحى فيكون الحديث مما لا يشبه الوحي، بل لا يشبه كلام الصحابة) (2).

ومنها: قوله: ومنها ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها بحيث يمجّها السمع، ويدفعها الطبع، ويسمج معناها للفطن (2).

فكما أن سوء سبك المضمون ودناءته يدل على الوضع والكذب، فإن حسن السبك وعلو المضمون يدل على صحة نسبته وثبوت صدوره، وهذا المنهج يمكن تطبيقه على نهج البلاغة لإثبات اعتباره.

ويكفينا في هذا المقام إعادة ذكر شهادة الشيخ محمود شكري الآلوسي السلفي الذي قال في مدح الكتاب: هذا كتاب (نهج البلاغة) قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبوي (3).

فهذا الرجل المشهود له بالتضلّع في الأدب ولغة العرب يشهد بضرس قاطع أن كتاب (نهج البلاغة) احتوى كلاماً فوق مستوى كلام عامة البشر، بل هو على حسب تعبيره قبس من نور الكلام الإلهي!

الثانية: هو أن المخالفون قد نصّوا أن السند يطلب فقط في الحلال.

ص: 63


1- المنار المنيف: 99.
2- المنار المنيف: 62.
3- بلوغ الارب 180/3.

والحرام، وفي الأمور التي لها دخالة في العقيدة والفقه، أما الأمور الأخرى فلا يشترط فيها سند أصلاً!

ولهذا قال الخطيب البغدادي: وأما أخبار الصالحين وحكايات الزهاد والمتعبِّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها، وليست شرطاً في تأديتها (1).

وقال السخاوي: وهذا التساهل والتشديد منقول عن ابن مهدي عبد الرحمن وغير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وابن معين وابن المبار والسفيانين، بحيث عقد أبو أحمد بن عدي في مقدمة كامله والخطيب في كفايته لذلك باباً، وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا نحتاج فيها إلى من يحتج به، وقال الحاكم: سمعت أبا زكريا الغبري يقول: الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً، وكان في ترغيب أو ترهيب، أغمض عنه، وتسهل في رواته (2).

وقال الصنعاني: الأحاديث الواهية جوَّزوا - أي أئمة الحديث - التساهل فيه، وروايته من غير بيان لِضعفه إذا كان وارداً في غير الأحكام، وذلك كالفضائل والقصص والوعظ وسائر فنون الترغيب والترهيب (3).

ولو رجعنا إلى كتاب (نهج البلاغة) نجد أن جلَّه هو مواعظ وحكم وسير وفضائل وترغيب وترهيب، ونادراً ما يذكر فيه حلال وحرام أو مسألة عقائدية يتوقف إثباتها على نهج البلاغة.

فلا ندري لماذا قواعدهم تتوقف وتعطل عندما تصل النوبة إلى نهج.

ص: 64


1- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 213/2.
2- فتح المغيث 288/1.
3- توضيح الأفكار 2/ 238.

البلاغة وكلمات أمير المؤمنين علیه السلام؟!

علماً أنهم لو انحصر الإثبات على صحة السند للزم من ذلك تنازلهم على جملة من الأمور المسلّمة عندهم، والتي تكاد تكون مقطوعاً بها عندهم، مثل تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق، وحديث العشرة المبشَّرين بالجنة، بل لا يبقى عندهم تفسير للقرآن بالمأثور أصلاً!

نقل الزركشي في البرهان بسنده: عن أحمد بن حنبل قال: ثلاث كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير ... قال المحقِّقون من أصحابه: و مراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة (1).

واعترف ابن تيمية بهذه الحقيقة، فقال: فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي (2).

فلماذا باؤكم تجر وباؤنا لا تجر؟!

وقد ذكر جوابنا هذا السيد محسن الأمين قدس سره في أعيان الشيعة بقوله: ليس (نهج البلاغة) مرجعاً للأحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي (ص)، إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما يعتمده الخطباء من مقاصدهم، ولم يكن غرض جامعه إلا جمع قسم من الكلام السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما جمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين والإسلاميين الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند، ولم نركم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق.

ص: 65


1- البرهان 156/2.
2- مجموع الفتاوى 13 / 347.

الحد، إلا على (نهج البلاغة)، ليس هذا إلا لشيء في النفس، مع أن جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة (1).

الثالثة: نختم ردّنا على هذا الإشكال بقولنا: إن ما أشكلوه على النهج من سقوط أسانيده لا يلزم منه وضع الكتاب، بل غاية ما يلزم هو أن الفقرات التي لا يوجد لها سند البتة لا تكون حجة ولا عبرة بها، ومن هنا نعلم أن ما ذكروه هو مجرد غربال استخدموه ليحجبوا به نور كلمات (نهج البلاغة).

وإلا فلماذا إذا وصل الأمر إلى (نهج البلاغة) طبقت فيه كل قواعد الحديث، وأُعملت فيه كل مصطلحات الدراية، وكل مباني علم الرجال؟!

فلو لم يكن في نفوس القوم شيء حول تراث أمير المؤمنين علیه السلام فلماذا يحارب كتاب لا يشتمل إلا على أخلاقيات ومواعظ وحكم وترغيب وترهيب؟

الشبهة الرابعة: رواية الرضي قدس سره

من جملة الأمور التي أشكلت على كتاب (نهج البلاغة) أن الذي تولى جمعه وروايته هو الشريف الرضي قدس سره، وهذا الرجل قد أجمع الخاصة والعامة على أنه شيعي جلد، فكيف تقبل روايته وهذا حاله؟

ولذلك قال الدكتور سالوس وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضي كما سيأتي فإن هذا الشاعر رافضي جلد، لا يُحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته، وهذا يعني أن نهج البلاغة لو كان مسنداً عن طريقه فلا يجوز الاحتجاج بما جاء فيه، فلو كان مسنداً فليس بحجة، فما بالك إذا خلا تماماً عن الإسناد؟ (2).

وهذا الإشكال من أعجب ما رأيت؛ فإن لسان حال صاحبه هو أنه لو

ص: 66


1- أعيان الشيعة 79/1.
2- مع الشيعة الاثني عشرية 1/ 217.

جئتمونا بأي حجة فلن نقبل منكم كتاب (نهج البلاغة)، شاء من شاء وأبى من أبى، وهذا هو التعصب الأعمى الممقوت الذي دمَّر هذه الأمة، وقطّع أوصالها على مرّ السنين.

إن هذه الكلمات تدل على جهل صاحبها بعلم الحديث والرجال عند أهل السنة والجماعة إذ أنّ علماء هذه الصنعة قد نصوا على أنّ فساد المعتقد لا يضر بصدق الرّاوي، فتجوز الرواية عندهم عن الرافضي الجلد كما عَبَّر السالوس وعن الخارجي، وعن المعتزلي، وعن القدري، وغيرهم.

ولهذا قال الذهبي في السِّيَر: هذه مسألة كبيرة، وهي القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا عُلِمَ صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعياً إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته والعمل بحديثه، وتردَّدوا في الداعية، هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية، ووجدناه عنده سنة تفرد بها، فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام، ولم تبح دمه، فإن قبول ما رواه سائغ، وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، الذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة، ولم يُعَدّ من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يُقبَل حديثه (1).

وقال المعلمي اليماني: وقد وثَّق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة، واحتجوا بأحاديثهم، وأخرجوها في الصِّحاح، ومن تتبَّع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهره بدعهم، وأهل العلم يتأوّلون تلك الأحاديث، غير طاعنين فيها ببدعة راويها، ولا في راويها بروايته لها (2)..

ص: 67


1- سير أعلام النبلاء 154/7
2- التنكيل 1 / 50.

ولو راجعنا كتب الحديث لوجدنا أن كلام المعلمي دقيق جدًّا، إذ أن صحاح القوم تعج بروايات المبتدعة على حد تعبيرهم.

فقد روى البخاري عن عمران بن حطان، وهو من رؤوس الخوارج ومن دعاتهم، بل من المغالين في بغض أمير المؤمنين علیه السلام، وقد ذكره ابن حجر في فتح الباري بقوله: عمران بن حطان السدوسي الشاعر المشهور، كان يرى رأى الخوارج. قال أبو العباس المبرد: كان عمران رأس القعدية من الصفرية، وخطيبهم وشاعرهم. انتهى. والقعدية: قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ولا يرون الخروج، بل يزيِّنونه، وكان عمران داعية إلى مذهبه وهو الذي رثى عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي علیه السلام بتلك الأبيات السائرة

(1).

والأبيات التي أشار لها ابن حجر هي التي ذكرها في كتابه (الإصابة في معرفة الصحابة)، وهي قوله:

يا ضربةً مِنْ تقيٍّ ما أرادَ بها *** إلا ليبلُغَ مِنْ ذي العرشِ رِضوانا

إني لأذكرُه يوماً فأحسبُه *** أوفى البريةِ عندَ اللهِ ميزانا (2)

وقد كفانا مؤونة الرّد على هذا النصب والبغض أحد الشعراء الذي عارض هذه الأبيات بقوله:

يا ضربةً مِنْ شقيٍّ ما أرادَ بها *** إلا ليهدمَ مِنْ ذي العرشِ بُنيانا

إني لأذكرُه يوماً فألعنُه دِيناً *** وألعنُ عمرانَ بنَ حطانا

وردّ عليه آخر بقوله:

يا ضربةً مِنْ غدورٍ صار ضاربُها *** أشقى البرية عندَ اللهِ إنسانا.

ص: 68


1- فتح الباري 577/1.
2- الإصابة 232/5.

إذا تفكَّرتُ فيه ظَلْتُ ألعنُه *** وألعنُ الكلبَ عمرانَ بنَ حطانا

ورغم هذا النصب الواضح والانحراف الجلي فإن البخاري روى عن هذا الرجل في صحيحه الذي يعتبر عند القوم أصح الكتب بعد كتاب الله.

وروى البخاري أيضاً عن عباد بن يعقوب الرواجني، وهو من رؤوس الشيعة ومن دعاتهم وقد ذكره ابن حجر في مقدمة الفتح قائلاً: عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد، رافضي مشهور، إلا أنه كان صدوقاً، وثّقة أبو حاتم، وقال الحاكم: كان ابن خزيمة إذا حدَّث عنه يقول: «حدَّثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه: عباد بن يعقوب»، وقال ابن حبان: كان رافضيًّا داعية، وقال صالح بن محمد كان يشتم عثمان رضي الله عنه (1).

أما مسلم فصحيحه لا يخلو أيضاً من رواة مبتدعة على حدِّ تعبيرهم، فقد روى عن عدي بن ثابت، وهو من كبار الشيعة، بل من علمائهم، وقد ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال، فقال: عدي بن ثابت عالم الشيعة وصادقهم وقاصّهم وإمام مسجدهم (2).

وروى أيضاً عن أبان بن تغلب فقيه الشيعة وعالمهم، وقد أجمع الكل على تشيعه، ولذلك ترجم له الذهبي في الميزان بقوله: أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته (3).

ولو أردنا سرد أسماء (الرافضة) الذين روى عنهم أصحاب الصحاح والسنن لاحتجنا إلى مجلد كامل لاستقصاء كل الأسماء، وقد أجاد الشيخ محمد جعفر الطبسي بتأليفه كتاباً في هذا الموضوع أسماه: (رجال الشيعة في أسانيد 1.

ص: 69


1- فتح الباري 551/1.
2- میزان الاعتدال 61/3.
3- نفس المصدر 118/1.

السنة)، جمع فيه رواة الشيعة في الكتب الستة.

بقي هنا أمر واحد لا بد من الإشارة إليه من باب إنصاف الرجل، وهو أنه قد يتمسك البعض بالقول الشائع على الألسن، وهو أن بعض أئمة الحديث قد فصلوا في رواية المبتدع، فردّوا رواية الداعية، أو ما يقوي بها بدعته، وقبلوا رواية ما سواه.

قال الخطيب البغدادي في الكفاية: وقال كثير من العلماء: يُقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم، وممن ذهب إلى ذلك أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل (1).

والجواب على هذا:

أولاً: أن هذا الرأي وإن نصَّ عليه بعضهم إلا أنه لم يلتزم به كبار الحفاظ وأئمة الحديث وقد ذكرنا أمثلة من الصحيحين فكيف بالكتب التي هي دونها؟

ثانياً: هذا الرأي مبتدع مجعول ولا دليل عليه لا من العقل ولا من النقل، بل هو مجرد اتباع للهوى، وقد صرَّح العلماء أن أول من قال بهذا التفصيل هو الجوزجاني.

قال السخاوي في فتح المغيث: قال شيخنا: إنه قد نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل: ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه، لكنه مخذول في بدعته مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف، وليس بمنكر، إذا لم تقو به.

ص: 70


1- الكفاية في علم الرواية 149.

بدعتهم فيتهمونه بذلك (1).

وقد نصَّ أحد أئمة الحديث المعاصرين الذي أُطلق عليه (ذهبي العصر) وهو المعلمي اليماني عن سبب جعل الجوزجاني لهذه القاعدة، فقال: والجوزجاني فيه نَصْب، وهو مولع بالطعن في المتشيِّعين كما مر ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلة اتفق أئمة السنة على توثيقهم، وحسن الثناء عليهم، وقبول روايتهم، وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم يُنسبوا إلى التشيع، حتى قيل لشعبة: حدثنا عن ثقات أصحاب، فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور. راجع تراجم هؤلاء في تهذيب التهذيب، فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مروياتهم، وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت (2).

إذن هذه القاعدة التي كثيراً ما يتبجَّح بها البعض هي من وضع ناصبي للتخلص من مرويات أهل البيت علیهم السلام وطمس آثارهم، والدكتور السالوس يسير على هذا النهج الناصبي بشهادة علمائهم في محاولة لتسقيط كتاب (نهج البلاغة).

ثالثاً: لو قبلنا هذه القاعدة وعملنا بها لكان أول شيء يُرَدّ هي نفس القاعدة؛ وذلك أن مفاد هذا المبنى الرجالي أن المبتدع الداعية ترد روايته و درايته، خصوصاً إذا كان هذا الأمر يقوّي بدعته، وهذا الرجل المسمّى بالجوزجاني مبتدع، إذ أن الكل شهد على أنه ناصبي منحرف عن علي علیه السلام، وقد نقلنا شهادة المعلمي اليماني بذلك، ونضيف عليه ما نقله ابن حجر العسقلاني.

ص: 71


1- فتح المغيث 1 / 331.
2- التنكيل 1 / 124.

من اتفاق كلمات الرجاليين على نصبه.

قال في تهذيب التهذيب: وقال ابن حبان في الثقات: كان حروري المذهب، ولم يكن بداعية، وكان صلباً في السنة، حافظاً للحديث، إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدّى طوره. وقال ابن عدي: كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي، وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف عن علي، اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فروجة لتذبحها، فلم تجد من يذبحها، فقال: سبحان الله، فروجة لا يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوة نيِّفاً وعشرين ألف مسلم. قلت: وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان حَرِيْزِيُّ المذهب، وهو بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، وبعد الياء زاي، نسبةً إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب، وكلام ابن عدي يؤيِّد هذا (1).

ومن هنا نقول: إن هذه القاعدة جاء بها المبتدع الجوزجاني لنصرة مذهبه وتقوية بدعته، فهي مردودة عليه، ومحكوم ببطلانها.

فلا يبقى وجه للإشكال مع بطلان ما ذهب إليه السالوس وبإضافة ما قدمناه في أول الكتاب من إجماع الأمة على وثاقة وعدالة وجلالة الشريف الرضي قدس سره.

الشبهة الخامسة: المشتركات

ذكر ابن تيمية مطعناً آخر في (نهج البلاغة)، وهو أن الكلام المنسوب في الكتاب لأمير المؤمنين قد نُسب لغيره أيضاً، وهذا يعني أن الشريف الرضي رضي الله عنه أخذ من كلمات فصحاء العرب ونسبها لأمير المؤمنين علیه السلام لإثبات فصاحته وبلاغته.

ص: 72


1- تهذيب التهذيب 159/1.

ولهذا قال في منهاج السنة: وأيضاً فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره، لكن صاحب (نهج البلاغة) وأمثاله أخذوا كثيراً من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يُحكى عن علي أنه تكلم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره، ولهذا يوجد في (كلام البيان) والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي، وصاحب (نهج البلاغة) يجعله عن علي (1).

والجواب على هذا الإشكال يكون في نقاط:

أولاً: لم يبيِّن ابن تيمية مقدار تلك الأحاديث والروايات المشتركة بين أمير المؤمنين علیه السلام وبين غيره من الناس، بل إن ابن تيمية لم يأت بمثال واحد على تلك الخطب المشتركة، ووجود جملة من الأحاديث التي نشك في صحة نسبتها القائلها لا يعني الحكم على الكتاب كله بالوضع أو بالكذب، غاية ما في الأمر أن هذه الخطب بخصوصها ينبغي التأكد من أنها لعلي علیه السلام أو لغيره.

علماً أن الصفدي نقل عن ابن تيمية كلاماً آخر، حيث قال: سمعت الشيخ الإمام العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ليس كذلك، بل الذي فيه من كلام علي بن أبي طالب معروف، والذي فيه للشريف الرضي معروف (2).

وهنا يحق لنا أن نتساءل: إذا كانت الكلمات الثابتة لأمير المؤمنين علیه السلام في کتاب (نهج البلاغة) معروفة، ويسهل تمييزها عن غيرها، فلماذا لم يتحفنا المخالفون بكتاب (صحيح نهج البلاغة) كما فعل الشيخ محمد ناصر الألباني مع السنن الأربعة؟.

ص: 73


1- منهاج السنة 55/8.
2- الوافي بالوفيات 2/ 277.

لماذا لا نسمع من القوم إلا عبارات الطعن والتجريح في هذا السفر الجليل، ولم نسمع يوماً رجلاً منهم يحتج بفقرة من فقراته أو يذكر كلمة من كلماته أو خطبة من خطبه إلا إذا كانت ذكر تلك الخطبة بغرض الاحتجاج بها على الشيعة؟

ثانياً: الأمر المهم الذي يجب أن يلاحظ في استدلال ابن تيمية الحرّاني هو أنه ذكر أن الكلام الذي نسبه الشريف الرضي قدس سره الأمير المؤمنين علیه السلام قد نُسب لغيره من الناس، وهذا ما يدل على كذب الرضي!

والسؤال الذي يطرح بقوة: لماذا جزم ابن تيمية أن الرضي قدس سره هو الذي سرق كلام الغير ونسبه لأمير المؤمنين علیه السلام؟

ما هو الدليل الذي يمنع الاحتمال الثاني: وهو أن يكون ذلك الغير قد سرق كلمات أمير المؤمنين علیه السلام ونسبها لغيره؟

ألا يدل هذا على وجود ضغينة في قلب ابن تيمية الحرّاني على أمير المؤمنين علیه السلام تجعله يحاول سلب كل منقبة ومفخرة له؟

هذا الكلام ليس على سبيل الاحتمال بل هو حقيقة اعترف بها جملة من علماء المخالفين.

منهم: ابن حجر العسقلاني، حيث قال: طالعت الرد المذكور [يعني منهاج السنة] فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء، لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات لكنه ردَّ في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها؛ لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدَّته

ص: 74

أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه (1).

وقال في الدرر الكامنة: ومنهم من ينسبه [ يعني ابن تيمية ] إلى النفاق؛ لقوله في علي ما تقدَّم، ولقوله: إنه كان مخذولاً حيث ما توجه، وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الریاسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله: أبو بكر أسلم شيخاً يدري ما يقول، وعليٌّ أسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه على قول، وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل ومات ما نسبها من الثناء على ... وقصة أبي العاص ابن الربيع، وما يؤخذ من مفهومها، فإنه شنَّع في ذلك، فألزموه بالنفاق؛ لقوله صلی الله علیه و آله و سلم: «لا يبغضك إلا منافق» (2)

علماً أن ابن تيمية احتج في دعواه السابقة بما نقله الجاحظ، وهذا الأخير قد عُرف بالزندقة والنصب لأمير المؤمنين علیه السلام، فلا ندري كيف جعله ابن تيمية حكماً في مثل هذه القصة؟

قال فيه الذهبي: عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل، قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون، قلت: وكان من أئمة البدع (3).

فهل يحتج ابن تيمية بإمام من أئمة البدع كما عبَّر الذهبي لينصر بدعته ويوافق هواه؟

ثالثاً: نحن نجزم ونقطع أن ما ذكره الجاحظ ونسبه لغير أمير المؤمنين علیه السلام هو سرقة أدبية لغرر كلمات الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ودرر خطبه 7.

ص: 75


1- لسان الميزان 319/6.
2- الدرر الكامنة 1/ 155.
3- میزان الاعتدال 3 / 247.

و نستدل على ذلك بأمرين:

الأمر الأول: أن الجاحظ الذي احتج به ابن تيمية قد عُرف بأنه يكثر من رواية أكاذيب غيره وينسب للثقات ما لم يقولوه، ولذلك قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: وقال ابن حزم في (الملل والنحل): كان أحد المجان الضلال، غلب عليه الهزل، ومع ذلك فإنا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره. وقال أبو منصور الأزهري في مقدمة تهذيب اللغة: وممن تكلّم في اللغات بما حصره لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم: الجاحظ، وكان أوتي بسطة في القول، وبياناً عذباً في الخطاب، ومجالاً في الفنون، غير أن أهل العلم ذبّوه، وعن الصدق دفعوه. وقال ثعلب: كان كذَّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس (1).

وعليه، فلا يمكن الاحتجاج بما نقله الجاحظ بأي حال من الأحوال بعدما تبيَّن لك رأي العامة فيه.

الأمر الثاني: اعترف جملة من علماء المخالفين بأن هناك من امتهن سرقة خطب أمير المؤمنين علیه السلام، ونسبها لنفسه؛ كي يظهر بصورة الخطيب المفوّه الذي لا يُشقّ له غبار على المنابر.

من ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على (نهج البلاغة)، حيث قال: أما الفصاحة: فهو علیه السلام إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: «دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين»، ومنه تعلَّم الناس الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت. وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق.

ص: 76


1- لسان الميزان 357/4.

إلا سعة وكثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (1).

ولكن قد يقول قائل: إن هذا الكلام لا دلالة فيه على السرقة الأدبية التي ادّعيتها؛ لأن هؤلاء اعترفوا بأنهم استفادوا من خطب أمير المؤمنين علیه السلام لتعلُّم الفصاحة والبلاغة.

وردّنا على هذا أن هذا النّص يفهم بضميمة شاهد آخر، وهو ما ذكره ابن الجوزي في تاريخه حيث قال في ترجمة ابن نباتة: كان يتكلم على الناس قاعداً وربما قام على قدميه في دار سيف الدولة من الجامع، وكان يقال: إنه كان يحفظ كتاب (نهج البلاغة)، ويغيِّر ألفاظه، وكانت له كلمات حسان في الجملة. توفي في يوم الجمعة حادي عشر رجب هذه السنة، وصلي عليه وقت صلاة الجمعة (2).

والنص واضح جلي لا يحتاج إلى شرح ولا إلى بيان، فإن ابن نباتة كان يحفظ خطب أمير المؤمنين علیه السلام، ويغيِّرها، ثم ينسبها لنفسه؛ لكي يثبت قدميه في ميدان أهل البلاغة والفصاحة.

والدليل الأقوى على صحّة ما ذهبنا إليه هو محاولة التغطية على هذه الجريمة التي ارتكبها ابن نباتة في حق تراث أمير المؤمنين علیه السلام، وذلك بتحريف الكلم عن موضعه!

فعندما تعرَّض ابن كثير في (البداية والنهاية) لترجمة محمد الفارقي أبي عبد الله الواعظ، قال: أبو عبد الله الواعظ، يقال إنه كان يحفظ (نهج البلاغة) ويعبر ألفاظه وكان فصيحاً بليغاً، يُكتب كلامه ويروى عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية (3)..

ص: 77


1- شرح نهج البلاغة 35/1.
2- المنتظم في التاريخ 186/18.
3- البداية والنهاية 323/12.

أراد ابن كثير الدمشقي تغطية جريمة الفارقي المتمثلة في سرقة وتحريف كلام أمير المؤمنين علیه السلام، فحرّف النص من عبارة: «كان يحفظ نهج البلاغة، ويغيّر ألفاظه»، إلى عبارة «كان يحفظ نهج البلاغة ويعبِّر ألفاظه»، أي يشرح ويُفسِّر فقرات النهج!

ومن هنا عرض ابن أبي الحديد المعتزلي نماذجا من السرقات الأدبية التي اقترفها الفارقي في شرحه على النهج:

قال في معرض تعليقه على خطبة للفارقي: هذا آخر خطبة ابن نباتة، فانظر إليها وإلى خطبته علیه السلام بعين الانصاف تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل، أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثر التوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الألفاظ، ألا ترى إلى فجاجة قوله: "كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ"! وكذلك ليس يخفى نزول قوله: "تندون من عدوكم نديد الإبل وتدرعون له مدارع العجز والفشل" وفيها كثير من هذا الجنس إذا تأمله الخبير عرفه، ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، ألا ترى أن قوله علیه السلام: "أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة"، قد سرقه ابن نباتة، فقال: " فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان وأوسع أبواب الرضوان، وأرفع درجات الجنان"! وقوله علیه السلام: " من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم"، سرقه أيضا، فقال: "صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه، وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه"، وقوله علیه السلام: "قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ..." إلى آخره، سرقه أيضا، فقال: "كم تسمعون الذكر فلا تعون، وتقرعون بالزجر فلا تقلعون"! وقوله علیه السلام: "حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان" سرقه أيضا، وقال: "وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله"، وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأمير المؤمنين علیه السلام

ص: 78

أخر، سيأتي ذكرها (1).

فهذا غيض من فيض وإلا فجل الحكم المتداولة والتي تُنسب لفلان وفلان هي بالأساس حكم الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، لكن جار عليها الزمان وانتحلها ضعيفو الإيمان.

فالشبهة التي طرحها ابن تيمية لا ترقى إلى مستوى الإشكال المستلزم للتشكيك في (نهج البلاغة)، بل هو إشكال منا على الطرف المقابل.

الشبهة السادسة: علم الغيب

اشارة

تعرَّض بعض النقّاد إلى إشكال آخر حول (نهج البلاغة)، وهو أن بعض فقرات هذا الكتاب احتوت على إخبار بأحداث مستقبلية، مما يوحي بأن المتكلم يرى أنه يعلم الغيب، إذ أنه يورد هذه الأحداث على سبيل الجزم والقطع، لا على سبيل الاحتمال والظن، وهذا الشيء لا يمكن أن يصدر من أمير المؤمنين علیه السلام لأن علم الغيب لا يكون إلا لله عزّ وجلّ.

وممن طرح هذه الشبهة عباس محمود العقاد في عبقرياته، حيث قال: ومن المحقَّق الذي لا خلجة فيه من الشك أن النبوءات التي جاءت في (نهج البلاغة) عن الحجاج بن يوسف وفتنة الزنج، وغارات التتار، وما إليها، هي من مدخول الكلام عليه ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع الحوادث بزمن قصير أو طويل (2).

و ذكر أيضاً هذا الإشكال محمد محي الدين عبد الحميد في مقدمته الشرح محمد عبده لكتاب (نهج البلاغة)، وبعض النقّاد المتأخرين.

وهذا الإشكال مبني على مقدمة فاسدة، وهي أن علم الغيب من

ص: 79


1- شرح نهج البلاغة 2/ 82.
2- عبقرية الامام 192.

مختصات الله عزّ وجل، ولا يمكن لأحد من الناس أن يطّلع على الغيب، وهذا باطل بالضرورة؛ لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تشهد بإمكانية ذلك، بل بوقوعه في بعض الناس من أنبياء وغيرهم.

الأدلة القرآنية

منها: قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ﴿٢٦﴾ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ﴿٢٦﴾﴾ [الجن: 26، 27].

والآية صريحة في أن الله يطلع على غيبه بعض من ارتضى من عباده.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49].

وهنا عيسى بن مريم علیه السلام يصرّح أن من آياته إخباره ما يدّخر الناس في بيوتهم، وهذا من علم الغيب بلا شك.

ومنها قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴿٧٩﴾ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴿٨١﴾ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴿٨٢﴾﴾ [الكهف: 79، 82].

فمجموع هذه الآيات تثبت أن جملة من عباد الله قد أطلعهم الله تعالى على غيبه، وكشف لهم عن المستقبل؛ ليكون ذلك آية على صدقهم وعلامة صلاحهم.

ص: 80

ولكن قد يقول قائل: إن هذه الآيات معارضة بآيات أخر تحصر علم الغيب بالله جلَّ جلاله، وتنفي حصول غيره عليه، مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65]، وقوله عزّ من قائل: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59]، فكيف يكون الجمع بينها؟

الجواب على هذه الطائفة من الآيات أن تحمل على العلم الذاتي الاستقلالي، وليس العلم الحصولي المفاض من الباري عزَّ وجل.

وبيانه أن الإنسان مهما بلغ في الكمال لا يستطيع أن يطّلع على الغيب بنفسه بحيث يستغني عن الله عزّ وجل في ذلك، بل لا يكون العلم إلا بإفاضة منه سبحانه وإكرام لعباده.

فالذي يعلم الغيب بذاته هو الله سبحانه وحده دون غيره، فإنه لا يحتاج لمعرفة الغيب إلى أحد، وأما غيره سبحانه فلا يعلم الغيب إلا بإفاضة من الله تعالى وبتعليم له.

وهذا هو المعنى غير الاستقلالي الذي يثبته الشيعة لأئمتهم؛ وليس المعنى الأول الذي يلزم منه كفر القائل به.

ولهذا قال الشيخ المفيد قدس سره: فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد؛ لأن الوصف بذلك إنما يستحقه مَنْ عَلِمَ الأشياء بنفسه، لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلا الله عزّ وجل (1).

وهذا المعنى قد أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة المذكورة في (نهج البلاغة) حيث قال: فقال له بعض أصحابه: لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك علیه السلام، وقال للرجل وكان كلبيًا يا أخا كلب ليس هو بعلم.

ص: 81


1- أوائل المقالات 1/ 67.

غيب، وإنما هو تَعَلُّم من ذي علم (1).

ولم يختص الشيعة بهذا التفسير، بل وافقهم عليه جملة من مفسِّري أهل السنة والجماعة عند تعرّضهم للطائفة الثانية من الآيات:

منهم: المناوي الذي قال: وأما قوله: (لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ) فمفسَّر بأنه لا يعلمها أحد بذاته ومن ذاته إلا هو، لكن قد تعلم بإعلام الله، فإن ثمة من يعلمها، وقد وجدنا ذلك لغير واحد، كما رأينا جماعة علموا متى يموتون وعلموا ما في الأرحام حال حمل المرأة بل وقبله (2).

ومنهم: ابن كثير في تفسيره فإنه قال: هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وكذلك إنزال الغيث، لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى، أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه (3)

وكذلك قال غيرهما من علماء أهل السنة، سواء من المفسرين أو من شراح الحديث الذين حملوا هذه الآيات القرآنية على ذلك.

الأدلة الروائية:

نصَّت جملة من الروايات الصحيحة على أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم وجملة من الصحابة كانوا يعلمون الغيب ويخبرون به غيرهم.

ص: 82


1- نهج البلاغة 2/ 11.
2- فيض القدير 671/5.
3- تفسير ابن كثير 462/3.

منها: ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة أنه قال: أخبرني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة (1).

وهذا الحديث يثبت أن النبي كان يعلم ما سيكون إلى يوم القيامة، بل أخبر حذيفة بن اليمان بذلك حتى عُرِف بأنه صاحب سرّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة، قال: حفظت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا البلعوم (2).

وقد ذكر شرّاح الحديث بأنّ الوعاء الثاني احتوى على الملاحم والفتن التي ستحصل، وبالخصوص حُكّام الجور.

قال ابن حجر في فتح الباري: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكنّي عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله: «أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان» يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة (3).

إذن فأبو هريرة يعلم بعض الغيب الذي سيحصل في المستقبل أيضاً من فتن وملاحم وحُكّام بتعليم من النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

ومنها: ما رواه مسلم بسنده عن أبي زيد يعني عمرو بن أخطب، قال: صلى بنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل.

ص: 83


1- صحیح مسلم 8 / 73.
2- صحيح البخاري 38/1.
3- فتح الباري 193/1.

فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمُنا أحفظُنا (1).

وهذه الرواية نصّ صريح في أن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم قد اطلّع على الغيب، وأطلع جل الصحابة عليه، فلماذا لا يُقبل من أمير المؤمنين علیه السلام أن يخبر بما أطلعه عليه أخوه وابن عمه المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، ويُقبل من غيره؟

هذا ما يسمونه سياسة الكيل بمكيالين في هذه الأيام، إذا أخبر أحد الصحابة بمغيبات فإنها تعد من كراماته وفضائله وأما إذا أخبر أمير المؤمنين علیه السلام بشيء من ذلك، فإن هذا الشيء يصبح مدعاة لتسقيط الخبر وتكذيبه!

و مما يناسب المقام ما رواه ابن كثير بسنده عن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدّث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسان مَلَك، وقد ذكرنا في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشياء كثيرة، ومن مكاشفاته وما كان يخبر به من المغيَّبات، كقصة سارية بن زنيم وما شاكلها، والله الحمد والمنة (2).

انظر أخي القارئ إلى عمر بن الخطاب فإنه يجوز له أن يخبر بالمغيبات والمكاشفات، وتعد هذه الإخبارات من جملة كراماته، لا لشيء إلا لأنه عمر، ولأن الراوي هو ابن كثير، أما الشريف الرضى قدس سره فلا يجوز له نقل كرامة واحدة من هذا القبيل لجدّه أمير المؤمنين علیه السلام.

ولو كان هذا الناقد مطلعاً على بطون الكتب ودفائن الأسفار لعلم أن بعض المنصفين من علماء العامة قد نقلوا جملة من إخبارات أمير المؤمنين علیه السلام بالغيب ونقله بعض حوادث المستقبل..

ص: 84


1- صحیح مسلم 173/8.
2- البداية والنهاية 224/6.

فقد قال ابن حجر في صواعقه: وأخرج عبد الرزاق عن حجر المرادي، قال: قال لي:علي كيف بك إذا أمرت أن تلعنني؟ قلت: أو كائن ذلك؟ قال: نعم. قلت: فكيف أصنع؟ قال العنّي، ولا تبرأ مني. قال: فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج وكان أميراً من قبل عبد الملك بن مروان على اليمن أن ألعن عليًّا. فقلت: إن الأمير أمرني إن ألعن عليّاً فالعنوه، لعنه الله. فما فطن لها إلا رجل، أي لأنه إنما لعن الأمير ولم يلعن عليًّا، فهذا من كرامات علي وإخباره بالغيب (1).

وروى عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح عن أبي الطفيل، قال: شهدت عليًّا وهو يخطب، وهو يقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدَّثتكم به. (2)

وغيرها من الأمور الكثيرة التي شهد بها الخاصة والعامة، مثل إخباره بمقتله، ومقتل ابنه الحسين علیه السلام، وإخباره أنه سيقاتل الخوارج قبل بلوغهم النهر، وأنه لا يبقى منهم عشرة، والكثير الكثير.

فلا ندري لم يطعن في النهج لشيء معروف ومشهور في كتب المسلمين، ولم يطعن في الشريف الرضي قدس سره لشيء شاركه فيه البخاري ومسلم وغالب أئمة الحديث؟

العجيب في صاحب هذا الإشكال أنه لم يتفحّص (نهج البلاغة) جيّداً قبل أن يطرح هذه الشبهة؛ وذلك لأن من جملة الأمور الغيبية الموجودة في النهج غزو التتار، وهذه الحادثة وقعت بعد وفاة الرضي قدس سره بأكثر من مائتي سنة!

فقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في النهج أنه قال: كأني أراهم قوماً كأن.

ص: 85


1- الصواعق المحرقة: 198.
2- تفسير عبد الرزاق الصنعاني 433/1.

وجوههم المجان المطرقة يلبسون السرق والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق ويكون هناك استحرار قتل، حتى يمشى المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور (1).

وعلق ابن الحديد على هذه الخطبة بقوله: واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر علیه السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق، وببلاد ما وراء النهر، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وأن طالت مدّته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دوَّخوا المشرق كله، وتعدّت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى الشام، ووردت خيلهم إلى العراق، وبخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء، وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم (2).

فإن كان ما ورد في النهج من قبيل ذكر الحجاج وانقضاء ملك بني أمية وفتنة الزنج وبعض ملاحم البصرة من الأمور التي يمكن أن ينحلها الرضي قدس سره قدس سره لأمير المؤمنين علیه السلام، فكيف يمكنه ذكر غزو التتار والحال أنه مات قبل هذه الواقعة بحوالي 150 عاماً؟

من هنا نعلم أن صاحب هذا الإشكال لا عقل له؛ لأنه هرب من الالتزام بأن علي بن أبي طالب علیه السلام مطلع على الغيب، فوقع في لازم أكثر بطلاناً وهو أن.

ص: 86


1- نهج البلاغة 2 / 10.
2- شرح نهج البلاغة 218/8.

الشريف الرضي قدس سره كان أيضاً عالماً بالغيب وهذا ما لا يقوله الشيعة وأهل السنة جميعاً.

الشبهة السابعة: الإطناب:

وجد بعضهم منفذاً آخر للطعن في كتاب (نهج البلاغة)، وهو أن جملة من خطبه ورسائله طويلة جدًّا، وهذا غير معهود عند العرب في تلك الحقبة الزمنية، ولعلّ أول من أشار لهذا المطعن هو الدكتور أحمد زكي صفوت الذي قال في الترجمة: يخالج نفوسنا الشك في عهد الأشتر من حيث طوله وإسهابه؛ لاعتبارات نوردها لك ... الأول: أن الخلفاء عهدوا إلى ولاتهم، فلم يؤثر عنهم ذلك الإسهاب في عهودهم ... ويستوقفنا أيضاً من طوال خطبه، خطبتان هما أطول ما أثر عنه بعد عهد الأشتر: القاصعة، وخطبة الأشباح (1).

والجواب على هذا الإشكال من عدة وجوه:

الأول: لا يمكن اعتبار الطول في حدّ ذاته مطعناً في خطب أمير المؤمنين علیه السلام؛ إذ أن الاطناب من الأساليب البلاغية المعروفة التي يدور رحى علم المعاني عليها، فالإطناب والايجاز إنما هما بلحاظ مراعاة مقتضى الحال، فقد يقتضي الحال أن يطنب الخطيب البليغ في كلامه إذا كان في مقام مدح أو كان المخاطب قليل الاستيعاب أو غيره من الموارد التي أشبعت بحثاً في كتب علوم البلاغة.

الثاني: لا يوجد من يقول: إن الإطناب مرفوض في حدّ ذاته، وحتى صاحب الشبهة قال: لا نقول: إن هذا القدر من الطول غير مقبول عقلاً، ولكنا نقول: إن المعروف في ذلك العهد والمتداول بين أيدينا من خطب النبي وخطب

ص: 87


1- ترجمة علي بن أبي طالب: 130.

أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية لا يبلغ هذا الحد، بل ولا نصفه (1).

وعليه فإن النتيجة التي وصل إليها مبنية على استقراء كلام العرب وهذا استقراء ناقص كما يقول المناطقة لا تقوم به الحجة، خصوصاً مع وجود أدلة صريحة تثبت أن الإطناب كان من الأساليب البلاغية الموجودة في كلام العرب، بل كانت علامة البلغاء وميزة الفصحاء.

ومن الشواهد التاريخية التي تدل على شياع الإطناب والإطالة عند العرب ما ذكره الجاحظ في البيان والتبين، حيث قال: والسُّنّة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب، ألا ترى إلى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء، وقال: ما لي فيها أيها العشمتان. قالا: بل ما عندك؟ قال: عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب آمر فيها بالتواصل، وأنهى فيها عن التقاطع.

قالوا: فخطب يوماً إلى الليل فما أعاد فيها كلمة ولا معنى (2).

فالإطالة ليست موجودة فقط في كلام العرب، بل هي سُنّة جارية عندهم في مثل النكاح والعجيب أنه عُدّ من مفاخر قيس بن الخارجة أنه خطب من طلوع الشمس إلى الليل، في حين أن طول خطب أمير المؤمنين علیه السلام في كتاب (نهج البلاغة) لا تبلغ عشر معشار هذا المقدار.

وقد ورد الإطناب في كلام سيّد العرب والعجم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما ذكرنا ذلك فيما سبق مما رواه مسلم في صحيحه من أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم خطب في الناس من بعد صلاة الفجر إلى غروب الشمس لا يقطع كلامه إلا إقامة الصلوات فقط،.

ص: 88


1- ترجمة علي بن أبي طالب: 131.
2- البيان والتبيين: 76.

فأي إطناب أعظم من هذا؟

فهذه الخطبة التي تحدث عنها الراوي دامت قرابة عشر ساعات باستمرار، ولا ندري لماذا لم يعلّق أحد عليها بمثل ما عُلِّق على خطب أمير المؤمنين علیه السلام، أو أن الكيل بمكيالين يمنع من ذلك؟!

وكذلك ورد الإطناب في خطب بعض الصحابة، كسحبان الذي ضُرب به المثل في البلاغة والفصاحة، حتى قيل: أفصح من سحبان!

فقد ذكر ابن الجوزي أنه: كان خطيباً بليغاً يُضرب المثل بفصاحته، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فمن قوله:

لقَدْ عَلِمَ الحَيُّ اليمانيون أنني *** إذا قلتُ: أما بعدُ، أني خطيبُها

فقال له معاوية: اخطب فقال: انظروا لي عصاً تقيم من أودي قالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قارب العصر، ما تنحنح، ولا سعل، ولا توقف، ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه، وقد بقيت عليه بقية فيه، فقال معاوية: الصلاة قال: الصلاة أمامك، ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد، فقال معاوية: أنت أخطب الجن والإنس قال كذلك أنت (1).

وهذا شاهد آخر يدل على ما ذكرناه من أن الإطناب كان فنّا معروفاً عند بلغاء العرب، بل كان علامة عندهم وآية تدل على البراعة في فنون الفصاحة والبلاغة.

وعليه، فإن ما ذكره الدكتور أحمد زكي صفوت لا يرقى إلى مستوى.

ص: 89


1- المنتظم في التاريخ 283/5.

الإشكال العلمي الذي من شأنه أن ينقض عرى هذا الكتاب.

بقي أمر هنا لا بدّ من الإشارة إليه: وهو أن بعض المعاصرين قد شكَّك في كل الخطب الطويلة الواردة عن أهل البيت علیه السلام؛ لعدم ثقته في ضبط الرواة لمثل هذه الأخبار حتى مع طولها فقال: وهنا سؤال محيّر آخر، وهو ضبط المذاكرات وكيقية كتابة الأسئلة والأجوبة، ولم يشر إليه في مطلق الروايات الطوال، نعم قد ذُكر في جملة من الروايات أن الرواة كتبوا ما قاله الإمام، أو استأذن الراوي عنه في الكتابة والإملاء، أو ذكر الراوي كلاماً يُفهَم منه أنه كتب الرواية، لكن ضبط المذاكرات في المجالس أمر مشكل، ويشكل الاعتماد على الروايات الطويلة حتى وإن صحَّت أسانيدها، فضلاً عما إذا ضعفت، فافهم جيداً (1).

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بعدة إجابات:

أولاً: من المعلوم أن العرب كانوا في ذلك العصر أصحاب حافظة قوّية لا تقاس بما نحن عليه اليوم، ولهذا كانوا يحفظون القرآن الكريم والأشعار الطوال بمجرد سماعها مرة واحدة؛ وذلك لاعتمادهم على الذاكرة أكثر من التدوين.

ولعل السبب في هذا هو اتكاؤهم على حافظتهم أكثر من الكتب والمخطوطات، وقد أثبت الطب الحديث أن ذاكرة الإنسان مثل العضلة تتقوّى بالحفظ والممارسة.

ولذلك فإن فلاسفة التاريخ جعلوا من هذا الأمر قاعدة مطّردة في كل الشعوب، ومنهم (ويل ديورانت) الذي قال: أما القبائل الساذجة التي تعيش معظم حياتها عيشاً معتزلاً بالنسبة إلى سواها، وتنعم بالسعادة التي تنجم عن جهل الإنسان بتاريخه الماضي، فلا تحسّ بالحاجة إلى الكتابة إلا قليلاً، ولقد.

ص: 90


1- مشرعة بحار الأنوار 1/ 236.

قویت ذاكراتهم بسبب انعدام المخطوطات التي تساعدهم على حفظ ما يريدون الاحتفاظ به فتراهم يحتفظون ويَعُون، ثم ينقلون ما حفظوه وما وَعَوه إلى أبنائهم بتسميعهم إياه؛ وإنما هم يحفظون ويعون ويُسَمعون كل ما يرونه هاماً في الاحتفاظ بحوادث تاريخهم وفي نقل تراثهم الثقافي (1).

بل إن بعض المؤرَّخين نص على أنّ العرب في صدر الاسلام كان التدوين عنده قبيحاً؛ لمخالفته للذوق العام السائد في ذلك العصر وهو الحفظ، ولذلك قال الدكتور جواد علي: ويظهر أن أسلوب الحفظ والتسجيل في الذاكرة، كان الأسلوب الشائع بين الجاهليين في ذلك الزمن في الإبقاء على النثر أو الشعر، وقد كان هذا الأسلوب متّبعاً عند غير العرب في تلك الأيام، إذ كانوا يقيمون وزناً كبيراً للرواية، حتى إنهم يفضّلون الحفظ على القراءة عن كتاب أو صحيفة، ولا سيما بالنسبة للكتب المقدسة والكتب الدينية الأخرى وفي الامور النابهة مثل الشعر، يرون أن في القراءة ثواباً وأجراً عظيماً، وتعظيماً لشأن المقروء. ولا أستبعد أن تكون هذه النظرة هي التي جعلت أصحاب الرسول يحفظون القرآن، ويتلونه تلاوة من غير قراءة عن كتاب ولا نظر في صحيفة، يتلونه أمام الرسول وبين أنفسهم وبين الناس ولا يقرؤونه عن كتاب، مع أن منهم من كان يقرأ ويكتب وقد جمع القرآن وكان تقدير العالم آنذاك بحفظه، لا بما يكتبه من صحف وبما يؤلفه من مؤلفات، ولهذا أشتهر كثير من العلماء بسعة علمهم، مع أنهم لم يتركوا أثراً مكتوباً؛ لأن العلم بالحفظ لا بالتدوين، وقد ينتقص من شأن العالم إذا تلا علمه عن كتاب، حتى إن كان ذلك الكتاب كتابه؛ لأن القراءة عن كتاب لا تدل على وجود علم عند القارئ، وشأنه إذن دون شأن الحافظ الخازن للعلم في دماغه المملي للعلم إملاءً، وكانوا إذا انتقصوا عالماً قالوا: إنه يتلو عن صحيفة، أو يقرأ عن صحيفة أو كتاب ومن هنا قيل للذي يقرأ في.

ص: 91


1- قصة الحضارة 128/1.

صحيفة ويخطئ في قراءتها: المصحِّفون (1).

فحفظ العرب للخطب والروايات الطويلة ليس بمستغرب ولا مستبعد ولا مستهجن لما قدمنا وإشكال هذا الرجل مبني على المقدار المتعارف من الحفظ الموجود في هذا العصر، وليس على دليل عقلي محكم أو نقلي صحيح، بل لا يعدو كونه قياساً مع الفارق.

ثانياً: من تتبَّع أحوال أصحاب الأئمة علیهم السلام علم أنهم كانوا أكثر النّاس حرصاً على تدوين ما يسمعونه من أحاديث وخطب وحوادث، خصوصاً مع وجود الحث الشديد من جانب المعصومين علیهم السلام على تدوين العلم.

منها قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: قيِّدوا العلم بالكتاب (2).

ومنها قول أمير المؤمنين علیه السلام: من يشتري علماً بدرهم؟ فذهب الحارث الأعور فاشترى صحفاً، فجاء بها (3).

ومنها قول الإمام الحسن علیه السلام: إنكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا کبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه، وليضعه في بيته (4).

ومنها: قول الإمام الحسين علیه السلام: أما بعد فإن هذا الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم وإني أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقت فأصدقوني، وإن كذبت فأكذبوني، واسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومن ائتمنتموه من الناس ووثقتم به،.

ص: 92


1- المفصل في تاريخ العرب 25/14.
2- تحف العقول: 29.
3- الحد الفاصل: 370.
4- بحار الأنوار 152/2.

فادعوه إلى ما تعلمون من حقّنا (1).

وغيرها من الكلمات الكثيرة الواردة عن أئمة الهدى علیهم السلام في حثّ شيعتهم على تدوين علومهم.

وانتقل الأمر من القوة إلى الفعل ومن الحث إلى التدوين الفعلي، فنجد أن الأئمة علیهم السلام قد كتبوا علومهم ودوّنوها.

فأمير المؤمنين علیه السلام قد دوّن الصحيفة الجامعة، وهي كتاب في الحلال والحرام، اشتمل على كل الأبواب الفقهية والأحكام الشرعية، ولهذا روي عن الإمام الصادق علیه السلام بسند معتبر في وصف هذا الكتاب أنه قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإملائه من فلق فيه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش (2).

وكتب أيضاً صحيفة الفرائض التي أظهرها أهل البيت علیهم السلام في أكثر من مورد لخواص أصحابهم.

فقد روي الكليني قدس سره بسند صحيح عن محمد بن مسلم أن أبا جعفر علیه السلام أقرأه صحيفة الفرائض التي أملاها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخط علي علیه السلام بيده فقرأت فيها: امرأة تركت زوجها وأبويها فللزوج النصف: ثلاثة أسهم، وللأم سهمان: الثلث تامًّا، وللأب السدس سهم (3).

وكتب أيضاً تفسيراً كاملاً لكتاب الله عزّ وجل كما رُوي عنه ذلك بسند معتبر، حيث قال علیه السلام: فما نزلت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم آية من القرآن إلا أقرأنيها، وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها،.

ص: 93


1- مستدرك الوسائل 291/17.
2- الكافي 239/1.
3- نفس المصدر 98/7.

ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علماً أملاه عليَّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علّمنيه وحفظته (1).

وقد انتهج الشيعة نهج إمامهم، فكانوا يكتبون كل كبيرة وصغيرة، ولا يتركون شاردة ولا واردة دون تدوين ولذلك كثرت المصنّفات من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام وتلامذته من الرعيل الأول.

منهم: الحارث الأعور الهمداني: فإنه صنَّف كتاباً جمع فيه خطب أمير المؤمنين علیه السلام كما يظهر مما رواه الكليني في الكافي بسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور، قال: خطب أمير المؤمنين علیه السلام خطبة بعد العصر، فعجب الناس من حسن صفته، وما ذكره من تعظيم الله جلَّ جلاله. قال أبو إسحاق: فقلت للحارث: أو ما حفظتها؟ قال: قد كتبتها. فأملاها علينا من كتابه (2).

