كتاب السرائر

هوية الكتاب

المؤلف: أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 2

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1410 ه-.ق

الصفحات: 676

المكتبة الإسلامية

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الأول

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

المجلد 1

اشارة

كتاب السرائر

(ج1)

المؤلف: محمد بن إدريس الحلي

المحقق: لجنة التحقيق

الموضوع: فقه

عدد الأجزاء: 3 أجزاء

الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الثانية

المطبوع: 3000 نسخة

التاريخ: 1410 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله كما حمد نفسه ، والصلاة على محمد وآله كما ينبغي لهم ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

لا يخفى على ذوي البصائر أنّ للشموس الأحمدية والأقمار العلوية والكواكب الفاطمية إشراقات نورانيّة وإضاءات روحانيّة وسطوعات ربّانيّة أحاطت بالعالم فعمّته بالخير والبركة ، فشقّت للناس سبل الهداية وأوضحت لهم طرق الغواية ، فسعد من اهتدى بهداهم وشقي من تنكّب عن سبلهم ، ومن تلك النعم التي فاضت بها شفاههم الشريفة صلوات اللّه عليهم روايات الأحكام الشرعية ، والتي لها القدح المعلّى في تراث أهل البيت عليهم السلام.

وتفاعل المسلم مع هذه الروايات مرّ في مراحل مختلفة باختلاف الظروف والملابسات ، بحيث كان رجوع المسلم في عصر النصّ والتشريع أهون بكثير من رجوعه وهو يعيش زمن الغيبة ، وكذا الحال في زمن الغيبة فإنّ معرفة الأحكام الفقهية أخذت تمرّ بأدوار مختلفة عمقا وسعة نتيجة تعمّق المعارف الأصولية وانتقال الخبرات من فقيه سابق الى فقيه لاحق ، فظهرت الكتب الفقهية والمصنّفات الاستدلالية بعد أن كانت لا تتعدّى طريقة نقل الأخبار وسرد الأحاديث بعد تبويبها ومحاولة الجمع العرفي بين المتعارضات منها.

ومن جملة تلك الآثار « كتاب السرائر » لمصنّفه فخر الدين محمد بن إدريس الحلّي نوّر اللّه مضجعه ، وهو بحقّ كتاب جامع في كلّ أبواب الفقه شحنه من التحقيق

ص: 3

والتأسيس في التفريع على الأصول واستنباط المسائل الفقهية عن أدلّتها الشرعية ، لم يتقدّمه في تحقيقاته في ذلك أحد بل هو الفاتح لهذا الباب لمن تأخّر عنه.

ويعتبر هذا الكتاب المدرك الواضح الذي يعكس طريقة المصنّف المشهورة - وهي عدم العمل بخبر الواحد - والتي صارت سببا للنقد والطعن من قبل الأصحاب قديما وحديثا ، ولكن هذا لا ينقص من قدر صاحبه ولا يقلّل من أهميّة كتابه ، فبقي مصنّفه طيلة القرون السابقة وإلى الآن محطّا لأنظار الفقهاء وأهل النظر والاجتهاد.

وحفظا لهذا التراث القيّم وتعميما للفائدة تصدّت مؤسّستنا لتحقيقه واستخراج منابعه بعد مقابلته مع عدّة نسخ مخطوطة ثمّ طبعه ونشره بهذه الصورة الأنيقة والحمد لله على توفيقاته.

ولا يسعنا أخيرا إلّا وأن نتقدّم بجزيل شكرنا لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمد المؤمن القميّ على ما بذله من سعي حثيث في الإشراف والمتابعة لكلّ مراحل التحقيق ، كما ونشكر الاخوة من أهل الفضل والتحقيق لا سيّما سماحة الحاج الشيخ محمد حسين الأشعري والحاج السيد حسن آل طه والشيخ أبو القاسم الأشعري على ما بذلوه من الجهد الوافر في شتى مجالات التحقيق ، وكذلك من البحّاثة الحاج الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغروي لما كتبه عن نبذة من حياة مصنّف هذا السفر ، سائلين اللّه عزّ اسمه أن يوفّقهم وإيّانا لإحياء ونشر التراث الإسلامي إنه خير ناصر ومعين.

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 4

من حياة المؤلّف « قدس سره »

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

اسمه ولقبه ونسبه :

قال فيه المولى عبد اللّه الأصفهاني في تعاليقه على « أمل الآمل » : رأيت في بعض المواضع نسبه منقولا من خطه في آخر كتاب « المصباح » للشيخ الطوسي « قدس سره » هكذا : محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم بن عيسى العجليّ. وقال في لقبه : هو الشيخ « شمس الدين » العجليّ ، كما في بعض الإجازات. ثم عيّن هذه الإجازة فقال : قال الشيخ أحمد بن نعمة اللّه العاملي في إجازته للمولى عبد اللّه التستري في وصف ابن إدريس : الشيخ الأجل الأوحد ، المحقّق المنقّب « شمس الدين » محمد بن إدريس (1) وهي نسبة إلى الجدّ الأعلى.

ونقل الشيخ يوسف البحراني صاحب « الحدائق » في « لؤلؤة البحرين » عن الشهيد الأوّل في « إجازته » قال : وعن ابن نما والسيد فخار مصنّفات الإمام العلّامة ، شيخ العلماء ، رئيس المذهب وفخر الدين أبي عبد اللّه محمد بن إدريس ، « رضي اللّه عنه ».

وعن الشهيد الثاني في « إجازته » قال : ومرويات الشيخ الإمام العلامة المحقّق « فخر الدين » أبي عبد اللّه محمد بن إدريس العجلي (2).

ص: 5


1- رياض العلماء 5 : 31 ، 32
2- لؤلؤة البحرين : 279.

وفي إجازة المحقّق الثاني « رحمه اللّه » : « ومنها جميع مصنّفات ومرويّات الشيخ الإمام السعيد المحقّق ، خير العلماء والفقهاء ، فخر الملة والحق والدين ، أبي عبد اللّه محمد بن إدريس الحلّي الربعيّ ، برّد اللّه مضجعه وشكر له سعيه » (1).

وترجم له القاضي نور اللّه الشهيد في « مجالس المؤمنين » فقال : الشيخ العالم المحقّق « فخر الدين » أبو عبد اللّه محمد بن إدريس العجليّ الربعيّ الحلّي « قدس سره » (2).

ومن قبل ذكره ابن داود في رجاله فقال بشأنه : كان شيخ الفقهاء بالحلّة ، متقنا للعلوم ، كثير التصانيف (3).

ونقله عنه التفرشي في « نقد الرجال » (4) وان كان الحرّ العامليّ « قدس سره » لم يجده في نسخته من رجال ابن داود فنقله عن التفرشي وزاد عليه : « وقد اثنى عليه علماؤنا المتأخّرون واعتمدوا على كتابه وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدمين وأصولهم. وقد ذكر أقواله العلّامة وغيره في كتب الاستدلال وقبلوا أكثرها ».

وعن نسبه وروايته قال المحدّث الحرّ العاملي « رحمه اللّه » : يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة وغير واسطة ، وعن جدّه لأمه أبي جعفر الطوسي ، وأمّ أمّه بنت المسعود ورّام ، وكانت فاضلة صالحة (5).

وصاحب « الحدائق » في « اللؤلؤة » في ترجمته لابني طاوس الحليّين قال : هما أخوان من أب وأم ، وأمهما - على ما ذكره بعض علمائنا - بنت الشيخ مسعود الورّام

ص: 6


1- منتهى المقال : 260 ، والربعيّ نسبة الى بني ربيعة كما في الهامش التالي.
2- مجالس المؤمنين بالفارسيّة 1 : 569 ط الإسلامية. والعجليّ نسبة الى عجل بن لجيم حيّ من بكر بن وائل من ربيعة ، كما نصّ عليه المامقاني في تنقيح المقال 1 : 95 ولذلك أضاف القاضي الشهيد في نسبة المترجم له بعد العجلي : الربعي ، نسبة إلى بني ربيعة.
3- رجال ابن داود : 498 ط طهران و 269 ط النجف الأشرف ، والنص كما مرّ ، وليس « مفتيا في العلوم » كما عنه في تنقيح المقال 2 : 77.
4- نقد الرجال : 291.
5- أمل الآمل 2 : 243 ، 244.

ابن أبي فراس بن فراس بن حمدان ، وأم أمهما بنت الشيخ الطوسي « رحمه اللّه » وقد أجاز لها ولأختها أم الشيخ محمد بن إدريس جميع مصنفاته ومصنفات الأصحاب (1).

ولكن صاحب « الروضات » شكّك في صحّة ذلك بل ردّه ، فهو بعد نقله لكلام صاحب « اللؤلؤة » قال ما معناه : ما تقدمت إليه الإشارة من كلام صاحب « اللؤلؤة » بكون بنت الشيخ الطوسي زوجة الورّام ابن أبي فراس ، مدفوع بالكلّيّة ، ذلك لأنّ الورّام المذكور كان من تلامذة الشيخ محمود الحمصي المعاصر لابن إدريس بل المتأخر عنه قليلا! وعليه فلتحمل هذه النسبة في نسب هؤلاء على خلط في بعض ما ذكر فيها ، أو خبط فيما فيها من أسماء الآباء والأجداد (2).

والميرزا النوري في خاتمة « مستدرك الوسائل » بعد نقله لكلام صاحب « اللؤلؤة » قال : أمّا ما ذكروه من أنّ زوجة ورّام بنت الشيخ الطوسي فباطل من وجوه :

أمّا أولا : فلأن وفاة ورّام سنة 606 ووفاة الشيخ سنة 460 فبين الوفاتين مائة وخمسة وأربعون سنة ، فكيف يتصور كونه صهرا للشيخ على بنته ، حتى وان فرضت ولادة هذه البنت بعد وفاة الشيخ ، مع أنهم ذكروا أنّ الشيخ أجازها.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان كذلك لأشار السيد ( ابن طاوس ) إلى ذلك في مؤلفاته لشدّة حرصه على ضبط هذه الأمور. والذي يظهر من مؤلفات السيد هو أنّ أمه بنت الشيخ ورّام الزاهد ، وأنّه ينتهي نسبه من طرف أم الأب إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي ، ولذا يعبّر عنه أيضا بالجدّ. وأمّا كيفيّة الانتساب إليه : فقد قال السيد في « الإقبال » : « فمن ذلك ما رويته عن والدي. بروايته عن حسين بن

ص: 7


1- لؤلؤة البحرين : 236 وقال صاحب الرياض : وقد أجازهما بعض العلماء ولعل المجيز أخوهما الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي ، أو والدهما الشيخ الطوسي فلاحظ - رياض العلماء 5 : 409.
2- روضات الجنات 6 : 278 ونقلناه بالمعنى ابتعادا عن تعقيده بالتسجيع المتكلّف.

رطبة عن خال والدي أبي علي الحسن عن والده محمد بن الحسن الطوسي : جدّ والدي من قبل أمه » فانتساب السيد الى الشيخ من طرف والده السيد موسى بن جعفر بن طاوس إذ أمه بنت الشيخ ( أي أنّ صهر الشيخ هو السيد جعفر بن طاوس ) لا من طرف امه بنت الشيخ ورّام.

وأمّا ثالثا : فلعدم تعرض أحد من أرباب الإجازات وأصحاب التراجم لذلك ، مع أن صهرية الشيخ الطوسي من المفاخر التي يشار إليها ، كما أشاروا إلى ذلك في ترجمة ابن شهريار الخازن.

ويتلو ما ذكروه هنا في القرابة ما في « اللؤلؤة » وغيرها : أنّ أمّ ابن إدريس هي بنت الشيخ ، فإنّه في القرابة بمكان يكاد يلحق بالمحال في العادة ، فإنّ وفاه الشيخ في سنة ستين بعد الأربعمائة (460) وولادة ابن إدريس - كما ذكروه - في سنة ثلاث وأربعين بعد الخمسمائة (543) فبين وفاة الشيخ وولادة ابن إدريس ثلاثة وثمانون سنة ، ولو كانت أم ابن إدريس في وقت إجازة والدها لها في حدود سبعة عشر سنة مثلا ، لكانت قد ولدت ابن إدريس في سن المائة تقريبا! وهذه من الخوارق التي لا بدّ أن تكون في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار.

والعجب من هؤلاء الأعلام كيف يدرجون في مؤلفاتهم أمثال هذه الأكاذيب بمجرد أن رأوها مكتوبة في موضع من غير تأمل ونظر.

ثم إنّ تعبيره عن الشيخ ورّام بالمسعود الورّام ، أو مسعود بن ورّام ، اشتباه آخر. فان المسعود الورّام أو مسعود بن ورّام غير الشيخ ورّام الزاهد صاحب « تنبيه الخواطر » (1).

بينما كل هذا الترديد والردّ مبني على عدم الالتفات الى أنّ المدّعي في عبارة صاحب « اللؤلؤة » هو أنّ أم أم ابن إدريس بنت الشيخ الطوسي ، لا أمّه مباشرة

ص: 8


1- خاتمة مستدرك الوسائل 3 : 482 ط قديم.

وإذا ضممنا الى ذلك الترديد في المجيز لها أنّه كان الشيخ الطوسي أو ابنه أخوها الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي بل بعض العلماء ، كما في « رياض العلماء » (1) ارتفع الاستبعاد.

روايته عن الشيخ وولده :

وقبل الميرزا النوري بسط المرحوم المجلسي القول في إنكار رواية ابن إدريس عن خاله أبي علي الطوسي « الصحيفة السجادية » بغير واسطة ، وذلك في أول شرحه لها ، ذكر ذلك تلميذه المولى عبد اللّه الأصفهاني في تعاليقه على « أمل الآمل » وقال : أنكر الأستاذ « أيده اللّه تعالى » رواية ابن إدريس بغير واسطة ، كما سمعته من لفظه ، كما في هامش « رياض العلماء » (2).

فالصحيح من أسانيد الصحيفة ما يرويها الحلي عن الشيخ العماد محمد بن أبي القاسم الطبري ، عن أبي علي الطوسي المذكور ، عن والده الشيخ الطوسي. وإن كان في البعض الآخر من أسانيدها : أنّه يرويها عن أبي علي ولد الشيخ الطوسي وهو عن والده ، بلا واسطة. وقال الأفندي بعد ذكر ذلك : ولا منافاة بينهما (3) بل الأولى قول المولى المجلسي « قدس سره ».

سائر مشايخه :

مرّ عن الحرّ العاملي في « أمل الآمل » أن ابن إدريس يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة. وأم امه بنت ( الشيخ ) ورّام ، وكانت فاضلة صالحة (4).

ص: 9


1- رياض العلماء 5 : 409
2- رياض العلماء 5 : 31.
3- رياض العلماء : 5 : 32
4- أمل الآمل 2 : 243.

ونقل ذلك عنه المولى عبد اللّه الأصفهاني في « رياض العلماء » ونصّ على الواسطة بينه وبين خاله الشيخ حسن بن الشيخ الطوسي ، بأنه هو : الشيخ العماد محمد بن أبي القاسم الطبري. وأضاف : ويروي هو عن جماعة منهم : عربيّ بن مسافر العبادي (1).

ونقل ذلك صاحب « روضات الجنات » وأضاف عن صاحب « صحيفة الصفا في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء » : الحسن بن رطبة السوراوي ، وأبا المكارم حمزة الحسينيّ (2) وطبيعي أنّ مشايخه وأساتذته أكثر من هؤلاء الأربعة ولا ريب أنّ الباحث يجد له مشايخ أكثر منهم.

تلامذته والراوون عنه :

يروي عنه جماعة من الأفاضل - كما في « رياض العلماء : - منهم :

الشيخ نجيب الدين بن نما الحلّي. والسيد شمس الدين فخار بن معد الموسويّ. والسيد محمد بن عبد اللّه بن زهرة الحسينيّ الحلبيّ ، كما يظهر من بعض أسانيد « الصحيفة الكاملة ».

ويروي « السرائر » عنه : علي بن يحيى الخيّاط ، وأجاز روايته عنه ليوسف بن علوان وهو لتلميذه محمد بن الزنجي في جمادى الآخرة سنة 628 ه (3).

ونجيب الدين هو محمد بن جعفر بن محمد بن نما الحلّي ، شيخ المحقّق الحلّي والشيخ سديد الدين والد العلّامة الحلّي ، والسيد رضي الدين والسيد أحمد ابن

ص: 10


1- رياض العلماء 5 : 32.
2- روضات الجنات 6 : 277 ط جديد. وتجد رواية ابن إدريس عن أبي المكارم في الأمل 2 : 2. وروايته عن ابن رطبة في الأمل أيضا 2 : 80.
3- رياض العلماء 5 : 32 ، 33 وتجد ترجمة الخيّاط وروايته عن ابن إدريس في أمل الآمل 2 : 210. ورواية السيد فخار الموسوي عنه في 2 : 3. ورواية ابن نما في 2 : 310.

طاوس. وهو والد الشيخ جعفر بن محمد صاحب « مثير الأحزان ».

ونقل المحدث القمّي في « هدية الأحباب » عن المحقّق الكركي في ذكر المحقّق الحلّي ما هذا لفظه :

وأعلم مشايخه بفقه أهل البيت : الشيخ الفقيه السعيد الأوحد محمد بن نما الحلّي.

وأجل أشياخه : الإمام المحقّق قدوة المتأخرين : فخر الدين محمد بن إدريس (1).

ولكن صاحب « روضات الجنات » نقل عن صاحب « صحيفة الصفا في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء » فيمن يروي عنه : الشيخ جعفر بن نما ، وابن ابنه محمد بن جعفر بن نما (2). ولا يسعني التحقيق الآن.

وقد مرّ عن « لؤلؤة البحرين » عن اجازة الشهيد الأول أنّه يروي عن السيد فخار وابن نما (3).

وذكر الحرّ في « أمل الآمل » من تلامذة ابن إدريس : الشيخ طومان بن أحمد العاملي (4).

هل كان ابن إدريس مخلّطا؟

فهرس الشيخ الطوسي « قدس سره » لكتب الشيعة بأمر أستاذه الشيخ المفيد ( ت 413 ) كما أشار إلى ذلك في أوّل « الفهرست » وهذا يعني أنّه قد فهرس لكتب الشيعة حتى نهاية القرن الرابع الهجري أو بداية القرن الخامس ، وبعد قرنين من الزمان كان ذلك بحاجة الى مستدرك ، قام به الشيخان : محمد بن علي

ص: 11


1- هدية الأحباب : 272 ط طهران
2- روضات الجنات 6 : 277 ط قم المقدسة.
3- لؤلؤة البحرين : 279 ط النجف الأشرف
4- أمل الآمل 1 : 103 ط بغداد.

بن شهر آشوب المازندراني ( ت 588 ) ومنتجب الدين علي بن عبيد اللّه ابن بابويه الرازي ( ت بعد 600 ) (1) وهما معاصران لابن إدريس.

وكان منتجب الدين قد دخل الحلّة وشاهد ابن إدريس ، ولكنّه لم يدخل في زمرة تلامذته أو حتى رواته ، وذلك لأنّه كان قد سمع من شيخه سديد الدين محمود الحمصي أنّ ابن إدريس « مخلّط لا يعتمد على تصنيفه » كما ذكره في كتابه (2).

ومن غريب خبطاته ومستطرفاتها نسبته في مستطرفاته الى أبان بن تغلب عدّة أخبار لا ربط لها به. فهو مخلّط في الحديث في أسانيدها ومتونها ، وفي اللغة والأدب والتاريخ والفقه.

ومن خبطه في الفقه : أنّه ينتقد أتباع الشيخ الطوسي بأنّهم يقلّدونه ، بينما هو يقلّده أيضا ، وذلك فيما إذا اتفقت فتاواه ، فإنّه يتبعه حتى ولو كان مستندا الى آحاد ، أمّا إذا اختلفت فتاواه في كتبه فإنّه ( يرجّح الفتوى غير الخبرية ) ويعترض على فتواه الخبرية بكونه تمسكا بالآحاد ، حتى ولو كان مستندا في ذلك الى أخبار ملحقة بالتواتر (3).

أما ما ذكره الشيخ محمود الحمصي من أنّ ابن إدريس « مخلّط لا يعتمد على تصنيفه » فهو صحيح من جهة وباطل من جهة :

أمّا أنّه مخلّط في الجملة فممّا لا شك فيه ، ويظهر ذلك بوضوح من الروايات التي ذكرها فيما استطرفه من كتاب أبان بن تغلب ، فقد ذكر فيها عدّة روايات ممّن لم يدرك الصادق « عليه السلام » ، وكيف يمكن أن يروي أبان المتوفّى في حياة الصادق « عليه السلام » عمّن هو متأخر عنه بطبقة أو طبقتين؟!.

ص: 12


1- فهرست منتجب الدين : 5 ط قم المقدسة.
2- فهرست منتجب الدين : 5 ط قم المقدسة.
3- فهرست منتجب الدين : 5 ط قم المقدسة.

ومن جملة تخليطه : أنّه ذكر روايات استطرفها من كتاب السيّاريّ وقال « واسمه أبو عبد اللّه صاحب موسى والرضا « عليهما السلام » وهذا فيه خلط واضح ، فإنّ السيّاريّ هو أحمد بن محمد بن السيار أبو عبد اللّه ، وهو من أصحاب الهادي والعسكري « عليهما السلام » ولا يمكن روايته عن الكاظم والرضا « عليهما السلام ».

وأمّا قوله « لا يعتمد على تصنيفه » فهو غير صحيح ، وذلك أنّ الرجل من أكابر العلماء ومحقّقيهم ، فلا مانع من الاعتماد على تصنيفه في غير ما ثبت فيه خلافه (1).

وهل كان معرضا عن الأخبار؟

ذكره ابن داود الحلّي ( ت بعد 707 أي بعد قرن من منتجب الدين وابن إدريس ) في الباب الثاني من رجاله ( الضعفاء ) وكأنّه علّل ذلك بقوله : لكنّه أعرض عن أخبار أهل البيت « عليهم السلام ». وفي بعض النسخ زيادة : بالكليّة (2) ومنها نسخة التفرشي التي نقل عنها في كتابه « نقد الرجال » وعلّق عليه فقال : ولعلّ ذكره في باب الموثّقين كان أولى ، لأنّ المشهور أنّه لم يكن يعمل بخبر الواحد ، وهذا لا يستلزم الإعراض بالكليّة ، وإلّا لانتقض بغيره ، مثل السيد المرتضى وغيره (3).

ولعلّه لهذا أعرض بعض النسّاخ عن هذه الزيادة بل كلّ الجملة ، كما في نسخة الحر العاملي ، كما مرّ عنه في « أمل الآمل » قوله : ولم أجده في كتاب ابن

ص: 13


1- معجم رجال الحديث 15 : 70 ، 71 ط النجف الأشرف - الأولى.
2- رجال ابن داود : 498 ط طهران و 269 ط النجف الأشرف.
3- نقد الرجال : 291.

داود في الممدوحين ولا المذمومين ، في النسخة التي عندي (1) وكذلك قال الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » : لم أجده في نسختي من رجال ابن داود ، وهو المنقول عن كثير من نسخه أيضا ، وما وجد فيه ففي القسم الثاني في الضعفاء (2) وكذلك لم ينقل عنه هذه الجملة الأخيرة الأردبيلي في « جامع الرواة » (3).

ونقله البحراني في « لؤلؤة البحرين » عن الحرّ في « أمل الآمل » وعلّق عليه يقول :

( ثمّ إنّ ما نقله في كتاب « أمل الآمل » عن السيد مصطفى من أنّه : ذكره ابن داود في قسم الضعفاء ، مع نقله عنه أوّلا أنّه قال في كتابه : « أنّه كان شيخ الفقهاء في الحلّة متقنا للعلوم كثير التصانيف ) لا يخلو من تدافع ، فإنّ وصفه بما ذكر يوجب دخوله في قسم الممدوحين لا الضعفاء. وأغرب من ذلك قوله « الحرّ العاملي ) بعد : « ولم أجده في كتاب ابن داود لا في الممدوحين ولا في المذمومين » مع أنّ الميرزا محمد صاحب الرجال ( منهج المقال ) قد نقل عن ابن داود عبارة المدح المذكورة ، وهي قوله : « كان شيخ الفقهاء. » (4).

قال : « والتحقيق : أنّ فضل الرجل المذكور وعلوّ منزلته في هذه الطائفة ممّا لا ينكر ، وغلطه - في مسألة من مسائل الفنّ - لا يستلزم الطعن عليه بما ذكره المحقّق المتقدم ذكره ( ابن داود ) وكم لمثله من الأغلاط الواضحة ولا سيما في هذه المسألة ، وهي : مسألة العمل بخبر الواحد. وجملة من تأخر عنه من الفضلاء ، حتى مثل

ص: 14


1- أمل الآمل 2 : 243.
2- منتهى المقال : 260 فلا يتجه ما في تنقيح المقال 2 : 77 : « والميرزا لم ينقل قوله ( ابن داود ) : لكنّه أعرض. ولعلّه كان ساقطا من نسخته أو زائدا في نسختنا ، ولم يشير أيضا الى عدّه إيّاه في الباب الثاني ، فلاحظ » بل أشار وصرّح فانظر وقل : أعوذ باللّه من زيغ البصر.
3- جامع الرواة 2 : 65
4- لؤلؤة البحرين : 280.

المحقّق والعلّامة - الذين هما أصل الطعن عليه - قد اختار العمل بكثير من أقواله » (1).

وعاد فقال أيضا : « وبالجملة : ففضل الرجل المذكور ونبله في هذه الطائفة أظهر من أن ينكر ، وإن تفرّد ببعض الأقوال الظاهرة البطلان لذوي الأفهام والأذهان ، ومثله في ذلك غير عزيز ، كما لا يخفى على الناظر المنصف » (2).

وبعد ما نقل الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » مقالة ابن داود قال :

« ولا يخفى ما فيه من الجزاف ، وعدم سلوك سبيل الإنصاف ، فإنّ الطعن في هذا الفاضل الجليل ، سيّما والاعتذار بهذا التعليل ، فيه ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ عمله بأكثر الكثير من الأخبار ممّا لا يقبل الاستتار ، سيّما ما استطرفه في أواخر « السرائر » من أصول القدماء « رضي اللّه عنهم ».

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم العمل بأخبار الآحاد ليس من متفرداته ، بل ذهب إليه جملة من أجلّة الأصحاب : كعلم الهدى ، وابن زهرة ، ( شيخه ) وابن قبة ، وغيرهم. فلو كان ذلك موجبا للتضعيف لوجب تضعيفهم أجمع ، وفيه ما فيه (3).

وعلّق عليه المامقاني في « تنقيح المقال » فقال : ومن غريب ما وجدته في المقام ما صدر من ابن داود ، حيث أنّه مع مدحه له أورده في الباب الثاني فقال : محمد بن إدريس العجليّ الحلّي ، كان شيخ الفقهاء ، بالحلّة. فإنّ هذا المدح لا يناسب عدّه إيّاه في الباب الثاني ، مع أنّه من عادته عدّ الإماميّ في الباب الأوّل وإن لم يوثق بل وإن لم يمدح ، وكون الحلّي إماميّا ممّا لا تأمّل فيه لأحد. وما نسبه إليه من تركه لأخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكلّيّة ، بهتان صرف ، فإنّه إنّما ترك أخبار الآحاد كعلم الهدى ، لا مطلق الأخبار حتى المتواتر

ص: 15


1- لؤلؤة البحرين : 279
2- لؤلؤة البحرين : 280
3- منتهى المقال : 260.

والمحفوف بالقرائن القطعيّة ، ويومئذ ، أكثر الأخبار التي هي اليوم من الواحد كان عندهم من المحفوفة بالقرائن ، كما لا يخفى على الخبير (1).

وقال الفقيه التستري في « قاموس الرجال » أقول : نسبة الاعراض إليه بالكلّيّة غلط ، كيف وسرائره كلّه من طهارته إلى دياته مبتن على أخبارهم ( عليهم السلام ) ، والرجل من علماء الإماميّة ولا يعقل إعراض إمامي عن أخبارهم ( عليهم السلام ). وانما هو كالمفيد والمرتضى لا يعمل بأخبار الآحاد ، الّا أنه كان لا يعرف الآحاد من غير الآحاد (2).

وقال المحقّق الخوئي في معجمة : أمّا قول ابن داود : أنّه أعرض عن أخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكلّيّة. فهو باطل جزما ، فإنّه اعتمد على الروايات في تصنيفاته ، وكتبه مملوءة من الأخبار. غاية الأمر أنّه لم يكن يعمل بالأخبار الآحاد ، فيكون حاله كالسيّد المرتضى وغيره ممّن لم يكونوا يعملون بالخبر الواحد غير المحفوف بالقرائن (3).

« وأوّل من زعم أنّ أكثر أحاديث أصحابنا - المأخوذة من الأصول التي ألقوها بأمر أصحاب الأئمة ( عليهم السلام ) وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى - أخبار آحاد خالية عن القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العترة ( عليهم السلام ) ، هو : محمد بن إدريس الحلّيّ ، ولأجل ذلك تكلّم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة ، المأخوذة من تلك الأصول. وقد وافق رئيس الطائفة وعلم الهدى ومن تقدم عليهما في أنّه لا يجوز العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة الموجبة للقطع ، وغفل عن أنّ أحاديث أصحابنا ليست من ذلك القبيل » (4).

ص: 16


1- تنقيح المقال 3 : 77
2- قاموس الرجال 8 : 45.
3- معجم رجال الحديث 15 : 71 ط النجف الأشرف - الأولى.
4- روضات الجنات 6 : 249 عن مقدمة شرح التهذيب.

ابن إدريس وابن زهرة :

مرّ علينا في مشايخه : أبو المكارم حمزة الحسيني ، وهو حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي ( ت 585 ) عمّ تلميذه : محمد بن عبد اللّه بن زهرة ، وهو صاحب كتاب « غنية النزوع الى علمي الفروع والأصول » (1).

« ونحن إذا لاحظنا أصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه وبين فقه ( تلميذه ) ابن إدريس تميّزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي : الخروج على آراء الشيخ والأخذ بوجهات نظر تتعارض مع موقفه الأصولي أو الفقهي ، وكما رأينا ابن إدريس يحاول في « السرائر » تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلّة ، كذلك نجد ابن زهرة يناقش في « الغنية » الأدلّة التي جاءت في كتاب « العدّة » ويستدلّ على وجهات نظر معارضه ، بل يثير أحيانا مشاكل أصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب « العدّة » بذلك النحو.

ولا بأس أن نذكر مثالين أو ثلاثة للمسائل التي اختلف فيها رأي ابن زهرة عن رأي الشيخ :

فمن ذلك : مسألة دلالة الأمر على الفور ، فقد كان الشيخ يقول بدلالته على الفور ، وأنكر ابن زهرة ذلك وقال : إنّ صيغة الأمر حيادية لا تدل على فور ولا تراخ.

ومن ذلك أيضا : مسألة اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها ، فقد كان الشيخ يقول بالاقتضاء ، وأنكر ابن زهرة ذلك ، مميّزا بين مفهومي : الحرمة والفساد ، ونافيا للتلازم بينهما.

ص: 17


1- هدية الأحباب : 70 ط طهران.

ومن ذلك : أن آثار ابن زهرة في بحوث العام والخاص مشكلة حجيّة العام المخصّص ، في غير مورد التخصيص. بينما لم تكن هذه المشكلة قد أثيرت في كتاب « العدّة ».

وقد جاء في كتاب المزارعة من « السرائر » ما يدلّ على أنّ ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم - ومنهم أبو المكارم ابن زهرة - إذ كتب عن رأي فقهي يقول : « والقائل بهذا القول السيد العلوي أبو المكارم ابن زهرة الحلبي ، شاهدته ورأيته ، وكاتبته وكاتبني وعرّفته ما ذكره في تصنيفه ( الغنية ) من الخطأ ، فاعتذر - رحمه اللّه - بأعذار غير واضحة » (1) فنرى ابن إدريس قد أخذ المناقشة والتجديد الفقهي من شيخه ابن زهرة.

ابن إدريس والاجتهاد و « السرائر » :

يقول ابن إدريس في مقدّمة كتابه « السرائر » : فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا هي من اللّه سبحانه ، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها ، أو الإجماع ، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية - عند المحقّقين الباحثين عن مآخذ الشريعة - التمسّك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذه الطرق نتوصل الى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها ، فمن تنكّر عنها عسف وخبط خبط عشواء ، وفارق قوله المذهب.

فقد قال السيد المرتضى « رضي اللّه عنه » في جواب ( المسألة الثانية ) من المسائل الموصليات :

« اعلم أنّه لا بدّ في الأحكام الشرعية من طريق يوصل الى العلم بها ، لأنّا متى

ص: 18


1- وراجع المعالم الجديدة في الأصول للشهيد الصدر : 73 ، 74 ط النجف الأشرف.

لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوزنا كونه مفسدة ، فيقبح الاقدام منّا عليه ، لأنّ الإقدام على مالا نأمن من كونه فسادا أو قبيحا ، كالإقدام على ما نقطع على كونه فسادا ، ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا إليه طريقا إلى الأحكام الشرعيّة ، من حيث كان القياس يوجب الظنّ ولا يفضي الى العلم ، ألا ترى تظن - بجمل الفرع في التحريم على أصل محرم بنسبة تجمع بينهما - أنّه محرّم مثل أصله ، ولا نعلم - من حيث ظننّا أنّه يشبه المحرم - أنّه محرم وكذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن ظننت به الصدق ، فإنّ الظن لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه اقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا وغير صلاح.

قال : وقد تجاوز قوم من شيوخنا « رحمهم اللّه » في إبطال القياس في الشريعة ، والعمل فيها بأخبار الآحاد ، الى أن قالوا : إنّه يستحيل من طريق العقول العبادة ( التعبّد ) بالقياس في الأحكام. وأحالوا أيضا من طريق العقول العبادة ( التعبّد ) بالعمل بأخبار الآحاد. وعوّلوا على أنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، وإذا كان غير متيقن في القياس وأخبار الآحاد لم تجز العبادة ( التعبّد ) بهما.

والمذهب الصحيح هو غير هذا ، لأنّ العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد ، ولو تعبد اللّه تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحة ، لأنّ عبادته ( تعبّده ) تعالى بذلك يوجب العلم الذي لا بدّ أن يكون العمل تابعا له ، فإنّه لا فرق - بين أن يقول صلى اللّه عليه وآله وسلم : قد حرّم عليكم كذا وكذا فاجتنبوه ، وبين أن يقول : إذا أخبركم عني مخبر - له صفة العدالة - بتحريمه فحرّموه - في صحة الطريق الى العلم بتحريمه ، وكذلك إذا قال : لو غلب في ظنكم شبه لبعض الفروع ببعض الأصول في صفة يقتضي التحريم فحرّموه ، فقد حرّمته

ص: 19

عليكم ، ولكان هذا أيضا طريقا الى العلم بتحريمه وارتفاع الشك والتجويز.

فليس متناول العلم هنا متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأمّلون ، لأنّ متناول الظنّ هنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمّنه الخبر ، وما علمناه غير ما ظننّاه. وكذلك في القياس متناول الظنّ شبه الفرع بالأصل في علة التحريم ، ومتناول العلم كون الفرع محرّما.

وإنّما منعنا من القياس في الشريعة وأخبار الآحاد - مع تجويز العبادة ( التعبّد ) بهما من طريق العقول - لأنّ اللّه تعالى ما تعبّد بهما ، ولا نصب دليلا عليهما ، ومن هذا الوجه طرحنا العمل بهما ونفينا كونهما طريقين الى التحريم والتحليل.

قال المرتضى « قدس سره » : « وإنّما أردنا بهذه الإشارة أنّ أصحابنا كلّهم سلفهم وخلفهم ، متقدّمهم ومتأخّرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن العمل بالقياس في الشريعة ، ويعيبون أشدّ عيب على الراغب إليهما والمتعلّق في الشريعة بهما ، حتى صار هذا المذهب - لظهوره وانتشاره - معلوما ضرورة منهم وغير مشكوك فيه من أقوالهم ».

وبعد نقل كلام السيد « قدس سره » قال ابن إدريس : « هذا آخر كلام المرتضى « رحمه اللّه » حرفا فحرفا. فعلى الأدلّة المتقدّمة أعمل وبها آخذ وافتي وأدين اللّه تعالى ، ولا ألتفت الى سواد مسطور وقول بعيد عن الحق مهجور ، ولا « اقلّد » إلّا الدليل الواضح والبرهان اللائح ، ولا أعرّج الى أخبار الآحاد ، فهل هدم الإسلام إلّا هي.

وهذه المقدّمة أيضا من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا ، ليكون قائما بنفسه ومقدّما في جنسه ، وليغني الناظر فيه - إذا كان له أدنى طبع - عن أن يقرأه على من فوقه ، وإن كان لأفواه الرجال معنى لا يوصل إليه من أكثر الكتب في أكثر الأحوال » (1).

ص: 20


1- انظر مقدمة المؤلّف ص 51.

وعمّا كان له من الدور الكبير في بث الحياة من جديد في الفكر العلمي ومقاومته لتلك الفترة من الفتور العلمي التقليدي بعد شيخ الطائفة الطوسي « قدس سره » فقد كتب في بداية مقدّمته هذه للكتاب فقال : « إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ، وتثاقلهم طلبها وعداوتهم لما يجهلون وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا - لغلبة الغباوة عليه .. مضيعا لما استودعته الأيام ، مقصّرا في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتى كأنّه ابن يومه ونتيج ساعته .. ورأيت العلم عنانة في يد الامتهان ، وميدانه قد عطّل منه الرهان تداركت منه الذماء الباقي ، وتلافيت نفسا بلغت التراقي » (1).

بين « السرائر » و « المبسوط » :

ولا بأس هنا بدراسة « كتاب السرائر » ومقارنته بكتاب « المبسوط » وبذلك يمكننا أن ننتهي إلى النقاط التالية :

1 - إنّ « كتاب السرائر » يبرز العناصر الأصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورة أوسع ممّا يقوم به كتاب « المبسوط » بهذا الصدد ، فعلى سبيل المثال نذكر : أنّ ابن إدريس أبرز في استنباطه لأحكام المياه ثلاث قواعد أصولية وربط بحثه الفقهي بها ، بينما لا نجد شيئا منها في أحكام المياه من كتاب « المبسوط » وإن كانت هي بصيغتها النظرية العامة موجودة في كتب الأصول قبل ابن إدريس.

2 - إنّ الاستدلال الفقهي لدى ابن إدريس أوسع منه عمّا في كتاب « المبسوط » وهو يشتمل في النقاط التي يختلف فيها مع الشيخ على توسّع في الاحتجاج وتجميع الشواهد ، حتى أنّ المسألة التي لا يزيد بحثها في « المبسوط » على

ص: 21


1- انظر مقدمة المؤلّف ص 41.