ومنهم: زيد بن وهب: فإنه صنَّف كتاباً جمع فيه خطب أمير المؤمنين علیه السلام في المواسم والأعياد وغيرها، وقد ترجم له الشيخ الطوسي في الفهرست بقوله: له كتاب خطب أمير المؤمنين علیه السلام على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها (3).

ومنهم: سليم بن قيس الهلالي: وهو من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام صنّف كتابه المعروف بكتاب سليم، ذكر فيه جملة من أخبار وروايات أهل البيت علیهم السلام، والحوادث التاريخية المهمة التي وقعت بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

هذا من باب المثال وإلا فإن أصحاب الأئمة علیهم السلام كانوا مهتمّين أشد.

ص: 94


1- کتاب سلیم بن قيس: 183.
2- الفهرست: 130.
3- الكافي 1 / 141.

الاهتمام بحفظ ما يسمعونه، ومن هنا ألّفوا الكتب المعروفة بالأصول الأربعمائة، وهي أربعمائة كتاب لأربعمائة من الرواة الذين دونوا فيها ما سمعوه من أئمة أهل البيت علیهم السلام في العقيدة والتفسير والفقه والأخلاق والسنن والآداب وغيرها.

فثقافة الكتابة والتدوين كانت موجودة عند أصحاب أئمة أهل البيت علیهم السلام، فلا يصح هذا الإشكال مع وجود العلم الإجمالي بالتدوين والكتابة.

ثالثاً: أن غاية ما يفيده هذا الإشكال هو الشك في ضبط الراوي للخطب الطويلة، لا أنه دليل على بطلانها، وبما أن رواة الغالبية العظمى من الخطب هم من المؤمنين الثقات، فنستصحب حينئذ بقاء ضبط الرواي حتى في حال روايته للخطب الطويلة، ورواية الخطب الطويلة لا تقتضي التشكيك في الضبط المعلوم مسبقاً، وإلا فإن هذا الشك يمكن أن يجري حتى في رواية الأخبار القصيرة، وذلك يقتضي طرح كل روايات الثقات الضابطين، وهذا لا يقوله عالم فاضل.

وقد ورد في أخبار أهل البيت علیهم السلام نهي عن دفع رواياتهم بالشكوك والتخمينات منها ما رواه الكشي بسنده عن صاحب العصر والزمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ: فإنه لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بأننا نفاوضهم سرنا، ونحمله إياه إليهم وعرفنا ما يكون من ذلك انشاء الله تعالى (1).

فمجرد التشكيك لا يمكن أن يكون موهنا للرواية ما لم يعضد بدليل يثبت هذا المدعى ولا دليل في المقام.

رابعاً: المثال الذي جاء به الرجل وهو دعاء عرفة، وشكَّك فيه من ناحية الطول، يمكننا إثباته من جهة المتن، إذ أن مثل هذه المضامين الراقية لا يمكن أن تصدر إلا من عين صافية، وكذلك خطب أمير المؤمنين علیه السلام، فإن حسن.

ص: 95


1- اختيار معرفة الرجال 2/ 816.

سبكها وسلاسة عبارتها وسحر بيانها، وعلو مضامينها، تجعلنا نقطع بصدورها عنه علیه السلام.

فهذه الأجوبة الأربعة تنسف هذا الإشكال من أساسه، وتدفع كل تشكيك قد يرد على الخطب الطويلة في النهج.

الشبهة الثامنة: السجع:

اشارة

ادّعى بعض الكُتّاب أن بعض الأساليب الأدبية المستخدمة في كتاب (نهج البلاغة) لم تكن معروفة في ذلك الوقت، ولعل أهمها السجع.

ولذلك قال أحمد أمين المصري: وقد شكّ في مجموعها النقّاد قديماً وحديثاً، كالصفدي وهوارت واستوجب هذا الشك أمور: ما في بعضه من سجع منمَّق، وصناعة لفظية لا تُعرَف لذلك العصر (1).

وقبل الشروع في الجواب على هذه الشبهة المتهالكة لا بد من تعريف ما هو السجع الذي نبحث فيه؛ لكي يكون القارئ الكريم في الصورة.

السّجع: هو من المحسنات البديعية التي تُبحَث في علم البلاغة، وهو كما عرفوه أرباب الفن: تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، أي أن تتفق الكلمتين الواردة في آخر العبارة أو السياق في بعض الحروف الأخيرة منها، وقد شبّهه بعض علماء البلاغة بقافية الشعر.

مثاله: ما رواه الطبراني أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سمع قس بن ساعدة الأيادي يخطب فيقول: يا أيها الناس اجتمعوا، واستمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آتٍ آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور ... (2).

ص: 96


1- فجر الإسلام: 187.
2- المعجم الكبير للطبراني 88/12.

وبعد هذا التعريف المقتضب نقول: إنه لم يقل أحد من الناس لا من المتقدّمين ولا من المتأخّرين: لإن السجع قبيح، بل أجمع علماء البلاغة على أن السجع من المحسِّنات البديعية التي تضفي على الكلام جمالاً ورونقاً.

ومن هنا نعلم أن إشكال أحمد أمين لم يكن على أصل السجع، بل كان كلامه حول عدم استعمال العرب لهذا الأسلوب من السجع في تلك الحقبة الزمنية، بل ظهر السجع متأخِّراً عنها.

وهذا الإشكال أيضاً مبني على مقدمة جعلها أحمد أمين أمرا مسلّما غير قابل للنقاش، وهو أن العرب لم يعرفوا السجع في تلك الفترة، والحال أننا لو أحسنّا الظن بهذا الرجل لقلنا: إنه أبعد ما يكون عن كلام العرب ونفسهم الأدبي.

إذ أن كلماتهم تطفح بالسجع، بل نادراً ما تجد خطبة لأحد فصحاء العرب تخلو من هذا الأسلوب البلاغي.

والسجع معروف في كلام العرب، بل حتى في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف وكلام الصحابة والتابعين، وإليك التفصيل:

السجع في القرآن:

أهم مصدر لكلام العرب هو القرآن الكريم، والسجع كثير في القرآن الكريم.

قال التفتازاني في مختصر المعاني: (وهو) أي السجع (ثلاثة أضرب مطرَّف إن اختلفتا) أي الفاصلتان في الوزن، نحو: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿١٣﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴿١٤﴾)، فإن الوقار والأطوار مختلفان وزناً.

إلى أن قال: (وإلا فهو متوازٍ) أي وإن لم يكن جميع ما في القرينة أو أكثره

ص: 97

موافقاً لما يقابله من الأخرى فهو السجع المتوازي، (نحو: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ﴿١٣﴾ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ﴿١٤﴾)؛ لاختلاف «سرر» و «أكواب» في الوزن والتقفية معاً، وقد يختلف الوزن فقط، نحو: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿١﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿٢﴾).

إلى أن قال: (قيل: ولا يقال: في القرآن أسجاع) رعاية للأدب وتعظيماً له؛ إذ السجع في الأصل هدير الحَمَام ونحوه، وقيل: لعدم الإذن الشرعي، وفيه نظر؛ إذ لم يقل أحد بتوقف أمثال هذا على إذن الشارع، وإنما الكلام في أسماء الله تعالى (1).

وقد ذكر ابن أبي الحديد شارح (نهج البلاغة) في معرض جوابه على هذه الشبهة أن السجع موجود في القرآن الكريم، فقال: واعلم أن قوماً من أرباب علم البيان عابوا السجع، وأدخلوا خطب أمير المؤمنين علیه السلام في جملة ما عابوه؛ لأنه يقصد فيها السجع، وقالوا: إن الخطب الخالية من السجع، والقرائن والفواصل، هي خطب العرب، وهي المستحسنة الخالية من التكلف ... واعلم أن السجع لو كان عيباً لكان كلام الله سبحانه معيباً؛ لأنه مسجوع كله ذو فواصل وقرائن، ويكفي هذا القدر وحده مبطلاً لمذهب هؤلاء (2).

وهذه شهادة مهمة من رجل شهد له الجميع السنة والشيعة بالتضلع في علوم اللغة والأدب والبراعة فيها.

السجع في الحديث النبوي

لو استقصينا أحاديث النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لوجدنا الكثير من الخطب والأحاديث مسجوعة.

منها: ما رواه مسلم في صحيحه: عن زيد بن أرقم، قال: لا أقول لكم إلا

ص: 98


1- مختصر المعاني 207/2.
2- شرح نهج البلاغة 1/ 128.

كما كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها (1).

وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله: هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليل لما قاله العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف، فإنه يُذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويُلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب، فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر، لكمال الفصاحة ونحو ذلك، أو كان محفوظاً، فلا بأس به، بل هو حسن (2).

إذن من كلام النووي نستنتج أمرين:

أولهما: أن السجع غير المتكلف ليس بقبيح.

والثاني: أن السجع موجود في الحديث النبوي، وبالتالي فهو معروف في تلك الفترة الزمنية، لا كما ادعى أحمد أمين.

وللنووي تصريح آخر حول السجع ننقله لأهميته، فقد قال في شرحه على الصحيح: وأما السجع الذي كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم يقوله في بعض الأوقات وهو مشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارَض به حكم الشرع، ولا يتكلفه، فلا نهى فيه، بل هو حسن، ويؤيِّد ما ذكرنا من التأويل قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «كسجع الأعراب»، فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم، والله أعلم (3).

ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله.

ص: 99


1- صحیح مسلم 82/8.
2- شرح صحیح مسلم 41/17.
3- شرح صحیح مسلم 178/11.

صلی الله علیه و آله و سلم كان يقول: لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده (1).

وقد علق ابن حجر عليه بقوله: هو من السجع المحمود، والفرق بينه وبين المذموم أن المذموم ما يأتي بتكلف واستكراه والمحمود ما جاء بانسجام واتفاق، ولهذا قال في مثل الأول: «أسجع مثل سجع الكهان؟»، وكذا قال كان يكره السجع في الدعاء، ووقع في كثير من الأدعية والمخاطبات ما وقع مسجوعاً، لكنه في غاية الانسجام المشعر بأنه وقع بغير قصد (2).

أما الصحابة فقد ورد أيضاً في كلامهم سجع كثير لا يمكن إحصاؤه، ولا يتسنّى استقصاؤه، وسنكتفي بهذا المثال:

فقد روى ابن شبة بسنده عن عمارة بن غزية قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف، وعبد الله بن السائب بن أبي حبيش، وهم يتذاكرون النسب، فجاء عمر رضي الله عنه حتى سلَّم عليهم ثم جاوزهم فجلس على المنبر، فكبر عليه، قال: فظننا أنه سيتكلم، فرفع رأسه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، أوفوا الطحين واملكوا العجين، وخير الطحين ملك العجين، ولا تأكلوا البيض، فإنما البيض لقمة، فإذا تركت كانت دجاجة ثمن درهم، وإياكم والطعن في النسب اعرفوا مِنْ أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتأخذون به وتقطون به واتركوا ما سوى ذلك، لا يسألني أحد وراء الخطاب، فإنه لو قيل: لا يخرج من هذا المسجد إلا بهيم بن هبوب ما خرج منهم أحد (3).

وهذه الخطبة فيها فائدتان:.

ص: 100


1- صحيح البخاري 49/5.
2- فتح الباري 313/7.
3- تاريخ المدينة 797/3.

الأولى: هو وجود كلام مسجوع للصحابة كما في هذه الخطبة مثل: (أوفوا الطحين واملكوا العجين وخير الطحين ملك العجين) وهذا كاف لإسقاط مدّعى أحمد أمين.

الثانية: هو الفرق الشاسع والبون الواسع بين الكلام المنسوب لعلي بن أبي طالب علیه السلام وبين غيره من الصحابة مثل عمر بن الخطاب، ولعل هذا هو السبب في محاولتهم إسقاط كتاب (نهج البلاغة)؛ لكونهم لا يرضون بإثبات منقبة له في مقابل صحابتهم.

ولهذا قال ابن أبي الحديد المعتزلي: ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة، وحسبك أنه لم يدوَّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دُوِّن له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه (1).

ونختم الرد على هذا الإشكال الواهي بملاحظة مهمة جدّا، هي أنّ أحمد أمين استشهد في معرض كلامه بشخصيتين، هما الصفدي وهوارت.

أمّا الأول فقد ذكرنا سابقاً أنه مجرّد مقلد أعمى لابن خلِّكان، ولا رأي له في الأمر، فلا ندري كيف اعتبره من النقّاد الذين يُعتدّ برأيهم؟

أمّا الثاني (2) فهو من المستشرقين الذين جعلوا شغلهم الشّاغل الطعن في.

ص: 101


1- شرح نهج البلاغة 26/1.
2- کلیمان هوارت: باحث مستشرق فرنسي، من أعضاء المجمع العلمي العربي، والمجمع العلمي الفرنسي، والجمعية الآسيوية. ولد بباريس، وتعلم بمدرسة اللغات الشرقية فيها، وتكلم العربية الجزائرية العامية في طفولته، وعُيّن ترجماناً للقنصلية الفرنسية بدمشق سنة 1875، وبالآستانة سنة 1878، وعاد إلى باريس سنة 1898، وهو يحسن العربية والتركية والفارسية، فكان ترجماناً في وزارة الخارجية. ومثّل حكومته في مؤتمري المستشرقين بالجزائر سنة 1905، وفي كوبنهاجن 1908، وألّف عدة كتب.

كل الإسلام، فلم يترك عروة فيه إلا حاول نقضها، ولا دعامة إلا سعى لهدمها، وهو أول من أثار شبهة اقتباس النبي المصطفى علیه السلام القرآن من أشعار الجاهلية، لا سيما من شعر أمية بن أبي الصّلت وأمرئ القيس!

فلا ندري هل يوافق أحمد أمين هذا الرجل على نقده للقرآن واتهامه للرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بتأليف القرآن و نسبته لساحة الرحمن؟

علماً أنّ أحمد أمين عُرِفَ بملء كتبه بالتقوّل على الشيعة، ونسبة أمور لهم لا يقولون بها، ولا يقرّونها، ولمّا واجهه علماء النجف الأشرف في ذلك اعتذر بعدم اطلاعه على كتب الشيعة!

وقد نقل الشيخ كاشف الغطاء ما دار بينه وبين أحمد أمين في النجف في كتابه (أصل الشيعة وأصولها)، فقال: ومن غريب الاتفاق أن أحمد أمين في العام الماضي 1349 هجري بعد انتشار كتابه، ووقوف عدة من علماء النجف عليه زار مدينة العلم، وحظي بالتشرف بأعتاب باب تلك المدينة في الوفد المصري المؤلف من زهاء ثلاثين بين مدرس وتلميذ، وزارنا بجماعته، ومكثوا من ليلة من ليالي شهر رمضان في نادينا في محفل حاشد، فعاتبناه على تلك الهفوات عتاباً خفيفاً، وصفحنا عنه صفحاً جميلاً، وأردنا أن نمر عليه كراماً، ونقول له سلاماً ... وكان أقصى ما عنده من الاعتذار عدم الاطلاع وقلة المصادر؟! فقلنا: وهذا أيضاً غير سديد، فإن من يريد أن يكتب عن موضوع يلزم عليه أولاً أن يستحضر العدة الكافية، ويستقصي الاستقصاء التام وإلا فلا يجوز له الخوض فيه والتعرض له، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهز خمسة آلاف مجلد أكثرها من كتب علماء السنة، وهي في بلدة كالنجف فقيرة من كل شيء إلا من العلم والصلاح إن شاء الله، ومكتبات القاهرة ذات

ص: 102

العظمة والشأن خالية من كتب الشيعة إلا شيئاً لا يذكر (1).

ولهذا فلا يمكن الاعتماد على ما ينقله هذا الرجل، ولا ما يقوله؛ لاعترافه بعدم اطلاعه على كتب الشيعة واعتماده على ما ينقله الغير.

الشبهة التاسعة: التوحيد

طعن بعضهم في كتاب نهج البلاغة من جهة احتوائه على خطب وكلمات في التوحيد موافقة لما عليه المعتزلة وهذا دليل على أن هذه الخطب موضوعة؛ لأن الشريف المرتضى قدس سره كان من ينتمي إلى المعتزلة.

قال الشيخ صالح الفوزان: ومن المطاعن على كتاب (نهج البلاغة) مما لم يذكره الدكتور ما فيه من الاعتزال في الصفات؛ لأن الرافضة اعتمدوا على كتب المعتزلة في العقليات، فوافقوهم في القدر وسلب الصفات، وكان المرتضى واضع كتاب (نهج البلاغة) أو المشارك في وضعه كما أسلفنا معتزليَّا، بل قال عنه ابن حزم: إنه من كبار المعتزلة الدعاة كما نقله عنه الذهبي في الميزان، ومن هذا المشرب الكدر حشي (نهج البلاغة) (2).

هذه الشبهة المطروحة هي من أسخف الأشكالات المطروحة حول هذا الكتاب؛ إذ أن لسان حال هذا المشكل هو قوله: نحن نرفض كتاب (نهج البلاغة) لأنه يخالف ما نعتقده، لا لوجود مشكلة فيه.

فالرجل لا ينطلق من الدليل إلى المعتقد، بل هو يحكم معتقده الراسخ في ذهنه على النصوص الموجودة، فإن وافقت ما عنده قبلها، وإن خالفته رفضها وإن كانت صحيحة، ولذلك فهو لا يقبل كتاب (نهج البلاغة) لأنه يخالف التوحيد الذي يعتقد به، فالشيخ يرفض ما ورد في النهج من تنزيه الله عزّ وجل،

ص: 103


1- أصل الشيعة وأصولها: 140.
2- البيان لأخطاء بعض الكتاب: 101.

ودفع للتشبيه الذي يتوهمه الجهّال.

وهذا ما جعل الشيخ يأتي بأمثلة من النهج يراها هو باطلة ومخالفة للعقيدة الصحيحة، فنقل خطبة عن النهج جاء فيها قوله علیه السلام: ولا يُوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء ... إلى أن قال: وليس في الأشياء بِوالِج، ولا عنها بِخارج، يخبر لا بلسان ولهوات ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يتلفظ، يقول لمن أراد كونه: «كن» فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله، ولم يكن من قبل ذلك، ولو كان قديماً كان إلهًا ثانيًا ... إلى أن قال: هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزَّته (1).

ثم أردفها بقوله: انتهى ما أردنا نقله من هذا الهذيان الذي ينزَّه الله سبحانه وتعالى عنه مما يطابق اعتقاد الجهمية و المعتزلة (2).

فالهذيان عند الشيخ هو أن ينزَّه الله حقّ تنزيهه، فلا يرضى بسلب الجوارح عنه، ولا بتنزيهه عن اللسان واللهوات والدخول في الأشياء وغيرها من الأمور؛ لأن كل هذه تعتبر من أمهات عقائدهم؛ اذ أن هؤلاء القوم قد تشرّبوا التجسيم، وتنفّسوا التشبيه حتّى عُرفوا عبر التاريخ بالمجسّمة والمشبِّهة.

والشيخ ذكر في كتابه (الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد) المصادر المعتمدة لمعرفة صفات الله جلّ جلاله، فقال: وهذا القسم قد جحده الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة وهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية، لكن لما كثر منكروه وروَّجوا الشبه حوله؛ أفرد بالبحث، وجعل قسماً مستقلاً، وألفت فيه المؤلفات الكثيرة، فألف الإمام أحمد ردَّه المشهور على الجهمية، وألف ابنه عبد.

ص: 104


1- البيان لأخطاء بعض الكتاب: 101.
2- البيان لأخطاء بعض الكتاب: 101.

الله كتاب (السنة)، وألف عبد العزيز الكناني كتاب (الحيدة) في الرد على بشر المريسي، وألف أبو عبد الله المروزي كتاب (السنة)، وألف عثمان بن سعيد كتاب (الرد على بشر المريسي)، وألف إمام الأئمة محمد بن خزيمة كتاب (التوحيد)، وألف غير هؤلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هؤلاء ومن جاء بعدهم وسار على نهجهم، فلله الحمد والمنة على بيان الحق ودحض الباطل (1).

لا أريد في هذا الكتاب مناقشة عقائد القوم في الأسماء والصفات، لكن من باب كشف الحقائق سآتي ببعض الشواهد من هذه الكتب التي اعتبرها الشيخ الفوزان مرجعاً للعقيدة.

منها: كتاب الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: فمن العجيب أن المؤلف جعل هذا الكتاب من مصادر العقيدة مع جهالة سنده، ونسبة علماء الجرح والتعديل الكتاب للوضع والكذب.

فقد قال الذهبي في السير: فهذه الرسالة إسنادها كالشمس، فانظر إلى هذا النفس النوراني، لا كرسالة الإصطخري، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله، فإن الرجل كان تقيًّا ورعاً لا يتفوه بمثل ذلك (2).

وقال شعيب الأرنؤوط: مما يؤكد قوله أن في السند إليه مجهولاً، وهو الخضر بن المثنى، والرواية عن مجهول مقدوح فيها، مطعون في سندها، على أن فيه آراء تخالف ما كان عليه السلف الصالح من معتقد، ويختلف عما جاء عن الإمام في غيره مما صح عنه (3).

فالشيخ صالح يشكل على الشيعة اعتمادهم على (نهج البلاغة)؛ لأنه في.

ص: 105


1- الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: 136.
2- سير أعلام النبلاء 286/11.
3- حاشية سير أعلام النبلاء 286/11.

نظره باطل، ويحيل النّاس على كتاب باطل جعله مصدراً من مصادر العقيدة وهو موضوع باعتراف أهل الصنعة!

أما مضمون هذا الكتاب فحدّث ولا حرج فإنّ فيه من التجسيم والتشبيه الشيء الكثير، لكن نكتفي بذكر هذا النص، قال: فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف، وسعف، وخوص، وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسُمّيتْ «نخلة» بجميع صفاتها، فكذلك الله، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد (1).

في هذا الكلام يؤصّل واضع الكتاب الذي نسبه للإمام أحمد بن حنبل عقيدة التركيب والعياذ بالله إذ أنه يعتبر أن نسبة الذات للصفات كنسبة الجزء للكل، ومثاله أدلّ دليل على ذلك، وكما يعلم كل عاقل أن التركيب يستلزم الحاجة؛ لأن كل مركَّب محتاج لأبعاضه، وأبعاضه غيره، والله لا يحتاج إلى غيره لأنه غني عن العالمين، وإذا كان الله تعالى قديماً غير محدث فإن أجزاءه تكون قديمة مثله وهذا يستلزم القول بتعدّد القدماء، وهو باطل، وهناك لوازم أخرى باطلة ليس هذا مجال بيانها!

فالشيخ صالح الفوزان يدعونا جميعاً إلى العمل بما ورد في هذا الكتاب الموضوع، والاعتقاد بأنّ الله مركَّب، والعياذ بالله.

ومن تلك الكتب: كتاب السنّة لعبد الله بن أحمد: وهذا الكتاب كسابقه لا تصحّ نسبته لعبد الله بن أحمد بن حنبل؛ لضعف الرواة الذين نقلوا هذا الكتاب عنه، وقد اعترف محقّق الكتاب الدكتور محمد سعيد القحطاني بذلك عند ترجمته لرواة الكتاب في أول الكتاب، حيث قال في ترجمة محمد بن إبراهيم بن خالد الهروي راوي الكتاب عن مصنِّفه: لم أعثر على ترجمة فيما اطلعت عليه من.

ص: 106


1- الرد على الجهمية: 133.

المصادر (1).

وقال في ترجمة الراوي عنه محمد بن الحسن بن سليمان السمسار: بحثت كثيراً في المصادر التي بين يدي فلم أجد ترجمة تقرب أن تكون ترجمة هذا الشخص

(2).

فلا ندري كيف يحتجّ الفوزان بهذا الكتاب ويجعله من مصادر العقيدة دون التحقق من صحّة إسناده.

وإذا نظرنا إلى متن هذا الكتاب نجده من أكثر الكتب التي مُلئت بالخرافات اليهودية الوثنية، بحيث لا تمر بصفحة من صفحات هذا الكتاب إلا وتجد فيها طامّة أعظم من التي سبقتها، وسنذكر بعض الشواهد من هذا الكتاب الذي أحال عليه الفوزان:

فقد قال عبد الله: حدثني أبي رحمه الله، نا يزيد بن هارون، أنا الجريري عن أبي عطاف، قال: كتب الله التوارة لموسى علیه السلام بيده وهو مسند ظهره إلى الصخرة في ألواح من در فسمع صريف القلم ليس بينه وبينه إلا الحجاب (3).

فهذه الرواية تثبت لله جارحة وهي اليد يكتب بها، ويستعين بالقلم في الكتابة، والطامّة أن رب الجلالة مسند ظهره على صخرة!

أهذا هو التوحيد الذي يدعونا إليه الشيخ الفوزان؟

وقال عبد الله: سمعت أبي رحمه الله، ثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان، عن الأعمش، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة عن عبد الله، عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: أن الله يمسك السماوات على إصبع. قال أبي رحمه الله: جعل يحيى يشير بأصابعه، وأراني.

ص: 107


1- السنة 102/1.
2- السنة 102/1.
3- السنة: 178.

أبي كيف جعل يشير بإصبعه، يضع إصبعاً إصبعاً حتى أتى على آخرها (1).

دائماً نسمع من القوم أنّهم يثبتون أصابع بلا كيف، لكن هذا الحديث يثبت أنها أصابع كأصابعنا بحسب العقيدة المفتراة على أحمد بن حنبل، وإلا لماذا أشار بأصابعه؟

وروى عبد الله: حدثني أبي نا رجل، ثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، في قوله عزَّ وجل: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، قال: إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها أربعة من الملائكة، لكل ملك منهم أربعة وجوه: وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه ثور، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرض والسماوات ورؤوسهم تحت الكرسي، والكرسي تحت العرش، قال: وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي (2).

هذه هي العقيدة التي يدعو إليها الشيخ الفوزان: عرش تحمله حيوانات أسطورية أشبه بقصص الأطفال والأفلام الخرافية، وربّ محمول، يضع رجلين (بلا كيف) على كرسي!

ومنها: كتاب الحيدة: وهو الكتاب الثالث الذي أحال عليه الشيخ الفوزان، هو كتاب (الحيدة) لعبد العزيز بن يحي الكناني، وهو كالكتاب الأول قد طعن فيه أئمة الجرح والتعديل، ونفوا صحّة نسبته لصاحبه.

قال الذهبي في الميزان عند تعرّضه لترجمة الرّجل: عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني المكي الذي يُنسب إليه (الحيدة) في مناظرته لبشر المريسي، فكان يلقَّب بالغول لدمامته، وذكر داود الظاهري أنه صحب الشافعي مدة،.

ص: 108


1- السنة: 154، وقد صحّح المحقق الدكتور محمد سعيد القحطاني هذه الرواية في تخريجه لروايات هذا الكتاب.
2- السنة: 184.

روى عن ابن عيينة وجماعة يسيرة، روى عنه أبو العيناء، والحسين بن الفضل البجلي وأبو بكر يعقوب بن إبراهيم التميمي، وله تصانيف؛ قلت: لم يصح إسناد كتاب الحيدة إليه، فكأنه وُضِع عليه (1).

وقال السبكي: قال شيخنا الذهبي: فهذا يدل على أن عبد العزيز كان حيًّا في حدود الأربعين قلت: وعلى أنه كان ناصراً للسنة في نفي خلق القرآن كما دلت عليه مناظرته مع بشر، وكتاب الحيدة المنسوب إليه فيه أمور مستشنعة، لكنه كما قال شيخنا الذهبي لم يصح إسناده إليه، ولا ثبت أنه من كلامه، فلعله وُضِعَ عليه (2).

فهؤلاء يشهدون أنّ هذا الكتاب موضوع مكذوب، ويحوي أموراً مستشنعة، فلا ندري كيف يجعله الشيخ الفوزان من مصادر العقيدة؟!

علماً أنّ هذا الكتاب لا علاقة له بمبحث الأسماء والصفات، بل غاية ما فيه هو سرد مناظرة حصلت بين الكناني وبين بشر المريسي حول خلق القرآن، والمورد الوحيد الذي حصل فيه كلام في الصفات كان حول السمع والبصر، وقد خالف الكناني عقيدة الفوزان، وأمسك عن إثبات آلتي السمع والبصر لله سبحانه.

قال: ثم أقبل عليَّ المأمون، فقال: يا عبد العزيز تقول: إن الله عالم، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فتقول: إن الله سميع بصير، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: فتقول: إن لله سمعاً وبصراً كما قلت إن له علم، فقلت: لا أطلق هذا هكذا يا أمير المؤمنين. فقال: أي فرق بين هذين؟ فأقبل بشر يقول: يا أمير المؤمنين يا أفقه الناس، ويا أعلم الناس يقول الله عزَّ وجل: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى.

ص: 109


1- میزان الاعتدال 2/ 639.
2- نفس المصدر 2/ 639.

الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين قد قدمت إليك فيما احتججت به إن على الناس كلهم جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله عنه، فأخبرنا الله عزَّ وجل أن له علماً بقوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)، فقلت: إن له علماً كما قال، وأخبرنا أنه سميع بصير بقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾، فقلت: إنه سميع بصير كما قال، ولم يخبرنا أن له سمعاً وبصراً (1).

وقد أُحرج المحقِّق من هذه الفقرة، فقال: الإمام الكناني من أهل السنة والجماعة، وهو الناصر لمذهبهم بما جاء في الكتاب والسنة، فلا يخالف قولهم، وأما قوله: «ولم أقل إن له سمعاً وبصراً وأمسكت عند إمساكه»، فلعل ذلك على سبيل المناظرة التي يتحاشا فيها الدخول في دقائق المسائل التي قد تخفى على الحضور، وكل ما في الأمر أنه أمسك مجتهداً ولم ينف الصفة، كما أنه أثبت صفة العلم (2).

فلا ندري هل قرأ الفوزان هذا الكتاب قبل أن يحيل عليه، أو أنه يقلد غيره في مدح هذه الكتب دون أن يقرأ منها سطراً؟!

ومنها كتاب السنة للمروزي: وإيراد صالح الفوزان لهذا الكتاب في جملة كتب العقيدة يثبت ما ذكرناه سابقاً، وهو أن الرجل يحيل على كتب لم يقرأها ولم يطلع على محتواها، إذ أنّ هذا الكتاب لا علاقة له بالتوحيد ولا الأسماء والصفات، بل الكتاب مشتمل على ذكر أحاديث مختلفة في شتى الأبواب.

ومنها: كتاب الرّد على بشر المريسي: وصاحب هذا الكتاب هو عثمان بن سعيد الدّارمي، ولا نريد وصفه بأي وصف لكي لا يظن القارئ الكريم أني.

ص: 110


1- الحيدة: 99.
2- هامش كتاب الحيدة: 99.

أتحامل عليه لسبب شخصي، لكني سأذكر نصّين من كتابه وأترك الحكم للقارئ المنصف:

قال في كتابه: وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزّته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا، وجثوا على ركبهم، حتى لُقِّنوا: «لا حول ولا قوة إلا بالله» فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته لولا ذلك ما استقل به العرش، ولا الحملة ولا السماوات والأرض، ولا من فيهن، ولو قد شاء لاستقرَّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السماوات السبع والأرضين السبع (1).

فهذا الكتاب الذي يدعو اليه الشيخ الفوزان يحثّ الناس على الاعتقاد بأنّ رب العزة والجلالة يمكن أن يستقرّ على ظهر بعوضة، فتحمله سبحانه!

بهذا الكلام يمكن أن يحتجّ النصراني فيقول: لو شاء الله لظهر لخلقه في جسم بشري كما في عيسى، فكيف يردّون عليه؟

والطّامة الكبرى ما ورد أيضاً في هذا الكتاب من قوله: فيقال لهذا المعارض المدّعي ما لا علم له: من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سماواته، علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة والسادسة أقرب إليه من الخامسة، ثم كذلك إلى الأرض، كذلك روى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن ابن المبارك أنه قال: «رأس المنارة أقرب إلى الله من أسفله»، وصدق ابن المبارك؛ لأن كل ما كان إلى السماء أقرب كان إلى الله أقرب (2)..

ص: 111


1- نقض الدارمي 458/1.
2- نقض الدارمي 504/1.

انظروا إلى هذه العقيدة الفاسدة، فإن هذا الرجل فهم من العلو المذكور في الآيات علوًّا ماديًّا حقيقيًّا، بحيث إنّ من كان في أعلى الجبل سيكون أقرب إلى الله من الواقف بأسفله!

بهذا يكون الكثير من البشر في عصرنا الحاضر أقرب إلى ذات الله من محمد صلی الله علیه و آله و سلم؛ لأن هؤلاء الآن يسكنون في ناطحات سحاب لم تكن موجودة في ذلك العصر، أو يركبون طائرات تبلغ ارتفاعاً عاليًّا لم يبلغه لا النبي صلی الله علیه و آله و سلم ولا أي واحد من الصحابة!

هذه هي العقيدة التي يدعونا إليها الشيخ الفوزان، ويضعها بديلاً عن كتاب (نهج البلاغة).

ولم يتحمل الذهبي شناعة هذه الكلمات وغيرها رغم أنه من رواد التجسيم، فقال في كتاب العلو: وفي كتابه بحوث عجيبة مع المريسي يبالغ فيها في الإثبات، والسكوت عنها أشبه بمنهج السلف في القديم والحديث (1).

ومنها: كتاب التوحيد لابن خزيمة: وهذا الكتاب لا يختلف عن سابقيه إذ أنه جامع لروايات التجسيم والتشبيه، وقد صدق الفخر الرازي في حكمه على المؤلَّف والمؤلِّف بقوله: واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه (بالتوحيد)، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات؛ لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام قليل الفهم، ناقص العقل (2).

ومن راجع الكتاب تيّقن وجزم بصحة ما قاله الفخر الرازي، بل ربّما يقول أكثر من هذا، لما في الكتاب من أمور مستشنعة لا يقول بها ملحد فضلاً.

ص: 112


1- العلو للعلي الغفار 195.
2- مفاتيح الغيب 27/ 150.

عن موحّد!

قال في كتابه المذكور: نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا، خافية في السماوات السبع والأرضين السبع، ولا مما بينهم، ولا فوقهم، ولا أسفل منهن، لا يغيب عن بصره من ذلك شيء،

يرى ما في جوف البحار ولججها، كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه (1).

هذا الرجل يثبت لله عينين، أي آلة يبصر بها الله عزّ وجل خلقه!

إن لم يكن هذا تجسيماً فما هو التجسيم؟

والظاهر أنّ الشيخ لا يعلم أنّ ابن خزيمة قد تاب عن هذا التجسيم ورجع عنه كما نقل البيهقي في الأسماء والصفات فإنه قال: قلت: القصة فيه طويلة، وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال والله أعلم (2).

ومنها: كتب ابن تيمية: فإن من جملة المصادر التي يؤخذ منها توحيد الأسماء والصفات عند الشيخ الفوزان كتب ابن تيمية الحرّاني.

وهذا الرجل اتّهمه أهل عصره بالتجسيم والتشبيه، فقد قال ابن حجر العسقلاني عند ترجمته لابن تيمية: وافترق الناس فيه شيعاً، فمنهم من نسبه إلى التجسيم؛ لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك، كقوله: إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله، وأنه مستوٍ على العرش بذاته. فقيل له: يلزم من ذلك التحيّز والانقسام. فقال: أنا لا أسلِّم أن التحيز.

ص: 113


1- التوحيد 76/1.
2- الأسماء والصفات: 167.

والانقسام من خواص الأجسام، فالذم بأنه يقول بتحيز في ذات الله (1).

ومن قرأ كتبه رأى الكثير الكثير من التجسيم والتشبيه، فهو الذي رسّخ عقيدة جلوس النبي صلی الله علیه و آله و سلم على العرش عياذاً بالله!

قال في فتاويه: فقد حدّث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون أنّ محمداً رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یُجلسه ربُّه على العرش معه (2).

ركّز أخي القارئ على لفظ «معه»، فإن هذا الرجل يعتقد أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم يجلس مع ربّه على العرش، فهل هناك تجسيم أصرح من هذا؟

وهو الذي يدعو إلى ما هو أشنع من هذا، حيث قال: قال عثمان بن سعيد في ردِّه على الجهمية: حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال: حدثني الليث وهو ابن سعد، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، أن زيد بن أسلم حدّثه عن عطاء بن يسار، قال: أتى رجل كعباً وهو في نفر، فقال: يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار. فأعظم القوم قوله، فقال كعب: دعوا الرجل، فإن كان جاهلاً يُعلَّم، وإن كان عالماً ازداد علماً، قال كعب: أخبرك أن الله خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، ثم جعل ما بين كل سماءين كما بين السماء الدنيا والأرض، وكثفهن مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه، فما في السماوات سماء إلا لها أطيط كأطيط العلا في أول ما يرتحل من ثقل الجبار فوقهن. وهذا الأثر وإن كان هو رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة، ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد،هو لا يدافعها ولا يصدقها ولا يكذبها، فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة، وقد حدثوا به هم وغيرهم، ولم ينكروا ما فيه من 4.

ص: 114


1- الدرر الكامنة 1 / 154.
2- مجموع الفتاوى 374/4.

قوله من ثقل الجبار فوقهن، فلو كان هذا القول منكراً في دين الإسلام عندهم لم يحدّثوا به على هذا الوجه (1).

فهذا الرجل يعتقد أن ربّه ثقيل الوزن ومن هذا الثقل يصدر عرشه صوتاً سمّي في الرواية أنه أطيط!

هل هذا ما يدعوا إليه الفوزان ويريده أن يكون بديلاً عن كتاب (نهج البلاغة) الذي علّم الناس التنزيه؟

ومنها: كتب ابن القيم: وهذا الرجل من تلامذة ابن تيمية الحرّاني ومن السّائرين على نهجه حذو القذة بالقذة، ولذلك فإنه كان من الذين أشربوا التجسيم حتى الثمالة، وغاصوا في التشبيه حتى النخاع.

فهو الذي يروي في كتابه (زاد المعاد) بسنده عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أنه قال: تلبثون ما لبثتم، ثم يتوفى نبيّكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئاً إلا مات والملائكة الذين مع ربك، فأصبح ربك عزّ و جل يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه، حتى تخلفه من عند رأسه، فيستوي جالساً، فيقول ربك: مهيم لما كان فيه يقول: يا رب أمس اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثاً بأهله (2). فعقيدة هذا الرجل أن ربّه يطوف بالأرض تعالى الله عن هذا التجسيم المحض!

ولم يكتف بهذا بل علّق في آخر الحديث بقوله: هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا.

ص: 115


1- بیان تلبيس الجهمية 572/1.
2- زاد المعاد 3/ 48.

من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته (1).

وهو الذي قال في كتابه (بدائع الفوائد): قال القاضي: صنَّف المروزي كتاباً في فضيلة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وذكر فيه إقعاده على العرش، قال القاضي: وهو قول أبي داود وأحمد بن أصرم، ويحيى بن أبي طالب وأبي بكر بن حماد، وأبي جعفر الدمشقي، وعياش الدوري، وإسحاق بن راهوية وعبد الوهاب الوراق، وإبراهيم الأصبهاني، وإبراهيم الحربي، وهارون بن معروف، ومحمد بن إسماعيل السلمي، ومحمد بن مصعب بن العابد، وأبي بن صدقة، ومحمد بن بشر بن شريك، وأبي قلابة، وعلي بن سهل، وأبي عبد الله بن عبد النور، وأبي عبيد، والحسن بن فضل و هارون بن العباس الهاشمي، وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، ومحمد بن عمران الفارسي الزاهد، ومحمد بن يونس البصري، وعبد الله ابن الإمام أحمد، و المروزي، وبشر الحافي. انتهى.

قلت – والقائل ابن القيم - : وهو قول ابن جرير الطبري، وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني، ومن شعره فيه:

حديثُ الشفاعةِ عَنْ أحمدٍ *** إلى أحمدَ المصطفى مُسْنِدُهْ

وجاءَ حدیثٌ بإقعادِه *** على العرشِ أيضاً فلا نجحدُهْ

أمِرُّوا الحديثَ على وجهِهِ *** ولا تُدخِلوا فيهِ ما يُفْسِدُهْ.

ص: 116


1- زاد المعاد 50/3.

ولا تُنْكِرُوا أنه قاعدٌ *** ولا تُنْكِرُوا أنه يُقْعِدُهُ (1)

هذه هي العقائد التي يريدنا الشيخ الفوزان أن نترك كتاب (نهج البلاغة) وما احتواه من درر في التوحيد، لنتديّن بهذه الخرافات الوثنية.

وأنا أقطع أن سبب هذه البلبلة التي وقع فيها هؤلاء هو ابتعادهم عن كلمات أمير المؤمنين علیه السلام و با الخصوص كتاب (نهج البلاغة)، وقد صدق ابن أبي الحديد المعتزلي حين قال: وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه علیه السلام اقتُبِس، وعنه نُقل، وإليه انتهى ومنه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلَّم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه؛ لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه علیه السلام، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي على الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب علیه السلام، وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر (2).

فكل المنزِّهة يرجعون بتنزيههم لسيِّد الموحِّدين علي بن أبي طالب علیه السلام، أما الفوزان ومن على شاكلته فقد أعرضوا عن الإمام علیه السلام، فوقعوا في فخاخ كعب الأحبار اليهودي، ووهب بن منبه النصراني، وابن أبي العوجاء الزنديق.

ونختم بنقطة مهمّة وهي أن الفوزان اتهم الشريف المرتضى قدس سره بأمرين:

الأول: أنه هو من وضع كتاب (نهج البلاغة)، وقد بيَّنا فساده فيما سبق..

ص: 117


1- بدائع الفوائد: 558.
2- شرح نهج البلاغة 29/1.

الثاني: أنه معتزلي المذهب، وهذا من الأمور المضحكة المبكية، إذ أن كل من ترجم له قال: إنه شيعي إمامي، ولم ينسبه أحد للاعتزال.

ولو كان عند الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء قليل من الاطلاع لعلم أن من أهم مصنَّفات السيد المرتضى علم الهدى قدس سره كتاب (الشافي في الإمامة)، وهو ردّ على القاضي عبد الجبار إمام المعتزلة في عصره.

فلا ندري من أين يأتي الشيخ بهذه المعلومات الغريبة؟

الشبهة العاشرة علوم النهج

استند بعض المفكِّرين المعاصرين على قضية أخرى اعتبروها من الأمور المشكِّكة في كتاب (نهج البلاغة)، وهي احتواؤه على أفكار وأساليب سامية لم تكن معروفة في تلك الحقبة، بل دخلت عند العرب مع بداية حركة الترجمة في عصر هارون الرشيد وابنه المأمون.

قال الدكتور أحمد زكي صفوت: أمّا الشك الخامس، فإنّا اعتقادنا مع الكامل بأنّ الإمام كان خير قدوة في الزهد والورع، وأعلى مثال في التقوى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، نرى أنّ ما عُزي إليه في هذا الباب لا يخلو من دخيل منتحل، فهاك اقرأ خطبته التي يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض، وانظر قوله فيها: «أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنَّاه فقد جزّاه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال: فيم فقد ضمنّه، ومن قال علامَ فقد أخلى منه، كائن لا عن حَدَث، موجود لا عن عَدَم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ

ص: 118

شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ... الخ، ترى أنّ هذا الأسلوب قصيّ عن نهج الإمام ومسلكه، فإنّ الفقر الأولى مفرَّغة في قالب مقدّمات منطقية تفضي إلى نتيجة هي نفي الصفات عن الله تعالى، والفقر التالية لها مقدّمات أخرى تنتج أن من يثبت له الصفات فقد عدَّه من الحوادث، وهذا الأسلوب المنطقي لم يُعهد في كلام العرب، ولم يستعمله العلماء إلا بعد ترجمة المنطق والعلوم الدخيلة، وذلك العصر لم يدركه الإمام ... وفوق هذا، فإنّ تلك المباحث من مباحث علم الكلام، وإثبات صفات المعاني لله تعالى أو نفيها عنه، وكون الصفة عين الموصوف أو مغايرة له، موضع جدل شديد بين الأشعرية والصفاتية والمعتزلة، ونشأة ذلك العلم وتلك الفرق متأخِّرة عن علي في الوجود، ولا تخلنّ من ذلك أنا نرمي الإمام بجهله بعلم التوحيد، لا، ولكنا نقول: إن التوحيد بالمعنى العلمي المعهود ومباحثه المعروفة لم تكن وُجدت في ذلك الحين(1).

وقال فؤاد أفرام بستاني (2) في كتاب الروائع: بيد أنّا نرى سبباً جديداً يدفعنا إلى الشك في بعض مقاطع حكمية وتفسيرية من التي تدخل فيها الأعداد والتقاسيم المتوازية، المتشعبّة، المتّفقة عدداً، كقوله: «الاستغفار على ستة معان» و «الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين والعدل، والجهاد. والصبر منها على أربع شعب ... الخ»، بتقسيم كل دعامة إلى أربع شعب، وكذلك الكفر وتقسيمه إلى أربع دعائم والشك إلى أربع شُعَب، وغير ذلك، فإنّ.

ص: 119


1- ترجمة علي بن أبي طالب: 143.
2- أديب، مؤرخ، أكاديمي وسياسي لبناني ولد سنة 1904، وتوفي سنة 1994 ميلادي؛ يعتبر من أكبر المثقفين في لبنان وأحد أهم نقاد الأدب العربي في القرن العشرين، أسهم في إنشاء الجامعة اللبنانية سنة 1951، وكان أول رئيس لها، كما درس الأدب العربي لسنوات طويلة في جامعة القديس يوسف.

استعمال الطريقة العددية في الشروح، وتقسيم الفضائل أو الرذائل على أسلوبها لا نراه في الآداب الجاهلية، بل لا نكاد نعرفه في الأدب الإسلامي إلَّا بعد ظهور كتاب «كليلة ودمنة» المعرّب، وإذا علمنا أنّ إدخال الأعداد في الحكمة الأخلاقية، وفي ترتيب المجرّدات والمعقولات، له الدور المهم في المذاهب المتشعبّة عن الطريقة الفيثاغورية أو الأفلاطونية الحديثة، وإذا علمنا أن العرب لم يعرفوا هذه الفلسفة إلا بترجمة كتب اليونان في العصر العباسي الأول، وإذا علمنا أنّ الشريف الرضي كان من الحكماء الأجلاء، والعلماء المعروفين، وأنه عاش في العصر العباسي الثالث، ساغ لنا هذا الشك (1).

هذا من باب المثال، وإلا فكثير من النقّاد والمفكّرين قد ذكروا هذا المعنى، وصرّحوا بأنه من الأمور التي تجعلهم يستريبون في كتاب (نهج البلاغة)، ويحكمون بوجود نصوص دخيلة فيه.

والجواب على مثل هذا الطرح: أنه لا بد من إعادة صياغة استدلالهم؛ لكي يتّضح وهنه وضعفه لدى الباحث.

هذا الإشكال مبني على مقدِّمتين:

الأولى: هي أن هذه العلوم لم تكن معروفة في عصر الإمام علي علیه السلام، فلا يوجد تقسيمات عددية، ولا مطالب كلامية، ولا أطروحات منطقية.

الثانية: أن كل العرب الذين عاشوا في ذلك العصر لم يكن لهم اطلاع على هذه العلوم، ولا اضطلاع بهذه الصناعات.

وكلا المقدمتين لا نسلّم بهما.

أما الجواب على الأولى: فهو أنا لا نسلّم أن هذه الأمور كانت غير معروفة تماماً عند العرب، نعم عامة العرب لا علم لهم بها، لكن هذا لا يعني.

ص: 120


1- الروائع: 32.

انعدامها التام من الأوساط العربية في تلك الحقبة، وإلا فالحال كما قدّمنا سابقاً أن هذه المقدمة مبنية على استقراءات ناقصة، ولولا مخافة الإطالة وإصابة القارئ بالملالة لسقنا عدة شواهد على ما ادُّعي.

ومن الشواهد على وجود مقاطع تفسيرية تدخل فيها الأعداد والتقاسيم المتوازية، المتشعبّة، ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قال: أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً – أو كانت فيه خصلة من

أربعة كانت فيه خصلة من النفاق - حتى يدعها: إذا حدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (1).

أمّا الثانية: فسببها القراءة الإسقاطية لكتاب (نهج البلاغة)، وليس القراءة الاستنطاقية؛ وذلك لأن هؤلاء قرؤوا الكتاب بتصوّر مسبق لشخصية أمير المؤمنين علیه السلام، وهي أنّه رجل عادي حاله حال أقرانه من العرب الذين عاصروه، وبالتالي فلا يمكن أن يصدر منه مثل هذا، أما لو قرؤوا الكتاب قراءة استنطاقية لعرفوا شذرات من حقيقة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، واستنشقوا عبقات من معارفه وتذوقوا حلاوة لطائفه.

وهذه هي المنهجية التي سار عليها غير الشيعة على مرّ العصور، وهي تكذيب ما نُسب لأهل البيت علیهم السلام عامة، ولأمير المؤمنين علیه السلام خاصة؛ لأنهم نزّلوهم منزلة عامة الناس، ومن هنا ضُعّفت عشرات الأحاديث الواردة في فضلهم وخصائصهم لأجل هذا الاعتقاد الفاسد.

ومن باب التمثيل نذكر شاهدين:

الأول: قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حق أخيه وابن عمه وخليفته أمير المؤمنين 7.

ص: 121


1- صحيح البخاري 2 / 737.

علیه السلام: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها (1).

هذا الحديث لم يعجب من في قلوبهم شيء على أهل البيت، فضعَّفوه، وحكموا عليه بالوضع؛ فقط لأن المتن لا يتلاءم مع أهوائهم المنحرفة عن الحق والمائلة عن الصراط المستقيم.

قال ابن تيمية في تعليقه على هذا الحديث: وأما حديث «مدينة العلم» فأضعف و أوهي، ولهذا إنما يُعَد في الموضوعات المكذوبات وإن كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبيَّن أنه موضوع من سائر طرقه، والكذب يُعَرف من نفس متنه لا يحتاج إلى النظر في إسناده (2).

وقال الألباني تعليقاً على هذا الحديث: وجملة القول أن حديث الترجمة ليس في أسانيده ما تقوم به الحجة، بل كلها ضعيفة، وبعضها أشد ضعفاً من بعض، ومَنْ حَسَّنه أو صحَّحه فلم ينتبه لعنعنة الأعمش في الإسناد الأول، فإن قيل: هذا لا يكفي للحكم على الحديث بالوضع قلت: نعم، ولكن في متنه ما يدل على وضعه (3).

وكما يرى القارئ النبيه أن التضعيف والتصحيح مسألة هوى و عصبية، وإنكار الصحة لا دليل عليها سوى الدفع بالصدر!