سطر واحد قد تبلغ في « السرائر » صفحة مثلا ، ومن هذا القبيل : مسألة طهارة الماء المتنجّس إذا تمّم كرّا بماء متنجس أيضا ، فقد حكم الشيخ في « المبسوط » ببقاء الماء على النجاسة ولم يزد على جملة واحدة في توضيح وجهة نظره ، وأمّا ابن إدريس فقد اختار طهارة الماء في هذه الحالة ، وتوسّع في بحث المسألة ، ثم ختمه قائلا : « ولنا في هذه المسألة منفردة نحو من عشر ورقات قد بلغنا فيها أقصى الغايات ، وحججنا القول فيها والأسئلة والأدلّة والشواهد من الآيات والأخبار ».

ونلاحظ في النقاط التي يختلف فيها ابن إدريس مع الشيخ الطوسي اهتماما كبيرا منه باستعراض الحجج التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها. وهذه الحجج التي يستعرضها ويفنّدها إمّا أن تكون من وضعه وإبداعه يفترضها افتراضا ثمّ يبطلها لكي لا يبقى مجالا لشبهة في صحة موقفه ، أو أنّها تعكس مقاومة الفكر التقليدي السائد لآراء ابن إدريس الجديدة ، أي أنّ الفكر السائد استفزّته هذه الآراء وأخذ يدافع عن آراء الشيخ الطوسي ، فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفنّدها. وهذا يعني أن آراء ابن إدريس كان لها رد فعل وتأثير معاصر على الفكر العلمي السائد الذي اضطره ابن إدريس للمبارزة.

ونحن نعلم من « كتاب السرائر » أن ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ، ولم يكن منكمشا في نطاق تأليفه الخاص ، فمن الطبيعي أن يثير ردود الفعل وأن تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حجج لتأييد رأي الشيخ.

كما نلمح في بحوث ابن إدريس ما كان يقاسيه من المقلّدة الذين تعبّدوا بآراء الشيخ الطوسي ، وكيف كان يضيق بجمودهم. ففي مسألة تحديد مقدار الواجب نزحه من البئر إذا مات فيها كافر ، يرى ابن إدريس أن الواجب نزح جميع ما في البئر ، بدليل : أنّ الكافر إذا باشر ماء البئر وهو حيّ وجب نزحها جميعا اتفاقا فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولى. وإذا كان هذا الاستدلال - الاستدلال بالأولويّة - يحمل طابعا عقليّا جزئيّا بالنسبة إلى مستوى العلم الذي عاصره ابن

ص: 22

إدريس ، فقد علّق عليه يقول : « وكأنّي بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول : من قال هذا؟ ومن ينظره في كتابه؟ ومن أشار من أهل هذا الفن - الذين هم القدوة في هذا - اليه »؟.

وأحيانا نجد ابن إدريس يحتال على المقلّدة ، فيحاول أن يثبت لهم أنّ الشيخ الطوسي يذهب الى نفس رأيه ، ولو بضرب من التأويل. ففي مسألة الماء المتنجّس المتمّم كرا بمثله يفتي بالطهارة ، ويحاول أن يثبت ذهاب الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضا فيقول : « فالشيخ أبو جعفر الطوسي - الذي يتمسك بخلافه ويقلّد في هذه المسألة ويجعل دليلا - يقوّي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله ، وأنا أبيّن ان شاء اللّه أنّ أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلّيّة إذا تؤمّل في كلامه وتصنيفه حق التأمّل ، وأبصر بالعين الصحيحة ، واحضر له الفكر الصافي ».

آثار هذه الحركة العلمية :

واستمرت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتسع وتزداد ثراء عبر الأجيال ، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الأصول والفقه وأبدعوا :

فمن هؤلاء : المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن ( ت 676 ه ) وهو تلميذ تلامذة ابن إدريس ، ومؤلف الكتاب الفقيه الكبير « شرائع الإسلام » الذي أصبح بعد تأليفه محورا للبحث والتعليق والتدريس في الحوزة بدلا عن كتاب « النهاية » الذي كان الشيخ الطوسي قد ألّفه قبل « المبسوط ».

وهذا التحوّل من « النهاية » إلى « الشرائع » يرمز الى تطوّر كبير في مستوى العلم ، لأنّ كتاب « النهاية » كان كتابا فقهيا يشتمل على أمّهات المسائل الفقهية وأصولها ، أمّا الشرائع فهو كتاب واسع يشتمل على التفريع وتخريج

ص: 23

الأحكام وفقا للمخطّط الذي وضعه الشيخ في « المبسوط » فاحتلال هذا الكتاب المركز الرسمي لكتاب « النهاية » في الحوزة ، واتجاه حركة البحث والتعليق إليه يعني أنّ حركة التفريع والتخريج قد عمّت واتسعت حتى أصبحت الحوزة كلّها تعيشها. وله في الأصول « معارج الوصول الى علم الأصول » و « نهج الوصول الى علم الأصول ».

ومن أولئك النوابغ : تلميذ المحقّق وابن أخته المعروف بالعلّامة الحلّي الحسن بن يوسف ( ت 726 ه ) وله في الأصول « مبادئ الوصول الى علم الأصول » و « تهذيب الوصول الى علم الأصول » (1) وكأنّه أراد أن يجعل بالأوّل مرقاة لمعارج المحقّق ، وبالثاني تهذيبا لنهجه ، والذي هو بدوره كان تيسيرا للطلبة للوصول الى ما في كتابي « العدّة » للطوسي و « الذريعة » للمرتضى من الأصول. واستمرت هذه الكتب الأصولية الأربعة للأستاذ المحقّق والتلميذ العلّامة هي محور البحث الأصولي في الحوزة في الحلّة في القرون : الثامن والتاسع والعاشر الهجري ، حتى نسخها كتاب « معالم الدين وملاذ المجتهدين » للحسن بن زين الدين الجبعي العاملي ( ت 1011 ه ) الذي مثّل فيه المستوي العالي لعلم الأصول في عصره بتنظيم جديد وتعبير يسير ، الأمر الذي جعل لهذا الكتاب شأنا كبيرا في عالم البحوث الأصولية ، حتى أصبح كتابا دراسيّا في هذا العلم ، وتناوله المعلّقون بالتعليق والنقد. وقاربه قرينه « زبدة الأصول » للشيخ البهائي محمد بن الحسين العاملي ( ت 1031 ه ).

هذا جانب من نماذج النتائج التي تمخّضت عنها الحركة العلمية الأصولية والفقهية التحقيقية الاستدلالية لابن إدريس في الحلّة بالعراق ، والتي استمرت فيها حتى القرن العاشر حيث انتقل الازدهار العلمي من الحلّة في العراق الى

ص: 24


1- من المعالم الجديدة في الأصول للشهيد الصدر « قدس سره » : 72 - 76 بتصرّف.

أصفهان عاصمة الدولة الايرانية الصفويّة ، التي اتخذت التشيّع مذهبا رسميّا ، وقرّبت علماء عاملة ليعملوا في الدعوة الى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتأسيس ورعاية الحوزة العلمية الجعفرية.

آثار المؤلف :

مرّ علينا فيما مضى أن أوّل من ذكره من أرباب الفهارس والتراجم والرجال هو معاصره الشيخ منتجب الدين علي بن عبيد اللّه الرازي ( ت بعد 600 ) فإنّه ذكره في فهرسه وقال : له تصانيف منها : « كتاب السرائر » (1).

ثم ذكره ابن داود الحلّي ( ت بعد 707 ) فقال : كثير التصانيف (2).

ونقلهما الحرّ العاملي ( ت 1104 ) في « أمل الآمل » ثم أكمل اسم الكتاب فقال من مؤلفاته :

« كتاب السرائر » الحاوي لتحرير الفتاوي ، وهو الذي تقدّم ذكره.

وفي بعض نسخ « الأمل » زيادة : وله أيضا « كتاب التعليقات » كبير ، وهو حواش وإيرادات على « التبيان » لشيخنا الطوسي ، شاهدته بخطّه في فارس (3).

وقد نقل قول الحرّ هذا مع هذه الزيادة المولى عبد اللّه الأصفهاني في « رياض العلماء » ممّا يرجّح أن تكون من الحرّ نفسه ، وعلّق الأصفهاني على هذه الزيادة في نسخته من « الأمل » قال : وقد رأيته ( التعليقات ) بخطه في شيراز عند أمير محمد شريف ، المستوفي لتلك النواحي ، في جملة كتبه الموقوفة على مدرسته ، وقد

ص: 25


1- الفهرست له : 173 برقم 421 ط قم المقدسة.
2- رجال ابن داود : 498 ط طهران و 269 ط النجف الأشرف.
3- أمل الآمل 2 : 244 ط بغداد.

شاهدت قطعة منه في أصفهان أيضا (1) إذن فالمقصود بقول الحرّ « فارس » : فارس شيراز ، ويدلّ على سفر الحرّ الى شيراز أيضا.

وأضاف في « الرياض » : ومن مؤلفاته : « رسالة في معنى الناصب نسبها إليه سبطه الشيخ علي الكركي في رسالة « رفع البدعة في حلّ المتعة » ويروي عنها الرواية.

وعن نسخ « كتاب السرائر » قال : وقد رأيت من « كتاب السرائر » نسخا كثيرة :

من أحسن ما رأيته : ما وجدته في كتب المرحوم آميرزا فخر المشهدي ، وهو نسخة عتيقة ، صحيحة جدا ، قريبة العهد بزمان المصنف بل كتبت في زمانه.

وتاريخ تأليف « السرائر » على ما يظهر من كتاب الصلح منه : سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

ورأيت في خزانة الشيخ صفي في أردبيل ( في مقبرة الشيخ السيد صفي الدين الموسوي الأردبيلي جدّ سلسلة الملوك الصفويين ) قطعة اخرى من هذا الكتاب كتبت أيضا في زمن المصنف وقرئ على السيد فخار بن معد الموسوي تلميذ المصنف ، وعليه أيضا بلاغات. واجازة بخط يوسف بن علوان ، في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وستمائة ، للشيخ محمد بن الزنجي ، يرويه عن علي بن يحيى الخيّاط ، عن مصنفه.

ورأيت أيضا نسخة عتيقة منه في بلدة « أشرف » من بلاد « مازندران » (2).

وكان يبدو لي أنّ « الحاوي » وهو لفظ مذكّر كيف يكون وصفا للفظ « السرائر » وهو مؤنث ، وأقدّر أنّ هذا الكتاب من الكتب التي يجب ذكر لفظ الكتاب في أوّل اسمه فيكون « الحاوي » وصفا للكتاب : كتاب السرائر ،

ص: 26


1- هامش رياض العلماء 5 : 32
2- رياض العلماء 5 : 33.

الحاوي لتحرير الفتاوي. حتى وجدت الصفدي في « الوافي بالوفيات » ترجم له وقال : كان عديم النظير في الفقه ، صنّف « كتاب الحاوي لتحرير الفتاوي » ولقّبه ب- « كتاب السرائر » وهو كتاب مشهور بين الشيعة.

ثم قال : وله كتاب « خلاصة الاستدلال » و « منتخب كتاب التبيان » ولكنّه أخطأ فقال : فقه و « المناسك » وغير ذلك في الأصول والفروع.

وله تلامذة وأصحاب ، ولم يكن في وقته مثله ، ومدحه بعض الشعراء بقصيدة فضّله فيها على الشافعي.

توفي في سنة سبع وتسعين وخمسمائة (1).

فتاواه النادرة :

وأمّا الفتاوى النادرة والأقوال الشاذّة المنسوبة الى ابن إدريس ، فهي كثيرة :

منها : قوله بنجاسة مطلق من لا يعتقد الحق ولا يدين اللّه بمذهب الشيعة الإماميّة.

ومنها : قوله بنجاسة ولد الزنا وإن كان من الشيعة الإماميّة ظاهرا.

ومنها : قوله بجواز الابتداء بالأسفل في مواضع الغسل من الوضوء.

ومنها : قوله بوجوب إخراج الضيف زكاة فطرة نفسه ، وإخراج المضيف زكاته أيضا.

ومنها : قوله بعدم اشتراط الفقر في استحقاق يتامى أولاد هاشم الخمس عملا بظاهر الآية.

ومنها : قوله بعدم إيجاب تعمّد القي ء في الصيام القضاء فضلا عن الكفارة.

ص: 27


1- الوافي بالوفيات 2 : 183 ط 2 ولخّصه ابن حجر في لسان الميزان 5 : 65.

ومنها : قوله بوجوب النفقة على الصغيرة مع عدم جواز وطئها.

ومنها : قوله بعدم إيجاب وطء الصغيرة تحريمها المؤبد.

ومنها : قوله بعدم جواز امتناع المعقود عليها غير المدخول بها من تسليم نفسها حتى تقبض مهرها مع إعسار زوجها.

ومنها : قوله بالقرعة فيما إذا اشتبهت المطلّقة من الأربع ، وتزوّج بالخامسة ، ثم مات المطلّق قبل تعيين المطلّقة (1).

هل تجاسر ابن إدريس على الشيخ؟

من الغريب ما تداول على الألسن : أنّ ابن إدريس كان يتجاسر على الشيخ الطوسي ، والأغرب أنّ المامقاني نسب ذلك الى كتاب ابن إدريس وقال : « أقول : في مواضع من « السرائر » .. حتى أنّه في كتاب الطهارة عند نقل قول بالنجاسة عن الشيخ يقول : « وخالي شيخ الأعاجم تفوه من فيه رائحة النجاسة » وهذا منه قد بلغ في إساءة الأدب النهاية (2).

أقول : إنّ ما ذكره « قدس سره » خلاف الواقع ، فليس من ذلك في « كتاب السرائر » عين ولا أثر ، ويدلّ على ذلك : أنّ الشيخ أبا جعفر الطوسي لم يكن خالا لابن إدريس وانّما هو جدّه لامه ، والشيخ المامقاني لم يلاحظ كتاب ابن إدريس وإنّما ذكر ذلك اعتمادا على ما سمعه من أفواه الناس وكيف يتكلّم ابن إدريس بمثل ذلك وهو يعظّم الشيخ أبا جعفر في موارد عديدة :

منها : قوله في أوائل الكتاب في توبيخ المتمسّكين بالأخبار الآحاد حتى في أصول الدين : « فقد قال الشيخ السعيد الصدوق أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه

ص: 28


1- روضات الجنات 6 : 289 ط جديد.
2- تنقيح المقال 3 : 77.

وتغمّده اللّه تعالى برحمته » (1).

ومنها : ما قاله في باب صلاة الجمعة وأحكامها ، فإنّه ذكر بعد نقل كلام عن السيد المرتضى حكاه الشيخ أبو جعفر الطوسي « قدس سره » : ولم أجد للسيد المرتضى تصنيفا ولا مسطورا بما حكاه شيخنا عنه .. ولعل شيخنا أبا جعفر سمعه من المرتضى في الدرس وعرفه منه مشافهة دون المسطور ، وهذا هو العذر البيّن ، فان الشيخ لا يحكي - بحمد اللّه تعالى - إلّا الحق اليقين ، فإنه أجلّ قدرا وأكثر ديانة من أن يحكي ما لم يسمعه ويحققه منه (2).

وأما منشأ هذه القصة التي لا أساس لها : فهو قصور الفهم عن درك مراد ابن إدريس « قدس سره » من العبارة التي نذكرها له ، فإنه « قدس سره » ذهب الى أنّ الماء المتمّم كرّا طاهر حتى فيما إذا كان المتمّم والمتمّم نجسين ، واستشهد لذلك بما رواه من « أن الماء إذا بلغ كرّا لم يحمل خبثا » ثم أيّد ذلك : بأنّه يستفاد ويستشم من كلام أبي جعفر الطوسي « قدس سره » قال : « فالشيخ أبو جعفر الطوسي « رحمه اللّه » الذي يتمسك بخلافه ويقلّد في هذه المسألة ويجعل دليلا ، يقوّي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله ، وأنا أبيّن ان شاء اللّه أن أبا جعفر « رحمه اللّه » يفوه من فيه رائحة تسليم المسألة بالكلّيّة ، إذا تؤمّل كلامه وتصنيفه حق التأمّل ، وأبصر بالعين الصحيحة ، وأحرز له الفكر الصافي ، فإنّه فيه نظر ولبس » فترى أنه يستظهر من الشيخ « قدس سره » القول بالطهارة ، استنصارا لمذهبه. وأين هذا من القصة الفضيعة (3).

هدا ، وقد رتبوا على هذه القصة الفضيعة المفتعلة أنّه « قدس سره » لذلك توفي في الخامسة والثلاثين من عمره ، بينما :

ص: 29


1- انظر مقدّمة المؤلّف ص 52.
2- انظر أحكام صلاة الجمعة من الكتاب ص 296.
3- معجم رجال الحديث 15 : 71 - 73 ط النجف الأشرف - الأولى.

ولادته ووفاته وقبره :

قال الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » : والذي رأيته في « البحار » عن خط الشهيد « قدس سره » هكذا قال : الشيخ الإمام أبو عبد اللّه محمد بن إدريس الإماميّ العجليّ ، بلغه الحلم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، وتوفي إلى رحمة اللّه ورضوانه سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. انتهى. وعلى هذا يكون عمره خمسا وثلاثين. ولكن في الرسالة المشهورة للكفعمي « قدس سره » في « وفيات العلماء » بعد ذكر تاريخ بلوغه كما ذكر قال : بل وجد بخط ولده « صالح » : « توفّي والدي محمد بن إدريس « رحمه اللّه » يوم الجمعة وقت الظهر ثامن عشر شوال ، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة » فيكون عمره تقريبا : خمسة وخمسون سنة (1).

والظاهر أن ولده « صالح » هذا الذي ذكره الكفعمي « قدس سره » في رسالته « وفيات العلماء » هو أبو محمد ، الذي ذكر صاحب « التكملة » أنّه وقف على نسخة من نسخ « الأمالي » في آخرها : كتب من نسخة كتبت بيد الشيخ علي بن أبي محمد بن أحمد بن منصور. وصورة ما في الأصل : تم كتاب « الأمالي » آخر نهار الجمعة ثاني شوال سنة ستمائة وثمان عشرة ، والحمد لله. كتبه علي بن أبي محمد بن أحمد بن منصور بن إدريس العجليّ الحلّي حامدا مصلّيا. انتهى (2).

وقد ترجم لابن إدريس كثير من أرباب التراجم وكثير منهم أو غير واحد

ص: 30


1- منتهى المقال : 260.
2- عن تنقيح المقال 3 : 77. هذا ، وقد أغرب صاحب التكملة حيث قال : لم نجد في كتب التراجم نسبة ابن إدريس إلى منصور ، وتصوّر أنّ أحمد بن منصور هو أخو ابن إدريس وأنّ علي بن أبي محمد حفيد أخي ابن إدريز. كما في التنقيح عنه.

منهم قالوا :

كانت ولادته سنة 543 ه وتوفي يوم الجمعة وقت الظهر ثامن عشر شهر شوال سنة 598 ه فيكون عمره تقريبا : خمسا وخمسين سنة.

« ومرقد ابن إدريس - اليوم - في الحلّة واقع في ( محلة الجامعين ) وكان له قديما مسجد ، وقد تهدّم واندرست آثاره وصار المكان مجمعا للأوساخ ممّا لا يتناسب ومكانة المرقد. فقام جماعة من أبناء الحلّة وجمعوا مبالغ لبنائه ، ونفدت المبالغ المجموعة ولم يتمّ بناؤه ، بل لم تكف المبالغ إلّا لبناء الأسس. فأكمله الحاج حسن المرجان على أحسن ما يرام وبنى قبة جميلة على المرقد من الحجر القاشاني قائمة على أربعة أعمدة ، وبنى مأذنة عالية بجنبه كلفت مبالغ طائلة وذلك عام 1381 ، وصار هذا المحل محطّ أنظار أهل الدين والفضل ومحطّ رحال الزائرين ، وتقام فيه المآتم الحسينية والحفلات الدينية في كلّ وقت ، حيث هو محلّ واسع يزيد على ثلاثة آلاف متر ، ومن حيث الموقع يتصل بعدّة شوارع مهمّة في البلد » (1).

ص: 31


1- هامش لؤلؤة البحرين : 277 ، 278 للسيد محمد صادق بحر العلوم « قده ».

منهج التحقيق

نسخ الكتاب :

في تحقيق الكتاب اعتمدت لجنة التحقيق على عدّة نسخ هي كما يلي :

1 - نسخة كتبت في سنة 603 ه أي بعد وفاة المؤلف بخمس سنين ، في مدينة الكاظمين عليهما السلام ، بخط علي بن جعفر بن عبد اللّه بن حبشي الجعفري ، قوبلت وصححت على نسخة خط المصنّف ، وعليها بلاغات وتصحيحات في الهوامش وأواخر الأبواب.

وهي من أول كتاب الجهاد « الجزء الثاني من الكتاب » حتى آخر المستطرفات ، ومن مزايا هذه النسخة أنّها كانت للشيخ البهائي « قدس سره » أوقفها على روضة الامام الرضا عليه السلام ، وهي اليوم من كتب مكتبة الامام الرضا « آستان قدس » برقم 712 من الكتب الفقهية والرقم العام 2774 ، وكانت هي النسخة المعتمدة من أوّل كتاب الجهاد الى آخر الكتاب.

2 - نسخة كتبت سنة 639 ه ، وقد قوبلت بنسخة خط المصنف كما تشهد بذلك البلاغات والتصحيحات في هوامشها ، وقد جاء في آخرها : « بلغ مقابلة بخط المصنف « رضي اللّه عنه » وصحّ إلّا ما زاغ عنه النظر وحسر عنه البصر » وفي نهايتها حكاية خط المصنف.

وهي من كتب مكتبة « مجلس الشورى الإسلامي » برقم 62804 / 3371 تبدأ من أوائل باب أحكام السهو والشك في الصلاة حتى آخر كتاب الحج ، ولكنها نسخة جيدة قليلة الأغلاط ، ولذلك اعتمد عليها بعنوان نسخة الأصل في الجزء الأوّل من الكتاب والرمز إليها « م ».

3 - نسخة جيدة الخط وقليلة الغلط ، من أوّل الكتاب حتى آخر الكتاب ومن المستطرفات الأحاديث الرؤية عن كتاب موسى بن بكر الواسطي فقط ، وهي من كتب المكتبة المركزية لجامعة طهران « كتابخانه مركزى دانشگاه تهران » كتبت

ص: 32

في سنة 958 ه وسجّلت في المكتبة برقم 6651 ، اعتمد عليها بعنوان نسخة الأصل من أوّل الكتاب حتى أوائل باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة ، ورمزنا في سائر المواضع الى موارد اختلافها في الهامش برمز « ج ».

4 - نسخة من باب النذور والعهود وطرف من المستطرفات ، كتبت في سنة 1015 ه بخط إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القطيفي النجفي (1) ، واستفيد منها في مقابلة المستطرفات والرمز إليها « ط » وهي نسخة جيدة قليلة الغلط ، من كتب مكتبة حجة الإسلام الحاج السيد محمد علي الطبسي « سلمه اللّه تعالى ».

5 - نسخة كاملة كتبت سنة 1243 بخط السيد أبي القاسم ابن السيد حسين الرضوي الخوانساري ، استفيد منها في المقابلة والرمز إليها « ل » وهي من كتب مكتبة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد مهدي اللاجوردي القمي « رعاه اللّه » فقد تفضل على المؤسسة بجعل أصل النسخة في اختيار هيئة التحقيق.

6 - النسخة المطبوعة طبعة حجرية قديمة في سنة 1270 ه استفيد منها في المقابلة وذكر موارد اختلافها في الهوامش بكلمة « المطبوع ».

والعمدة في مقابلة الثلث الأوّل من الكتاب كانت نسخة « المجلس » بينما العمدة في مقابلة الثلثين التاليين كانت نسخة مكتبة الامام الرضا عليه السلام برمز « ق ».

ولمكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي « دام ظله » نسخة ، ولكن لم يعتمد عليها لكثرة ما فيها من أغلاط. ومن اللّه التوفيق وعليه التكلان.

ص: 33


1- الكاتب إبراهيم بن محمد متولد وساكن في النجف الأشرف ، وجده إبراهيم القطيفي النجفي الظاهر أنّه هو الشيخ إبراهيم القطيفي الذي كان يمنع من السجود على التربة المطبوخة ، فردّه معاصره الشيخ على الكركي برسالة ذكرها المولى عبد اللّه الأصفهاني في « رياض العلماء » ونقلها عنه آقا بزرگ الطهراني في الذريعة 12 : 148 برقم 997 ، فرغ من الرسالة سنة 933 ه. مما يكشف عن أن السجود على التربة المطبوخة كأنّها بدأت مع بداية الدولة الصفوية بعد 910 ه فكانت مسألة مستحدثة يومئذ.

الصورة

ص: 34

الصورة

ص: 35

الصورة

ص: 36

الصورة

ص: 37

الصورة

ص: 38

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الأول

ص: 39

ص: 40

« هذا كتاب السّرائر »

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه ثقتي

الحمد لله الذي خلق الإنسان فعدّله ، وعلمه البيان ففضّله ، وألبسه الإيمان فجملة ، وعرّفه الدين فكمله ، أحمده على ستر أسبله ، ونيل نوّله ، حمد معترف وله مطلق بالحمد مقولة ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بكتاب نزّله ، وآي فصّله ، ودين كمّله ، وشرع سبّله ، فاضطلع بما حمّله ، حتى حل بعضله من البهتان مشكلة ، وأرشد إلى الرّحمن من جهله ، وصلى اللّه عليه وآله ومن قبله ما كبّر اللّه مكبّر وهلّله.

أمّا بعد فإنّ الفقه أجمل ما التحفته الهمة ، وعرفته هذه الأمّة ، وما زالت صدور الصّدور له محلا ، ولبّاتهم به يتحلا ، ومجتمعاتهم ميدان محلّه ، ومكان رويته وارتحاله ، يرشف فيه ثغورهم ، ويخطف لديه نورهم ، ثمّ تقلّص ذلك البرد الضّافي ، وتكدر ذاك الورد الصّافي ، وزهد في اقتناء المعارف ، وعريت الهمم من تلك المطارف ، وأصبح العلم قد دجت مطالعة ، وخوي طالعه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية وتثاقلهم طلبها ، وعداوتهم لما يجهلون ، وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه ، وملكه الجهل لقياده ، مضيّعا لما استودعته الأيّام ، مقصّرا في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتى كأنّه ابن يومه ونتيج ساعته ، ورأيت الناشئ المستقبل ذا الكفاية والجدة مؤثرا للشهوات ، صادفا عن سبل الخيرات ، ورأيت العلم عنانة في يد الامتهان ، وميدانه قد عطل من الرهان ، تداركت منه الذماء الباقي ،

ص: 41

وتلافيت نفسا بلغت التراقي ، وحبوت أهله مع معرفتي بفضل إذاعته إليهم ، وفرط بصيرتي بما في إظهاره لديهم ، من الثواب الجزيل ، والذكر الجميل ، والاحدوثة الباقية على مرّ الدهور ، فلم يصان العلم بمثل بذله ، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره.

قال بعض العلماء مادحا للعلم ، وتخليده في الكتب : والكتاب قد يفضّل صاحبه ، ويقدّم مؤلفه ، ويرجح قلمه على لسانه ، وعقله على بيانه بأمور :

منها : إنّ الكتاب يقرأ بكلّ مكان ، ويظهر ما فيه على كلّ لسان ، ثم يوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعصار وتباعد ما بين الأمصار ، وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب ، والمنازع بالمسألة والجواب ، ومناقلة اللسان وهدايته لا يجوزان مجلس صاحبه ، ومبلغ صوته ، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ، ويفنى العاقل ويبقى أثره ، ولهذا آثر الجلّة من المحققين ، وأهل العبر والفكرة من الديّانين ، وضع الكتب والاشتغال بها ، واجتهاد النفس في تخليدها وتوريثها ، على صوم النّهار وقيام الليل ، ولو لا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها ، وخلّدت من عجائب حكمتها ، ودوّنت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنّا ، وفتحنا بها كلّ مستغلق كان علينا ، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم ، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم ، لقد خسّ حظنا من الحكمة ، وصعبت سبلنا إلى المعرفة ، ولو الجئنا إلى قدر قوتنا ، ومبلغ خواطرنا ، ومنتهى تجاربنا لما أدركته حواسنا ، وشاهدته نفوسنا ، لقد قلّت المعرفة ، وقصرت الهمّة ، وانتقصت المنّة ، وعاد الرأي عقيما ، والخاطر سقيما ، ولكلّ الحدّ وتبلّد العقل ، فانّ الكتاب نعم الذخر والعقد ، ونعم الجليس والعقدة ، ونعم النشرة والنزهة ، ونعم المشتغل والحرفة ، ونعم الأنيس في ساعة الوحدة ، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القرين والرحيل ، ونعم الوزير والنزيل.

والكتاب وعاء ملئ علما ، وظرف حشي طرفا ، وإناء شحن مزاحا وجدّا ، إن شئت كان أبين من سحبان وائل ، وان شئت كان أعنى من ناقل ، وإن شئت ضحكت من نوادره ، وإن شئت أشجتك مواعظه ، ومنّ لك بواعظ

ص: 42

ملهي ، وبزاجر مغري ، وبناسك فاتك ، وبناطق أخرس ، وبمونس لا ينام إلا بنومك ، ولا ينطق إلا بما تهوى ، آمن من في الأرض ، وأكتم للسر من صاحب السر ، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة.

وقال ذو الرمة لعيسى بن عمر اكتب شعري : فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ ، إنّ الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهرت في طلبها ليلة ، فيضع في موضعها كلمة في وزنها ، ثمّ ينشده النّاس ، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام.

قال : والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك ، والصّديق الذي لا يغريك ، والرفيق الذي لا يملك والمستميح الذي لا يستزيدك ، والجار الذي لا يستبطئك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ، ولا بالمكر ، ولا يخدعك بالنفاق ، ولا يحتال لك بالكذب ، والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوّد بيانك ، ومنحك تعظيم العوام ، وصداقة الملوك ، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر ، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل طاعته بالنهار ، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر ، لا يقبل بنوم ، ولا يعتريه كلال السهر.

قال : قال أبو عبيدة : قال المهلّب لبنيه في وصيته : يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زرّاد (1) أو ورّاق.

قال : وحدّثني صديق لي قال : قرأت على شيخ شامي كتابا فيه مآثر غطفان ، فقال لي : ذهبت المكارم إلا من الكتب.

قال : وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول : غبرت أربعين سنة ما قلت ولا بت إلا والكتاب موضوع على صدري ، قال : والإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه ،

ص: 43


1- الزّراد : بمعنى صانع الزرد ، وهو الدرع ، وكذا الورّاق بمعنى صانع الورق. وفي ن : روّاد. بالراء المهملة. وفي المطبوع : لا تقوموا في الأسواق الّا على زوّاد أو ورّاق.

ولا يعلم ولا يجمع ولا يختلف حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوّه ، ومن لم يكن نفقته التي تخرج في الكتب ، ألذ عنده من إنفاق عشّاق القيان (1) ، والمستهترين بالبنان لم يبلغ في العلم مبلغا رضيّا ، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله ، وحتى يؤمّل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه ولأنّ سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على تعظيم العلم ، وتعظيم العلم دليل على شرف النفس ، وعلى السلامة من سكر الآفات.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : وقد روي عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : قيّدوا العلم بالكتابة (2) فحداني ما حكيته ، وبعثني ما أوردته على أن أجيل قدحي في ربابتهم ، وأقتفي اثر جماعتهم.

واعلم أبقاك اللّه وأيّدك بالتوفيق ، أنّه ليس لمن أتى في زماننا هذا بمعنى غريب ، وأوضح عن قول معيب ، ورد شاردة خاطر غير مصيب ، عند هؤلاء الأغمار الإغفال ، وذوي النزالة والسفال ، الا انّه متأخّر محدث ، وهل هذا لو عقلوا إلا فضيلة له ، ومنبهة عليه ، لأنّه جاء في زمان يعقم الخواطر ، ويصدي الأذهان ، ولله در المتنبي حيث يقول :

أتى الزمان بنوه في شبيبته *** فسرّهم وآتيناه على الهرم

ولقد أحسن الحيص في قوله في هذا المعنى :

تفضّلون قديم الشعر عن سفه الفضل *** في الفضل لا في العصر والدّار

وقال المبرد : ليس بقدم العهد يفضل القائل ، ولا لحدثان العهد يهتضم المصيب ، ولكن يعطى كلّ واحد منهما ما يستحق ، فالعاقل اللبيب الذي يتوخى الإنصاف فلا يسلم إلى المتقدّم إذا جاء بالردى لتقدّمه ، ولا يبخس

ص: 44


1- القيان : العبيد.
2- تحف العقول : في مواعظ النبي صلى اللّه عليه وآله وحكمه ، وفيه : بالكتاب.

المتأخّر حقّ الفضيلة إذا أتى بالحسن لتأخّره ، وكائن نظر للمتأخّر ما لم يسبقه المتقدّم إليه ولا أتى بمثله : إمّا استحقاقا أو اتفاقا ، فمن العدل أن يذكر الحسن ولو جاء ممن جاء ، ويثبته للآتي به كائنا من كان ، ولا ينظر إلى سبق المتقدّم وتبع المتأخّر ، فإنّ الحكمة ضالة المؤمن على ما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم (1) والخبر المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله : انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال (2). ولا تغتر أيّها اللبيب وتركن إلى قول ابن الرقاع ، فإنّه ختار ذو خداع ، وقد ذكر عثمان بن جني النحوي في كتاب الخصائص قال : قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : ما على الناس شر أضر من قولهم : ما ترك الأول للآخر شيئا ، وقال الطائي الكبير يقول : من يطرق إسماعه كم ترك الأول للآخر ، بل تمسك بقول أمير المؤمنين عليه السلام : أعرف الحقّ تعرف أهله (3) ، وأحسن الحديث والاستشهاد كتاب اللّه ، فإنّه مدح قوما بقوله ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (4) وانّي لأستحسن قول لبيد في هذا المعنى :

قوم لهم عرفت معد فضلها *** والفضل يعرفه ذوو الألباب

وقال ابن الرومي :

ومستخف بقدر الشعر قلت له *** لا ينفق العطر إلا عند معطار

وقال خلاد الأرقط : لقيني ابن مناذر بمكة ، فأنشدني قصيدته : « كلّ حي لاقى الحمام فمودي » ثم قال : اقرأ أبا عبيدة السّلام ، وقل له : يقول لك ابن مناذر : اتق اللّه واحكم بين شعري وشعر عدي ابن زيد ، ولا تقل ذاك جاهلي وهذا إسلامي ، فتحكم بين العصرين ، ولكن احكم بين الشعرين ودع العصبية.

ص: 45


1- نهج الفصاحة : كلمة 1412
2- غرر الحكم : ج 1 ، ص 394.
3- الوسائل ، الباب 10 من صفات القاضي ، الحديث 32
4- سورة الزمر آية 18.

وبعد هذا الإسهاب ، أطال اللّه بقاء من يقف على كتابي هذا ، فيوسعني إنصافا أو يتركني ، والميل على مع هواه كفافا ، فإنّه كتاب لم أزل على فارط الحال ، وتقادم الوقت ، ملاحظا له ، عاكفا الفكر عليه ، منجذب الرأي والروية إليه ، وادّا أن أجد مهلا ( أضله ) به ، أو خللا أرتقه بعمله ، والوقت يزداد بنواديه ضيقا ، ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقا.

هذا مع إعظامي له واعتصامي بالأسباب المشاطة إليه ، فاعتقادي فيه أنّه من أجود ما صنّف في فنّه ، وأسبقه لأبناء سنّه ، وأذهبه في طريق البحث والدليل والنظر ، لا الرواية الضعيفة والخبر ، فإني تحرّيت فيه التحقيق ، وتنكبت ذلك كلّ طريق ، فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب اللّه سبحانه ، أو سنّة رسوله صلى اللّه عليه وآله المتواترة المتّفق عليها ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها ، والتمسك بها ، فمن تنكب عنها عسف ، وخبط خبط عشواء ، وفارق قوله من المذهب ، واللّه تعالى يمدّكم وإيّانا بالتوفيق والتسديد ، ويحسن معونتنا على طلب الحقّ وإثارته ، ورفض الباطل وإبادته ، فقد قال السيد المرتضى رضي اللّه عنه وذكر في جواب المسائل الموصليات الثانية الفقهية ، وقدّم مقدّمة وأشار وأومأ إليها أن تكون هي الأدلّة على جميع جوابات مسائلهم ، اكتفي بها عن الدلالة في تضاعيف الجوابات ، فقال : اعلم انّه لا بدّ في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم بها لأنّا متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة ، جوّزنا كونه مفسدة ، فيقبح الإقدام منّا عليه ، لأنّ الإقدام على ما لا نأمن كونه فسادا وقبيحا كالإقدام على ما نقطع على كونه فسادا ، ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا

ص: 46

إليه طريقا إلى الأحكام الشرعية ، من حيث كان القياس يوجب الظن ، ولا يفضي إلى العلم. ألا ترى إنّا نظنّ بحمل الفرع في التحريم على أصل محرّم بشبه يجمع بينهما انّه محرّم مثل أصله ، ولا يعلم من حيث ظننا انّه يشبه المحرّم انّه محرّم ، ولذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن لصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا ، وإن ظننت به الصّدق ، فإنّ الظنّ لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه إقدام على ما لا نأمن كونه فسادا وغير صلاح. قال : وقد تجاوز قوم من شيوخنا رحمهم اللّه في إبطال القياس في الشريعة ، والعمل فيها بأخبار الآحاد إلى أن قالوا : إنّه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الأحكام ، وأحالوا أيضا من طريق العقول العبادة بالعمل بأخبار الآحاد ، وعوّلوا على أن العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، وإذا كان غير متيقن في القياس ، وأخبار الآحاد لم تجز العبادة بهما ، قال : والمذهب الصحيح هو غير هذا ، لأنّ العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد ، ولو تعبّد اللّه تعالى بذلك لشاع ولدخل في باب الصحة ، لأنّ عبادته تعالى بذلك توجب العلم الذي لا بدّ أن يكون العمل تابعا له ، فإنّه لا فرق بين أن يقول عليه السلام : قد حرمت عليكم كذا وكذا فاجتنبوه ، وبين أن يقول : إذا أخبركم عني مخبر ، له صفة العدالة ، بتحريمه فحرّموه ، في صحة الطريق إلى العلم بتحريمه ، وكذلك إذا قال : لو غلب في ظنّكم شبه بعض الفروع ببعض الأصول في صفة ، يقتضي التحريم فحرّموه ، فقد حرّمته عليكم لكان هذا أيضا طريقا إلى العلم بتحريمه ، وارتفاع الشك والتجويز ، وليس متناول العلم هنا هو متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأمّلون ، لأنّ متناول الظن هاهنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمّنه الخبر ، وما علمناه

ص: 47

غير ما ظنناه ، وكذلك في القياس متناول الظن شبّه الفرع بالأصل في علة التحريم ، ومتناول العلم كون الفرع محرما ، وانّما منعنا من القياس بالشريعة وأخبار الآحاد مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول ، لأنّ اللّه تعالى ما تعبّد بهما ولا نصب دليلا عليهما ، فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما ، ونفينا كونهما طريقين إلى التحريم والتحليل.

قال المرتضى قدّس اللّه روحه : وإنّما أردنا بهذه الإشارة انّ أصحابنا كلّهم ، سلفهم وخلفهم ، ومتقدّمهم ومتأخّرهم ، يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ، ومن العمل بالقياس في الشريعة ، ويعيبون أشدّ عيب على الذاهب إليهما ، والمتعلّق في الشريعة بهما ، حتى صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوما ، ضرورة منهم وغير مشكوك فيه من أقوالهم.

قال المرتضى رضي اللّه عنه : وقد استقصينا الكلام في القياس ، وفرّعناه ، وبسطناه ، وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات في جواب مسائل ، وردت من أهل الموصل متقدّمة ، أظنّها في سنة نيف وثمانين وثلاثمائة ، فمن وقف عليها استفاد منها جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب. قال : وإذا صحّ ما ذكرناه ، فلا بدّ لنا فيما ثبتناه من الأحكام فيما نذهب إليه من ضروب العبادات ، من طريق يوجب العلم ، ويقتضي اليقين قال : فطريق العلم في الشرعيات هي الأقوال التي قد قطع الدليل على صحّتها ، وأمن العقل من وقوعها على شي ء من جهات القبح كلّها ، كقول اللّه عزوجل ، وكقول الرسول عليه السلام ، والأئمة الذين يجرون في العصمة مجراه عليهم السلام ، ولا بدّ لنا من طريق إلى إضافة الخطاب إلى اللّه تعالى إذا كان خطابا له ، وكذلك في إضافته إلى الرسول وإلى الأئمة عليهم السلام. قال : وقد سلك قوم في إضافة خطابه إليه تعالى طرقا غير مرضية ، وأصحّها وأبعدها من الشبه ، أن يشهد الرّسول صلى اللّه عليه وآله المؤيّد بالمعجزات في بعض الكلام أنّه كلام اللّه تعالى ، فيعلم بشهادته أنّه كلامه ،

ص: 48

كما فعل نبينا صلى اللّه عليه وآله في القرآن فعلمنا بإضافته له إلى ربّه أنّه كلامه ، فصار جميع القرآن دالا على الأحكام ، وطريقا الى العلم.

فأمّا الطريق إلى معرفة كون الخطاب ، مضافا إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام فهو المشافهة والمشاهدة لمن حاضرهم وعاصرهم ، فأمّا من نأى عنهم ، أو وجد بعدهم ، فمن الخبر المتواتر المفضي إلى العلم المزيل للشك والريب ، وهاهنا طريق آخر يتوصل به إلى العلم بالحقّ ، والصحيح في الأحكام الشرعية ، عند فقد ظهور الإمام ، وتمييز شخصه ، وهو إجماع الفرقة المحقّة ، وهي الإمامية التي قد علمنا أنّ قول الإمام - وإن كان غير متميز الشخص - داخل في أقوالها ، وغير خارج عنها ، فإذا أطبقوا على مذهب من المذاهب علمنا أنّه هو الحقّ الواضح ، والحجة القاطعة ، لأنّ قول الإمام هو الحجة في جملة أقوالها ، فكأنّ الإمام قائله ومتفرّد به.

ثم قال السيّد المرتضى بعد شرح وإيراد طويل حذفناه : فإن قيل : فما تقولون في مسألة شرعية اختلف فيها قول الإماميّة ، ولم يكن عليها دليل من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، كيف الطريق إلى الحق فيها؟ قال : قلنا هذا الذي فرضتموه قد أمنّا وقوعه ، لأنّا قد علمنا انّ اللّه تعالى لا يخلّي المكلّف من حجّة وطريق للعلم بما كلّفه ، وهذه الحادثة التي ذكرتموها إذا كان لله تعالى فيها حكم شرعي ، واختلفت الإمامية في وقتنا هذا ، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي يتفق بأنّ الحجّة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم ، فلا بدّ من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع ، من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، حتى لا يفوت المكلّف طريق للعلم يصل به إلى تكليفه. اللّهمّ إلا أن يفرض وجود حادثة ليس للإمامية فيها قول على سبيل اتّفاق واختلاف ، وقد يجوز عندنا في مثل ذلك إن اتفق أن يكون لله تعالى فيها حكم شرعي ، فإذا لم نجد في الأدلّة الموجبة للعلم طريقا إلى علم حكم هذه الحادثة ، كنّا فيها على ما يوجب العقل وحكمه.

ص: 49

قال السيّد : فإن قيل أليس شيوخ هذه الطائفة قد عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجّة في هذه الأحكام حتى رووا عن أئمتهم عليهم السلام فيما يجي ء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح كلّه ، أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة ، وهذا ينقض ما قدّمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة ، والمذاهب المشهورة ، المقطوع عليها ، بما هو مشتبه ملتبس محتمل ، وقد علم كلّ موافق ومخالف : أنّ الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة من حيث إنّه لا يؤدّي الى علم ، وكذلك تقول : في أخبار الآحاد حتى أنّ منهم من يزيد على ذلك ، فيقول : ما كان يجوز من طريق العقل أن يتعبّد اللّه تعالى في الشريعة بقياس ، ولا عمل بأخبار الآحاد ، ومن كان هذا مذهبه ، كيف يجوز أن يثبت الأحكام الشرعية بأخبار لا يقطع على صحتها ، ويجوز كذب رواتها كما يجوز صدقهم؟ وهل هذا إلا من أقبح المناقضة وأفحشها ، والعلماء الذين عليهم المعوّل ، ويدرون ما يأتون ويذرون ما يجوزون لم يحتجّوا بخبر واحد لا يوجب علما ، ولا يقدر أحد أن يحكي عنهم في كتاب ولا غيره خلاف ما ذكرناه ، فأمّا أصحاب الحديث من أصحابنا ، فإنّهم رووا ما سمعوا وبما حدّثوا به ، ونقلوا عن أسلافهم ، وليس عليهم أن يكون حجة ودليلا في الأحكام الشرعية ، أو لا يكون كذلك ، فإن كان في أصحاب الحديث من يحتجّ في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحته ، فقد زلّ ووهل ، وما يفعل ذلك من يعرف أصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حقّ معرفتها ، بل لا يقع مثل ذلك إلا من غافل ، وربّما كان غير مكلّف.

ألا ترى إنّ هؤلاء بأعيانهم قد يحتجّون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد ، ومعلوم عند كلّ عاقل : أنّها ليست بحجّة في

ص: 50

ذلك ، وربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه ، اغترارا بأخبار الآحاد المروية ، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتجّ بالخبر الذي ما رواه ، ولا حدّث به ، ولا سمعه من ناقله فعرفه بعد بعدالة أو غيرها ، حتى لو قيل له في بعض الأحكام : من أين أتيته وذهبت إليه؟ جوابه : لأني وجدته في كتاب الفلاني ، ومنسوبا إلى رواية فلان بن فلان ، ومعلوم عند كلّ من نفى العلم بأخبار الآحاد أو من أثبتها وعمل بها ، أنّ هذا ليس بشي ء يعتمد ، ولا طريق يقصد ، وانّما هو غرور وزور.

قال : فأمّا الرواية بأن يعمل بالحديثين المتعارضين بأبعدهما من مذهب العامة ، فهو لعمري قد روي ، وإذا كنّا لا نعمل بأخبار الآحاد في الفروع ، كيف نعمل بها في الأصول التي لا خلاف في أنّ طريقها العلم والقطع؟

قال السيّد المرتضى رحمه اللّه : وإذا قد قدّمنا ما احتجنا إلى تقديمه ، فهو الذي يعتمد عليه في جميع المسائل الشرعية. هذا آخر كلام المرتضى رضي اللّه عنه حرفا فحرفا.

قال محمّد بن إدريس : فعلى الأدلّة المتقدّمة أعمل ، وبها آخذ وأفتي وأدين اللّه تعالى ، ولا ألتفت إلى سواد مسطور ، وقول بعيد عن الحقّ مهجور ، ولا اقلّد إلا الدليل الواضح ، والبرهان اللائح ، ولا أعرّج الى أخبار الآحاد ، فهل هدم الإسلام إلا هي ، وهذه المقدّمة أيضا من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا ، ليكون قائما بنفسه ، ومقدّما في جنسه ، وليغني الناظر فيه ، إذا كان له أدنى طبع عن أن يقرأه على من فوقه ، وإن كان لأفواه الرّجال معنى لا يوصل إليه من أكثر الكتب في أكثر الأحوال ، وعزمت على أنّه : إن مرّ في أثناء الأبواب مسألة فيها خلاف بين أصحابنا المصنّفين رحمهم اللّه أومأت إلى ذلك ، وذكرت ما عندي فيه ، وما أعتمد عليه ، وقادني الدليل إليه ، وإن كان في بعض كتب أصحابنا كلام متضادّ العبارة ، متفق المعنى ، أو مسألة صعبة القياد جموح لا تنقاد ، أو كلمة لغوية أعربت عنها بالتعجيم ، وأزلت اللبس فيها والتصحيف ، وإن كان

ص: 51

لبعض الأصحاب فتوى في كتاب له ، أو قول قد رجع عنه في كتاب له آخر ، ذكرته ، فإن كان قد أورده على جهة الرواية لا بمجرد العمل ذكرته ، فكثيرا ما يوجد لأصحابنا في كتبهم ذلك ، حتى أنّ قليل التأمل ، ومن لا بصيرة له بهذا الشأن يحتج به ، ويجعله اعتقادا له ومذهبا يدين اللّه تعالى به ، أو قد ذكر ذلك وأودعه كتابه على جهة الحجاج على خصمه ، لأنّه عند خصمه حجّة وإن لم يكن عنده كذلك ، فقد قال الشيخ السعيد الصدوق أبو جعفر الطوسي ( رضي اللّه عنه ، وتغمده اللّه تعالى برحمته ) ذكر ذلك في عدّته جوابا لسؤال يسأل نفسه ، فقال : ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ انّه نقله ، لم يدلّ على انّه كان معتقدا لما تضمّنه الخبر ، ولا يمتنع أن يكون انّما رواه ليعلم انّه لم يشذّ عنه شي ء من الرّوايات ، لا لأنّه يعتقد ذلك وقال رضي اللّه عنه في هذا الكتاب المشار إليه : وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار ، وفي كتابي تهذيب الأحكام ، ما يزيد على خمسة آلاف حديث ، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها ، وذلك أشهر من أن يخفى ، حتى أنّك لو تأمّلت اختلافهم في هذه الأحكام ، وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك هذا آخر كلام الشيخ أبي جعفر رحمه اللّه.

وذكر الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضي اللّه عنه في جواب سائل سأله فقال : كم قدر ما تقعد النفساء عن الصّلاة؟ وكم مبلغ أيام ذلك؟ فقد رأيت في كتابك كتاب أحكام النساء أحد عشر يوما ، وفي الرّسالة المقنعة ثمانية عشر يوما ، وفي كتاب الإعلام أحد وعشرين يوما ، فعلى أيّها العمل دون صاحبته؟ فأجابه بأن قال : الواجب على النفساء أن تقعد عشرة أيام ، وانّما ذكرت في كتبي ما روي من قعودها ثمانية عشر يوما ، وما روي في النوادر استظهارا بأحد وعشرين يوما ، وعملي في ذلك على عشرة أيام ، لقول الصادق

ص: 52

عليه السلام : لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان الحيض. هذا آخر كلام الشيخ المفيد رحمه اللّه.

وقال الشيخ أبو جعفر رضي اللّه عنه في خطبة كتابه المبسوط : وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس الى عمل كتاب يشتمل على ذلك ، تتوق نفسي إليه ، فيقطعني عن ذلك القواطع ، ويشغلني الشواغل ، ويضعف نيتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به ، لأنّهم ألفوا الأخبار. وما رووه من صريح الألفاظ حتى أنّ مسألة لو غيّر لفظها ، وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم ، تعجبوا منها وقصر فهمهم عنها ، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأصولها من المسائل ، وفرّقوه في كتبهم ، ورتبته ترتيب الفقه ، وجمعت بين النظائر ، ورتّبت فيه الكتب على ما رتب للعلة التي بينتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها ، والجمع بين نظائرها ، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة ، حتى لا يستوحشوا من ذلك ، ثمّ قال مادحا لكتابة : إذا سهّل اللّه تعالى إتمامه ، يكون كتابا لا نظير له في كتب أصحابنا ، ولا في كتب المخالفين ثمّ قال : أمّا أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى شي ء يشار إليه ، بل لهم مختصرات ، وأوفى ما عمل في هذا المعنى كتابنا النهاية ، وهو على ما قلت فيه.

فانظر أبقاك اللّه إلى كلام الشيخ رحمه اللّه وما قال في نهايته ، واعتذاره عمّا أودعه فيها ، وقوله : قصر فهمهم عنها يعني : أصحابه فكيف يحال على الرّجل وينسب إلى أنّ جميع ما أورده حقّ وصواب لا يحل ردّه ، ولا خلافه ، ولا اعتبار بالعوام العثّر الذين لا نظام لهم ، ولا تحصيل عندهم ، فإن فساد كلّ صناعة من فهم الأدعياء ، وقلّة الصرحاء ، فطلاب الفقه كثير ، ومحصّلوه قليل ، وخصوصا اليوم.

وقال الخليل بن أحمد رحمه اللّه : وقد كنّا نعدّهم قليلا وقد صاروا أقل من القليل. وروى أنّ الدوري المحدّث قال : أردت الخروج إلى البصرة ، فصرت

ص: 53

إلى أحمد بن حنبل ، فسألته الكتاب إلى مشايخها ، فكلّما فرغ من كتاب قرأته ، فإذا فيه وهذا فتى ممن يطلب الحديث ، ولم يكتب من أصحاب الحديث ، وأهل عصرنا رضوا بالاسم دون المسمّى ، وعزيمتي التلخيص والاختصار ، والاقتصار فيما أورده على مجرد الفقه والفتوى ، دون التطويل بذكر الأدعية والتسبيح ، من الآداب الخارجة عن قانون الفقه وعموده ، فالحاجة إلى ما ذكرنا أمسّ ، ولأنّ في ما يوجد من ذلك في كتب العبادات كفاية وزيادة عليها ، إلا أن يعرض مهمّ ، يحتاج فيه إلى كشف وإيضاح ، وتطويل وإفصاح وإيراد أدلّة وأمثلة ، فإني إذا شبّهت شيئا بشي ء ، فعلى جهة المثال والتنبيه ، لا على وجه حمل أحدهما على الآخر ، فإنّ ذلك على أصولنا باطل ، وقد رسمته بكتاب السرائر ، الحاوي لتحرير الفتاوى ، واللّه المستعان وعليه التكلان.

ص: 54

كتاب الطهارة

اشارة

ص: 55

كتاب الطّهارة

باب في أحكام الطّهارة وجهة وجوبها وكيفية أقسامها وحقيقتها

الطهارة في اللغة هي النظافة ، فأمّا في عرف الشرع فهي عبارة عن إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص.

وبعضهم يحدّها بأنّها في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة.

وهذا ينتقض بإزالة النجاسة عن ثوب المصلي وبدنه ، لأنّه لا يجوز له أن يستبيح الصلاة إلا بعد إزالة النجاسة التي لم يعف عنها الشرع ، وإزالة النجاسة ليست بطهارة في عرف الشرع.

وأيضا قوله : اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة ، يلوح بهذا القيد ، أنّ كلّ طهارة لا يستباح بها الصلاة لا يسمى طهارة. وهذا ينتقض بوضوء الحائض لجلوسها في مصلاها ، وهي طهارة شرعية وان لم يجز لها إن تستبيح بها الصلاة.

وقد تحرّز بعض أصحابنا في كتاب له مختصر ، وقال : الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة ، ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه ، وهذا قريب من الصواب.

فإن قيل : فما معنى قولكم في حدّكم إيقاع أفعال في البدن مخصوصة؟

قلنا : « في البدن » احتراز من الثياب وإزالة النجاسات العينية من البدن على ما مضى القول فيه.

وقولنا : « مخصوصة » أردنا الأفعال الواقعة في البدن ، لا أبعاض البدن ، ومواضع منه مخصوصة ، لأنّ الغسل الأكبر يعمّ البدن ، فلو أردنا بمخصوصة بعض مواضع البدن ، أو مكانا منه مخصوصا ، لا ينتقض ذلك ، بل بمخصوصة راجعة إلى

ص: 56

الأفعال الحالّة الواقعة في البدن لا المحال.

وقولنا : « على وجه مخصوص » كونها على وجه القربة إلى اللّه سبحانه دون الرياء والسمعة ، وما بنا حاجة إلى ما يستباح بها الصلاة ، لما بيّناه على ما ذهب إليه بعض المصنفين.

وهي على ضربين : كبرى وصغرى. وقال بعض أصحابنا في كتاب له : وهي تنقسم إلى قسمين : وضوء وتيمم ، وهذا غير واضح ، ولا تقسيم مستقيم ، لأنّه يؤدي إلى إسقاط الغسل الأكبر من البين ، لأنّ الوضوء عندهم عبارة عن الطهارة الصغرى المائيّة دون الترابية التي هي التيمم ، وقد رجع هذا القائل عن هذا التقسيم في كتاب آخر له.

والكبرى عبارة عن الأغسال ، والصغرى عبارة عن الوضوء إذا فعلتا بالماء ، فالكبرى تعمّ جميع البدن غسلا ، والصغرى تعم ستة أعضاء : ثلاثة مغسولة وثلاثة ممسوحة ، وقول بعضهم : نعم أربعة أعضاء : عضوين مغسولين وعضوين ممسوحين ، تساهل وتسامح وتجاوز ، والحقيقة ما قلناه ، فإذا فعلتا بالتراب اختصت الكبرى والصغرى بثلاثة أعضاء فقط ، إلا انّ للكبرى ضربتين وللصغرى ضربة.

والوضوء على ضربين : واجب وندب ، فالواجب هو الذي يجب لأسباب الصلاة الواجبة ، أو الطواف الواجب ، لا وجه لوجوبه إلا بهذين الوجهين ، والندب فإنّه مستحب في مواضع كثيرة لا تحصى.

وأمّا الغسل فعلى ضربين أيضا ، واجب وندب ، فالواجب يجب للأمرين اللذين ذكرناهما ، ولاستيطان المساجد ، وللجواز في المسجدين ، ومس كتابة المصحف ، وغير ذلك ممّا الطهارة الكبرى شرط في فعله ، هذه الجملة ذكرها بعض أصحابنا ، فإنّه قال : لدخول المساجد ، وتحرزنا نحن بقولنا : ولاستيطان المساجد وللجواز في المسجدين ، وهو لم يتحرز ، لأنّ للجنب الدّخول إلى المساجد

ص: 57

مجتازا إلا المسجدين.

والذي عندي أنّ الغسل لا يجب ولا يكون نيته واجبة إلا للأمرين اللذين وجب الوضوء لهما فحسب ، لأنّه شرط في الصلاة وفعل من أفعالها ، وكذلك الطواف ، فإذا لم يكن الصلاة ولا الطواف على المكلّف واجبين ، فلا يجب الغسل ، ولنا في هذا مسألة قد بلغنا فيها إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، فمن أرادها وقف عليها من حيث أرشدناه ، وربّما أوردناها في باب الجنابة إن شاء اللّه تعالى.

فأمّا ما يوجب الوضوء أو الغسل فسنبينه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

والطهارة بالماء هي الأصل ، وإنّما يعدل عنها إلى الطهارة بالتراب عند الضرورة ، وعدم الماء.

وتسمية التيمم بالطهارة صحيح ، لا خلاف فيه ، لأنّه حكم شرعي ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (1) وأخبارنا مملوة بتسمية ذلك طهارة.

وينبغي أولا أن نبدأ بما تكون به الطهارة من المياه وأحكامها ، ثم نذكر بعد ذلك كيفية فعلها وأقسامها ، ثم نعقّب ذلك بذكر ما ينقضها ويبطلها ، والفرق بين ما يوجب الوضوء والغسل ، ثم نعود بعد ذلك إلى أقسام التيمم على ما بيّناه.

باب المياه وأحكامها

كل ما استحق إطلاق هذه السمة التي هي قولنا ماء على اختلاف محاله ، وأسماء أماكنه وعذوبته في طعمه وملوحته ، فهو طاهر ، لا يمتنع من التطهير به

ص: 58


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب التيمم ، ح 2.

وشربه ، إلا أن يعلم فيه نجاسة فيحظر استعماله أو يتغير عن حاله ، لما يقتضي إضافته وتقييد الاسم المطلق له ، فلا يجوز حينئذ التطهر به وإن كان في نفسه طاهرا ، وهو على ضربين : طاهر ، ونجس.

فالطاهر على ضربين : طهور وغير طهور.

ومعنى طهور : انّه مع طهارته يزيل الأحداث ويرفع حكمها بغير خلاف.

وهو على ثلاثة أضرب : مملوك ، ومباح ، ومغصوب.

فالقسمان الأوّلان : لا خلاف أنّهما يزيلان النجاسة الحكمية والعينية ، ومعنى الحكمية : ما يحتاج في رفعها إلى نية القربة. وقيل : ما لم يدركها الحس ، ومعنى العينية : ما لا يحتاج في رفعها وإزالتها إلى نية القربة. وقيل ما أدركها الحس.

وأمّا القسم الثالث : فلا خلاف بين أصحابنا انّه لا يرفع الحكمية ، لأنّ الحكمية تحتاج في رفعها إلى نية القربة ، ولا يتقرب إلى اللّه سبحانه بالمعاصي والمغصوب. فأمّا رفع العينية به ، فيجوز ويزول وإن كان الإنسان في استعماله معاقبا ، لأنّ نية القربة لا تراعى في إزالة النجاسة العينية.

والطاهر الذي ليس بطهور : ما خالطه جسم طاهر ، فسلبه إطلاق اسم الماء ، واقتضى إضافته عليه أو اعتصر من جسم ، أو استخرج منه ، أو كان مرقا سلبته المرقية إطلاق اسم المائية ، كماء الورد والآس والباقلاء وما أشبه ذلك ، فهذا الماء طاهر في نفسه ، غير مطهر لغيره ، فإن خالطه شي ء من النجاسات فقد نجس ، قليلا كان أو كثيرا بغير خلاف ، ولا اعتبار للكر هاهنا ، ولا يرفع به نجاسة حكمية ، بغير خلاف بين المحصّلين.

وفي إزالة النجاسة العينية به خلاف بين الأصحاب ، والصحيح من المذهب انها لا يزول حكمها به ، وإن كان السيد المرتضى وجماعة من أصحابنا يذهبون إلى أنّها يزول حكمها به.

ص: 59

فأمّا الرد عليهم بقوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (1) فليس بشي ء يعتمد ، لأنّه ليس في الآية أنّ غير الماء المنزل لا يطهّرنا ، فهذا عند محقّقي أصول الفقه أخفض رتبة من دليل الخطاب ، لأنّ الحكم تعلّق بذكر عين لا حكم صفة ، والنص عندهم إذا تناول عينا ، بحكم لم يدل على أنّ ما عداها من الأعيان مخالف لها في ذلك ، هذا على مذهب القائلين بدليل الخطاب وعلى مذهب المبطلين له ، وانّما اخترنا ما اخترناه لدليل غير هذا ، وهو أنّ النجاسة معلومة في الثوب والبدن بيقين ، فلا يزال إلا بيقين ، وإذا أزيلت بالماء المطلق ، يحصل اليقين ، وأيضا فالماء المضاف لاقى نجاسة ، فنجس بملاقاتها ، فصار هذا الفعل تكثيرا للنجاسة ، وليس كذلك إزالتها بالماء المطلق ، لأنّ لورود الماء على النجاسة حكما ، وليس كذلك ورود المضاف ، فإن أضيف إلى الماء المطلق المطهر جسم طاهر تغيّر به أحد أوصافه ، فهو باق على حكم التطهير به ، ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء عنه ، لأنّ التغير غير السلب ، لأنّ السلب هو غلبة الأجزاء المخالطة للماء حتى تسلبه إطلاق اسم الماء عنه وتخرجه عن معنى المياه.

والنجس هو الماء القليل الذي خالطه شي ء من النجاسة ، غيّره أو لم يغيّره أو الكثير ، أو الجاري الذي تخالطه النجاسة ، وتغيّر بعض صفاته من لون أو طعم أو ريح.

وحد الماء القليل ما نقص عن مقدار كر. وحد الكثير ما بلغ كرا فصاعدا.

وحد الكر ما وزنه الف ومائتا رطل ، بالرطل العراقي ، وهو البغدادي على الصحيح من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يذهب إلى أنّه بالمدني ، من جملتهم المرتضى رضي اللّه عنه ، هذا إذا كان الاعتبار بالوزن. فأمّا إذا كان الاعتبار بمساحة المحل ، فبأن يكون محله ثلاثة أشبار ونصفا طولا في مثلها عرضا في مثلها عمقا ، على الصحيح من المذهب.

وذهب بعض أصحابنا وهم القميّون : إلى أنّه يكون محله ثلاثة أشبار في

ص: 60


1- الأنفال : 11.

عمق مثلها ، في عرض مثلها طولا ، دون اعتبار النصف ، والاعتبار بالأشبار المعتادة لا الأشبار القصار ولا الطوال.

والاعتبار بالكر انّما هو في الماء الواقف ، دون مياه الآبار النابعة ، فأمّا مياه الآبار : فهي تجري - وإن كثر ماؤها - مجرى ما نقص عن الكر ، من مياه المصانع والغدران ، والواقف في أيّ موضع كان في آن حلول النجاسة ووقوعها فيها ، من غير تغيّر لها ينجسها ، سواء بلغ ماؤها كرا أو نقص عنه ، بغير خلاف بين أصحابنا وسنبيّن كيفية تطهيرها إن شاء اللّه تعالى.

والماء المستعمل في تطهير الأعضاء والبدن الذي لا نجاسة عليه إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهرا ، سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يقول : إذا كان مستعملا في الطهارة الكبرى لا يرفع به حدث حكمي ، ويرفع به النجاسة العينية ويزيلها ، وهذا منه تحكم ، لأنّه إن كان مضافا فالماء المضاف عند هذا القائل لا يزيل به النجاسة الحكمية ولا العينية ، وإن كان مطهرا باقيا على ما كان عليه قبل الاستعمال ، فما باله يزيل النجاسة العينية ، ولا يرفع الحكمية؟ فإن تمسك بأنّ هذا ماء أزيل به نجاسة فلا يجوز استعماله ، فيقال له : فالماء المستعمل في الطهارة الصغرى قد أزيل به نجاسة ، فامتنع من التطهير به ، فإن قال : الماء المستعمل في الطهارة الصغرى أزيل به نجاسة حكمية لا عينية ، قلنا له : كذلك هذا الماء ، فإن قال : هذا ماء مضاف ، قلنا : حقيقة الإضافة ما أضيف من الأجسام الطاهرة إلى الماء فسلبته إطلاق اسم الماء على ما مضى بيانه ، وما يستخرج أيضا من أجرام الأجسام بعصر أو تصعيد ، وليس هذا حاصلا في هذا الماء المنازع فيه ، ثم إن امتنعت من استعماله لهذه العلّة ، وهي كونه مضافا ، فامتنع من استعمال الماء المستعمل في الطهارة الصغرى ، فمهما أجبت به ، فهو جوابي لك بعينه في هذا الماء.

ص: 61

وأيضا فالظاهر من الآيات والأخبار يقتضي طهارة هذا الماء ، ورفع الحدث به ، لأنه بعد استعماله في الطهارة الكبرى ، باق على ما كان عليه من تناول اسم الماء له بالإطلاق ، ومنزل من السماء.

وموت ما لا نفس له سائلة : كالذباب والجراد والزنابير والعقارب وما أشبه ذلك لا ينجس الماء ، سواء كان الماء قليلا أو كثيرا ، جاريا أو راكدا ، من مياه الآبار أو غيرها.

ولا بأس بالوضوء والغسل بسؤر الجنب والحائض على كراهية لسؤر الحائض إذا كانت متهمة ، وهي التي لا تتوقى من النجاسات ، فأمّا إذا كانت مأمونة وهي التي تتوقى من النجاسات ، فلا كراهية في ذلك.

وجملة الأمر وعقد الباب أن نقول : الماء على ضربين : جار وواقف ، فالجاري طاهر مطهر ، إلا أن يتغير بعض أوصافه ، لونه أو طعمه أو رائحته بجسم نجس ، فإنّه ينجس ويطهر بزوال الأوصاف عنه. والطريق إلى تطهيرها تقويتها بالمياه الجارية ، ودفعها حتى يزول عنها التغيّر.

والواقف على ضربين : مياه الآبار وغير مياه الآبار.

فغير مياه الآبار على ضربين : قليل ، وكثير.

فالكثير ما بلغ كرا فصاعدا على ما مضى بيانه. فحكم هذا الماء حكم الجاري ، لا ينجسه شي ء يقع فيه من النجاسات ، إلا ما تغيّر به أحد أوصافه ، فإن تغيّر أحد أوصافه بنجاسة تحصل فيه ، فلا يجوز استعماله إلا عند الضرورة للشرب لا غير.

والطريق إلى تطهيره أن يطرأ عليه من المياه الطاهرة المطلقة ما يرفع ذلك التغيّر عنه ، فحينئذ يجوز استعماله. وإن ارتفع التغيّر عنه من قبل نفسه ، أو بتراب يحصل فيه ، أو بالرياح التي تصفقها ، أو بجسم طاهر يحصل فيه ، أو بطروّ أقل من الكر من المياه المطهرة لم يحكم بطهارته ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ونجاستها معلومة بيقين ، فلا يرجع عن اليقين إلا بيقين مثله.

ص: 62

فإن كان تغيّر هذه المياه لا بنجاسة بل من قبل نفسها ، أو بما يجاورها من الأجسام الطاهرة مثل الحمية والملح ، أو نبت فيها مثل الطحلب والقصب وغير ذلك ، أو لطول المقام ، لم يمنع ذلك من استعمالها بحال.

والقليل ما نقص عن الكر الذي قدّمنا مقداره ، وذلك ينجس بكل نجاسة تقع فيه ، قليلة كانت النجاسة أو كثيرة ، غيّرت أحد أوصافه أو لم تغيّر ، من غير استثناء لنجاسة يمكن التحرز منها أو لا يمكن ، لأنّ بعض أصحابنا ذكر في كتاب له : إلا ما لا يمكن التحرز منه ، مثل رءوس الإبر من الدم وغيره ، وهذا غير واضح ، لأنّه ماء قليل وقعت فيه نجاسة ، فيجب أن تنجسه ، ومن استثنى نجاسة دون نجاسة ، يحتاج إلى دليل ولن يجده.

والطريق إلى تطهير هذا الماء أن يزاد زيادة تبلغه الكر أو أكثر منه ، إذا كانت الزيادة ينطلق عليها اسم الماء على الصحيح من المذهب. وعند المحقّقين من نقّاد الأدلة والآثار ، وذوي التحصيل والاعتبار ، لأنّ بلوغ الماء عند أصحابنا هذا المبلغ ، مزيل لحكم النجاسة التي تكون فيه وهو مستهلك بكثرته لها ، فكأنّها بحكم الشرع غير موجودة ، إلا أن تؤثّر في صفات الماء ، فإذا كان الماء بكثرته وبلوغه إلى هذا الحد مستهلكا للنجاسة الحاصلة فيه ، فلا فرق بين وقوعها فيه بعد تكامل كونه كرا ، وبين حصولها في بعضه قبل التكامل ، لأنّ على الوجهين معا النجاسة في ماء كثير ، فيجب أن لا يكون لها تأثير فيه مع عدم تغيير الصّفات.

والظواهر على طهارة هذا الماء بعد البلوغ المحدد ، أكثر من أن تحصى أو تستقصى. فمن ذلك قول الرسول صلى اللّه عليه وآله المجمع عليه عند المخالف والمؤلف : إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا (1) ، فالألف واللام في الماء عند أكثر الفقهاء وأهل اللسان للجنس المستغرق ، فالمخصص للخطاب العام

ص: 63


1- مستدرك الوسائل : الباب 9 من أحكام المياه ، ح 6.

الوارد من الشارع يحتاج إلى دليل ، فلا خلاف بين المخالف والمؤالف من أصحابنا في تصنيفهم وتقسيمهم في كتبهم الماء ، فإنّهم يقولون : الماء على ضربين : طاهر ونجس ، وقد حصل الاتفاق من الفريقين على تسمية الماء النجس بالماء ، ووصفه بالنجس لا يخرجه عن إطلاق اسم الماء حتى يصير في حكم ماء الورد وماء الباقلاء ، لأنّه لو شربه من حلف أن لا يشرب ماء يحنث الحالف بغير خلاف ، فلو لم ينطلق عليه اسم الماء لم يحنث الحالف.

وأيضا قول الرسول صلى اللّه عليه وآله المتفق ، على رواية ظاهرة ، انّه قال : خلق الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غيّر طعمه أو لونه أو رائحته (1) فمنع عليه السلام من نجاسته إذا لم يتغير ، إلا ما أخرجه الدليل ، وهذا بخلاف قول المخالف والمنازع في هذا الماء.

وأيضا قوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (2). وهذا عام في الماء المنازع فيه وغيره ، لأنّه لا يخرج عن كونه منزّلا من السماء ، وليس لأحد أن يخصّ ذلك بتنزله من السماء في حال نزوله ، ألا ترى انّ ماء دجلة إذا استعمل ونقل من مكان إلى مكان ، لم يخرج من أن يكون ماء دجلة.

وأيضا قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (3). فالواجد للماء المختلف فيه ، واجد لما تناوله الاسم بغير خلاف.

وأيضا قوله تعالى : ( وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (4). فأجاز تعالى الدخول في الصلاة بعد الاغتسال ، ومن اغتسل بالماء المنازع فيه تناوله اسم مغتسل بلا شك.

وأيضا قوله عليه السلام لأبي ذر رضي اللّه عنه : إذا وجدت الماء فأمسسه

ص: 64


1- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب المياه ، ح 10 ، إلا انّ فيه : خلق اللّه الماء إلخ.
2- الأنفال : 11
3- المائدة : 6
4- النساء : 43.

جلدك (1) ، ومن وجد هذا الكر واجد للماء.

وقوله عليه السلام : أمّا أنا فأحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء ، فإذا أنا قد طهرت. ولم يخص ماء من ماء ، وماء في الخبر منكر ، والنكرة مستغرقة لجنسها ، فالظواهر من القرآن والسنّة التي يتمسك بها على طهارة الكرّ المختلف فيه ، كثيرة على ما ترى جدا.

وأيضا حسن الاستفهام عند المحقّقين لأصول الفقه ، يدلّ على اشتراك الألفاظ بغير خلاف فيما بينهم ، ولا خلاف في أنّ من قال عندي ماء ، يحسن أن يستفهم عن قوله : أنجس أم طاهر؟ وليس كذلك إذا قال عندي ماء للطهارة في أنّه لا يحسن استفهامه ، لأنّ القرينة أخلصته من الاشتراك ، وهو قوله للطهارة. وعلى هذا آية التيمم في قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) المراد به الطاهر لأجل القرينة ، وهي ذكر الطهارة في سياق الآية.

فإن قيل : كيف يكون مثلا نصف كر منفردا نجسا ، والنصف الآخر أيضا نجسا ، فإذا خلطا وبلغا الكر مجتمعا يصير طاهرا؟ وهل هذا إلا عجيب!

قلنا : لا يمتنع أن يكون البعض نجسا إذا كان متفرقا ، وكذلك البعض. الآخر ، فإذا اجتمعا حدث معنى وهو البلوغ والاجتماع ، فتغيّر الحكم عما كان عليه أوّلا ، فيخرجه من النجاسة إلى الطهارة ، فيطهر حينئذ بالبلوغ ، ولهذا أمثلة كثيرة عقلا وسمعا ، فمن ذلك المشرك نجس العين عندنا ، ويخرجه الإيمان عن النجاسة إلى الطهارة.

فإن قيل : إنّ العين على ما كانت عليه؟

قلنا : غير مسلّم ، لأنّ اعتقاد الإسلام والإيمان يمنع من أن يطلق عليها انّها على ما كانت عليه ، إلا أن يراد بالعين نفس الجواهر فهو كذلك ، إلا انّه غير

ص: 65


1- مسند أحمد بن حنبل : ج 5 ، ص 146 وص 147.

مؤثّر ، ألا ترى أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال طاهر ، فإذا حدثت الشدة حرمت العين ونجست ، والعين التي هي جواهر على ما كانت عليه ، وانّما حدث معنى لم يكن ، وكذلك إذا انقلب خلّا زالت الشدة عن العين وطهرت ، وهي على ما كانت عليه ، وكذلك الحي من الناس المسلمين ، يكون طاهرا في حال حياته ، فإذا مات صار نجسا ، والعين على ما كانت عليه ، ولم يحصل من التغير أكثر من عدم معنى هو الحياة ، وحلول معنى هو الموت ، وإذا جاز أن ينجس العين الطاهرة بعدم الحياة وحلول الموت ، جاز أن يطهر العين النجسة بعدم الكفر ووجود الإيمان على أن الجواهر متماثلة ، والعين النجسة من جنس العين الطاهرة ، وانّما تفارقها بما يحلّها من المعاني والأعراض والأحكام ، فإذا لا مانع شرعا وعقلا أن يثبت للماء النجس متفرقا قبل اجتماعه وبلوغه الكر حكم بعد اجتماعه وبلوغه الحد المحدود ، فالدليل كما يقال يعمل العجب ويزيل الريب.

وأيضا إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلا من عرف اسمه ونسبه وقوله : وإذا تعيّن المخالف في المسألة لا يعتد بخلافه.

وأيضا فالشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه الذي يتمسك بخلافه ويقلد في هذه المسألة ، ويجعل دليلا يقوّي القول ، والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله ، وأنا أبيّن إن شاء اللّه أنّ أبا جعفر رحمه اللّه يفوح من فيه رائحة تسليم المسألة بالكلية ، إذا تؤمّل كلامه وتصنيفه حق التأمل وأبصر بالعين الصحيحة واحضر له الفكر الصافي ، فإنه فيه نظر ولبس ولتفهم عنى ما أقول.

اعلم رعاك اللّه انّ المقرر المعلوم من مذهب هذا الشيخ الفقيه وقوله وفتياه وتصنيفه الشائع عنه وخلافه فيه وقوله الذي لم يرجع عنه في كتبه ، يكاد يعلم من أصحابنا ، ضرورة أن الماء المستعمل في الطهارة الكبرى ، مثل غسل الجنابة والحيض والاستحاضة والنفاس ، إذا كان البدن خاليا من نجاسة عينية ، بأنّ عنده هذا الماء لا يرفع الحدث ، ولا يجوز استعماله في رفع الأحداث ، وإن كان

ص: 66

طاهرا ، الا أنّه عدّه غير مطهر ، وهذا معلوم من مذهبه وقوله على ما بيناه ، وحجّته انّ هذا ماء مستعمل في إزالة نجاسة حكمية.