وإلا فإن هذا الحديث وحده كافٍ لرد هذه الشبهة المطروحة، فمن كان باباً لمدينة علم النبي صلی الله علیه و آله و سلم هل سيكون أقل شأناً من أرسطو وأفلاطون وابن خلدون وفولتير حتى يصبح ما جاء به هؤلاء فتحاً علميًّا منشؤه نبوغهم وعبقريتهم، وما جاء به أمير المؤمنين علیه السلام منسوب إليه ومنحول عليه؛ لأنه.

ص: 122


1- المستدرك على الصحيحين 126/3، المعجم الكبير 11 / 55.
2- الفتاوى الكبرى 437/4.
3- سلسلة الأحاديث الضعيفة 472/6.

عاجز عن الإتيان بما جاء به أولئك!

الثاني: روى الخاصّة والعامّة قول أمير المؤمنين علیه السلام: علّمني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ألف باب من العلم، يُفتح لي من كل باب ألف باب (1).

وهذا الحديث طبعاً أزعج القوم كثيراً؛ لأنه يشتمل على أمرين مخالفين لما هو مشهور بينهم:

المخالفة الأولى: هو أنّ آخر الناس عهداً برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو أمير المؤمنين علیه السلام، وليس عائشة كما يروّجون، وأنّه توفي بين سحرها ونحرها، وهذا ليس محل حديثنا في هذا البحث المتواضع.

المخالفة الثانية: هو أن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أفاض على علي أمير المؤمنين علیه السلام علمه، واختصّه بسرّه دون غيره من الصحابة، وهذه فضيلة عظيمة ومنقبة فريدة.

ولهذا حاول الذهبي توهين الحديث بكل الطرق وبشتّى الوسائل، فجعل نفسه سخريا عند كل من اطلع على مهزلته.

بداية تعامله مع الحديث كان في كتابه (ميزان الاعتدال) حيث قال: وحدثنا أبو يعلى، حدثنا كامل بن طلحة حدثنا ابن لهيعة، حدثني يحيى بن عبد الله المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلى، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال في مرضه: ادعوا لي أخي. فدُعي أبو بكر، فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي. فدُعي له عثمان، فأعرض عنه، ثم دُعي له علي فستره بثوبه، وأكبَّ عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال: علَّمني ألف باب كل باب يفتح ألف باب. قلت: كامل صدوق. وقال ابن عدي: لعل البلاء فيه من ابن 4.

ص: 123


1- کتاب سليم بن قيس 211، الكافي 296/1، تاريخ مدينة دمشق 42 / 385 كنز العمال 13 / 114.

لهيعة، فإنه مفرط في التشيّع (1).

إذن الحديث ضعيف عند الذهبي، إذ وافق قول ابن عدي في أن علّته هو ابن لهيعة؛ لأنه مفرط في التشيع كما زعم هذا الإمام الناقد الخبير.

لكن للذهبي رأي آخر في (تاريخ الإسلام) حيث قال: قلت ومناكيره جمة، ومن أردئها كامل بن طلحة عن ابن لهيعة أن حيي بن عبد الله أخبره عن أبي عبد الرحمن الجبلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال في مرضه: ادعوا لي أخي. فدعوا له أبا بكر، فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي. فدعوا له عمر، فأعرض عنه، ثم عثمان كذلك، ثم قال: ادعوا لي أخي. فدعوا له عليًّا فستره بثوبه، وانكبَّ عليه، فلما خرج قيل له: يا أبا الحسن ماذا قال لك؟ قال: علمني ألف باب يفتح كل باب ألف باب ... رواه أبو أحمد بن عدي، ثم قال: لعل البلاء فيه من ابن لهيعة؛ فانه مفرط في التشيع. كذا قال ابن عدي وما رأيت أحداً قبله رماه بالتشيّع، وكامل الجحدري وإن كان قد قال أبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن حنبل: ما علمت أحداً يدفعه بحجة، فقد قال فيه أبو داود: رَميتُ بكتبه. وقال ابن معين: ليس بشيء؛ فلعل البلاء من كامل، والله أعلم (2).

عجيب يا ذهبي في ميزان الاعتدال كان كامل الجحدري صدوقاً، وابن لهيعة ضعيف، وهنا انقلبت الآية، وأصبح ابن لهيعة صدوقاً، وكامل مطعوناً فيه!

هل انتهى الأمر إلى هنا؟

الجواب: لا؛ لأن عند الذهبي رأياً ثالثاً صرّح به في كتابه (سير أعلام النبلاء) عند تعرضه لنفس الحديث، حيث قال: فأما قول أبي أحمد بن عدي في.

ص: 124


1- میزان الاعتدال 2 / 482.
2- تاريخ الاسلام 224/11.

الحديث الماضي: «علّمني ألف باب يفتح كل باب ألف باب» فلعل البلاء فيه من ابن لهيعة؛ فانه مفرط في التشيع، فما سمعنا بهذا عن ابن لهيعة بل ولا علمت أنه غير مفرط في التشيع، ولا الرجل متَّهم بالوضع، بل لعله أدخل على کامل فإنه شيخ محله الصدق، لعل بعض الرافضة أدخله في كتابه ولم يتفطن هو، فالله أعلم (1).

والظاهر أن الذهبي اكتشف تناقضه، فأراد إصلاح الأمر وحفظ ماء الوجه بتوثيق الرجلين وبضرب الحديث في نفس الوقت!

فلم يجد حلا إلا أن يسجل القضية ضد مجهول، ويتَّهم المجرم الخفي بوضع هذا الحديث، وطبعاً دليله على هذا هو: «لعلّ»!

واتهام الذهبي رافضيًّا مجهولاً بدسّ الحديث في كتاب كامل الجحدري يذكّرني بما يحصل في بعض الدول في هذه الأيام، حيث تقوم بعض الحكومات بارتكاب الجرائم العظام والفضائع الجسام، ثم ينسبون الأمر إلى مندسين أو إلى جهات خارجية.

وقد صدق الشاعر حين قال:

سُمِّيْتَ بالذهبيِّ اليومَ تسميةً *** مشتقَّةً مِنْ ذَهابِ العقلِ لا الذَّهَبِ

ملّقبٌ بِكَ ما لُقِّبْتَ وَيْكَ بِهِ *** يا أيها اللّقبُ الملقى على اللّقبِ

فإن كان تعاملهم مع الروايات الصحيحة الصريحة الثابتة في فضل الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام والموجودة في كتبهم المعتبرة بهذه الصورة المضحكة، فكيف نريد منهم قبول كتاب (نهج البلاغة)؟

فخطأ هؤلاء الذي وقعوا فيه هو انطلاقهم من واقعهم الذهني، وإسقاطه على النص، وهذا خلاف المنهج العلمي الصحيح، وهو الانطلاق من.

ص: 125


1- سير أعلام النبلاء 26/8.

النص لمعرفة الواقع.

أما الذي تجرَّد عن كل تراكماته السابقة فإنه سيعلم من هو الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، ولهذا فإن ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي قد وصل إلى جزءٍ من الحقيقة، فقال في مقدمة شرحه على النهج: وما أقول في رجل تُعْزَى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلّي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتذى وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه علیه السلام اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ، فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلَّم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه؛ لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه علیه السلام، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي على الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب علیه السلام، وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

ومن العلوم: علم الفقه، وهو علیه السلام أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما، فأخذوا عن أبي حنيفة، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة، وأما أحمد بن حنبل، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد علیه السلام، وقرأ جعفر على أبيه علیه السلام، وينتهي الأمر إلى علي علیه السلام، وأما مالك بن أنس، فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد

ص: 126

الله بن عباس على علي بن أبي طالب، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة، وأما فقه الشيعة: فرجوعه إليه ظاهر وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا: عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذ عن علي علیه السلام، أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: «لولا عليٌّ لهلك عمر»، وقوله: «لا بقيتُ لمعضلة ليس لها أبو الحسن»، وقوله: «لا يفتينَّ أحد في المسجد وعليٌّ حاضر»، فقد عُرف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه، وقد روت العامة والخاصة قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «أقضاكم علي»، والقضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم، وروى الكل أيضاً أنه علیه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضياً: «اللهم اهد قلبه، وثبَّت لسانه» قال: «فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين»، وهو علیه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعاً، وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة، واقتضبه ارتجالاً، ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أُخذ، ومنه فُرِّع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك؛ لأن أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: «كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط»، ومن العلوم: علم الطريقة والحقيقة، وأحوال التصوّف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام، إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد صرَّح بذلك الشبلي والجنيد وسري، وأبو يزيد البسطامي، وأبو محفوظ معروف الكرخي، وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه علیه السلام. ومن العلوم: علم النحو

ص: 127

والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف، ومن جملتها: تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات (1)، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط (2).

اعتمدت نقل هذا الكلام على طوله لأنه مهم جدًّا، فهذا الرجل قد أثبت أن كل العلوم المتداولة بين المسلمين متلقّاة عن الإمام على بن أبي طالب علیه السلام، مما يؤكّد أنه لم يكن رجلاً عاديًّا ليقاس ببني جنسه، بل هو وأهل بيته كما في الزيارة الجامعة: إن ذُكِرَ الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه (3).

الشبهة الحادية عشر: الدسّ في نهج البلاغة

حاول البعض أن يُنصف الشريف الرضي قدس سره، فبرَّأ ساحته من الكذب والوضع على جدّه أمير المؤمنين علیه السلام، ولكن في المقابل اتَّهم غلاة الشيعة بالكذب والدس، وبالتالي فإن في كتاب (نهج البلاغة) أموراً مكذوبة وضعها غير الشريف الرضي، والنتيجة أن كتاب (نهج البلاغة) لم يسلم من الدس والوضع، وهذا يمنعنا عن قبول هذا الكتاب أو العمل به.

ص: 128


1- العجب من صاحب كتاب (ضياء السالك إلى أوضح المسالك) الذي أنكر نسبة وضع علم النحو لأمير المؤمنين علیه السلام، فقط لأن المنطق والعقل عنده يقضيان بالتدرج في مثل هذا العمل كما عبر في 9/1 من الكتاب، وكأنه لا يوجد أي جانب غيبي في شخصية الإمام علیه السلام، رغم أن القضية لا علاقة لها بالاعجاز والغيب ولذلك نجد أن أغلب من أخ لعلم النحو قد أثبت أن أمير المؤمنين علیه السلام هو واضعه بل نقل الاجماع على ذلك كما في كتاب انباء الرواة بأنباء النحاة للقفطي 1/ 14.
2- شرح نهج البلاغة 1/ 17.
3- من لا يحضره الفقيه 2/ 616.

وهذا الكلام وإن كان فيه إنصاف الجامع الكتاب، إلا أنّ فيه حيفاً وجوراً وتسقيطاً للكتاب كله.

وسيتبين لك أيها القارئ أن هذا الكلام هو مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وذلك لعدة أمور:

أولاً: أننا لو سلّمنا بصحة ما قيل فإن هذا لا يعني سقوط الكتاب كله؛ لأنه لا يلزم من وجود أخبار موضوعة فيه عدم اعتبار الكتاب بكامله، بل غاية ما في الأمر أن الباحث عليه أن يمحّص الروايات؛ ليميز بين الصحيح منها والسقيم، وهذا ما نقول به.

ولو أننا اتبعنا هذا المنهج، وأسقطنا كل كتاب اشتمل على بعض الموضوعات، لما بقي لهم كتاب سالماً، وما بقي حجر على حجر؛ إذ أنه لا يخلو كتاب من أحاديث مكذوبة مدسوسة، ومن باب الأمثلة نذكر:

1 - صحيح البخاري: فقد روى محمد بن إسماعيل بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تردّدت عن شي أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته (1).

علّق الذهبي على هذا الحديث بقوله: فهذا حديث غريب جدًّا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه؛ ولأنه مما ینفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه 0.

ص: 129


1- صحيح البخاري 7 / 190.

من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد، وقد اختُلف في عطاء، فقيل: هو ابن أبي رباح، والصحيح أنه عطاء به يسار (1).

فالذهبي يحكم على حديث في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله بأنه غريب جدًّا منكر!

2 - صحیح مسلم: روى مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بيدي، فقال: خلق الله عزَّ وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم علیه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل (2).

وقد علق الشيخ عبد العزيز بن باز على هذا الحديث بقوله: ومما أُخذ على مسلم رحمه الله رواية حديث أبي هريرة: أن الله خلق التربة يوم السبت ... الحديث، والصواب أن بعض رواته وَهِمَ برفعه للنبي صلی الله علیه و آله و سلم، وإنما هو من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأخبار؛ لأن الآيات القرآنية والأحاديث القرآنية الصحيحة كلها قد دلّت على أن الله سبحانه قد خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة؛ وبذلك علم أهل العلم غلط من روى عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أن الله خلق التربة يوم السبت، وغلط كعب الأخبار ومن قال بقوله في ذلك، وإنما ذلك من الإسرائيليات الباطلة (3).

إذن فصحيح مسلم كما نصَّ ابن باز يحتوي على إسرائيليات باطلة نُسبت زوراً وبهتاناً للنبي صلی الله علیه و آله و سلم..

ص: 130


1- میزان الاعتدال 1/ 641.
2- صحیح مسلم 127/8.
3- مجموع فتاوی ابن باز 25/ 70.

3 - مسند أحمد: أجمع علماء أهل السنة على أن في مسند الإمام أحمد بن حنبل أحاديث ضعيفة، واختلف في وجود الموضوعات فيه، فأثبت عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه (الموضوعات) وجود أحاديث موضوعة فيه، ووافقه على ذلك الحافظ العراقي، فقد نقل عنه السيوطي في التدريب قوله ولا نسلّم ذلك - أي بصحة المسند – والذي رواه عنه أبو موسى المديني أنه سئل عن حديث، فقال: «انظروه، فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة»، فهذا ليس بصريح في أن كل ما فيه حجة، بل ما ليس فيه ليس بحجة، قال: على أن ثم أحاديث صحيحة مخرّجة في الصحيحين وليست فيه، ومنها حديث عائشة في قصة أم زرع، قال: وأما وجود الضعيف فيه فهو محقَّق، بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء (1).

وقد حاول غيرهم تنزيه المسند عن وجود الموضوع، مثل ابن حجر العسقلاني الذي ألف كتاباً أسماه: (القول المسدَّد في مسند أحمد)، خفَّف فيه من وطأة ما ذكره ابن الجوزي، وحكم على جلّ الأحاديث بأنها ضعيفة جدّا، لكن لا يمكن الجزم بوضعها.

فلو اتبعنا هذا المنهج وأقررنا الملازمة بين وجود أحاديث موضوعة وإسقاط الكتاب لما بقي كتاب واحد عند المسلمين، وهذا لازم باطل لا أظن أن عاقلاً يلتزم به.

الثاني: أن هذا القول لا يخلو من احتمالين: إما أن يكون الدّس قد وقع بعد أن جمع الشريف الرضي قدس سره وانتهى منه، فيكون المتهم بذلك هم النسّاخ الذين تولوا نسخ الكتاب وإيصاله لنا بهذه الصورة، وإما أن يكون الدّس قد وقع قبل جمع الشريف الرضي قدس سره لكتابه، فيكون المتهم بهذا الجرم الرواة الذين.

ص: 131


1- تدريب الراوي 1 / 172.

نقلت عنهم فقرات النهج.

أما الاحتمال الأول فلا يمكن القبول به؛ لأن الكتاب قد شاع وانتشر بعد أن دوّنه الشريف الرضي قدس سره، واهتم به الناس تداولاً وقراءة وحفظاً وشرحاً، حتى قال السيد هبة الله الشهرستاني قدس سره ونسبة الكتاب إليه مشهورة، وأسانيد شيوخنا في إجازاتهم متواترة، ونسخة عصر الشريف موجودة، والتي نُسخت بخطه الشريف مشهورة (1).

وكلام السيد فيه فائدتان:

الأولى: أن الكتاب متواتر عن صاحبه، مما يفيدنا العلم بانتسابه له وينهي كل احتمال تبديل أو تحريف أو تزييف.

والفائدة الثانية: هي أن السيد ذكر أن نسخة الشريف الرضي قدس سره موجودة محفوظة إلى يومنا هذا، مما يبطل كل دعوى زيادة ونقصان.

وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه أن عنده النسخة الأصلية لكتاب (نهج البلاغة)، فقال: وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع (نهج البلاغة)، وتحت فلان عمر (2).

ويظهر من كلمات الفيلسوف الفقيه ابن ميثم البحراني في شرحه على النهج أنه اطلع على النسخة الأصلية، فإنه قال في موضع من شرحه: وفي نسخه الرضى رحمه الله: «مُستكرِهين» بكسر الراء بمعنى كارهين يقال: استكرهتُ الشيء أي كرهته (3).

بل نقل السيد عبد الزهراء الخطيب في كتابه القيم (مصادر نهج البلاغة.

ص: 132


1- ماهو نهج البلاغة: 13.
2- شرح نهج البلاغة 3/12.
3- شرح ابن ميثم للنهج 341/4.

وأسانيده) جملة من المخطوطات التي كانت موجودة في عصره، أحداها كانت بخط السيد المرتضى قدس سره، قال: حدثني شيخنا العلامة الخبير المتتبّع الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلف (الغدير) دام علاه، قال: «رأيت نسخة من (نهج البلاغة) عند أحد الأعلام في النجف الاشرف، وعليها إجازة السيد المرتضى أعلى الله مقامه بخط يده لبعض تلامذته وفيها يقول: «أجزت لفلان رواية كتاب أخي ... إلخ»، والنسخة لا تختلف عما في أيدي الناس اليوم من (نهج البلاغة) (1).

وقد نقل أيضاً عدّة مخطوطات أخرى اطلع عليها في كتابه المذكور، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع هذا الكتاب.

أما الاحتمال الثاني: فهو وإن كان في نفسه ممكناً، ولا مانع منه عقلاً أو عرفاً، إلا أن إثباته يحتاج إلى دليل وبرهان والادّعاء لوحده لا يكفي، فمن يدّعي وجود خُطَب موضوعة فعليه أن يضع يده عليها، ويقيم على دعواه الدليل الصحيح.

ونحن هنا لسنا في مقام نفي هذا الأمر، لكن نقول: إنه حتّى لو ثبت هذا فإنه لا يضرّ بالدرجة باعتبار الكتاب ولا بفضل وعلم المؤلف.

وقد تعرّض ابن أبي الحديد المعتزلي لهذه الشبهة وأجاب عليها بجواب محكم يخضع له كل منصف، حيث قال: هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب [يقصد أبا الشحماء العسقلاني]، وهي كما تراها ظاهرة التكلّف، بيِّنة التوليد، تخطب على نفسها، وإنما ذكرت هذا لأن كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إن كثيراً من (نهج البلاغة) كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم،.

ص: 133


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 206/1.

فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة؛ لأنا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وقد نقل المحدِّثون كلّهم أو جلّهم، والمؤرِّخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدل على ما قلناه؛ لأن مَنْ قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لا بد أن يفرِّق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولَّد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بد أن يفرِّق بين الكلامين، ويميِّز بين الطريقتين، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفَّحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كُتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسه، وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً، لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه، ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة، وأنت إذا تأمّلت (نهج البلاغة) وجدته كله ماءً واحداً ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز، أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحاً، لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين علیه السلام، واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قِبَل له به؛ لأنا

ص: 134

متى فتحنا هذا الباب، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسلين والخطباء فلناصري أمير المؤمنين علیه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره وهذا واضح (1).

وبعد هذه الجولة في شبهات القوم تبيّن للقارئ الكريم أن كل ما قيل في الطعن في كتاب (نهج البلاغة) ليست إلا قشة تمسّك بها هؤلاء الغرقى لطمس فضيلة واضحة لأمير المؤمنين علیه السلام كما يصنعون بسائر فضائله علیه السلام التي لا يغطيها السحاب، والتي سار بذكرها الركبان، وأن كل طعن في (نهج البلاغة) إنما هو بداعي التعصب المذهبي الممقوت أو البغض لأمير المؤمنين علیه السلام ومعاداة شيعته..

ص: 135


1- شرح نهج البلاغة 129/10.

رأي الشيعة في نهج البلاغة

اشارة

أجمع الشيعة على أن كتاب (نهج البلاغة) من أهم الدرر العلوية والكنوز الحيدرية، فجعلوه كوّة لمن أراد الاقتباس من نور معارف سيِّد الموحدين علیه السلام، وعيناً للارتواء من بحر علوم أمير المؤمنين علیه السلام.

مقام النهج عند الشيعة

لقد كال الشيعة عظيم المدائح لهذا الكتاب عبر الزمن، وكلماتهم في ذلك متظافرة:

قال آغا بزرك الطهراني قدس سره: لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحي الإلهي كتاب آمن به مما دُوِّنَ في (نهج البلاغة)، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي وهو صدف لئالي الحكم، وسفط يواقيت الكلم المواعظ البالغة في طي خطبه وكتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة لسعادة الدنيا والآخرة ترشد طلاب الحقايق بمشاهدة ضالّتهم، وتهدي أرباب الكياسة لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن يعتكف بفنائه العارفون وينقبه البحاثون، وحري أن تكتب حوله كتب ورسائل كثيرة حتى يشرح فيها مطالبه كلاً أو بعضاً، ويترجم إلى لغات أخر؛ ليغترف أهل كل لسان من بحاره غرفة (1).

وقال السيد هبة الله الشهرستاني قدس سره: وكم مثل هذا في الواصفين لنهج البلاغة من حكموا بتفوّقه على كتب الإنشاء ومنشآت البلغاء، واعترفوا ببلوغه حد الإعجاز، وأنه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق المتعال، وأعجبوا به

ص: 136


1- الذريعة 144/4.

أقصى الإعجاب، وشهدت ألسنتهم بدهشة عقولهم من عظمة أضاء سنا برقها من ثنايا الخطب ومزايا الجمل وليس إعجاب الأدباء بانسجام لفظه وحده، ولا دهشة العلماء من تفوّق معانيه البليغة حد الإعجاز فقط، وإنما الإعجاب كله والدهشة كلها في تنوع المناحي في هذه الخطب والكلم، واختلاف المرامي والأغراض فيها، فمِنْ وَعْظٍ ونُصح وزُهد وزجر، إلى تنبيه حربي واستنهاض للجهاد، إلى تعليم فني ودروس ضافية في هيئة الأفلاك وأبواب النجوم وأسرار من طبائع كائنات الأرض وكامنات السماء، إلى فلسفة الكون وخالقه وتفنن في المعارف الإلهية، وترسل في التوحيد وصفة المبدأ والمعاد، إلى توسع في أصول الإدارة وسياسة المدن والأمم، إلى تثقيف النفوس بالفضائل وقواعد الاجتماع و آداب المعاشرة ومكارم الأخلاق، إلى وصف شعري لظواهر الحياة، وغير ذلك من شتى المناحي المتجلية في (نهج البلاغة) بأرقى المظاهر، والإمام نراه الإمام في كل ضرب من ضروب الاتجاه، وعبقرية الإمام ظاهرة التفوّق على الجميع، بينما نرى أفذاذ الرجال يجدون في أوجه الكمال فلا يبلغونه إلا من الوجه الواحد (1).

وقال الشيخ هادي كاشف الغطاء قدس سره: إن (نهج البلاغة) من كلام مولانا أمير المؤمنين، وإمام الموحدين، باب مدينة العلم، علي بن أبي طالب علیه السلام، من أعظم الكتب الإسلامية شأناً، وأرفعها قدراً، وأجمعها محاسن، وأعلاها منازل، نور لمن استضاء به، ونجاة لمن تمسَّك بعراه، وبرهان لمن اعتمده ولب لمن تدبَّره أقواله فصل، وأحكامه عدل حاجة العالم والمتعلم وبغية الراغب والزاهد وبلغة السائس والمسوس ومنية المحارب والمسالم والجندي والقائد فيه من الكلام في التوحيد والعدل، ومكارم الشيم، ومحاسن الأخلاق، والترغيب والترهيب، والوعظ والتحذير، وحقوق الراعي والرعية،.

ص: 137


1- ما هو نهج البلاغة: 4.

وأصول المدنية الحقة وما ينقع الغلة، ويزيل العلة لم تعرف المباحث الكلامية إلا منه، ولم تكن إلا عيالاً عليه، فهو قدوة فطاحلها، وإمام أفضلها (1).

وقال السيد محسن الأمين قدس سره: ولما كان (نهج البلاغة) له منه عليه شواهد، وهو كسائر كلام علي كما قيل عنه: «إنه بعد كلام النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق»، لا يرتاب في ذلك إلا أمثال من يريد التشكيك في الشمس الضاحية (2).

إلى غيرها من المدائح التي تنوَّعت لتشمل النثر والشعر، ولو شئنا استقصاءها لاحتجنا لإفرادها في مصنَّف مستقل.

ولهذا السبب تولّدت شبهة في أذهان المخالفين، وتسرَّبت إلى بعض عوام الشيعة، وهي الاعتقاد بأن جميع ما في (نهج البلاغة) صحيح من الجلدة إلى الجلدة، كما هو الحال عند المخالفين في بعض كتبهم التي يرون أنها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، كصحيح البخاري وصحيح مسلم.

من هنا أردنا بيان رأي الشيعة في صحة جميع ما في كتاب (نهج البلاغة) طبقاً لآراء علماء المذهب وأعمدة الطائفة.

هل عند الشيعة كتاب صحيح؟

دائماً ما يكرِّر بعض المخالفين هذا السؤال: هل يوجد عند الشيعة كتاب صحيح؟ فإن كان الجواب: «نعم»، فأي كتاب هو؟ وإن كان الجواب: «لا» فلماذا لا يوجد عندهم كتب صحيحة نظير ما يوجد عند أهل السنة والجماعة؟

لا بد أولاً من ضبط معنى عبارة (كتاب صحيح)؛ لكي يتسنّى الجواب على هذا السؤال بدقة، ولهذا نقول: إن هذه العبارة (كتاب صحيح) تحتمل أكثر

ص: 138


1- مستدرك نهج البلاغة: 3.
2- أعيان الشيعة 540/1.

من معنى:

الأول: أن يكون المقصود من الكتاب الصحيح هو صحّة انتسابه لمؤلِّفه، بمعنى القطع بأنّ فلاناً هو مؤلف هذا الكتاب، فلا تتطرّق إليه الشكوك والظنون، وبهذا المعنى تكون أغلب كتب الشيعة صحيحة، مثل الكتب الأربعة، وكتب الصدوق قدس سره، والمفيد قدس سره، والشيخ الطوسي قدس سره، والشريف المرتضى قدس سره، وغيرهم.

وأما عند المخالفين فلا يوجد كتاب تقريباً من الكتب الحديثية لا يوجد مطعن في سنده، فصحيح البخاري مثلاً المتداول الآن هو من رواية محمد بن يوسف الفربري المجهول الحال، إضافة إلى أن محمد بن إسماعيل البخاري توفي قبل أن ينهي كتابه، وتركه مجرّد مسوّدة.

وصحيح مسلم المتداول الآن هو من رواية إبراهيم بن محمد بن سفيان الذي لم يسمع كل الكتاب، وزاد عليه أموراً بالوجادة، كما أن الراوي عنه وهو محمد بن عيسى الجلودي مطعون فيه، وسماعه للكتاب مشكوك فيه، إضافة إلى أن مسلم بن الحجاج أيضاً توفي قبل أن ينتهي من كتابة كتابه.

ومسند أحمد بن حنبل فيه نفس المشكلة، حيث ابتلي بالزيادات من عبد الله بن أحمد، ورواه عنهما أحمد بن جعفر القطيعي الذي زاد بدوره على المسند أشياء من كيسه، وفوق كل هذا قد شهد الكل بأنه اختلط.

ولو أردنا تتبّع كتب القوم لما بقي لهم شيء، وقد سمعت ذات مرة من أستاذي الشيخ الحجة عباس آل سباع رحمه الله أنّ كل طرق القوم إلى كتبهم فيها كلام.

الثاني: أن يكون المعنى المراد من هذه العبارة هو أن مؤلّف الكتاب قد بذل جهده في تمحيص الأحاديث، وتمييز سقيمها من صحيحها، ثم حكم على

ص: 139

ما أورده في كتابه بالصحة، وبهذا المعنى أيضاً توجد كتب كثيرة صحيحة عند الشيعة، مثل كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه قدس سره، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق قدس سره، وكتاب التفسير لعلي بن إبراهيم القمي قدس سره.

أما عند المخالفين فإن كان هذا هو المعنى الذي يقصدونه من الصحّة فإنه سينقلب كلّ شيء رأساً على عقب؛ لأن الكتب التي يسلّمون بصحّتها لا يصدق عليها هذا المعنى؛ لأن محمد بن اسماعيل البخاري لم يصرّح بصحّة كتابه ولم يذكر شروطه، وكذلك مسلم بن الحجاج النيسابوي، وفي المقابل نجد ابن داود قد حكم على أحاديث كتابه السنن،بالصحة، وكذلك الحاكم النيسابوري، وأحمد بن حنبل، ومالك بن أنس، وغيرهم من المصنفين.

الثالث: هو أن يكون المقصود من هذه العبارة أن الكتاب قد أجمع المسلمون كافة على صحّة ما فيه من الجلدة إلى الجلدة، بحيث يعتبر كلّ ما فيه حجة، وهذا القسم من الكتب لا يوجد منها إلا كتاب الله عزّ وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولكن قد يقول قائل: إن أهل السنّة عندهم مثل هذه الكتب المتمثلة في الصحيحين.

وهذا باطل كما قدّمنا سابقاً، فإنا ذكرنا أحاديث مخرجة في الصحيحين حكم بعض علماء أهل السنة بأنها مكذوبة وموضوعة.

ونضيف عليها ما صرّح به الألباني في السلسلة الصحيحة بعد أن ذكر حديثاً مخرجاً في الصحيحين، وخرج طرقه، ثم قال: هذا الشذوذ في هذا الحديث مثال من عشرات الأمثلة التي تدل على جهل بعض الناشئين الذي يتعصبون لصحيح البخاري، وكذا لصحيح مسلم تعصباً أعمى، ويقطعون بأن

ص: 140

كل ما فيهما صحيح (1).

ومن هنا نعلم أنّ المعنى الأول والثاني للكتاب الصحيح موجود عند الشيعة، أما المعنى الثالث فلا وجود له أصلاً، وبهذا نستطيع أن نقول: إن عند الشيعة كتباً صحيحة، وليس كما يتصوّر البعض من أنه لا صحيح عندهم.

هل كتاب نهج البلاغة صحيح؟

بعد أن فصّلنا في معنى الصحيح نأتي الآن لكتاب (نهج البلاغة)، هل هو كتاب صحيح؟ وإن كان كذلك فبأي معنى من المعاني التي ذكرناها سابقاً؟

والجواب على هذا: أن كتاب (نهج البلاغة) صحيح بالمعنى الأول والثاني، وليس صحيحاً بالمعنى الثالث.

أما المعنى الأول فلأن نسبة الكتاب إلى الشريف الرضي قدس سره ثابتة كما قدّمنا، ولا نجازف إذا قلنا: إن الكتاب قد تواتر عن السيّد الرضي بحيث لا يبقى مجال للشك فيه والريبة.

أما المعنى الثاني: فيمكن أن يُستظهر من بعض عبارات السيد الرضي التي ذكرها في مقدّمة كتابه، إذ أنه نسب الكلام إلى جدّه الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام على نحو الجزم والقطع، ولم يعبّر برُوي أو قيل المشعرة بالتوهين والتمريض إلا في موارد قليلة في كتابه، ومن هنا نقول: إن الشريف الرضى قدس سره يعتقد بصحّة كتابه في الجملة.

أما المعنى الثالث: فكما قدّمنا سابقاً أنه لا وجود لكتاب بهذه الصورة لا عندنا ولا عند المخالفين سوى كتاب الله عزّ وجل، ولذلك لا داعي لطرحها أساساً.

ص: 141


1- سلسلة الأحاديث الصحيحة 93/6.

المنهج الصحيح للتعامل مع النهج

كما ذكرنا سابقاً أنه لا يوجد كتاب قد أجمع الناس على صحّته من الجلدة إلى الجلدة، وحتى كتاب (نهج البلاغة) مشمول بهذا التعميم، فالمدائح التي قيلت فيه لا يعني أنه صحيح كلّه، بل تفيد صحّته في الجملة.

ومن هنا نقول: إنّ علماء الشيعة لم يقولوا: إن النهج صحيح كما يعتقد المخالفين في البخاري ومسلم، بل هي صحّة في الجملة، أي لا مانع من وجود بعض الأحاديث التي قد تكون مخدوشة سنداً، أو تحوي مضامين غير مقبولة عند الطائفة؛ لمعارضتها لما هو أكثر صحّة منها.

ولهذا قال الشيخ الهادي كاشف الغطاء قدس سره: والخلاصة أن اعتقادنا في كتاب (نهج البلاغة) أن جميع ما فيه ما فيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يروى عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم وعن أهل بيته في جوامع الأخبار الصحيحة وفي الكتب الدينية المعتبرة، وإن منه ما هو قطعي الصدور، ومنه ما يدخله أقسام الحديث المعروفة (1).

مفاد كلام الشيخ أن (نهج البلاغة) يعامل معاملة الكتب الأربعة وغيرها من كتب الشيعة، فهذه الكتب فيها الصحيح والحسن، والموثق، والضعيف بل والموضوع.

وقال المحقق التستري قدس سره: لكنه عفا الله عنه لما كان متهالكاً على نقل كل كلام فصيح منسوب إليه علیه السلام، لم يتفطّن أنّ الخصم قد يحتال ويزوّر على لسانه الا بتزويق كلامه، كما ترى في الخطبة 90 و 166 و 266، وفي نقله الخطبة 6 لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير، وقد تكلمنا عنهما في موضعها، كما أنه عفا الله عنه لما كان نظره في اختيار كلامه علیه السلام على الكلمة الفصيحة فقد يقتصر

ص: 142


1- مستدرك نهج البلاغة: 191.

على مثل الاقتصار على قوله تعالى: ﴿لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ) بدون: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ) كما تراه في الحكمة 467، وقد بحثناها في موضعها، كما أنه عفا الله عنه لكون مراجعته إلى كتب العامّة ورواياتهم فقط، غالباً قد ينقل ما تكذّبه روايات الخاصّة، كما تراه في الخطبة 57، وقد شرحناه في محله (1).

وكلامه قدس سره واضح بيّن، إذ أنه ردّ جملة من نصوص (نهج البلاغة) لعدة اعتبارات ذكر شواهد عنها في المقدمة وأخرى فصّلها في كتابه.

وقال الفقيه المعروف السيد على الفاني الأصفهاني قدس سره: وأما ثبوت النهج بمجمعه فمما لا يقتضيه هذا الوجه كما هو بيِّن واضح، وأي صعوبة في الدّس المقتبس من مجموع كلامه بحيث يؤدي إلى ضياع التشخيص ولو جزئيًّا (2).

وكلماتهم في هذا الصدد كثيرة جدّا ولا يوجد من العلماء المحققين أو الفقهاء المجدّين من صرّح بصحة النهج بالجملة.

وقد يطرح البعض تساؤلا وهو: ان كان النهج يحوي أمورا غير ثابتة عن أمير المؤمنين علیه السلام فكيف نتعامل معه؟

والجواب على هذا: أن التعامل مع كتاب (نهج البلاغة) يكون بحسب تصنیف مضمون الرواية:

فإن كانت رواية فقهية فلا بد للعمل بها من توافر شروط الحجية التي يبحثها الفقهاء في علم الأصول، وهذا الصنف ليس ابتلائيًّا لأمرين:

أولهما: أنه من النادر في (نهج البلاغة) احتواؤه على مضامين يستدل بها على مسائل فقهية إلا في موارد قليلة ربما تعدّ على اليد الواحدة.

وثانيها: أن المكلّف لا يعتمد على الروايات لأخذ الحكم الشرعي، بل هو.

ص: 143


1- بهج الصباغة: 123.
2- بحوث في فقه الرجال: 115.

يرجع إلى مقلده الذي يستنبط الحكم.

وأما إذا كانت الرواية عقائدية فإن عقائد الشيعة معروفة لكل، فإن كانت هذه الرواية موافقة لما ثبت بالقطع واليقين من العقائد فلا بأس بالعمل بها، وتصديق مضمونها، أما إذا خالفت المنظومة العقدية الشيعية فإنّه يضرب بها عرض الجدار.

وأما إذا كانت رواية تاريخية فلا بأس بتصديقها ما لم تحوي ما عُلم بطلانه بالضرورة، أو عارضتها روايات أخر؛ لأن الأخبار التاريخية لا يشترط فيها

صحة سند ولا وثاقة رجال، بل يكفي فيها تحصيل الاطمئنان للعمل بها.

وأما إذا كانت رواية أخلاقية أي احتوت موعظة أو ترغيباً أو ترهيباً أو ثناءً ومدحاً لله عزّ وجل أو لنبيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فهذه أيضاً يجوز العمل بها لما قدّمناه سابقاً من عدم اشتراط صحة السند في مثل هذه الموارد، ولعل أغلب (نهج البلاغة) هو من هذا القسم: حكم ومواعظ، وتذكير بالله وبالآخرة.

ص: 144

شروح نهج البلاغة

اشارة

اهتم المسلمون على مرّ التاريخ بكتاب نهج البلاغة، وكتبوا عليه شروحاً وتعليقات ومستدركات تعد بالعشرات، بل أصبح كتاب (نهج البلاغة) ومتعلقاته مكتبة كاملة.

وقد نقل السيّد عبد الزهراء الخطيب عن الشيخ كاشف الغطاء أنه قال: وقفنا حتى اليوم أي سنة 1360 ه على ستّة وستين شرحاً ما عدا الشروح الخاصة بخطب مخصوصة، وهي لا تقلّ على تسعين شرحاً، ويروي بعض العلماء بالتأليف والأداب أن شروح النهج قد بلغت المائتين (1).

ونحن هنا لسنا بصدد تعداد شروح النهج واستقصائها؛ لأن أغلبها حبيس المكتبات، ولا يزال أغلبها مخطوطات لم تر النور بعد، بل نريد ذكر أهم الشروح المتداولة التي يستفيد منها الباحث في مطالعته لكتاب (نهج البلاغة)

معارج نهج البلاغة للبيهقي:

من أقدم شروح (نهج البلاغة) المتوفّرة الآن، إلا أنه لم يشتهر بين الناس، وبقي متداولاً في دائرة ضيقة حتى إنه خفي على ابن أبي الحديد، ولم يطلع عليه، و لذلك قال في شرحه: ولم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه إلا واحد، وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي، وكان من فقهاء الإمامية (2).

أما مؤلّفه فهو أبو الحسن علي بن أبي القاسم زيد بن أميرك الأنصاري البيهقي، من ذرية خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين رضی الله عنه، ولد سنة 499 ه، وتوفي

ص: 145


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/1
2- شرح نهج البلاغة 1/ 5

سنة 565 ه - ببيهق، وصرح هو في كتابه أنه فرغ من شرحه على النهج في الثالث عشر من جمادى سنة 552 ه (1).

وقد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (2)، والآغا بزرك الطهراني في كتاب الذريعة (3) بترجمة مطولة، فمن شاء الاطلاع فليراجع هناك.

ويتميز هذا الشرح بعدة أمور:

الأول: أنه من أقدم الشروح، وبالتالي ستكون نسخته من أضبط النسخ وأصحها؛ لقرب عهدها بعصر الشريف الرضى الله، خصوصاً وأن المصنف نص في أول كتابه على سنده للكتاب، فقال: قرأت كتاب (نهج البلاغة) على الإمام الزاهد الحسن بن يعقوب بن أحمد القاري، وهو وأبوه في ملك (فَلَك) الأدب،قمران، وفي حدايق الورع ثمران في شهور سنة ست عشرة وخمسمائة، وخطه شاهد لي بذلك، والكتاب سماع له عن الشيخ جعفر الدوريستي المحدّث الفقيه، والكتاب بأسره سماع لي عن والدي الإمام أبي القاسم زيد بن محمد البيهقي، وله إجازة عن الشيخ جعفر،الدوريستي، وخطّ الشيخ جعفر شاهد عدل بذلك، وبعض الكتاب أيضاً سماع لي عن رجال لي، رحمة الله عليهم، والرّواية الصحيحة في هذا الكتاب رواية إلى الأغرّ محمد بن همام البغدادي تلميذ الرّضى، وكان عالماً بأخبار أمير المؤمنين (4).

الثاني: أن المصنف حاول جمع جملة من العلوم في كتابه، فتعرض إلى مطالب كلامية، وفقهية وعقدية وتاريخية وحاول أن يعطي الكتاب حقه، ولذلك صرَّح في خاتمة كتابه بقوله: شرحتُ هذا الكتاب على مبلغ وسعي.

ص: 146


1- معارج نهج البلاغة: 468.
2- سير أعلام النبلاء 586/20.
3- الذريعة 138/14.
4- معارج نهج البلاغة: 3.

وإمكاني، وأوردت في هذا الشرح من العلوم علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلوم غرايب الأخبار وعلوم التواريخ وعلوم الإشارة، والأيام للعرب، وعلوم نوادر اللغة وعلوم الكلام وعلوم الطب وعلوم الهيئة والحساب وعلوم الأخلاق، وعلوم الموازين موازين النحو وغيره، وعلوم أمثال العرب وعلوم مقامات الأولياء، وعلوم أثالوجيا وجو مطريا، لا على موجب النقل والحكاية، بل على قضايا البحث المستقصى والدراية، فمن أراد الزيادة وما اختار

الاستفادة، وله رتبة الإفادة، فهو من الذين أحسنوا بالحسنى وزيادة (1).

لكن الذي يلاحظ عليه أنه اكتفى بالإشارة، ولم يستوف الشرح، وكأنه يخاطب مجموعة من العلماء المتخصصين فالشرح في مجمله نخبوي، وليس

العامة الناس فالفائدة منه محدودة.

منهاج البراعة للراوندي:

من

المصنّفات القديمة في شرح كتاب (نهج البلاغة)، وصاحبه هو قطب

الدين سعيد بن هبة الله الراوندي من كبار علماء الإمامية وفقهائهم، مجمع على فضله وعدله، ولذلك قال العلامة الأميني الله فيه: قطب الدين أبو الحسين سعد بن هبة الله بن الحسن بن عيسى الراوندي، إمام من أئمة المذهب، وعين من عيون الطائفة، وأوحدي من أساتذة الفقه والحديث، وعبقري من رجالات العلم والأدب، لا يلحق شأوه في مآثره الجمة، ولا يُشق له غبار في فضايله ومساعيه المشكورة، وخدماته الدينية، وأعماله البار، وكتبه القيمة (2).

وقد ذكر الشيخ الأميني الله تاريخ وفاته، والاختلاف الذي فيه، فقال: توفي المترجم القطب السعيد ضحوة يوم الأربعاء الرابع عشر من شوال سنة

ص: 147


1- معارج نهج البلاغة: 467.
2- الغدير 380/5.

ثلاث وسبعين وخمسمائة كما في إجازات البحار ص 15 نقلاً عن خط شيخنا الشهيد الأول لله، وفي لسان الميزان نقلاً عن تاريخ الري لابن بابويه أنه توفي في ثالث عشر،شوال، وقبره في الصحن الجديد من الحضرة الفاطمية بقم

المشرفة (1)

وقد اعتبر ابن أبي الحديد شرح الراوندي من أقدم الشروح على كتاب

(نهج البلاغة)، ولذلك كان كثيراً ما ينقل عنه، ويناقش آراءه.

ويتميز هذا الشرح بأمرين:

الأول: أنه قريب عهد بالشريف الرضي الله مما يجعلنا نثق أكثر بضبط النسخة واعتبارها، وقد ذكر أيضاً الراوندي سنده في مقدمة كتابه، فقال: أخبرنا السيد أبو الصمصام ذو الفقار بن محمد بن معبد الحسني، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الحلواني قال الرضي أخبرنا الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي، قال: أخبرنا الشيخ أبو جعفر الطوسي، قال السيد الرضي رضي الله عنه وأرضاه

(2)

وكما ترون أن الواسطة بينه وبين الشريف الرضي الله رجلين لا أكثر. الثاني: أن هذا الشارح كان معروفاً بأنه جامع للفنون كلها، فهو فقيه، ومتكلّم، ومحدث، ومؤرّخ، وأديب وشاعر، فلم يترك علماً إلا ونجد له بصمة

فيه، وهذا ما يجعل شرحه أكثر جامعية من غيره؛ لتضلعه في كل هذه الفنون. وقد أكثر ابن أبي الحديد من مناقشة قطب الدين الرواندي، ونقد أفكاره، وتسخيف،آرائه حتى ظن البعض أن الكتاب لا قيمة له ولا أرى سبباً لهذه الحملة التي شنّها المعتزلي على منهاج البراعة سوى الحسد الذي يحمله قلبه على.

ص: 148


1- الغدير 384/5.
2- منهاج البراعة 6/1.

العلامة قطب الدين الرواندي.

شرح ابن أبي الحديد المعتزلي

اشارة

يعتبر هذا الشرح من أشهر الشروح على الاطلاق، حيث انتشر وشاع بين الناس، بحيث يتصور البعض أنه لا شرح لنهج البلاغة سوى شرح ابن أبي الحديد؛ لكثرة ما يُحتج بأقواله، ويستدل بكلامه في الكتب والمصنّفات، ولعل السبب في هذه الشهرة هو أن هذا الرجل لا يتدين بمذهب الإمامية، ولا ينتحل التشيع فلهذا كثر تداول كتابه من باب الاحتجاج على المخالفين وإلزامهم

بكلامه.

لكن ظهر مؤخَّراً من يحاول نسبة ابن ابي الحديد للشيعة، وينافح لتأكيد إماميته، وأنه رافضي،جلد، لا يُحتج بكلامه، حتى التبس ذلك على بعض الناس فصدقوا هذه الدعوة، وقد قال قائلهم: يُكثر صاحب المراجعات من الاحتجاج بكثير من نصوصه على أنه من المصادر السنية التي يحتج بها علينا، وهذا من الكذب؛ فإن ابن أبي الحديد رافضي وقال آخر: وليس عجيبا من ابن أبي الحديد منح نهج البلاغة) هذا الوصف، وسخاؤه به؛ لأنه شيعي والشيعة يقولون: إن كلام علي فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق، فجعلوا كلامه فوق كلام الرسل صلوات الله

وسلامه عليهم أجمعين (1).

(2)

ولهذا سنقف وقفة مطولة مع هذا الرجل؛ لنعلم حقيقة مذهبه وصحة ما

نسبوه إليه من عقائد.

من هو ابن أبي الحديد؟

ص: 149


1- البيان لأخطاء بعض الكتاب: 102.
2- أحاديث يحتج بها الشيعة: 62.

هو عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي، كان أديباً شاعراً، متكلّماً، مقرَّباً من بلاط العباسيين في ذلك الوقت، وقد ترجم له أرباب التاريخ في كتبهم، نذكر منهم: - 1 - الصفدي في الوافي بالوفيات: قال عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد عز الدين أبو حامد المدائني المعتزلي،الفقيه الشاعر، أخو موفق الدين، ولد سنة ست وثمانين وخمس مائة، وتوفي سنة خمس وخمسين وست مائة، وهو معدود في أعيان الشعراء، وله ديوان مشهور، روى عنه الدمياطي، ومن تصانيفه: (الفلك الدائر على المثل السائر)، صنفه في ثلاثة عشر

يوما (1)

يوما".

- 2 - الذهبي في تاريخ الإسلام قال عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن

محمد بن أبي الحديد عز الدين أبو حامد المدائني،المعتزلي،الفقيه الشاعر الأديب، أخو الموفق، وُلِد سنة ست وثمانين وخمسمائة، روى بالإجازة عن عبد الله بن أبي المجد الحربي، وهو معدود في أعيان الشعراء كأخيه، وله ديوان مشهور، وهو من شيوخ الدمياطي وغيره بل الصواب موت الأخوين في سنة ست و خمسين (2).

هل ابن أبي الحديد شيعي؟

كما ذكرنا سابقاً حاول بعض المعاصرين إلصاق التشيع بابن أبي الحديد ولعل أول من نسب إليه ذلك هو ابن كثير، حيث قال في (البداية والنهاية) عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي له شرح نهج البلاغة) في

، 8

ص: 150


1- الوافي بالوفيات 46/18.
2- تاريخ الإسلام 202/48

عشرين مجلداً، وُلد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد، فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفي، وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيّع والأدب والفضيلة وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى

وكلام ابن كثير مردود من عدة وجوه نوردها تباعاً:

(1)

هو علاقة ابن

الأول: لم يأت ابن كثير بدليل على مدعاه، بل غاية ما ساقه أبي الحديد بابن العلقمي الشيعي، ولعمري متى كانت صحبة الشيعي تدل على التشيع، فإن كان الأمر كذلك فيجب على ابن كثير الحكم بتسنن ابن العلقمي؛ لأن هذا الرجل كان من المقربين من خلفاء بني العباس الذين أجمع الكلّ أنهم كانوا على غير مذهب الشيعة.

الثاني: أن ابن كثير قد انفرد بهذه الدعوى، وإلا فكل من ترجم لابن أبي الحديد قبل ابن كثير نسبه للاعتزال، ويكفينا في هذا الصدد ذكر كلام الذهبي الذي يعتبر أكثر تضلّعا في التاريخ منه، فقد قال في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة الموفق أخي ابن أبي الحديد: مات في وسط سنة ست وخمسين، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد، ثم مات بعده بقليل في العام وكانا من كبار الفضلاء وأرباب الكلام والنظم والنثر والبلاغة والموفق أحسنهما عقيدة، فإن العز،معتزلي أجارنا الله (2).

الثالث: الطريق الصحيح لمعرفة عقيدة الشخص هو البحث في كلماته،.

ص: 151


1- البداية و النهاية 233/13.
2- سير أعلام النبلاء 275/23.

فهو أعلم بنفسه من غيره، ومن استقرأ تصريحات ابن أبي الحديد جزم يقيناً أنه معتزلي حتى النخاع، بل مغالٍ في الاعتزال.

فقد قال في مقدمة شرحه على النهج وقدَّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، واختص الأفضل من جلائل المآثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه، ويجل عن التكييف (1).

وهو الذي يقول في أول الكتاب تحت باب أسماه: (القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج): اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله المتقدِّمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعة أبي بكر الصدِّيق بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نصٍّ، وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع وبغير الإجماع كونه طريق إلى الإمامة (2).

وهذا الكلام نصّ منه في كونه معتزليًّا، ولا أظن عاقلاً يقول أن شيعيًّا يعتقد بصحة بيعة الأول ويسمّيه بالصدَّيق!

وهو الذي يقول أيضاً: وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جلة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في أخبار المحدِّثين، إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى وإن لم يكن اللفظ بعينه (3).