ثم قال في مبسوطة ما هذا حكايته : الماء المستعمل على ضربين : أحدهما ما استعمل في الوضوء وفي الأغسال المسنونة ، فما هذا حكمه يجوز استعماله في رفع الأحداث ، والآخر ما استعمل في غسل الجنابة والحيض ، فلا يجوز استعماله في رفع الأحداث وإن كان طاهرا ، فإن بلغ ذلك كرا زال حكم المنع من رفع الحدث به لأنّه قد بلغ حدا لا يحتمل النجاسة وإن كان أقل من كر كان طاهرا غير مطهر ، هذه ألفاظ الشيخ أبي جعفر رحمه اللّه بعينها لا زيادة فيها ولا نقصان (1).

ألا ترى انّ هذا الماء المستعمل في الطهارة الكبرى عنده غير رافع للأحداث ، ثم قال : فإن بلغ ذلك كرا زال حكم المنع من رفع الحدث به ، قال : لأنّه قد بلغ حدّا لا يحتمل النجاسة ، فاتى باللام المعيّنة التي معناها لأجل أنّه ، فكان عنده قبل بلوغه الكر غير رافع ، فلما بلغ الكر صار رافعا للحدث ، وزال بالبلوغ عنه المنع من رفع الحدث ، فانظر أيّها المعتبر وتأمّل ، هل صيّره مطهرا رافعا للحدث شي ء سوى البلوغ المحدود بالكرية ، فيلزمه على قود الاستدلال والتعليل والالتزام منه أن يحكم في الماء النجس القليل غير متغيّر الأوصاف بنجاسة انّه غير رافع للنجاسة الحكمية والعينية ، وكذا يقول : ونقول فإذا بلغ الكر زال حكم المنع من رفع الأحداث وإزالة النجاسات به ، وإلا فما الفرق والفاصل بينهما مع البلوغ كرا؟

فإن خطر في الخاطر ولاح خيال وسراب ونهض مقعد فقال : الفرق بينهما واضح ، وهو أنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى الذي لم يبلغ كرا طاهر ، لكنّه غير مطهر ، والماء النجس الذي هو أقل من الكر غير طاهر ولا مطهر ، فقد افترقا من هذا الوجه.

ص: 67


1- المبسوط : كتاب الطهارة في أقسام الماء المستعمل في الحدث.

قلنا : المزيل لهذا الخيال والسراب ، انّه لا فرق بينهما عنده ، في أنّ هذا الماء غير مطهر ، وهذا غير مطهر ، فقد اشتركا من هذا الوجه والحكم بكونه غير مطهر فإذا بلغ صار مطهرا وليس علّة المنع عنده كونه طاهرا فليس له في كونه طاهرا مزية عنده فقد تساويا في المنع ، والحكم المطلوب والمعنى المقصود من أنّه لا يرفع هذا حدثا ولا يزيل به نجسا ، وكذلك حكم الآخر عنده ، فهما متساويان في هذا الوجه غير مختلفين ، لكونهما غير مطهرين ، وإن كان أحدهما طاهرا فغير مفيد له هذا الوصف ، ولا مؤثر فيه حكما من رفع حدث به ، أو إزالة نجاسة بل هو والماء النجس في المنع من رفع الأحداث وإزالة النجاسات ، شيئان مشتركان متساويان ، فتسمية الماء المستعمل الناقص عن الكر غير مكتسب له حكم النجس ولا مؤثر في رفع الحدث به وإزالة النجاسة (1) ، بل المؤثر في رفع الحدث به إطلاق اسم الماء عليه ، وبلوغه الكر عند الشيخ ، وإلا فماء الورد بلا خلاف طاهر ولو بلغ الف كر لا يرفع حدثا ، لأنّه لا ينطلق عليه اسم الماء ، وهاتان الصفتان قائمتان في الماء النجس ، وهما انطلاق اسم الماء على الماء النجس على ما بيّناه وأوضحناه أوّلا ، وبلوغه الكر ، فيجب أن يحصل له من رفع الحدث ما حصل لذلك الماء المستعمل وهو من التأثير في رفع الحدث به وإزالة النجس إذا حصلتا له ، وهما حاصلتان للماء النجس بهذا التقرير ، فالمؤثر عند الشيخ في رفع الحدث به بلوغه كرا لا كونه طاهرا ، فقد صار كونه طاهرا ووجود هذا الوصف له وعدمه سواء ، فقد تساويا في كونهما غير مطهرين ، وهو المنع من رفع الحدث ، وإزالة النجاسة العينية بهما ، فلا فرق بينهما عنده من هذا الوجه ، بل هما متساويان في المنع من رفع الحدث بهما وفي كونهما غير مطهرين ، وإن اختلفا في وجه غير مقيد للماء الذي سمّي به ، ولا مكتسب له حكما مؤثرا في رفع

ص: 68


1- قوله رحمه اللّه ولا مؤثر في رفع الحدث به وإزالة النجاسة غير مكتوب في نسخة - ج - بل موجود في المكتوب والظاهر انّه هو الصحيح.

الأحداث به ، بل المكتسب له والمؤثر في رفع الأحداث بلوغه كرا فحسب ، لا كونه طاهرا ، فكان المانع له من رفع الحدث به نقصان مقداره عن الكر ، والرافع لهذا الحكم عنده زيادة مقداره وبلوغه الكر ، لا كونه طاهرا فيجب أن يكون المانع من رفع الحدث بالماء النجس نقصان مقداره عن الكر ، والرافع لهذا الحكم زيادة مقداره ، وهو بلوغه كرا ، لأنّه جعل الحكم الرافع للمنع في الماء المستعمل بلوغه الكر ، لا كونه طاهرا. وعلّل بقوله : لأنّه قد بلغ حدا لا يحتمل النجاسة ، والتعليل قائم في الماء النجس الناقص عن الكر ، فإذا بلغه يجب ان يزول عنه ذلك الحكم ، لأنّه قد بلغ حدّا لا يحتمل النجاسة ، لأنّه الحدّ المؤثر الذي بلغه الماء المستعمل ، وهو المزيل ، لما كان عليه من المنع المؤثر في رفع الحدث به لا كونه طاهرا ، فصار التعليل لازما للشيخ أبي جعفر رضي اللّه عنه كالطوق في حلق الحمام ، فهذا الشيخ المخالف في الفتيا في هذه المسألة في بعض أقواله محجوج بقوله هذا الذي أوضحناه على ما ترى ، فآل الأمر بحمد اللّه إلى اضمحلال الخلاف فيها.

ولنا في هذا مسألة منفردة نحو من عشر ورقات ، قد بلغنا فيها أقصى الغايات ، رجحنا القول فيها والأسئلة والأدلة والشواهد من الآيات والأخبار ، فمن أرادها وقف عليها من هناك.

وأمّا مياه الآبار ، فإنّها تنجس بما يقع فيها من سائر النجاسات ، قليلا كان الماء أو كثيرا ، غيّرت النجاسة الواقعة فيها أحد أوصاف الماء أو لم تغيّره ، بغير خلاف بين أصحابنا.

ثمّ النجاسة الواقعة فيها على ضربين : منصوص عليها ، أو غير منصوص عليها.

فالنجاسات المنصوص عليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم يوجب نزح الجميع مع الإمكان وفقد التعذّر ، ونجاسة توجب نزح مقدار لا بالدلاء ، ونجاسة توجب نزح دلاء معدودة.

فالأوّل : اختلف أصحابنا ، منهم : من يذهب إلى نزح الجميع ، من ثمان

ص: 69

نجاسات ، ومنهم من قال : يوجب نزح الجميع من تسع نجاسات ، ومنهم من قال : يوجب نزح جميعها من عشر نجاسات والصحيح الأوّل ، لأنّه متفق عليه ، وما عداه داخل في قسم ما لم يرد به نص ، وسيأتي بيانه بعون اللّه سبحانه.

فالمتفق عليه الخمر ، من قليله وكثيره ، وكلّ مسكر ، والفقاع ، والمني ، من سائر الحيوانات ، مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم ، ودم الحيض ، والاستحاضة ، والنفاس ، والبعير إذا مات فيه ، سواء كان ذكرا أو أنثى ، لأنّ البعير اسم جنس ، فإذا أردت الذكر قلت جمل ، وإذا أردت الأنثى قلت ناقة ، كما أنّ الإنسان اسم جنس يدخل تحته الذكران والإناث ، فإذا أردت الذكر قلت الرجل ، وإذا أردت الأنثى قلت المرأة.

فإن تعذّر ذلك بأن يكون الماء كثيرا غزيرا ، لا يمكن نزح جميعه ، تراوح على نزحها أربعة رجال من أوّل النهار إلى آخره ، وأوّل النهار حين يحرم على الصائم الأكل والشرب ، وآخره حين يحلّ له الإفطار ، وقد يوجد في كتب بعض أصحابنا من الغدوة إلى العشية ، وليس في ذلك ما ينافي ما ذكرناه ، لأنّ أوّل الغدوة أوّل النهار ، لأنّ الغدوة والغداة عبارة عن أوّل النهار بغير خلاف بين أهل اللغة العربية.

وكيفية التراوح : أن يستقي اثنان بدلو واحد ، يتجاذبانه إلى أن يتعبا ، فإذا تعبا قام الاثنان إلى الاستقاء ، وقعد هذان يستريحان إلى أن يتعب القائمان ، فإذا تعبا قعدا وقاما هذان واستراح الآخران ، هكذا.

فأمّا ان تغير أحد أوصاف الماء بنجاسة ، فإن كانت النجاسة منصوصة على ما ينزح منها ، فإن كانت مما ينزح منها الجميع ، فيجب نزح الجميع ولا كلام ، فإن تعذّر النزح للغزارة ، فالتراوح يوما من أوّله إلى آخره ، على ما مضى شرحه وبيانه ، فإن زال التغير ، فذاك المقصود ، وقد طهر الماء ، وإن لم يزل التغير من نزح اليوم ، فيجب أن ينزح إلى أن يزول التغيّر ، ولا يتقدر ذلك بمدة ، بل بزوال التغيّر ، سواء كان في مدة قليلة أو كثيرة.

ص: 70

وإن كانت النجاسة المغيّرة مما يوجب نزح مقدار محدود ، فيجب نزح المقدار ، فإن زال التغير فقد طهرت ، وإن لم يزل ، فيجب أن ينزح إلى أن يزول التغيّر ، لقولهم عليهم السلام : ينزح منها حتى تطيّب (1) ، وقولهم : حتى يذهب الريح وقد طهرت (2) ولأنّ الحكم إذا تعلّق بسبب ، زال بزوال ذلك السبب ، وهذا مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه في مقنعته (3) ، وفي رسالته إلى ولده (4).

وإن كانت النجاسة المغيّرة لأحد الأوصاف غير منصوص عليها بمقدار ، فالواجب نزح الجميع بغير خلاف ، لأنّه داخل في قسم ما لم يرد به نص ، فإذا تعذّر نزح الجميع لغزارة الماء وكثرته ، فالواجب أن يتراوح عليها أربعة رجال ، من أوّل النهار إلى آخره ، على ما مضى شرحنا له ، فإن زال التغيّر في بعض اليوم المذكور ، فالواجب تمام ذلك اليوم ، وإن لم يزل التغيّر بنزح اليوم ، فالواجب بعد تمام اليوم النزح منها إلى أن يزول التغيّر ، وإن كان ذلك في بعض يوم ، بعد استيفاء اليوم الأوّل.

فمن ألحق من أصحابنا قسما تاسعا قال : وكل نجاسة غيّرت أحد أوصاف الماء ، إن أراد بقوله : كلّ نجاسة غيّرت أحد أوصاف الماء ولم يزل التغيّر قبل نزح الجميع ، وكان نزح الجميع غير متعذّر ، والنجاسة المغيّرة لأحد أوصاف الماء منصوص عليها ، فإنّه مصيب في إلحاقه هذا القسم ، وإن أراد بالنجاسة المغيّرة : أي نجاسة كانت ، سواء كانت منصوصا عليها أو غير منصوص عليها ، فإنّه غير مصيب في تقسيمه ، لأنّ النجاسة المغيرة ، إذا كانت غير منصوص عليها ، فهي

ص: 71


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب الماء المطلق ، ح 3 ، والباب 17 من تلك الأبواب ح 11.
2- الوسائل : الباب 17 من أبواب الماء المطلق ، ح 4 و 7.
3- المقنعة : كتاب الطهارة ، باب تطهير المياه من النجاسات ص 66 ، ط مؤسّسة النشر الإسلامي
4- رسالة المفيد إلى ولده. ( لم نجده ).

داخلة في غير هذا القسم ، بل في القسم الثاني وهو النجاسة الواقعة في البئر التي لم يرد بها نص معيّن ، فليلحظ هذا ويتأمّل تأمّلا جيدا.

وان أردت تلخيص الكلام وتجميله في الأشياء التي تقع في البئر وتوجب نزح الماء جميعه ، فطريقته أن يقول : الواقع في البئر من النجاسات على ضربين :

أحدهما يغيّر أحد أوصاف الماء ، والثاني لا يغيره ، فإن غير أحد أوصافه فالمعتبر فيه الأخذ بأعم الأمرين ، من زوال التغيّر ، وبلوغ الغاية المشروعة في مقدار النزح منه ، فإن زال التغيّر قبل بلوغ المقدار المشروع في تلك النجاسة ، وجب تكميله ، وإن نزح ذلك المقدار ولم يزل التغيّر ، وجب النزح إلى أن يزول لأنّ طريقة الاحتياط تقتضي ذلك ، والإجماع عليه ، لأنّ العامل به عامل على يقين.

وما لا يغيّر أحد أوصاف الماء على ضربين :

أحدهما يوجب نزح جميع الماء ، أو تراوح أربعة رجال على نزحة من أوّل النهار إلى آخره ، إذا كان له مادة قوية يتعذّر معها نزح الجميع. والضرب الآخر يوجب نزح بعضه.

فما يوجب نزح الجميع ، أو المراوحة ، عشرة أشياء على هذه الطريقة : الخمر ، وكلّ شراب مسكر ، والفقاع ، والمني ، ودم الحيض ، ودم الاستحاضة ، ودم النفاس ، وموت البعير فيه ، وكلّ نجاسة غيّرت أحد أوصاف الماء ، ولم يزل التغيّر قبل نزح الجميع ، وكلّ نجاسة لم يرد في مقدار النزح منها نص ، فهذا التحرير على هذه الطريقة صحيح.

وما يوجب نزح البعض فعلى ضربين.

أحدهما يوجب نزح كر ، وهو موت خمس من الحيوان : الخيل ، والبغال ، والحمير ، أهلية كانت أو غير أهلية ، والبقر وحشية كانت أو غير وحشية ، أو ما ماثلها في مقدار الجسم.

والآخر ما يوجب نزح دلاء ، فأكثرها موت الإنسان المحكوم بطهارته قبل

ص: 72

موته وتنجيس الماء ، سواء كان صغيرا أو كبيرا سمينا أو مهزولا ينزح سبعون دلوا.

قال محمّد بن إدريس : وكأني بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ، ويقول : من قال هذا؟ ومن سطره في كتابه؟ ومن أشار من أهل هذا الفن الذين هم القدوة في هذا اليه؟

وليس يجب إنكار شي ء ، ولا إثباته إلا بحجة تعضده ، ودليل يعتمده ، وقد علمنا كلّنا بغير خلاف بين المحقّقين المحصلين من أصحابنا : أنّ اليهودي وكلّ كافر من أجناس الكفّار ، إذا باشر ماء البئر ببعض من أبعاضه نجس الماء ، ووجب نزح جميعها مع الإمكان ، أو التراوح يوما إلى الليل ، على ما مضى شرحنا له ، وعموم أقوالهم وفتاويهم على هذا الأصل.

وأيضا فقد ثبت بغير خلاف بيننا : أنّ الكافر إذا نزل إلى ماء البئر ، وباشره ، وصعد منه حيا ، أنّه يجب نزح مائها أجمع ، فأيّ عقل أو سمع أو نظر أو فقه يقضي أنّه إذا مات بعد نزوله إليها ، ومباشرته لمائها بجسمه وهو حي فقد وجب نزح جميعها ، فإذا مات بعد ذلك ينزح سبعون دلوا وقد طهرت! وهل هذا إلا تغفيل من قائله وقلّة تأمل أتراه عنده بموته انقلب جنسه ، وطهر؟ ولا خلاف أنّ الموت ينجس الطاهر ، ويزيد النجس نجاسة.

فإن قيل : فقد ورد أنّه ينزح إذا مات إنسان في البئر سبعون دلوا لموته (1) ، وهذا عام في المؤمن والكافر ولم يفصّل ، فيجب العمل بالعموم إلى أن يقوم دليل الخصوص. وقد أورد أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب النهاية ذلك (2) ، وقال : إذا مات إنسان في البئر ينزح منها سبعون دلوا وقد طهرت ولم يفصّل ، وكذلك ذكر الشيخ المفيد رحمه اللّه في مقنعته (3) ، وابن بابويه في رسالته (4).

قلنا : الجواب عن هذا الإيراد من وجوه :

ص: 73


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب الماء المطلق ، ح 2
2- النهاية : باب المياه وأحكامها.
3- المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص 66
4- رسالة ابن بابويه.

أحدها : انّ ألفاظ الأجناس إذا كانت منكرات لا تفيد عند محقّقي أصول الفقه الاستغراق والعموم والشمول ، فأمّا إذا كانت معها الألف واللام ، كانت مستغرقة ، كما قال اللّه تعالى ( وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) وأيضا الرواية كما وردت بما ذكره السائل فقد وردت أيضا ، وأوردها من ذكر من المشايخ المصنفين في كتبهم أنّه إذا ارتمس الجنب في البئر ، نزح منها سبع دلاء وقد طهرت (1) ، أورد ذلك أبو جعفر الطوسي في نهايته (2) ، والشيخ المفيد في مقنعته (3) ، وابن بابويه في رسالته (4) ، ولم يفصّلوا. والرواية بذلك عامة ، فمن قال في الإنسان أنّه عام ولم يفصّل ، يلزمه أن يقول في الجنب أنّه عام ، ولا يفصّل أيضا ، فهما سيان ، والكلام على القولين واحد حذو النعل بالنعل ، ولا أحد من أصحابنا يقدم فيقول : ينزح سبع دلاء لارتماس الجنب ، أيّ جنب كان ، سواء كافرا أو مسلما محقّا ، وهذا كما تراه وزان المسألة بعينه.

فأمّا العموم فصحيح ما قاله السائل فيه ، إلا أنّ الحكيم إذا خاطبنا بجملتين : إحداهما عامة ، والأخرى خاصة في ذلك الحكم والقصة بعينها ، فالواجب علينا أن نحكم بالخاصّ على العام ، ولم يجز العمل على العموم ، وذلك انّ القضاء والحكم بالعموم يرفع الحكم الخاصّ بأسره ، والقضاء بالخصوص لا يرفع حكم اللفظ العام من كل وجوهه ، وما جمع العمل بالمشروع بأسره أولى مما رفع بعضه ، مثال ما ذكرناه من كتاب اللّه تعالى قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (5) ، وهذا عموم من ارتفاع اللوم عن وطي الأزواج على كلّ حال ،

ص: 74


1- الوسائل : الباب 22 من أبواب الماء المطلق ، ح 3 ، الا ان لفظ الحديث هكذا « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبعة دلاء ».
2- النهاية : باب المياه وأحكامها
3- المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص 67
4- رسالة ابن بابويه
5- المؤمنون : 5 و 6.

والخصوص قوله تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ) (1). فلو قضينا بالعموم في الآية الأولى لرفعنا حكم آية الحيض جملة ولو تركنا العمل بأحدهما لخالفنا الأمر في قوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) فلم يبق إلا القضاء بالخصوص على العموم حسب ما بيناه.

فلمّا قال الشارع : إذا وقع في البئر إنسان ومات فيها ، يجب نزح سبعين دلوا ، علمنا أنّ هذا عموم ، ولمّا أجمعنا على أنّه إذا باشرها كافر وجب نزح جميع مائها ، علمنا أنّه خصوص ، لأنّ الإنسان على ضربين : مسلم محقّ ، وكافر مبطل هذا إنسان ، وهذا إنسان بغير خلاف ، فانقسم الإنسان إلى قسمين ، والكافر لا ينقسم ، لا يقال : هذا كافر وليس هذا بكافر ، فإن أريد بالكافر الإنسان على القسمين معا كان مناقضة في الأدلّة ، والأدلّة لا تتناقض ، فلم يبق إلا أنّه أراد بالإنسان ما عدا الكافر الذي هو أحد قسمي الإنسان ، وما هذا إلا كاستدلالنا كلّنا على المعتزلة في تعلّقهم بعموم آيات الوعيد ، مثل قوله تعالى : ( وَإِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) (3) ففجّار أهل الصلاة داخلون في عموم الآية ، فيجب أن يدخلوا النار ولا يخرجوا منها فجوابنا لهم : إنّ الفجار على ضربين : فاجر كافر ، وفاجر مسلم ، وقد علمنا بالأدلّة القاهرة من أدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال انّ فاجر أهل الصلاة غير مخلد في النار ، وهو مستحق للثواب بإيمانه ، قال اللّه تعالى في آية أخرى ( جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (4) فعلمنا أنّ الفجّار في الآية من عدا فجّار أهل الصلاة من فجار الكفّار ، لأنّه ليس كلّ فاجر كافرا وكلّ كافر فاجرا ، فأعطينا كلّ آية حقّها وكنّا عاملين بهما جميعا فالعموم قد يخص بالأدلّة لأنّه لا صيغة له عندنا.

ص: 75


1- البقرة : 222
2- الزمر : 55
3- الانفطار : 14
4- التوبة : 73.

ومثال آخر : إذا خاطبنا الحكيم بجملتين متماثلتين في العموم ، فإن كانت الجملة الأولى أعم ، والثانية أخص ، دلّ ذلك على أنّه أراد بالجملة الأولى ما عدا ما ذكر في الجملة الثانية ، وإن كانت الجملة الثانية أعم دلّ ذلك على أنّه أراد بالثانية ما عدا ما ذكره في الجملة الاولى ، ونظيره : اقتلوا المشركين ، ويقول بعده : لا تقتلوا اليهود والنصارى ، فانّ ذلك يفيد انّه أراد بلفظ المشركين ما عدا اليهود والنصارى ، وإلا كانت مناقضة أو بداء وذلك لا يجوز ، ونظير الثاني أن يقول أولا : لا تقتلوا اليهود والنصارى ، ثم يقول بعده : اقتلوا المشركين ، فانّ ذلك يدلّ على أنّه أراد بلفظ المشركين الثانية ، ما عدا ما ذكر في الجملة الاولى ، ولو لا ذلك لأدّى إلى ما قدّمناه وأبطلناه.

وليس لأحد أن يقول هلا حملتم الجملة الثانية على أنّها ناسخة للجملة الاولى؟

قلنا : من شأن النسخ أن يتأخّر عن حال الخطاب على ما علم في حدّ النسخ ، وانّما ذلك من أدلّة التخصيص التي يجب مقارنتها للخطاب ، فعلى هذا : ينبغي أن يحمل كلّ ما يرد من هذا الباب ، ويعرف الأصل فيه ، فإنّه يشرف المحكم له على حقيقة العمل بمقتضاه ، وليس يخفى أمثال هذه الفتيا إلا على غير محصل لشي ء من أصول الفقه جملة وتفصيلا بلغت به سواه الكتب يمينا وشمالا ، لا يقف على الشي ء وضدّه ويفتي به وهو لا يشعر ، نعوذ باللّه من سوء التوفيق ، وله الحمد على إدراك التحقيق.

وإن مات فيها كلب أو شاة أو أرنب أو ثعلب أو سنّور أو غزال أو خنزير أو ابن آوى أو ابن عرس أو ما أشبه ذلك في مقدار الجسم على التقريب نزح منها أربعون دلوا.

فأمّا ما روي في بعض الروايات أنّ الكلب إذا وقع في ماء البئر وخرج حيا ينزح منها سبع دلاء وقد طهرت (1) فليس بشي ء يعتمد ويعمل عليه والواجب

ص: 76


1- الوسائل : الباب 17 من أبواب الماء المطلق ، ح 1 ، إلا انّه ليس فيه جملة « وقد طهرت ».

العدول عن الرواية الضعيفة ، ونزح أربعين دلوا.

فإن قيل : إذا لم يعمل بالرواية ، فلم ينزح منها أربعون دلوا؟ ولم لا ينزح جميع مائها؟ لأنّه داخل في حكم ما لم يرد به نص معين.

قيل له : لا خلاف بين أهل النظر ، والتأمّل في أصول الفقه ، انّ الموت يزيد النجس نجاسة ، فإذا كان الكلب بموته في البئر ينزح منها أربعون دلوا ، فما يكون وقوعه فيها وهو حي يزيد على نجاسة موته ، وبعد فإنّه يلزمه ما ألزمناه في نزول الإنسان الكافر إلى البئر ، وتنجيسه لها ، ووجوب نزح جميع مائها ، لأنّه عنده لم يرد به نص ، فإذا مات بعد ذلك فيها ، وجب نزح سبعين دلوا ، أتراه انقلب جنسه وزال ذلك الحكم ، ولا خلاف انّ الموت ينجس الطاهر ، ويزيد النجس نجاسة ، وهذا قلة فقه. ثم أصول المذهب تدفعه ، لأنّ نجاسة البئر لا يرفعها إلا إخراج بعضه أو جميعه ، وهذا ما أخرج شيئا حتى يتغير حكمه.

وينزح منها لموت الطائر ، جميعه ، نعامة كان الطائر أو غيرها ، من كباره أو صغاره ، ما عدا العصفور ، وما في قدر حجمه ، وما شاكله تقريبا في الجسمية ، سبع دلاء.

وللعصفور وما أشبهه في المقدار ، دلو واحد ، وكذلك ينزح للخطاف والخفاش دلو واحد ، لأنّه طائر في قدر جسم العصفور.

وينزح للفأرة إذا تفسخت ، وحدّ تفسخها انتفاخها سبع دلاء ، فإن لم تنفسخ فثلاث دلاء.

وإذا وقع جماعة من الجنس الواحد الذي يجب نزح بعض ماء البئر بموته فيها ، مثل أن يموت فيها الف كلب ، فينزح منها ما ينزح لكلب واحد فحسب.

فأمّا إن مات فيها أجناس مختلفة ، مثال ذلك : كلب وخنزير وسنور وثعلب وأرنب ، فالواجب أن ينزح لكلّ جنس عدده ، لأنّ عموم الأخبار وظواهر النصوص تقتضيه ، فمن ادّعى تداخلها فعليه الدلالة ، ودليل الاحتياط يعضده أيضا ويشيده.

ص: 77

وبول بني آدم على ضربين : بول الرجال ، وبول النساء.

فبول الذكور على ثلاثة أضرب : بول ذكر بالغ ، وبول ذكر غير بالغ ، قد أكل الطعام ، واستغنى به عن اللبن والرضاع ، وبول رضيع لم يستغن بالطعام عن اللبن والرضاع ، فالأوّل : ينزح لبوله أربعون دلوا ، سواء كان مؤمنا أو كافرا أو مستضعفا والثاني : ينزح لبوله سبع دلاء ، وقد روي ثلاث دلاء ، وهو اختيار السيد المرتضى رضي اللّه عنه (1) وابن بابويه في رسالته (2). والأوّل أحوط وعليه العمل والإجماع. والثالث : ينزح لبوله دلو واحد ، وهو بول الرضيع ، وحدّه من كان له من العمر دون الحولين ، سواء أكل في الحولين الطعام ، أو لم يأكل ، لأنّه في الحولين رضيع ، فغاية الرضاع الشرعي مدة الحولين ، سواء فطم فيها أو لم يفطم ، فإذا جاوزها خرج من هذا الحد ، سواء فطم أو لم يفطم ، ودخل في القسم الثاني.

فإمّا بول النساء فقسم واحد ، سواء كن كبائر أو صغائر ، رضائع أو فطائم ، ينزح لبولهن أربعون دلوا ، وحملهن على تقسيم الذكور قياس ، والقياس متروك عند أهل البيت عليهم السلام.

فان قيل : فمن أين نزح لبولهن أربعون دلوا؟

قلنا : الأخبار المتواترة عن الأئمة الطاهرة : بأن ينزح لبول الإنسان أربعون دلوا ، وهذا عموم في جنس الناس ، إلا ما أخرجه الدليل ، وهنّ من جملة الناس ، والإنسان اسم جنس يقع على الذكر والأنثى بغير خلاف ، ويعضد ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (3) ولم يرد تعالى الرجال الذكور دون النساء.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في التبيان في تفسير قوله تعالى : ( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ ) . فقال : الرجل هو إنسان ، خارج عن حدّ الصبي من الذكر ، وكلّ رجل إنسان ، وليس كلّ إنسان رجلا ، لأنّ

ص: 78


1- لم نعرف موضع كلامه قدس سره
2- رسالة ابن بابويه. مخطوطة ، لم نجدها.
3- العصر : 1.

المرأة إنسان ، هذا آخر كلامه (1).

وينزح لعذرة بني آدم الرطبة واليابسة المذابة المتقطعة ، خمسون دلوا ، فإن كانت يابسة غير مذابة ولا متقطعة ، فعشر دلاء بغير خلاف.

وينزح لسائر الدماء النجسة من سائر الحيوان ، سواء كان الحيوان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، نجس العين ، أو غير نجس العين ما عدا دم الحيض أو الاستحاضة والنفاس ، إذا كان الدم كثيرا ، وحدّ أقل الكثير دم شاة ، خمسون دلوا ، وللقليل منه وحدّه ما نقص عن دم شاة ، فإنّه حدّ كثير القليل (2) عشر دلاء بغير خلاف ، إلا من شيخنا المفيد في مقنعته ، فإنّه يذهب إلى أنّ لكثير الدم عشر دلاء ، ولقليله خمس دلاء (3) ، والأحوط الأول ، وعليه العمل.

وحدّ القلة والكثرة قد رواه أصحابنا منصوصا عن الأئمة عليهم السلام ، هذا ما لم يغيّر أحد أوصاف الماء ، فإن تغير بذلك أحد أوصاف الماء فقد ذكرنا حكمه مستوفى ، فليعتبر ذلك فيه.

وينزح لارتماس الجنب الخالي بدنه من نجاسة عينية ، المحكوم بطهارته قبل جنابته ، سبع دلاء ، وحدّ ارتماسه أن يغطي ماء البئر رأسه ، فأمّا إن نزل فيها ولم يغط رأسه ماؤها ، فلا ينجس ماؤها على الصحيح من المذهب والأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا في كتاب له يذهب إلى أنّ نزوله فيها ومباشرته لمائها مثل ارتماسه فيها وتغطية رأسه ماؤها ، والأول الأظهر ، لأنّ الأصل الطهارة ، ولو لا الإجماع على الارتماس لما كان عليه دليل ، والمرتمس لا يطهر بارتماسه ، ولا يزول حكم نجاسته.

وينزح لذرق الدجاج الجلال خمس دلاء ، فأمّا غير الدجاج الجلال فلا ينزح لذرقه

ص: 79


1- التبيان : ج 4 ، في تفسير الآية 62 من سورة الأعراف
2- وفي المطبوع فإنه حد القليل. والظاهر أن الجملة زائدة.
3- المقنعة في باب تطهير المياه من النجاسات ص 67.

شي ء ، لأنّه طاهر ، لأنّ ذرق مأكول اللحم طاهر بغير خلاف بين أصحابنا ، فأمّا الجلال : فإنّه غير مأكول اللحم ما دام جلالا ، وقد اتفقنا على نجاسة ذرق غير مأكول اللحم من سائر الطيور ، وقد رويت رواية شاذة لا يعوّل عليها ، انّ ذرق الطائر طاهر ، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول والمعوّل عند محقّقي أصحابنا والمحصّلين منهم ، خلاف هذه الرواية ، لأنّه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها.

وحدّ الجلل : هو أن يكون غذاؤه أجمع عذرة الإنسان لا يخلطها بغيرها.

فأمّا المخلط من الدجاج ، فانّ ذرقه طاهر إلا أنّه مكروه ، فأمّا الذي لا يكون جلّالا ولا مخلطا فذرقه طاهر ليس بمكروه ، فقد عاد الدجاج على هذا التحرير على ثلاثة أضرب : منه ما هو نجس ينزح له إذا وقع في ماء البئر خمس دلاء ، وهو ذرق الجلّال. ومنه ما هو مكروه وليس بنجس. ومنه ما ليس بنجس ولا مكروه ، فليتأمّل ذلك.

وسمي جلّالا لأكله الجلة وهي البعر ، إلّا أن قد عاد العرف أنّه هو الذي يأكل عذرة بني آدم دون غيرها من الأبعار والأرواث النجاسات.

فأمّا ما يوجد في التصنيف لبعض أصحابنا من قوله : وروث وبول ما يؤكل لحمه ، إذا وقع في الماء لا ينجس ، إلا ذرق الدجاج خاصة ، فإذا وقع في البئر نزح منها خمس دلاء (1) فإطلاق موهم ، وعبارة فيها إرسال ، فإن أراد الجلّال فيكون استثناء غير حقيقي ، بل مجازيا ، والكلام في الحقيقة ، دون المجاز.

فإن اعتذر له معتذر ، وقال يكون استثناء حقيقيا ، لأنّه قبل كونه جلّالا يؤكل لحمه ، فقد استثنى المصنّف من حاله الاولى فيصير حقيقيا ، فإنه غير وجه في الاعتذار ، وإن أراد المصنّف سواء كان جلّالا أو غير جلّال ، مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ، فقد قدّمنا انّ إجماع أصحابنا منعقد ، والأخبار به متواترة ، وانّ كلّ مأكول اللحم من سائر الحيوان ذرقه وروثه طاهر ، فلا يلتفت إلى خلاف ذلك ، إمّا من رواية شاذة ، أو قول مصنّف معروف ، أو فتوى غير محصّل

ص: 80


1- هو الشيخ الطوسي قدس سره في مبسوطة في باب مياه الآبار.

وربما أطلق القول وذهب في بعض كتبه (1) شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى نجاسة ذرق الدجاج ، سواء كان جلّالا أو لم يكن ، لأنّ استثناءه من مأكول اللحم يفيد ذلك ، ويعلم منه ، إلا أنّه رجع في استبصاره (2) ومبسوطة ، فقال في مبسوطة في آخر كتاب الصيد والذبائح : فأمّا الهازبي وهو السمك الصغير الذي يقلى ، ( ولا يقلى ) ما في جوفه من الرجيع ، فعندنا يجوز أكله ، لأنّ رجيع ما يؤكل لحمه ليس بنجس عندنا (3).

وقال أيضا في مبسوطة في كتاب الأطعمة : ( الجلّالة البهيمة ) التي تأكل العذرة ، كالناقة والبقرة والشاة والدجاجة ، فإن كان هذا أكثر علفها ، كره أكل لحمها ، بلا خلاف بين الفقهاء ، وقال قوم من أصحاب الحديث : هو حرام ، والأول مذهبنا ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (4) فالحظه بالعين الصحيحة.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب لبعض أصحابنا وهو قوله : ومتى وقع في البئر ماء خالطه شي ء من النجاسات كماء المطر والبالوعة وغير ذلك ، نزح منها أربعون دلوا للخبر (5) ، فإنّه قول غير واضح ولا محكك ، بل يعتبر النجاسة المخالطة للماء الواقع في ماء البئر ، فإن كانت منصوصا عليها ، اخرج المنصوص عليها ، وإن كانت النجاسة غير منصوص عليها فتدخل في قسم ما لم يرد به نص معيّن بالنزح ، فالصحيح من المذهب والأقوال الذي يعضده الإجماع والنظر والاعتبار والاحتياط للديانات عند الأئمة الأطهار ، نزح جميع ماء البئر ، فإن تعذّر ، فالتراوح على ما شرحنا له.

ص: 81


1- وهو الشيخ الطوسي رحمه اللّه في نهايته في باب مياه الآبار.
2- الاستبصار : الباب 23 من كتاب الطهارة.
3- المبسوط : كتاب الصيد والذبائح مع اختلاف في العبارة ، ج 6 ، ص 277.
4- المبسوط : كتاب الأطعمة والأشربة ، ج 6 ، ص 282.
5- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في مبسوطة في باب مياه الآبار.

وقد قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وكلّ نجاسة تقع في البئر وليس فيها قدر منصوص ، فالاحتياط يقتضي نزح جميع الماء وإن قلنا بجواز أربعين دلوا منها ، لقولهم عليهم السلام : ينزح منها أربعون دلوا (1) ، وإن صارت مبخرة (2) كان سائغا ، غير أنّ الأول أحوط.

وقال أيضا : ومتى نزل إلى البئر كافر ، وباشر الماء بجسمه ، نجس الماء ، ووجب نزح جميع الماء ، لأنّه لا دليل على مقدّر منه ، والاحتياط يقتضي ما قلناه (3) فانظر رعاك اللّه إلى قول هذا المصنف رحمه اللّه ، وأنقده ، واعتبره إن أراد بقوله لقولهم عليهم السلام : ينزح منها أربعون دلوا ، وإن صارت مبخرة أنّ أخبارهم بذلك متواترة ، أو الإجماع عليها وإن كانت آحادا ، فلا يجوز العدول عنها ، لأنّ الأخبار المتواترة دليل قاطع ، وحجة واضحة ، وكذلك الإجماع ، فلا يجوز العدول عن الدليل إلى غيره ، بل صار الأخذ بذلك هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، لأنّ فيه الاحتياط ، والعدول إلى ما سواه هو ترك الاحتياط وضدّه.

وإن أراد بقولهم عليهم السلام فلا يجوز عليهم الرجوع إليها ولا العمل بها ، لأن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا كائنا من كان راويه ، فإنّ أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ومن المعلوم الذي يكاد يحصل ، ضرورة أنّ مذهب أصحابنا ترك العمل بأخبار الآحاد ، ما خالف فيه أحد منهم ، ولا شذّ ، فعلى هذا التحرير ما أراد المصنّف بقوله إلا خبر الواحد ، ولأجل ذلك قال : غير أنّ الأول أحوط ، وهو نزح جميع مائها.

وأيضا فقد أجمعنا واتفقنا على نجاسة مائها فيحتاج طهارته إلى إجماع واتفاق ، مثل الإجماع على النجاسة ، ولا إجماع ولا اتفاق إلا إذا نزح جميع الماء ،

ص: 82


1- المبسوط : كتاب الطهارة ، باب في مياه الآبار.
2- المبخرة : بضمّ الميم وسكون الباء وكسر الخاء : المنتنة أعني موضع النتن.
3- المبسوط : ج 1 ، كتاب الطهارة في مياه الآبار.

فإن تعذر النزح للجميع ، فالتراوح على ما قدّمناه.

وينزح لموت الحية ثلاث دلاء ، تفسخت أو لم تتفسخ بغير خلاف ، لأنّ التفسخ لا يعتبر إلا في الفأرة فحسب.

فأمّا إذا ماتت فيها عقرب ، أو وزغة ، فلا ينجس ، ولا يجب أن ينزح منها شي ء بغير خلاف من محصّل ، ولا يلتفت إلى ما يوجد في سواد الكتب (1) من خبر واحد ، أو رواية شاذة ضعيفة مخالفة لأصول المذهب ، وهو أنّ الإجماع حاصل منعقد : إنّ موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ، ولا المائع بغير خلاف بينهم ، وقد رجع مصنّف النهاية عمّا أورده في نهايته ، في مصباحه (2) واستبصاره (3) ومبسوطة (4) ، فإنّه قال في تقسيمه : ويكره ما مات فيه الوزغ والعقرب خاصة ، وقال في جمله وعقوده : وكلّ ما ليس له نفس سائلة لا يفسد الماء بموته فيه (5) ، وقد اعتذرنا للمصنّفين من أصحابنا رحمهم اللّه في خطبة كتابنا هذا ما فيه كفاية ، وقلنا : إنّما يوردون في الكتب ما يوردونه على جهة الرواية ، بحيث لا يشذ من الأخبار شي ء دون تحقيق العمل عليه ، والفتوى به ، والاعتقاد له ، فلا يظن ظانّ فيهم خلاف هذا ، فيخطى عليهم ، وابن بابويه في رسالته يذهب إلى ما اخترناه ، من أنّه لا ينزح من موت العقرب في البئر شي ء (6).

والدلو المراعى في النزح : دلو العادة الغالبة دون الشاذة النادرة ، التي يستقى بها ، دون الدلاء الكبار أو الصغار الخارجة عن المعتادة والغالب الشامل ، لأنّه لم

ص: 83


1- وهو الشيخ الطوسي في نهايته في مياه الآبار.
2- المصباح : كتاب الطهارة فصل في ذكر وجوب إزالة النجاسة من الثياب والبدن.
3- الاستبصار : ج 1 الباب 13 من كتاب الطهارة.
4- المبسوط : ج 1 ، كتاب الطهارة ، في سؤر غير الآدمي.
5- الجمل والعقود : في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها.
6- رسالة ابن بابويه : في منزوحات البئر من النسخة التي بأيدينا.

يقيّد في الخبر.

والنية لا تجب في نزح الماء وإن يقصد به التطهير ، لأنّه لا دليل عليها ، وليس من العبادات التي تراعى فيها النية ، بل ذلك جار مجرى إزالة أعيان النجاسات التي لا تراعى فيها النية ، فعلى هذا الوجه لو نزح البئر من يصح منه النية ، ومن لا يصح النية ، من المسلم ، والكافر ، والصبي ، والمجنون ، حكم بتطهير البئر.

والأسئار على ضربين : سؤر بني آدم ، وسؤر غير بني آدم ، فسؤر بنى آدم على ثلاثة أضرب : سؤر مؤمن ومن حكمه حكم المؤمن ، وسؤر مستضعف ومن حكمه حكم المستضعف ، وسؤر كافر ومن حكمه حكم الكافر ، فالأول والثاني طاهر مطهر ، والثالث نجس منجّس.

فالمؤمن في عرف الشرع : هو المصدق باللّه ، وبرسله ، وبكلّ ما جاءت به.

والمستضعف : من لا يعرف اختلاف الناس في الآراء والمذاهب ، ولا يبغض أهل الحق ، بل لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، كما قال اللّه تعالى (1). وكلّ من أبغض المحق على اعتقاده ومذهبه ، فليس بمستضعف ، بل هو الذي ينصب العداوة لأهل الإيمان.

فأمّا الكافر : فمن خالف المؤمن والمستضعف ، وهو الذي يستحق العقاب الدائم ، والخلود في نار جهنم طول الأبد ، نعوذ باللّه منها ، فليلحظ هذه التقسيمات.

وفرق آخر جاءت به الآثار عن الأئمة الأطهار بين هذه الأسئار ، وهو انّ سؤر المؤمن طاهر فيه الشفاء ، وسؤر المستضعف طاهر لا شفاء فيه ، وسؤر الكافر نجس لا شفاء فيه.

فأمّا سؤر غير بني آدم ، فينقسم إلى قسمين : سؤر الطيور ، وغير الطيور.

فأسئار الطيور كلّها طاهرة مطهرة ، سواء كانت مأكولة اللحم ، أو غير

ص: 84


1- النساء : 143 ، « مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ».

مأكولة اللحم ، جلّالة أو غير جلّالة ، تأكل الجيف أو لا تأكل الجيف.

فأمّا غير الطيور على ضربين : حيوان الحضر ، وحيوان البر.

وحيوان الحضر على ضربين : مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم. فمأكول اللحم سؤره طاهر مطهر. وغير مأكول اللحم فما أمكن التحرز منه سؤره نجس ، وما لا يمكن التحرز منه فسؤره طاهر ، فعلى هذا سؤر الهرة وإن شوهدت قد أكلت الفأرة ، ثم شربت في الإناء ، يكون بقية الماء الذي هو سؤرها طاهر ، سواء غابت عن العين ، أو لم تغب إلا أن يكون الدم مشاهدا في الماء ، أو على جسمها ، فينجس الماء لأجل الدم ، وكذلك لا بأس بأسئار الفار والحيّات وجميع حشرات الأرض.

فأمّا سؤر حيوان البر فجميعه طاهر ، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ، سبعا كان أو غيره ، من ذوات الأربع ، مسخا كان أو غير مسخ ، وحشرات الأرض إلا الكلب والخنزير فحسب ، وما عداها فلا بأس بسؤره.

والسؤر : عبارة عمّا شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه ، من المياه وسائر المائعات.

وإذا كان مع الإنسان إناءان أو أكثر من ذلك ، فوقع في واحد منهما نجاسة ، ولم يعلمه بعينه ، لم يستعمل شيئا منهما بحال بغير خلاف ، ولا يجوز له التحري (1) والواجب عليه التيمم ، ولا يجب عليه إهراقهما ، وله إمساكهما ، امّا لخوف العطش ، فإنّه يجب عليه إمساكهما ، فإن لم يخف العطش ، فله إمساكهما ، فإنّه قادر على تطهير مائهما على بعض الوجوه.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب ، من قوله : وجب عليه إهراق جميعه والتيمم للصلاة ، فغير واضح ، لأنّه لا يجب عليه إهراق مائه النجس ، بل له إمساكه على ما قررناه.

فإن قال قائل : إذا لم يهرقه كيف يجوز له التيمم مع وجود الماء؟ فلهذا قال المصنّف يجب عليه إهراق الماء ، بحيث يجوز له التيمم.

ص: 85


1- الظاهر أنّه التجري والا فلا معنى لعدم جواز التحري.

قلنا : هذا اعتذار ، تركه أعود على من اعتذر له به ، وذلك انّ هذا ماء وجوده كعدمه ، لأنّ شاهد الحال وقرينة الحكم يدلّ على وجود الماء الطاهر ، فمع وجود القرينة لم يحتج إلى إهراق هذا الماء ، ولو عرى الكلام من شاهد الحال لما جاز التيمم ، لأنّ اسم الماء ينطلق على الطاهر والنجس.

وإذا أخبره عدل بنجاسة الماء ، لم يجز قبول قوله ، ولا يجوز له التيمم. فإن كانا عدلين يحكم بنجاسة الماء ، لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين والحكم به معلوم في الشرع. وإن كان الطريق إلى صدقهما مظنونا ، ولا يلتفت إلى قول من يقول في كتابه انّ شهادة الشاهدين تطرح ويستعمل الماء ، فإنّ الأصل الطهارة ، ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون ، وهو شهادة الشاهدين ، لأنّ أكثرها يثمر الظن ، وهذا ليس بشي ء يعتمد ، بل الشارع جعل الأصل ، لأنّ قبول شهادة الشاهدين ، وجوب العمل بهما في الشريعة ، فقد نقلنا من معلوم إلى معلوم ، ولو سلكنا هذا الطريق ، مضى معظم الشريعة ، فإنّه كان يقال ويحتج بأنّ الأصل أن لا صوم واجب في شهر رمضان ، فمن أوجبه فقد رجع عن الأصل الذي هو الإباحة أو لا تكليف ، فلأنّ الأصل وجوب صوم رمضان ، فمن ادّعى سقوطه عن المكلفين به يحتاج إلى دليل.

وإذا شهد شاهدان بأنّ النجاسة في أحد الإناءين ، وشهد آخران بأنّه وقع في الآخر ، فإن كانتا - أعني الشهادتين - غير متنافيتين ، ويمكن الجمع بينهما بأن يشهد هذان بولوغ الكلب في هذا الإناء في صدر النهار ، والآخران يشهدان بولوغ كلب آخر ، أو ولوغ ذلك الكلب في الإناء الآخر عند سقوط الشمس ، فقد نجسا معا بغير خلاف عند التأمّل للأقوال.

وإن كان لا يمكن الجمع بينهما ، وهو أن يشهد اثنان بولوغ كلب معيّن في أحد الإناءين عند زوال الشمس بلا تأخير ، وشهد آخران بولوغ ذلك الكلب بعينه في الإناء الآخر في ذلك الوقت بلا تأخير ، فقد قال الشيخ أبو جعفر

ص: 86

الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1) : سقطت شهادتهما ، وأطلق القول ، ولم يفصّل هل الشهادة على وجه يمكن الجمع بينهما ، أو على وجه لا يمكن الجمع بينهما؟ فإن أراد على وجه يمكن الجمع بينهما ، فهذا لا يصح ، ولا يجوز القول به ، لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين في الشرع معلوم. وإن أراد على وجه لا يمكن الجمع بينهما ، فانّ ذلك مذهب الشافعي في تقابل البيّنتين ، فإنّه يسقطهما ، ويرجع إلى الأصل ، وهو ما كان قبل الشهادتين فيحكم به.

فأمّا مذهب أصحابنا في هذه المسألة فمعروف ، إذا تقابل البينتان ، ولم يترجّح إحداهما على الأخرى بوجه من الوجوه ، وأشكل الأمر ، فإنّهم يرجعون إلى القرعة ، لأنّ أخبارهم ناطقة متظاهرة متواترة ، في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة (2) ، وهم مجمعون على ذلك ، وهذا أمر مشكل ، ولم يرد فيه نص معيّن ، فهو داخل في عموم قولهم عليهم السلام.

والذي أعتمده ويقوى عندي : ان لا تؤثر هذه الشهادة في هذا الماء شيئا ، لأنّ الأصل فيه الطهارة والأصل أيضا الإباحة ، فمن حظر استعماله ونجسه ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وليس للقرعة هاهنا طريق ، لأنّ القرعة تستعمل في مواضع مخصوصة ، ولا أحد من أصحابنا قال : إذا اشتبهت الأواني ، أو الثياب ، أو كان أحد الإناءين ، نجسا والآخر طاهرا ، وكذلك الثوبان اختلطا ولم يتحقق النجس منهما من الطاهر ، يقرع بينهما ، بل أطبقوا على ترك استعمال الإناءين ، ومسألتنا لم نتحقق نجاسة واحد من الإناءين ، وليس الرجوع إلى شهادة العدلين بأولى من شهادة العدلين الآخرين ، وإنّما حصل شك في نجاسة أحدهما ، ولا يرجع بالشك عن اليقين الذي هو الطهارة والإباحة.

ص: 87


1- الخلاف : ج 1 ، مسألة 162 ، لا يخفى ان ذيل كلامه يدفع ما أورده عليه.
2- الوسائل : كتاب القضاء ، باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ح 11 و 18.

والأولى عندي بعد هذا جميعه ، قبول شهادة الشهود الأربعة ، لأنّ ظاهر الحكم ، وموجب الشرع أنّ شهادتهم صحيحة مقبولة غير مردودة ، ولأنّ شهادة الإثبات لها مزيّة على شهادة النفي ، لأنّها قد شهدت بأمر زائد قد يخفى على من شهد بالنفي ، لأنّ النفي هو الأصل ، وشهادة الإثبات ناقلة عنه ، وزيادة عليه ، فكلّ من الشاهدين قد شهد بأمر زائد قد يخفى على الشاهدين الآخرين. وهذا كرجل ادّعى على رجل عشرين دينارا ، وأقام بها شاهدين ، وأقام المشهود عليه بقضاء العشرين دينارا شاهدين ، قبلنا شهادة الشاهدين اللذين شهدا بالقضاء ، لأنّهما أثبتا بشهادتهما أمرا قد يخفى على الشاهدين الأولين ، ففي شهادة الآخرين مزية وزيادة حكم ، ولهذا أمثلة كثيرة في الشريعة ، وبهذا القول افتي ، وعليه أعمل.

والماء النجس لا يجوز استعماله في الوضوء والغسل معا ، ولا في غسل الثوب وإزالة النجاسة ، ولا في الشرب مع الاختيار ، فمن استعمله في الوضوء ، أو الغسل ، أو غسل الثوب ، ثم صلّى بذلك التطهير ، أو في تلك الثياب ، وجب عليه اعادة الوضوء ، أو الغسل ، أو غسل الثوب بماء طاهر ، واعادة الصلاة ، سواء كان عالما في حال استعماله لها ، أو لم يكن عالما ، إذا كان قد سبقه العلم بحصول النجاسة فيها ، فإن لم يتيقن حصول النجاسة فيها قبل استعماله لها ، لم يجب عليه إعادة الصلاة ، ولا اعادة التطهر ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا ، على الصحيح من المذهب والأقوال ، واستمرار النظر والاعتبار ، بل يجب عليه غسل الثوب فحسب ، وغسل ما أصابه من بدنه من ذلك الماء فحسب ، لأنّ الإعادة تحتاج إلى دليل شرعي ، وكذلك القضاء فرض ثان ، يحتاج في ثبوته إلى دليل ثان ، وليس في الشرع ما يدلّ على ذلك ، فلا يجوز إثبات ما لا دلالة عليه ، وأيضا فقد توضأ وضوء شرعيا مأمورا به ، وصلّى صلاة مأمورا بها ، وأيضا فلا يخلو إمّا أن رفع بطهارته الحدث ، أو لم يرفعه ، فإن كان رفعه لا يجب عليه إعادة الصلاة ، ولا الطهور ، وإن كان لم يرفع الحدث. فيجب عليه إعادة الصلاة ،

ص: 88

سواء تقضّى الوقت ، أو كان باقيا ، لأنّ من صلّى بلا طهور يجب عليه إعادة الصلاة ، على كلّ حال ، بغير خلاف ، متعمّدا كان أو ناسيا ، تقضّى الوقت ، أو لم يتقضّ ، بلا خلاف.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته (1) : يجب عليه إعادة الصلاة ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، وأعمل عليه ، لأنّه يتيقن معه براءة الذمة ممّا وجب عليها ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر في جميع كتبه ، ومعه بذلك أخبار اعتمد عليها.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي في نهايته : اللّهم إلا أن يكون الوقت باقيا فإنّه يجب عليه غسل الثوب ، واعادة الوضوء ، واعادة الصلاة ، فإن كان قد مضى الوقت ، لم يجب عليه إعادة الصلاة (2) ، إلا أنّ أبا جعفر الطوسي رضي اللّه عنه رجع عن هذا القول ، وعن هذه الرواية ، في استبصاره (3) ونقده للأخبار ، وتوسطه بينها ، والجمع بين الصحيح والفاسد ، فإن قلّده مقلّد فقد رجع الشيخ عنها.

وقال رحمه اللّه في نهايته : فإن استعمل شي ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن ويخبز ، لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز ، لأنّ النار قد طهرته (4). والصحيح عندي خلاف ذلك ، لأنّ النار لا تطهر الخبز ، إلا إذا أحالته وصيّرته رمادا ، لأنّ ما تطهره النار معلوم مضبوط ، وليس في جملة ذلك الخبز ، وقد رجع عن هذا القول في الجزء الثاني من نهايته ، في باب الأطعمة المحظورة والمباحة ، فإنّه قال : وإذا نجس الماء بحصول شي ء من النجاسات فيه ، ثم عجن به ، وخبز منه ، لم يجز أكل ذلك الخبز وقد رويت رخصة في جواز أكله ، وذكر انّ النار قد طهرته ، والأحوط ما قدّمناه (5) ، وهذا يدل على أنّه ما جعله في باب المياه على جهة الفتيا ، بل أورده على جهة طريق الرواية والإيراد ، دون العمل والاعتقاد.

وماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري ، إذا كانت له مادة من المجرى ، فإن

ص: 89


1- المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص 66.
2- النهاية : باب المياه وأحكامها.
3- الاستبصار : الباب 109 من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.
4- النهاية : باب المياه وأحكامها.
5- النهاية : باب الأطعمة المحظورة والمباحة.

لم يكن له مادة ، فإن كان كرا فصاعدا فهو طاهر مطهر ، لا ينجسه حصول شي ء من النجاسات ، إلا ما تغيّر أحد أوصافه ، على ما قدّمنا القول فيه ، وشرحناه ، وإن كان أقل من كر ، فهو على أصل الطهارة ، ما لم يعلم فيه نجاسة ، فإن علمت فيه نجاسة ، وجرت المادة التي هي البزال له فقد طهر ، وجاز استعماله ، وإن لم يبلغ الكر مع اتصال المجرى به ، فإن انقطع المجرى اعتبرنا كونه كرا ، فإن كان أنقص من الكر ، فهو أيضا على أصل الطهارة ، مثل الاعتبار الأول ، إلا أن يقع فيه نجاسة ، ثم لا يزال هذا الاعتبار ثابتا فيه.

والمادة المذكورة لا تعدو ثلاثة أقسام : إمّا يعلم طهارتها يقينا ، أو يعلم نجاستها يقينا أو لا يعلم الطهارة ولا النجاسة. فإن علمت الطهارة ، فالحكم ما تقدّم ، وكذلك إذا لم يعلم طهارة ولا نجاسة ، فهو على أصل الطهارة في الأشياء كلّها ، والحكم ما تقدّم. فأمّا إذا علمت أنّها نجسة يقينا ، وتعيينا ، فلا يجوز اعتبار ما تقدّم ، لأنّه لا خلاف انّ الماء النجس لا يطهر بجريانه.

فإن قيل : الكلام في المادة مطلق ، لأنّ ألفاظ الأخبار عامة ، بأنّ ماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري ، إذا كانت له مادة من المجرى ، فمن قيّدها وخصّها يحتاج إلى دليل.

قلنا : الإطلاق والعموم قد يخصّ بالأدلة ، بغير خلاف بين من ضبط هذا الفن وأصول الفقه ، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه ، أنّ الماء النجس لا يطهر بجريانه ، ولا يطهر غيره ، إذا لم يبلغ كرا على ما مضى شرحنا له ، وفحوى الخطاب من الأخبار ينبه على ما قلناه ، لأنّ المعهود في مادة المجرى أن لا يعلم بطهارة ولا نجاسة ، فهي المرادة بالخطاب ، لأنّ الإنسان داخل الحمام لا يعلم ولا يبصر ما وراء الحائط ، فيحكم بأنّ المادة عند هذه الحال على أصل الطهارة وشاهد الحال أيضا يحكم بما قلناه ، فهذا هو المعنى بالمادة ، دون المادة المعتبر نجاستها.

وغسالة الحمام ، وهو المستنقع الذي يسمى الجئة لا يجوز استعمالها على

ص: 90

حال ، وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة عليهم السلام آثار (1) معتمدة قد اجمع عليها ، لا أحد خالف فيها ، فحصل الإجماع والاتفاق على متضمنها ، ودليل الاحتياط يقتضي ذلك أيضا.

ومتى ولغ الكلب في الإناء وجب غسله ثلاث مرات ، أولاهن بالتراب ، وبعض أصحابنا (2) في كتاب له يجعل التراب مع الوسطى ، والأول أظهر في المذهب ، وكيفية ذلك أن يجعل الماء فيه ، ويترك التراب ، أو يترك فيه التراب ، ويصب الماء عليه بمجموع الأمرين ، لا بانفراد أحدهما عن الآخر ، لأنّه إذا غسل بمجرد التراب ، لا يسمّى غسلا ، لأنّ حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم المغسول ، والتراب لا يجرى وحده ، وإن غسلته بالماء وحده ، فما غسلته بالماء والتراب ، لأنّ الباء هاهنا للإلصاق بغير خلاف ، فيحتاج ان يلصق أحد الجسمين بالآخر.

ولا يراعى التراب إلا في ولوغ الكلب خاصة ، دون سائر الحيوان ، ودون كلّ شي ء من أعضاء الكلب ، لأنّ بعض أصحابنا ذكر في كتاب له أنّ مباشرة الكلب الإناء بسائر أعضائه ، يجري مجرى الولوغ في أحكامه (3) ، والأول الأظهر ، لأنّه مجمع عليه.

وبعض أصحابنا ألحق في كتاب له أنّ حكم الخنزير في وجوب غسل الإناء من ولوغه ، ثلاث مرات ، إحداهن بالتراب ، حكم الكلب سواء ، وتمسك بتمسكين اثنين : أحدهما : انّ الخنزير يسمّى كلبا في اللغة ، فينبغي أن يتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب ، والثاني : إنّا قد بينا أنّ سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف (4). وهذا استدلال غير واضح ، لأنّ أهل اللغة العربية لا يسمّون الخنزير كلبا ، بغير خلاف بينهم ،

ص: 91


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب الماء المضاف.
2- وهو الشيخ المفيد رحمه اللّه في المقنعة في باب المياه وأحكامها ص 65.
3- وهو الشيخ المفيد رحمه اللّه في المقنعة في باب المياه وأحكامها ص 65.
4- وهو الشيخ الطوسي رحمه اللّه في الخلاف في مسألة 143 من كتاب الطهارة.

فالدعوى عليهم دعوى عريّة من برهان ، والعرف خال منه ، لأنّ أحدا لا يفهم من قوله : عندي كلب ، أي عندي خنزير ، بل الذي يتبادر إلى الفهم هذه الدابة المخصوصة ، ولو أنّ حالفا أو ناذرا حلف أو نذر إن رأى خنزيرا فلله عليه أن يتصدق بقدر مخصوص من ماله على الفقراء ، ثم رأى كلبا أو نذر أنّه إن رأى كلبا ، فرأى خنزيرا ، لم يتعلّق به وفاء النذر ، بغير خلاف بين المسلمين ، لا لغة ولا عرفا ، والثاني من قوله : إنّا قد بيّنا أنّ سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف ، وهذا أيضا استدلال يضحك الثكلى ، إن لم يكن الخنزير عند هذا القائل يسمّى كلبا ، فكيف يراعى التراب في إحدى الغسلات ، هذا مع التسليم له بأنّ الإناء يغسل من سائر النجاسات ثلاث مرات ، وليس كلّ إناء يجب غسله ثلاث مرات ، يراعى في إحدى الغسلات التراب ، والإجماع حاصل من الفرقة ، إنّ التراب لا يراعى إلا في ولوغ الكلب خاصة ، دون سائر النجاسات ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، ودون التسليم له - الغسلات الثلاث فيما عدا آنية الولوغ وآنية الخمر والمسكر - خرط القتاد لأنّ الصحيح من الأقوال والمذهب ، والذي عليه الاتفاق والإجماع ، مرة واحدة مع إزالة عين النجاسة ، وقد طهر ، ولا يراعى العدد في غسل الأواني ، إلا في آنية الولوغ والخمر والمسكر فحسب.

وأيضا فهذا القائل وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يذهب في مسائل خلافه ، وهو الكتاب الذي وضعه لمناظرة الخصم إلى أنّ العدد في الغسلات لا يراعى إلا في الولوغ خاصة ، ويقول : دليلنا انّ العدد يحتاج إلى دليل ، وحمله على الولوغ قياس لا نقول به (1).

فمن يقول هذا في استدلاله كيف يقول هذا في استدلاله على ولوغ الخنزير ،

ص: 92


1- الخلاف : كتاب الطهارة ، مسألة 142.

مع تسليمه انّه لا يسمّى كلبا ، بذلك الدليل؟ إنّ هذا لعجيب ، وقد ذهب في نهايته (1) ، وجمله وعقوده (2) إلى انّه لا يعتبر غسل الإناء بالتراب إلا في ولوغ الكلب خاصة.

ومتى مات في الإناء حيوان له نفس سائلة ، نجس الماء إذا كان أقل من كر ، ووجب غسل الإناء مرة واحدة ، سواء كان الميّت فأرة أو غيرها ، وقد روي أنّه يغسل لموت الفارة فيه سبع مرات (3) ، والصحيح مرة واحدة.

وكلّ ما وقع في الماء فمات فيه ، ممّا ليس له نفس سائلة ، فلا بأس باستعمال ذلك الماء ، وقد استثنى بعض أصحابنا الوزغ والعقرب خاصّة ، ذكر ذلك الشيخ أبو جعفر في نهايته (4) ، وذلك أورده على طريق الرواية دون العمل على ما ذكرناه عنه واعتذرنا له.

وكذلك ما أورده في هذا الكتاب المشار إليه ، إنّ الوزغ إذا وقع في الماء ، ثم خرج منه ، لم يجز استعماله على حال ، والصحيح خلاف ذلك ، لأنّا قد دلّلنا أنّ موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ، ولا يفسده ، وهذا مذهب أهل البيت ، والأوّل من القول مذهب المخالف ، فإذا كان بموته فيه لا ينجسه فكيف ينجسه بوقوعه فيه ، وقد دلّلنا على أنّ أسئار حشرات الأرض طاهرة بغير خلاف بيننا.

ومتى حصل الإنسان عند غدير أو مصنع ، ولم يكن معه ما يغترف به الماء لطهارته الصغرى ، فليدخل يده فيه ، ويأخذ منه ما يحتاج إليه لوضوئه ، فإن أراد الغسل للجنابة ، فكذلك ، هذا مع خلو يده من نجاسة عينية ، ويكون الماء دون الكر ، فان كان الماء دون الكر ، وعلى يده نجاسة أفسده.

وقال بعض أصحابنا (5) في كتاب له : وإن أراد الغسل للجنابة ، وخاف إن نزل إليه فساد الماء فليرش عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، ثمّ ليأخذ كفا كفا

ص: 93


1- النهاية : باب المياه وأحكامها.
2- الجمل والعقود : في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها.
3- الوسائل : الباب 53 من أبواب النجاسات ، ح 1.
4- النهاية : باب المياه وأحكامها.
5- النهاية : باب المياه وأحكامها.

من الماء ، فيغتسل به ، ففي الطهارة الصغرى التي هي الوضوء ، وأفق على أخذه الماء (1) من غير إفساد له ، وإن رجع من استعماله إليه ، وفي الكبرى لم يوافق ، لأنّ عند هذا القائل أنّ الماء المستعمل في الطهارة الصغرى طاهر مطهر ، فأمّا المستعمل في الطهارة الكبرى فلا يرفع به الحدث ، فلأجل هذا قال : فليأخذ كفا كفا من الماء يستعمل به ، يريد قبل أن ينزل من استعماله إلى باقي الماء ، فيصير ماء مستعملا في الطهارة الكبرى ، فلا يرتفع الحدث عنده به.

وقوله : فليرش ، يريد به نداوة جلده وبلله من قبل نيّته واغتساله ، بحيث يكفيه بعد بلل جسده ، اليسير من الماء ، فيجري على جسده من قبل أن ينزل إلى باقي الماء لئلا يصير الماء الباقي قبل فراغه ، مستعملا في الكبرى ، فلا يرفع الحدث عنده به.

وليس قول من يقول المراد بالرش عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، على الأرض ، دون ميامن جسده ومياسره وخلفه وأمامه ، بشي ء يلتفت إليه ، لأنّه لا معنى له يرجع إليه لأنّه إذا تندّت الأرض من هذه الجهات الأربع ، كان أسرع إلى نزول ما يغتسل به بعد ذلك إلى الماء الباقي قبل فراغ المغتسل من اغتساله فيصير الباقي ماء مستعملا ، فلا يرتفع الحدث به عنده.

وهذا جميعه على رأي شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في أنّ الماء المستعمل في الأغسال الواجبة لا يرفع الحدث ، وقد دلّلنا على خلاف ذلك ، وبيّنا الصحيح منه قبل هذا المكان في هذا الكتاب ، فعلى المذهب الصحيح من أقوال أصحابنا لا حاجة بنا إلى الرش المذكور.

ويستحب أن يكون بين البئر التي يستقى منها وبين البالوعة سبع أذرع ، إذا كانت البئر تحت البالوعة ، وكانت الأرض سهلة ، وخمس أذرع ، إذا كانت فوقها ، والأرض أيضا سهلة ، فإن كانت الأرض صلبة ، فليكن بينها وبين البئر ،

ص: 94


1- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية في باب المياه وأحكامها.

خمس أذرع من جميع جوانبها ، هذا جميعه على الاستحباب ، وإلا فلو كان بين البئر وبين البالوعة شبر أو أقل ، لم يكن بذلك بأس ، ما لم يتغير أحد أوصاف ماء البئر بالنجاسة.

والماء المسخن على ثلاثة أضرب : ماء سخّنته النار ، وماء سخّن بالشمس ، وماء مسخّن من ذاته ، وهو ماء العيون الحارة الحامية ، فالذي سخّن بالنار لا يكره استعماله على حال ، وما أسخنته الشمس بجعل جاعل له في إناء ، وتعمّده لذلك ، فإنّه مكروه في الطهارتين معا فحسب ، وما كان مسخنا من ذاته ، وهو ماء العيون الحامية ، فإنه يكره استعماله في التداوي فحسب.

باب أحكام الاستنجاء والاستطابة ، وكيفية الوضوء وأحكامه

ينبغي لمن أراد الغائط أن يتجنّب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، والطرق النافذة ، وفي النزال ، وجحرة الحيوان ، والمياه الجارية والراكدة ، ولا يبولن فيهما ، ولا في أفنية الدور ، ولا في مواضع اللعن ، وفي الجملة كلّ موضع يتأذى به الناس ، كلّ ذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب فمن فعل ذلك لا يكون فاعلا لقبيح ، ولا مخلا بواجب.

فإذا دخل المبرز ، فالمستحب أن يقول : أعوذ باللّه من الرجس النجس ، - بكسر الراء في الرّجس ، وكسر النون في النجس ، لأنّ هذه اللفظة إذا استعملت مع الرّجس ، قيل رجس نجس ، بخفض الراء والنون ، وإذا استعملت مفردا ، قيل نجس ، بفتح النون والجيم معا - الخبيث المخبث الشيطان الرّجيم.

فإذا أراد القعود لحاجته ، فالواجب عليه أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا غائط ، فهذان تركان واجبان في الصحاري والبنيان على الأظهر من المذهب ، وان وجد في بعض الكتب (1) لفظ الكراهية فليس بشي ء يعتمد ، إلا

ص: 95


1- وهو الشيخ المفيد رحمه اللّه في المقنعة باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ص 41.

أن يكون الموضع مبنيا على وجه لا يتمكن فيه من الانحراف عن القبلة.

ويستحب له أن لا يستقبل قرصي الشمس والقمر ، ولا يستقبل الريح بالبول خاصّة لئلا يردّه عليه ، ولا يطمح ببوله في الهواء ، ولا يبولنّ في الأرض الصلبة.

والاستنجاء فرض واجب ، ويجوز استعمال الأحجار فيه ، أو ما يقوم مقامها في إزالة العين ، من سائر الأجسام ما لم يكن مطعوما ، أو عظما ، أو روثا ، أو جسما صقيلا ، أو جسما له حرمة ، فإن استعمل هذه الأجسام المنهي عن استعمالها ، فلا يجزيه في استنجائه فإن كان قد توضأ وصلّى ، عامدا فعل ذلك أو ناسيا ، أو لم يفعل الاستنجاء بشي ء من الأجسام بالجملة عامدا أو ناسيا ، فالواجب عليه الاستنجاء بما يجب الاستنجاء به ، واعادة الصلاة ، دون الطهارة ، إذا لم يكن أحدث ، أو فعل ما ينقضها ويبطلها.

ويستعمل الأحجار أو ما يقوم مقام الأحجار ، سوى ما ذكرناه فيما لم يتعدّ المخرج وينتشر ، فإن انتشر وتعدّى المخرج ، لم يجزه إلا الماء ، مع وجوده ، والجمع بين الحجارة والماء أفضل ، والاقتصار على الأحجار يجزي.

فأمّا البول ، فلا بد من غسله بالماء ، والاستنجاء باليد اليسرى إلا إذا كان بها عذر.

والمسنون في عدد أحجار الاستنجاء ثلاثة ، وان أنقاه حجر واحد ، لم يقتصر عليه ، بل يجب عليه أن يكمل العدد ، على الصحيح من الأقوال ، وإن كان شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان يذهب إلى الاقتصار على حجر واحد ، إذا نقي به الموضع ، وهو مذهب المخالف ، والأول أظهر ، ودليل الاحتياط يعضده ، ويقتضيه ، لأنّ فيه اليقين ببراءة الذمة ، والإجماع بإزالة العين ، والحكم المتعلق بذلك ، فإن لم ينق الموضع بالأحجار الثلاثة ، فالواجب استعمال ما ينقى به الموضع ، وتكون الأحجار أبكارا غير مستعملة في إزالة النجاسة أو عليه نجاسة.

والاستبراء في الطهارة الصغرى ، عند بعض أصحابنا واجب ، وكيفيته أن يمسح بإصبعه من عند مخرج النجو إلى أصل القضيب ثلاث مرات ، ثمّ يمرّ

ص: 96

إصبعه على القضيب ، ويخرطه ثلاث مرات وباقي أصحابنا يذهبون إلى استحبابه ، إلا أنّه إن لم يفعل ذلك ، ورأى بعد وضوئه بللا ، فالواجب عليه الإعادة بلا خلاف بينهم ، وإن كان قد فعل الاستبراء ، ثم رأى بللا بعد ذلك فلا خلاف بينهم انّه لا يجب عليه إعادة الطهارة ، وإنّما ذلك من الحبائل ، وهي عروق الظهر.

ولا استنجاء من ريح ، وإن كان فيها الوضوء.

فإذا استنجى بالماء ، فليغسل موضع النجو ، إلى أن ينقى ما هناك أثرا وعينا ، دون الرائحة.

وليس لما يستعمل من الماء حدّ محدود ، إلا سكون النفس فحسب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ حدّه خشونة الموضع ، وأن يصرّ ، وهذا ليس بشي ء يعتمد ، لأنّه يختلف باختلاف المياه والزمان ، فماء المطر المستنقع في الغدران لا يخشن الموضع ، ولو استعمل منه مائة رطل ، والماء البارد في الزمان البارد ، يخشن الموضع بأقل قليل ، والمذهب : الأوّل.

وليغسل رأس إحليله ، والإحليل هو الثقب ، دون سائر العضو بالماء ، ولا يجوز الاقتصار على غيره مع وجوده ، على ما تقدّم ذكره ، وأقل ما يجزي من الماء لغسله ما يكون جاريا ، ويسمّى غسلا.

وقد روي أنّ أقل ذلك مثلا ما عليه من البول ، وإن زاد على ذلك كان أفضل (1).

ويكره الكلام وهو على حال الغائط إلا أن تدعوه إلى ذلك الكلام ضرورة.

ويستحب له أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء ، من حدث الغائط مرتين ، ومن البول مرّة ، وكذلك من النوم ، ومن الجنابة ثلاث مرّات ، ولا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن ، إذا كانت الأرض طاهرة ، ولم

ص: 97


1- الوسائل : الباب 26 من أحكام الخلوة ، ح 5.

يصعد متلوثا ، وهذا إجماع من أصحابنا سواء كان من الكف الأول ، أو الكف الأخير.

فإما كيفية الوضوء :

فالنية واجبة في كلّ طهارة ، سواء كانت وضوء أو غسلا أو تيمما ، من جنابة كانت الطهارة ، أو من غيرها ، فإن كانت الطهارة واجبة بأن تكون وصلة إلى استباحة واجب تعيّن ، نوى وجوبه على الجملة ، أو الوجه الذي له وجب ، وكذا إن كان ندبا ، ليتميز الواجب من الندب ، ولوقوعه على الوجه الذي كلف إيقاعه ، ويجوز أن يؤدي بالطهارة المندوبة الفرض من الصلاة ، بدليل الإجماع من أصحابنا.

والفرض الثاني الذي تقف صحّة الطهارة عليه ، مقارنة النية لها ، وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، هي مقارنة آخر جزء من النيّة لأول جزء منها ، حتى يصحّ تأثيرها بتقدّم جملتها على جملة العبادة ، لأنّ مقارنتها على غير هذا الوجه بأن يكون زمان فعل الإرادة هو زمان فعل العبادة أو بعضها متعذر ، لا يصح تكليفه ، أو فيه حرج يبطله ما علمناه من نفي الحرج في الدين ، ولأنّ ذلك يخرج ما وقع من أجزاء العبادة. وتقدّم وجوده على وجود جملة النيّة عن كونه عبادة من حيث وقع عاريا عن جملة النية ، لأنّ ذلك هو المؤثر في كون الفعل عبادة ، لا بعضه.

والفرض الثالث استمرار حكم هذه النيّة إلى حين الفراغ من العبادة ، وذلك بأن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها.

ويستحب أن ينوي المتطهر عند غسل يديه في الطهارة الكبرى ، وإن كانت صغرى عند المضمضة والاستنشاق ، إذ كانت المضمضة والاستنشاق أول ما يفعل من الوضوء ، فينبغي مقارنة النيّة لابتدائهما ، لأنّهما وإن كانا مسنونين ، فهما من جملة العبادة ، ومما يستحق بهما الثواب ، ولا يكونان كذلك إلا بالنية على ما قال تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ

ص: 98

الْأَعْلى ) (1).

وفرض الوضوء غسل الوجه ، وحدّه من قصاص شعر رأسه إلى محاذ الذقن ، بالذال المعجمة وفتح القاف طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا ، من مستوي الخلقة في الأغلب والأعم ، دون النادر الشاذ.

وغسل اليدين من المرافق إلى أطراف الأصابع ، وعند بعض أصحابنا انّ البدأة في الغسل ، من المرافق واجب ، لا يجوز خلافه ، فمتى خالفه ، وجبت عليه الإعادة ، والصحيح من المذهب انّ خلاف ذلك مكروه شديد الكراهة ، حتى جاء بلفظ الحظر ، لأنّ الحكم إذا كان عندهم شديد الكراهة يجي ء بلفظ الحظر ، وكذلك إذا كان الحكم شديد الاستحباب ، جاء بلفظ الوجوب ، كما جاء عنهم عليهم السلام انّ غسل يوم الجمعة واجب (2) ، لمّا كان شديد الاستحباب ، لأنّه لا دليل على الحظر ، بل القرآن يعضد مذهب من قال ذلك على الاستحباب ، وخلافه مكروه ، لأنّه تعالى أمرنا بأن نكون غاسلين ، ومن غسل يده من الأصابع إلى المرافق (3) ، فقد تناوله اسم غاسل بغير خلاف.