وقد قال عند حديثه عن مولد أمير المؤمنين علیه السلام: واختلف في مولد علي علیه السلام أين كان؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدِّثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خویلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي (4).

ص: 152


1- شرح النهج 1/ 19.
2- شرح النهج 1/ 22.
3- نفس المصدر 26/1.
4- نفس المصدر 28/1.

وقال عند شرحه الخطبة الشقشقية: أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها، وتذهب إلى أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم نصّ على أمير المؤمنين علیه السلام، وأنّه غُصِبَ حقّه، وأما أصحابنا رحمهم الله فلهم أن يقولوا. (1)

فها هو يأتي بآراء مسلّمة للشيعة لا يختلفون فيها، ويردّها، ويتبنى آراء المعتزلة فيها، فأي دليل أوضح من هذا؟

بل إنه كثيراً ما يطعن في الشيعة بطعون عظيمة، ومن ذلك قوله: وأعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو حديث (السطل)، وحديث (الرمانة)، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتُعْرَف كما زعموا (بذات العلم)، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك (2).

والنتيجة أن كل من اطلع على هذا الشرح يجزم بما لا شك فيه أن ابن أبي الحديث كان معتزليًّا، وأنه أبعد ما يكون عن الشيعة الإمامية.

الرابع: كل من اطلع على كلمات علماء الشيعة يرى أنهم جازمون بأن ابن أبي الحديد لم يكن شيعيًّا، وسنورد بعض الكلمات التي تكفي لدفع هذا التوهم:

الشيخ الحر العاملي رحمه الله: قال في كتابه (الجواهر السنية) وروى الشيخ العالم عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي أصولاً الحنفي فروعاً في كتابه شرح (نهج البلاغة) عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... (3).

الشيخ يوسف البحراني رحمه الله: صنّف كتاباً أسماه (سلاسل الحديد في تقييد.

ص: 153


1- نفس المصدر 1/ 116.
2- نفس المصدر 49/11.
3- الجواهر السنية: 306.

ابن أبي الحديد) تعرض فيه إلى الموارد التي ردَّ فيها ابن أبي الحديد على الشيعة ونقض عليه بردود قوية وبعبارات قاسية، منها قوله: فانظر إلى هذا الشارح الضال التايه في أودية الضلالة كيف يدَّعي في غير مقام ما تقدَّم أن عثمان من أهل الجنة ومن جملة العشرة المبشرة، وينقل هنا عن عمار مثل هذا الكلام المنادي عليه بالدمار، وقد عرفت آنفاً ما نقلوه في حق عمار من الأخبار (1).

ما وقال في مورد آخر: إن الشيعة بحمد الله تعالى لكونهم على الحق الواضح المبين، قد أوضح الله لهم الحجة على ألسنة المخالفين، كما سيظهر لك من أخباره المنقولة، وليته كان مع نقله لهذه الأخبار يميِّز فيها بين الغث والسمين، والعاطل والثمين، ويجري فيها على جادة الإنصاف ويتجنَّب الضلال والاعتساف ولكنه يغمض عينه عما اشتملت عليه من المناكير الظاهر عاراً وشناراً المعلنة بالقدح في أئمته جهاراً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً (2).

السيد هاشم البحراني رحمه الله: ألف كتاباً أسماه (سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد) ردّ على جملة من الأمور التي ذكرها ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة، ونسبه في أكثر من مورد إلى التعصب والعناد.

منها قوله: وهذا الحمل أبعد ابن أبي الحديد عن الحق كبعد ما بين السماء إلى الأرض، إذ لا موجب لهذا الحمل إلا التعصب والحمية المذهبية للمذهب الاعتزالي، إذ لا كتاب ولا سُنّة، ولا إجماع على صحّة حمله بل من نظر في شرحه للنهج رأى الحق عياناً لأمير المؤمنين علیه السلام بالبراهين القطعية التي ذكرها في الشرح، كما ستقف عليه إن شاء الله؛ وإنما ذكرت هذا الفصل لئلا يظن ظان أن ابن أبي الحديد إمامي المذهب إذا رأى ما نقلناه عنه في الشرح، مما ذكره في النصوص الدالة أن عليًّا علیه السلام أمير المؤمنين هو الإمام بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ومما.

ص: 154


1- سلاسل الحديد 6/2.
2- سلاسل الحديد 303/2.

ذكره في فضله علیه السلام وفضل أهل البيت علیهم السلام، وذكره روايات تدل على الطعن على من تقدم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام وأتباعهم كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، فهو معتزلي المذهب لا شك في ذلك ولا ريب، ومن لاحظ شرحه رأى ذلك عياناُ (1).

ومنها قوله: ما يكفي ابن أبي الحديد وأصحابه ما ذكره ورواه في منازعة أمير المؤمنين علیه السلام، و تظلّمه، وغير ذلك مما ذكره ابن أبي الحديد ها هنا سابقاً، حيث قال: فإن هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة تدل على أنه قد كاشفهم، وهتك القناع بينه وبينهم إلى آخر ما تقدم من كلامه، فكيف يقول عقيب هذا الحديث الأخير من قول شيوخه البغداديين أن الإمامة كانت لعلي علیه السلام إن رغب فيها ونازع عليها، فأي رغبة أظهر وأبين وأعظم مما ظهرت في هذا الحديث لمن تأمّله بأدنى تأمّل، وهل هذا إلا تعصب من ابن أبي الحديد على مذهبه الاعتزالي، واعترافه بالحق وإنكاره إياه، فماذا بعد الحق إلا الضلال (2).

الشيخ محمد طه نجف رحمه الله: قال: لو أوقف خصوم أمير المؤمنين علیه السلام بين يدي الله ما استطاعوا أن يعتذروا عن أنفسهم كما اعتذر عنهم ابن أبي الحديد (3).

السيد عبد الزهراء الخطيب رحمه الله: قال: هذا ويعد ابن أبي الحديد من خصوم الشيعة وأشد مناوئيهم رغم ما يُظهر من حبِّه لعلي علیه السلام وإظهار

تفضيله (4).

فبعد هذه الأقوال المتضافرة، هل هناك من يجرؤ ويقول: إن ابن أبي الحديد المعتزلي من الشيعة الإمامية؟!.

ص: 155


1- سلاسل الحديد: 92.
2- نفس المصدر: 221
3- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 217/1.
4- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 217/1.

ولكن ربما يورد هنا علينا إشكال: وهو أن بعض علماء الشيعة قد صرّحوا بأنّ هذا الرجل من الشيعة، مثل آغا بزرك الطهراني (1)، والسيد الخونساري، (2) والمجلسي الأول (3)، وغيرهم.

والجواب: أن كل هؤلاء لم يثبتوا أن ابن أبي الحديد كان شيعيًّا بالمعنى الأخص، أي أنه من الشيعة الإمامية، بل أثبتوا له التشيّع بالمعنى الأعم، وهو محبّة أمير المؤمنين علیه السلام، وتقديمه على من سبقه من الحُكّام.

وهذه الصفة قد أطلقها جملة من علماء العامة على بعض الصحابة والتابعين وأئمة الحديث.

منهم: الصحابي الجليل أبو الطفيل: قال الذهبي فيه: واسم أبي الطفيل: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني الحجازي الشيعي، كان من شيعة الإمام علي، مولده بعد الهجرة، رأى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وهو في حجة الوداع وهو يستلم الركن بمحجنه، ثم يقبل المحجن (4).

بل قيل فيه: إن البخاري ترك حديثه لإفراطه في التشيع كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي، حيث قال: وسُئل لم ترك البخاري حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: لأنه كان يفرط في التشيّع (5).

ومنهم الصحابي الجليل حجر بن عدي: حيث نصَّ الذهبي على تشيّعه، فقال: وكان شريفاً، أميراً، مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقدماً على الإنكار من.

ص: 156


1- الذريعة 9 / 685.
2- روضات الجنات 20/5.
3- روضة المتقين 498/2.
4- سير أعلام النبلاء 3/ 468.
5- الكفاية في علم الرواية: 159.

شيعة علي رضی الله عنه، وشهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبّد (1).

ومنهم: أبو الأسود الدؤلي: فقد قال فيه الذهبي: قاتل أبو الأسود يوم الجمل مع علي بن أبي طالب، وكان من وجوه الشيعة، ومن أكملهم عقلاً ورأياً (2).

ومنهم: الحافظ النسائي: قال الذهبي في السير: ولم يكن أحد في رأس الثلاث مئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة، إلا أن فيه قليل تشيع، وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه (3).

ومنهم: الحاكم النيسابوري: قال الذهبي في السير: عن ابن طاهر: أنه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي، عن أبي عبد الله الحاكم، فقال: ثقة في الحديث، رافضي خبيث؛ قلت – أي الذهبي - : كلا ليس هو رافضيًّا، بلى يتشيع (4).

والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا من كتب المخالفين، وقد أتقن المجلسي الأول قدس سره وصفه حين نسبه إلى فرقة التفضيلية (5)، أي غاية ما عندهم من التشيّع هو تفضيل أمير المؤمنين علیه السلام على غيره من الصحابة.

و هذا ما يجعلنا نجزم ونقطع أن نسبة الرجل إلى التشيع ليست إلا محاولة من الخصوم للتهرّب من إلزامهم بكلامه..

ص: 157


1- سير أعلام النبلاء 463/3.
2- نفس المصدر 82/4.
3- نفس المصدر 133/14.
4- نفس المصدر 174/17.
5- روضة المتقين 498/2.

القيمة العلمية لشرح ابن أبي الحديد

يعتبر شرح ابن أبي الحديد المعتزلي من أشهر شروح النهج وأكثرها تداولاً بين الناس، ولهذا الشرح عدة إيجابيات نذكر منها:

الأول: أن صاحب هذا الشرح ليس بشيعي المذهب كما بيّنا في البحث السابق، وهذا يدل على ما تبوأه كتاب (نهج البلاغة) من المكانة المهمة بين المسلمين باختلاف مذاهبهم، حيث تعاهدوه بالرعاية والعناية والشرح.

الثاني: اجتهد هذا الرجل في نقل كثير من الحوادث التاريخية المهمة التي أغفلها غيره حتّى عدّ كتابه موسوعة كاملة أرّخت تلك الفترة الزمنية التي تبدأ من فجر الإسلام إلى سقوط الدولة العباسية ودخول التتار إلى بغداد مما يجعل من الكتاب مرجعاً مهمًّا جدًّا، خصوصاً مع قدمه الزمني ومعاصرته لبعض الأحداث المهمّة.

الثالث: ضمّن ابن أبي الحديد في شرحه بعض المتون المهمة والكتب المفقودة في عصرنا الحالي ككتاب (السقيفة) لأحمد بن عبد العزيز الجوهري، وكتاب (وقعة الجمل) لأبي مخنف، وأجزاء غير موجودة من كتاب (الموفقيات) للزبير بن بكار، وغيرها من المتون التاريخية المهمة.

الرابع: هذا الرجل يعتبر من الأدباء المتضلعين في اللغة والشعر، وقد استغل هذا الجانب في إبراز عظمة (نهج البلاغة) وإظهار الجانب الجمالي في عبارات أمير المؤمنين صلی الله علیه و آله و سلم، التي هي بحق: دون كلام الخالق فوق كلام المخلوقين.

الخامس: طرح المصنف أهم الآراء الاعتزالية في شرحه على النهج، وناقش الشيعة الإمامية، لاسيما القطب الراوندي رحمه الله، مما خلق سجالاً علميّاً لطيفاً أثرى الساحتين، فمن يتصفح شرحه يجد مناقشة لعقيدة الشيعة في

ص: 158

الصفات وعقيدتهم في الإمامة، ونقداً لقراءتهم لبعض الأحداث التاريخية.

شرح ابن ميثم البحراني:

يأتي هذا الشرح في المرتبة الثانية في الشهرة بعد كتاب ابن أبي الحديد المعتزلي، وقد كُتب الشرحان في نفس الفترة الزمنية تقريباً، إذ أن ابن ميثم البحراني رحمه الله توفي في سنة 679 ه، وابن أبي الحديد توفي في سنة 656 ه.

وقد ترجم علماؤنا لابن ميثم رحمه الله في كتبهم، وذكروا ما حازه من المناقب والمفاخر، ونحن نكتفي بنقل ما ذكره المحدِّث القمي في (الكنى والألقاب)، فإنه قال: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، العالم الرباني، والفيلسوف المتبحر المحقق، والحكيم المتأله المدقق، جامع المعقول والمنقول، أستاذ الفضلاء الفحول، صاحب الشروح على نهج البلاغة، يروي عن المحقق نصير الدين الطوسي، والشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني، ويروي عنه آية الله العلامة، والسيد عبد الكريم بن طاووس قيل: إن الخواجة نصير الدين الطوسي تلمذ على كمال الدين ميثم في الفقه، وتلمذ كمال الدين على الخواجة في الحكمة، توفي سنة 679، وقبره في هلتا من قرى ماحوز، وحكي عن بعض العلماء: أن ميثم حيثما وجد فهو بكسر الميم إلا ميثم البحراني فإنه بفتح الميم، والله تعالى العالم، وكتب الشيخ سليمان البحراني رسالة في أحواله سماها: (السلافة البهية) (1).

ويتميَّز شرحه على النهج بعدّة أمور، نذكر منها:

الأول: أنه ذكر في كتابه مقدّمة فريدة جمع فيها بين علم المنطق والأصول والفلسفة والبلاغة، بحيث تكاد تكون منهاجاً يستطيع الباحث من خلالها قراءة النهج، والوصول إلى دقائق معانيه وحقائق مفرداته.

ص: 159


1- الكنى والألقاب 433/1.

الثاني: أطنب الشارح في المسائل الكلامية، بحيث يكاد يكون الكتاب متناً عقائديًّا متكاملاً، فنجده بحث كل ما يتعلق بالتوحيد، من إثبات للصانع، وبيان حقيقة الصفات، وعرّج على كيفية إثبات النبوات، ثم بسط الكلام في الإمامة، وفي مقامات الآل، وبالخصوص أمير المؤمنين علیه السلام، بحيث يعرج بالإنسان من الملك إلى الملكوت، ويجعله يغوص في عوالم المعرفة والمقامات.

الثالث: أتقن المصنّف شرح مواعظ أمير المؤمنين علیه السلام وخطبه الترغيبية الترهيبية، ممّا يجعلك تحسّ أنك أمام متن،عرفانيّ، يعلمك أسس التخلية والتحلية والتجلية، ويربِّيك على المشارطة والمراقبة والمحاسبة والمعاقبة.

منهاج البراعة:

وهو شرح السيد حبيب الله الخوئي، ويعتبر هذا الشرح من أوسع الشروح على كتاب (نهج البلاغة)، إذ أنه طُبع مؤخَّرا في أكثر من عشرين مجلداً.

وقد ترجم له أحد أقاربه في مقدمة الكتاب بترجمة مطولة، ملخَّصها أن الشارح هو العلَّامة المؤيد المسدّد المتبحر الأديب الحاج مير حبيب الله بن السّيد محمّد الملقب بأمين الرعايا ابن السّيد هاشم بن السيّد عبد الحسين رضوان الله عليهم أجمعين، وُلد سنة 1261 ه في بلدة خوي من بلاد آذربایجان، و غادرها إلى النجف الأشرف وعمره 25 عاماً للدراسة، وهناك ألف عدّة رسائل وكتب في الفقه والأصول والنحو وسائر العلوم الحوزوية، توفي سنة 1324 ه بطهران، و دُفن في مشهد السيد عبد العظيم الحسني قدس سره.

وقد ذكر السّيد الخوئي قدس سره قصّة تأليفه لهذه الدرة الثمينة، فقال: حدثني والديه رحمه الله وكان قد أدرك صاحب (منهاج البراعة) في أواخر أيامه، قال: كان السبب في تأليف هذا الشرح أن السيد محمد المعروف بأمين الرعايا كان من ذوي الجاه والثراء، وكان يملك أرضاً واسعة، فوقع نزاع بينه وبين رجل على

ص: 160

أرض، وطلب ذلك الرجل من أمين الرعايا أن يكون الحكم بينهما ولده السيد حبيب صاحب الشرح المذكور، وكان السيد حبيب يومئذ من أكابر العلماء وأفاضلهم، وله منزلته ومكانته بين الناس، فترافعا إليه، فتنصّل من الحكم بينهما باعتبار أن والده طرف بالقضية، فأصرّا عليه، فحكم للرجل على أبيه، فغضب لذلك، وجعل يقوم في مجالس الناس وحشودهم فيصف ولده بالعقوق، وقلة التدين حتى أسقط من أعين الناس، وقلّ احترامهم له، وأعرضوا عنه، فقرّر السيد أن يذهب إلى ضيعة له وأن يعتزل الناس كليًّا، فاعتزل هناك، واشتغل بتأليف الشرح المذكور، حتى وافاه الأجل قبل إتمامه (1).

ويمتاز هذا الشرح بعدّة أمور، نذكر منها:

الأول: ذكر المصنّف مقدمة مهمة في علم البلاغة تصلح أن تكون كتاباً مستقلاً في هذا الفن يناطح كتب السكاكي والجرجاني والتفتازاني.

الثاني: أكثر في كتابه من التطبيقات البلاغية محاولاً إظهار حقيقة (نهج البلاغة) وإبراز الكنوز الأدبية التي يحتويها هذا السفر القيم، ولعله ترسّم خطى عبد القاهر الجرجاني والزمخشري في كشفهما النقاب عن إعجاز القرآن الكريم.

بهج الصباغة:

هذا الشرح وإن كان غير مشهور بين النّاس إلا أنه يعتبر من أهم شرح نهج البلاغة على الإطلاق، وأكثرها فائدة، وأعظمها قيمة، ولعلّ خفاؤه على البعض سببه قرب عهد مصنِّفه، إذ أن غالب الناس أولعوا بالقديم، فصاروا ينظرون بكل ازدراء للجديد ظنًّا منهم أنّ اللاحق لن يأتي بشيء جديد غفل عنه السابق، والحال أن مقتضى القاعدة العقلائية تقول: إن نتاج اللاحق أكمل من السابق؛ وذلك لأن هذا الأخير يكون مطلعا على ما اطلع عليه السابق وزيادة.

ص: 161


1- مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1 / 250.

وهذا الشرح يتميز بأمور:

الأول: مصنّف هذا الشرح هو آية الله المحقق الشيخ محمد تقي التستري قدس سره، وهو من فقهاء الإمامية ومن كبار المحقّقين المدقّقين، ويكفيك الاطلاع على كتابه (قاموس الرجال) لتعلم أنه فارس هذا الميدان، وقد اعتبر بعض العلماء كتابه من أفضل الكتب التي صنفت في هذا العلم (1).

الثاني: استنفذ الشارح كل طاقاته في جمع الشواهد على مضامين النهج وحاول إثبات تواتر هذه المضامين من كتب الخاصة والعامة، فلا تجد نصّا من نصوص النهج إلا وقد أتبعه الشيخ التستري رحمه الله بعشرات النصوص الأخرى المبثوثة في الكتب ممّا لا يدع مجالاً للشك بصحّة صدور النصّ.

الثالث: عُرف المصنّف بجرأته في النقد، ولذلك نجده في كتابه (الأخبار

الدخيلة) قد طعن في أمور ربما تكون مسلّمة عند البعض مما أثار سخطاً، أيضاً نجده في هذا الكتاب قد تعرّض لنقد الشريف الرضي قدس سره ومنهجه في انتقاء الأحاديث والخطب، ومن راجع مقدمة هذا الكتاب رأى النقد اللاذع. الرابع: أن الشيخ التستري رحمه الله عدل عن تبويب الكتاب الذي اعتمده الشريف الرضي قدس سره، واستحدث تبويباً جديداً للكتاب معتمداً على تصنيف مضامين الكتاب بحسب موضوعاته، مما يسهِّل على الباحث إيجاد النصّ المناسب في أسرع وقت.

شرح محمد عبده

تكمن أهميّة هذا الشرح في مصنّفه، إذ أن هذا الرجل يعتبر من كبار رجال أهل السنّة والجماعة في عصره، فقد كان مفتياً للديار المصرية من سنة 1899 م

ص: 162


1- نقل ذلك سماحة العلامة السيد منير الخبّاز عن المرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله الوارف.

إلى وفاته في سنة 1905 م، وكان شرحه على هذا الكتاب بداية إلى انفتاح ثقافي بين السنّة والشيعة في ذلك العصر.

ولعلّ الميزة الأهم في هذا الكتاب أنّه يعتبر اعترافاً من أعلى منصب ديني عند أهل السنة في عصر محمد عبده بصحّة نسبة كتاب (نهج البلاغة) لأمير المؤمنين وسيد الموحدين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، وردّ على مزاعم المذكورين سابقاً من أنه موضوع.

ولذلك فقد لاقى هذا الشرح هجمة شرسة من بعض المتعصّبين، وحاولوا إسقاط الكتاب والمؤلّف؛ لكونه يعطي شرعية لهذا الكتاب، وعلى سبيل المثال نذكر ما قاله الدكتور زيد العيص: وليس بمستغرب أن يصدر هذا الافتراء عن الشريف المرتضى، إنما المستهجن موقف الشيخ محمد عبده الذي قام بشرح ألفاظ هذا الكتاب، وكان يمر بالعبارات التي تذم الشيخين والصحابة، والنصوص التي توحي بأن عليًّا يعلم الغيب، وغيرها من النصوص المستنكرة، دون أن يعلّق بكلمة واحدة، وكأنها مسلّمات عنده (1).

أما نفس الشرح فإنه كان مقتضباً جدّا، بحيث لم يتوسع في تبيان مطالب الكتاب، بل الأمر أشبه بالتعليقة على النهج، وقد ركّز الشيخ محمد عبده على شرح الألفاظ الصعبة والعبارات المغلقة وقلما يتعرض إلى مسألة عقدية أو تاريخية في شرحه.

ولا يخفى على القارئ العزيز أنه لم يكن القصد مما ذكر سابقاً هو حصر جميع الشروح وتقييمها، بل كان الغرض هو إعطاء فكرة عامة للباحث حول الشروح المتداولة في هذه الأيام، وإلا فإن شروح نهج البلاغة أكثر مما ذكرنا بكثير، وقد أحصاها الشيخ حسين الجمعة العاملي في كتاب أسماه: (شروح نهج.

ص: 163


1- الخميني والوجه الآخر: 166.

البلاغة)، فمن شاء التوسّع فعليه مراجعة هذا الكتاب للوقوف على كل الكتب المتعلّقة بنهج البلاغة من شروح واستدراكات وحواشي وغيرها.

ص: 164

شبهات عقدية في نهج البلاغة

اشارة

ذكرنا سابقاً أن كتاب (نهج البلاغة) وإن كان بالأساس منهلاً للبلاغة ومنبعاً للفصاحة، إلا أنه أصبح له دخالة في كل الجوانب الشرعية، ومن جملتها العقائد، فقد احتوى النهج على بعض الخطب التي تضمّنت مسائل عقدية مسّت أصول الدين.

وقد استغلّ بعض الخصوم هذه الفقرات ليلبّس بها على عوام الشيعة، فادّعوا أن ما في (نهج البلاغة) يخالف ما عليه الشيعة في هذه الأيام من عقائد، حتى قال قائلهم: فالرجل يقول كلاماً، ثم أرى ضده ومناقضاً له في بعض كتب القوم، فوقفت أتأمل هذه الحياة طويلاً، وطفقت أَعبّ من كتبهم عبًّا، وأقرأ ما بين السطور، وأتوغل في القراءة، فازداد عجبي ولم يزل (1).

ولهذا أرتأيت أن أعرض هذه النصوص التي تشبّث بها المغرضون، وأناقش دلالتها لنرى هل تخالف ما يقوله الشيعة، أم أن الأمر هو مجرّد التباس وقع من بعض الناس.

التوسل والاستغاثة

اشارة

حاول بعضهم تصيّد بعض نصوص النهج وليّ أعناقها؛ ليخرج بنتيجة مفادها أنّ علي بن أبي طالب علیه السلام هو أول من نهى عن التوسل والتشفّع والاستغاثة وغيرها من الأمور التي يجيزها الشيعة.

1 - الصلاة على محمد وآل محمد:

قال الأستاذ الجمعان: يشير الإمام علي لمن كانت له حاجة، أن يبدأ

ص: 165


1- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 12.

بالصلاة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يأمر هذا بالذهاب إلى قبر النبي صلی الله علیه و آله و سلم أو قبور الأنبياء و الأولياء (1).

ويقصد بكلامه خطبة أمير المؤمنين علیه السلام التي فيها: إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يُسأل حاجتين، فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى (2).

والجواب على ما أورده:

أولاً: أن إثبات الشيء لا ينفي ما سواه، فأمير المؤمنين علیه السلام ذكر طريقاً لاستجابة الدعاء، ولم يحصر الإجابة فيه، فلا يوجد نصّ أو ظهور أو إشعار بانحصار الدعاء المجاب الجائز في هذه الطريقة.

ثانياً: أن هذه الطريقة في الدعاء هي توسّل بالأساس؛ لأن تقديم الصلاة على محمد وآله علیه السلام قبل أن يدعو الداعي بما يشاء نوع من الاستشفاع بهم، وطلب الإجابة منه بحقِّهم، فالصلاة عليهم طريق لاستجابة الدعاء.

الثالث: أن هذا الرجل الذي يدّعي حب أهل البيت علیه السلام واتباعه لعلي بن أبي طالب علیه السلام لم يلتزم بما ذكره الآن، فنجده في أول الكتاب قد دعى الله عزّ وجل، لكن لم يُسبقه بالصلاة على محمد وآل محمد.

قال في المقدمة: وفقنا الله تعالى لإصابة الحق، وألهمنا الصواب في القول والصدق في العمل (3).

فلا ندري هل هذا الرجل يأمر الناس بالبر وينسى نفسه؟

أم أنه احتذى نهج عبد الله بن الزبير الذي نهى الناس عن الصلاة على.

ص: 166


1- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 88.
2- نهج البلاغة 84/4.
3- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 13.

محمد وآل محمد كما نقل ابن أبي الحديد ذلك، حيث قال: قطع عبد الله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جُمَعاً كثيرة، فاستعظم الناس ذلك، فقال: إني لا أرغب عن ذكره، ولكن له أُهَيْل سوء، إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم، فأنا أحب أن أكبتهم (1).

2 - خطبة الوسيلة

قال صاحب (قراءة راشدة في نهج البلاغة) في مورد آخر: انظر إلى ما يقوله الإمام: «أفضل ما توسَّل به المتوسِّلون»، ونقول: حتى على فرض جواز التوسّل بالأشخاص، أفلا يحرص المؤمن على الكمال، فيطبق في دعائه الأصوب والأفضل والأكمل؟ (2).

يشير بهذا الكلام إلى خطبة الوسيلة المروية في (نهج البلاغة) والمصادر الحديثية الأخرى: إن أفضل ما توسَّل به المتوسِّلون إلى الله سبحانه الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله (3).

والجواب على هذا الإشكال بأمور:

أولاً: أن أمير المؤمنين علیه السلام لم يحصر التوسّل في هذه الصورة، بل عبّر بصيغة التفضيل، والكل يعرف أن هذه الصيغة يستفاد منها الاشتراك في الحكم، فإذا قلنا: «فلان أشجع من فلان» فنحن نثبت الشجاعة لكليهما، ونثبت الزيادة لأحدهما، وكذلك التوسل فإن تفضيل طريقة على أخرى لا يعني بطلان الثانية. ثانياً: نقول: إن هذه الخطبة نصّ على جواز التوسل، بل على أفضليته؛ وذلك لأن من أفضل الأمور التي يُتوسل بها الايمان بالله، والله أمرنا في كتابه

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة 20/ 127.
2- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 92.
3- نهج البلاغة 1/ 215.

بالتوجه للنبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم والاستغفار عنده، فقال عزَّ وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].

ومن الأمور المذكورة في الخطبة: التوسل بالإيمان برسول الله، والإيمان به هو اتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، ومن راجع أحاديث النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم وجد كثيراً من الموارد التي أمر فيها بالتوسل به.

منها ما رواه الطبراني في المعجم في رواية طويلة تحكي قصة دفن فاطمة بنت أسد، قال: فلما فرغ دخل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فاضطجع فيه، ثم قال: الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ونكبتنا حجتها، ووسِّع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين (1).

ومنها: حديث الأعمى المعروف الذي نصه: عن عثمان بن حنيف رضی الله عنه أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني. قال: إن شئت أخَّرت ذلك، وإن شئت دعيت. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمد صلی الله علیه و آله و سلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجَّه بك إلى ربك في حاجتي هذه، فتقضيها لي، اللهم شفِّعه في وشفِّعني فيه (2).

وقد بسطت الكلام في إثبات صحّة هذه الأحاديث، وبيان دلالتها على جواز التوسّل في كتابي (وابتغوا اليه الوسيلة)، فمن شاء فليرجع إليه..

ص: 168


1- المعجم الكبير 352/24.
2- المستدرك على الصحيحين 519/1.

الإمامة الإلهية:

اشارة

من أهم الأمور الخلافية بين المسلمين قضية (الإمامة)، بل لعلّها تعتبر لبّ الخلاف وأساسه، ولهذا قال الشهرستاني في الملل والنحل: الخلاف الخامس في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان (1).

وقد شغلت هذه العقيدة حيّزاً كبيراً من الحوار بين الشيعة ومخالفيهم، بحيث أصبح هو الشغل الشاغل لدى الطرفين، فكلّ يحاول إثبات صحّة ما يذهب إليه وأحقية ما يدّعيه.

وقد حاول أحدهم من خلال (نهج البلاغة) إثبات بطلان عقيدة الشيعة الإمامية في الامامة من خلال عدة أمور، هي:

1 - عدم وجود النّص الإلهي في النهج

قال صاحب كتاب (تأملات في نهج البلاغة): فبالرغم من مكانة هذا الكتاب عند الشيعة والمكانة التي يعطونها العلي رضی الله عنه، و من ذلك أنه معصوم عن الكذب والخطأ والنسيان، وأنه إمام طاعته من طاعة الله، إلا أنهم يخالفون ما في النهج من كلام نسبوه لعلي رضی الله عنه ولا يطيعونه، فلماذا الشيعة يخالفون كتاب الله وسنة رسوله وقول إمامهم؟! (2).

وقال صاحب كتاب (قراءة راشدة في نهج البلاغة) ليس هناك نصّ يُستند إليه في قضية الخلافة والإمامة؛ لأن الإمام عليّا رضی الله عنه لم يذكر هذا النصّ، وكيف تناساه الناس وهو أحوج ما يكون إليه اليوم حيث يوضّح قضية من أخطر القضايا التي مرّت على الأمة، وسبّب لها فرقتها، وكادت تصدع حتى

ص: 169


1- الملل والنحل 24/1.
2- تأملات في نهج البلاغة: 5

بالصدر الأول من الصحابة، فلمّا لم يُذكر هذا النص عُلم أنه لا نص يخدم هذه القضية الخطيرة (1).

والجواب على هذه التخرّصات هو الآتي:

الأول: أنه لم يدّع أحد من الشيعة أن كتاب (نهج البلاغة) يحتوي على كل كلمات أمير المؤمنين علیه السلام، بحيث إذا لم يوجد الحديث فيه فإن ذلك يدل على أن الإمام عليًّا علیه السلام لم يقله، وكان ذلك دليلاً يهدم مذهب الشيعة، والشريف الرضي قدس سره لم يدّع هذا الشيء، بل صرّح في مقدمة كتابه بخلافه، حيث قال: ولا أدّعي أني أحيط بأقطار جميع كلامه علیه السلام حتّى لا يشذّ عني منه شاذ ولا يندّ ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إلي، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي وما عليَّ إلا بذل الجهد وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل وإرشاد الدليل (2).

ولو تنزّلنا وقلنا: إنّ الرضي قدس سره وحاول جمع كل كلام أمير المؤمنين علیه السلام، فإن وجود نصوص خارج النهج تدلّ على قصر اطلاع المصنّف، ولا يدل على أنها ليست من كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

وإذا كان الأمر كذلك فإمام أهل السنة أحمد بن حنبل قد أدَّعى أن كل حديث في مسنده صحيح، وكل ما لم يوجد في المسند فهو ليس بحجّة!

قال أحمد: هذا الكتاب جمعته، وانتقيته من أكثر من سبع مئة ألف وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة (3)..

ص: 170


1- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 18.
2- نهج البلاغة: 9.
3- سير أعلام النبلاء 329/11.

علماً أنه توجد أحاديث في الصحيحين ليست موجودة في مسند أحمد، ورغم ذلك حكم القوم بصحّتها واعتبارها.

الثاني: أن هذه الدعوى معارضة بدعوى أخرى تناقضها، وهي الطعن في كتاب (نهج البلاغة) لاشتماله على ذكر الوصي والوصاية، وقد قال الشيخ الفوزان في هذا: فهو لا يرى أن ما في (نهج البلاغة) من ذكر الوصى والوصاية يوجب الطعن فيه، ثم يدّعي أنه ليس في (نهج البلاغة) ما يخالف كتب السنة ولست أدري هل هو يعني كل ما فيه، أو مسألة الوصي والوصاية فقط؟ ثم ينفي وجود ذكر للوصي والوصاية في هذا الكتاب إلا تعليم النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعلي، فهو بهذا يثبت ثم ينفي! ونحن بتتبعنا للكتاب وجدنا فيه عشرات المواضع التي تتضمن ذكر الوصاية (1).

فقد كفانا الفوزان مؤونة الرّد على هؤلاء وذكر أنّ في كتاب (نهج البلاغة) عشرات الأدلّة على وجود النصّ الإلهي.

الثالث: نأتي الآن لذكر بعض نصوص (نهج البلاغة) الدالّة على الإمامة الإلهية التي اختص الله بها أهل البيت علیهم السلام:

منها: الخطبة المعروفة بالشقشقية، التي قال فيها أمير المؤمنين علیه السلام: أما والله لقد تقمَّصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا أرى تراثي.

ص: 171


1- البيان لأخطاء بعض الكتاب: 97.

نهباً (1).

وأنا أقطع أنّ القوم اطّلعوا على هذه الخطبة، لكنهم سدلوا دونها ثوباً، وطووا عنها كشحاً.

ومنها: الخطبة المذكورة في أوائل النهج، ومما جاء فيها قوله علیه السلام: هم [ يعني آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم ] موضع سرّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه.

إلى أن قال: لا يقاس بآل محمد صلی الله علیه و آله و سلم من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله (2).

ولا أظنّ أن هناك أصرح من هذا الكلام، وأملح من هذا البيان، فقد استخدم في هذه الخطبة كل المصطلحات التي تدل على المبتغى: الولاية، الوصية الوراثة، الحق أساس الدين عماد اليقين ...

ومنها: قوله علیه السلام: لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا؟ وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عدداً، والأعظمون قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى.

ص: 172


1- نهج البلاغة 31/1.
2- نفس المصدر 30/1.

أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم (1).

وهذه الخطبة نصّ صريح في أن الامامة مستمرة، وأن الأرض لا تخلو من حجّة، كما تحوي إشارة إلى إمامة صاحب الزمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ

، لأنه هو الوحيد الذي كان خائفاً مغموراً.

ومنها قوله علیه السلام: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يُستعطى الهدى، ويُستجلى العمى إن الأئمة من قريش، غُرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم (2).

ومنها: قوله علیه السلام: وإنما الأئمة قُوَّام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه (3).

وهذا النصّ يؤكَّد صحّة ما يذهب اليه الشيعة الإمامية من أنّ الامامة من الأصول الاعتقادية الواجبة على كل مكلف.

وهذه النصوص الخمسة التي جئت بها هي مجرّد أمثلة، وإلا فكتاب (نهج البلاغة) مليء بذكر الإمامة والولاية والنص الإلهي.

فأين هذا التناقض المدّعى؟

وأين هي دعوى عدم ذكر للنصّ الإلهي في نهج البلاغة؟

2 - دعوني والتمسوا غيري:

قالوا: إنّ عليًّا علیه السلام رفض الخلافة عندما بايعه النّاس، فلو كان إماماً

ص: 173


1- نفس المصدر 37/4.
2- نفس المصدر 27/2.
3- نفس المصدر 41/2.

مفترض الطاعة منصوصاً عليه لما جاز له ذلك، واستدلّوا بما روي في النهج من قوله: دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجَّة قد تنكَّرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولَعَلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً (1).

وممن تمسّك بهذا الكلام ابن أبي الحديد المعتزلي الذي جعله دليلاً على ما يذهب إليه، وبرهاناً لما يعتقد به، حيث قال: وهذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره، ويقولون: إنه علیه السلام لم يكن منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وإن كان أولى الناس بها، وأحقهم بمنزلتها؛ لأنه لو كان منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول علیه السلام لما جاز له أن يقول: «دعوني والتمسوا غيري»، ولا أن يقول: «ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم»، ولا أن يقول: «وأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً» (2).

والجواب على هذا يكون من وجوه:

الأول: أن هذا النص هو من مرويات سيف بن عمر التميمي، فقد رواه في كتابه (الفتنة ووقعة الجمل) (3)، ورواه عنه الطبري في تاريخه (4)، وابن الجوزي في المنتظم (5)، وغيرهم.

وهذا الرجل من الكذابين الوضّاعين المشهود لهم بذلك عند الخاصّة.

ص: 174


1- نهج البلاغة 1/ 182.
2- شرح نهج البلاغة 33/7.
3- الفتنة ووقعة الجمل 93.
4- تاريخ الطبري 456/3.
5- المنتظم في تاريخ الأمم 65/5.

والعامة، بحيث لا يعتري شخص الريب في ذلك.

ولهذا قال المحقق التستري تعليقاً على هذه الرواية: الأصل في العنوان رواية سيف الذي قد عرفت في 24 من فصل عثمان أن رواياته كذب وافتعال، إمّا كلاً، وإما جزءاً، وأنه يدخل في كل شيء شيئاً، ويضع في مقابل أمر أمراً، ومما يوضِّح تصرّفه في هذا الخبر إدخاله فيه إكراه طلحة والزبير على بيعته علیه السلام، مع وضوح أنه علیه السلام لم يكن يجبر أحداً، وأيضاً إدخاله فيه أن أهل البصرة أرادوا جعل الأمر لطلحة، وأن أهل الكوفة أرادوا جعل الأمر للزبير، ولم يرد الأمر له علیه السلام غير أهل مصر، وهو أيضاً واضح البطلان (1).

الثاني: أن المعنى الذي فهمه القوم من هذه الرواية مخالف للروايات الأخرى في النهج التي تنصّ صراحة على أنّ أمير المؤمنين علیه السلام مفترض الطاعة، وأنّه منصّب من الله عزّ وجل، وعليه فلا بد من تأويل هذه العبارات بحيث تلتئم مع تلك حتى لا تحصل المخالفة.

الثالث: وجّه علماؤنا هذا النص بعدّة وجوه تتلاءم مع الروايات المتواترة الناصة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام، منها:

1 - ما ذكره ابن ميثم البحراني قدس سره في شرحه على النهج، حيث قال: حاصل هذا الفصل أنّه لا بد لكل مطلوب على أمر من تعزّز فيه وتمنع والحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون أرغب فيما يطلب، فإن الطبع حريص على ما مُنع، سريع النفرة عمّا سورع إلى إجابته فيه، فأراد علیه السلام التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه، فإنّه لم يصل إليه هذا الأمر إلا بعد اضطراب في الدين (2).

أي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أراد شحذ همم القوم واستنهاضهم كي يتّقيَ.

ص: 175


1- بهج الصباغة 419/9.
2- شرح ابن میثم 2/ 385.

غدرتهم بعد ذلك، كما حصل معه عند وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لمّا تجمعوا حوله وبايعوه،

ثم كانوا أول المرتدين عن بيعته.

ويخطر بالبال كتتمة لجواب العلامة ابن ميثم البحراني قدس سره أن أقول: إن هذا التمنّع يراد منه تعريض بالسابقين الذين كانوا يلهثون وراء الملك، ويتلهفون لارتقاء مسند الخلافة، فنجد أن الأول سارع إلى السقيفة والنبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لم يجهّز بعد ولم يوار قبره والثاني تولّى الأمر وصاحبه لا يزال على فراش الموت، والثالث قبل الخلافة بلا تردّد لما سأله عبد الرحمن بن عوف أن يبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين.

2 - ما ذكره العلامة المجلسي قدس سره في البحار، حيث قال: ولما كان الناس نسوا سيرة النبي، واعتادوا بما عمل فيهم خلفاء الجور من تفضيل الرؤساء والأشراف لانتظام أمورهم، وأكثرهم إنما نقموا على عثمان استبداده بالأموال، كانوا يطمعون منه علیه السلام أن يفضّلهم أيضاً في العطاء والتشريف، ولذا نكث طلحة والزبير في اليوم الثاني من بيعته، ونقموا عليه التسوية في العطاء، وقالوا: «آسيتَ بيننا وبين الأعاجم»، وكذلك عبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان وأضرابهم، ولم يقبلوا ما قسم لهم، فهؤلاء القوم لما طلبوا البيعة بعد قتل عثمان قال علیه السلام: «دعوني والتمسوا غيري» إتماماً للحجة عليهم، وأعلمهم باستقبال أمور لها وجوه وألوان لا يصبرون عليها، وأنه بعد البيعة لا يجيبهم إلى ما طمعوا فيه، ولا يصغي إلى قول القائل وعتب العاتب، بل يقيمهم على المحجة البيضاء، ويسير فيهم بسيرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (1).

وبيانه أن القوم انحرفوا على سيرة المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم طيلة خمس وعشرين سنة، وسلكوا طريق الظالمين، فلما أرادوا أن يبايعوا أمير المؤمنين علیه السلام على نهج.

ص: 176


1- بحار الأنوار 36/32.

السابقين من التفضيل في العطاء والمحاباة فيه، أراد أن ينبههم بهذا الكلام على أن سيرته ستكون مخالفة لمن سبقه، فقال لهم: فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب.

3 - ما ذكره القطب الراوندي في منهاج البراعة فإنه قال: هذا كلام مستزيد شاك لقومه، يعني أنهم عاملوه هذه المعاملة قبل ذلك، فيقول لهم: «دعوني، والتمسوا غيري» على طريق التهكم والشكاية، يعني أنهم يعتقدون ذلك فيما قبل، وقوله: «وأنا لهم وزيرا» يعني على ما كانوا يعتقدونه فيه علیه السلام من أنه بأن يكون وزيراً خير منه أميراً، وهذا من باب قوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يعني على ما تعتقده (1).

وبيانه أن أمير المؤمنين علیه السلام جاراهم في قولهم ومعتقدهم من باب تذكيرهم بماضيهم معه وكيف أنهم تخلوا عنه قبل سنين، فصاروا الآن يتدافعون عند باب بيته فالغرض هو إلزامهم باعتقادهم؛ لكي يحسّوا بقيمة السنين التي ضيّعوها بأنفسهم.

رابعاً: إذا كان القوم لا يقبلون صرف هذا الكلام على ظاهره، ويتشبّثون بالمعنى الحقيقي فعليهم أن يلتزموا هذا النهج في كل النّصوص الواردة على ألسنة الصحابة التي منها:

ما قاله أبو بكر بن أبي قحافة في خطبته الأولى التي تلت بيعته، فإنه قال: أما بعد، أيها الناس فإني قد وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف.

ص: 177


1- منهاج البراعة 1/ 424.

فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله (1).

فالرجل يعترف صراحة أنه ليس أفضل الصحابة، فكيف نبذتم شهادته على نفسه خلف ظهوركم، وصيّرتم القول بتفضيله عقيدة، بل جعلتم تقديم أحد عليه محبطاً للأعمال!

فقد روی الخلال بسنده عن سفيان الثوري، قال: من قدّم على أبي بكر وعمر أحداً فقد أزرى على المهاجرين والأنصار، ولا أحسبه ينفعه مع ذلك عمل (2).

ومنها: قول عمر بن الخطاب الذي رواه أحمد بن حنبل في كتاب الزهد بسنده عن ابن جدعان، قال: سمع عمر رجلاً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين. فقال: يا عبد الله وما الأقلون؟ قال: سمعت الله يقول: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، وذكر آيات أخر، فقال عمر: كل أحد أفقه من من عمر (3).

وما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، قال: وعن مسروق، قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثم قال: يا أيها الناس ما أكاثركم في صُدُق النساء، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأصحابه، وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، فلو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفنَّ ما زاد رجل على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا.

ص: 178


1- سيرة ابن هشام 6/ 82، تاريخ الطبري 2 / 450، وقد علّق ابن كثير على هذه الخطبة في كتابه السيرة 493/4 بقوله: وهذا اسناد صحيح.
2- السنة للخلال 375/1.
3- الزهد: 114.

النساء في صدقاتهم على أربعمائة درهم؟ قال: نعم، قال: أما سمعت ما أنزل الله عزّ وجل في القرآن؟ فقال: فأنى ذلك؟ قالت: أما سمعت الله عزّ وجل يقول:

﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)، فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر (1).

وقد صحَّح هذا الأثر جملة من حُفَّاظ أهل السنة والجماعة، منهم: ابن كثير الدمشقي في تفسيره (2)، وجلال الدين السيوطي في الدر المنثور (3) والزيلعي في التخريج (4)، والسخاوي في المقاصد (5)، والزركشي في التذكرة (6). فهذا اعتراف صريح من عمر بن الخطاب بأنه لا حظّ له من العلم، وأن كل الناس أعلم منه حتى النساء!

لكن نجد أن المخالفين لم يأخذوا بهذه الشهادة وهذا الإقرار الذي يعتبر سيِّد الأدلة، بل اعتبروا عمر أعلم الخلق، ولا يوجد له نظير في هذه الأمّة، بل حتى في الأمم السابقة!

ولذلك ذكروا أن الله جلَّ جلاله كان يوافق عمر في ما يذهب إليه، وليس العكس أي أن عمر يوافق الله، وقد على أطلقوا هذه الحالة اسم موافقات عمر، وهي أن يقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم شيئاً، ويخالفه عمر بن الخطاب، فينزل الوحي موافقاً لقول عمر ومخطئاً لقول خير البشر صلی الله علیه و آله و سلم.

وقد صرّح ابن القيم بعقيدته في علم عمر بن الخطاب دون تقية ولا.

ص: 179


1- مجمع الزوائد 283/4.
2- تفسير القرآن العظيم 478/1.
3- الدر المنثور 133.
4- تخريج الأحاديث والآثار 296/1.
5- المقاصد الحسنة: 370.
6- التذكرة في الأحاديث المشتهرة 194.

تورية، فقد قال في كتابه (مفتاح دار السعادة): وأما الأثر الذي ذكره مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضی الله عنه قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة. الحديث إلى آخره، فالجواب عنه أنه ليس بحمد الله فيه شيء من الطيرة، وحاشا أمير المؤمنين رضی الله عنه من ذلك، وكيف يتطيَّر وهو يعلم أن الطيرة شرك من الجبت وهو القائل في حديث اللقحة ما تقدّم، ولكن وجه ذلك والله أعلم أن هذا القول كان منه مبالغة في الإنكار عليه؛ لاجتماع أسماء النار والحريق في اسمه واسم أبيه وجدّه وقبيلته وداره ومسكنه فوافق قوله: «اذهب فقد احترق منزلك وقدرك»، ولعلّ قوله كان السبب، وكثيراً ما يجري مثل هذا لمن هو دون عمر بكثير، فكيف بالمحدَّث الملهَم الذي ما قال لشيء: «إني لأظنه كذا» إلا كان كما قال، وكان يقول الشيء ويشير به فينزل القرآن بموافقته، فإذا نزل الأمر الديني بموافقة قوله فكذلك وقوع الأمر الكوني القدري موافقاً لقوله (1).

إلى أن قال: فإذا كانت هذه موافقة عمر لربّه في شرعه ودينه وينطق بالشيء فيكون هو المأمور المشروع، فكذلك لا يبعد موافقته له تعالى في قضائه وقدره، ينطق بالشيء فيكون هو المقضي المقدور (2).

فعمر بن الخطاب عند ابن القيم قوله حُكْمٌ وحَتْم، سواء كان الأمر شرعيًا أم تكوينيًّا، ولا ندري أين كانت هذه القدرة وهذه الموافقة الكونية القدَرية الشرعية في عمر عندما أفحمته تلك المرأة؟!

ومنها ما ذكرته عائشة عند وفاتها حيث قالت: إني قد أحدثت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فادفنوني مع أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم (3).

فالكل يعلم أنها تقصد بالحدث ما حصل في موقعة الجمل التي سُفكت.

ص: 180


1- مفتاح دار السعادة 251/2.
2- نفس المصدر 252/2.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد 71/8.

فيها دماء الألوف من المسلمين، ورغم هذا الاعتراف إلا أنك تجد الكثير ممن يصر على أن خروجها كان صواباً، وأنها كانت محقّة فيما فعلته.

3 - نصوص ذم الخلافة والحكم

قالوا: إنّ عليًّا صلی الله علیه و آله و سلم كان كثيراً ما يذم الخلافة والإمامة، فمرّة يصفها بأنّها كعفطة عنز ومرّة إنها لا تساوي عنده النعل البالي وغيرها من عبارات الازدراء والتنقيص، بل ذكر صراحة أنه لم يكن يريد الخلافة، فقال: والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة (1).

فهل يصحّ أن يصف الإمام علیه السلام منصباً إلهيًّا بهذه الصفات؟

وهل يصحّ أن يتخلّى عن ما كلّفه الله به؟

والجواب على هذا الإشكال:

أولاً: أن العبارات التي ذكرها المشكل هي ليست لذمّ الخلافة كمنصب، بل هي ذمّ للناس الذين كانوا رعيّة،الخليفة فهو لم يشبّه الخلافة بالنعل البالي، بل شبّه خلافة هؤلاء، فقد رُوي في النهج عن عبد الله بن العباس، قال: دخلت على أمير المؤمنين علیه السلام بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال علیه السلام: والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقًا أو أدفع باطلاً (2).

فلفظه علیه السلام كان دقيقاً حيث قال: «إمرتكم»، ولم يقل: «الخلافة أو الولاية»، ثم إنه علیه السلام استثنى من هذا الأمر أن تكون الإمرة وسيلة لإقامة حق أو هدم باطل، فمعنى الكلام أن الإمارة التي يحرص عليها الكل خصوصاً المتقدّمين عليه هو لا يطلبها، بل هو قام بالأمر فقط لأنه سيقيم الحق ويدفع

ص: 181


1- نهج البلاغة 2 / 184.
2- نفس المصدر 80/1.

الباطل من خلاله.

ثانياً: النص الثاني الذي ظاهره أن أمير المؤمنين علیه السلام لا رغبة له في الإمرة والولاية يجب وضعه في إطاره الصحيح كي يُفهم ويعلم المراد، ولهذا لا بدّ من بیان مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الإمامة التي يعتقد بها الشيعة هي المنصب الذي يعطيه الله للذين اصطفاهم من عباده، وليست تسلّط أحد النّاس على رقاب المسلمين بالترغيب أو بالترهيب.