ومسح مقدّم الرأس ببلة يده ، ومسح ظاهر القدمين من الأصابع إلى الكعبين ، وتجب البدأة بالأصابع والانتهاء إلى الكعبين ، لأنّ القرآن (4) يشهد بذلك بالبلّة أيضا.

وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له ، إلى جواز مسحهما من الكعبين إلى رءوس الأصابع ، وذلك منه على جهة لفظ الخبر وإيراده ، لا على سبيل الفتوى والعمل ، لأنّ هذا القائل هو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، أورد ذلك في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، ومذهبه وفتواه ما حققه في جمله وعقوده (5) ، فإنّه ذهب

ص: 99


1- الليل : 19 - 20
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة
3- المائدة : 6
4- المائدة : 6
5- الجمل والعقود : في فصل ما يقارن الوضوء.

إلى ما اخترناه في الجمل والعقود ، ولأنّ الإجماع حاصل على براءة ذمة المتطهّر إذا فعل ما قلناه ، وليس كذلك خلافه ، فالاحتياط يوجب عليه ذلك.

والكعبان ، هما العظمان اللذان في ظهر القدمين ، عند معقد الشراك ، والواجب في العضوين المغسولين ، الدفعة الواحدة ، والمرتان سنّة وفضيلة بإجماع المسلمين ، ولا يلتفت الى خلاف من خالف من أصحابنا ، بأنّه لا يجوز المرّة الثانية ، لأنّه إذا تعيّن المخالف ، وعرف اسمه ونسبه ، فلا يعتد بخلافه. والشيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه يخالف في ذلك ، وما زاد على المرّتين بدعة ، والعضوان الممسوحان لا تكرار في مسحهما ، فمن كرّر في ذلك كان مبدعا ، ولا يبطل وضوءه بغير خلاف.

ولو استقبل في مسح رأسه الشعر لأجزأه وكذلك لو غسل الوجه منكوسا يبدأ من المحادر إلى القصاص لأجزأه على الصحيح من المذهبين ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (1) : لا يجزيه ، والأول أظهر ، لأنّه يتناوله اسم غاسل ، وإذا تناوله فقد امتثل الأمر وأتى بالمأمور به بلا خلاف.

وأقل ما يجزي من الماء في الأجزاء المغسولة ما يكون منه غاسلا ، وإن كان مثل الدهن ، بفتح الدال ، بعد أن يكون جاريا على العضو ، فإن لم يكن الماء جاريا فلا يجزيه ، لأنّه يكون ماسحا ولا يكون غاسلا ، والأمر بالغسل غير الأمر بالمسح ، وبعض أصحابنا يذهب في كتاب له إلى إطلاق الدهن ، من غير تقييد للجريان ، وتقييده في كتاب آخر له ، والصحيح تقييده بالجريان ، لأنّه موافق للبيان الذي أنزل به القرآن (2).

وقال السيد المرتضى رحمه اللّه في المسائل الناصريات (3) : والذي يجب أن يعول عليه ، انّ اللّه تعالى أمر في الجنابة بالاغتسال (4) ، وفي الطهارة الصغرى

ص: 100


1- المبسوط : باب كيفية الوضوء
2- مضت الآية وهي في سورة المائدة الآية 6.
3- المسائل الناصريات : كتاب الطهارة. المسألة 42
4- النساء : 43.

بغسل الوجه واليدين (1) ، فيجب أن يفعل المتطهر من الجنابة ، والمتوضي ما يسمّى غسلا ، ولا يقتصر على ما يسمّى مسحا ولا يبلغ الغسل ، فأمّا الأخبار الواردة (2) بأنّه يجزئك ولو مثل الدهن ، فإنّها محمولة على دهن يجري على العضو ويكثر عليه حتى يسمّى غسلا ، ولا يجوز غير ذلك. قال محمّد بن إدريس وهذا هو الصحيح المحصّل المعتمد عليه.

والمسنون للرجال أن يبتدءوا بظاهر الذراع بالكف الأول ، وبباطن الذراع بالكف الثاني ، والمسنون للنساء عكس ذلك ، وهذا على جهة الندب ، لا الوجوب للرجال والنساء ، ولا بدّ من إدخال المرافق في الغسل ، على طريق الوجوب.

والترتيب واجب في الطهارتين معا الكبرى والصغرى.

والموالاة واجبة في الصغرى فحسب ، وحدّها المعتبر عندنا على الصحيح من أقوال أصحابنا المحصّلين ، هو أن لا يجف غسل العضو المقدّم في الهواء المعتدل ، ولا يجوز التفريق بين الوضوء بمقدار ما يجف معه غسل العضو الذي انتهى إليه ، وقطع الموالاة منه في الهواء المعتدل.

وبعض أصحابنا يوجب الموالاة على غير هذا الاعتبار ، ويذهب إلى أنّ اعتبار الجفاف يكون عند الضرورة لانقطاع الماء وغيره من الأعذار ، فأمّا مع زوال الأعذار ، فلا يعتبر جفاف ما وضأه.

وأقل ما يجزي في مسح الناصية ، ما وقع عليه اسم المسح ، والأفضل أن يكون مقدار ثلاث أصابع مضمومة ، سواء كان مختارا أو مضطرا ، وقال بعض أصحابنا : الواجب في حال الاختيار مقدار ثلاث أصابع مضمومة ، وفي حال الضرورة إصبع واحدة ، والأول أظهر بين أصحابنا ، لأنّ دليل القرآن يعضده ، لأنّ من مسح ما اخترناه ، يسمّى ماسحا بغير خلاف ، ومن ادّعى الزيادة يحتاج إلى شرع.

ص: 101


1- مضت الآية وهي في سورة المائدة الآية 6
2- الوسائل : الباب 52 من أبواب الوضوء.

فالشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يذهب إلى ما اخترناه ، في جمله وعقوده (1) ، ويورد المقالة الأخرى في نهايته (2) ، على جهة الإيراد على ما نبهنا عليه من قبل.

ويكره استقبال شعر ذراعك في غسله ، وكذلك يكره استقبال شعر ناصيتك في مسحها.

ثم تضع يديك جميعا بما بقي فيهما من البلة على ظهر قدميك ، فتمسحهما من أطراف الأصابع إلى الكعبين اللذين تقدّم وصفهما ، ولا يجوز أن يأخذ للرأس والرجلين ماء جديدا ، ولا يجزي غسل الرجلين عن مسحهما ، وكذلك الرأس ، وإن عرضت حاجة إلى غسل الرجلين للتنظيف أو غيره ، وجب أن تقدّم على الوضوء ، ليميّز بين المفروض والمسنون ، فإن جعل غسلهما بين أعضاء الطهارة فمكروه.

ويعتبر جفاف ما وضأه على ما مضى شرحنا له.

ومسح الأذنين أو غسلهما بدعة عند أهل البيت عليهم السلام.

ولا يجوز المسح على الخفين ، ولا الجوربين ، ولا الجرموقين ، ولا على الخمار والعمامة ، فأمّا النعال فما كان منها حائلا بين الماء وبين القدم لم يجز المسح عليه ، وما لم يمنع من ذلك جاز المسح عليه ، سواء كان منسوبا إلى العرب أو العجم.

ويجوز المسح على الجبائر عند الضرورة وخوف المضرة بحلّ العضو.

قال محمّد بن إدريس : في مسائل الخلاف للسيّد المرتضى « التساخين : الخفاف ، بالتاء المنقطة من فوقها بنقطتين المفتوحة والسين غير المعجمة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة والياء المنقطة من تحتها بنقطتين المسكنة والنون » فأوردت الكلمة هاهنا لئلا تصحّف.

ويجب في الوضوء الترتيب ، وهو أن يغسل الوجه ، ثم اليدين ، ويمسح الرأس ، ثم الرجلين ، فمن قدّم مؤخرا أو أخّر مقدّما لم يجزه ذلك في رفع حدثه

ص: 102


1- الجمل والعقود : باب ما يقارن الوضوء
2- النهاية : باب آداب الحدث وكيفية الطهارة.

وكان عليه تداركه ، كما أنّه قدّم غسل يديه على وجهه ، فالواجب أن يرجع فيغسل وجهه ثم يديه وكذلك سائر الأعضاء.

ومن قدّم غسل يده اليسرى على اليمنى وجب عليه الرّجوع إلى غسل اليمنى ثم يعيد غسل اليسرى ، ودليل ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام.

فإن غسل اليدين قبل الوجه ، ثم غسل الوجه بعدهما فان كان لم ينو عند المضمضة والاستنشاق نية الطهارة ، ولا نواها عند غسل وجهه ، فإنّه يجب أن يعيد غسل وجهه ثانيا بنية ، لأنّه غسله بغير نية ، وإن كان قد نوى عند المضمضة فلا يجب عليه اعادة غسل وجهه ثانيا ، وكذلك إن لم ينو عند المضمضة ونوى عند غسل وجهه نية الطهارة ، فلا يجب عليه اعادة غسله ثانيا بل اعادة غسل يديه فحسب ومسح رأسه ورجليه مرتبا إذا لم يجف الماء الذي على وجهه ، فإن جفّ وجب عليه اعادة غسله ثانيا ، فهذا تحرير ذلك.

والموالاة في الوضوء أيضا واجبة ، ومعناها غير معنى الترتيب ، لأنّ الترتيب هو أن يكون كلّ تطهير عضو بعد صاحبه من غير تفصيل ، لفور أو تراخ ، والموالاة أن يوالي بين الأعضاء من غير تراخ ، فيصل غسل اليدين بغسل الوجه ، ومسح الرجلين بمسح الرأس ، ويتعمد أن يكون فراغه من مسح رجليه وعلى أعضائه المغسولة والممسوحة نداوة الماء.

ومن فرّق وضوءه لانقطاع الماء عنه أو لغيره من ضروب الأعذار أو باختياره حتى يجف ما تقدّم ، وجب عليه استيناف الوضوء من أوله أو من حيث جف ، وإن كان التفريق لم يجف معه ما تقدّم ، وصل من حيث قطع ، ومن ذكر انه لم يمسح برأسه وفي يده بلّة الوضوء ، مسح عليه وعلى رجليه بما بقي في يده من البلّة ، من غير استيناف ماء مجدد ، وكذلك القول في الرجلين إذا ذكر انّه لم يمسح عليهما ، فإن لم يكن في يده بلل أخذه من حاجبيه أو من لحيته أو من أشفار عينيه ، إن كان في ذلك نداوة ، ومسح بها وإن كانت قليلة ، فإن لم يبق شي ء

ص: 103

من النداوة أصلا ، وجب عليه اعادة الوضوء ، من أوّله.

وكذلك إن ذكر انّه لم يغسل ذراعيه ، وجب أن يغسلهما ، ثم يمسح برأسه ورجليه ، وكلّ هذا ما لم يجف طهارة العضو المتقدّم على المنسي كما انّه ذكر انّه لم يغسل ذراعيه وقد جفت طهارة وجهه ، أو ذكر انّه لم يمسح رأسه وقد جفت طهارة ذراعيه ، فمن كانت هذه حاله وجب أن يستأنف الوضوء من أوله.

ومن كان قائما في الماء وتوضأ ، ثم أخرج رجليه من الماء ومسح عليهما ، من غير أن يدخل يديه في الماء ، فلا حرج عليه ، لانه ماسح بغير خلاف والظواهر من الآيات والأخبار متناولة له ، ولنا في هذا مسألة طويلة فمن أرادها وقف عليها.

ومن عرض له - وهو في حال الوضوء لم يخرج عنه - شك في أنّه ترك بعض أعضائه أو قدّم مؤخّرا أو أخّر مقدّما ، وجب عليه أن يعيد الوضوء من أوله حتى يكون على يقين من كمال طهارته ، إلا أن يكثر ذلك منه ويتواتر فلا يلتفت إليه ، ويمضي فيما أخذ فيه.

فإن كان الشك العارض بعد فراغه وانصرافه من مغتسله وموضعه لم يحفل بالشك وألغاه ، لأنّه لم يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها ، وليس ينقض الشك اليقين ، اللّهم إلا ان يتيقن ويذكر أنّه أهمل شيئا أو قدم مؤخّرا أو أخّر مقدّما فيكون الحكم على ما قدّمناه.

وقد قال بعض أصحابنا في كتاب له ، أنّه ليس من العادة أن ينصرف الإنسان من حال الوضوء إلا بعد الفراغ من استيفائه على الكمال ، وهذا غير واضح ، إلا أنّه رجع في آخر الباب ويقول : إن انصرف من حال الوضوء وقد شك في شي ء من ذلك ، لم يلتفت إليه ومضى على يقينه ، وهذا القول أوضح وأبين في الاستدلال.

ومن تيقن الطهارة والحدث معا ، ولم يعلم أيهما سبق صاحبه ، وجب عليه الوضوء ليزول الشك ويحصل على يقين بالطهارة.

ص: 104

ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، عمل على اليقين ولم يحفل بالشك ، وإن كان المتيقن هو الحدث والمشكوك فيه هو الطهارة عمل على اليقين واستأنف الطهارة.

ومن كان في يده خاتم ، فالمستحب له أن يحركه عند غسل يده ، وإن كان واسعا يدخل الماء تحته ، وإن كان ضيقا لا يدخل الماء تحته فليحوّله من موضعه إلى موضع آخر ، وكذلك المرأة في الدملج وما أشبهه.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) إلى أنّه متى صلّى الظهر بطهارة ولم يحدث ، وجدّد الوضوء ، ثم صلّى العصر ، ثم ذكر انّه ترك عضوا من أعضاء الطهارة ، فإنّه يعيد صلاة الظهر ولا يعيد صلاة العصر ، ويحكى عن الشافعي انّه يعيد الظهر.

وفي إعادة العصر قولان : أحدهما لا يعيد مثل ما قلناه ، إذا قال إنّ تجديد الوضوء يرفع الحدث. والآخر انّه يعيد ، إذا لم يقل إنّ تجديد الوضوء يرفع حكم الحدث.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : والذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول مذهبنا أنّه يعيد الصلاتين معا الظهر والعصر ، لأنّ الوضوء الثاني ما استبيح به الصلاة ولا رفع به الحدث ، وإجماعنا منعقد على أنّه لا تستباح الصلاة إلا بنيّة رفع الحدث ، أو نية استباحة الصلاة بالطهارة ، فأمّا إن توضأ الإنسان بنية دخول المساجد أو الكون على طهارة أو الأخذ في الحوائج - لأنّ الإنسان يستحب له أن يكون في هذه المواضع على طهارة - فلا يرتفع حدثه ولا استبيح بذلك الوضوء الدخول في الصلاة وإلى هذا القول والتحرير يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جواب المسائل الحلبيات التي سئل عنها ، فأجاب بما حررناه.

ص: 105


1- كتاب الخلاف : مسألة 166 من كتاب الطهارة.

فأمّا إن كان قد أحدث عقيب كلّ طهارة فإنّه يجب عليه اعادة جميع صلاته.

ومقدار الماء لإسباغ الوضوء مد ، وهو رطلان وربع بالعراقي ، وللغسل صاع ، وهو أربعة أمداد ، يكون تسعة أرطال بالعراقي ، ومن اغتسل أو توضأ بأقل من ذلك أجزأه بعد أن يقسمه في ثلاث أكف ، كف للوجه ، وكفان لليدين ، وقد روي انّه « يجزي من الوضوء ما جرى مجرى الدهن » (1) إلا أنّه لا بدّ أن يكون ممّا يتناوله اسم الغسل ، ولا ينتهي في القلّة إلى ما يسلب الاسم ، على ما قدّمنا شرحنا له وحققناه.

باب أحكام الأحداث الناقضة للطهارة

ما ينقض الوضوء على ثلاثة أضرب : أحدها ينقضه ولا يوجب الغسل ، وثانيها ينقضه ويوجب الغسل ، وثالثها إذا حصل على وجه نقض الوضوء لا غير ، وإذا حصل على وجه آخر وجب الغسل.

فما يوجب الوضوء لا غير : البول ، والغائط سواء خرج من الموضع المعتاد أو خرج من غير ذلك الموضع ، لقوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) (2) ولم يعيّن موضعا دون موضع.

وبعض أصحابنا يقيّد ذلك بموضع في البدن دون المعدة ، ويستشهد على ذلك بعموم قوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) وما روي من الأخبار أن الغائط ينقض الوضوء (3) يتناول ذلك ، وقال : ولا يلزم ما فوق المعدة ، لأنّ ذلك لا يسمى غائطا ، وهذا استدلال منه غير واضح ، لأنّه استدل بعموم

ص: 106


1- الوسائل : الباب 52 من أبواب الوضوء ، ح 5 مع اختلاف يسير
2- المائدة : 6.
3- الوسائل : الباب 1 و 2 من أبواب نواقض الوضوء.

الآية ، ثم خصص اللفظ من غير تخصيص فيه ، أو في دليله ، فما بقي لدون المعدة معنى بالتقييد ، بل لأنّه لا يسمى غائطا ، فإن سمّي غائطا أو خرج الغائط من فوق المعدة يلزمه ما لزمه من دون المعدة ، لشمول اللفظ وعموم الآية ، وإلا بطل استدلاله بها رأسا ، فالأولى إطلاق خروجه من موضع في البدن ، من غير تقييد ، حتى يصح الاستدلال بالآية والأخبار.

والريح الخارج من الدبر على وجه متيقن إمّا بأن يسمع الصوت أو يشم الريح ، فأمّا غير ذلك من الخارج من غير الدبر ، إمّا فرج المرأة يعني قبلها أو مسام البدن ، أو ريح متوهمة مشكوك فيها غير متيقنة ، فلا ينقض ذلك الوضوء.

والنوم الغالب على السمع والبصر بمجموع الحاستين على جميع أحوال النائم من صحيح الحاسة. فأمّا غير صحيح الحاسة ، فبأن ينام نوما لو نامه صحيح الحاسة لما سمع ولما أبصر ، وإجماع أصحابنا على أنّ النوم حدث ينقض الوضوء منعقد وقول الرسول « العين وكاء السه » (1) بالسين غير المعجمة المشددة المفتوحة وبالهاء غير المنقلبة عن تاء ، وهي حلقة الدبر ، قال الشاعر :

أدع احيحا باسمه لا تنسه *** إنّ احيحا هو صبيان السه

يعضد ما ذهبنا إليه لأنّه مجمع عليه ، وكل ما أزال العقل ، وفقد معه التحصيل والتمييز من إغماء وجنون ومرة وسكر وغير ذلك من جميع أنواع الأمراض التي يفقد معها التحصّل ويزول التكليف.

وما يوجب الغسل ، فخروج المني على كل حال ، سواء كان دافقا أو غير دافق ، بشهوة كان أبو بغير شهوة ، وما يوجد في بعض كتب أصحابنا من تقييده بالدفق فغير واضح ، إلا انّه لمّا كان الأغلب في أحواله الدفق ، قيّد بذلك.

وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، سواء كان الفرج قبلا أو دبرا على

ص: 107


1- نهج البلاغة صبحي صالح : في فصل يذكر فيه شيئا من غريب كلامه رقم 466 وقال الرضي ره والأشهر الأظهر انّه من كلام النبي صلى اللّه عليه وآله.

الصحيح من الأقوال ، لأنّه إجماع المسلمين ، ويعضد ذلك قوله تعالى : ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (1) ولا خلاف إن من أولج حشفته في دبر امرأة ينطلق عليه أنّه لامس النساء حقيقة وضعية وحقيقة عرفية شرعية ، وأيضا يسمّى الدبر فرجا بغير خلاف بين أهل اللغة ، على أنّ هذه اللفظة إن كانت مشتقة من الانفراج فهو موجود في القبل والدبر ، وإن كانت مختصة بقبل المرأة فذلك ينتقض بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ : إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (2) ومعلوم انّه تعالى أراد بذلك الرجال دون النساء ، وسمّي ذكر الرجل وآلة جماعه فرجا ، وهذا ينقض أن تكون اللفظة مختصة بقبل المرأة.

وأمّا الأخبار المتضمنة لذكر غيبوبة الحشفة ، فهي أيضا عامة على الفرجين ، ودالة على الأمرين لأنّ غيبوبة الحشفة في كلّ واحد من الفرجين ، تقتضي تناول الاسم ، وفي الأخبار ما هو أوضح في تناول الأمرين من غيره.

روى محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام (3) قال : سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ قال : إذا أدخلته فقد وجب الغسل والمهر والرجم ، وفي لفظ آخر إذا غيّبت الحشفة (4).

وروى حماد ، عن ربعي بن عبد اللّه ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله فقال : ما تقولون في الرجل يأتي أهله فخالطها ولم ينزل؟ فقالت الأنصار : الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. وقال عمر لعلي بن أبي طالب عليه السلام : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال عليه السلام : أتوجبون عليه الرجم ولا

ص: 108


1- المائدة : 6
2- المؤمنون : 5 و 6.
3- في المطبوع : أي الباقر والصادق عليهما السلام
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 1 و 2.

توجبون عليه صاعا من ماء (1).

وقد روي هذا المعنى من طرق كثيرة ، وهذا تنبيه منه عليه السلام على أنّ هذه الأحكام يتبع بعضها بعضا ، وإذا كنّا نوجب في الوطي في الدبر من المرأة الحدّ كما نوجب في القبل ، وجب الغسل في الجميع بشهادة أمير المؤمنين عليه السلام.

وأمّا الأخبار المتضمنة لتعليق الغسل بالتقاء الختانين (2) فلا دلالة فيها عليها ، لأنّ أكثر ما يقتضيه أن يتعلّق وجوب الغسل بالتقاء الختانين ، وقد توجب ذلك ، وليس هذا بمانع من إيجابه في موضع آخر لا التقاء فيه لختانين إلا من حيث دليل الخطاب ، وذلك غير معتمد ولا معوّل عليه عند المحققين لأصول الفقه ، على أنّهم يوجبون الغسل بالإيلاج في قبل المرأة ، وإن لم يكن هناك ختان ، فقد عملوا بخلاف ظاهر الخبر.

فإذا قالوا : المرأة وإن لم تكن مختونة فذلك موضع الختان من غيرها؟ قلنا : هذا على كلّ حال عدول عن الظاهر ، لأنّ الخبر علّق الحكم فيه بالختان لا بتقدير موضعه ، وإذا أوجبنا حكم الغسل فيما لم يلتق فيه ختانان على الحقيقة فبدليل آخر ، وهكذا نصنع فيما خالفتم فيه.

وأمّا ما يوجد في الروايات والأخبار والكتب فلو كان صريحا في تضمّنه خلاف ما ذكرناه ، لم يجب الالتفات إليه فيما يدل القرآن والإجماع والأخبار المتظاهرة المشهورة على خلافه ، فضلا أن يكون لفظه محتملا ، لأنّهم يدّعون انّ من وطأ امرأة في دبرها ولم ينزل فلا غسل عليه ، ويمكن حمله على وطئها من جهة الدبر دون الفرج ، وكما أنّه يطأ من جهة القبل في الفرج وفيما دونه ، فكذلك قد يطأ من جهة الدبر في الفرج وفيما دونه ، ويوجد في روايات أصحابنا

ص: 109


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 5 و 2.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 5 و 2.

ما هو صريح في أنّ الوطي في الدبر بغير إنزال يقتضي الغسل (1) ، فهو معارض لتلك الأخبار.

فإن قيل : قد دللتم على أنّ الفاعل يجب عليه الغسل ، فمن أين أنّ الغسل أيضا واجب على المفعول به؟ قلنا : كلّ من أوجب ذلك على الفاعل أوجبه على المفعول به ، والقول بخلاف ذلك خروج عن الإجماع.

فأمّا ما يوجد في بعض كتب شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه مما يخالف ما اخترناه ، ويقتضي ظاهره ضدّ ما بيّناه ، فيمكن تأويل ما أورده بالمذكور ، وأيضا فقد اعتذرنا له في مواضع ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا.

والدليل على ذلك ما أورده في مبسوطة في الجزء الثالث في كتاب النكاح ، قال : فصل في ذكر ما يستباح من الوطي وكيفيته ، قال : يكره إتيان النساء في أحشاشهن يعني أدبارهن وليس بمحظور ، قال : والوطي في الدبر يتعلق به أحكام الوطي في الفرج ، من ذلك إفساد الصوم ، ووجوب الكفارة ، ووجوب الغسل ، وان طاوعته كان حراما محضا ، كما لو أتى غلاما وإن أكرهها فعليه المهر ، ويستقر به المسمّى ، ويجب به العدة ، قال : وروي في بعض أخبارنا أنّ نقض الصوم ، ووجوب الكفارة ، والغسل ، لا يتعلق بمجرد الوطي ، إلا ان ينزل ، فإن لم ينزل فلا يتعلق عليه ذلك ، فانظر أرشدك اللّه فهل هذا قول موافق لما اخترناه أو مخالف له؟ وقال في مبسوطة في الجزء الأوّل في فصل في ذكر غسل الجنابة وأحكامها : فأمّا إذا أدخل ذكره في دبر المرأة أو الغلام ، فلأصحابنا فيه روايتان ، إحداهما يجب الغسل عليهما ، والثانية لا يجب عليهما ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمد بن إدريس : إذا كانت إحدى الروايتين يعضدها القرآن والأدلة ،

ص: 110


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب الجنابة ، ح 1.

فالعمل بها هو الواجب ، ورفض الرواية الأخرى لتعريها عن البرهان ، وقال رحمه اللّه في كتاب الصوم في الجزء الأول من مبسوطة أيضا : والجماع في الفرج أنزل أو لم ينزل ، سواء كان قبلا أو دبرا فرج امرأة أو غلام ، أو ميتة ، أو بهيمة ، وعلى كلّ حال ، على الظاهر من المذهب (1). هذا آخر كلامه ، ألا تراه رحمه اللّه قد سمّى الدبر فرجا ، وقوله في الجماع في الفرج « سواء كان قبلا أو دبرا ».

وافتى في الحائريات في المسألة الثانية والأربعين عن الرجل إذا جامع امرأته في عجيزتها وأنزل الماء أو لم ينزل ، ما الذي يجب عليه؟ فقال : الجواب ، الأحوط أنّ عليهما الغسل أنزلا أو لم ينزلا. وفي أصحابنا من قال : لا غسل في ذلك إذا لم ينزلا ، والأول أحوط. فهذا فتوى منه وتصنيفه ، وما أومأت إلى ما أومأت ، إلا بحيث لا ينبغي أن يقلّد إلا الأدلة دون الرجال والكتب.

والحيض ، والنفاس ، ومس الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم بالغسل ، على خلاف بين الطائفة ، والصحيح وجوب الغسل.

والقسم الثالث دم الاستحاضة ، فإنّه إذا خرج قليلا لا ينقب الكرسف ، نقض الوضوء لا غير ، وإن نقب أوجب الغسل ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا عبارة عن حدّ القليل غير واضحة ، بأن قال : وحدّه أن لا يظهر على القطنة ، والمقصود من ذلك أن لا يظهر على القطنة إذا استدخلتها المرأة إلى الجانب الآخر ، وهو أن يثقبها ويظهر عليها ، فلا يظن ظان انّه أراد بالعبارة أن لا يظهر على القطنة جملة ، من أي جانب كان ، فليس هذا المراد ، لأنه إن لم يظهر عليها جملة ، فليس هي مستحاضة ، ولا ينقض الوضوء شي ء سوى ما ذكرناه.

وجملة الأمر وعقد الباب أن يقول : ناقض الطهارة المائية اثنا عشر شيئا.

ستّة تنقض الوضوء ولا توجب الغسل ، وستّة منها تنقض الوضوء وتوجب

ص: 111


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم.

الغسل ، والذي ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ، البول ، والغائط ، والريح ، والنوم الغالب على السمع والبصر ، وكلّ ما أزال العقل ، من سائر أنواع المرض ، والاستحاضة على بعض الوجوه ، وهو أن يكون الدم قليلا لا ينقب الكرسف على ما مضى شرحنا له.

وقد يوجد في بعض الكتب ، خمسة تنقض الوضوء ولا يذكرون السادس والاعتذار عنهم انّ تركهم لذكره ، لأنّهم ما ذكروا إلا الذي هو ناقض الوضوء هو بنفسه ، غير منقسم في نفسه مثال ذلك أحد الخمسة البول غير منقسم في نفسه لأنّه ليس له حالة اخرى ينقض الوضوء ويوجب الغسل ، والقسم السادس له حالة اخرى ينقض الوضوء ويوجب الغسل وهو إذا كثر الدم ونقب ، فلأجل ذلك قالوا خمسة يعنون الناقض الذي لا ينقسم في نفسه ، والمحصّل والمحقق ما ذكرناه أولا.

والستة التي توجب الأغسال : إنزال المني ، وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، سواء كان ذكرا أو أنثى كبيرا أو صغيرا ميتا أو حيا ، والحيض ، والنفاس ، والاستحاضة على بعض الوجوه ، احترازا من القسم الذي ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ، وهو القليل الذي لا ينقب الكرسف ، وهذا القسم المراد به الكثير الذي ينقب الكرسف فإنّه يوجب الغسل ، ومسّ الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم بالغسل ، فهذه اثنا عشر شيئا.

فإمّا ناقض الطهارة الترابية فجميع ذلك ، ويزيد عليها وجود الماء مع التمكن من استعماله ، فصارت نواقض الطهارة الترابية ، ثلاثة عشر شيئا فجميع الأغسال الرافعة للأحداث لا يستباح بمجردها الصلوات ، إلا غسل الجنابة فحسب ، فإنّ الصلاة تستباح

بمجرده ، من غير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، فأمّا ما عداه من الأغسال ، فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، فمنهم من يستبيح بمجرّده الصلاة ، ويجعله مثل غسل الجنابة ، يحتج بأنّ الصغير يدخل

ص: 112

في الكبير ، ومنهم وهم المحققون المحصّلون الأكثرون ، لا يستبيحون الصلاة بمجرّده ، ولا بدّ لهم في استباحة الصلاة من الوضوء ، إمّا قبله أو بعده.

وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا ، انّ كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنب ، ويزيد بوجوب تقديم الوضوء على الغسل ، وهذا غير واضح من قائله ، بل الزيادة على غسل الجنابة ، أن لا تستبيح الحائض إذا طهرت بغسل حيضها وبمجرّده الصلاة ، كما يستبيح الجنب ، سواء قدمت الوضوء أو أخرت ، فإن أراد يجب تقديم الوضوء على الغسل ، فغير صحيح ، بغير خلاف.

والذي يدل على ما اخترناه من القولين ، قول اللّه سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (1) فأوجب على كلّ قائم إلى الصلاة مسح بعض الرأس ، ومسح الرجلين ، فمن استباح الصلاة بمجرّد الغسل لم يمتثل الأمر ، ولا أتى بالمأمور به ، لأنّه ما مسح واللّه تعالى أمرنا إذا أردنا الصلاة أن نكون غاسلين ماسحين.

فإن قيل : هذا يلزمكم مثله في غسل الجنابة؟ قلنا : أنت موافق لنا في غسل الجنابة ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ومن اغتسل فقد تطهّر ، فما أوجب على الجنب إذا أراد استباحة الصلاة إلا ان يطهر بالاغتسال فحسب ، فأخرجنا الجنب بهذا اللفظ ، وبقي الباقي على عمومه وشموله.

وأيضا الإجماع حاصل على استباحة الجنب الصلاة بمجرد الغسل ، وليس ينتقض الوضوء بشي ء خارج عما ذكرناه من قلس بفتح اللام ، أو دم سائل ، أو قي ء ، أو مذي ، أو ودي بالدال غير المعجمة ، أو مس فرج ، أو غير ذلك ، فما وقع الخلاف فيه ، وذكره يطول ، فأمّا الدود الخارج من أحد السبيلين ، أو الشيافة ، أو الحقنة بالمائعات ، فإن خرج شي ء من ذلك خاليا من نجاسة ، فلا

ص: 113


1- المائدة : 6.

وضوء وإن كان عليه شي ء من العذرة أو البول فحسب انتقضت الطهارة بما صحبها من ذلك ، لا بخروج ذلك الشي ء.

باب الجنابة وأحكامها وكيفية الطهارة منها

الجنابة في اللغة هي البعد ، قال الأعشى : أتيت حريثا زائرا عن جنابة ، يعني عن بعد ، وهي في الشريعة كذلك ، لأن الجنب بعد عن أحكام المتطهرين ، لأنّ المتطهر يستبيح ما لا يستبيحه الجنب ، من الجلوس في المساجد وغير ذلك ، والجنب بعد عن ذلك ، لحدثه ، ويصير الإنسان جنبا ، ويتعلّق به أحكام المجنبين ، من طريقين فحسب لا ثالث لهما.

أحدهما إنزال الماء الذي هو المني سواء خرج دافقا أو مقارنا للشهوة ، أو لم يكن كذلك ، في النوم كان ، أو في اليقظة ، وعلى كل حال ، على ما مضى شرحنا له.

والآخر غيبوبة الحشفة ، على ما ذكرناه وحققناه من قبل ، وهذان الحكمان يشترك فيهما الرجال والنساء ، فإن جامع الرجل امرأته فيما دون الفرج الذي حققناه وبيّناه ، وأنزل ، وجب عليه الغسل ، وإن لم ينزل فليس عليه الغسل ، وكذلك المرأة.

وذكر بعض أصحابنا (1) في كتاب له ، فقال : فإن جامع الرجل امرأته فيما دون الفرج ، وأنزل ، وجب عليه الغسل ، ولا يجب عليها ذلك ، فإن لم ينزل فليس عليه أيضا الغسل ، فإن أراد بقوله الفرج القبل فحسب ، فغير مسلم ، وإن أراد بالفرج القبل والدّبر معا ، وأراد بجماعة فيما دونهما ، فصحيح قوله على ما بيّناه وأوضحناه ، فكلامه محتمل ، فلا يظن بمصنف الكتاب ، إلا ما قام عليه الدليل ، دون ما لم يقم عليه ، إذا كان الكلام محتملا ، مع إيرادنا كلامه وقوله وفتواه ، من غير احتمال للتأويل الذي ذكره في مبسوطة (2) ، وجوابات

ص: 114


1- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية في باب الجنابة
2- المبسوط : في غسل الجنابة وأحكامها.

الحائريات (1).

ومتى انتبه الرجل ، فرأى على ثوبه ، أو فراشه ، منيا ، ولم يذكر الاحتلام ، ولم يكن ذلك الثوب أو الفراش يشاركه فيه غيره ، وينام فيه سواه ، وجب عليه الغسل ، سواء قام من موضعه ثمّ رأى بعد ذلك أو لم يقم. فأمّا إن شاركه في لبسه والنوم فيه مشارك ، ممّن يحتلم ، فلا يجب عليه الاغتسال سواء قام من موضعه ثم رأى بعد ذلك ، أو لم يقم.

وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، انّه إذا انتبه الرجل فرأى على ثوبه أو فراشه منيا ، ولم يذكر الاحتلام ، وجب عليه الغسل ، فإن قام من موضعه ، ثمّ رأى بعد ذلك ، فإن كان ذلك الثوب أو الفراش مما يستعمله غيره ، لم يجب عليه الغسل ، وإن كان ممّا لا يستعمله غيره ، وجب عليه الغسل ، فاعتبر المشاركة بعد القيام من موضعه ، ولم يعتبرها قبل قيامه.

والصحيح ما اخترناه وإلى هذا ذهب السيّد المرتضى رحمه اللّه في مسائل خلافه (2) فقال : عندنا أنّه من وجد ذلك في ثوب أو فراش يستعمله هو وغيره ، ولم يذكر الاحتلام فلا غسل يجب عليه ، لتجويزه أن يكون من غيره ، فإن وجد فيما لا يستعمله سواه ، ولا يجوز فيما وجده من غيره فيلزمه الغسل ، وإن لم يذكر الاحتلام.

وقال أبو حنيفة ومالك ومحمد والثوري والأوزاعي : يغتسل ، وإن لم يذكر الاحتلام.

وقال ابن حي : إن وجده حين استيقظ ، اغتسل ، وإن وجده بعد ما يقوم ويمشي ، فلا غسل عليه.

وقال الشافعي : أحب له أن يغتسل ، هكذا حكى الطحاوي عنه في الاختلاف ، والذي قاله الشافعي في الأم مثل ما حكينا من مذهبنا من والدليل على صحّة مذهبنا ، انّه إذا وجد المني ولم يذكر الاحتلام ، وهو يجوز

ص: 115


1- جواب الحائريات
2- الخلاف للسيد المرتضى.

أن يكون من غيره ، ولا يقين معه بما يوجب الغسل ، وهو على يقين متقدم ببراءة ذمته منه ، فإنه على أصل الطهارة ، فلا يخرج عن ذلك اليقين إلا بيقين مثله ، وإذا وجده فيما لا يشتبه ، ولا يستعمله غيره ، فقد أيقن بأنّه منه ، فوجب الغسل إذ قد بينا أنّه لا يعتبر بمقارنة خروجه للشهوة.

فأمّا فرق ابن حي ، بين أن يصادفه حين انتباهه ، وبين أن يقوم ويمشي ، فلا وجه له ، من حيث كان إذا فارق الموضع ، يجوز أن يكون من غيره ، فإذا صادفه في الحال ، لم يكن إلا منه ، والتقسيم الذي ذكرناه أولى ، لأنه إذا جوّز فيما يصادفه ان يكون من غيره ، كتجويزه فيما يفارقه ، لم يجب عليه الغسل في الموضعين ، فلا معنى لاعتبار المشي ، بل المعتبر ما ذكرناه ، هذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه فهو واضح ، سديد في موضعه.

وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) فقال : ومتى خرج من الإنسان ماء كثير لا يكون دافقا لم يجب عليه الغسل ، ما لم يعلم انّه مني ، وإن وجد من نفسه شهوة ، إلا أن يكون مريضا ، فإنّه يجب عليه حينئذ الغسل متى وجد من نفسه شهوة ، ولم يلتفت إلى كونه دافقا ، وغير دافق ، فإن أراد هذا القائل باستثنائه المريض ، انّه إذا خرج منه ماء كثير ولا يكون منيا ووجد من نفسه شهوة يجب عليه الغسل ، فهذا غير واضح ، إذ قد بيّنا انّ الجنابة لا تكون إلا بشيئين فحسب ، ولا يتعلّق على الإنسان أحكام المجنبين إلا من طريقين : إحديهما : خروج المني على كل حال ، سواء كان دافقا أو غير دافق ، بشهوة أو غير شهوة ، والأخرى : غيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، لا ثالث لهما وإن استثناه من الدّفق ، فلا اعتبار بالشهوة ، ولا بالدفق ، بانفراد كلّ واحد منهما ، أو باجتماعهما ، من مريض جاء أو من صحيح ، إذا لم يكن المني موجودا ،

ص: 116


1- النهاية : باب الجنابة.

فاذن لا وجه لاستثنائه إذا كان المعتبر المني فحسب ، سواء كان من صحيح أو مريض ، معه دفق وشهوة ، أو لم يكونا مقارنين له ، والظاهر من كلامه في كتابه انّه زاد بما ذكره قسما ثالثا على المني والتقاء الختانين ، بدليل قوله عقيب ذلك ، ومتى حصل الإنسان جنبا بأحد هذه الأشياء فقد جمع وأقل الجمع ثلاثة عند المحقّقين ، ولو لم يرد ذلك ، لقال بأحد هذين الشيئين ، يعني المني والتقاء الختانين ، فليتأمل ذلك ويلحظ ، فإنّه واضح للمستبصر.

ومتى صار الإنسان جنبا بما قدّمناه من الحكمين فلا يدخل شيئا من المساجد إلا عابر سبيل إلا المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول عليه السلام ، فإنّه لا يدخلهما على حال فإن كان نائما في أحدهما واحتلم وأراد الخروج ، فإنّه يجب عليه أن يتيمم من موضعه ، ثمّ يخرج ، وليس عليه ذلك في غيرهما من المساجد.

وجملة الأمر وعقد الباب ، انّه يحرم عليه ستة أشياء ، قراءة العزائم من القرآن ، ومس كتابة القرآن ، ومسّ كتابة أسماء اللّه تعالى ، وأسماء أنبيائه ، وأئمته عليهم السلام ، والجلوس في المساجد ووضع شي ء فيها ، ولا بأس بأخذ ما يكون له فيها ، محلّل له ذلك ، جائز سائغ ، والجواز في مسجدين ، المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى اللّه عليه وآله محرّم ، وله أن يقرأ جميع القرآن ، سوى ما استثناه من الأربع السور ، من غير استثناء لسواهن ، على الصحيح من المذهب والأقوال. وبعض أصحابنا لا يجوّز إلا ما بينه وبين سبع آيات ، أو سبعين آية ، والزائد على ذلك يحرّمه ، مثل الأربع السور ، والأظهر الأول ، لقوله تعالى : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » (1) وحرّمنا ما حرّمناه بالإجماع ، وبقي الباقي داخلا تحت قوله تعالى : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ».

ويكره أن يأكل الجنب الطعام ، أو يشرب الشراب ، فإن أرادهما

ص: 117


1- المزمل : 20.

فليتمضمض أولا ، وليستنشق ، ويكره له أن ينام قبل الاغتسال ، فإن أراد ذلك توضأ ونام إلى وقت الاغتسال.

فإذا أراد الجنب الاغتسال من الجنابة ، فمن السنن والآداب أن يجتهد في البول إن كان رجلا ليخرج بقية المني إن كانت ، فإن لم يتيسر البول فلينتر (1) قضيبه من أصله إلى رأسه نترا يستخرج شيئا إن كان بقي فيه ، ثم يغسل يديه ثلاثا ، قبل إدخالهما الإناء ، ثم يغسل فرجه ، وما يليه ، ويزيل ما لعلّه تبقّى من النجاسة عليه ، ثم ليتمضمض ثلاثا ، ويستنشق ثلاثا.

وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ الاستبراء بالبول أو الاجتهاد ، واجب على الرجال ، وبعضهم يذهب إلى أنّه مندوب شديد الندبية ، وهو الأصح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا يعلق عليها شي ء إلا بدليل قاطع وقد بيّنا أنّ الإجماع غير منعقد على ذلك فيحتاج مثبتة إلى دليل ، غير الإجماع ، ولا دليل على ذلك.

فأمّا باقي ما ذكرناه فآداب وسنن بغير خلاف.

ويجب على المغتسل ، أن يوصل الماء إلى جميع بشرته وأعضائه ، حتى لا يبقى شي ء من ذلك لا يوصل الماء إليه ، ويجتهد فيما ذكرناه غاية الاجتهاد.

والترتيب واجب فيه ، وهو أن يقدّم غسل رأسه ، ثم ميامن جسده ، ثم مياسره. فإن أخّر مقدّما ، أو قدّم مؤخّرا ، رجع فتداركه كما قلناه في الوضوء ، فإن غسل الإنسان مياسره أولا ، ثمّ رأسه ثانيا ، ثمّ ميامنه ثالثا ، فإن كان نوى عند المضمضة والاستنشاق ، أو عند غسل اليدين المستحب ، أو عند غسل رأسه ، فلا يجب عليه اعادة غسل رأسه ثانيا ، ولا اعادة غسل ميامنه ، لأنّها قد حصلت مرتبة ، بل يجب عليه اعادة غسل مياسره ثانيا ، ولا يجزيه ما فعله من غسلها ، فإن كان لم ينو عند المضمضة والاستنشاق ، أو عند غسل يديه ولا عند غسل

ص: 118


1- لينتر من باب نصر - نتر أي جذب.

رأسه ، فإنّه يجب عليه اعادة غسل رأسه ثانيا ، واعادة غسل ميامنه ، لأنّه حصل مغسولا بغير نية الطهارة ، فليلحظ ذلك ، وليتأمّل ، وهكذا إذا غسل ميامنه أوّلا ، ثم رأسه ثانيا ، ثم مياسره ثالثا ، والقول في ذلك على ما حرّرناه وبيّناه ، فالطريقة واحدة ، واللّه الموفق للصواب.

والموالاة التي أوجبناها في الوضوء لا تجب في الغسل ، وجائز أن يفرّقه ، كما انّه يغسل رأسه في أوّل النهار ، ويتم الباقي من جسده في وقت آخر.

فإن أحدث فيما بين الوقتين حدثا ، من جملة الستة التي تنقض الوضوء ولا توجب الغسل ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أقوال : قائل يقول يجب عليه اعادة غسل رأسه.

وقائل يقول لا يجب عليه اعادة غسل رأسه ، بل يتمم غسل ميامنه ومياسره ، فإذا أراد الصلاة ، فلا بد له من وضوء ، ولا يستبيحها بمجرد ذلك الغسل.

وقائل يقول لا يجب عليه اعادة غسل رأسه ، وإن أراد الصلاة يستبيحها بمجرّد غسله بعد إتمامه باقي جسده.

وهذا القول هو الذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب ، لأنّ إعادة غسل رأسه لا وجه لها لأنّ بالإجماع انّ ناقض الطهارة الصغرى لا يوجب الطهارة الكبرى بغير خلاف.

فأمّا القائل بأنّه لا يعيد غسل رأسه ، بل يتمم غسل باقي جسده ، فإذا أراد الصّلاة فلا بد له من الوضوء ، فباطل أيضا ، لأنّ هذا بعد حدثه الأصغر جنب ، وأحكام المجنبين يتناوله ، بغير خلاف ، من قوله تعالى : « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » (1) وقوله تعالى : « وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا » (2) فأجاز تعالى

ص: 119


1- المائدة : 6.
2- النساء : 43.

الدخول في الصّلاة بعد الاغتسال ، وهذا قد اغتسل بغير خلاف لأنّ هذا القائل يوافق على أنّه قد ارتفع حدثه الأكبر وقد اغتسل ، فالآية بمجردها تقتضي استباحة الصّلاة بمجرد اغتساله ، فمن منعه وأوجب عليه شيئا آخر مع الاغتسال يحتاج إلى دليل ، وزيادة في القرآن وإضمار لم يقم عليه دليل عقلي ولا سمعي وأيضا فالإجماع منعقد بغير خلاف ، انّ بمجرّد غسل الجنابة تستباح الصّلاة ، على ما مضى شرحنا له ، وهذا قد اغتسل بغير خلاف ، ولم يحدث بعد غسله ، وكماله ، ما ينقض طهارته.

ويزيد ما اخترناه وضوحا ، ما ذكره السيد المرتضى رحمه اللّه في مسائل خلافه عند مناظرته المخالفين في الماء المستعمل في الطهارة الصغرى والكبرى ، قال :

الماء المستعمل عندنا طاهر مطهّر يجوز الوضوء والاغتسال به ، وذلك مثل أن يجمع الإنسان وضوءه من الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ، ويتوضأ به ، ويغتسل به دفعة اخرى ، بعد أن لا يكون على بدنه شي ء من النجاسات ، واستدل فقال : لو كان استعمال الماء يمنع من جواز الطهارة به ، لكان ملاقاته لأول العضو موجبا لاستعماله ، ومانعا من إجرائه على بقية العضو ، وهذا يقتضي أن يأخذ لكل جزء ماء جديدا ، فلمّا اتفقوا على أنّ صب أحدنا الماء على رأسه ، وإفاضته على بدنه ، يجزيه في الطهارة ، مع ملاقاته لأوّل جزء من بدنه ، دلّ ذلك على أنّ استعمال الماء ، لا يمنع من الوضوء به.

فإن قالوا : الماء لا يحكم له بحكم الاستعمال ، حتى يسقط عن جميع العضو ويفارقه ، وما دام على العضو ، فليس بمستعمل.

قلنا لهم : لا فرق بينكم وبين من قال والماء لا يحكم له بحكم الاستعمال حتى يسقط عن الأعضاء كلها ، لأنّ حكم الحدث لا يزول ، والطهارة لا تتم إلا بعد غسل كلّها ، لأنّها تجري مجرى العضو الواحد في حكم العضو ، فإذا جعلتموه

ص: 120

مستعملا في أحد الأعضاء دون جميعها لزمكم أن يكون مستعملا في بعض العضو.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : هذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه ، ألا ترى إلى قوله : لأنّ حكم الحدث لا يزول ، والطهارة لا تتم إلا بغسل كلّها ، لأنّها تجري مجرى العضو الواحد ، فإذا كانت تجري مجرى العضو الواحد ، فغسل بعضها غير معتدّ به ، وبقية بعضها مثل بقيتها جميعها ، وحكمه حكمها قبل الشروع فيها ، فليلحظ ما قد حققه رضي اللّه عنه.

وقد يوجد في بعض الكتب ، انّ للجنب أن يغسل رأسه بالغداة ، ثم يغسل سائر جسده بالعشي ، فيعتقد من يقف على ذلك أنّ المراد بالعشي دخول الليل والعشاء الأول ، والمراد بالعشي في هذا الموضع خلاف ما اعتقده من يعتقده ، بل المراد بالعشي هنا آخر النّهار. قال حميد بن ثور الهلالي :

فلا الظل من برد الضحى نستطيعه *** ولا الفي ء من برد العشي نذوق

وإن ارتمس الجنب ارتماسة واحدة أجزأه ، ويسقط الترتيب وقال بعض أصحابنا : يترتب حكما ، وليس بواضح ، بل الأظهر سقوط الترتيب ، للإجماع الحاصل على ذلك ، وأحكام الشريعة تثبتها بحسب الأدلّة الشرعية.

والمستحب أن يفيض على رأسه ثلاث أكف من الماء ، ويغسل رأسه بها ، وما يليه من عنقه ، ويخلل شعر رأسه ، وشعر لحيته ، ويميزه ، حتى يصل الماء إلى أصوله ، ثم يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيمن ، فيغسل بها من عنقه إلى تحت قدمه الأيمن ، ثم يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيسر ، فيفعل فيه كما فعل بالجانب الأيمن ، وكف واحد هو الواجب إذا استوعب العضو المغسول به ، فإن لم يستوعبه ، فالواجب عليه الزيادة على ذلك حتى يغسله جميعه ويستوعبه غسلا ، ولو بلغت الزيادة مائة كف مثلا ، بل المستحب بعد استيعاب العضو المغسول ، كفان آخران ، ويمر يديه على جميع جسده ، ويجتهد في وصول الماء إلى جميع بشرته ، والبشرة هي ظاهر الجلد.

ص: 121

وإمرار اليد عندنا غير واجب ، بل مستحب ، وكذلك في الطهارة الصغرى ، إمرار اليد على الوجه والذراعين غير واجب ، بل الواجب الغسل فحسب ، بما يتأثر (1) به الغسل ، سواء كان ذلك باليد ، أو بتغويص الوجه في الماء ، وكذلك الذراع واليد ، أو بانسكاب بزال (2) على ذلك ، حتى يستوعبه غسلا.

ومن وجد بعد الغسل بللا ، وكان قد بال ، أو اجتهد إذا لم يتأت له البول ، فلا غسل عليه ، ولا وضوء ، إلا أن يكون بال ، ولم يمسح تحت الأنثيين ، ولا نتر القضيب ، فإنّه يجب عليه الوضوء ، دون اعادة الغسل ، لبقية البول في قضيبه ، وهذا حكم جميع من بال من الرجال وتوضأ قبل أن يستبرئ ثم وجد بللا ، سواء كان جنبا أو غيره ، وهذه الأحكام ، انّما تلزم الجنب إذا كانت جنابته عن إنزال ، فأمّا إن كانت جنابته عن غيبوبة الحشفة ، ولم ينزل ، فلا يلزمه اعادة الغسل ، سواء وجد بللا بعد غسله ، أو لم يجد ، بال قبل غسله ، أو لم يبل ، فإن كانت جنابته عن إنزال ، فإن كان لم يبل أعاد الغسل ، إذا وجد البلل بلا خلاف على القولين ، عند من لا يرى وجوب الاستبراء ، وعند من رآه.

فأمّا إذا بال قبل اغتساله ، واغتسل ، ثم وجد بعد اغتساله بللا ، يقطع على انّه مني ، فيجب عليه الغسل أيضا ، بلا خلاف ، لقوله عليه السلام : الماء من الماء (3) وليس كذلك إذا وجد بللا بعد بوله واغتساله ، ولم يقطع على انّه مني ، فليلحظ ذلك.

والمرأة إذا رأت بللا بعد الغسل ، لم تعده ، على كل حال ، لأنّ ذلك انّما هو من ماء الرجل على ما وردت به الرواية عنهم عليهم السلام (4) فهذا التفصيل وارد.

والأولى عندي ، انّها إن تيقنت وقطعت على أنّ البلل مني ، فإنها يجب عليها الغسل ، لقوله عليه السلام : الماء من الماء ، فإن لم تتيقن انّه مني ، فلا يجب عليها الغسل ، وان لم تستبرئ قبل غسلها بخلاف الرجل ، فظهر الفرق بينهما وبان.

ص: 122


1- في ل ، والمط : يتأتى
2- البزال : الثقب.
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 5
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب الجنابة ، ح 1.

وقد يوجد في بعض الأخبار والكتب ، انّه إذا لم يبل الجنب قبل غسله ، ثم اغتسل ، ووجد بللا ، فإنّه يجب عليه اعادة الغسل ، والصلاة ، إن كان قد صلّى.

قال محمد بن إدريس : إعادة الصّلاة تحتاج إلى دليل ، وانّما يجب عليه اعادة الغسل فحسب ، لقوله عليه السلام : الماء من الماء ، فالغسل الثاني غير الأوّل ، وموجبه غير موجبة ، فبالأوّل قد طهر ، فصلاته صحيحة قبل رؤية البلل ، وقت كونه طاهرا ، واعادة الصّلاة يحتاج إلى دليل قاهر.

وغسل المرأة ، كغسل الرجل ، إلا انّه يستحب لها أن تنقض المظفور من شعرها ، فإذا كان مانعا من وصول الماء إلى البشرة ، وأصول شعرها ، وجب عليها حلّه ونقضه ، لأنّه لا يتم غسلها إلا به.

والغسل من الجنابة ، يجزي عن الأغسال الكثيرة المفروضة والمسنونة ، سواء تقدّم عليها ، أو تأخّر عنها ، ويكون الحكم له ، والنيّة نيته. مثال ذلك : إذا جامع الرجل زوجته ، فقبل أن تغتسل من جنابتها ، رأت دم الحيض فلم تغتسل ، فإذا طهرت من حيضها ، اغتسلت غسلا واحدا للجنابة ، دون غسل الحيض ، وكذلك إن كانت حائضا ثم طهرت ، فقبل أن تغتسل ، جامعها زوجها ، فالواجب عليها أن تغتسل غسل الجنابة ، دون غسل الحيض ، لأنّ غسل الجنابة له مزية وقوة وترجيح على غسل الحيض.

وذلك انّه لا خلاف انّه يستباح بمجرده الصّلوات ، وليس كذلك غسل الحيض ، وأيضا عرف وجوبه من القرآن ، وغسل الحيض من جهة السنّة ، وإن كان في هذا الأخير ضعف ، لأنّ ما يثبت من جهة السنة المتواترة ، فهو دليل ، فلا فرق بينه في الدّلالة وبين ما يثبت من جهة الكتاب ، والمعتمد في ذلك على الإجماع ، بل ذكرنا ما ذكروا ، وأوردنا ما أورده غيرنا.

والأغسال المفروضات ، اختلف قول أصحابنا في عددها ، فبعض يذهب إلى أنّها خمسة فحسب ، وبعض يذهب إلى انّها ستّة ، وبعض يذهب إلى أنّها

ص: 123

سبعة ، والمعتمد من الأقوال الثلاثة أوسطها ، وهو القول بأنّها ستة ، أحدها الغسل من الجنابة ، وغسل الحيض ، وغسل النفاس ، وغسل الاستحاضة على بعض الوجوه على ما مضى شرحنا له ، وغسل الموتى من الناس المحكوم بتغسيلهم ، فهذا مذهب صاحب الخمسة ، وغسل من مس ميتا بعد برده بالموت وقبل تطهيره بالاغتسال ، فهذا هو السادس ، وهو أوسط الأقوال الثلاثة ، وغسل قاضي صلاة الكسوف مع احتراق القرص جميعه ، وكان قد ترك الصلاة متعمدا ، فهذا هو السابع.

وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب غسل الإحرام فعلى هذا يكون الأقوال أربعة.

والأغسال المسنونات فكثيرة ، وآكدها ما أنا ذاكره.

غسل يوم الجمعة ، ووقته من عند طلوع الفجر من يوم الجمعة إلى وقت الزوال ، وقد رخّص في تقديمه يوم الخميس ، لمن خاف الفوت.

ويستحب قضاؤه لمن فاته ، إمّا بعد الزوال ، أو يوم السّبت.

وكلما قرب من الزوال كان أفضل.

وإذا اجتمع غسل جنابة ، وغسل يوم جمعة وغيرها ، من الأغسال المفروضات والمسنونات ، أجزأ عنها كلّها غسل الجنابة ، على ما مضى شرحنا له ، فإن نوى الجنابة أجزأ عن الجميع ، وإن نوى بالغسل الغسل المسنون دون غسل الجنابة ، لم يجزه عن شي ء من ذلك ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه (1) قال : لأنّ غسل الجمعة انّما يراد للتنظيف ، ومن هو جنب لا يصح ذلك فيه.

قال محمّد بن إدريس : الأقوى عندي انّه يحصل له ثواب غسل الجمعة وإن كان جنبا ، إذ لا تنافي بينهما ، ويعارض شيخنا أبا جعفر بأنّ الحائض يصحّ منها غسل الإحرام ، والجمعة ، مع كونها حائضا ، فإذن لا فرق بينهما إذا لم يكن

ص: 124


1- الخلاف : كتاب الطهارة. المسألة 192.

معه إجماع بالفرق بينهما ، ولو كان إجماع من أصحابنا لذكره في استدلاله.

وغسل ليلة النصف من رجب ، وغسل يوم السابع والعشرين منه ، وليلة النصف من شعبان ، وأول ليلة من شهر رمضان ، وليلة النّصف منه ، وليلة سبع عشرة منه وهي ليلة الفرقان ، لأنّ اللّه تعالى فرّق بين الحق والباطل فيها ، لأنّها ليلة بدر ، ووقعة بدر كان القتال في صبيحتها في شهر رمضان ، سنة اثنتين من الهجرة بعد نزول فرض الصّيام ، لأنّه نزل فرض صيام شهر رمضان يوم الثاني من شعبان ، سنة اثنتين من الهجرة.

وليلة تسع عشرة منه ، وليلة إحدى وعشرين منه ، وليلة ثلاث وعشرين منه ، وليلة الفطر ، ويوم الفطر ، ووقته من طلوع الفجر الثاني إلى قبل الخروج إلى المصلّى ، فإن فاته ذلك فلا قضاء عليه ، ولا ندب إليه ، كما ندب إلى قضاء غسل يوم الجمعة.

وغسل يوم الأضحى ، ووقته وقت غسل يوم الفطر.

وغسل الإحرام أيّ إحرام كان ، سواء كان لحج أو لعمرة.

وغسل دخول الحرم ، وغسل دخول مكة ، وغسل دخول المسجد الحرام ، وغسل دخول الكعبة ، وغسل دخول المدينة ، وغسل دخول مسجد الرّسول عليه السلام ، وغسل زيارته عليه السلام ، وغسل زيارة كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام ، وغسل يوم الغدير ، ويوم المباهلة ، وهو يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة على أصحّ الأقوال ، وغسل المولود ، وغسل قاضي صلاة الكسوف إذا احترق القرص كلّه وتركها متعمّدا ، وإن كان بعض أصحابنا يذهب إلى وجوب هذا الغسل على ما بيّناه ، وغسل صلاة الحاجة ، وغسل صلاة الاستخارة ، وغسل التوبة ، وغسل يوم عرفة.

والكافر إذا أسلم لا يجب عليه الغسل ، بل يستحب له ذلك ، وهو داخل في غسل التوبة ، اللّهم إلا أن يكون عليه الغسل للجنابة وغيرها قبل إسلامه ،

ص: 125

فإنّه إذا أسلم يجب عليه الغسل ، لأنّه في حال كفره لا يصحّ منه الغسل ، لأنّه لا يصحّ منه نية القربة ، لأنّه لا يعرف المتقرب اليه ، وإن كان مخاطبا بالشرائع عندنا ، وعند الأكثر من العلماء.

وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له (1) وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه إذا رأى الإنسان على ثوبه الذي لا يشاركه فيه غيره منيا ، فإنّه يجب عليه الغسل واعادة صلاته من آخر غسل اغتسل لرفع الحدث.

والذي أذهب إليه ، وافتي به في ذلك ، انّه لا يجب عليه اعادة الصّلوات الواقعة فيما بين الغسلين والاحتلامين ، لأن إعادة الصّلاة تحتاج إلى دليل شرعي قاطع للعذر ، مزيل للريب ، والإنسان المصلي قاطع متيقن لبراءة ذمته بصلاته التي صلّاها في ذلك الثوب ، وهو مجوز أن تكون هذه الجنابة من نومه فيه هذه الليلة ، ومجوز أنها من ليالي قبلها ، والصّلوات التي صلاهن متيقنات ، وقد وقعن شرعيات ، فلا يترك المتيقن للمشكوك فيه ، بل يجب عليه اعادة صلاته التي انتبه وصلاها فحسب ، وفي الأخبار ما يدل على ذلك قد أورده المذكور في استبصاره (2) عن زرعة ، عن سماعة قال : سألته عليه السلام عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما أصبح ، ولم يكن رأى في منامه انّه قد احتلم ، قال : فليغتسل ، وليغسل ثوبه ، ويعيد صلاته. وما قال يعيد صلواته من آخر غسل اغتسل.

وقالوا عليهم السلام : اسكتوا عمّا سكت اللّه تعالى عنه (3) ولم يورد المذكور رحمه اللّه بإعادة الصلاة إلا هذا الخبر فحسب.

ثم قد علمنا بمتضمنه ، إذا أحسنّا الظن برواية ، وعملنا بأخبار الآحاد ، فكيف والراوي فطحي المذهب ، غير معتقد للحق ، بل معاند له ، كافر! مع انّ

ص: 126


1- المبسوط : كتاب الطهارة في أحكام الجنابة.
2- الاستبصار : الباب 65 من أبواب الجنابة ، ح 1
3- عوالي اللئالي : ج 3 ، ص 166.

الأخبار وإن كانت رواتها عدولا ، فمذهب أصحابنا لا يجوّز العمل بها ولا يسوّغه ، بل معلوم من مذهبهم ترك العمل بها ، لأنّ العمل تابع للعلم ، وأخبار الآحاد لا تثمر علما ، ولا عملا ، وهذا يكاد يعلم من مذهبنا ضرورة ، على ما أصّلناه وحكيناه عن السيّد المرتضى رحمه اللّه في خطبة كتابنا هذا ، ثمّ إنّ السيّد المرتضى رحمه اللّه قد ذكر المسألة في مسائل خلافه على ما أوردناه ، ولم يتعرّض لإعادة الصّلاة جملة.

ثم إنّ الشيخ أبا جعفر رحمه اللّه قال ذلك على سبيل الاحتياط ، هذا دليله في المسألة ، وما أورد دليلا غيره ، ولا متمسكا سواه ، ولا ادّعى إجماعا ، ولا أخبارا.

ثم يمكن أن يعمل بما ذهب إليه رحمه اللّه على بعض الوجوه ، وهو إذا لبس ثوبا جديدا ، ونام فيه ليلة ، ثمّ نزعه ، ولبس ثوبا غيره ، ونام فيه ليالي ، ثمّ بعد ذلك وجد المني في ذلك الثوب الأول المنزوع ، فإنّه يجب عليه حينئذ إعادة الصّلوات ، من وقت نزعه الأول إلى وقت وجوده فيه ، إذا لم يكن قد اغتسل بعد نزعه وكان قد اغتسل قبل لبسه الأوّل بلحظة ، فيجب عليه في هذه الصّورة إعادة الصّلاة التي وقعت بين الغسلين ، فقد عملنا بقوله على ما ترى على بعض الوجوه.

ونية الغسل لا بدّ منها ، وكذلك كلّ طهارة ، وضوء كانت أو تيمّما.

فامّا وقت النيّة ، فالمستحب ، أن يفعل إذا ابتدأ بغسل اليدين ، ويتعيّن فعلها إذا ابتدأ بغسل الوجه في الوضوء ، أو الرأس في غسل الجنابة ، وغيره من الأغسال ، لا يجزي ما تقدّم على ذلك ولا يلزمه استدامتها إلى آخر الغسل والوضوء بل يلزم استمراره على حكم النية ، ومعنى ذلك أن لا ينتقل من تلك النية إلى نية تخالفها ، فإن انتقل إلى نية تخالفها وقد غسل بعض أعضاء الطهارة ثمّ تمم لم يرتفع حدثه فيما غسل بعد نقل النيّة ونقضها ، فإن رجع إلى النيّة

ص: 127

الأولى نظرت ، فإن كانت الأعضاء التي وضّاها ندية بعد بنى عليها ، وإن كانت قد نشفت ، استأنف الوضوء ، كمن قطع الموالاة.

فأمّا في غسل الجنابة فإنه يبني على كل حال ، لأنّ الموالاة ليست شرطا فيها.

والتسمية عند الطهارة مستحبة غير واجبة.

فاما نيّة هذا الغسل ، فإن كان الجنب ، عليه صلاة واجبة ، أو قد دخل عليه وقت صلوات واجبة ، أو قد تعيّن عليه طواف واجب ، وأراد الاغتسال من جنابته ، فيجب عليه أن ينوي الاغتسال لرفع الحدث واجبا ، قربة إلى اللّه تعالى ، ويكون الغسل هاهنا واجبا عليه ، وكذلك النية ، لأن الغسل طهارة كبرى ، هي شرط في استباحة الصلاة ، فمهما لم تجب الصّلاة على الجنب لا تجب عليه هذه الطهارة التي هي شرط فيها ، فإن لم يدخل عليه وقت صلاة واجبة ، ولا عليه صلاة واجبة ، ولا تعيّن عليه طواف واجب ، فغسله ونيّته مندوبان.

والذي يدلّ على ذلك ، ما ذكره محقّقو هذا الفن ، ومصنّفو كتب أصول الفقه ، وهو انّ الغسل قبل وقت الصلاة المفروضة ، والطواف المفروض ، لا يشارك الغسل بعد دخول الوقت ، في وجه الوجوب ، لأنّ وجه وجوب الغسل كونه شرطا في صلاة هي واجبة على المكلف المغتسل في الحال ، وذمّته مشغولة بها ، وهذا الوجه غير قائم في الغسل قبل دخول وقت الصّلاة المفروضة ، وقد ورد عن الأئمة عليهم السلام ما يدل بصريحه وفحواه على ما ذكرناه (1) ، وقد أورد بعضه الشيخ السّعيد أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه تهذيب الأحكام : قال روى فلان عن فلان ورفع الحديث إلى الصادق عليه السلام قال : قلت له : امرأة جامعها زوجها فقامت لتغتسل ، فهي في المغتسل جاءها دم الحيض قبل أن تغتسل ، أتغتسل من جنابتها أم لا ، فقال عليه السلام : قد جاءها شي ء يفسد عليها

ص: 128


1- الوسائل : الباب 14 من أبواب الجنابة ، ح 2.

الصّلاة ، لا تغتسل (1) ألا تراه عليه السلام إنّما علّقه بالصّلاة ولأجل الصلاة فلمّا سقط تكليفها بالصّلاة لأجل الحيض ، قال : لا تغتسل ، انّما كانت تغتسل لأجل الصّلاة ، ولا لشي ء سوى ذلك.

وأيضا فإن الرّسول عليه السلام ، كان يطوف على تسع نساء بغسل واحد ، فلو كان واجبا ، لما جاز له تركه ، لأنّه كان يخل بالاغتسال الذي هو الواجب ، ويتركه ، ولا خلاف في أنّ ترك الواجب قبيح عقلا وسمعا ، وحوشي عليه السلام عن ذلك.

وأيضا فلا خلاف بين المسلمين ، وخصوصا علماء أهل البيت عليهم السلام وطائفتهم أنّ الإنسان إذا أجنب أول الليل له أن يترك الاغتسال ، وينام إلى دخول وقت صلاته ، فحينئذ يجب عليه الاغتسال لأجل الصّلاة ، فلو كان الغسل من الجنابة واجبا على كلّ حال ، وان المكلف إذا صار جنبا يجب عليه الاغتسال بعده ، وفي كل وقت ، لكان يلزم على ذلك أشياء ، لا قبل لملتزمها إلا العود عن مقالته ، والرّجوع إلى جماعته ، أو الخروج عن إجماع أهل نحلته ، أو العناد لديانته ، من جملتها انّه إذا جامع زوجته ونزع وتخلّص من حال مجامعته يجب عليه الاغتسال لوقته بلا فصل وساعته ، فإن كان عنده ماء في منزله وأراد تركه والخروج منه والاغتسال خارجه من نهر أو حمام ، يحظر عليه الخروج منه إلى النهر أو الحمام ، لأنّه يكون مخلا بواجب ، تاركا له ، وترك الواجب وبدله قبيح على ما بيّناه أولا وأوضحناه.

فإن قيل : الواجب عندكم على ضربين : واجب موسّع ، وواجب مضيّق ، فالموسع الذي له بدل ، وهو العزم على أدائه قبل خروج وقته ، وتقضّي حاله وزمانه ، فللمكلّف تركه مع إقامته البدل مقامه.

ص: 129


1- التهذيب : كتاب الطهارة ، الباب 19 من أبواب الزيادات ، ح 47 ، مع اختلاف في العبارة. وفي الوسائل : الباب 14 من أبواب الجنابة ، ح 1.

والمضيّق هو الذي لا بدل له يقوم مقامه فغسل الجنابة من الواجبات الموسعات وأتقضى من تلك الإلزامات ، وأتخلّص من تيك الشناعات ، كما انّ الصّلاة بعد دخول وقتها وقبل تضيقه من الواجبات الموسعات ، فلمكلّفها أن يتركها إذا فعل العزم الذي هو البدل الى آخر وقتها ، غير حرج في ذلك ولا آثم ، بغير خلاف عندكم ، بل الإجماع منعقد منكم عليه.

قيل له : الذي يفسد هذا الاعتراض ، ويدمر على هذا الخيال ، انّ أول ما نقوله ونقرره ونحرره ، إنّ القياس في الشريعة عند أهل البيت عليهم السلام باطل غير معمول عليه ولا مفروع إليه ، ولا خلاف بين شيعتهم المحقين ، وعلمائهم المحقّقين في ذلك ، لأدلة ليس هذا موضع ذكرها ، فمن أرادها أخذها من مظانها ، فإنّها في كتب المشيخة محققة واضحة ، ولو لا الأدلة القاهرة وأقوال الأئمة الطاهرة ، في تأخير ما صوّره السائل من المسائل في الاعتراض ، وغير ذلك من الصور ، عن أول وقته واقامة البدل مقامه ، لكان داخلا فيما قررناه وحررناه ، فأخرجنا منه ما أخرجناه ، لأجل الإجماع والأدلة ، وبقي ما عداه على ما أصّلناه من انّ ترك الواجب قبيح ، والإخلال بالفرض المتعيّن لا يجوز ، على أنّ بعض أصحابنا وهو شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه اللّه (1) يذهب إلى انّ تارك الصّلاة في أول وقتها من غير عذر مخل بواجب ، تارك له ، معاقب مأثوم ، إلا انّه إذا فعله يعفو اللّه تعالى عن ذنبه تفضلا منه ورحمة ، ذكر ذلك في كتبه وحكاه عنه تلميذه شيخنا السعيد أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في عدته (2) وربما قوّاه أبو جعفر في بعض الأوقات ، وربما زيفه في وقت آخر.

فإن اعترض معترض وخطر بالبال فقال : قد بقي سؤال ، وهو إن كان غسل الجنابة لا يجب ، الا عند دخول وقت الصّلاة على ما قرّرته وشرحته ، فما

ص: 130


1- في المقنعة : باب أوقات الصلاة وعلائم كل وقت ص 94.
2- العدة ص 90 فصل في الأمر الوقت ما حكمه.

تقول إذا جامع الإنسان امرأته أو احتلم في ليل رمضان وترك الاغتسال متعمدا حتى يطلع الفجر ، وقال أنا لا أريد أن اغتسل لأنّ الغسل عندك قبل طلوع الفجر ، مندوب غير واجب على ما ذهبت اليه ، فقال هذا المكلّف لا أريد أن أفعل المندوب ، الذي هو الاغتسال في هذا الوقت ، الذي هو قبل طلوع الفجر ، بلا تأخير ولا فصل ، فإن قلت : يجب عليه في هذا الوقت الاغتسال ، سلمت المسألة بغير إشكال ، لأنّه غير الوقت الذي عيّنته لوجوب الاغتسال ، وإن قلت : لا يغتسل ، خالفت الإجماع ، وفيه ما فيه من الشناع ، وعندنا بإجماعنا أنّ الصيام لا يصحّ إلا لطاهر من الجنابة قبل طلوع فجره ، وانه شرط في صحة صيامه ، بغير خلاف فيجب حينئذ الاغتسال ، لوجوب ما لا يتم الواجب إلا به ، وهذا مطرد في الأدلة والاعتلال.

قيل : ينحلّ هذا الإشكال ، ويزول هذا الخيال ، من وجهين اثنين ، وهو انّ الأمة بين قائلين : قائل يقول بوجوب هذا الاغتسال في جميع الشهور والأيام والأوقات والسّاعات ، وهذا المعترض منهم ، وقائل يقول بوجوبه فيما عيّناه وشرحناه ، وليس هاهنا قائل ثالث يقول بأنّه ندب في طول أوقات السنة ، ما عدا الأوقات التي عينتموها ، وواجب في ليالي شهر رمضان ، فانسلخ من الإجماع بحمد اللّه تعالى كما تراه وحسبه بهذا عارا وشنارا (1).

فأمّا الوجه الآخر وهو قوله كل ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب مثله ، فصحيح ظاهره ومعناه ، إلا انّ مسألتنا ليست من هذا الإلزام بسبيل ، ولا من هذا القول بقبيل لأنّ الواجب الذي هو صيام رمضان يتم من دون نية الوجوب للاغتسال ، وهو أن يغتسل لرفع الحدث مندوبا قربة لله تعالى ، وقد ارتفع حدثه وصحّ صومه ، بلا خلاف ، فقد تمّ الواجب من دون نيّة الوجوب التي تمسك

ص: 131


1- الشنار بالفتح هو الشنيع وهو أقبح العيب.

الخصم بأنّه لا يتم الواجب إلا به ، وقد أريناه انّه يتم الواجب من دونه وبغيره ، ولو لا انّ معرفة القديم سبحانه لا طريق لنا إليها إلا بالنظر في الأدلة ، لما وجب علينا ولا تعيّن ، ولو كان لنا طريق سواه لما وجب تعيينا وتحتم.

فإن قيل : أليس الأمر بمجرده عندكم في عرف الشرع يقتضي الوجوب دون الندب ، والفور دون التراخي؟ قلنا : بلى.

قال : فقد قال سبحانه « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » وهذا أمر للجنب بالتطهير متى كان جنبا بغير خلاف ، فغسل الجنابة واجب بهذا الأمر؟

قلنا : هذه الآية الثانية التي هي معطوفة على الآية الأوّلة ، وهي قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » (1) فأمرنا أن نكون غاسلين وماسحين إذا أردنا القيام إلى الصلاة ، وقبل دخول وقت الصلاة لا يجب علينا القيام إليها ، ولا الغسل لها ، فلمّا عرّفنا سبحانه حكم الطهارة الصّغرى ، عطف عليها حكم الطهارة الكبرى وهي غسل الجنابة ، وهو إذا أردنا القيام إلى الصلاة بعد دخول وقتها يجب علينا الاغتسال ، وهذا مذهبنا بعينه.

فإن قال : هما جملتان لكلّ واحدة منهما حكم نفسها؟

قلنا : صحيح انهما جملتان ، إلا انّ الجملة الثانية معطوفة على الجملة الأولة بواو العطف ، بلا خلاف عند أهل اللسان والمحصّلين لهذا الشّأن ، والمعطوف عندهم له حكم المعطوف عليه ويتنزّل منزلته ، ويشاركه في أحكامه بغير خلاف ، لأنّ واو العطف عندهم تنوب وتقوم مقام الفعل ، فاستغنوا بها عن تكرره اختصارا للكلام ، وإيجازا وبلاغة.

فإن ظن ظان وتوهم متوهم ، انّ السيد المرتضى رحمه اللّه قد ذكر في

ص: 132


1- المائدة : 6.

ذريعته (1) ، في فصل هل الأمر يقتضي المرة الواحدة أو التكرار ، فقال : كلام السيد يدل على ان غسل الجنابة واجب في سائر الأوقات؟

قلنا : معاذ اللّه أن يذهب السيد إلى ما توهمه عليه ، لأنّ هذا قول من لا يفهم ما وقف عليه ، وانّما السيد أورد متمسّك الخصم بأن قال الخصم أنا أريك أنّ الأمر يقتضي بمجرده المرات دون المرة الواحدة ، وصوّر الصورة في غسل الجنابة.

قال السيد : الكلام عليه ، إنّما أوجبه من أوجبه ، لأنّ كون الجنابة علّة عند من قال بالعلل والقياس ، لا لتكرر الأمر واقتضائه التكرار ، بل لتكرر العلّة التي هي الجنابة ، فلمّا تكررت تكرر معلولها ، قال ذلك دافعا للخصم ، وملزما له ما يلتزم به من مذهبه ، ورادا عليه ما يعتقده ، من كون العلل لها أثر في الشرعيات ، وحوشي السيد من أن يكون هذا اعتقاده ومذهبه.