ولذلك نجد أن القرآن سمّى آدم علیه السلام خليفة، ولم يكن صاحب ملك أو سلطان دنيوي، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وسمّى إبراهيم علیه السلام إماماً ولم يحكم مدينة في الأرض، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: 124]، ومن هنا يُعلم أن الإمامة الإلهية لا تتقَّوم باعتلاء كرسي الحكم؛ لأن هذا ليس من تكليف الإمام المنصّب، بل هذا الأمر تكليف الناس، فالإمام كالقبلة يُتوجَّه له ولا يتوجَّه لأحد.

المقدمة الثانية: أن هذا النص ورد في مقام جواب لاعتراض طلحة والزبير، وقد نقل ابن أبي الحديد في شرحه سبب اعتراضهما، فقال: أرسل طلحة والزبير إلى علي علیه السلام قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة، وقالا: لا تقل له: يا أمير المؤمنين ولكن قل له: يا أبا الحسن، لقد فال فيك رأينا، وخاب ظنّنا، أصلحنا لك الأمر، ووطّدنا لك الإمرة، وأجلبنا على عثمان حتى قُتل، فلما طلبك الناس لأمرهم أسرعنا إليك، وبايعناك وقدنا إليك أعناق العرب ووطئ المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك، حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا، ورفضتنا رفض التريكة، وأذلتنا إذالة الإماء، وملَّكتَ أمرك الأشتر وحكيم بن جبلّة وغيرهما من الأعراب ونزاع الأمصار، فكنا فيما

ص: 182

رجوناه منك وأملناه من ناحيتك (1).

من هنا نعلم أن جوابه علیه السلام لهما كان دقيقاً جدًّا، فإنه بيَّن لهما أموراً، هي:

1 - أنه لم يطلب منهم توطيد الأمر له؛ لأنه أصلاً ليس من الذين يتلهّفون لطلب ملك الدنيا، ولذلك قال: «ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة».

2 - أن ما فعلاه من دعوة النّاس لبيعة أمير المؤمنين علیه السلام ليس دَيْناً في عنقه علیه السلام لهما كي يميّزهما عن بقية الناس، ويجعل لهما حظّاً في بيت المال وغيره؛ لأنّ هذا تكليف كل مسلم.

3 - أن تتمة هذا الخبر فيها طعن في طلحة والزبير؛ إذ أن كلام أمير المؤمنين علیه السلام ظاهر في أن الرجلين كانا يريدان منه أن يخالف الأحكام الشرعية، ويحكم بغير ما أنزل الله، وهذا يفهم من قوله: ألا تخبراني أي شيء لكما فيه حق دفعتكما عنه؟ وأي قسم استأثرت عليكما به؟ أم أي حق رفعه إليَّ أحد من المسلمين ضعفت عنه، أم جهلته، أم أخطأت بابه؟ والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله، وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استسنَّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما، ولا عن غيركما، وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه (2)..

ص: 183


1- شرح نهج البلاغة 16/11.
2- نهج البلاغة 2/ 184.

فالظاهر أن الرجلين لم يعجبهما قرار أمير المؤمنين علیه السلام التسوية بين كل المسلمين في العطاء، بل تعوّدا على سياسة الطبقية التي سنّها عمر بن الخطاب، وكانا يطمعان في الاستمرار على هذه السيرة، بل روي أنهما كانا يطمعان في إمارة البصرة والكوفة!

قال ابن أبي الحديد: قد تقدّم منا ذكر ما عتب به طلحة والزبير على أمير المؤمنين علیه السلام وأنهما قالا: ما نراه يستشيرنا في أمر، ولا يفاوضنا في رأي، و يقطع الأمر دوننا، ويستبد بالحكم عنا. وكانا يرجوان غير ذلك، وأراد طلحة أن يوليه البصرة، وأراد الزبير أن يوليه الكوفة، فلما شاهدا صلابته في الدين، وقوته في العزم، وهجرة الادهان والمراقبة، ورفضه المدالسة والمواربة، وسلوكه في جميع منهج الكتاب والسنة، وقد كانا يعلمان ذلك قديماً من طبعه وسجيته، وكان عمر قال لهما ولغيرهما: «إن الأجلح إن وليها ليحملنكم على المحجّة البيضاء والصراط المستقيم»، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من قبل قال: «وإن تولّوها عليًّا تجدوه هادياً مهديّا»، إلا أنه ليس الخبر كالعيان ولا القول كالفعل، ولا الوعد كالإنجاز، وحالا عنه وتنكرا له ووقعا فيه وعاباه وغمصاه، وتطلبا له العلل والتأويلات، وتنقما عليه الاستبداد وترك المشاورة، وانتقلا من ذلک إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال، وأثنيا على عمر، وحمدا سيرته، وصوَّبا رأيه، وقالا: إنه كان يفضّل أهل السوابق، وضلَّلا عليًّا علیه السلام فيما رآه، وقالا إنه أخطأ، وإنه خالف سيرة عمر، وهي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة مع قرب عهدنا منها واتصالها بها، واستنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين [الذين] كان عمر يفضّلهم، وينفلهم في القسم على غيرهم، والناس أبناء الدنيا، ويحبّون المال حبّاً جمّاً، فتنكَّرت على أمير المؤمنين علیه السلام بتنكّرهما قلوب كثيرة، ونغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة، ولقد كان عمر موفَّقاً حيث منع قريشاً والمهاجرين وذوي السوابق من الخروج من المدينة، ونهاهم عن مخالطة الناس

ص: 184

ونهى الناس عن مخالطتهم، ورأى أن ذلك أس الفساد في الأرض، وأن الفتوح والغنائم قد أبطرت المسلمين، ومتى بَعُدَ الرؤوس والكبراء منهم عن دار الهجرة، وانفردوا بأنفسهم وخالطهم الناس في البلاد البعيدة، لم يأمن أن يحسِّنوا لهم الوثوب، وطلب الإمرة، ومفارقة الجماعة، وحل نظام الألفة (1).

ولعلّ البعض قد يتعجّب من هذا الكلام الذي ساقه ابن أبي الحديد ويرفضه؛ لما اشتهر من أن الصحابة كانوا عُبّاداً زهاداً، لا يطلبون الحياة الدنيا ولا يركضون خلف نعيمها، والحق الذي لا مرية فيه أن هذا الأمر غير صحيح، بل إن كثيراً من الصحابة قد تكالبوا على حطام الدنيا بعد وفاة المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم وصارت هي همهم ومبتغاهم.

فثروة الزبير بن العوام حدّدها البخاري في صحيحه بقوله: فكان للزبير أربع نسوة، ورفع الثلث، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف (2).

طبعاً هذه الثروة بعد أن دفع أبناؤه الديون التي كانت عليه كما دلّ على ذلك صدر الرواية.

وأما طلحة بن عبيد الله فقد حدّد ابن الجوزي تركته بقوله: وإنما المذموم كسبه من غير وجهه، ومنع الحق الواجب فيه، وعبد الرحمن منزّه عن الحالين وقد خلف طلحة ثلثمائة حمل من الذهب، وخلف الزبير وغيره ولو علموا أن ذلك مذموم لأخرجوا الكل (3).

وأما عبد الرحمن بن عوف فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الفتح تركته.

ص: 185


1- نهج البلاغة 11 / 10.
2- صحيح البخاري 53/4.
3- الموضوعات 2/ 14.

فقال: مات عن أربع نسوة، فيكون جميع تركته: ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنسبة لتركة الزبير التي تقدّم شرحها في فرض الخمس قليل جدًّا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم؛ لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة (1).

فهؤلاء أصبحوا من أصحاب الثروات ورؤوس الأموال، ومن الطبيعي أن يعارضوا سياسة أمير المؤمنين علیه السلام التي تدعو إلى المساواة في العطاء بين السابقين وغيرهم.

وأما عمر بن الخطاب فإنه رغم ما اشتهر من زهده إلا أنه ترك ثروة عظيمة أيضاً، لا تقل عن ثروة سابقيه.

فقد روى ابن شبّة في (تاريخ المدينة) بسند صحيح عن أيوب، قال، قلت لنافع: هل كان على عمر رضی الله عنه دين؟ فقال: ومن أين يدع عمر ديناً وقد باع رجل من ورثته ميراثه بمائة ألف (2).

وإذا علمت أن لعمر بن الخطاب ستّ بنات وستّة أولاد، وله أكثر من زوجة، فاعلم أن تركته تبلغ قرابة مليون دينار!

والنتيجة أن الذي يتمسّك بهذه الرواية في زهد أمير المؤمنين علیه السلام في الخلافة لم يضعها على وجهها الصحيح المعلوم بالقرائن الحالية والمقالية، وإذا تمسّك أحدهم بها فنقول: إنه حكم على طلحة والزبير بأنهما يسعيان إلى مخالفة حكم الله، وهذا مسقط لعد التهما.

4 - إنه بايعني القوم:

ص: 186


1- فتح الباري 203/9.
2- تاريخ المدينة 3 / 935، وقد صحّح ابن حجر العسقلاني هذه الرواية في فتح الباري 35/7، والعيني في عمدة القاري 212/16.

قالوا: إن عليَّا علیه السلام يوافق أهل السنة فيما يذهبون إليه من أن طريق تحديد الخليفة هو الشورى، ويشهد لذلك ما ورد في النهج من قوله علیه السلام: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى (1).

ووجه الاستدلال بهذه الرواية أمران:

الأمر الأول: أن عليًّا علیه السلام، اعترف بشرعية الخلفاء السابقين؛ وذلك لأنه استدل على شرعية حكمه ببيعة الناس له، وهؤلاء باعترافه هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر قبله، قال: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد.

الأمر الثاني: أن اجماع المهاجرين والأنصار على رجل ما وتنصيبه خليفة هو أمر مرضي عند الله تعالى، وهو طريق شرعي لاختيار الخليفة، ويبيّن ذلك قوله علیه السلام: وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك الله رضا.

ولهذا قال ابن أبي الحديد: أورده شيوخنا المتكلّمون في كتبهم احتجاجاً على صحّة الاختيار، وكونه طريقاً إلى الإمامة (2).

والجواب على هذا: أن كلّ ما ذكروه من استدلال بهذه الفقرة هو مجرد توهمات من هؤلاء لا أكثر ولا أقل..

ص: 187


1- نهج البلاغة 3/ 7.
2- شرح نهج البلاغة 35/14.

أما الجواب على الأمر الأول: فنحن نقول: إن أمير المؤمنين علیه السلام ذكر هذا الكلام من باب الإلزام والتبكيت، وليس من باب التصديق؛ وذلك لأنّ هذا الكلام إنما قاله علیه السلام في مقام إلزام معاوية ببيعته، إذ أن هذا الأخير قد رفض الدخول في بيعة علي علیه السلام محتجًّا بأن هذه البيعة غير شرعية؛ لأنها أقيمت على دم عثمان، فكان الردّ من الإمام علیه السلام أن نفس الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان قد بايعوه، فليس من حقّ يا معاوية الاعتراض على بيعته أو التشكيك في صحّتها؛ إذ أنه ملزم إما بقبول البيعة والدخول في الطّاعة، واما عدم الدخول فيها وبالتالي الحكم على بيعة سابقيه بأنّها باطلة؛ لأنّ نفس الذين أعطوا شرعية لخلافة لعثمان الذي يطالب معاوية بدمه هم الذين بايعوا أمير المؤمنين علیه السلام ودخلوا في طاعته.

ويدلّ على هذا أوّل الكتاب الذي لم يذكره الشريف الرضي قدس سره، وهو: أما بعد: فإن بيعتي لزمتك، وأنا بالمدينة وأنت بالشام، وذلك أنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان (1).

وقد أجاد فقيه أهل البيت الشيخ يوسف البحراني قدس سره في دحض استدلال ابن أبي الحديد بهذا النص، قال: وأما قوله: «وأما الإمامية فتحمل هذا الكلام منه علیه السلام على التقية ... إلى آخره»، ففيه أنه ليس الأمر كما زعمت بجهله وتوهمه، بل الإمامية إنما يحملون ذلك على المجاراة والتبكيت والإلزام للخصم بمقتضى معتقده الذي هو من أبلغ وجوه البلاغة في الكلام في مقام الجدال والخصام، فإن معاوية لما كان معتقده في حجية انعقاد الإمامة مذهب خلفائه واتباعهم، من أن طريق الإمامة إنما هو اجتماع الناس من أهل الحل والعقد على البيعة والصفق على الأيدي خاطبه به وألزمه بأن بيعته علیه السلام قد انعقدت بما.

ص: 188


1- الفتوح 2/ 494.

انعقدت به بيعة أولئك المتقدِّمين الذين أطاعهم وانقاد إليهم، وهو الإجماع بزعمهم، فإن كانت تلك البيعة صحيحة توجب عليه الانقياد والطاعة فهذه مثلها، فكيف يطيع أولئك ويخالف في هذه؟ وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر أتم الظهور، بل كالنور على الطور، إلا لمن اعترى ذهنه الفتور والقصور (1).

وأما الجواب على الوجه الثاني: فإن ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام الصحيح لا إشكال فيه، ولا ينكره أحد من الشيعة؛ لأنهم يعتبرون أن الاجماع الذي يكون حجّة هو الكاشف عن رأي المعصوم، والإمام علي علیه السلام هو من المهاجرين والأنصار، فيكون داخلاً إفي الاجماع، ويكون حجة.

والعجيب من ابن أبي الحديد قوله: ولم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم، وقياسه على بيعة أهل الحل والعقد لأبي بكر، فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين؛ لأن سعد بن عبادة لم يبايع، ولا أحد من أهل بيته وولده، ولأن عليًّا وبني هاشم ومن انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدأ الأمر، وامتنعوا، ولم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر وتنفيذ أحكامه على بيعتهم (2).

فلا ندري كيف تحوّل إجماع كلّ المهاجرين والأنصار كما نصّ أمير المؤمنين علیه السلام إلى اجماع أهل الحل العقد؟

ومن قرأ تفاصيل بيعة أبي بكر جزم وقطع أنّه لا شورى ولا إجماع فيها؛ إذ أنّ الأمر كما وصفه عمر بن الخطاب: كان فلتة، وقى الله المسلمين شرّها!

فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب، أنه قال: ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: «والله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن.

ص: 189


1- سلاسل الحديد 2/ 38.
2- شرح نهج البلاغة 36/14.

الله وقى شرّها، وليس منكم من تُقطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يُبايَع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقتَلا (1).

ومن هذا الكلام يستفاد أن هذه البيعة لم تتم بمشورة المسلمين، ولذلك هدّد عمر بن الخطاب من عاد لمثل هذه البيعة بالقتل له ولمن بايعه!

فأين اجماع أهل الحل والعقد الذي يدّعيه ابن أبي الحديد؟

وفي نفس هذه الرواية نجد حقيقة أخرى، وهي أن شرعية خلافة أبي بكر استُمدّت في نفس يوم السقيفة، أي حتى قبل يوم البيعة العامة، لما قال عمر لأبي بكر: فقلت – القائل عمر - : ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة (2).

فلا نعلم من أين استمدّ أبو بكر شرعيّة خلافته؟ فلا نص عليه، ولا إجماع، حتّى أهل السقيفة لم يكونوا مجمعين عليه، ولذلك لجأ عمر إلى تهديد سعد بن عبادة بالقتل كما تقدّم سابقاً، فأين هذا الإجماع المزعوم؟

علماً أن كل المسلمين أجمعوا على أن أمير المؤمنين علیه السلام وبني هاشم لم يدخلوا في هذا الإجماع المدّعى، لا في البيعة الأولى ولا في الثانية.

والدليل على هذا الرواية التي قدمناها من صحيح البخاري، حيث قال فيها عمر: إن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما (3).

وما رواه البخاري في صحيحه قول عائشة: فوجدت فاطمة على أبي بكر.

ص: 190


1- صحيح البخاري 26/8.
2- نفس المصدر 28/8.
3- صحيح البخاري 26/8.

في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى تُوفّيت، وعاشت بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم ستة أشهر، فلما تُوفّيت دفنها زوجها عليٌّ ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعليَّ من الناس وَجْهٌ حياةَ فاطمة، فلما توفّيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر (1).

وقال المحب الطبري في الرياض وتخلّف عن بيعة أبي بكر يومئذ: سعد بن عبادة في طائفة من الخزرج وعلي بن أبي طالب وابناه، والعباس عم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبنوه في بني هاشم، والزبير وطلحة و سلمان، وعمار، وأبو ذر، والمقداد، وغيرهم من المهاجرين، وخالد بن سعيد بن العاص (2).

والعجيب أنهم يعترفون بهذه الحقيقة ويقولون في نفس الوقت: أُفٍّ لكل إجماع يخرج عنه علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك

وابن عباس، والصحابة بالشام رضی الله عنهم (3).

ويقولون: ولعنة الله على كل إجماع يخرج عنه علي بن أبي طالب ومن بحضرته من الصحابة (4).

فلا نعلم أي إجماع يتحدّث عنه ابن أبي الحديد أو غيره من الناس، ولا ندري ما هو المصحِّح لخلافة أبي بكر إن كان لا يوجد نصّ عليه، ولا شورى، ولا إجماع، فلعنة الله على كل إجماع خرج عنه العلي علیه السلام.

وعليه فلا توجد أي دلالة في هذا الكتاب على ما ذهب إليه ابن أبي الحديد المعتزلي أو غيره. 5.

ص: 191


1- نفس المصدر 82/5.
2- الرياض النضرة 241/1.
3- المحلّى 127/5.
4- نفس المصدر 9 / 345.

5 - مشورة عمر بن الخطاب

قالوا: إن عليًّا علیه السلام قد أقرَّ بشرعية حكم الخلفاء السابقين؛ وذلك لأنّه كان مستشاراً لهم، وموثوقاً عندهم، ولذلك نجده يشير على عمر بن الخطاب بعدم الخروج للقاء الفرس والروم خوفاً عليه!

فقد روي في النهج عنه علیه السلام قوله: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرَّق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحر، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: «هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم»، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة (1).

وقال علیه السلام لعمر بن الخطاب: وقد توكّل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت، إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم بشخصك، فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك

ص: 192


1- نهج البلاغة 2/ 30.

مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين (1).

والجواب على ما ذكروه:

أولاً: أن المستشار مؤتمن كما عليه دلّت النصوص الشرعية، فمن استشار أحداً من الناس في شيء فعلى المستشار أن يحسن المشورة، ويقول الحق، ولا يخدع من استشاره، وإلا كان خائناً.

ومن هذا الباب كان جواب أمير المؤمنين علیه السلام لعمر بن الخطاب، حيث إن هذا الأخير استشاره، فما كان من الإمام علي علیه السلام إلا أن تحلّى بخلق الإسلام وأحسن المشورة.

ثانياً: لا يوجد في النصوص تصريح بأن عليًّا علیه السلام يرتضي خلافة عمر، أو يقر بشرعيتها؛ اذ أن هذا الأخير استشار الناس في قضية عامة تمسّ مصلحة الإسلام والمسلمين، وهذا الأمر من مسؤوليات الإمام علیه السلام، فكان واجباً عليه أن يشير بما يعود على الإسلام بالنفع.

قال العلامة المجلسي قدس سره: ثم اعلم أن هذا الكلام وما تقدم يدل أنهم كانوا محتاجين إليه علیه السلام في التدبير وإصلاح الأمور التي يتوقف عليها الرئاسة والخلافة، فهو علیه السلام كان أحق بها وأهلها، وكانوا هم الغاصبين حقّه، وأما إراءتهم مصالحهم فلا يدل على كونهم على الحق؛ لأن ذلك كان لمصلحة الإسلام والمسلمين لا لمصلحة الغاصبين، وجميع تلك الأمور كان حقّه علیه السلام قولاً وفعلاً وتدبيراً، فكان يلزمه القيام بما يمكنه من تلك الأمور، ولا يسقط.

ص: 193


1- نهج البلاغة 2/ 18.

الميسور بالمعسور (1).

ثالثاً: أن كلام أمير المؤمنين علیه السلام لا يدل على أنه كان يرى عمر مرجعاً شرعيًّا يرجع إليه الناس، وإنما نصحه بأن يبقى في المدينة، ولا يخرج إلى قتال

الفرس بنفسه، لأمرين:

الأول: أن المسلمين لو انهزموا وهو معهم، فإنهم لا يرون لهم مرجعاً آخر غير الخليفة يرجعون إليه حتى يجمعوا أنفسهم، وإن كان المرجع الحقيقي موجوداً وهو أمير المؤمنين علیه السلام.

الثاني: أن الفرس يرون أن عمر هو رأس الدولة، فإن علموا بكونه مع الجيش طمعوا فيه واشتد حرصهم على قتله.

وليس في شيء من ذلك ما يدل على أن أمير المؤمنين علیه السلام كان يرى شرعية خلافة عمر، أو أنه مرجع شرعي للمسلمين.

رابعاً: من السذاجة والغفلة الاستدلال بهذه النصوص على مدح أمير المؤمنين علیه السلام لعمر بن الخطاب؛ لأن من يدقق فيها يعلم أنها اشتملت على أكثر من مطعن في هذا الرجل:

1 - أن هذه النصوص تثبت أنّ عمر بن الخطاب لم يكن شجاعاً، وكان يخاف من منازلة الأعداء ومقارعة الأشدّاء، ويخشى من انتقاض الأمر عليه، ويدلّ على هذا الجزء الذي لم يذكره الشريف الرضي قدس سره من هذا النص والذي ذكره ابن الأعثم في الفتوح، قال: فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضی الله عنه وقرأه، وفهم ما فيه، وقعت عليه الرعدة والنفضة، حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه (2)..

ص: 194


1- بحار الأنوار 140/31.
2- الفتوح 291/2.

2 - يظهر من النص الأول أنّ عمر لم يكن يعلم أن الهزيمة و الظفر لا يتوقفان على القلّة بالكثرة، بل كل شيء بيد الله عزّ وجل، والقرآن أكبر شاهد على ذلك، فقد نصر الله القلة في بدر، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123]، وذمّ الله الكثرة المعجبة بنفسها كما في سورة حنين، قال سبحانه: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25]، وقد صوّبه أمير المؤمنين علیه السلام.

3 - أن عمر لم يكن يعرف فنون الحرب وأساليب القتال، لذلك كان يريد حشد المسلمين في الجبهة مع الفرس، وترك المدينة والحواضر الإسلامية كاليمن ومكة والشام بلا حراسة ولا حماية، وهذا خطأ فظيع لا يقع فيه جندي صغير، فكيف بالذي نصّب نفسه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين؟

ولذلك نبّهه الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام على هذا الخطأ بقوله: فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.

4 - أن كلام أمير المؤمنين علیه السلام فيه تعريض بعمر بن الخطاب، إذ أنّ ظاهر الكلام أنه كان متيقّنا من هزيمة عمر في هذه الحرب في حال خروجه، ولذلك قال: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم.

والأمر الآخر قوله: «أرسل لهم رجلاً محرباً» أي متمرّساً في القتال ومتضلعاً في فنون الحرب، وهذا يدل على أن عمر لم يكن هذا شأنه، فليس القتال ميدانه، وهذا معلوم من سيرة عمر بن الخطاب، فرغم ما نسمعه دائماً في سيرة عمر من أنه كان شديداً، وكانت لا تاخذه في الحقّ لومة لائم وغيرها من

ص: 195

الأمور.

إلا أنه لم يُعرف أنه قتل أحداً أو حتى بارز فارساً في جميع غزوات النبي صلی الله علیه و آله و سلم، بل لا يُعلَم له حضور حقيقي في ساحات الجهاد رغم السنين الطويلة التي قضاها بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

والأعظم أنه نُقل عنه في كثير من الموارد أنه ولّى الدبر، وترك ساحات القتال.

فقد أخرج الحاكم في المستدرك وصحّحه بسنده عن جابر رضی الله عنه أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم دفع الراية يوم خيبر إلى عمر رضی الله عنه، فانطلق، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنونه (1).

وقال الهيثمي: وعن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى خيبر أحسبه قال: أبا بكر، فرجع منهزماً ومن معه فلما كان من الغد بعث عمر فرجع منهزماً يجبِّن أصحابه، ويجبّنه أصحابه (2).

وروى ابن أبي شيبة بسنده عن عبد الله بن بريدة الأنصاري الأسلمي عن أبيه، قال: لما نزل رسول الله بحضرة خيبر، فزع أهل خيبر، وقالوا: جاء محمد في أهل يثرب قال فبعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عمر بن الخطاب بالناس، فلقي أهل خيبر، فردّوه، وكشفوه هو وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه (3).

وأخرج ابن عساكر هذا الخبر بسنده عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبا بكر إلى خيبر، فهُزم فرجع، فبعث عمر، فهُزم، فرجع يجبِّن أصحابه،.

ص: 196


1- المستدرك 3/ 38، علق عليه الحاكم النيسابوري بقوله: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
2- مجمع الزوائد 124/9.
3- المصنف 521/8.

ويجبنه أصحابه (1)

فقصص الهروب والانهزام والفشل مشهورة متواترة عنه ممّا لا يدع مجالاً للشك والريبة في عدم أهلية هذا الرجل لهذه المهمّة التي كان يريد القيام بها، وإن كنتُ أجزم أنه كان يريد التملص بها، وما مشورة أمير المؤمنين علیه السلام إلا قشّة تمسّك بها الرجل لحفظ ماء وجهه.

كلّ هذه الأمور التي ذكرناها تمنع من الاحتجاج بهذا النصّ على شرعية خلافة الشيخين، وتبقى النصوص الدالة على الإمامة الإلهية صامدة بلا معارض لها، في (نهج البلاغة) وفي غيره.

العصمة

اشارة

تعتبر عقيدة (عصمة الأئمة) من الأمور التي انفرد بها الشيعة الإمامية عن غيرهم من المسلمين، ولذلك وُجِّهت سهام النقد لهذه العقيدة من كل حدب وصوب، وحاول الخصوم إسقاطها بشتّى الوسائل.

وقد استند بعضهم إلى جملة من نصوص كتاب (نهج البلاغة) لنفي عقيدة العصمة عند الشيعة:

1 - أدعية أمير المؤمنين علیه السلام التي يعترف فيها بارتكاب الذنوب:

قالوا: إن عليًّا علیه السلام يعترف بكونه مذنباً، وذلك في دعاء أورده الشريف الرضي قدس سره في النهج، جاء فيه: الحمد الله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء، ولا مأخوذاً بأسوأ عملي، ولا مقطوعاً دابري، ولا مرتدًّا عن ديني، ولا منكراً لربي، ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذَّباً بعذاب الأمم من قبلي، أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي، لك الحجة عليَّ، ولا حُجّة لي، لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتّقي إلا ما وقيتني،

ص: 197


1- تاريخ مدينة دمشق 97/42.

اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أُضام في سلطانك، أو أضطهد والأمر لك، اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي، وأول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي، اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو نُفتتن عن دينك، أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك (1).

وقال قائلهم تعليقاً على هذا الدعاء: انظر إلى هذه الألفاظ: «أسوأ عملي»، «ظالماً لنفسي»، «أضل في هداك»، «نذهب عن قولك»، «نُفتن عن دينك»، «تتابع بنا أهواؤنا» عبارات تدل على الخضوع وعدم العصمة وخوف الذنب (2).

والجواب على استدلالهم نقضاً وحلًّا:

أمّا نقضاً: فلأن مثل هذه الأدعية قد ورد مثلها على لسان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مثل: ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي، وجهلي، وهزلي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررت وما أعلنت أنت المقدَّم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير (3).

فهل يعني هذا الدعاء ثبوت الذنب والإسراف والخطيئة والجهل لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

ومنها: ما رواه البخاري أيضاً في صحيحه بسنده عن أبي هريرة: كان.

ص: 198


1- نهج البلاغة 2/ 97.
2- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 25.
3- صحيح البخاري 166/7.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يسكت بين التكبير وبين القراءة اسكاتة، قال: أحسبه قال: هنية فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد (1).

فهل يلتزم المشكل أن هذا الدعاء يثبت الخطايا للنبي صلی الله علیه و آله و سلم كي يكرّر هذا الدعاء في كلّ صلاة؟

ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسرّه (2).

فهل ذنوب النبي صلی الله علیه و آله و سلم كثيرة إلى درجة أنه يستغفر منها في كل سجود؟

من هنا نعلم أنّ هذا الإشكال الذي طرحه هذا الرجل على الشيعة هو إشكال عام يشمل أيضاً أدعية النبي صلی الله علیه و آله و سلم الواردة في الصِّحاح، فأما أن ينفي المشكل عصمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ويكون قد خالف إجماع المسلمين كافّة، أو أن يثبت له العصمة، ويحمل الأدعية على غير هذا المحمل.

أمّا الجواب الحلّي: فقد ذكر علماؤنا الأبرار أعلى الله برهانهم عدّة توجيهات لهذه الفقرات الموجودة في الأدعية التي يُتوهَّم منها صدور الذنب منهم:

التوجيه الأول: وهو أن أدعية المعصومين علیهم السلام تعليمية، إذ أنّ الدعاء له آداب خاصة لا بد أن يتحلّى الداعي بها كي يصل إلى مبتغاه، وبما أنّ الدّعاء.

ص: 199


1- نفس المصدر 181/1.
2- صحيح مسلم 2/ 50.

الحقيقي من لا بد أن يكون نابعاً من حالة قلبية خاصّة، كالخوف، أو الرجاء، أو الحب، فيجب أن يعرف المكلّف كيفية التعبير عن هذه الحالات بالصورة الصحيحة التي تتناسب مع عظمة الله وجلاله، فليس كلّ كلام صحيح يتناسب مع كل المقامات، فالأسلوب الذي يخاطب به الرجل ولده يختلف عن الأسلوب الذي يخاطب به الرجل صديقه ويختلف عن طريقة مخاطبته لمديره فكلّ مخاطَب له آداب خطاب خاصّة تلائم شأنه.

ومن هنا لا يمكننا معرفة الآداب التي نستطيع من خلالها مناجاة الله عزّ وجل والابتهال إليه، فكان الطريق إليها هو الوحي المتمثل في محمد وآل محمد علیهم السلام، فمن أراد الله بدأ بهم.

التوجيه الثاني: هو أن هذا الاستغفار والدعاء ليس من الذنوب والمعاصي المتمثلة في ارتكاب الأمور المحرمّة، بل من ترك الأولى أي خالف التكاليف الإرشادية لا الإلزامية التي يترتّب عليها حساب وعقاب، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين كما قيل.

وقد تبنّى هذا الرأي من المخالفين الشيخ محمد علي الشوكاني في تفسيره، حيث قال: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ أي: استغفر الله أن يقع منك ذنب، أو استغفر الله ليعصمك، أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأَوْلى (1).

التوجيه الثالث: قالوا: إن هذا الدعاء هو من باب الافتقار والتذلل لله عزّ وجل، والاستغفار هو بسبب انشغال المعصومين علیهم السلام بالأمور الضرورية البشرية، كالأكل والشرب والنكاح التي يعتبرونها شاغلاً لهم عما هو أولى كالعبادة والانقطاع الله عزّ وجل.

وقد تبنّى هذا الرأي جملة من العلماء، منهم الشيخ الأربلي قدس سره، حيث.

ص: 200


1- فتح القدير 36/5.

قال: وتقريره أن الأنبياء والأئمة علیهم السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى، وهم أبداً في المراقبة كما قال علیه السلام: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تره فإنه يراك. فهم أبداً متوجِّهون إليه، ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدّوه ذنباً، واعتقدوه خطيئة، واستغفروا منه، ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح، وهو يعلم أنه بمرأى من سيِّده ومسمع، لكان ملوماً عند الناس، ومقصِّراً فيما يجب عليه من خدمة سيِّده ومالكه، فما ظنّك بسيّد السادات وملك الأملاك (1).

ومن العامّة النووي في شرحه النووي، حيث قال: وأما استغفاره صلی الله علیه و آله و سلم و قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهم اغفر لي ذنبي كله» مع أنه مغفور له، فهو من باب العبودية، والإذعان، والافتقار إلى الله تعالى، والله أعلم (2).

الوجه الرابع: أن المعصومين علیهم السلام يدْعُون بلحاظ الوجود الجمعي لا

لا الفردي، أي أنه علیه السلام ها بهذا الدعاء لا يقصد نفسه، بل يقصد كلّ أمته، وهذا من باب الرأفة والرّحمة بهم.

ولعل هذا المعنى يُستشف من عدّة نصوص، مثل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، فمقتضى رحمة النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم أنه يهتم بغفران ذنوب أمّته كما كان يهتم بأمورهم الحياتية.

ومثل هذا المقطع الوارد في الزيارة الجامعة، وهو قوله علیه السلام: بأبي أنتم.

ص: 201


1- كشف الغمّة 3/ 47.
2- شرح مسلم 202/4.

وأمي ونفسي وأهلي ومالي، ذكركم في الذاكرين، وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس (1).

فوجود هذا الرابط التكويني بين أنفس أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم يجعل منهم يحسون بالحالات المختلفة التي يمرّ بها الشيعة فيكون لسان المعصوم في دعائه حاكيا عن الشيعة وليس عن نفسه فقط.

فهذه الوجوه الأربعة يمكن الجمع بها بين عقيدتنا في عصمة الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم وعصمة الأئمة الأطهار علیهم السلام.

2 - لست في نفسي بفوق أن أخطىء

وقالوا: إن عليًّا قد اعترف بنفسه أنه يمكن أن يخطئ، والإقرار سيّد الأدلّة، إذ أنه صرّح في النهج بقوله: فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى (2).

وعلّق أحدهم على هذا النص بقوله: انظر إلى قوله: «إني لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعل»، فهل أدلّ من هذا النصّ على عدم عصمته رضی الله عنه بأنه فوق أن يخطئ، إذ لا يأمن ذلك من نفسه، مما يدل على أنه ليس فوق البشر، لا خلقة طبيعية ولا عصمة إلهية (3).

والجواب على ذلك: أنّ المشكل لم يفهم حقيقة العصمة عند الشيعة،

ص: 202


1- من لا يحضره الفقيه 2/ 616.
2- نهج البلاغة 2/ 202.
3- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 27.

ولذلك قال هذا الكلام؛ فالعصمة عندنا كما عرّفها العلامة الحلّي: هي لطف خفي يفعل الله تعالى بالمكلف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك (1).

فالعصمة ليست أمراً ذاتياً في المكلّف، بل هي إفاضة من الله وفضل منه للمكلّف، تمنعه من ارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك، وأمير المؤمنين علیه السلام نفى أن يكون معصوماً بنفسه، أي بالاستقلال عن الله عزّ وجل، قال: «إني لست في نفسي بفوق أن أخطئ»، لكنه علیه السلام لم يقف هنا، بل عقّب بقوله: «ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني»، أي أنّ الله هو الذي يكفيه الخطأ والذنب والمعصية.

وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الله عزّ وجل في القرآن الكريم في عدة أيات كريمة:

منها: قوله تعالى في حق النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74]، والآية صريحة في أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم لولا تثبيت الله سبحانه لركن إلى المشركين شيئا قليلا، والركون إلى الظالمين ذنب كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود: 113].

ومنها: قوله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، فالآية تدل على أن هذه الصفات السامية الموجودة في المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم هي من الله عز وجل.

وغيرها من الآيات الكثيرة المثبتة لهذا المعنى..

ص: 203


1- النافع يوم الحشر: 89.

3 - تنصيب أمير المؤمنين علیه السلام للولاة

قالوا: انّ عليًّا ليس معصوماً كما يدّعي الشيعة، ولو كان كذلك لما أخطأ في وضع المنذر بن الجارود العبدي والياً، إذ أن هذا الرجل خان الأمانة، وغدر بأمير المؤمنين علیه السلام، وقد عاتبه على ذلك في كتاب نقله الرضي في النهج بقوله: أما بعد، فإن صلاح أبيك غرَّني منك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقى إليَّ عنك لا تدع لهواك انقياداً، ولا تبقى لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقًّا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَد به ثغر، أو يُنفَذ به أمر، أو يُعلى له قدر، أو يُشرَك في أمانة، أو يُؤمَن على جباية، فأَقبلْ إلىَّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله (1).

والجواب على هذا الإشكال:

أولاً: المعصوم علیه السلام مأمور بالعمل بحسب الظاهر، لا بما أطلعه الله عليه من أمور غيبية، كمصير العباد أو ما يخفونه في صدورهم وما شابه، فتكليفه هو مجاراة الناس في ما يظهرونه علناً، لا ما يكتمونه سرًّا.

ولهذا كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم يعلم يقيناً بوجود منافقين مدسوسين بين أصحابه، لكنّه كان يسوّي بينهم وبين بقية الصحابة، فلم نسمع يوماً أنه أهان عبد الله بن أبي، أو طرده من المسجد، أو منعه من الخروج إلى الجهاد مع المسلمين رغم أن هذا الرجل هو رأس المنافقين في ذلك الوقت.

ومن الشواهد على هذا قصّة الرجل الذي اتخذه النبي صلی الله علیه و آله و سلم كاتباً للوحي، ثم ارتد كما نقل ذلك البخاري في صحيحه بسنده عن أنس رضی الله عنه، أنه قال: كان رجل نصرانيًّا، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي صلی الله علیه و آله و سلم لو فعاد

ص: 204


1- نهج البلاغة 54/18.

نصرانيًّا، فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له (1).

فهل ردّة هذا الرجل قادحة في عصمة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم؟

ومنها: ردّة عبد الله بن أبي سرح الذي كان أيضاً كاتباً للوحي عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ابن عباس رضی الله عنه، قال: كان عبد الله بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يُقتل، فاستجار له عثمان، فأجاره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (2).

فهل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يجهل أن هؤلاء سيرتدّون عن دينه حتى يضعهم في هذا المنصب الخطير؟

ولهذا قال النووي: وكان صلی الله علیه و آله و سلم يتألف الناس، ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكّن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال

الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أُمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه صلی الله علیه و آله و سلم، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معه من عشائرهم (3).

وقد فصّل القاضي عياض في هذا الموضوع بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح والبيان بقوله: إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم لم يقتل المنافقين بعلمه فيهم، ولم يأت أنه قامت بيّنة على نفاقهم، فلذلك تركهم، وأيضاً فإن الأمر كان سرًّا وباطناً، وظاهرهم الإسلام والإيمان، وإن كان من أهل الذمة بالعهد والجوار، والناس قريب عهدهم بالإسلام، لم يتميِّز بعدُ الخبيث من الطيب، وقد شاع عن.

ص: 205


1- صحيح البخاري 181/4.
2- المستدرك على الصحيحين 3 / 45، عقّب الحاكم على هذا الحديث بقوله: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.
3- شرح مسلم 139/16.

المذكورين في العرب كون من يُتَّهم بالنفاق من جملة المؤمنين وصحابة سيد المرسلين وأنصار الدين بحكم ظاهرهم، فلو قتلهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم النفاقهم وما يبدر منهم وعلمه بما أسرُّوا في أنفسهم لوجد المنفِّر ما يقول، ولارتاب الشارد، وأرجف المعاند وارتاع من صحبة النبي صلی الله علیه و آله و سلم والدخول في الإسلام غير واحد، ولزعم الزاعم وظن العدو الظالم أن القتل إنما كان للعداوة وطلب أخذ الترة، وقد رأيتُ معنى ما حرَّرته منسوباً إلى مالك بن أنس رحمه الله (1).

فهذا الإشكال مردود جملة وتفصيلاً، ولا يقدح مقدراً قيد أنملة في عصمة أمير المؤمنين علیه السلام.

4 - لا بد للناس من أمير بر أو فاجر

وقالوا: إن أمير المؤمنين علیه السلام صرّح بما لا يحتمل التأويل بأنه لا يُشترط في الإمام العصمة، بل لا يُشترط فيه حتى العدالة، إذ أنه علیه السلام قال: لا بد للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر (2).

والجواب على هذا:

أولاً: صاحب الإشكال خلط بين مفهوم الإمامة والإمارة، فالذي يطلق عليه إمام هو صاحب الولاية العامّة على الناس أمّا الأمير فهو الذي ينصّب من قبل صاحب الولاية العامة، والكلام في هذه الرواية حول الأمير وليس الإمام، فهو الذي يمكن أن يكون برًّا أو فاجراً إلا أنه ليس بإمام الحقّ المنصب من الله جلَّ جلاله.

الثاني: لو سلّمنا جدلاً بالتطابق بين معنى الإمامة والإمارة فليس في هذا النص حجّة للخصم؛ إذ أنّ أمير المؤمنين علیه السلام في هذا الكلام بصدد بيان بطلان

ص: 206


1- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 227/2.
2- نهج البلاغة 1/ 91.

ما يذهب إليه الخوارج، فأول الكلام هو الآتي: ومن كلام له علیه السلام في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حُكْم إلا لله» قال علیه السلام: كلمة حق يُراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا الله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، فإنه لا بد للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلِّغ اللهُ فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح به بَرٌّ، ويُستراح من فاجر (1).

فالخوارج يدّعون أنه لا حكم إلا لله عزّ وجل، وأمير المؤمنين علیه السلام ردّ عليهم بدليل وجداني، وهو أنّ الناس يحتاجون في أمورهم الدنيا لأمير، سواء كان برًّا أم فاجراً، فالكلام هنا حول ما تقتضيه الحاجة البشريّة، سواء كانوا متشرّعة أم لم يكونوا كذلك؛ لأن الإنسان مدني بطبعه أو بالضرورة، ولازم المدنية أن يكون هناك نظام اجتماعي يرعاه أحد، يكون في قمة الهرم، سواء سُمّي حاكماً أو ملكاً أو رئيساً أو أميراً أو خليفة.

أي أنه علیه السلام يرد على الخوارج الذين يرفضون كل حاكم حتى لو كان صالحاً، بأن حاجة الناس لحاكم وإن كان فاجراً لا تخفى على أحد، فإن وجود حاكم فاجر خير من أن يكون الناس بلا حاكم بحيث تسود الفوضى، وينعدم الأمن.

ولهذا قال العلامة البيهقي: لا تمتُّع بالوجود للإنسان إلا عند المشاركة، فالواحد لا يكفي صنعة مأكوله ومشروبه وملبوسه، بل يحتاج أن يعمل كلّ لكلّ يتكافؤون فيه، وذلك بتمدّن واجتماع على أخذ وإعطاء، يفترض لأجله العدل الذي لا ينفكّ عن الاصطلاح والتواطؤ، فإن كلاً يرى ما له على غيره عدلاً، وما لغيره عليه غير عدل، بل يحتاج إلى متميّز عن النّاس والاتباع كلَّهم.

ص: 207


1- نهج البلاغة 1/ 91.

بخواصّ يذعنون له بها، فذلك معنى قول أمير المؤمنين علیه السلام: لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر، وهذا من مقتضى طبيعة الإنسان (1).

وهذا الأمر مشابه لما يحصل بين المسلمين والملاحدة، إذ أنّ الحوار معهم يبدأ من الصفر، وهو إثبات وجود الصانع للكون بالأدلة والبراهين، دون التطرّق إلى بيان صفاته أو حقيقته، ثم تتدرج معه شيئاً فشيئاً كلما أقرّ لك بأمر.

فلا علاقة أصلاً بين هذا النص وبين ما يذهب إليه الشيعة من اشتراط عصمة الإمام من كل نقيصة؛ لأن الإمام علیه السلام بيَّن حاجة الناس إلى حاكم يحكمهم، بغض النظر عن صفات ذلك الحاكم ما هي، فهذا أمر آخر لم يبيّنه الكلام في كلامه.

علماً أنّ كتاب (نهج البلاغة) زاخر بالنصوص التي تثبت صراحة عصمة أمير المؤمنين الله وغيره من أئمة المسلمين علیهم السلام، ونكتفي هنا بإيراد نصّ واحد اعترف العام والخاص بدلالته.

قال علیه السلام: بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم، وهم أزِمَّة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، ورِدُوهم وُرُود الهيم العطاش أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلی الله علیه و آله و سلم، إنه يموت من مات منا ولیس،بميت ويبلى من بلى منا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيها تنكرون، واعذروا من لا حُجّة لكم عليه، وأنا هو ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر؟ (2).

ودلالة هذا النص صريحة على عصمة الإمام علیه السلام وبقية أهل البيت علیهم السلام، لا سيما قوله: «فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن»، أي أنهم ثقل للقرآن وعديله.

ص: 208


1- معارج نهج البلاغة: 130.
2- نهج البلاغة 2 / 154.

ولهذا قال ابن أبي الحديد المعتزلي تعقيباً على هذه العبارة: وقوله: «فأنزلوهم منازل القرآن» تحته سر عظيم، وذلك أنه أمر المكلفين بأن يُجروا العترة في إجلالها، وإعظامها والانقياد لها، والطاعة لأوامرها مجرى القرآن. فإن قلت: فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة، فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلت: نصَّ أبو محمد بن متويه رحمه الله تعالى في كتاب (الكفاية) على أن عليًّا علیه السلام معصوم، وإن لم يكن واجب العصمة، ولا العصمة شرط في الإمامة، لكن أدلة النصوص قد دلّت على عصمته، والقطع على باطنه ومغيبه، وأن ذلك أمر اختصَّ هو به دون غيره من الصحابة، والفرق ظاهر بين قولنا: «زيد معصوم»، وبين قولنا: «زيد واجب العصمة»؛ لأنه إمام، ومن شرط الإمام أن يكون معصوماً، فالاعتبار الأول مذهبنا، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية (1).

الوحي

ورد في بعض نصوص كتاب (نهج البلاغة) تعرّض إلى حقيقة الوحي وبعض تفاصيله، وقد حاول البعض الاحتجاج بهذه النصوص لإثبات انقطاع الوحي بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وعدم وجود صلة بين أهل البيت علیه السلام وبين السماء، وبالتالي فإنهم لا يمتازون عن النّاس بشيء.

ومن هذه النصوص قوله علیه السلام: أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقفَّى به الرسل، وختم به الوحي (2).

وقال علیه السلام: بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء خصصت حتى صرت مسليّا عمن سواك،

ص: 209


1- شرح نهج البلاغة 377/6.
2- نهج البلاغة 2/ 16.

وعممت حتى صار الناس فيك سواء (1).

وعلّق أحدهم على هذه الروايات بقوله: فأين هذا القول مما في الكافي (في الفرق بين الرسول والنبي والإمام الرسول ينزل عليه جبرائيل فيراه ويسمع كلامه، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص (2).

والجواب على ما ذكروه أنّ القوم وقعوا في خلط شديد؛ إذ أنّ هناك فرقاً بين الموحى إليه وبين المحدَّث، فإنا لا نقول: إن أئمة أهل البيت علیهم السلام ينزل عليهم الوحي من السماء، وإنما هم أئمة محدَّثون أي تحدّثهم الملائكة، ويُلقى العلم في روعهم من قبل الله سبحانه وتعالى، وبين الأمرين فرق واضح.

وقد أجاد الشيخ المفيد قدس سره من التفصيل بالأمرين في (أوائل المقالات) مقرّراً عقيدة الشيعة الإمامية في الوحي فقال: إن العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم وإن كانوا أئمة غير أنبياء، فقد أوحى الله عزَّ وجل إلى أم موسى: (أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فعرفت صحة ذلك بالوحي، وعملت عليه، ولم تكن نبيًّا ولا رسولاً ولا إماما، ولكنها كانت من عباد الله الصالحين، وإنما منعت من نزول الوحي عليهم والإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك، والاتفاق على أنه من يزعم أن أحداً بعد نبينا صلی الله علیه و آله و سلم يوحى إليه فقد أخطأ وكفر، ولحصول العلم بذلك من دين النبي صلی الله علیه و آله و سلم، كما أن العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبينا صلی الله علیه و آله و سلم ونسخ شرعه صلی الله علیه و آله و سلم كما نُسخ ما قبله من شرائع الأنبياء، وإنما منع ذلك الإجماع والعلم بأنه خلاف دين النبي صلی الله علیه و آله و سلم، من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار، والإمامية.

ص: 210


1- نفس المصدر 228/2.
2- تأملات في نهج البلاغة 29.

جميعاً على ما ذكرت ليس بينها فيه على ما وصفت خلاف (1).

وقال في (تصحيح الاعتقادات) مقرّراً حقيقة سماع الأئمة علیهم السلام للملَك: قد يُري الله سبحانه وتعالى في المنام خلقاً كثيراً ما يصح تأويله ويثبت حقه، لكنه لا يُطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، ولا يقال في هذا الوقت لمن طبعه الله على علم شيء: إنه يوحى إليه. وعندنا أن الله تعالى يُسمع الحجج بعد نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم كلاماً يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنه لا يُطلق عليه اسم الوحي؛ لما قدّمناه من إجماع المسلمين على أنه لا وحي إلى أحد بعد نبيّنا صلی الله علیه و آله و سلم، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه: إنه وحي إلى أحد، و لله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحياناً ويحظره أحياناً، ويمنع السمع بشيء حيناً، ويطلقها حيناً، فأما المعاني فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدمناه (2).

فالموجود في الكافي وفي غيره من الكتب هو أنّ الأئمة علیهم السلام محدّثون، والنصوص المذكورة في كتاب (نهج البلاغة) منصبّة على الوحي الذي نقل الشيخ المفيد رحمه الله إجماع المسلمين على انقطاعه.

وقد وردت في الكافي رواية توضّح حقيقة ما يقوله الشيعة في أئمتهم علیهم السلام، وهي ما رواه الكليني بسنده عن حمران بن أعين، قال: قال أبو جعفر علیه السلام إن عليًّا علیه السلام كان محدَّثاً. فخرجت إلى أصحابي فقلت: جئتكم بعجيبة، فقالوا: وما هي؟ فقلت: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول، كان علي علیه السلام محدَّثاً. فقالوا: ما صنعت شيئاً، ألا سألته من كان يحدِّثه؟ فرجعت إليه فقلت إني حدَّثت أصحابي بما حدثتني، فقالوا: ما صنعت شيئاً، ألا سألته من كان يحدثه؟ فقال لي: يحدثه مَلَك. قلت: تقول: إنه نبي؟ قال: فحرك يده هكذا: أو كصاحب سليمان،.

ص: 211


1- أوئل المقالات: 75.
2- تصحيح الاعتقادات: 122.

أو كصاحب موسى، أو كذي القرنين، أو ما بلغكم أنه قال: وفيكم مثله (1).

فالأئمة علیهم السلام المحدّثون، ولم يكونوا أنبياء، مثلما يحدَّث غير الأنبياء في الأمم السابقة كأم موسى ومريم بنت عمران وذي القرنين، ويوشع بن نون، وغيرهم.

وهذا القول ليس من مختصات الشيعة كي يتّخذه القوم ممسكاً للتشنيع والتفظيع، بل إن المخالفين يثبتون هذا المعنى في أصحّ كتبهم.

فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضی الله عنه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قال: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب (2).

وجعل المحب الطبري باباً في كتابه (الرياض النضرة) أسماه: (ذكر اختصاصه بالتحديث)، والمقصود هو عمر بن الخطاب، وقد قرّر فيه هذا المعنى، فقال: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «قد كان في الأمم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب»، أخرجه أحمد ومسلم، وقد قال ابن وهب تفسي: محدَّثون: مُلهَمون، وأخرجه الترمذي، وصحَّحه، وأبو حاتم، وخرَّجه البخاري عن أبي هريرة، وخرج عنه من طريق آخر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي فيهم أحد فعمر»، ومعنى محدَّثون والله أعلم أي يُلهَمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وتحدِّثهم الملائكة لا بوحي، وإنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة (3)..

ص: 212


1- الكافي 271/1.
2- صحيح البخاري 149/4.
3- الرياض النضرة 287/2.

فلا ندري لماذا يقبلون بمثل هذا المقام في حقّ عمر بن الخطاب، ويرفضونه في حقّ أئمة أهل البيت علیهم السلام؟ خصوصاً أن حديث البخاري جاء فيه لفظ «محدَّثون» بصيغة الجمع الدال على أن في الأمة محدَّثين كثيرين.

قال ابن حجر في فتح الباري: وفُسِّر المحدَّث بفتح الدال بالمُلهَم بالفتح أيضاً، وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيَّبة، فكانت كما أخبروا ...

إلى أن قال: وكان السِّر في ندور الإلهام في زمنه وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلی الله علیه و آله و سلم في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه، فكان المناسب أن لا يقع لغيره منه في زمانه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصّه الله به؛ للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار وقوع ذلك مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره (1).

وقال الملا علي القاري وخرج [أي البخاري] عنه [يعني أبا هريرة] من طریق آخر قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر» ومعنى محدَّثون - والله أعلم - مُلهَمون الصواب، ويجوز أن يُحمل على ظاهره بأن تحدِّثهم الملائكة لا بوحي، بل بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة (2).

علما أنّ بعض علماء العامّة قد نصّ صراحة على أنّ هذا التحديث الذي تمیّز به عمر بن الخطاب هو ضرب من ضروب الوحي يستعمله الخليفة الثاني في الحكم بن الناس!

قال ابن القيم الجوزيه: و لله فراسة من هو إمام المتفرّسين، وشيخ.

ص: 213


1- فتح الباري 12/ 445.
2- مشكاة المصابيح 387/10.

المتوسمين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي لم تكن تخطىء له فراسة، وكان يحكم بن الأمة بالفراسة المؤيدة بالوحي (1).

بل إنّهم أجازوا أعظم من هذا، وهو إمكانية تمثّل الملَك لغير النبي صلی الله علیه و آله و سلم والتحدّث معه، وقد ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في الفتح عند تعليقه على أحد الأحاديث، حيث قال: فيه أن الملَك يجوز أن يتمثَّل لغير النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فيراه ويتكلَّم بحضرته وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران بن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة والله أعلم (2).

بل إن هذا الأمر حصل حتّى لبعض النّاس من غير الصحابة ولا التابعين، بل للذين لم يُعرفوا بعلم أو فضل، فقد روى ابن الجوزي بسنده عن الحسن بن حيّ، قال: قال لي أخي علي في الليلة التي توفي فيها: اسقني ماء. وكنت قائماً أصلي، فلما قضيت الصلاة أتيته بماء، فقلت: يا أخي، فقال: لبيك. فقلت: هذا ماء. فقال: قد شربت الساعة، فقلت: من سقاك وليس في الغرفة غيري وغيرك؟ قال: أتاني جبريل الساعة بماء فسقاني، وقال لي: أنت وأخوك وأبوك مع النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين (3).

عدالة الصحابة

اشارة

رغم أن هذه المسألة ليست من أصول الدين ولا من فروعه، وليست من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان، إلا أنّ المخالفين يعطون لهذه المسألة التاريخية اهتماماً بالغاً، بحيث جعلوها هى أسّ الإسلام الذي يتقوّم به وعمود الدين الذي يقوم عليه.

ص: 214


1- الطرق الحكمية 73.
2- فتح الباري 1/ 115.
3- المنتظم في التاريخ 180/8.

ومن هنا تناول البعض نصوصاً من كتاب (نهج البلاغة) واعتبرها شاهداً ودليلاً لما يعتقدونه من عدالة كل الصحابة، ودليلاً على بطلان ما يذهب إليه الشيعة من عدالة بعضهم وعدم عدالة بعض آخرين منهم.

1 - مدح أمير المؤمنين علیه السلام للصحابة

قالوا: إنّ عليًّا علیه السلام مدح أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في كتاب (نهج البلاغة) كما في قوله: لقد رأيتُ أصحاب محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سُجَّداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر مَعَادهم، كأن بين أعينهم رُكَب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاء الثواب (1).

والجواب على هذا:

أولاً: عقيدة الشيعة في الصحابة هي أن منهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم المحق ومنهم المبطل، فهم يرون أن ذلك المجتمع حاله كحال غيره من المجتمعات الأخرى، ليس بشاذ عن سنن الله في خلقه، وما يقوله المخالفون من عدالة الصحابة أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين غير صحيح ولا دليل عليه، بل هو مخالف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتاريخ الصحيح وسيرتهم القطعية.

فالشيعة لا يعتقدون انحراف كل الصحابة عن جادة الصواب، بل غاية ما يقولونه هو أنهم ليسوا كلهم عدول، بنحو سلب العموم لا عموم السلب ولذلك وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة تبيّن حقيقة ما يقولونه في الصحابة، مثل ما رواه الصدوق بسند صحيح عن هشام بن سالم، عن أبي عبد

ص: 215


1- نهج البلاغة 1 / 190.

الله علیه السلام، قال: كان أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اثني عشر ألفاً: ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة وألفان من الطلقاء، ولم يُرَ فيهم قدري ولا مرجي ولا حروري ولا معتزلي، ولا صاحب رأي كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير (1).

ومن هنا نعلم أن هذه الخطبة لا تنافي ما يعتقده الشيعة في صحابة الرسول الأكرم، إذ أنّ أمير المؤمنين علیه السلام بصدد مدح مجموعة منهم، ولا يوجد أي دليل أو قرينة في الخطبة تدلّ على الاستغراق، بمعنى أنه يريد مدح كل فرد ممن يسمّون بالصحابة.

ثانياً: من يقرأ في كتاب (نهج البلاغة) يجد كثيراً من النصوص ظاهرة في عدم ارتضاء أمير المؤمنين علیه السلام لجملة من الصحابة كما عليه الشيعة الإمامية أعلى الله برهانهم كما هو الحال في الخطبة الشقشقية التي تعرّض فيها لحال الخلفاء الثلاثة السابقين له وكذا ما تكشف عنه مكاتباته مع معاوية، ومحاوراته مع طلحة والزبير وغيرها من الموارد التي تعرّض فيها إلى بعض الصحابة بالنّقد والتضليل.

ثالثاً: العجيب من هؤلاء أنهم يأتون بالدّعوة، ثم يثبتون نقيضها، فقد ذكرنا سابقاً أنّ من جملة الطعونات التي رددنا عليها هي كون كتاب (نهج البلاغة) مشتمل على سبّ للصحابة كما نقلنا عن ذلك الذهبي، بل إن كثيراً من الذين تعرّضوا لنهج البلاغة أثاروا هذه النقطة بخصوصها.

ومنهم: الدكتور سالوس الذي عدّد بعض المطاعن من النهج، فقال: إنه ما يحيّر هذا الشك ويقويه ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة.

ص: 216


1- الخصال: 639.

في غير ما موضع (1).

ومنهم: محب الدين الخطيب الذي قال: وهذان الأخوان تطوَّعا للزيادة على خطب أمير سيِّدنا علي بكل ما هو طارئ عليها وغريب منها، من التعريض بإخوانه الصحابة، وهو بريء عند الله عزَّ وجل من كل ذلك، وسيبرأ إليه من مقتر في هذا الإثم (2).

ومنهم: صالح الفوزان فإنه قال: وعندما لمحت العنوان ظننت أن الدكتور الحلو سيبيِّن حقيقة هذا الكتاب الذي اشتمل على كثير من دس الشيعة وأباطيلهم مما ينزَّه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضی الله عنه، كسبّ الصحابة الكرام، وأن الأمة ظلمت فاطمة بنت الرسول صلی الله علیه و آله و سلم (3).

فمن نصدّق من هؤلاء؟ هل نأخذ بقول الذين يدّعون أن نصوص النهج تثبت عدالة كلّ الصحابة كما يعتقد المخالفون؟

أم نصدّق الذين اتّهموا كتاب النهج بأنه احتوى على سب ولعن وطعن في صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

قد يشكل البعض بأن ما ذكرناه ليس صحيحاً، وأن الشيعة يكفِّرون كل لصحابة إلا نفراً قليلاً يعدّون على الأصابع كما روي عندهم أن الإمام الصادق علیه السلام قال: ارتد الناس إلا أربعة أو خمسة أو سبعة؟! (4).

والجواب: أنّ هذه الروايات صحيحة وثابتة، لكن ليس كما فهمها المخالف من الشيعة يكفرون كل الصحابة، بل المراد بالردة فيها هي الردّة اللغوية، بمعنى الرجوع عن الأمر، لا الردّة الشرعية بمعنى الخروج عند الدين..

ص: 217


1- مع الاثني عشرية في الأصول والفروع 218/1.
2- تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال: 22.
3- البيان لأخطاء بعض الكتاب: 90.
4- اختيار معرفة الرجال: 8، الاختصاص: 6، الكافي 245/8.

والقرينة على هذا التوجيه موجودة في نفس تلك الروايات.

فقد روى الكشي بسند معتبر عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى علي علیه السلام، فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين، وأنت والله أحق الناس وأولاهم بالنبي علیه السلام، هلم يدك نبايعك فوالله لنموتنَّ قُدّامك! فقال علي علیه السلام: إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليَّ محلِّقين. فحلق علي علیه السلام، وحلق سلمان، وحلق مقداد، وحلق أبو ذر، ولم يحلق غيرهم ثم انصرفوا فجاؤوا مرة أخرى بعد ذلك، فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس وأولاهم بالنبي صلی الله علیه و آله و سلم، هلم يدك نبايعك. فحلفوا. فقال: إن كنتم صادقين فاغدوا عليَّ محلّقين. فما حلق إلا هؤلاء الثلاثة. قلت: فما كان فيهم عمار؟ فقال: لا. قلت: فعمار من أهل الرّدّة؟ فقال: إن عماراً قد قاتل مع علي علیه السلام بعد (1).

فالرواية صريحة في أن الردّة المذكورة ليست خروجاً عن الدين والملّة بل هي رجوع عن بيعة مخصوصة لأمير المؤمنين علیه السلام الذي أمرهم بأن يحضروا إليه في ساعة محددة حالقي الرؤوس حاملي السيوف.

وقد وردت رواية أخرى ذكرت في كتاب (الاختصاص) احتوت تفاصيل أخرى لهذه الحادثة، وهي ما روي عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذر والمقداد. قال: فقلت: فعمار؟ فقال: قد كان جاض (2) جيضة، ثم رجع. ثم قال: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، فأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض أن عند ذا يعني أمير المؤمنين علیه السلام اسم الله الأعظم، لو تكلم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا، فُلِّبب ووُجئت في عنقه حتى تركت كالسلعة، ومرَّ به أمير المؤمنين علیه السلام،.

ص: 218


1- اختیار معرفة الرجال 1 / 39.
2- جاض: مال وانحرف وحاد.

فقال: يا أبا عبد الله هذا من ذاك بايع. فبايع، وأما أبو ذر فأمره أمير المؤمنين علیه السلام بالسكوت، ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم، فأبى إلا أن يتكلم فمر به عثمان فأمر به، ثم أناب الناس بعد، فكان أول من أناب: أبو ساسان الأنصاري وأبو عمرة، وفلان، حتى عقد سبعة، ولم يكن يعرف حق أمير المؤمنين علیه السلام إلا هؤلاء السبعة (1).

فالرواية بينّت أنّ الردّة المقصودة هى النزول من الأعلى الى العالي أي من أعظم مسألة يتبوّءها المؤمن نتيجة معرفته بأمير المؤمنين علیه السلام الى مرتبة أدنى منها، ولذلك نجد أنه اعتبر ما يعرض على القلب من شكوك ذنب.

فبالجمع بين الروايات نفهم أنّ المراد من الردّة في هذه الأخبار ليست الردّة الشرعية التي يراد بها الخروج عن الإسلام والالتحاق بزمرة الكفر، بل المراد به المعنى اللغوي، وهو الرجوع عن أمر الخلافة كما بُيِّن ذلك في بعض الروايات.

2 - لله بلاء فلان

قالوا: لقد مدح أمير المؤمنين علیه السلام الخليفة الثاني مدحاً عظيماً لا يتّفق مع ما تقوله الشيعة فيه، فقد قال في النهج: لله بلاء فلان، فقد قوَّم الأود، وداوى العمد، خلَّف الفتنة، وأقام السنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرَّها، أدَّى إلى الله طاعته واتّقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعّبة لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المهتدي (2).

وعلّق أحدهم على هذه الخطبة بقوله: هل يتناسب هذا الكلام مع ما يُذكر حول هذا الخليفة من سبّ وشتم ولعن، وأنه غصب الخلافة عليا؟ من

ص: 219


1- الاختصاص: 10.
2- نهج البلاغة 2/ 222.

نصدّق؟ الذي عاصر وعاشر وأدرك زمانهم أم ذاك الذي تأخَّر عنهم، فقام يفتري عليهم؟ (1)

وقال آخر: لقد وصف الإمامُ عمرَ بن الخطّاب من الصفات بأعلى مراتبها، وناهيك بها (2).

والجواب على هذه الشبهة في نقاط:

الأولى: أن هذه الرواية لا يوجد فيها ذكر لعمر بن الخطاب، بل هي مبهمة، إذ أن اللفظ الذي نقله الرضي قدس سره هو قوله: «لله بلاء فلان»، ولم يذكر اسماً، فمن يريد إسقاط هذه الخطبة على الخليفة الثاني عليه أن يقيم الدليل على ذلك.

وقد تمسّك البعض بأمرين لإثبات أن المقصود هو عمر بن الخطاب، هما:

الأمر الأول: هو ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي من أنّه رأى لفظ: «عمر» في النسخة الأصلية بخط الشريف الرضي قدس سره، قال: «فلان» المكنّى عنه عمر بن الخطاب، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع (نهج البلاغة)، وتحت «فلان»: «عمر»، حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر (3).

والجواب على هذا الاستدلال أن ما ذكره ابن أبي الحديد ليس بحجة؛ لأنه الاسم الذي رآه هو مضافاً على الأصل وليس في الخطبة، فربّما يكون اجتهاداً من أحدهم، أو تزويراً متعمدّاً.

ثم إن تزوير كلمة أمر بسيط ومتيسّر؛ إذ أن الخط لا يظهر في كلمة أو.

ص: 220


1- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 53.
2- تأملات في نهج البلاغة: 18.
3- شرح نهج البلاغة 12/ 4.

كلمتين، فكيف شخَّص هذا الرجل أن كلمة «عمر» كُتبت بخط الشريف الرضي؟

الأمر الثاني: احتج ابن أبي الحديد بمضامين هذه الخطبة على أن المقصود بها عمر في معرض ردّه على ما ذكره القطب الراوندي، فقال: فأما الراوندي فإنه قال في الشرح: إنه علیه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله من الاختيار والإثرة، وهذا بعيد؛ لأن لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعاراً ظاهراً بأنه يمدح والياً ذا رعية وسيرة، ألا تراه كيف يقول: «فلقد قوَّم الأود، وداوى العمد، وأقام السُّنّة، وخلف الفتنة»؟ وكيف يقول: «أصاب خيرها وسبق شرها»؟ وكيف يقول: «أدى إلى الله طاعته؟ وكيف يقول: «رحل وتركهم في طرق متشعبة»؟ وهذا الضمير وهو الهاء والميم في قوله علیه السلام: «وتركهم» هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا؟ وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس، وكل من مات قبل وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان سوقة لا سلطان له فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قُتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، كعثمان بن مظعون، أو مصعب بن عمير، أو حمزة بن عبد المطلب، أو عبيدة بن الحارث، وغيرهم من الناس، والتأويلات الباردة الغثّة لا تعجبني (1).

والجواب على هذا أن ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي لا يصلح أن يكون دليلاً؛ لأن هذه الأمور قابلة للانطباق على عامة الناس، فأي رجل يمكن أن يكون قد «قوّم الأود» أو «أقام السنّة» إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، كما يمكن أن يوصف بأنه «نقي الثوب» إذا كان تقيّاً ورعاً، وما ادّعاه من أن قوله: «تركهم في طرق متشعّبة» خاص بحاكم ورعيّته أيضاً غير لازم؛ لأن المؤمن.

ص: 221


1- شرح نهج البلاغة 5/12.

الصالح إذا نأى بنفسه عن الدخول في الفتن والضلالات، وكان يعيش بين من غرقوا في المعاصي والفتن، فإنه اذا مات يمكن أن يوصف بأنه ترك أولئك في طرق متشعبة ومضى نقي الثوب.

ولو سلمنا بأن المراد هو أحد الولاة، فلعل المراد به أحد من ولاهم أمير المؤمنين من الصلحاء الذين ماتوا في حياته، كمحمد بن أبي بكر أو مالك الأشتر، فلا يوجد أي دليل في كلام أمير المؤمنين علیه السلام على أن المقصود من «فلان» في هذه الخطبة هو عمر بن الخطاب، فلعله شخص آخر.

ولذلك وقع الاختلاف في تحديد المقصود ب «فلان» على عدّة آراء:

1 - أبو بكر بن أبي قحافة: ذهب إلى ذلك الشيخ ابن ميثم البحراني رحمه الله في شرحه على النهج، قال: وأقول: إرادته لأبي بكر أشبه من إرادته لعمر؛ لما ذكره في خلافة عمر وذمّها في خطبته المعروفة بالشقشقية كما سبقت الإشارة

إليه (1).

2 - عمر بن الخطاب: وهذا ما تبنّاه ابن أبي الحديد كما قدّمنا، وقد نقلنا عبارته فيما سبق.

3 - بعض أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام: وهو ما ذهب اليه القطب الراوندي رحمه الله في شرحه للنهج، قال: مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأنه مات قبل الفتنة التي وقعت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الاختيار والإيثار (2).

4 - مالك الأشتر رضی الله عنه: وقد قرّب هذا الرأي السيد حبيب الله الخوئي في (منهاج البراعة)، قال: فلا بدّ من جعل المكنّى عنه شخصاً آخر له أهليّة الاتّصاف بهذه الأوصاف، وعليه فلا يبعد أن يكون مراده علیه السلام هو مالك بن.

ص: 222


1- شرح ابن میثم 97/4.
2- منهاج البراعة 402/2.

الحرث الأشتر، فلقد بالغ في مدحه وثنائه في غير واحد من كلماته (1).

والنتيجة أن لا يمكن القطع بالمقصود بقوله علیه السلام: «فلان» أمام هذا الاختلاف الشديد الوارد في المقام.

الثانية: لو سلّمنا جدلاً بأن المقصود من الخطبة هو عمر بن الخطاب؛ فإنه بعد البحث في الكتب والمصادر التاريخية وجدنا أنّ هذا الكلام هو من إنشاء امرأة، وليس من كلامه علیه السلام.

فقد روى الطبري في تاريخه عن المغيرة بن شعبة، قال: لما مات عمر رضی الله عنه بكته ابنة أبي حثمة، فقالت: واعمراه أقام الأود، وأبرأ العمد، أمات الفتن، وأحيا السنن، خرج نقي الثوب، بريئاً من العيب. قال: وقال المغيرة بن شعبة: لما دُفن عمر أتيت عليًّا وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً، فخرج ينفض رأسه ولحيته، وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب، لا يشك أن الامر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي حثمة، لقد ذهب بخيرها، ونجا من شرّها، أما والله ما قالت ولكن قُوّلت (2).

وروى ابن شبة النميري عن عبد الله بن مالك بن عيينة الأزدي حليف بني مطلب، قال: لما انصرفنا مع علي رضی الله عنه من جنازة عمر رضی الله عنه دخل فاغتسل، ثم خرج إلينا، فصمت ساعة، ثم قال: لله بلاء نادبة عمر، لقد صدقت ابنة أبي خثمة حين قالت: وا عمراه أقام الأود، وأبدأ العهد، وا عمراه، ذهب نقي الثوب قليل العيب واعمراه أقام السنة، وخلف الفتنة، ثم قال: والله ما درت هذا، ولكنها قُوّلته وصدقت والله لقد أصاب عمر خيرها، وخلّف شرها، ولقد نظر له صاحبه فسار على الطريقة ما استقامت ورحل الركب وتركهم.

ص: 223


1- نفس المصدر 374/14.
2- تاريخ الطبري 3/ 285.

في طرق متشعبة، لا يدري الضال، ولا يستيقن المهتدي (1).

وروى ابن عساكر عن ابن بحينة قال: لما أصيب عمر قلت: والله لآتين عليًّا فلأسمعنَّ مقالته. فخرج من المغتسل، فأطم ساعة، فقال: لله نادبة عمر عاتكة وهي تقول: وا عمراه مات والله قليل العيب، أقام العوج، وأبرأ العمد، وا عمراه، ذهب والله بحظها، ونجا من شرِّها، وا عمراه ذهب والله بالسنة، وأبقى الفتنة. فقال علي: والله ما قالت ولكنها قُوّلت (2).

وهذه الروايات مضطربة اضطراباً شديداً، وذلك لأمور:

1 - اختلفت في تحديد من هي النادبة، ففي رواية الطبري سمّيت ببنت أبي حثمة، وفي رواية ابن عساكر اطلق عليها اسم عاتكة، وهي بنت زيد بن عمرو زوجة عمر بن الخطاب.

2 - في رواية ابن عساكر اكتفى الإمام بالتصريح بأنها قُوّلت، ولم يُمضِ ما قالته، أما في بقية الروايات فقد أضيف مقطع آخر، وهو أنّ أمير المؤمنين علیه السلام صدّقها في ما قالته، واختلفت في المقدار الذي صدّقه من كلامها، ففي رواية الطبري اكتفى بقولها: «ذهب بخيرها ونجا من شرّها»، وفي رواية ابن شبّة إضافة أخرى، وهي قوله: والله لقد أصاب عمر خيرها، وخلّف شرها، ولقد نظر له صاحبه فسار على الطريقة ما استقامت ورحل الركب وتركهم في طرق متشعبة لا يدري الضال، ولا يستيقن المهتدي»، وهذا ما يجعلنا نشكّ في هذه الزيادات، إذ شتّان بين الأمرين.

3 - رواية ابن عساكر مشعرة بأن أمير المؤمنين علیه السلام كان حزيناً لقتل عمر بن الخطاب، فقد جاء فيها: «فأطم ساعة، فقال: لله نادبة عمر عاتكة»، أما رواية.

ص: 224


1- تاريخ المدينة 941/3.
2- تاریخ مدينة دمشق 458/44.

الطبري والنميري فإنها مشعرة بأنّه كان مرتاحاً من الذي حصل، إذ جاء فيها: «فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب»، فالاغتسال ولبس الثوب الجديد هو من علامات الفرح والسرور، وليس الحزن والحسرة خصوصاً وأن المغيرة فسّر هذه الفرحة بكونه علیه السلام يظن أن الأمر سيؤول إليه.

من هنا نعلم أن المقدار المشترك في هذه الروايات هو أن امرأة ندبت عمر بن الخطاب، وعلّق أمير المؤمنين علیه السلام على كلامها بأنها قُوّلت ولم تقل، أما ما زاد على هذا المقدار فلا يمكن الاعتماد عليه؛ لاختلاف الروايات في هذه التفاصيل.

الثالثة: لو سلّمنا جدلاً بأنّ المقصود من «فلان» هو عمر بن الخطّاب، وأن الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام قال هذا الكلام، فإنّه لا يمكن الالتزام بظاهر هذه الرواية، أي كون هذا الكلام خرج في مقام المدح للخليفة الثاني؛ لمخالفته ما عُلِمَ بالقطع واليقين من أن علاقة أمير المؤمنين علیه السلام بهذا الرجل لم تكن حسنة.

أما من كتب الشيعة فيكفينا نقل ما ورد في الخطبة الشقشقية المرويّة في نفس الكتاب، حيث قال الإمام علیه السلام في حق عمر: فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدَّ ما تشطرا ضرعيها، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمُنِيَ الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض فصبرت على طول المدة وشدَّة المحنة (1).

أما من كتب القوم فالنصوص أيضاً تدلّ على هذا المعنى، مثل النصّ المروي في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت في حديث طويل: فأرسل [تعني عليًّا علیه السلام ] إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضر عمر بن.

ص: 225


1- نهج البلاغة 32/1.

الخطاب. فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي؟ (1).

والرواية صريحة في أن أمير المؤمنين علیه السلام كان لا يحب حضور عمر بن الخطاب، فكيف يمدحه بتلك الصفات العظيمة؟!

ومنها: ما روي في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب، قال: فلما توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «ما نُورَث ما تركنا صدقة»، فرأيتماه كاذباً آثماً، غادراً، خائناً، والله يعلم أنه لصادق، بار، راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر، وأنا ولي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذباً، آثماً، غادراً، خائناً، والله يعلم أني لصادق بار، راشد، تابع للحق (2).

وقد روى ابن حبان في صحيحه هذه الرواية بوجه آخر عن عمر بن الخطاب قال: ثم أقبل على علي والعباس قال: وأنتما تزعمان أنه كان فيها ظالماً فاجراً؟ والله يعلم أنه صادق بار تابع للحق، ثم وليتها بعد أبي بكر سنتين من إمارتي، فعملت فيها بمثل ما عمل فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أبو بكر، و أنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر؟ والله يعلم أني فيها صادق بار تابع للحق (3).

فهذا النص إقرار من عمر بن الخطاب بأن أمير المؤمنين علیه السلام كان يراه كاذباً، آثماً، غادراً، خائناً، ظالماً، فاجراً!

فأين هذا المدح الذي يدّعيه القوم؟.

ص: 226


1- صحیح مسلم 5 / 154.
2- نفس المصدر 152/5.
3- صحيح ابن حبان 577/14.

وقد يطرح هنا سؤال مهم: وهو أنّه لو سلّمنا بوجود المعارض المقتضي لرفع اليد عن ظاهر هذه الرواية، فعلى أي وجه يحمل هذا النص ليتلاءم مع ما يذهب إليه الشيعة الإمامية؟

والجواب أنه يمكن حمل الرواية على عدّة وجوه:

الوجه الأول: ما نقله ابن أبي الحديد عن النقيب أبو جعفر يحيى العلوي من أن هذا الكلام: قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له، والتنقص لأعماله، كما يُمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده، فيكون ذلك تعريضاً به (1).

وقد اعترض ابن أبي الحديد على هذا التوجيه بقوله: إنه لا يجوز التعريض والاستزادة للحاضر بمدح الماضي، إلا إذا كان ذلك المدح صدقاً لا يخالطه ريب ولا شبهة، فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة، وذهب نقي الثوب، قليل العيب، وأنه أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، فهذا غاية ما يكون من المدح وفيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان (2).

والقول الفصل أن هذا الوجه صحيح، وما ذكره ابن أبي الحديد من إشكال غير وارد؛ لأن التعريض قد يكون بما يعتقده المخالف، بحيث تذكر ما يعتقده الناس في الغائب، لكي يترسَّخ في أذهانهم، وليقارنوا بينه وبين الحاضر وإن كنتَ لا تعتقد بما يرونه ثابتاً للغائب.

وهذا ما فعله أمير المؤمنين علیه السلام، فذكره لما يظنّه الناس في عمر هو تنبيه لهم على أن عثمان لن يسير بالسيرة التي يرونها حميدة مستقيمة، بل سرعان ما سينحرف عنها، ولذلك فكلامه هو تهيئة لهم لما سيلاقونه من إمارة عثمان.

الوجه الثاني: هو ما ذكره فقيه أهل البيت الشيخ يوسف البحراني قدس سره في.

ص: 227


1- شرح نهج البلاغة 12/ 4.
2- نفس المصدر 4/12.

كتابه (سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد)، فإنه قال: إن هذا الكلام هنا إنما خرج مخرج الاستمالة والاستصلاح لمن كان معه من أولياء القوم، وتأليف قلوبهم في ذلك القوم، فلا حجّة فيه للخصم، وما عارضه مما تقدّم ذكره (1). فالشيخ رحمه الله یرید أن يقول: إنّ ذلك اليوم كان حرجاً بالنسبة للأمة الإسلامية؛ لأنه سيحصل انتقال الخلافة من رجل إلى رجل آخر، ولهذا أراد أمير المؤمنين علیه السلام تجنّب الاصطدام بالقوم، فقال هذه الكلمات تأليفاً لهم، خصوصاً وأن الروايات المتقدّمة تنص على أنّ المغيرة بن شعبة جاء خصّيصاً ليسمع ما يقوله الإمام علیه السلام في عمر بن الخطاب.

الوجه الثالث: وهو أن هذا الكلام وإن كان ظاهره المدح، إلا أنه يراد به الذم كما هو معروف في علم البلاغة، وكما هو مستعمل في النصوص القرآنية والنبوية، من ذلك قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: 49]، فإنه ظاهر في المدح، إلا أن الكلام إذا وُضع في سياقه وعلمنا أن قائله هم ملائكة العذاب، وأن المخاطب به هو الكافر، والشيء المتذوَّق هو عذاب جهنّم، علمنا أنه لا يراد بهذه الآية ظاهرها.

كذلك الأمر في هذه العبارة، فإن الشواهد التاريخية تنفي أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام يمكن أن يمدح هذا الرجل، وتفاصيل الحادثة تشعر بهذا، فإن المغيرة بن شعبة ذكر أنّ علي بن أبي طالب علیه السلام اغتسل، وتلحّف بثوب، وكل هذا من صفات الفرح وليس الحزن فعلمنا أن هذا الكلام هو كلام ظاهره المدح، ولكن أريد به الذم.1

ص: 228


1- سلاسل الحديد 1/ 161

ص: 229

ص: 230

شبهات تاريخية في نهج البلاغة

اشارة

كما قدّمنا سابقاً فقد احتوى كتاب (نهج البلاغة) على جملة من النصوص التي أرَّخت لمرحلة عصيبة من مراحل الأمة الإسلامية، وهي ما يسمى بمرحلة (الفتنة الكبرى) التي بدأت من قتل عثمان بن عفان، وخُتمت بمقتل الإمام الحسين علیه السلام.

ولعلّ الاختلاف في قراءة أحداث هذه الحقبة الزمنيّة بالخصوص هو الذي جذّر الاختلاف الشيعي السُّنّي بحيث جعل للشيعة مواقف سلبية من بعض رموز أهل السنة وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل السنة الذين اتخذوا مواقف سلبية من بعض رموز الشيعة.

ومن هنا حاول البعض الاحتجاج بنصوص من كتاب)نهج البلاغة) لإثبات صحّة قراءتهم للأحداث التاريخية في تلك الفترة، ودحض وجهة النظر الشيعيّة.

أهل الشام

اشارة

حصر بعض المؤرّخين الخلاف العلوي الأموي في قضية دم عثمان، ونفوا أن يكون هناك خلاف عقدي أو حتّى ديني متجذّر، بل كل ما حصل من قتال وسفك للدماء كان سببه الاختلاف في التعامل مع قتلة عثمان، واحتج أصحاب هذا الرأي بنصوص من كتاب (نهج البلاغة)، هي:

1 - اسلام أهل الشام

قالوا: إن عليًّا علیه السلام لم يكفِّر أهل الشام، بل كان يعتبرهم مسلمين مؤمنين موحِّدين، ويدل على ذلك قوله: وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل

ص: 231

الشام، والظاهر أن ربّنا واحد ونبيّنا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة، لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله صلی الله علیه و آله و سلم ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء (1).

والجواب على هذا الخبر:

أولاً: أن هذا الخبر خدش بعض العلماء في سنده، واحتمل كونه من روایات سيف بن عمر.

قال التستري قدس سره: لم أقف على سند له، ولا يبعد كونه مثل سابقه من روايات سيف الموضوعة، والطبري وإن لم ينقله لكن لا يبعد أخذ المصنّف له من أصل كتاب سيف (2).

ثانياً: أن أمير المؤمنين علیه السلام حكم على ظاهرهم بالإسلام، ولم يقطع بإسلامهم وشتّان بين الأمرين بين أن نقول: «فلان مسلم»، وبين أن نقول: «فلان ظاهره الإسلام».

ومن المعلوم أنه يكفي للحكم على أي شخص بأنه مسلم أن يشهد الشهادتين، ويقيم شرائع الإسلام، وحيث إن أهل الشام كانوا كذلك، فإن هذا الحكم يشملهم بحسب الظاهر، وأما واقعهم فالله أعلم به.

فمثلاً: في بدايات الإسلام كان المنافق عبد الله بن أبي بن سلول يدخل المساجد، ويصلّي مع الصحابة، ونجد أن أبا بكر كذلك، وكلاهما يطلق عليه مسلم، رغم أن الأول أجمع المسلمون على نفاقه وإبطانه الكفر، والثاني هو عند المخالفين أفضل الخلق بعد الأنبياء، فالحكم على ظاهر رجل بالإسلام لا يعني أنه من أهل الإيمان..

ص: 232


1- نهج البلاغة 3 / 114.
2- بهج الصباغة 348/9.

ولذلك قال ابن أبي الحديد: «والظاهر أن ربنا واحد» كلام مَن لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية حكماً قاطعاً بالإسلام، بل قال: ظاهرهم الإسلام، ولا خلف بيننا وبينهم فيه، بل الخلف في دم عثمان (1).

ثالثاً: هذا الكتاب الذي أرسله الإمام علي علیه السلام للأمصار هو من باب إقامة الحجّة على الكل، فمعاوية وشيعته يدّعون أن خلافهم هو فقط في خصوص دم عثمان، وليس لهم طمع بحكم ولا ملك ولا خلافة وإلزاماً لهم بما اعترفوا به، بيّن أمير المؤمنين علیه السلام حقيقة الأمر، ووضّح للناس ضعف حجّتهم، وخبث طويتهم، بإصرارهم على المكابرة، وعدم إرادتهم أن يُحلّ الخلاف بالحوار والنقاش، فقال علیه السلام في نفس الكتاب: فقلنا: تعالوا نداوي ما لا يُدرك اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامة حتى يشتدّ الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق مواضعه. فقالوا: بل نداويه بالمكابرة. فأبوا حتى جنحت الحرب، وركدت، ووقدت نيرانها، وحمست (2).

فرغم مجاراة أمير المؤمنين الله للقوم في ما ادعوه إلا أنهم أبوا إلا إيقاع الفتنة، والخروج على إمامهم المفترض الطاعة، وحمل السلاح في وجهه.

رابعاً: أن كل من قرأ التاريخ يعلم حقيقة العلاقة بين علي بن أبي طالب علیه السلام ومعاوية بن أبي سفيان، وسنذكر نماذج من الكتب المعتبرة عند المخالفين كي نكشف عن حقيقة هذا الأمر:

منها: أن الإمام عليًّا علیه السلام كان يدعو على معاوية بن أبي سفيان ويلعنه في قنوته، كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنّفه بسنده عبد الرحمن بن مغفل، قال: صلّيت مع علي صلاة الغداة، قال: فقنت فقال في قنوته: اللهم عليك بمعاوية.

ص: 233


1- شرح نهج البلاغة 17 / 142.
2- نهج البلاغة 3 / 114.

وأشياعه، وعمرو بن العاص وأشياعه وأبا السلمي وأشياعه، وعبد الله بن قيس وأشياعه (1).

وقال الطبري في تاريخه: وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية، وعمراً وأبا الأعور السلمي وحبيباً، وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس، والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًّا، وابن عباس، والأشتر، وحسناً، وحسيناً (2).

وقال ابن حزم الظاهري: ولا قنت عليٌّ حتى حارب أهل الشام، فكان يقنت في الصلوات كلهن، وكان معاوية يقنت أيضاً، يدعو كل واحد منهما على صاحبه (3).

ومنها أن معاوية كان يسب أمير المؤمنين علیه السلام، بل سنّ سبّه ولعنه على منابر المسلمين بعد أن آلت الأمور إليه، وقد ثبت ذلك في الكتب المعتبرة، فقد روى ابن ماجة بسند صحيح عن سعد بن أبي وقال، قال: قدم معاوية في بعض حجَّاته، فدخل عليه سعد، فذكروا عليًّا فنال منه، فغضب سعد وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «من كنتُ مولاه فعلي مولاه»، وسمعته يقول: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وسمعته يقول: «الأعطينَّ الرأية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله» (4).

وروی أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن ظالم المازني، قال: لما خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة قال: فأقام خطباء يقعون في.

ص: 234


1- المصنف 2/ 216.
2- تاريخ الطبري 52/4.
3- المحلى 145/4.
4- سنن ابن ماجه 1 / 45، صحّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 26/1.

علي (1).

وروى الحاكم عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فقالت لي: أيُسب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيكم؟ فقلت: معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها فقالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: من سبّ عليًّا فقد سبّني (2).

ومنها: تربية معاوية بن أبي سفيان جيلاً كاملاً من الشاميين على النصب وعلى بغض أمير المؤمنين علیه السلام كما أقرّ الذهبي بذلك، حيث قال: وخلف معاوية خلق كثير يحبّونه ويتغالون فيه ويفضلونه إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد وُلدوا في الشام على حبّه، وتربَّى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب، نعوذ بالله من الهوى (3).

ومنها: سعي معاوية لطمس كل ما يتعلق بأمير المؤمنين علیه السلام حتى كانت سُنّة من سنن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، كما روى ذلك الحاكم في المستدرك بسنده عن سعيد بن جبير، قال: كنا مع ابن عباس بعرفة، فقال لي: يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟! فقلت: يخافون من معاوية. قال: فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبّيك اللهم لبّيك. فإنهم قد تركوا السُّنّة من بغض علي رضي الله عنه (4).

فالخلاف بينهما كان أوسع من أن يكون مخصوصاً بدم عثمان بن عفان،.

ص: 235


1- مسند أحمد بن حنبل 1 / 189، وقد حسنه الشيخ أحمد شاكر.
2- المستدرك على الصحيحين 3 / 121، وعلق عليه بقوله: هذا حديث صحیح الإسناد.
3- سير أعلام النبلاء 3 / 128.
4- المستدرك على الصحيحين 464/1، علق عليه الحاكم بقوله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص، والألباني في تعليقه على سنن النسائي 631/2.

وما دم عثمان إلا ذريعة مكشوفة اتخذها معاوية للوصول للحكم فقط.

ويمكننا تلخيص كل ما ذكرناه في شاهد واحد وهو الحديث المعروف الذي أخرجه البخاري بسنده عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار (1).

فهذا الأثر وضّح أن طريق أمير المؤمنين علیه السلام هو طريق الجنة والهداية، وطريق معاوية وأشياعه هو طريق النار و الغواية، فهل يمكن أن يقول عاقل: إن الخلاف كان محصوراً في دم عثمان؟

2 - المنع عن سبّ أهل الشام

قالوا: إن عليًّا علیه السلام منع أصحابه من سبّ ولعن أهل الشام، فإنه علیه السلام قال: إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به (2).

وكلامه علیه السلام هذا يدل على إسلامهم بل إيمانهم؛ لأن في الفقه الشيعي حرمة السب واللعن مناطها المؤمن.

والجواب على هذا الإشكال:

أولاً: لم ينه أمير المؤمنين علیه السلام عن السب واللعن كما صوّر المشكل، بل نهى أصحابه أن يكونوا سبّابين وشتان بين الأمرين؛ إذ أنّ الإنسان مثلاً إذا كذب مرّة يقال له كاذب، أما إذا كرّر الأمر عدة مرات بحيث صار دأبه الكذب، قيل عنه حينها كذّاب وهكذا الحال بالنسبة لهذه الرواية، فالامام

ص: 236


1- صحيح البخاري 3/ 207.
2- نهج البلاغة 2/ 185.

علیه السلام نهاهم أن يكونوا «سبّابين» بصيغة المبالغة، لا أن يسبّوا أهل الشام من غير كثرة، أي نهاهم عن أن يكون دأبهم السب، لا عن مجرّد السب.

ثانياً: النهي هنا ليس نهياً تحريميًّا كما توهّم المشكل، بل هو نهي إرشادي تنزيهي، ويستفاد هذا من قوله: «أكره»، ومن قوله: «كان أصوب في الفعل»، فإتيانه بصيغة التفضيل: «أفعل» يستفاد منه أنّ كلا الأمرين كان صواباً، ولكن الأفضل والأكمل هو أن يذكروا مساوئ أعمالهم وقبائح أفعالهم.

ثالثاً: قد ذكرنا سابقاً عدّة نصوص تفيد أن أمير المؤمنين علیه السلام كان يلعن معاوية وأعوانه وأشياعه، ويدعو عليهم في قنوته في كلّ صلاة يصلّيها، وقد ورد في النهج عدّة نصوص تعرّض فيها الإمام علیه السلام للشاميين، ووصفهم بجملة من المثالب القبيحة، فقال: جفاة طغام، وعبيد أقزام، جُمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب، ممن ينبغي أن يُفقَّه ويُؤدب، ويُعلَّم ويُدرَّب، ويولى عليه، ويؤخذ على يديه ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوّأوا الدار، ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما تكرهون (1).

وقد قال محمد عبده في شرح هذه الفقرة: الجفاة بضم الجيم: جمع جافٍ أي غليظ فظ، والطغام كسحاب أوغاد الناس والعبيد كناية عن رديئي الأخلاق، والأقزام: جمع قَزَم بالتحريك أرذال الناس، جُمعوا من كل أوب: أي ناحية، والشوب: الخلط، كناية عن كونهم أخلاطاً ليسوا من صراحة النسب في شيء ممن ينبغي، أي أنهم على جهل، فينبغي أن يُفقَّهوا ويؤدَّبوا ويُعلَّموا فرائضهم، ويمرَّنوا على العمل بها، وهم سفهاء الأحلام، فينبغي أن يولى عليهم، أي يقام لهم الأولياء؛ ليلزموهم بمصالحهم، ويعملوا لهم، ويأخذوا على أيديهم، فلا يبيحون لهم التصرّف من أنفسهم، وإلا جرّتهم إلى الضرر بالجهل.

ص: 237


1- نهج البلاغة 2 / 230.

والسفه (1).

رابعاً: العجيب أنّ هؤلاء دائماً يدندنون بأن السب واللعن محرّمان، وأنهما ليسا من أخلاق المسلمين وفي نفس الوقت ينسبون هذه الأمور للنبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم في أصح صحاحهم.

فقد ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما، وسبَّهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان. قال: وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتَهما وسببتَهما. قال: أوما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنتُه أو سببتُه فاجعله له زكاة وأجراً (2).

فالنبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم يسب ويلعن غير المستحق، ثم يبرّرون هذا الفعل القبيح بأنه يكون زكاةً وأجراً للمسبوب!

والأدهى والأمر ما ورد في مسند أحمد بن حنبل عن أبي بن كعب: أن رجلاً اعتزى بعزاء الجاهلية فأعضه، ولم يكنّه، فنظر القوم إليه، فقال للقوم: إني قد أرى الذي في أنفسكم، إني لم أستطع إلا أن أقول هذا، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمرنا إذا سمعتم من يعتزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا (3).

وقد شرح ابن أثير في كتابه النهاية المراد بهذا الخبر، فقال: وفيه «من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا» أي قولوا له: اعضض بأير أبيك، «ولا تكنوا» عن الأير بالهن تنكيلاً له وتأديباً (4)..

ص: 238


1- نهج البلاغة 2/ 230.
2- صحیح مسلم 24/8.
3- مسند أحمد بن حنبل 136/5، وقد صحَّح هذا الخبر شعيب الأرنؤوط في نفس المصدر، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/3، والألباني في الأدب المفرد: 334.
4- النهاية في غريب الحديث 252/3.

فالنبي صلی الله علیه و آله و سلم الذي وصفه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم يأمر الناس بأن يأتوا بأقبح الألفاظ وأفحش الكلمات في حق المسلمين، ثم يشكلون على الشيعة لعنهم لمن ثبت بالنقل الصحيح أنهم كانوا معول هدم في الإسلام منذ فجره!

فهذه الرواية لا دلالة فيها على إيمان أهل الشام، بل ولا على إسلامهم، ولسانها إرشادي لما هو أفضل وأكمل.

ذم الإمام علیه السلام لشيعته

من جملة الأمور التي تمسّك بها خصوم الشيعة هي الذموم التي صدرت من أمير المؤمنين علیه السلام في حق أتباعه وأصحابه، وخصوصاً أهل الكوفة، فقالوا إن هذه النصوص يستفاد منها ذم الشيعة، وأنهم لم يكونوا من أتباع علي علیه السلام، وهذا كاشف عن أن الخلف يتبع السلف، فالموجودون الآن من الشيعة هم على نهج أسلافهم، يدَّعون اتباع أهل البيت علیهم السلام وهم منهم براء.

وقد حشد هؤلاء جملة من نصوص النهج.

منها: قوله علیه السلام: فيا عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرّقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يُرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون وتُغزَون ولا تَعْزُون، ويُعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم: «هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر»، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: «هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد»، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فإذاً أنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان

ص: 239

والخذلان حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراساً، وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع (1).

ومنها: قوله علیه السلام: مُنيتً بمن لا يطيع إذا أَمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم، أما دين يجمعكم، ولا حمية تحمشكم، أقوم فيكم مستصرخاً، وأناديكم متغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يُدرَك بكم ثار، ولا يُبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (2).

ومنها: قوله علیه السلام: أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيّمها وطال تأيّمها وورثها أبعدها، أما والله ما أتيتكم اختياراً، ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنكم تقولون: «علي يكذب»، قاتلكم الله، فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيه؟ فأنا أول من صدَّقه كلا والله ولكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها، ويل أمه كيلاً بغير ثمن لو كان له وعاء، ولتعلمن نبأه بعد حين (3).

وغيرها من النصوص الكثيرة التي تحوي هذا المضمون والتي اتخذها المخالف دليلاً على ما ذكرناه.

والجواب عليها:.

ص: 240


1- نهج البلاغة 69/1.
2- نفس المصدر 90/1.
3- نهج البلاغة 1/ 118.

أولاً: أن خطاب أمير المؤمنين علیه السلام كان لخصوص الموجودين معه في ذلك الوقت، وليس لكل النّاس، أي كما يقال: كان خطابه بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية، فالذين وُصفوا بهذه الأوصاف هم خصوص الذين كانوا معه في جيشه ودولته، وهذا لا يشمل الشيعة الذين وُلدوا بعد ذلك، ولو كان الأمر كذلك لحمّلنا أهل مكة اليوم وزر تكذيب النبي صلی الله علیه و آله و سلم في أوائل دعوته، ولحمّلنا أهل الطائف ذنب مهاجمة سلفهم للنبي صلی الله علیه و آله و سلم عندما ذهب إليهم يدعوهم للإسلام.

ثانياً: هذه الخطب موجّهة لجيشه من أهل الكوفة في ذلك العصر، وهؤلاء لم يكونوا جيشاً عقائديًّا، أي أنهم لم يكونوا شيعة إمامية كما هم عليه اليوم، بل كانوا خليطاً من الشيعة وهم قلة وغيرهم من الذين يقاتلون لاعتقادهم بأن عليًّا علیه السلام خليفة المسلمين الذي يجب على الناس طاعته، مع قبائل يقاتلون لأجل الحلف، وآخرين يقاتلون لأجل المال والدنيا.

ولإثبات ما قلناه نأتي بشاهدين:

1 - روى الشيخ الكليني قدس سره في الكافي الشريف بسند معتبر عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين علیه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ثم قال: ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا إن الدنيا قد ترحّلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحّلت مقبلة، ولكن واحدة بَنُون ...

إلى أن قال: ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً، خالفوا فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم متعمِّدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيِّرين لسُنّته، ولو حملت الناس على تركها وحوَّلتها إلى

ص: 241

مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لتفرَّق عني جندي، حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزَّ وجل وسُنّة رسول الله (1).

ويستفاد من هذا النص عدّة أمور:

منها: أن أتباع أمير المؤمنين علیه السلام لم يكونوا كلهم شيعة له.

ومنها: أن خلّص اتباعه هم قلة قليلة، وليسوا أكثرية جيشه.

ومنها: أنه كان يتقي مخالفيه الذين كانوا معه في جيشه درءاً للمفاسد المترتبة عن تفرقهم عنه.

2 - اعترف ابن تيمية الحرّاني بهذه الحقيقة، فقال: ولم يُتّهم أحد من الشيعة الأولى بتفضيل علي على أبي بكر وعمر، بل كانت عامة الشيعة الأولى الذين يحبّون عليًّا يفضّلون عليه أبا بكر وعمر، لكن كان فيهم طائفة ترجّحه على عثمان وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين: شيعة عثمانية، وشيعة علوية، وليس كل من قاتل مع علي كان يفضِّله على عثمان، بل كان كثير منهم يفضِّل عثمان عليه كما هو قول سائر أهل السنة (2).

فهذا اعتراف صريح من ابن تيمية بأن جيش علي بن أبي طالب علیه السلام كان من أهل السنة كما ذكر، وليس من الشيعة الإمامية المعروفين اليوم، وعليه فهذه الذموم الموجودة في (نهج البلاغة) إنما هي منصبة على جيشه السُّنّي الذي يطيع الإمام عليًّا باعتباره خليفة بايعه الناس، فوجب له السمع والطاعة، لا باعتباره إماماً معصوماً منصوصاً عليه من الله سبحانه.

ثالثاً: نجد في (نهج البلاغة) وفي غيره من الكتب نصوصاً صريحة في مدح.

ص: 242


1- الكافي 58/8.
2- منهاج السنة 4 / 132.

أهل الكوفة والثناء عليهم، مثل قوله علیه السلام: وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيّكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم، ودُعيتم فأَجبتم (1).

ومنها: قوله: (ومن كتاب له علیه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة): من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار، وسنام العرب. أما بعد فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه (2).

ومنها: ما ورد في الكافي: عن حنان بن سدير، عن أبيه قال: دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حمّاماً بالمدينة، فإذا رجل في بيت المسلخ، فقال لنا: ممن القوم؟ فقلنا: من أهل العراق، فقال: وأي العراق؟ قلنا: كوفِيّون، فقال: مرحباً بكم يا أهل الكوفة، أنتم الشعار دون الدّثار (3).

رابعاً: إذا كان هؤلاء الذي ذمّهم الأمير علیه السلام هم من الشيعة فأين كان أهل السنة إذن؟ فالشيعة وقفوا في صفّ علي علیه السلام، وحاربوا معه حروبه كلها، ولكنهم قصّروا في نصرته كما فهم المشكل من النصوص، لكن أهل السنة لم يقفوا معه، ولم يساندوه، بل وقفوا مع جيش خصمه وعادوه، فإذا كان الأمر كذلك فجر مهم أعظم وأقبح من جرم من قيل فيهم: إنهم شيعة؛ لأن المخالفين رفعوا السلاح في وجه أمير المؤمنين علیه السلام، أما الشيعة فغاية ما صدر منهم هو تقصيرهم في النصرة.

وقد قال فيهم علیه السلام: كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم أخلاقكم دقاق وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق،.

ص: 243


1- نهج البلاغة 3/3.
2- نهج البلاغة 2/3.
3- الكافي 498/6.

والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه (1). فالنصوص التي احتج بها القوم لا علاقة لها بالشيعة من قريب ولا من بعيد، بل هي بصدد ذم مجموعة من النّاس عاصروا أمير المؤمنين علیه السلام، ولا يُعلم ولاؤهم له فضلاً عن تشيّعهم..

ص: 244


1- نفس المصدر 1/ 45.

شبهات فقهية في نهج البلاغة

اشارة

تمسّك بعض النّاس بنصوص في النّهج زعم أنها مخالفة لما يذهب إليه الشيعة في الفقه، خصوصاً المسائل التي اختصوا بها، وصارت شعاراً لهم والتي اعتبرها البعض بدعة في الدين.

حرمة الجزع

عُرف شيعة أهل البيت علیهم السلام على مرّ التاريخ بإقامة مجالس العزاء والمآتم حزناً على أئمتهم علیهم السلام، وتذكيراً لما جرى عليهم من ظلم وتقتيل وتشريد، وعُدّ هذا الأمر شعاراً لهم، وعلامة يُعرف بها الموالف من المخالف.

وقد أراد البعض إثبات حرمة هذا الفعل ببعض النصوص الواردة في كتاب (نهج البلاغة) التي ظاهرها تحريم الحزن والجزع على الموتى.

منها: قوله علیه السلام: ينزل الصبر على قدر المصيبة، ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط عمله (1).

ومنها: أنه علیه السلام لما ورد الكوفة قادماً من صفين مرّ بالشباميين، فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، وخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، وكان من وجوه قومه، فقال علیه السلام له: تغلبكم نساؤكم على ما أسمع ألا تنهونهن عن هذا الرنين (2).

علّق أحدهم على هذه الروايات بقوله: من يضرب على فخذه فقد يحبط أجره، فكيف نصرف هذا الكلام على الذين يفعلون ما يغضب الله ورسوله في

ص: 245


1- نهج البلاغة 34/4.
2- نفس المصدر 76/4.

محرّم، من ضرب القامات وشق الجيوب، والضرب بالسيوف وغيرها من المنكرات؟ (1).

والجواب على هذا الكلام:

أولاً: أنّ هذه الروايات التي استشهد بها المشكل حمّلها ما لا تحتمل، فلا يوجد فيها دلالة على التحريم، بل لسانها ظاهر في الكراهة، فالرواية الأولى بصدد بيان الأجر على الصبر في حال حدوث مصيبة، وجعل أمير المؤمنين علیه السلام ضرب اليد على الفخذ من الأمور المنافية للصبر، خصوصاً إذا كان جزعاً عند المصيبة، واعتراضاً على قضاء الله تعالى وقدره.

والرواية الثانية: هي بصدد بيان النهي الخاص؛ لأن الجيش في حال حرب، وبكاء النساء من شأنه تحبيط الجيش وفسخ عزيمته.

ثانياً: إسقاط هذه الروايات على ما يصنعه الشيعة في عاشوراء باطل جزماً؛ لأن الشيعة لم يدَّعوا أنهم يصنعون هذه الأمور من باب العاطفة التلقائية، بل إنهم اعتمدوا في ذلك على روايات صحيحة واردة عن طريق أئمة أهل البيت علیهم السلام تحثهم على البكاء وإظهار الجزع والتفجع على الإمام الحسين علیه السلام في يوم عاشوراء، نذكر منها:

ما رواه الشيخ الطوسي قدس سره بسند صحيح عن الإمام الصادق علیه السلام، أنه قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين علیه السلام (2).

وما رواه الشيخ الصدوق قدس سره بسند صحيح عن الإمام الرضا علیه السلام، قال: يا ابن شبيب إن كنتَ باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام، فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في.

ص: 246


1- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 99.
2- أمالي الطوسي: 162.

الأرض شبيه ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فلم يؤذن لهم، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم علیه السلام، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: «يا لثارات الحسين علیه السلام»، يا بن شبيب لقد حدَّثني أبي عن أبيه عن جدّه أنه لما قتل جدي الحسين صلوات الله عليه أمطرت السماء دماً وتراباً أحمر، يا بن شبيب إن بكيتَ على الحسين حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً (1).

وما رواه الصدوق قدس سره بسنده عن الإمام الرضا علیه السلام، قال: إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام. ثم قال علیه السلام: كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلوات الله عليه (2).

فالشيعة لا يفعلون هذا الأمر من دون دليل صحيح وارد عن أئمة الهدى علیهم السلام، ولو سلّمنا بأن الروايات التي استدل بها المشكل تفيد الحرمة فإن الروايات التي سقناها تكون مخصِّصة لها، أي أن الجزع والحزن والبكاء على الحسين علیه السلام له حكم خاص.

ثالثاً: ادّعى المشكل أنّ ما يصنعه الشيعة في عاشوراء هو فعل محرّم يُغضب الله جلّ جلاله، وقد غفل عن أن كل ما يصنعه الشيعة قد صنعه النبي صلی الله علیه و آله و سلم وكبار الصحابة..

ص: 247


1- عيون أخبار الرضا 269/1.
2- أمالي الصدوق: 190.

أما البكاء فقد بكى النبي صلی الله علیه و آله و سلم على ابنه إبراهيم وعمه الحمزة، وابن عمه جعفر علیهم السلام كما هو ثابت في صحاح المسلمين، ولا يشكك فيه أحد.

بل إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم بكى على الإمام الحسين علیه السلام في حياته وقبل حدوث موقعة كربلاء، وقد روى ذلك أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن نجي عن أبيه، أنه سار مع علي رضي الله عنه وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي رضي الله عنه: اصبر أبا عبد الله اصبر أبا عبد الله بشط الفرات.

قلت: وماذا؟ قال: دخلت على النبي صلی الله علیه و آله و سلم ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل قبلُ فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات قال: فقال: هل لك إلى أن أشمَّك تربته؟ قال: قلت: نعم. فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا (1).

وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً الليلة. قال: وما هو؟ قالت إنه شديد قال وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قُطعتْ ووُضعت في حجري. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: رأيتِ خيراً، تلد فاطمة إن رسول شاء الله غلاماً، فيكون في حجرك. فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فدخلت يوماً إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تهريقان من الدموع، قالت: فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: هذا؟ فقال: نعم، وأتاني بتربة من.

ص: 248


1- مسند أحمد 1 / 85 علق عليه الهيثمي في مجمع الزوائد 187/9 بقوله: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا. وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة 159/3.

تربته حمراء (1).

وروى الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جالساً ذات يوم في بيتي، فقال لا يدخل علىَّ أحد. فانتظرت، فدخل الحسين، فسمعت نشيج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يبكي، فاطلعت فإذا الحسين في حجره أو إلى جنبه يمسح رأسه وهو يبكي فقلت: والله ما علمته حين دخل. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إن جبريل كان في البيت، فقال: أتحبه؟ قلت: أما في الدنيا فنعم. قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء. فتناول جبريل من تربتها فأراه النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فلما أحيط بالحسين حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء. قال: صدق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أرض كرب و بلاء (2).

فمن مجموع هذه الروايات نجد أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم بكى على الإمام الحسين علیه السلام قبل قتله بسنين كثيرة، ولنا في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أسوة حسنة.

بل وردت رواية صريحة تحثّ على البكاء على الإمام الحسين علیه السلام، وهي ما روي في كتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل عن الربيع بن منذر عن أبيه، قال: كان حسين بن علي يقول: من دمعتا عيناه فينا دمعة أو قطرت عيناه فينا قطرة أثواه الله عز و جل الجنة (3).

أما النياحة: فقد ثبت أيضاً أن جملة من الصحابة ناحوا على موتاهم، فقد قال ابن حجر في الفتح: وصله ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال لما توفي أبو بكر أقامت عائشة عليه النوح،.

ص: 249


1- المستدرك على الصحيحين 3 / 177. وعلق عليه الحاكم بقوله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
2- المعجم الكبير 289/23. وصحّح هذه الرواية الهيثمي في مجمع الزوائد 189/9 بقوله: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات.
3- فضائل الصحابة 2/ 675.

فبلغ عمر، فنهاهن فأبينَ، فقال لهشام بن الوليد: أخرج إلى بيت أبي قحافة يعني أم فروة فعلاها بالدرة ضربات، فتفرّق النوائح حين سمعن بذلك (1).

ومن هذا الحديث نعلم أن عائشة والصحابية أم فروة وجملة من الصحابيات كنّ ينحن على أبا بكر حين توفي!

أمّا اللطم والضرب: فهذا ثابت أيضاً عن السلف وبالخصوص عائشة فيما رواه عنها عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: سمعت عائشة تقول: مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سنّي أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قُبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي (2).

قال ابن الأثير: والالتدام: ضرب النساء وجوههن في النياحة. وقد لدمتْ تلدمُ لدماً (3).

وقال ابن فارس: والتدمَ النساء: ضربن وجوههن وصدورهن في المناحة (4).

فما فعلته عائشة على أبيها هو عين ما يفعله الشيعة في هذه الأيام على الإمام الحسين علیه السلام، فهل يجرؤ هذا المشكل أن يقول في حقّها: إنها أغضبت ربها، وفعلت المنكرات؟ أم أن باء تجر وأخرى لا تجر؟.

ص: 250


1- فتح الباري 54/5.
2- مسند أحمد 274/6. وقد علق شعيب الأنؤوط على هذا الخبر بقوله: إسناده حسن من أجل ابن إسحاق ... وحسّنه الألباني في إرواء الغليل 86/7.
3- النهاية في غريب الحديث 245/4.
4- مقاييس اللغة 243/5.

أوقات الصلاة

احتج بعضهم بنص في (نهج البلاغة) على مخالفة الشيعة لأمير المؤمنين علیه السلام عمل في أوقات الصلاة، حيث نصّت الرواية على وجود خمسة أوقات مختلفة للصلوات، في حين أن الشيعة يتعبّدون بثلاثة أوقات فقط، والنص هو قوله: (ومن كتاب له علیه السلام إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة): أما بعد: فصلّوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس من مريض العنز، وصلّوا بهم العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يُسار فيها فرسخان، وصلّوا بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج، وصلّوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل، وصلّوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه، وصلّوا بهم صلاة أضعفهم ولا تكونوا فتّانين (1).

و عقَّب أحدهم بقوله: ولا نريد الاستفاضة في القضايا الفقهية واختلاف الفقهاء حول هذه الأمور، ولكن ما يهمّنا أن عليًّا رضي الله عنه حدَّد خمسة أوقات للصلاة (2).

وهذا الإشكال يوحي بجهل المشكل بأبجديات فقه الشيعة، إذ أنهم لا يقولون بثلاثة أوقات كما فهم صاحب الإشكال، بحيث تشترك صلاتا الظهر والعصر في كل الوقت والمغرب والعشاء كذلك، بل يقولون باشتراك الظهرين في جزء من الوقت، واشتراك العشاءين في جزء من الوقت مع اختصاص الظهر بأول الوقت والمغرب بأوله.

فهذه الفاصلة الزمنية التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام في كتابه بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء هي لبيان اختصاص الصلاة الأولى بجزء من

ص: 251


1- نهج البلاغة 82/3.
2- قراءة راشدة في نهج البلاغة: 94.

الوقت، وثانياً لإتاحة الفرصة للمصلين للاتيان بالنوافل الراتبة التي ثبت استحبابها، ولذلك روى الشيخ الصدوق رضي الله عنه بسند صحيح أن زرارة سأل أبا جعفر الباقر علیه السلام عن وقت الظهر، فقال: ذراع من زوال الشمس، ووقت العصر ذراعان من وقت الظهر، فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس ثم قال: إن حائط مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان قامة وكان إذا مضى منه ذراع صلى الظهر، وإذا مضى منه ذراعان صلى العصر، ثم قال: أتدري لم جُعل الذراع والذراعان، قلت: لم جُعل ذلك؟ قال: لمكان النافلة، لك أن تتنفل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع، فإذا بلغ فيئك ذراعاً بدأت بالفريضة، وتركت النافلة، وإذا بلغ فيئك ذراعين بدأت بالفريضة، وتركت النافلة (1).

وقد جمع صاحب الجواهر رحمه الله بين الروايتين بقوله: وقد يحتمل أن منتهى الفضل الذراع والذراعان بسبب تظافر أخبارهما أو تواترها، وظهور قصدهم علیهم السلام التعريض بما عليه العامة العمياء من تأخير العصر كثيراً، وأنهم أخطؤوا في فهم القامة والقامتين؛ لأنهما الذراع والذراعان في كتاب علي علیه السلام، فيطابق ما كان يفعله النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالقياس في جدار المسجد، وبسبب ما سمعته عندما حكيناه عن المجلسي، وأن الأخبار الواردة في أن المدار على الفراغ من السبحة مقصود منها ما هو الغالب المتعارف من الفراغ منها قبل الذراع والذراعين، وأنه لا ينبغي تأخير الصلاة انتظار الذراع والذراعين كما يُفهم من سياق بعضها، لا أن المقصود منها كون المدار على الفراغ من النافلة وإن تجاوز هذا المقدار حتى بلغ المثل والمثلين، وكيف وقد سمعت الحث على فعل العصر قبل الستة أقدام، وأن من أخّرها إليه هو المضيّع، ومن ذلك كله وغيره يظهر لك قوة ما سمعته من المجلسي، والله أعلم (2)..

ص: 252


1- من لا يحضره الفقيه 117/1.
2- جواهر الكلام 168/7.

علماً أن قضية الجمع بين الصلاتين ليست من مختصات الشيعة كي يشنّع بها هذا الرجل، بل إن الأمر ثابت بالأخبار الصحيحة، وواضح بالروايات الصريحة التي لا لبس فيها، حتى إن أحد كبار علماء المخالفين وهو السيد الغماري ألف كتاباً أسماه: (إزالة الخطر عمن جمع الصلاتين في الحضر)، وقال في مقدمته: إن الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، في السفر والحضر للحاجة من غير مرض ولا مطر سُنّة ثابتة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ينبغي العمل بها وإحياؤها (1).

بل ما عليه المخالفون اليوم هو من آثار بني أمية الذين حرّفوا الدين وبدَّلوا الأحكام، ولم يُبقوا على شيء كما كان على عهد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي أمامة، قال: صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صلّيت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم التي كنا نصلي معه (2).

وظاهر هذه الرواية أن أنس بن مالك صلى العصر بعد صلاة الظهر مباشرة ولم يفرّق بينهما، أو ينتظر وقت صلاة العصر الذي تعارف الناس أن يصلوها فيه؛ لأن الراوي ومن كان معه لم يمض على فراغهم من صلاة الظهر مع عمر بن عبد العزيز وقت، ولذلك استنكر على أنس لما رآه يصلي العصر.

ويؤيّد هذا ما رواه الطبراني في الكبير بسنده عن أبي بكر بن حزم أن عروة بن الزبير كان يحدّث عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ أمير المدينة في زمان.

ص: 253


1- إزالة الخطر: 2.
2- صحيح البخاري 138/1.

الحجّاج والوليد بن عبد الملك، فكان ذلك زمان يؤخّرون فيه الصلاة (1).

فصاحب الإشكال يريد من الشيعة ترك ما ثبت عندهم بالأدلة القرآنية والبراهين الروائية واتباع سُنّة بني أمية!.

ص: 254


1- المعجم الكبير 17 / 260.

الخطبة الشقشقية

اشارة

لعلّ السبب الأساس الذي لأجله حورب كتاب (نهج البلاغة) هو احتواؤه على الخطبة الموسومة بالشقشقية، إذ أنها تعتبر من أكثر النصوص صراحة في الدلالة على ظلامة أمير المؤمنين علیه السلام، و على فساد موقف المتقدّمين عليه، ففي هذه الخطبة لخص أمير المؤمنين علیه السلام كل ما حصل من وفاة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم سنة 11 ه، إلى سنة 40 للهجرة تقريباً عندما خطب هذه الخطبة العصماء.

ولهذا أفردنا باباً منفرداً للحديث حول هذه الخطبة دفعاً للإشكالات، وهدماً للتشكيكات التي يلقيها الخصوم في محاولة منهم لضرب هذه الوثيقة التاريخية المهمة.

أسانيد الخطبة في كتب الخاصة

يظن كثير من النّاس أن الخطبة الشقشقية من مختصات كتاب (نهج البلاغة)، وبما أنّ الكتاب لا أسانيد فيه، فالخطبة لا قيمة لها؛ لعدم وجود السّند، والحال أن هذه الخطبة مروية في كتب أخرى مؤلفة قبل (نهج البلاغة) وقبل أن يولد الشريف الرضي رحمه الله، ولها عدة أسانيد:

1 - رواها الشيخ الصدوق قدس سره (توفي 381ه - ) في علل الشرائع: عن محمد بن علي ماجيلويه عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس قال ... (1).

ص: 255


1- علل الشرائع 1 / 151.

2 - رواها الشيخ الصدوق أيضاً: عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رحمه الله، قال: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عمار بن خالد، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدثني عيسى بن راشد عن علي بن حذيفة، عن عكرمة، عن ابن عباس ... (1).

3 - رواها الشيخ الطوسي قدس سره (توفي 460 ه) في أماليه: عن الحفار، عن أبي القاسم الدعبلي، عن أبيه، عن أخي دعبل، عن محمد بن سلامة الشامي، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام ... (2).

4 - رواها الشيخ الطوسي أيضاً: عن الحفار، عن أبي القاسم الدعبلي، عن أبيه، عن أخي دعبل، عن محمد بن سلامة الشامي، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر، عن ابن عباس، قال: ... (3).

5 - رواها الطبري الشيعي رحمه الله (توفي بعد 411 ه) في نوادر المعجزات: عن القاضي أبو الحسن علي بن القاضي الطبراني، عن القاضي سعيد بن يونس المعروف بالقاضي الأنصاري المقدسي، قال: حدثني المبارك بن صافي، عن خالص بن أبي سعيد، عن وهب الجمال، عن عبد المنعم بن سلمة، عن وهب الزايدي، عن القاضي يونس بن ميسرة المالكي، عن الشيخ المعتمر الرقي، قال: حدثنا صحاف الموصلي، عن الرئيس أبي محمد بن جميلة، عن حمزة البارزي الجيلاني، عن محمد بن ذخيرة، عن أبي جعفر ميثم التمار، قال: ... (4).

6 - رواها قطب الدين الراوندي رحمه الله (توفي 573 ه)، قال: أخبرني الشيخ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم، عن الحاجب أبي الوفا محمد بن.

ص: 256


1- علل الشرائع 1 / 153.
2- أمالي الشيخ 1/ 382.
3- نفس المصدر 382/1.
4- نوادر المعجزات: 44.

بديع والحسين بن أحمد بن بديع والحسين بن أحمد بن عبد الرحمن، عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الأصفهاني، عن سليمان بن أحمد الطبراني، عن أحمد بن علي الابار، عن إسحاق بن سعيد أبي سلمة الدمشقي، عن خليد بن دعلج، عن عطا بن أبي رباح، عن ابن عباس ... (1).

7 - رواها السيد ابن طاووس قدس سره (توفي 664ه - ) في الطرائف، قال: حدّثنا محمد، قال: حدثنا حسن بن علي الزعفراني قال: حدثنا محمد بن زكريا القلابي، قال: حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عباس، قال ... (2).

فهذه سبعة طرق متضافرة لا تترك مجالاً للشك في صحة نسبة هذه الخطبة إلى أمير المؤمنين علیه السلام؛ لأن الخبر إذا روي بعدة طرق مختلفة، فإن ذلك يورث الاطمئنان بصدور هذا الخبر.

وقد التزم علماء العامّة بهذا المبنى، وصرّحوا أن الحديث اذا تعددت طرقه ارتقى من الضعيف الى الحسن أو الصحيح لغيره بحسب اختلاف المباني والاصطلاحات:

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وفي رواية هذا الحديث من لا يعرف حاله، إلا أن كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة (3).

وقال النووي في المجموع: وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوى بعضه بعضا ويصير الحديث حسنا ويحتج به (4).

فلو طبقنا ما التزموا به على الخطبة الشقشقية لحكمنا على أسانيدها في.

ص: 257


1- منهاج البراعة 1/ 131.
2- الطرائف في معرفة الطوائف: 420.
3- القول المسدد 62.
4- المجموع 197/7.

أسوأ الأحوال بالحسن أو صحيح لغيره وليس كما يشاع بين المخالفين من أن الخطبة موضوعة منحولة.

شهرة الخطبة الشقشقية

إضافة إلى الأسانيد المتقدمة فإن هذه الخطبة قد اشتهرت بين العامة والخاصة، وتلقاها العلماء بالقبول، وقد قدمنا سابقاً أنّ الشهرة هي من علامات الحديث المقبول.

قال الشيخ المفيد قدس سره (توفي 413 ه) في الجمل: فأما خطبته علیه السلام التي رواها عبد الله بن عباس فهي أشهر من أن ندل عليها لشهرتها (1).

وأوردها الشيخ الطبرسي رحمه الله (توفي 620 ه) في الاحتجاج الذي قال في مقدمته: لا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده، إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف (2).

وقال الشيخ محمد طاهر القمي (توفي 1098 ه): ويدل أيضاً على ما ادّعيناه من عدم رضاء علي علیه السلام بخلافة الخلفاء الثلاثة، خطبته الموسومة بالشقشقية والمقمصة، وهذه مشهورة معروفة بين الخاصة والعامة (3).

وقال العلامة المجلسي قدس سره (توفي 1111 ه) في البحار: هذه الخطبة من مشهورات خطبه صلوات الله عليه، روتها الخاصة والعامة في كتبهم، وشرحوها، وضبطوا كلماتها، كما عرفت رواية الشيخ الجليل المفيد، وشيخ الطائفة، والصدوق، ورواها السيد الرضي في (نهج البلاغة)، والطبرسي في

ص: 258


1- الجمل: 62.
2- الأربعين: 166.
3- الاحتجاج: 10.

الاحتجاج قدس الله أرواحهم، وروى الشيخ قطب الدين الراوندي قدس سره في شرحه على (نهج البلاغة) (1).

أضف إلى هذا أن الخطبة كانت معروفة عند علماء العامة ومتداولة بينهم، يدل على هذا شهادة ابن أبي الحديد بشهرة هذه الخطبة بين علماء المعتزلة، وتسليمهم بصحة صدورها عن أمير المؤمنين علیه السلام، فقال في الشرح: قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول: إنها منحولة! فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى. فقال: أنّى للرضي ولغير الرضى هذا النَّفَس وهذا الأسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنِّفت قبل أن يُخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط مَن هو مِن العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي. قلت: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف)، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضى رحمة الله تعالى موجود (2).

وقد ذكر الشيخ الصدوق رضي الله عنه في (علل الشرائع) شرح أحد علماء العامة لهذه الخطبة، فقال: سألت الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري عن تفسير.

ص: 259


1- بحار الأنوار 505/29.
2- شرح نهج البلاغة 206/1.

هذا الخبر، ففسره لي (1).

وهذا الرجل ترجم له الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، فقال: الإمام المحدّث الأديب العلامة أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري صاحب التصانيف ... قال الحافظ أبو طاهر السلفي: كان أبو أحمد العسكري من الأئمة المذكورين بالتصرّف في أنواع العلوم والتبحّر في فنون الفهوم، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف ألف كتاب (الحكم والأمثال)، وكتاب (التصحيف)، وكتاب (راحة الأرواح)، وكتاب (الزواجر والمواعظ)، وعاش حتى علا به السن، واشتهر في الآفاق، انتهت إليه رئاسة التحدّث و الإملاء للآداب والتدريس بقطر خوزستان (2).

بل حتّى معاجم اللغة لم تخل من الإشارة إلى هذه الخطبة المباركة، إذ أنهم تعرّضوا لها في مادة شقشق:

قال ابن الأثير: ومنه حديث علي في خطبة له: «تلك شقشقة هدرت، ثم قرَّت» (3).

وقال الفيروزآبادي: والخطبة الشقشقية: العلوية؛ لقوله لابن عباس لما قال له: لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت: يا ابن عباس! هيهات، تلك شقشقة هدرت، ثم قرَّت (4).

وقال ابن منظور الأفريقي: وفي حديث علي رضوان الله عليه في خطبة له: تلك شقشقة هدرت، ثم قرَّت (5).0

ص: 260


1- علل الشرائع 152/1.
2- سير أعلام النبلاء 16/ 414.
3- النهاية في غريب الحديث 490/2.
4- القاموس المحيط 251/3.
5- لسان العرب 181/10

ومن راجع الكتب الكلامية واحتجاجات المتقدِّين علم يقيناً أن هذه الخطبة كانت الأمور المسلَّمة، بحيث بحيث لم يشكك أحد في نسبتها إلى أمير المؤمنين علیه السلام.

هل الخطبة الشقشقية موضوعة؟

ما ذكرناه سابقاً كافٍ لدحض هذه الفرية، فمع تعدّد الطرق وتظافرها، وتلقّي الناس للمتن بالقبول، لا يبقى مجال للشك في صحّة هذه الخطبة، لكن من في قلبه مرض يحاول تغطية عين الشمس بغربال.

ومن باب المجاراة لهؤلاء نقول: الخطبة الشقشقية إما وضعها الرضي قدس سره، أو أحد الرواة المتقدِّمين الذين نُقلت عنهم الخطبة.

أما الأول فممتنع؛ لوجود من روى الخطبة قبل الشريف الرضي قدس سره كما قدّمناه آنفاً وشهادة ابن أبي الحديد وشيوخه بوجود الخطبة حتى قبل ولادة والد الشريف الرضي قدس سره.

وأما الاحتمال الثاني فهو أيضاً ممتنع؛ إذ أن الخطبة رواها مجموعة من الرواة، ولم ينفرد بها راو واحد كي يُتّهم بها، فلو راجعنا الأسانيد السابقة لوجدنا على الأقل خمسة رواة في كل طبقة، تواطؤ هؤلاء على وضع هذه الخطبة مستبعد جدًّا، بل يكاد يكون مستحيلاً.

وقد ادَّعى بعض المخالفين أن الخطبة لا تصحّ حتى على مباني الشيعة؛ وذلك لأن مدار الخطبة على عكرمة مولى ابن عباس وهو مذموم عند الشيعة، وعليه فلا يوجد إسناد صحيح لهذه الخطبة عندهم.

والجواب على هذه الشبهة المتهالكة:

أولاً: لم ينفرد عكرمة برواية الخبر عن ابن عباس، بل رواها أيضاً الإمام زين العابدين علیه السلام، ورواها الإمام الباقر علیه السلام، وعطاء بن أبي رباح، وعلي بن

ص: 261

عبد الله بن عباس، ولم تنحصر روايتها في عكرمة فقط كما يدّعي هؤلاء.

ثانياً: لو سلّمنا أن عكرمة قد انفرد بهذه الرواية، فهذا الرجل معروف أنه من الخوارج، وموصوف أنه كان من رؤوسهم، وهو من كبار رواة أهل السنة، فهل من الممكن أن يضع حديثاً يهدم به عقيدته من أساسها؟

ثالثاً: كان عكرمة مولى لابن عباس، وقد ذُكر في المصادر التاريخية أنه كان من البربر، ومن المعلوم أن لغة البربر الأصلية ليست العربية، وإنما هي اللغة الأمازيغية، فهل من الممكن أن يضع عكرمة مثل هذا الكلام البليغ جدًّا مع أنه لم يكن عربيًّا صمياً؟

وابن أبي الحديد شهد في موردين بأن هذه الخطبة في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

أولهما: عند شرحه لكلام أمير المؤمنين علیه السلام في حق عثمان بن عفان، فإنه قال: «نافجاً حضنيه» رافعاً لهما، والحضن ما بين الإبط والكشح، يقال للمتكبر: «جاء نافجاً حضنيه»، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاماً: «جاء نافجاً حضنيه»، ومراده علیه السلام هذا الثاني، و«النثيل»: الروث، و«المعتلف»: موضع العلف، يريد أن همّه الأكل والرجيع وهذا من ممض الذّم، وأشد من قول الحطيئة الذي قيل: إنه أهجى بيت للعرب:

دَعِ المكارمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها *** واقْعُدْ فإنّكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي (1)

فهل يستطيع عكرمة أن يجاري الحطيئة في بلاغته وفصاحته؟

لا أظن أن عاقلاً يقول بهذا الكلام.

وثانيهما: عند تعرّضه لآراء من شكّك في هذه الخطبة، حيث قال: قال.

ص: 262


1- شرح ابن أبي الحديد 197/1.

مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول أنها منحولة؟! فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى. فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفَس وهذا الأسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر (1).

فإن كان الشريف الرضي قدس سره الذي خضع له كل أديب، وشهد له كل بليغ بالتضلع في اللغة بل قالوا: «إنه أشعر قريش» كما نقلنا ذلك سابقاً في ترجمته، لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا الكلام، فكيف لعكرمة البربري أن يصنع مثله؟

مضامين الخطبة الشقشقية

اشارة

بغض النظر عن البحث الصدوري وإثبات صحة السند من عدمه، فإن مضامين الخطبة الشقشقية مستفيضة في الروايات الصحيحة الثابتة في كتب الموالف والمخالف فالمسألة لا تتوقف على هذه الخطبة بحيث لو أسقطت لم يبق دليل عند الشيعة.

1 - أنه علیه السلام كان يرى أنه أولى بالأمر ممن سبقه:

فقد صرَّح أمير المؤمنين علیه السلام بأنه أولى من أبي بكر بالخلافة، فقال: أما والله لقد تقمَّصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلىَّ الطير (2).

وهذا الأمر تطفح به كتب المسلمين كافة، بل هو محل إجماع بين الخاصة

ص: 263


1- نفس المصدر 205/1.
2- شرح ابن أبي الحديد 1/ 205.

والعامة إلا من أعمى الله بصيرته.

فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف، عن روح بن عبد المؤمن، عن أبي عوانة، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: أن عليًّا أتاهم عائداً، فقال: ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت، توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأنا أحق الناس بهذا الأمر، فبايع الناس أبا بكر، فاستخلف عمر، فبايعت ورضيت وسلّمت، ثم بايع الناس عثمان، فبايعت و سلّمت ورضيت وهم الآن يميلون بيني وبين معاوية (1).

وقد استعظم المخالفون هذه الرواية، فحاولوا إخفاءها بشتّى الطرق، وطمسها بكل الوسائل.

فنجد أنّ عبد الله بن أحمد بن حنبل تعمّد بتر الحديث، وإخفاء ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام، وذلك في كتاب السنة، حيث قال: حدثني أبي وعبيد الله بن

عمر القواريري، وهذا لفظ حديث أبي قالا: حدثنا يحيى بن حماد أبو بكر، نا أبو عوانة، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أن عليًّا رضي الله عنه أتاهم عائداً ومعه عمار، فذكر شيئاً، فقال عمار يا أمير المؤمنين. فقال: اسكت فوالله لأكونن مع الله على من كان، ثم قال: ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم توفي فذكر شيئاً، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه، فبايعت وسلّمت ورضيت ثم توفي أبو بكر، وذكر كلمة فاستُخلف عمر رضي الله عنه، وذكر ذلك: فبایعت وسلّمت ورضیت، ثم توفي عمر، فجُعل الأمر إلى هؤلاء الرهط الستة، فبايع الناس عثمان رضي الله عنه، فبايعت وسلّمت ورضيت، ثم هم اليوم يميلون بيني وبين معاوية (2)..

ص: 264


1- أنساب الأشراف 177/2.
2- السنة 404. علق المحقق على الخبر بقوله: رجاله ثقات.

لاحظ أخي القارئ كيف حرّف عبد الله بن أحمد أو غيره من الرواة قول

الإمام على: وأنا أحق الناس بهذا الأمر» إلى قوله فذكر شيئا! أما الثاني فهو إمام أهل السنة والجماعة، وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله عزّ وجل: محمد بن إسماعيل البخاري الذي روى هذا الخبر بعد تبديل ألفاظه قال محمد بن عميرة النخعي قال لي يحيى بن سليمان، حدثني محمد قال: نا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: لما قدم على البصرة قال لي: استأذن لي يريد زياد، فاستأذنت فأذن له، فذكر ما لقي بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وقال: توفي النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فظننت أني [كذا]، فبويع لأبي بكر فسمعت وأطعت (1).

فالبخاري غيّر قول الامام: «ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أنا أحق الناس بهذا الأمر» إلى قوله: «فذكر ما لقي بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وتوفي النبي صلی الله علیه و آله و سلم فظننت أني».

فانظر أخي القارئ كيف يخفي أئمة القوم الحقائق عن عوامهم، ويحرّفون النصوص.

2 - عدم ارتضائه علیه السلام على خلافة أبي بكر

هو تصريحه بعدم رضاه على بيعة أبي بكر وحكومته، لكنّه اختار الصبر والمداراة لهم حفاظاً على المصلحة العامة للإسلام.

قال: فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذًّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيتُ أن الصبر على هاتا أحجى،

ص: 265


1- التاريخ الكبير 1/ 195.

فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا (1).

ويدل على هذا الروايات التي تنص على امتناعه عن بيعة أبي بكر طيلة حياة فاطمة الزهراء علیها السلام، والتي رواها البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة، قال: وعاشت بعد النبي صلی الله علیه و آله و سلم ستة أشهر، فلما توفّيت دفنها زوجها عليٌّ ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعليًّ من الناس وَجْهٌ حياةَ فاطمة، فلما توفّيت استنكر علىٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر (2).

وعدم المبايعة لا يكون إلا لعدم رضاه بتلك البيعة، خصوصاً مع وجود روايات كثيرة في الوعيد لمن تخلّف على بيعة إمام المسلمين، كالحديث الوارد في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (3).

وما ورد في مسند أحمد عن معاوية قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية (4).

و مما يثبت هذا أيضاً ما ورد في كتب القوم من الهجوم على بيت فاطمة علیها السلام لإرغام أمير المؤمنين علیه السلام وبني هاشم على بيعة أبي بكر، وتهديدهم بحرق.

ص: 266


1- نهج البلاغة 1 / 31.
2- صحيح البخاري 5 / 82.
3- صحيح مسلم 22/6.
4- مسند أحمد بن حنبل 96/4. وقد علق شعيب الأنؤوط على هذا الحديث بقوله: حديث صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم - وهو ابن بهدلة - وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، غير أن أبا بكر - وهو ابن عياش إنما روى له مسلم في المقدمة، وهو صدوق حسن الحديث.

البيت إن لم يبايعوا كما بايع الناس.

منها: ما رواه ابن ابي شيبة بسند صحيح عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فيشاورونها، ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة، فقال: يا بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم! والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك، أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت. قال: فلما خرج عمر جاؤوها فقالت: تعلمون أن عمر قد جاءني، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وأيم الله ليمضينّ لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين فروا رأيكم ولا ترجعوا إلي. فانصرفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر (1).

وروى الطبري في تاريخه بسنده عن زياد بن كليب، قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه (2).

وروى عبد الله بن أحمد بسنده عن ابن شهاب، قال: وغضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر رضي الله عنه، منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام رضي الله عنهما فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومعهما السلاح، فجاءهما عمر رضي الله عنه في عصابة من المسلمين فيهم أسيد، وسلمة بن سلامة بن وقش، وهما من بني عبد الأشهل، ويقال: فيهم ثابت بن قيس بن الشماس أخو بني الحارث بن الخزرج، فأخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره. قال موسى بن عقبة:.

ص: 267


1- مصنف ابن أبي شيبة 572/8.
2- تاريخ الطبري 443/2.

قال سعد بن إبراهيم: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن

كان مع عمر يومئذ، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير (1).

فهذه الرواية صريحة الدلالة في معارضة أمير المؤمنين علیه السلام لبيعة أبي بكر، وهو ما جعل هذا الأخير يستخدم القوة ليجبرهم على البيعة.

ولا يظنّن أحد أن الرواية الأولى نصّ في أن الامام علیه السلام قد بايع أبا بكر؛ لقول الراوي: «فانصرفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر»؛ لأنه خارج عن هذا العموم بدليل رواية عائشة في البخاري التي نصّت على أنه لم يبايع إلا بعد أكثر من ستة أشهر.

وقد اعترف ابن تيمية الحرّاني بهذه الحقيقة ولم يستطع إخفاءها رغم عناده ومكابرته، فقد قال في منهاجه: ونحن نعلم يقيناً أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلّف عن بيعته أولاً وآخراً، وغاية ما يقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه، وأن يعطيه لمستحقه (2).

أما عن جنوحه للسلم فقد روى أحمد في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنه سيكون بعدي اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن تكون السلم فافعل (3).

ولا يمكن أن تحمل هذه الرواية إلا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهذا الخبر يتحدّث عن الفترة اللاحقة لوفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وهذه الفترة اشتملت.

ص: 268


1- السنة 554/2.
2- منهاج السنة 208/8.
3- مسند أحمد بن حنبل 1 / 90. وقد أخرج هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد 234/7، وعلق عليه بقوله: رواه عبد الله، ورجاله ثقات.

على مرحلتين:

الأولى كان فيها أمير المؤمنين علیه السلام محكوماً بالشيخين.

والثانية: كان فيها حاكما، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تكون هي المرادة بالحديث؛ وذلك لأن أمير المؤمنين لم يجنح للسلم، بل دخل في ثلاثة حروب متواصلة، واستشهد وهو يجيّش الجيوش لمواصلة الحرب الثالثة، فلا يبقى إلا الاحتمال الأول، وهو مسالمة الخلفاء السابقين له.

3 - استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب

استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب كان مثاراً لتعجّب أمير المؤمنين علیه السلام لأن أبا بكر استقال في بادئ أمره.

قال علیه السلام: فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها (1).

أما الاستقالة في حياته فقد رواها الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة بسنده عن أبي الجحاف داود بن أبي عوف، قال: لما بويع أبو بكر أغلق بابه ثلاثاً، يقول: أيها الناس، أقيلوني بيعتكم ... (2).

قال القرطبي: ويجب عليه [أي الخليفة] أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصاً يؤثر في الإمامة، فأما إذا لم يجد نقصاً فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره؟ اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: ليس له أن يفعل ذلك، وإن فعل لم تنخلع إمامته. ومنهم من قال: له أن يفعل ذلك. والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني. وقول الصحابة: «لا نقيلك ولا نستقيلك قدَّمك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لديننا فمن ذا يؤخرك! رضيك رسول الله

ص: 269


1- نهج البلاغة 1 / 31.
2- فضائل الصحابة 151/1.

صلی الله علیه و آله و سلم لدينا فلا نرضاك!»، فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه، ولقالت له: ليس لك أن تقول هذا، وليس لك أن تفعله. فلما أقرّته الصحابة على ذلك عُلم أن للإمام أن يفعل ذلك (1).

وقال ابن تيمية: ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه، لا بحق ولا بغير حق، بل قال: قد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين: إما عمر بن الخطاب، وإما أبا عبيدة. قال عمر: فوالله لأن أقدَّم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر. وهذا اللفظ في الصحيحين، وقد روي عنه أيضاً أنه قال: «أقيلوني أقيلوني»، فالمسلمون اختاروه، وبايعوه؛ لعلمهم بأنه خيرهم (2).

ثم إن الخلافة كانت مداولة بينهما، ففي السقيفة كان بطل الموقف عمر بن الخطاب الذي واجه الأنصار، وكان أول من بايع أبي بكر، ثم هذا الأخير ردَّ إليه الأمر بعد أن قضى وطره منه.

4 - خلافة عمر بن الخطاب

تحدّث أمير المؤمنين علیه السلام في هذا المقطع على حكومة عمر بن الخطاب وتعرَّض إلى غلظة الرجل وخشونته في إدارة شؤون المسلمين، فقال الإمام علیه السلام: فصيَّرها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمُنِيَ الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض (3).

أما غلظة عمر فهي من الأمور المعروفة والمشهورة التي لا ينكرها أحد

ص: 270


1- الجامع لأحكام القرآن 1 / 272.
2- منهاج السنة 2/ 50.
3- نهج البلاغة 32/1.

من النّاس، وما ذكر في الخطبة الشقشقية ليس إلا غيضاً من فيض، وإلا فإن فضاضته تكاد تكون أشهر من بعض البلدان.

فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن، فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله، فدخل عمر و رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله، فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. فقال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله. ثم قال عمر: يا عدوّات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ فقلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (1).

فهذا إقرار من النبي صلی الله علیه و آله و سلم الكلام النساء اللواتي شهدن بفضاضة عمر وغلظته وجلافته.

وهذا الأمر استمر حتّى استخلفه أبو بكر، ولهذا لاقى معارضة من كبار الصحابة بسبب معرفتهم المسبقة بغلظة عمر، وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن زبید، قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة أرسل إلى عمر ليستخلفه، قال: فقال الناس: أتستخلف علينا فظًّا غليظاً، فلو ملكنا كان أفظ وأغلظ، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد استخلفته علينا؟ قال: تخوفوني بربي! أقول: اللهم أمَّرتُ عليهم خير أهلك (2).

وقد بيّنت الروايات أن المعترضين كانوا كبار الصحابة كما في لفظ.

ص: 271


1- صحيح البخاري 199/4
2- المصنف 7 / 485.

الطبري: عن أسماء ابنة عميس، قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا وأنت لاق ربك، فساءلك عن رعيتك؟ فقال أبو بكر وكان مضطجعاً: أجلسوني. فأجلسوه فقال لطلحة: أبالله تفرقني، أو أبالله تخوّفني، إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك (1).

أما تفاصيل هذه الفظاظة والجلافة فحدّث ولا حرج؛ إذ أنّ السمة العامة لحكمه كان الضرب والجلد وتعنيف المسلمين والمسلمات، فلم يسلم من درّة عمر بن الخطاب وسوطه أحد!

فكان يجلد كل من يسأل عن المعارف الدينية من قرآن وعقائد وفقه عوضاً عن إجابتهم.

فقد ضرب الصحابي صَبِيغاً لأنه سأل عن آيات من القرآن كما ذكر ابن حجر في الإصابة عند ترجمته الصبيغ، قال: له إدراك، وقصّته مع عمر مشهورة، روى الدارمي من طريق سليمان بن يسار، قال: قدم المدينة رجل يقال له صَبِيغ

- بوزن عظيم وآخره مهملة (2) - ابن عسل، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه،عمر فأعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال: وأنا عبد الله عمر. فضربه حتى أدمى رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي (3).

وضرب عمر رجلاً لأنه سأل عن قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: 31]، كما روى ذلك ابن حجر في الفتح، قال: وأخرج عبد بن حميد أيضاً من.

ص: 272


1- تاريخ الطبري 621/2.
2- كذا ذكره هنا، وقال قبل ذلك: وآخره معجمة، وهو الصحيح؛ لأنه صبيغ لا صبيع.
3- الإصابة في معرفة الصحابة 370/3.

طريق إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد، أن رجلاً سأل عمر عن فاكهة وأبًّا، فلما رآهم عمر يقولون أقبل عليهم بالدِّرَّة (1).

وضرب من اشتغل بالتدبر في كتاب الله عزَّ وجل، فقد قال السيوطي: وأخرج ابن راهويه في مسنده عن محمد بن المنتشر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب: إني لا أعرف أشدَّ آية في كتاب الله. فأهوى عمر، فضربه بالدِّرَّة (2).

ولم يسلم من جلد عمر بن الخطاب المصلّين، ففي كتاب الله منع الله أن يُنهى المصلي عن صلاته، لكن الرجل تجاوز الأمر إلى جلدهم وضربهم؛ لمنعهم من الصلاة التي لا تعجب عمر وإن كانت مشروعة!

فمنها: قصّة ضرب عمر بن الخطاب للصحابي زيد بن خالد التي أخرجها أحمد في مسنده عن حجاج مولى الفارسي، عن زيد بن خالد أنه رآه عمر بن الخطاب وهو خليفة ركع بعد العصر ركعتين، فمشى إليه فضربه بالدِّرَّة وهو يصلي كما هو، فلما انصرف قال زيد: يا أمير المؤمنين فوالله لا أدعهما أبداً بعد أن رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصليهما. قال: فجلس إليه عمر، وقال: يا زيد بن خالد لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما (3).

ومنها: قصّة ضربه لتميم الداري التي رواها الذهبي في (سير أعلام النبلاء) عن وبرة، قال: رأى عمر تميماً الداري يصلي بعد العصر، فضربه بدرَّته على رأسه فقال له تميم: يا عمر تضربني على صلاة صليتها مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم! قال: یا تميم ليس كل الناس يعلم ما تعلم (4)..

ص: 273


1- فتح الباري 229/13.
2- الدر المنثور 227/2
3- مسند أحمد 4 / 115.
4- سير أعلام النبلاء 4 / 448.

ومنها: قصّة ضربه لأحد الصحابة لكونه التفت في صلاته، فقد قال ابن حجر في تلخيص الحبير: وروى محمد بن نصر المروزي في صلاة الليل من طريق زيد بن وهب قال: لما أذَّن المؤذن بالمغرب قام رجل يصلي ركعتين، فجعل يلتفت في صلاته، فعلاه عمر بالدِّرَّة، فلما قضى الصلاة سأله، فقال: رأيتك تلتفت في صلاتك (1).

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نجد أن درّة عمر أخذت نصيبها من النساء، فإن الرجل كان يهوى جلد النساء وإيذاءهن.

فقد ذكر ابن حجر في الفتح قصة ضربه للصحابية أم فروة، قال: وصله ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: لما توفي أبو بكر أقامت عائشة عليه النوح، فبلغ عمر فنهاهن، فأبَيْنَ، فقال لهشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة - يعني أم فروة - فعلاها بالدّرّة ضربات، فتفرَّق النوائح حين سمعن بذلك (2).

وروى عبد الرزاق الصنعاني في المصنَّف قصة ضربه لمجموعة من النساء، قال: عن عمرو بن دينار، قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين، فجاء عمر ومعه ابن عباس ومعه الدّرّة، فقال: يا أبا عبد الله! ادخل على أم المؤمنين فأمرها فلتحتجب، وأخرجهنّ علي. قال: فجعل يخرجهن عليه وهو يضربهن بالدّرّة، فسقط خمار امرأة منهن فقالوا: يا أمير المؤمنين، خمارها! فقال: دعوها ولا حرمة لها (3).

وكان عمر يضرب الجواري والإماء لأنهن يسترن شعورهن عن الأجنبي كما أمر الله سبحانه وتعالى، بذريعة أنهن يتشبَّهن بالحرائر اللاتي يسترن.

ص: 274


1- تلخيص الحبير 281/4.
2- فتح الباري 54/5
3- المصنف 557/3.

شعورهن.

فقد روى ابن ابي شيبة قصة ضربه الجارية أنس بن مالك: عن أنس قال: رأى عمر أمة لنا متقنِّعة، فضربها، وقال: لا تَشَبَّهي بالحرائر (1).

وروى أيضاً قصّة ضربه لجارية أحد الصحابة: عن أنس بن مالك قال: دخلتْ على عمر بن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أو الأنصار وعليها جلباب متقنِّعة به فسألها عُتِقْتِ؟ قالت: لا. قال: فما بال الجلباب؟ ضعيه على رأسك إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين. فتلكَّأت فقام إليها بالدرة، فضرب بها برأسها، حتى ألقته عن رأسها (2).

وهكذا كان دأبه في التعامل مع الجواري والإماء حتى قال عنه السرخسي في المبسوط: كان إذا رأى جارية متقنّعة علاها بالدّرّة، وقال: ألقي عنك الخمار یا دفار (3)، أتتشبَّهين بالحرائر؟ وكذلك المكاتبة، والمدبرة، وأم الولد؛ لان الرق قائم فيهن (4).

ومن هنا كان الجواري لا يتحجّبن ولا يسترن أجسادهن في بيته، وقد روى البيهقي في السنن عن أنس بن مالك، قال: كن إماء عمر رضي الله عنه يخدمننا كاشفات عن شعورهن، تضرب ثديهن (5).

وتطبيقاً لقاعدة: «الأقربون أولى بالمعروف» فإن زوجة عمر بن الخطاب.

ص: 275


1- نفس المصدر 134/2.
2- نفس المصدر 2/ 135.
3- الدَّفار: هي النتنة.
4- المبسوط 212/1.
5- السنن الكبرى 227/2 وعقب البيهقي على هذه الرواية بقوله: والآثار عن عمر بن الخطاب في ذلك صحيحة ... كما أن الألباني صحَّح هذا الخبر في إرواء الغليل 204/6، وقال: وإسناده جيد، رجاله كلهم ثقات، غير شيخ البيهقي وهو صدوق.

كان لها نصيب وافر من الضرب والجلد فقد روى ابن ماجة في سننه عن الأشعث بن قيس، قال: ضفت عمر ليلة، فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها، فحجزت بينهما (1).

وبلغ به العنف والفظاظة مبلغاً عظيماً حتّى نقل ابن سعد عنه حادثة غريبة جدًّا لا تكاد تصدّق، فقد روى عن علي بن زيد أن عاتكة بنت زيد كانت تحت عبد الله بن أبي بكر، فمات عنها، واشترط عليها أن لا تزوّج بعده، فتبتّلت وجعلت لا تزوج وجعل الرجال يخطبونها، وجعلت تأبى، فقال عمر لوليّها: اذكرني لها. فذكره لها فأبت عمر أيضاً، فقال عمر: زوِّجنيها. فزوَّجه إياها، فأتاها عمر، فدخل عليها، فعاركها حتى غلبها على نفسها، فنكحها، فلما فرغ قال: أفٍّ أفٍّ أفٍّ أَفَّفَ بها. ثم خرج من عندها، وتركها لا يأتيها. فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال، فإني سأتهيّاً لك (2).

كما أن الأطفال الصغار لم يسلموا من هذه الدرّة، فقد جعلها عمر سوط عذاب عليهم، فكان يضربهم بسبب وبدون سبب.

فقد ذكر ابن أبي حاتم الرازي في ترجمة شرحبيل على لسانه، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن غلمان نلعب في المسجد، فضربنا بالمخفقة (3).

وروى الصنعاني في مصنفه عن عكرمة بن خالد، قال: دخل ابن لعمر بن الخطاب عليه وقد ترجّل، ولبس ثياباً حساناً، فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم يكن فاحشاً، لم ضربته؟ فقال: رأيته قد أعجبتْه نفسه، فأحببت أن أصغّرها إليه (4)..

ص: 276


1- سنن ابن ماجة 1/ 639.
2- طبقات ابن سعد 8 / 265.
3- الجرح والتعديل 339/4.
4- المصنف 416/10.

فغلظة عمر وجلافته أمر متواتر ومقطوع به، وما ذُكر في الخطبة الشقشقية هو مجرّد تصوير للواقع المسلَّم به بين كل المسلمين.

وقد أشار ابن أبي الحديد في مقدمة النهج إلى هذا المعنى بإشارة لا تخفى على اللبيب عند ذكره الخصال أمير المؤمنين علیه السلام، حيث قال: وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك (1).

5 - الشورى العمرية

يذكر أمير المؤمنين علیه السلام في هذه الفقرة كيفية انتقال الخلافة من عمر بن الخطاب إلى عثمان بن عفّان بما يسمّى بالشورى، قال علیه السلام: حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن (2).

ففي هذا المقطع يصرّح الإمام علي علیه السلام برفضه للشورى، ويبيّن أنها كانت خديعة كبرى ومؤامرة عظمى أريد بها إقصاؤه عن سدّة الخلافة.

وهذا المعنى أيضاً موجود في كتب المخالفين المعتبرة، بل هو مستفيض.

فقد روى الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً. ودعا عليًّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنَّ بكتاب الله، وسُنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.

قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ودعا عثمان فقال له مثل ما

ص: 277


1- شرح نهج البلاغة 35/1.
2- نهج البلاغة 1/ 35.

قال لعلي، قال: نعم. فبايعه، فقال علي: حَبَوْتَه حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيتَ عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً، فإني قد نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجل (1).

وقد أخرج ابن شبّة النميري هذا الأثر في كتابه (تاريخ المدينة) (2) مسنداً، وابن الفدا في تاريخه (3)، وغيرهما من المؤرخين الذين ارتضوا هذا النّقل.

وهذا نصّ صريح في أن الشورى العمرية هي مؤامرة ضد أهل البيت الله علیهم السلام، ولذلك قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا»، بل يفهم منه أيضاً عدم رضاه ببيعة المتقدمين عليه مما يجعل من هذا النصّ شاهداً آخر على صحة ما ادّعيناه.

بل إن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان ممّن يرى أن الشورى خديعة ومؤامرة لإبعاد أمير المؤمنين علیه السلام، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن المسور بن مخرمة، قال في كلام طويل: اجتمع الناس إلى عبد الرحمن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني نظرت في الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل يا علي على نفسك سبيلاً. ثم قال: عليك يا عثمان عهد الله، وميثاقه، وذمته، وذمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن تعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم وبما عمل به الخليفتان من بعده. قال: نعم. فمسح على يده فبايعه، ثم بايعه الناس، ثم بايعه علي، ثم خرج، فلقيه ابن عباس، فقال: خُدِعْتَ. فقال علي: أو خديعة هي؟ (4).

ص: 278


1- تاريخ الطبري 3/ 297.
2- تاريخ المدينة 3/ 930.
3- تاريخ أبي الفدا 166/1.
4- المصنف 477/5.

فليس علي علیه السلام فقط من يرى أن الأمر خديعة، بل إن ابن عبّاس رضى الله عنه كذلك، ولعلّ جملة من الصحابة كانوا يرون الأمر هكذا، لكن لم ينقل لنا ذلك.

ولا يتوهّم أحد أنّ استفهام أمير المؤمنين علیه السلام لابن عباس رضي الله عنه هو

حقيقيّ، بمعنى أنه لا يعلم بما حصل، بل إن هذا الاستفهام تقريري يريد من خلاله أمير المؤمنين علیه السلام إفهام ابن عبّاس أنه على علم بما يدبرونه من مكيدة وليست خديعة كما توهّم هو، إذ أنّ دخوله في الشورى كان لإقامة الحجّة عليهم.

6 - خلافة عثمان بن عفان

في هذه الفقرة تعرّض أمير المؤمنين الا لحال عثمان أيام خلافته، وما حصل فيها من مخالفات، فقال: إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله وكَبَتْ به بطنته (1).

والمصائب التي حصلت في خلافة عثمان لا يمكن استقصاؤها على عجالة، ولا يُقدر على حصرها بإيجاز، لكن سنذكر بعض الشواهد التي تؤيّد ما ذكر في الخطبة.

فقد روى نعيم بن حمّاد في الفتن عن ابن المبارك، عن الأعمش، عن أبي وائل، أن عبد الله بن مسعود ذكر عثمان رضي الله عنه يوماً، فقال: أهلكه الشح، وبئست البطانة أو بطانة السوء. قال: قلنا له: ألا تخرج فنخرج معك؟ فقال: لأن أزاول جبلاً راسياً أهون عليَّ من أن أزاول ملكاً مؤجلاً (2).

فهذه الرواية تنقل لنا صراحة السّبب في قتل المسلمين لعثمان بن عفان

ص: 279


1- نهج البلاغة 1 / 35.
2- الفتن والملاحم 77.

على لسان الصحابي عبد الله بن مسعود، فالأمر الأول هو الشح، والثاني هو بطانة السوء، وهو موافق تماماً لما ذكر في الخطبة الشقشقية.

وكالعادة حاول القوم إخفاء هذه الحقائق، فعمدوا إلى تحريف الرواية وتبديل ألفاظها، إذ أن ابن أبي شيبة أخرج الرواية في مصنّفه بنفس السند، لكن مع إسقاط اسم عثمان، وإبداله بلفظ رجل.

قال: وكيع قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله وذكر رجلاً، فقال: أهلكه الشح، وبطانة السوء (1).

وأخرج النسائي بسنده عن أبي إسحاق، عن العلاء، قال: سأل رجل ابن عمر عن عثمان، قال: كان من الذين تولوا يوم التقى الجمعان، فتاب الله عليه، ثم أصاب ذنباً، فقتلوه (2).

وليعلم القارئ أن الذين قتلوا عثمان هم كبار الصحابة، ولم يكونوا من المنافقين أو المصريين كما يحاول البعض التلبيس على الناس، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على إجماع المسلمين في ذلك الوقت على فساد حكومة عثمان، وانحرافها على جادة الحق.

فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن ابن عمر أن عثمان رضي الله عنه أشرف على أصحابه وهو محصور، فقال: علامَ تقتلوني؟ فإني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم، أو قَتَل عمداً فعليه القود، أو ارتدَّ بعد إسلامه فعليه القتل»، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحداً فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ 7

ص: 280


1- المصنف 700/8.
2- السنن الكبرى 5 / 137

أسلمت أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله (1).

فعثمان يصرّح أن الذين يحاولون قتله أصحابه، وليسوا أناساً أجانب عن المدينة أو مندسّين كما يعبّر عنهم في هذه الأيام.

بل روى الخلال في (كتاب السنة) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ما هو أصرح من هذا، حيث نقل عن سفيان قوله: أهل المدينة لمّا وثبوا على عثمان فقتلوه قال لهم سعد: أمعاوية خير عندكم من عثمان؟ قالوا: لا، بل عثمان. قال: فلا تقتلوه. قالوا: نكله إلى الله. قال: كذبة والله (2).

وطبعاً لم يعجب هذا الأثر محقق الكتاب، فحاول تزييف الحقائق كالمعتاد، وتحميل النص ما لا يحتمله فقال: الحق أنهم الخارجون الذين جاؤوا من خارج المدينة، من الكوفة، والبصرة، ومصر، وهم أتباع ابن سبأ وصنائعه (3).

فالعجب كل العجب من هذا الدكتور! سفيان يقول: إن قتلة عثمان أهل المدينة، ويأبى هذا المتمشيخ إلا أن يكونوا من أهل الكوفة ومصر وأتباع ابن سباً.

بل إن طلحة قد اعترف بتأليبه النّاس على عثمان ومشاركته في سفك دمه، وذلك فيما رواه الذهبي في السير، بسنده عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة للطلب بدم عثمان، عرجوا عن منصر فهم بذات عرق، فاستصغروا عروة بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، فردوهما، قال: ورأيت طلحة، وأحب المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زوره، فقلت: يا أبا محمد! إني أراك وأحب المجالس إليك أخلاها، إن كنت تكره هذا 3

ص: 281


1- مسند أحمد 63/1. حسّنه شعيب الأنؤوط في تعليقه على المسند، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 210/1.
2- السنة للخلال 322 وقد علق المحقّق على هذا الأثر بقوله: إسناده صحيح.
3- السنة للخلال: 323

الأمر، فدعه. فقال: يا علقمة! لا تلمني، كنا أمس يداً واحدة على من سوانا، فأصبحنا اليوم جبلين من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كان مني شيء في أمر عثمان، مما لا أرى كفارته إلا سفك دمي، وطلب دمه (1).

فالخبر فيه اعتراف صريح من طلحة بمشاركته في قتل عثمان وتأليب النّاس عليه ولذلك أراد الذهبي أن يبرّر له لينقذ ما عرف بعدالة جميع الصحابة، فعلّق على هذا الخبر بقوله: الذي كان منه في حق عثمان تمغفل وتأليب، فعله باجتهاد ثم تغيَّر عندما شاهد مصرع عثمان، فندم على ترك نصرته رضي الله عنهما، وكان طلحة أول من بايع عليًّا، أرهقه قتلة عثمان، وأحضروه حتى بایع (2).

والأصرح من هذا ما نقله ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) من تعداد سعد بن أبي وقاص لقتلة عثمان في كتاب له لعمر بن العاص، قال: كتب عمرو بن العاص إلى سعد بن أبي وقاص يسأله عن قتل عثمان، ومن قتله، ومن تولى كبره؟ فكتب إليه سعد: إنك سألتني من قتل عثمان؟ وإني أخبرك أنه قُتل بسيف سلّته عائشة، وصقله طلحة، وسمّه ابن أبي طالب، وسكت الزبير وأشار بيده، وأمسكنا نحن، ولو شئنا دفعنا عنه، ولكن عثمان غيّر وتغيّر، وأحسن وأساء، فإن كنا أحسنا فقد أحسنا وإن كنا أسأنا فنستغفر الله (3).

فكل هذه الأمور تثبت أنَ كبار الصحابة لم يكونوا يرتضون خلافة عثمان؛ لعدوله عن الحق، واستبداده بأموال المسلمين ومحاباته لبني أمية دون غيرهم. ومما يدلّ على هذا أيضاً ما حصل لعثمان بن عفان بعد موته، فقد روى الطبراني بسنده عن عبد الملك الماجشون، قال: سمعت مالكاً يقول: قُتل عثمان.

ص: 282


1- سير أعلام النبلاء 1 / 34، وقد صحّح الخبر شعيب الأنؤوط في الحاشية.
2- سير أعلام النبلاء 1/ 34.
3- الإمامة والسياسة 48/1.

رضي الله تعالى عنه فأقام مطروحاً على كناسة بني فلان ثلاثاً، فأتاه اثنا عشر رجلاً، فيهم جدي مالك بن أبي عامر، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وعبد الله بن الزبير، وعائشة بنت عثمان، معهم مصباح في حق، فحملوه على باب، وإن رأسه يقول على الباب: طق طق، حتى أتوا به البقيع، فاختلفوا في الصلاة عليه، فصلى عليه حكيم بن حزام، أو حويطب بن عبد العزى، شكَّ عبد الرحمن، ثم أرادوا دفنه فقام رجل من بني مازن فقال: والله لئن دفنتموه مع المسلمين لأخبرن الناس. فحملوه حتى أتوا به إلى (حش كوكب)، فلما دلوه في قبره صاحت عائشة بنت عثمان، فقال لها ابن الزبير: اسكتي، فوالله لئن عدتِ لأضر بن الذي فيه عيناك. فلما دفنوه وسووا عليه التراب قال لها ابن الزبير: صيحي ما بدا لك أن تصيحي (1).

وقد بيّن ياقوت الحموي حقيقة الموضع الذي دفن فيه عثمان، وهو (حَشّ كوكب) بقوله: بفتح أوله، وتشديد ثانيه، ويُضم أوله أيضاً، والحش في اللغة: البستان، وبه سمّي المخرج حشًّا؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا الحاجة خرجوا إلى البساتين (2).

فهل يعقل أن يُقتل صحابي في المدينة بين كبار الصحابة ولا يغسّل، ولا يجهّز، ويحمل على باب خشبي، ثم يدفن في مكان لا يدفن فيه المسلمون، ويقول قائل بعد ذلك: إن هذا الرجل كان مرضيًّا عند الصحابة؟

7 - بيعة أمير المؤمنين علیه السلام:

ذكر أمير المؤمنين صلی الله علیه و آله و سلم في هذا الموضع من خطبته الغرّاء كيف تمت مبايعة النّاس له وإجماعهم عليه بطريقة لم تحصل مع الثلاثة الذين سبقوه، قال علیه السلام: فما.

ص: 283


1- المعجم الكبير 79/1. وقد علق الهيثمي في مجمع الزوائد 95/9 على هذا الحديث بقوله: رجاله ثقات.
2- معجم البلدان 2/ 262.

راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشُقَّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم) (1).

وهذا الموضوع أيضاً هو محلّ إجماع بين المسلمين، فقد اتّفقوا على أن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام كانت فريدة من نوعها من حيث اجتماع الناس ومسارعتهم للبيعة، بخلاف بيعة من سبقه التي كان بعضها فلتة وبعض بنص وثالثة بشورى مصغرة جدًّا.

فقد روى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة بسنده عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي، وعثمان محصور، قال فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول. ثم جاء آخر فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال: فقام علي، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه، فقال: خل لا أم لك. قال: فأتى علي الدار

وقد قُتل الرجل، فأتى داره فدخلها، وأغلق عليه بابه فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني، فإني لكم وزير خير مني لكم أمير. فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحق بها منك. قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس (2).

فهذه الرواية مطابقة لما ورد في النهج من توجّه الناس ابتداء لأمير المؤمنين علیه السلام لبيعته، دون أن يكون هو الذي طلب منهم ذلك أو دعاهم لنفسه.

وقد ذكر الخلّال هذه الرواية مع تفاصيل أخرى مهمّة، فروى بسنده عن سالم بن أبي الجعد الأشجعي، عن محمد بن الحنفية، قال: كنت مع علي حين قُتل.

ص: 284


1- نهج البلاغة 1/ 36.
2- فضائل الصحابة 573/2. وقد صحّح هذه الرواية محقق الكتاب الدكتور وصي الله عباس.

عثمان رضي الله عنهما، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد أحداً أحق بهذا الأمر منك، أقدم مشاهداً [كذا] ولا أقرب من رسول الله. فقال علي: لا تفعلوا، فإني وزير خير مني أن أكون أميراً. فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإنه لا ينبغي بيعتي أن تكون خفيّاً، ولا تكون إلا لمن رضي من المسلمين. قال: فقام سالم بن أبي الجعد، فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد. فلما دخل جاء المهاجرين [كذا] والأنصار، فبايعوا وبايع الناس (1).

فهذا النص فيه تصريح بأن المهاجرين والأنصار قد بادروا لبيعة الإمام علیه السلام، وتبعهم عامة النّاس مختارين غير مكرهين.

8 - الناكثين والمارقين والقاسطين

أشار الإمام علي علیه السلام إلى الملابسات التي تلت بيعته المتمثلة في انقلاب جملة من الناس عليه وخروجهم عن طاعته، قال: فلما نهضتُ بالأمر نكثتْ طائفة، ومرقتْ أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها (2).

وهذه المسألة أيضاً من المسلمات التاريخية، فالكل يعرف أنّ الإمام علیه السلام خاض ثلاثة حروب، هي: الجمل، والنهروان، وصفين.

وتعبير أمير المؤمنين علیه السلام في غاية الدقة، إذ أنه يشير بكلامه هذا للحديث

ص: 285


1- السنة للخلال 417/2.
2- نهج البلاغة 1/ 36.

المعروف الذي أخبر فيه النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم أخاه وابن عمه علیه السلام بحقيقة ما سيحصل بعده من فتن وحروب.

فقد أخرج الحاكم بسنده عن عقاب بن ثعلبة: حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين (1).

وروى الطبراني بسنده عن محنف بن سليم، قال: أتينا أبا أيوب الأنصاري وهو يعلف خيلاً له بصعنبي، فقلنا عنده فقلت له: أبا أيوب قاتلتَ المشركين مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثم جئت تقاتل المسلمين؟ قال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمرني بقتال ثلاثة: الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلت الناكثين وقاتلت القاسطين، وأنا مقاتل إن شاء الله المارقين بالشعفات بالطرقات بالنهراوات وما أدري ما هم (2).

ورواه بسنده عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله، قال: أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين (3).

ورواه في الأوسط بسنده عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، قال: سمعت عليَّا يقول: أُمرتُ بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين (4).

ورواه بسنده عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: أُمر علي بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين (5)

ورواه أبو يعلى بسنده عن علي بن ربيعة، قال: سمعت عليًّا على منبركم.

ص: 286


1- المستدرك على الصحيحين 3 / 150.
2- المعجم الكبير 4 / 171.
3- المعجم الكبير 91/10.
4- المعجم الأوسط 213/8.
5- نفس المصدر 165/9.

هذا يقول: عهد إلي النبي صلی الله علیه و آله و سلم أن أقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين (1). وروی بسنده عن عمار بن ياسر، قال: أمرت أن أقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين (2).

وقد تعمّدت ذكر جملة من طرق الحديث لإثبات استفاضته؛ وذلك لأن بعض المتمسلفين في هذا العصر حاولوا قدر الإمكان ردّ هذا الحديث؛ لضعف بعض رواته، وتغافلوا على الطرق الكثيرة له (3).

ومن يدقّق في العبارة يعلم حقيقة المراد النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الحديث، إذ أنه جاء بصفتهم المنطبقة عليهم، وهي النكوث والقسط، والمروق، وتعليق الحكم على الصفة مشعر بعليّتها كما يقول المحقّقون، فمن هنا نعلم أن علّة محاربة أمير المؤمنين علیه السلام لأهل الجمل أنهم نكثوا البيعة، وعلّة مقاتلته لأهل صفّين هي أنهم قسطوا ومالوا عن الحق، وعلّة مقاتلته لأهل النهروان أنهم مرقوا عن الدين.

ومن هنا نعلم أن قتال أمير المؤمنين علیه السلام لهؤلاء ليس للخلاف المعروف حول قتلة عثمان كما يصّور ذلك المخالف، بل إن الأمر أعظم من ذلك، لكنّه غُلّف بقميص عثمان.

وقد كشف عمرو بن العاص حقيقة سريرة معاوية كما روى الطبري، حيث قال: ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه، حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو، فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك؟ انصرف إلى غيره..

ص: 287


1- مسند أبي يعلى 397/1.
2- نفس المصدر 3 / 194.
3- أحاديث يحتج بها الشيعة:56.

فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله،وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية وعطف عليه (1).

فعمرو بن العاص يؤكد على أن غرض معاوية من الفتن التي أثارها هو حبّ الدنيا وعشق الملك والسلطة، وهذا ما أشار إليه الإمام علي علیه السلام في خطبته بقوله: «لكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها».

والنتيجة أن كلّ مضامين الخطبة الشقشقية صحيحة، ومثبتة في كتب القوم، فلو تمكنوا من إنكار ألفاظ الخطبة الشقشقية فلن يستطيعوا التخلّص من مضامينها المبثوثة في كتبهم.

تأويل ابن أبي الحديد المعتزلي

حاول ابن أبي الحديد المعتزلي توجيه الخطبة الشقشقية بما يتلاءم مع ما يذهب إليه المعتزلة من إيمان وعدالة المتقدِّمين على أمير المؤمنين علیه السلام، وحمل مضامينها على مجرّد العتاب الأخوي لا على العداوة الحقيقية.

لذلك قال في شرحه: إنه لما كان أمير المؤمنين علیه السلام هو الأفضل والأحق، وعُدِل عنه إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد وشرف، ساغ إطلاق هذه الألفاظ، وإن كان من وُسِم بالخلافة قبله عدلاً تقيَّاً، وكانت بيعته بيعة صحيحة، ألا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان، أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة، فيجعل السلطان الأنقص علماً منهما قاضياً فيتوجّد الأعلم ويتألم وينفث أحياناً بالشكوى ولا يكون ذلك طعناً في القاضي ولا تفسيقاً له، ولا حكماً منه بأنه غير صالح، بل للعدول عن الأحق

ص: 288


1- تاريخ الطبري 560/3.

والأولى! وهذا أمر مركوز في طباع البشر، ومجبول في أصل الغريزة والفطرة، فأصحابنا رحمه الله لما أحسنوا الظن بالصحابة وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب، وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق، إلى فاضل آخر دونه (1).

وما ذكره ابن أبي الحديد مرفوض بالجملة؛ لعدة أمور:

أولاً: لو كان الأمر مجرد تظلّم لسلّمنا بما ادّعاه ابن أبي الحديد، لكن الأمر تجاوز التظلم إلى ذكر مثالب القوم ومساوىء أعمالهم، فاتهم الخليفة الأول بدفع النص وغصب حق غيره، بدليل قوله: «أرى تراثي نهبا»، واتهم الثاني بالفظاظة والجلافة، واتهم الثالث بأنه وبنو أبيه أكلوا أموال الناس بالباطل، فإما أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام صادقاً فيما قال فيكون حال الآخرين على خلاف ما يذهب إليه ابن أبي الحديد وإما أن يكون ما ذكره علیه السلام غير صحيح، فيكون قد اتهمهم بالباطل.

ثانياً: قاس ابن أبي الحديد تأويله لفقرات الخطبة الشقشقية بتأويل الإمامية للآيات التي ظاهرها مخالف لعصمة الأنبياء، كقوله تعالى: ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ [طه: 121]، وهذا قياس مع الفارق؛ لأن تأويل معاشر الإمامية لظواهر بعض الآيات إنما هو اعتماداً على أدلة عقلية ونقلية قطعية دلت على أن الأنبياء علیهم السلام لا يرتكبون المعاصي، وإنما يفعلون خلاف الأولى، فهذه هي معاصيهم، ومعصية آدم علیه السلام من هذا القبيل.

أما تأويل ابن أبي الحديد فهو مستند إلى ما أسماه «حسن الظن بالصحابة»، وهذا الأمر لا دليل عليه لا من العقل، ولا من الشرع، ولا من.

ص: 289


1- شرح نهج البلاغة 1/ 157.

العرف، وعليه فإنه لا يصلح لأن يكون قرينة نرفع من خلالها اليد عن ظهور الخطبة في الطعن في الخلفاء الثلاثة.

ثالثاً: العجب كل العجب من تناقض ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الخطبة، حيث نصّ على إرادة أمير المؤمنين علیه السلام ثلب القوم باعترافه، وفي المقابل ينكص على عقبيه، فينفي أنه يريد انتقاصهم.

فهو الذي يقول في حق خلافة الأول: وأما قوله: يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير»، فيمكن أن يكون من باب الحقائق، ويمكن أن يكون من باب المجازات والاستعارات، أما الأول فإنه يعني به طول مدّة ولاية المتقدِّمين عليه، فإنها مدة يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، وأما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام، حتى إن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها، والصغير يشيب من أهوالها، كقولهم: هذا أمر يشيب له الوليد وإن لم يشب على الحقيقة (1).

وهو الذي قال عند شرح كلام الأمير علیه السلام في حق عثمان: «نافجاً حضنيه»: رافعاً لهما، والحضن: ما بين الإبط والكشح، يقال للمتكبِّر: جاء نافجاً حضنيه، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاماً جاء نافجاً حضنيه، ومراده علیه السلام هذا الثاني والنثيل: الروث والمعتلف: موضع العلف، يريد أن همَّه الأكل والرجيع، وهذا من ممض الذم وأشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب:

دَعِ المكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها *** واقْعُدْ فإنّكَ أنتَ الطاعمُ الكَاسِي

والخضم: أكل بكل الفم، وضدّه القضم، وهو الأكل بأطراف الأسنان، وقيل: الخضم أكل الشيء الرطب، والقضم أكل الشيء اليابس، والمراد على.

ص: 290


1- شرح نهج البلاغة 1 / 154.

التفسيرين لا يختلف، وهو أنهم على قدر عظيمة من النهم وشدة الأكل وامتلاء الأفواه (1).

فهل هذه الصفات تقال بنحو العتاب والتظلم في حقّ إنسان يرى أمير المؤمنين علیه السلام إيمانه وعدالته وحسن حكومته؟

والخلاصة أن كل ما في الخطبة يدلّ دلالة واضحة صريحة على أن أمير المؤمنين علیه السلام كان بصدد كشف الحقائق وتبيان الوقائع التي أدّت إلى انحراف الأمّة وانفراط عقد وحدتها..

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة 1/ 197.

ص: 292

عود على بدء

كتاب (نهج البلاغة) من أهم كتب المسلمين التي احتوت كنوز المعارف ودرر الذخائر من كلمات أمير المؤمنين علیه السلام، جمعه الشريف الرضي قدس سره وأخرجه إلى الأمة بهذه الصورة الرائعة.

وقد تلقت الأمة الإسلامية جمعاء هذا الكتاب بالقبول قراءة وتداولاً، شرحاً وعملاً، وجعلوه نبراساً يضيء طريق الهداية، ومنهاجاً يسلكونه للوصول إلى خالق البرايا.

لكن بعض الذين ختم الله على قلوبهم، حاولوا ضرب هذا الكتاب وتسقيطه بكل الطرق وشتّى الوسائل، فجاؤوا بأمور زعموا أنها إشكالات وطعونات تسقط الكتاب عن الاعتبار، وتمنع من الأخذ بما فيه.

وقد رَدَدْنا فيما سبق كل ما جاؤوا به من شبهات بالدليل والبرهان، وأثبتنا أن ما ادّعوا أنها إشكالات ليست إلا أوهاماً غلبت على هؤلاء المنتقدين لعدّة أسباب.

ومن هنا فإني أدعو المسلمين كافّة للاستفادة من هذا السفر الجليل، والأخذ بما فيه، سواء في العقائد كالتوحيد والنبوة والإمامة، والمعاد، أم في الأخلاق، والمواعظ، خصوصاً في هذا الزمن الذي انعدمت فيه الأخلاق، وحلّ مكانها الشقاق، واندثرت فيه الفضائل التي استعاضها النّاس بالرذائل، حتى دخل المسلمون في فتنة شعواء، وخاضوا في دماء بعضهم البعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

نسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يحفظ المسلمين من فتن الزمان

ص: 293

وحوادث الحدثان، وأن يؤلّف بين قلوبهم، ويجمعهم على كلمة سواء، ويعصمهم من الفتن والنوازل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 294

المصادر

1 - القرآن الكريم

(أ)

2 - أبجد العلوم: صديق بن حسن القنوجي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1978م.

3 - استناد نهج البلاغة: امتياز علي خان العرشي، منشورات مكتبة الثقلين، الطبعة الأولى 1399 ه.

4 - أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي، دار التعارف للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1983.

5 - أعلام الموقعين عن ربّ العالمين: محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دار

الجيل للنشر والتوزيع بيروت لبنان، الطبعة الأولى.1973م.

6 - الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1415.

7 - الأحاديث المختارة: ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، مكتبة النهضة الحديثة مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1990م.

8 - أحاديث يحتج بها الشيعة: عبد الرحمن الدمشقية، اعتمدنا على النسخة الموجودة في موقعه الرسمي.

9 - الاحتجاج: أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، مكتبة دار المجتبى النجف الأشرف العراق، الطبعة الأولى 2009م.

10 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة

ص: 295

الأعلمى للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2009.

11 - الاختصاص: الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع.

12 - أصل الشيعة وأصولها: الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، مؤسسة الإمام علي علیه السلام.

13 - الأربعين في إمامة الطاهرين: الشيخ محمد طاهر القمي الشيرازي، مطبعة الأمير، الطبعة الأولى 1418 ه.

14 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت لبنان.

15 - إزالة الخطر عمن جمع بين صلاتين في الحضر: أحمد بن الصديق الغماري، طبعة مكتبة القاهرة.

16 - أنساب الأشراف: أحمد بن يحيي البلاذري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1974 م.

17 - إنباء الرواة على أنباء النحاة: جمال الدين علي بن يوسف القفطي، المكتبة العصرية صيدا بيروت، الطبعة الأولى 2009 م.

18 - الأسماء والصفات: أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، المكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة الأولى.

19 - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: صالح بن فوزان الفوزان، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1432 ه.

20 - الأمالي: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة التاريخ العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2009 م.

21 - الأمالي: الشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق، مؤسسة التاريخ

ص: 296

العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2009 م.

22 - الإمامة والسياسة: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، مؤسسة الحلبي وشركائه للنشر والتوزيع، تحقيق: طه محمد زيني.

23 - أوائل المقالات - الشيخ محمد بن محمد بن النعمان العكبري المفيد، دار الكتاب الإسلامي بيروت لبنان.

(ب)

24 - بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار: العلامة محمد باقر المجلسي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

25 - بحوث في فقه الرجال: العلامة علي الفاني الأصفهاني، مؤسسة العروة الوثقى، الطبعة الثانية 1994م.

26 - البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1408.

27 - البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى 1975 م.

28 - بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: المحقق محمد تقي التستري، مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة الأولى 2011 م.

29 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: محمود شكري الآلوسي البغدادي، دار الكتب العلمية.

30 - البيان والتبيين: عمرو بن بحر الجاحظ، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة السابعة 1997 م.

31 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية: أحمد بن عبد الحليم

ص: 297

بن تيمية الحرّاني، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة.

32 - البيان لأخطاء بعض الكتّاب: صالح بن فوزان الفوزان، مكتبة التوعية الإسلامية لإحياء التراث الإسلامي.

(ت)

33 - تاريخ بغداد أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1417 ه.

34 - تاريخ مدينة دمشق: أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان 1996 م.

35 - تاريخ الخلفاء: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المكتبة العصرية بيروت لبنان.

36 - التاريخ الكبير: محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

37 - تأملات في كتاب نهج البلاغة: صادق محمد، تقريض: القاضي صالح الدرويش.

38 - تخريح الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري: عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي، تحقيق: علي عمر بادحدح.

39 - تشريح شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: محمود محمد الملاح، تحقيق: سليمان صالح الخراشي، دار الآل الرياض السعودية، الطبعة الأولى 2009 م.

40 - تحف العقول عن آل الرسول: الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2009 م.

ص: 298

41 - تدريب الرّاوي في شرح تقريب النواوي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، مكتبة الرياض الحديثة.

42 - تذكرة الحفاظ: شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

43 - التذكرة في الأحاديث المشتهرة: محمد بن عبد الله الزركشي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1986 م.

44 - تقييد العلم: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، دار إحياء السنة النبوية، الطبعة الثانية 1974 م.

45 - تاريخ المدينة: أبو زيد عمر بن شبّة النميري، منشورات دار الفكر بيروت لبنان.

46 - تصحيح الاعتقادات: الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع.

47 - تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1992.

48 - تفسير عبد الرزاق: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1989.

49 - تاريخ الإسلام ووفايات المشاهير والأعلام: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1998.

50 - تأويل مختلف الحديث: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

51 - ترجمة علي بن أبي طالب علیه السلام: أحمد زكي صفوت، دار البارودي

ص: 299

بيروت لبنان.

52 - التوحيد: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، مكتبة الرشد الرياض السعودية، الطبعة الخامسة 1994 م.

53 - تاريخ الأمم والملوك: محمد بن جرير الطبري، مؤسسة الأعلمي بيروت لبنان، الطبعة الخامسة 1989 م.

54 - تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1983م.

55 - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل: عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي اليماني، مكتبة المعارف الرياض السعودية.

56 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الفكر للنشر والتوزيع.

57 - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: محمد بن إسماعيل الكحلاني الصنعاني، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، الطبعة الاولى 1998 م.

(ج)

58 - الجامع الصحيح: محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1981.

59 - الجامع الصحيح:مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1981.

60 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، مكتبة المعارف الرياض السعودية.

ص: 300

61 - جامع بيان العلم وفضله: أبو عمر بن يوسف بن عبد البر، دار ابن الجوزي الدمام السعودية.

62 - الجرح والتعديل: أبو بكر بن أبي حاتم الرازي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، تحقیق: مصطفى عبد القادر عطا.

63 - الجواهر السنية في الأحاديث القدسية: الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة الوفاء بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1984 م.

64 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: المحقق الشيخ محمد حسن النجفي، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان.

65 - الجمل: الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع.

(ح)

66 - حقائق التنزيل في متشابه التأويل: الشريف محمد بن الحسين بن موسى الرضي، دار المهاجر للطباعة والنشر والتوزيع.

67 - الحيدة والاعتذار في الرّد على من قال بخلق الرحمن: عبد العزيز بن يحي الكناني، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة.

(خ)

68 - الخصال: الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، تحقيق: علي أكبر غفاري.

69 - الخميني والوجه الآخر في ضوء الكتاب والسنة: زيد عمر العيص، دار اليقين للنشر والتوزيع.

ص: 301

(د)

70 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الجيل بيروت لبنان.

71 - الدر المنثور في التفسير بالماثور: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الفكر بيروت لبنان.

(ذ)

72 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آغا بزرك الطهراني، دار الأضواء بيروت لبنان، الطبعة الثالثة 1403.

(ر)

73 - روضات الجنات في أحوال العلماء والسّادات: الميرزا محمد باقر الموسوي الخونساري، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2010 م.

74 - روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: الشيخ محمد تقي المجلسي، دار المصطفى لإحياء التراث، الطبعة الأولى 2009 م.

75 - الرد على الجهمية: أحمد بن حنبل الشيباني، دار اللواء للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1982 م.

76 - الروائع: فؤاد أفرام البستاني، دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع بيروت لبنان.

77 - الرياض النضرة في مناقب العشرة: أبو جعفر أحمد المحب الطبري،

ص: 302

المكتبة التوفيقية للطباعة والنشر.

(ز)

78 - زاد المعاد في هدي خير العباد: محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دار الفجر للتراث القاهرة، الطبعة الثانية 2010.

79 - الزهد: أحمد بن حنبل الشيباني، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى.

(س)

80 - کتاب سليم بن قيس: سليم بن قيس الهلالي العامري، مطبعة الهادي قم إيران، الطبعة الأولى 1420 ه.

81 - سبل السلام: محمد بن إسماعيل الكحلاني الصنعاني، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، الطبعة الرابعة 1960 م.

82 - سلسلة الأحاديث الضعيفة: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف الرياض، الطبعة الأولى 1995 م.

83 - سلسلة الأحاديث الصحيحة: محمد ناصر الدين الألباني مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1995 م.

84 - سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد: الشيخ يوسف بن أحمد البحراني، دار العصمة سنابس البحرين، الطبعة الأولى 2007م.

85 - سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد: السيد هاشم بن إسماعيل البحراني، دار المحجة البيضاء، الطبعة الأولى 2009.

86 - سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي،

ص: 303

مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، الطبعة التاسعة 1993.

87 - سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر بيروت لبنان، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، تعليق: كمال الحوت.

88 - السنن الكبرى: أحمد بن شعيب النسائي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1991.

89 - سنن الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، دار الفكر بيروت لبنان، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف.

90 - سنن الدارمي: عبدالله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي، دار الكتاب العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1407 ه.

91 - سنن ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

92 - السيرة النبوية: عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، دار الجيل بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1991 م.

93 - السنة: أحمد بن محمد بن هارون الخلال، دار الراية للنشر والتوزيع الرياض السعودية، الطبعة الخامسة 2005.

94 - السيرة النبوية: أبو الفدا إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1976 م.

95 - السنة: عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، دار ابن القيم للنشر والتوزيع، تحقيق: محمد بن سعيد القحطاني.

96 - السنة: محمد بن نصر المروزي، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1988 م.

97 - السنن الكبرى أحمد بن الحسين البيهقي، دار الكتب العلمية بيروت

ص: 304

لبنان، الطبعة الثالثة 2003.

(ش)

98 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى: عياض بن موسى اليحصبي، دار الغد الجديد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2009 م.

99 - شرح نهج البلاغة عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني، الدار اللبنانية للنشر، الطبعة الأولى 2009 م.

100 - شرح نهج البلاغة: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، مؤسسة النصر طهران إيران، الطبعة الأولى 1989م.

101 - شرح صحيح مسلم: أبو زكريا يحي بن شرف النووي، دار الكتاب العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1987.

102 - شرح العقيدة الواسطية: محمد بن صالح بن عثيمين، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع الرياض السعودية.

103 - شرح المقاصد في علم الكلام: سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، عالم الكتب بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1998 م.

104 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

(ص)

105 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري، دار العلم للملايين بالقاهرة، الطبعة الرابعة 1987.

106 - صحيح سنن أبي داود: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف

ص: 305

بالرياض، الطبعة الثانية 2000 م.

107 - صحیح سنن ابن ماجة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الثانية 2000 م.

108 - صحيح سنن النسائي: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الثانية 2000 م.

109 - صحيح الأدب المفرد: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الثانية 2000 م.

110 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: أبو حاتم محمد بن حبان البستي، مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1414ه.

111 - الصواعق المحرقة في الرّد على أهل البدع والزندقة: أحمد بن حجر الهيثمي المكي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

(ض)

112 - ضياء السالك إلى أوضح المسالك: محمد عبد العزيز النجّار، مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2001 م.

(ط)

113 - الطبقات الكبرى: محمد بن سعد بن منيع البغدادي، دار صادر بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1968.

114 - طبقات الشافعية الكبرى: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، دار إحياء الكتب العربية بيروت لبنان.

115 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: محمد بن أبي بكر بن قيم

ص: 306

الجوزيه - دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، الرياض المملكة العربية السعودية.

116 - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: السيد رضي الدين علي بن موسى بن جعفر المعروف بابن طاووس، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1999 م.

(ع)

117 - عبقرية الإمام علي علیه السلام: عباس محمود العقّاد، دار الكتاب العربي بيروت لبنان.

118 - عيون أخبار الرضاء علیه السلام: الشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1404 ه.

119 - عمدة القاري في شرح صحيح البخاري: بدر الدين محمد بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

120 - عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: جمال الدين أحمد بن علي الحسني المعروف بابن عنبة، منشورات المطبعة الحيدرية النجف العراق.

121 - علل الشرائع: محمد بن علي بن بابويه الصدوق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان.

122 - العلو للعلي الغفار: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، مكتبة أضواء السلف الرياض السعودية، الطبعة الأولى 1995 م.

ص: 307

(غ)

123 - الغدير في الكتاب والسنة والأدب: الشيخ عبد الحسين الأميني، مؤسسة التاريخ العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2010 م.

(ف)

124 - فقيه من لا يحضره الفقيه: الشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2010 م.

125 - الفتاوى الكبرى: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار المعرفة للنشر والتوزيع بيروت لبنان.

126 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان، الطبعة الثانية.

127 - فتح المغيث في شرح ألفية الحديث: محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1403 ه.

128 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمد بن علي الشوكاني، طبعة عالم الكتب.

129 - الفتن والملاحم: نعيم بن حماد الخزاعي المروزي، دار البيان العربي الأزهر، الطبعة الأولى 2002 م.

130 - الفتنة ووقعة الجمل: سيف بن عمر التميمي الضبي، دار أمية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1997 م.

ص: 308

131 الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي، تحقيق: علي شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1991 م.

132 - فجر الإسلام: أحمد أمين، دار الشروق بيروت لبنان.

133 - فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، تحقیق: دكتور وصي الله عباس.

134 - الفهرست: شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوس الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم إيران، الطبعة الأولى.

135 - الفهرست: أبو الفرج محمد بن اسحاق الوراق المعروف بابن النديم، دار المكتبة العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى.

136 - فوات الوفيات: محمد بن شاكر الكتبي، دار صادر بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1974 م.

137 - فيض القدير في شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير: محمد عبد الرؤوف المناوي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1994 م.

(ق)

138 - القاموس المحيط: محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، الطبعة الاولى 2005 م.

139 - قراءة راشدة في كتاب نهج البلاغة: عبد الرحمن بن عبد الله الجميعان، مبرة الآل والأصحاب، الطبعة الثانية 2006 م.

140 - القول المسدد في مسند أحمد: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عالم الكتب، الطبعة الأولى 1404 ه.

ص: 309

141 - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: محمد جمال الدين القاسمي، مؤسسة الرسالة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2004 م.

142 - قصة الحضارة: ويل ديورانت، دار الجيل بيروت لبنان، ترجمة: الدكتور زكي مجيب محمود.

(ك)

143 - كشف الغمة في معرفة الأئمة: أبو الحسن علي بن عيسى الأربلي، دار الأضواء بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2000.

144 - الكافي: محمد بن يعقوب الكليني، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2010.

145 - الكفاية في علم الرواية: الخطيب أبو أحمد بن علي البغدادي، دار الكتاب العربي بيروت لبنان الطبعة الأولى 1985.

146 - الكامل في التاريخ: عز الدين علي بن محمد ابن الأثير، دار صادر للطباعة والنشر بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1965.

147 - كنز العمّال في سنين الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي، مؤسسة الرسالة بيروت لبنان.

148 - الكنى والألقاب: الشيخ عباس القمي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

(ل)

149 - لسان الميزان: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي

ص: 310

للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1971 م.

150 - لسان العرب: جمال الدین محمد بن مکرم بن منظور الأفريقي، نشر أدب الحوزة، الطبعة الاولى 1405.

(م)

151 - مجموع فتاوی ابن باز: عبد العزيز بن باز، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء - الطبعة الأولى.

152 - ما هو نهج البلاغة: السيد هبة الدين الشهرستاني، مطبعة النجف الأشرف، الطبعة الأولى 1380 ه.

153 - المبسوط في الفقه: شمس الدين محمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة بيروت لبنان.

154 - مصادر نهج البلاغة و أسانيده: السيد عبد الزهراء الخطيب، دار الأضواء بيروت لبنان، الطبعة الثالثة 1985 م.

155 - المصنّف: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المجلس العلمي جنوب أفريقيا، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.

156 - معاني الأخبار: الشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق، مؤسسة التاريخ العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1430 ه.

157 - معارج نهج البلاغة: علي بن أبي القاسم البيهقي، مطبعة بهمن قم إيران، الطبعة الأولى.

158 - مفاتيح الغيب: فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2008 م.

ص: 311

159 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: محمد بن أيوب بن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

160 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الثانية 2006 م.

161 - مشرعة بحار الأنوار: محمد آصف محسني، مؤسسة العارف للمطبوعات بيروت لبنان، الطبعة الثانية 2005 م.

162 - مستدرك نهج البلاغة: الشيخ الهادي كاشف الغطاء، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة 1984م.

163 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، دار المعرفة للنشر والتوزيع بيروت لبنان.

164 - المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: جواد علي، نشر جامعة بغداد، الطبعة الثانية 1993 م.

165 - الملل والنحل: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، دار السرور بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1948.

166 - مرآة الزمان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان: أبو محمد عبد الله بن أسعد اليمني اليافعي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1997 م.

167 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.

168 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: علي بن الحسين بن علي المسعودي، دار الهجرة قم إيران، الطبعة الثانية 1984 م.

ص: 312

169 - المعجم الكبير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، مكتبة ابن تيمية القاهرة الطبعة الثانية.

170 - المختصر في أخبار البشر: عماد الدين إسماعيل أبي الفدا، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.

171 - المعجم الأوسط: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1995.

172 - مجموع الفتاوى: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني، دار الوفاء للنشر والتوزيع.

173 - المحدث الفاصل بين الرّاوي والواعي: الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب.

174 - المحلى في شرح المجلى بالآثار بالحجج والآثار: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، دار الفكر.

175 - معجم البلدان: شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1979م.

176 - مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع: علي أحمد سالوس، دار الفضيلة الرياض السعودية، الطبعة السابعة.

177 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1988.

178 - مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى 2008.

179 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو الفرح عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الاولى 1992.

ص: 313

180 - منهاج السنة النبوية: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار الحديث القاهرة مصر، الطبعة الأولى 2004.

181 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي، مطبعة الخيام قم إيران، الطبعة الأولى 1406 ه.

182 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبيب الله بن محمد الخوئي، منشورات دار الهجرة قم إيران، الطبعة الرابعة.

183 - المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرّفض والاعتزال: محمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: محب الدين الخطيب، وكالة الطباعة والترجمة التابعة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء الرياض السعودية 1413 ه.

184 - مستدرك الوسائل: الميرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت علیهم السلام الإحياء التراث.

185 - الموضوعات: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1966.

186 - المسند: أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة قرطبة القاهرة مصر، تحقيق: شعيب الأرنؤوط.

187 - مسند أبي يعلى: أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي، دار المأمون للتراث دمشق سوريا.

188 - المصنف في الأحاديث والآثار: عبد الله محمد بن أبي شيبة، دار الفكر للنشر والتوزيع بيروت لبنان.

189 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية مكتبة المطبوعات الإسلامية، الطبعة الثانية.1983.

ص: 314

(ن)

190 - النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: الفاضل المقداد السيوري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى 2007.

191 - النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين المبارك بن الأثير، المكتبة العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1979.

192 - نهج البلاغة: جمع الشريف محمد بن الحسين بن موسى الرضي، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.

193 - النكت على مقدمة ابن الصلاح: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المجلس العلمي لإحياء التراث الاسلامي، المدينة المنورة السعودية.

194 - نقض الدارمي على المريسي: عثمان بن سعيد الدارمي، مكتبة الرشيد للنشر والتوزيع الرياض السعودية، الطبعة الأولى 1998م.

195 - نزهة الأبصار ومحاسن الأثار: علي بن مهدي الطبري المامطيري، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، تحقيق العلامة محمد باقر المحمودي.

196 - نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة: محمد بن جرير بن رستم الطبري، مؤسسة الإمام المهدي علیه السلام بقم المقدسة.

(و)

197 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو العباس أحمد بن محمد بن

ص: 315

خلكان، طبعة دار صادر بیروت لبنان.

198 - الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2000 م.

ص: 316

الفهرس

الإهداء ... 5

نهج البلاغة ... 6

تقديم: آية الله الشيخ مهدي المصلى ... 7

مقدمة ... 9

لماذا نهج البلاغة؟ ... 11

من هو الشريف الرضي؟ ... 13

بذرة التشكيك في نهج البلاغة ... 19

على خطى ابن خلكان ... 25

الذهبي أنموذجاً ... 27

من هو الذهبي؟ ... 27

رأيه في نهج البلاغة ... 28

رأينا في ما قاله ... 28

طعونات في نهج البلاغة ... 33

الشبهة الأولى: سب الصحابة ... 33

الشبهة الثانية: سبك العبارات ... 37

الشبهة الثالثة: مصادر النهج وأسانيده ... 40

الشبهة الرابعة: رواية الرضي قدس سره ... 66

الشبهة الخامسة: المشتركات ... 72

ص: 317

الشبهة السادسة: علم الغيب ... 79

الأدلة القرآنية ... 80

الأدلة الروائية ... 82

الشبهة السابعة: الإطناب ... 87

الشبهة الثامنة: السجع ... 96

السجع في القرآن ... 97

السجع في الحديث النبوي ... 98

الشبهة التاسعة: التوحيد ... 103

الشبهة العاشرة علوم النهج ... 118

الشبهة الحادية عشر: الدسّ في نهج البلاغة ... 128

رأي الشيعة في نهج البلاغة ... 136

مقام النهج عند الشيعة ... 136

هل عند الشيعة كتاب صحيح؟ ... 138

هل کتاب نهج البلاغة صحيح؟ ... 141

المنهج الصحيح للتعامل مع النهج ... 142

شروح نهج البلاغة ... 145

معارج نهج البلاغة للبيهقي ... 145

منهاج البراعة للراوندي ... 147

شرح ابن أبي الحديد المعتزلي ... 149

من هو ابن أبي الحديد؟ ... 149

هل ابن أبي الحديد شيعي؟ ... 150

القيمة العلمية لشرح ابن أبي الحديد ... 158

شرح ابن ميثم البحراني ... 159

ص: 318

منهاج البراعة ... 160

بهج الصباغة ... 161

شرح محمد عبده ... 162

شبهات عقدیة في نهج البلاغة ... 165

التوسل والاستغاثة ... 165

1 - الصلاة على محمد وآل محمد ... 165

2 - خطبة الوسيلة ... 167

الإمامة الإلهية ... 169

1 - عدم وجود النّص الإلهي في النهج ... 169

2 - دعوني والتمسوا غيري ... 173

3 - نصوص ذم الخلافة والحكم ... 181

4 - إنه بايعني القوم ... 186

5 - مشورة عمر بن الخطاب ... 192

العصمة ... 197

1 - أدعية أمير المؤمنين علیه السلام التي يعترف فيها بارتكاب الذنوب ... 197

2 - لست في نفسى بفوق أن أخطىء ... 202

3 - تنصيب أمير المؤمنين علیه السلام للولاة ... 204

4 - لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ... 206

الوحي ... 209

عدالة الصحابة ... 214

1 - مدح أمير المؤمنين علیه السلام للصحابة ... 215

2 - لله بلاء فلان ... 219

شبهات التاریخیة في نهج البلاغة ... 231

ص: 319

أهل الشام ... 231

1 - اسلام أهل الشام ... 231

2 - المنع عن سبّ أهل الشام ... 236

ذم الإمام علیه السلام لشيعته ... 239

شبهات الفقهیة في نهج البلاغة ... 245

حرمة الجزع ... 245

أوقات الصلاة ... 251

الخطبة الشقشقية ... 255

أسانيد الخطبة في كتب الخاصة ... 255

شهرة الخطبة الشقشقية ... 258

هل الخطبة الشقشقية موضوعة؟ ... 261

مضامين الخطبة الشقشقية ... 263

1 - أنه علیه السلام كان يرى أنه أولى بالأمر ممن سبقه ... 263

2 - عدم ارتضائه علیه السلام على خلافة أبي بكر ... 265

3 - استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ... 269

4 - خلافة عمر بن الخطاب ... 270

5 - الشورى العمرية ... 277

6 - خلافة عثمان بن عفان ... 279

7 - بيعة أمير المؤمنين علیه السلام ... 283

8 - الناكثين والمارقين والقاسطين ... 285

تأويل ابن أبي الحديد المعتزلي ... 288

عود على بدء ... 293

المصادر ... 295

الفهرس ... 317

ص: 320

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.