يدلّ على ما ذكرته من مقصود السيد المرتضى رحمه اللّه ما ذكره الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في كتابه أصول الفقه في هذا الفصل بعينه في آخر الفصل بعد إيراد أدلة واحتجاجات كثيرة ، قال : فقيل مع أنّ أكثر المتفقهة إنّما أوجبوا تكرار الغسل بتكرر الجنابة ، وتكرار الحدّ بتكرار الزنا ، لما ذهبوا اليه من كون الجنابة علّة للغسل ، أو كون الزنا علّة في الحد ، ولم يوجبوا ذلك بالصفة حسب ، وهذا أيضا يسقط ما ظنه صاحب الاستدلال (2) هذا آخر كلام الشيخ المفيد.

والذي يزيد مقصود السيد المرتضى رحمه اللّه بيانا ويوضحه برهانا ، ما أورده وذكره في مسائل خلافه في الجريدة ، قال السيد : عندنا انّ من السنّة أن يدرج مع الميت في أكفانه جريدتان خضراوتان رطبتان قدر كل واحدة منهما عظم الذراع ، وخالف من عدا فقهاء الشيعة في ذلك ، دليلنا على ما ذهبنا إليه :

ص: 133


1- الذريعة : تعرض السيد رحمه اللّه للكلام في باب فصل آخر بعد الفصل المذكور وهو انّ الأمر المعلّق بشرط أو صفة هل يتكرر بتكرارهما
2- أصول الفقه : لم نعتر عليه.

ما رواه فلان عن فلان ، وأورد أخبارا عدة ، من طرق الخاصة والعامة وطوّل في الإيراد نحوا من صفحة ، ثم بعد ذلك قال من طريق الاستدلال : وقد سأل بعض أصحابنا الماضين رحمهم اللّه نفسه في هذا المعنى فقال : إن قال قائل ما معنى وضعكم الجريدة مع الميّت في أكفانه ، ثم قال : قيل له : ما معنى الدور حول البيت ، وتقبيل الحجر ، وحلق الرأس ، ورمي الجمار؟ فكل ما أجاب به في ذلك فهو جوابنا بعينه في الجريدة. ثم قيل له : إنّ الذي تعبّدنا بغسل الميت ، وتكفينه ، هو الذي تعبدنا بوضع الجريدة والحنوط معه في أكفانه ولا معنى له غيره ، وإلا فلأي معنى أوجب اللّه تعالى غسل الميت وقد مات وسقطت الفرائض عنه ، والطهارة انما تجب لأداء الفرائض؟ قال السيد المرتضى رحمه اللّه : وهذا كلام سديد في موضعه.

ألا ترى انّ السيد رحمه اللّه قد أورد هذا الكلام عن أصحابه إيراد راض به متعجبا منه ، ونكتة ذلك والمقصود والمراد ، بقوله : الطهارة إنما تراد لأداء الفرائض ، فغسل الجنابة طهارة بلا خلاف ، فلا يجب إلا لأداء الفرائض.

ثم قال السيد متمما للمسألة : وليس يجب أن يعرف علل العبادات على التعيين ، وإن كنا على سبيل الجملة نعلم انّها إنّما وجبت أو ندب إليها للمصالح الدينيّة ، وإن كان المخالف يخالف في ورود العبادة بالجريدة فما تقدّم ممّا ذكرناه وغيره ممّا لم نذكره الأخبار الكثيرة المتظاهرة حجة فيه ، وإن طالب بعلّة معينة ، فلا وجه لمطالبته بذلك ، لأن العبادات لا يعرف عللها بعينها.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة قال : وإن ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة ، أو قعد تحت المجرى ، أو وقف تحت المطر أجزأه ، ويسقط الترتيب في هذه الموضع ، وفي أصحابنا من قال : يترتب حكما (1) هذا آخر كلامه.

ص: 134


1- المبسوط : فصل في ذكر غسل الجنابة وأحكامها.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وانعقد عليه إجماعنا انّ الترتيب في غسل الجنابة واجب على جميع الصّور والأشكال والأحوال إلا في حال الارتماس ، فيسقط الترتيب في هذه الحال ، دون غيرها من الأحوال.

فأمّا المطر والمجرى إذا قام تحته الإنسان ، فإنّه يجب عليه الترتيب في اغتساله ، لا يجزيه في رفع حدثه سواه ، لأنّ اليقين يحصل معه بلا ارتياب ، ولم يقل أحد من أصحابنا ولا خصّ الإجماع إلا في حال الارتماس ، دون سائر الأحوال فليلحظ ذلك.

باب التيمم وأحكامه

جملة القول في التيمم يشتمل على ذكر شروطه ، وبيان كيفيته ، وبأي شي ء يكون من الأجسام ، وهل يستباح به من الصلوات ، مثل ما يستباح بطهارة الماء وما ينقضه.

فأمّا شروطه : فهي فقد الماء الطاهر ، أو تعذر الوصول إليه ، أو الخوف على النفس ، أو زيادة الضرر في المرض ، في سفر أو حضر ، وقد يتعذّر الوصول إليه مع وجوده بفقد الآلات التي تستقي بها ، كالأرشية أو غيرها ، أو المشارع التي يحتاج إليها في تناوله ، وما جرى مجراها ، أو لعدو حائل عنه.

فأمّا الخوف على النفس ، فقد يكون للمرض ، أو البرد الشديد الذي يخاف معه من استعماله على النفس ، أو لأنّ الحاجة داعية الى الموجود منه للشرب.

ومن شروطه : طلب الماء ، والاجتهاد في طلبه ، وحدّ ما وردت به الروايات ، وتواتر به النقل في طلبه ، إذا كانت الأرض سهلة غلوة سهمين ، وإذا كانت حزنة فغلوة سهم واحد ، هذا مع ارتفاع الخوف للطلب ، فإذا خاف المكلّف على نفسه ، أو متاعه ، فقد يسقط عنه الطلب.

ولا يجوز له التيمم قبل دخول وقت الصّلاة ، بل لا يجوز التيمم إلا في آخر وقت الصلاة ، وعند تضيقها وغلبة الظنّ لفواتها.

ص: 135

ومن شروطه : النية ، والترتيب ، والموالاة.

فأمّا كيفية التيمم للحدث حدثا يوجب الوضوء ولا يوجب الغسل ، هو أن يضرب براحتيه ظهر الأرض ، وبسطهما ، ثمّ يرفعهما ، وينفض إحديهما بالأخرى ، ثم يمسح بهما وجهه من قصاص شعر رأسه إلى طرف أنفه الذي يرغم به في سجوده ، ويشتبه على كثير من المتفقهة الطرف المذكور ، فيظن انّه الطرف الذي هو المارن ، لإطلاق القول في الكتب ، ودليل ما نبّهنا عليه انّ الأصل براءة الذمة ممّا زاد على ما قلناه.

وأيضا قوله تعالى : « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ » (1) والباء عندنا للتبعيض بغير خلاف ، ومن مسح على ما قلناه ، فقد امتثل الآية.

وأيضا فبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ مسح الوجه يكون إلى الحاجبين ، وقد وردت أخبار بما ذكرناه إذا تؤملت حق التأمل ، من جملة ذلك ما قد أورده الشيخ أبو جعفر رحمه اللّه في كتاب الإستبصار : أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن مروان بن مسلم وعمار الساباطي قال : ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد ، أيّ ذلك أصبت به الأرض أجزأك (2).

ومن المعلوم انّه إذا أصاب الأرض بالمارن ، الذي هو طرف الأنف الأخير ، في سجوده لا يجزيه سجوده بغير خلاف ، فما أراد إلا من أول الجبهة الذي هو قصاص الشعر إلى آخرها ، الذي هو مما يلي الطرف الأول من الأنف ، وما أوردت هذا الحديث إلا على سبيل التنبّه ، لا الاستدلال والاعتماد ، على ما قدمناه.

ثم يمسح بكفه اليسرى ظاهر كفه اليمنى ، من الزند إلى أطراف الأصابع ، ويمسح بكفه اليمنى ظاهر كفه اليسرى على هذا الوجه.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى استيعاب الوجه جميعا ، وكذلك اليدين من

ص: 136


1- المائدة : 6
2- الاستبصار : الباب 183 ، باب السجود على الجبهة ، ح 3.

المرافق إلى الأصابع.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رءوس الأصابع ، والأوّل أظهر ، وعليه العمل.

وإذا كان تيممه من حدث يوجب الغسل كالجنابة وما أشبهها ، ضرب بيديه على الأرض ضربة أوّلة ، على ما وصفناه ، ومسح بهما وجهه ، على ما حددناه ، ثم ضرب الأرض ثانية ، ومسح كفيه على النحو الذي تقدّم ذكره وصفته.

وقد روي : أنّ الضربة الواحدة للوجه والكفين تجزي في الوضوء والجنابة وكلّ حدث (1). وذهب إليه قوم من أصحابنا ، والأول هو الأظهر في الروايات ، والعمل ، وهو الذي افتي به.

وهذا الترتيب الذي ذكرناه واجب كما قلناه في الطهارة بالماء ، فمن أخل به رجع ، فتلافاه.

والموالاة أيضا واجبة على ما قدّمنا القول فيه وبيّناه.

فأمّا ما به يكون التيمم : فالتراب الطاهر ، والأرض الطاهرة ، وكلّ ما جرى مجراها ، ممّا يقع عليه اسم الأرض بالإطلاق ، ولا يتغير تغيرا يسلبه هذا الاسم.

ولا يجوز التيمم بجميع المعادن ، وتعداد ذلك يطول ، وقد أجاز قوم من أصحابنا التيمم بالنورة ، والصحيح الأول. ويكره بالسبخ ، وبالأرض الرملة.

ولا يجوز التيمم بالرماد ، ولا بالدقيق ، ولا بالأشنان ، ولا بالسعد ، والسدر ، ولا ما أشبهه في نعومته وانسحاقه.

ولا يعدل إلى الحجر إلا إذا فقد التراب ، ولا يعدل إلى غبار ثوبه إلا إذا فقد الحجر والمدر ، ولا يعدل عن غبار ثوبه إلى الوحل إلا إذا فقد الغبار من ثوبه الذي يكون فيه.

ص: 137


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 11 من أبواب التيمم. وأكثر أحاديثها متضمنة لقصة عمار وقد صرّح فيها بكفاية ضربة واحدة مع أنّ عمارا كان جنبا. وكذلك في جامع الأحاديث : الباب 1. ح 8.

والغبار الذي يجوز التيمم به ، هو أن يكون غبار التراب والأرض. فأمّا إذا كان فيه غبار النورة أو الأشنان أو غير ذلك ، فلا يجوز التيمم به ، وكذلك غبار معرفة دابته ، ولبد سرجه ، بعد فقدانه غبار ثوبه ، فإذا فقد الجميع صار إلى الوحل إن وجده.

وكيفية تيممه منه ككيفية تيممه من الأرض ، فإن حصل في أرض قد غطاها الثلج ولا يتمكن من غيره ، جاز له أن يضرب عليه بيديه ، ويتيمم بنداوته.

وقال بعض أصحابنا : فليكسره وليتوضأ بمائه فإن خاف على نفسه من ذلك وضع بطن راحته اليمنى على الثلج ، وحرّكها عليه تحريكا باعتماد ، ثم رفعها بما فيها من نداوة ، فمسح بها وجهه كالدّهن ، ثم يضع راحته اليسرى على الثلج ، ويصنع بها كما صنع باليمنى ويمسح بها يده اليمنى من مرفقه إلى أطراف الأصابع ثمّ يضع يده اليمنى على الثلج ، كما وضعها أولا ، ويمسح بها يده اليسرى ، من مرفقه إلى أطراف الأصابع ، ثم يرفعها ، فيمسح بها مقدّم رأسه ، ويمسح ببلل يديه من الثلج قدميه.

وإن كان محتاجا في التطهير إلى الغسل ، صنع بالثلج كما صنع به عند وضوءه من الاعتماد عليه ، ومسح به رأسه وبدنه ، حتى يأتي على جميعه.

فإن خاف على نفسه من ذلك ، أخّر الصلاة حتى يتمكن من الطهارة بالماء ، أو يجد الأرض فيتيمم بها ، والأول قول السيد المرتضى ، والثاني قول الشيخ المفيد والشيخ أبي جعفر الطوسي رحمهم اللّه والذي أقوله وافتي به وأذهب إليه ، ما اختاره الشيخان من تأخير الصّلاة.

ولا يجوز له أن يتيمم بالثلج ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ التيمم لا يكون إلا بالأرض ، وما ينطلق عليه اسم الأرض بالإطلاق ، والثلج ليس بأرض ، ولا أختار قولهما رحمهما اللّه ، ولا اجوّز ما ذهبا إليه ، من مسح الوجه واليدين بالثلج ، والوضوء به ، وبالمسح على الأعضاء المغسولة ، وكذلك لا أجوز للجنب الغسل

ص: 138

لجميع بدنه بالمسح ، لأنّ اللّه تعالى أوجب علينا عند قيامنا إلى صلاتنا أن نكون غاسلين وماسحين ، وغاسلين في الجنابة ، وحد الغسل ، ما جرى على العضو المغسول ، والممسوح بخلافه ، وهذا لا خلاف بين فقهاء أهل البيت أنّ الغسل غير المسح ، فكيف يستباح الصّلاة بمجرد المسح فيما يجب غسله ، وإذا عدمنا ما يكون غاسلين به ، فإن اللّه سبحانه نقلنا إذا لم نجد الماء الكافي لغسلنا ولأعضائنا المغسولة ، إلى التراب والأرض والتيمم ، فإذا فقدنا ما نتيمم به ، فقد سقط تكليفنا الآن بالصّلاة وأخّرناها إلى أن نجد الماء ، فنغتسل به ، أو التراب فنتيمم به ، لقوله عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور (1) والطهور مفقود في هذه المسائل ، فليتأمل ذلك ويلحظ عني ما قلته بالعين الصحيحة ، ويترك التقليد ، وأسماء الرجال جانبا ، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال (2) واللّه الموفق للصواب.

فأمّا استباحة الصّلاة بالتيمم ، فلفاعله ان يصلّي ما لم يحدث ، أو يجد الماء ، ويتمكن من استعماله ما شاء من صلوات الليل والنهار ، والفرائض ، والنوافل.

والكلام فيما ينقض التيمم فقد تقدّم في باب نواقض الطهارة بالماء.

ومن دخل في الصّلاة بالتيمم ، ثم أصاب الماء ، وقدر على استعماله ، فقد اختلف قول أصحابنا في هذه المسألة ، فبعض يقول : إن كان قد ركع مضى فيها ، وإن لم يركع انصرف وتوضّأ ، وهذا قول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (3) ، إلا انّه رجع عنه في مسائل خلافه (4).

وبعض قال : إذا دخل في صلاته بتكبيرة الإحرام ، فالواجب عليه المضي فيها ، فإذا فرغ منها توضأ لما بعد تلك الصّلاة ، من الصلوات.

وبعض قال : يحب عليه الانصراف ما لم يقرأ ، فإذا قرأ مضى في صلاته ،

ص: 139


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 1 من أبواب الوضوء ، ح 1
2- غرر الحكم : ج 1 ص 394.
3- النهاية : باب التيمم وأحكامه
4- الخلاف : كتاب الطهارة مسألة 89

ولا يجوز له الانصراف.

والصحيح من الأقوال ، انّه إذا دخل في صلاته بتكبيرة الإحرام مضى فيها ، ولا يجوز له قطعها بحال ، وعلى هذا يعتمد ويفتي السيد المرتضى قدس سره في مسائل خلافه ، وكذلك الشيخ أبو جعفر في مسائل الخلاف (1).

ومن نسي الماء في رحله ، فتيمم وصلّى ، ثم علم به من بعد لا اعادة عليه ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال الشافعي وأبو يوسف : يجب عليه أن يعيد ، وقال مالك : يعيد في الوقت ، فإذا خرج الوقت فلا اعادة عليه ، وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له إلى ما ذهب إليه مالك بعينه ، وهذا لا يجوز لأحد من أصحابنا أن يقوله ، لأنّ التيمم عند جميع أصحابنا إلا من شذ ممن لا يعتمد بقوله ، لأنّه قد عرف باسمه ونسبه ، انّما يجب في آخر الوقت ، وعند خوف فوت الصّلاة وخروج وقتها ، ولا يجوز أن يستعمل قبل آخره وتضيّقه على وجه من الوجوه ، وآخر الوقت من شرطه ، كما أنّ عدم الماء بعد طلبه من شرطه ، فكيف يصحّ أن يقوله فيمن تيمم قبل الوقت وصلّى ، فإنّه لا صلاة. له جملة ، ويجب عليه أن يصلي صلاة مبتدأة بالماء إذا ذكره.

فأمّا من تيمم قبل آخر الوقت وصلّى ، ثم خرج الوقت وذكر ما كان فيه ، فإنّه يجب عليه الوضوء واعادة الصّلاة ، لأنّ ما مضى من فعله لم يكن صلاة ، لأنّه كان بغير طهور.

ومن دفع إلى تغسيل ميت ولم يجد الماء ، استعمل فيه من التيمم ما بيّناه من قبل ، انّه فرض من وجب عليه الغسل.

ومن كان معه من الماء قدر ما يزيل به النجاسة عن بدنه أو ثوبه الذي

ص: 140


1- الخلاف : كتاب الطهارة ، مسألة 116 مع اختلاف كثير.

يفتقر إليه في ستر عورته ، ولا يتسع ذلك الماء لغيره ، وأحدث حدثا يوجب الغسل أو الوضوء ، وجب أن يستعمل ذلك الماء في إزالة النجاسة ، ويتيمم للحدث.

ومن أجنب ومعه من الماء ما لا يكفيه لغسل جميع أعضائه ، وجب أن يتيمم.

فإن أحدث بعد ذلك حدثا يوجب الوضوء ، فالصحيح من المذهب والأظهر من الأقوال ، انّه يعيد تيممه ضربتين ، لأنّ حدثه الأول باق ، ما ارتفع ، والدليل على ذلك انّه إذا وجد الماء اغتسل ، فلو كان حدثه الأكبر قد ارتفع بتيممه ، ما وجب عليه الغسل إذا وجد الماء.

وقال السيد المرتضى رحمه اللّه : يستعمل ذلك الماء إن كفاه للوضوء ، ولا يجوز له التيمم عند حدثه ما يوجب الطهارة الصغرى وقد وجد من الماء ما يكفيه لها ، فيجب عليه استعماله ولا يجزيه تيممه ، والأول أبين وأوضح.

ومن لم يجد الماء إلا بثمن وافر ، زائد الغلاء ، خارج عن العادة ، وكان واجدا للثمن ، بذله فيه ، ولم يجزيه التيمم إلا ان يبلغ ثمنه مقدارا يضرّ به في الحال.

وليس على جميع من صلّى بتيمم إعادة شي ء من صلاته إذا وجد الماء ، من مريض أو مسافر ، أو خائف على نفسه ، من برد ، وغير ذلك.

وقد روي (1) انّه إذا كان غسله من جنابة تعمدها ، وجب عليه الغسل ، وإن لحقه البرد ، إلا أن يبلغ ذلك حدّا يخاف على نفسه التلف ، فإنّه يجب عليه حينئذ التيمم والصّلاة ، فإذا زال الخوف ، وجب عليه الغسل ، واعادة تلك الصّلاة.

ص: 141


1- الوسائل : كتاب الطهارة الباب 17 من أبواب التيمم.

وقد روي (1) انّ المتيمم إذا أحدث في الصّلاة حدثا ينقض الطهارة ناسيا ، وجب عليه الطهارة ، والبناء على ما انتهى إليه من الصّلاة ، ما لم يستدبر القبلة ، أو يتكلّم بما يفسد الصّلاة ، وإن كان حدثه متعمّدا ، وجب عليه الطهارة واستيناف الصّلاة ، والصحيح ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّه لا خلاف بين الطهارتين ، وإن التروك الواجبة متى كانت من نواقض الطهارة فإنّ الصلاة تفسد ، ويجب استينافها ، سواء كان عن عمد أو سهو أو نسيان.

وانّما ورد هذا الخبر فأوّله بعض أصحابنا في كتاب له فقال : أخصّه بصلاة المتيمم ، والصحيح انّه لا فرق بينهما ، إذ قد بيّنا انّه لا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، بل الاعتماد على المتواتر من الأخبار.

ويكره أن يؤم المتيمم المتوضئين ، على الصحيح من المذهب ، وبعض أصحابنا يذهب إلى أنه لا يجوز.

وقد روي (2) انّه إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء مقدار ما يكفي أحدهم فليغتسل به الجنب ، وليتيمم المحدث ، ويدفن الميت بعد أن يؤمّم حسب ما قدّمناه.

والصحيح انّ هذا الماء إن كان مملوكا لأحدهم فهو أحقّ به ، ولا يجب عليه إعطاؤه لغيره ، ولا يجوز لغيره أخذه منه بغير إذنه ، فإن كان موجودا مباحا ، فكل من حازه فهو له ، فإن تعين عليهما تغسيل الميت ، ولم يتعين عليهما أداء الصّلاة لخوف فواتها وضيق وقتها ، فعليهما أن يغسلاه بالماء الموجود ، فإن خافا فوت الصّلاة ، فإنهما يستعملان الماء ، فإن أمكن جمعه ولم تخالطه نجاسة ، عينية فيغسلانه به على ما بيّناه من قبل ، في أنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى يجوز استعماله كاستعمال الماء المستعمل في الطهارة الصغرى على الصحيح من المذهب.

ص: 142


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 1 من أبواب القواطع ، ح 10 ، وأورد صدره في باب 21 من أبواب التيمم ، ح 4.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، باب 18 من أبواب تيمم ، ح 1.

باب أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس

الحيض والمحيض عبارتان عن معنى واحد ، وهو الدم الأسود الخارج بحرارة ودفع ، في أغلب الأوقات والأحوال في زمان مخصوص من شخص مخصوص ، فهذا الحد أسلم من حدّ من قال : إنّ الحائض هي التي ترى الدم الأسود الحار الذي له دفع ، وبهذه الصفات يتميز من دم الاستحاضة ، والعذرة والقرح وغيرها ، وهذا لا يصح ، لأنّها لو رأت الدم بهذه الصفات في أقل من ثلاثة أيّام لم يكن حيضا بالإجماع ، وكذلك لو رأته المرأة بعد العشرة أيام بهذه الصفات لم يكن حيضا ، وإن شئت قلت : هو الدم الذي له تعلّق بانقضاء العدة على وجه ، إمّا بظهوره أو بانقطاعه ، فقولنا بظهوره المراد به انّها إذا رأت المطلقة الدم الثالث أول قطرة منه بانت على الصحيح من الأقوال ، هذا إذا كان لها عادة مستقيمة ، ورأته فيها ، لأنّ العادة والغالب كالمتيقن في حكم الشرعيات ، فأمّا إذا لم يكن لها عادة مستقيمة ، فلا تخرج من العدة برؤية القطرة من الدم الثالث ، إلا بعد اليقين بأن ذلك الدم دم حيض ، وهو أن يتوالى ثلاثة أيام متتابعة ، لأنّها في العدة بيقين ، ولا يجوز أن يخرج من اليقين إلا بيقين مثله ، ولا يقين لها إذا رأت القطرة ، إلا إذا دام ثلاثة أيام ، إلا أن تراه في أيّام عادتها المستقيمة ، فيحكم بأنّه حيض ، لما قدّمناه من أنّ العادة والأغلب كالمتيقن الحاصل ، فليلحظ هذا الموضع ، وليتأمل.

وبعض أصحابنا قال : إن كان طلاقها في أول طهرها بانت بذلك ، وإن كان طلاقها في آخر طهرها فلا تخرج من العدة إلا بعد انقطاعه واستيفاء أيامه ، فهذا معنى قولهم بظهوره أو بانقطاعه على هذا القول والمذهب ، وهو مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد النعمان رحمه اللّه.

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه وهو انّها تخرج من

ص: 143

العدة برؤية القطرة من الدم الثالث ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك وحققناه ، وهو انها إن كانت لها عادة مستقيمة مستمرة ، فمذهب شيخنا أبي جعفر وقوله صحيح ، وإن لم يكن لها عادة مستمرة فلا تخرج من العدة ، إلا بعد استيفاء ثلاثة أيام متتابعات ، لأنها في العدة بيقين ، فلا تخرج من اليقين إلا بيقين مثله ، فهذا تحرير القولين.

وإذا رأت المرأة دم الحيض ، تعلّق بها عشرون حكما ، لا يجب عليها الصّلاة ، ولا يجوز منها فعل الصلاة ، ولا يصح منها الصّوم ، ويحرم عليها دخول المساجد إلا عابر سبيل ، إلا المسجدين ، ولا يصح منها الاعتكاف ، ولا يصحّ منها الطواف ، ويحرم عليها قراءة العزائم ، ويحرم عليها مس كتابة القرآن ، ويحرم على زوجها وطؤها ، ويجب عليه إذا وطأها متعمدا الكفارة ، إن كان في أوله فدينار ، وإن كان في وسطه فنصف دينار ، وإن كان في آخره فربع دينار ، ويجب عليه التعزير.

وهل الكفارة واجبة أو مندوبة؟ لأصحابنا فيه قولان ، الأظهر من المذهب انّها على الوجوب ، والآخر أنّها على الندب ، فالسيد المرتضى رحمه اللّه وجماعة من أصحابنا مذهبهم الأول ، والشيخ أبو جعفر موافق لهذا القول في جمله وعقوده (1) ، وذكر في نهايته (2) انّها على الندب والاستحباب ، فقوله في جمله وعقوده هو فتواه ، وما ذكره في نهايته عذره فيه قد أوضحناه.

فإذا كرر الوطء فالأظهر أنّ عليه تكرار الكفارة ، لأنّ عموم الأخبار يقتضي أنّ عليه بكلّ دفعة كفارة ، والأقوى عندي والأصح أن لا تكرار في الكفارة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعية ، فأمّا العموم فلا يصح التعلّق به في مثل هذه المواضع ، لأنّ هذه أسماء

ص: 144


1- الجمل والعقود : في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس ، رقم 10 و 11 من واجباته.
2- النهاية : كتاب الطهارة ، باب حكم الحيض والمستحاضة والنفساء.

الأجناس والمصادر ، ألا ترى انّ من أكل في نهار شهر رمضان متعمدا ، وكرّر الأكل ، لا يجب عليه تكرار الكفارة بلا خلاف.

ويجب عليها ، الاغتسال عند نقائها من حيضها ، ولا يصح طلاقها إذا كانت مدخولا بها وغير غائب عنها زوجها غيبة مخصوصة ، وبعض أصحابنا يطلق هذا الموضع ويقول : ولا يصح طلاقها ، وهذا لا بدّ من تقييده بما قيّدناه ، وإلا فالحائض التي غير مدخول بها والغائب عنها غيبة مخصوصة ، يصح طلاقها بغير خلاف ، ولا بدّ من التقيّد.

ولا يصح منها الغسل ولا الوضوء على وجه يرفعان الحدث ويصح منها الغسل والوضوء على وجه لا يرفع بهما الحدث مثل غسل الإحرام والجمعة والعيدين ، ووضوئها لجلوسها في محرابها لتذكر اللّه تعالى بمقدار زمان صلاتها ، وهما غسل ووضوء مأمور بهما شرعيان ، فهذا معنى قولنا : على وجه يرفعان الحدث.

ولا يجب عليها قضاء الصلاة بإجماع المسلمين ، ويجب عليها قضاء الصوم بالإجماع أيضا.

ويكره لها قراءة ما عدا العزائم ، ومس ما عدا المكتوب من المصحف وحمله ، ويكره لها الخضاب.

ومتى رأت المرأة الدم لدون تسع سنين ، لم يكن ذلك دم حيض.

وتيأس المرأة من الحيض إذا بلغت خمسين سنة مع تغيّر عادتها ، فمتى رأت بعد ذلك كان دم استحاضة.

وأقل أيّام الحيض ثلاثة أيّام متتابعات ، وأكثره عشرة أيام ، لا خلاف بين أصحابنا في هذين الحدين والمقدارين ، بل اختلفوا في كيفية الأقل ، فمنهم من قال : تكون الثلاثة متوالية ، ومنهم من قال : سواء كانت متتابعة أو متفرقة إذا كانت في جملة العشرة ، والقول الأول هو الأظهر ، لأن الأصل بعد تكليفها الصوم والصلاة ، فمن ادّعى سقوط تكليفها بالصوم والصلاة ، يحتاج إلى دليل ،

ص: 145

وهذا الذي ذكره صاحب الجمل والعقود في جمله (1) ، وذكر في نهايته (2) القول الآخر ، وقد بيّنا عذره في مثل ذلك ، لأنّ كتابه - أعني نهايته - كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر.

فان اشتبه دم الحيض بدم العذرة في زمان الحيض ، فلتدخل المرأة قطنة ، فإن خرجت منغمسة بالدم ، فذاك دم حيض ، وإن خرجت متطوقة بالدم فذاك دم عذرة.

فإن اشتبه عليها دم الحيض بدم القرح في أيّام الحيض فلتدخل إصبعها ، فإن كان الدم خارجا من الجانب الأيمن فهو دم قرح ، وإن كان خارجا من الجانب الأيسر فهو دم حيض.

والصفرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيّام الطهر طهر.

فإن كانت المرأة مبتدأة في الحيض ، فأيّ دم رأته مع دوامه ثلاثة أيام متتابعات على أيّ صفة كان فهو دم حيض ، فإن رأته إلى تمام العشرة الأيّام فالجميع حيض.

وان تجاوز العشرة فلها أربعة أحوال :

أحدها : أن يتميّز لها بالصفة فلتعمل على التميز.

والثاني : أن لا يتميّز لها وجاء الدم لونا واحدا ، فلترجع إلى عادة نسائها من أهلها.

والثالث : لا يكون لها نساء من أهلها ، فلترجع إلى من هو من أبناء سنّها ، فلتعمل على عادتهن.

الرابع : لا يكون لها نساء من أبناء سنّها ، فعند هذه الحال اختلف قول

ص: 146


1- الجمل والعقود : في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس.
2- النهاية : باب حكم الحيض والمستحاضة والنفساء.

أصحابنا فيها على ستة أقوال :

منهم من قال تترك الصّلاة والصّوم في الشهر الأول أقل أيام الحيض وفي الشهر الثاني أكثر أيام الحيض ، وتصوم وتصلّي باقي أيام الشهرين.

ومنهم من يعكس هذا.

ومنهم من يقول بترك الصّلاة والصّوم في كلّ شهر سبعة أيّام في أوائل كل شهر ، وتصلي وتصوم باقي أيام الشهرين.

ومنهم من يقول ستة أيام فحسب.

ومنهم من يقول بترك الصّلاة والصّوم في كلّ شهر ثلاثة أيّام فحسب ، وتصلي وتصوم باقي الأيام.

ومنهم من يقول تعدد عشرات ، عشرة حيض ، وعشرة طهر ، هذا مع استمراره ودوامه ، ثم لا يزال هذا دأبها إلى أن تستقرّ لها عادة ، بأن يتوالى عليها شهران متتابعان ترى الدم في كلّ شهر منهما أياما سواء في أوقات سواء ، مثاله أن ترى الدم في الشهر الأول بعد الهلال خمسة أيام ، ثم ينقطع تمام الشهر ، ثم يهل الشهر الثاني ، فتراه في أوله بلا فصل خمسة أيّام ، فهذا معنى قولنا اعداد وأوقات سواء.

فإن رأته في النصف الثاني خمسة أيام ، لم يكن ذلك عادة ، لأنّها ما رأت الخمسة في أوقات الخمسة في الشهر الأول فتجعل ذلك عادتها.

فأمّا غير المبتدأة وهي التي تكون لها عادة ، فلتلتزم عادتها إذا تجاوز دمها العشر ، فأمّا إذا لم يتجاوز دمها العشر ، فأيّ دم رأته بعد عادتها وقبل تجاوز العشر فهو دم حيض ، لقولهم عليهم السلام : الكدرة والصفرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيام الطهر طهر (1) يعنون بأيام الحيض العشرة الأيام التي هي حدّ الأكثر.

فإن قيل : فيبطل قول (2) الأئمة عليهم السلام : ترجع إلى العادة ، أو تمسك

ص: 147


1- الوسائل : الباب 4 و 5 من أبواب الحيض.
2- الوسائل : الباب 4 و 5 من أبواب الحيض.

عادتها ، أو ترجع الى عادتها ، على اختلاف الألفاظ.

قلنا : ذلك إذا تجاوز الدم العادة والعشرة الأيام ، فحينئذ ترجع إلى عادتها ، وتجعل ما جاوز العادة والعشرة استحاضة ، فأمّا إذا تجاوز الدم العادة ولم يتجاوز العشرة الأيام التي هي أكثر أيام الحيض ، فلا ترجع إلى العادة ، بل يكون جميع ذلك وجميع تلك الأيام حيضا ، لقولهم عليهم السلام : الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيام الطهر طهر ، وهذه أيام الحيض فقد عملنا بالقولين ، ولم نتعد النصّين ، ولا مناقضة بين ذلك ، فليتأمّل ، وليلحظ ما قلناه ، فكثيرا يشتبه هذا على الفقهاء.

فإذا تقرر هذا ، فمتى اتصل الدم بالعادة وتجاوز العشرة الأيام فإنها تمسك العادة ، تجعل ما عداها استحاضة ، سواء تقدم العادة واتصل بها ، أو تأخر عنها متصلا بها وجاوز العشرة ، لما أصلناه وقررناه من قولهم عليهم السلام المجمع عليه : ترجع إلى عادتها ، وتمسك عادتها. فعلى هذا التحرير : إذا رأت خمسة أيام دما قبل عادتها ، وخمسة أيّام في عادتها ، وكانت عادتها خمسة أيّام وخمسة أيام بعد عادتها ، فالواجب عليها الرّجوع إلى العادة ، والتمسّك بها ، وتكون الخمسة الأوّلة والخمسة الأخيرة استحاضة ، وكذلك إذا رأت عشرة قبلها ، واتصل بها ، فإنّها تلزم عادتها ، وتكون العشرة استحاضة ، فكذلك إذا رأت خمسة أيام عادتها ، واتصل بها عشرة أيام بعد الخمسة ، فإنّها ترجع إلى عادتها ، وتمسك بها ، وتجعل العشرة استحاضة.

فامّا إذا لم يتصل بالعادة وكانت ثلاثة أيّام متتابعات بعد ان مضى لها أقل الطهر ، وهو عشرة أيّام نقاء فإنّه حيض ، لأنّه في أيام الحيض لقولهم عليهم السلام : الكدرة والصفرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيام الطهر طهر ، على ما حررناه وقرّرناه فليلحظ هذه الجملة ، فإنها إذا حصلت اطلع بها وأشرف على ما استوعب من دقائق هذا الكتاب.

فإن اضطربت عادتها ، وتغيّرت عن أوقاتها وأزمانها وصارت ناسية لهذا

ص: 148

ولهذا فإذا استمر بها الدم بعد العشرة الأيام ، فالواجب عليها اعتباره بالصّفات ، فإذا تميز لها فلترجع إليه ، وتعمل عليه ، وتكون لها بمنزلة العادة ، وقد قدمنا حكمها وبيّناه.

فإن اشتبه عليها الدم وجاء لونا واحدا ولم يتميز لها ، فهي في هذه الحال حكمها حكم المبتدأة في الحال الرابعة حرفا فحرفا ، وقد قدّمنا الأحكام والأقوال فيها ، والاختلاف مستوفى ، فهذا خلاصة فقه الحائض ودقائق أحكامها ، فإذا حصل فما بعده سهل يسير.

ومن لم تكن لها عادة ، ورأت الدم اليوم واليومين ، فلا يجوز لها ترك الصّلاة والصّيام ، لأنّها من تكليفها بالصّلاة والصّيام على يقين ، وهي في شك من الحيض في هذين اليومين ، فكيف يجوز لها أن تترك اليقين بالشك؟

وما يوجد في بعض الكتب من أنّ المرأة إذا رأت الدم اليوم أو اليومين تركت الصّلاة والصّيام ، فإن استمرّ بها الدم اليوم الثالث فذلك دم حيض وإن لم يستمرّ بها الدم قضت الصّلاة والصّيام ، وكذلك إذا انقطع الدّم عنها بعد تمام عادتها ، وقبل تجاوز العشرة يوجد في الكتب انّها تستظهر بيوم أو يومين في ترك الصّلاة والصّيام ، فأخبار آحاد لا يعرج عليها ، ولا يلتفت إليها ، بل الاستظهار لها في دينها وتكليفها وبراءة ذمّتها ، فعل الصّلاة والصيام إلى أن يتبين أنها غير مكلّفة بهما ، فحينئذ يجب عليها تركهما لما أصلناه من انّها لا تترك اليقين بالشك ، فليلحظ ذلك ويحقق ، إلا أن يكون لها عادة مستقيمة مستمرة ، فترى الدم في أوّلها يوما أو يومين ، فالواجب عليها عند رؤية الدم ترك الصّلاة والصّيام ، لأن العادة تجري مجرى اليقين ، وكذلك الأغلب يجري مجرى المعلوم ، فهذه بخلاف تلك في الحكم ، لما بيّناه ونبّهنا على دليله ومفارقته لحكم غيره ، أو ترى بعد العادة المستقيمة الصفرة أو الكدرة قبل خروج العشرة الأيام وبعد عادتها إذا كانت عادتها أقل من عشرة أيّام فحينئذ يجب عليها ترك الصلاة والصيام ، والاستظهار بيوم أو يومين أو ثلاثة ، لأنّها بحكم الحائض إلا انّها ترى

ص: 149

النقاء وتترك الصّلاة على ما يظنه من لا بصيرة له ، وقد حقّق ذلك شيخنا في الاستبصار (1).

والحبلى الحامل المستبين حملها اختلف قول أصحابنا ، واختلفت أخبارهم ، فبعض منهم يقول انّها تحيض ، وحكمها حكمها قبل حملها ، ومنهم وهم الأكثرون المحصّلون يذهبون إلى أنّها لا ترى دم الحيض ولا تحيض ، وأيّ دم تراه فهو دم استحاضة أو فساد ، وهذا هو الصّحيح وبه افتي وأعمل.

والدليل على ذلك الحاسم للشغب انّه لا خلاف بين المخالف منهم في المسألة والمؤالف انّ إطلاق الحائض المدخول بها التي ما غاب زوجها عنها غيبة مخصوصة ، لا يقع ولا يجوز ، وانّه بدعة محظورة ، ولا تبين به ، ولا يقع جملة ، هذا إجماعهم عليه بغير خلاف ، ولا خلاف أيضا بين الفريقين بل الإجماع منعقد من أصحابنا جميعهم انّ طلاق الحامل يقع على كل حال ، سواء كانت وقت طلاقها عالمة بالدم ، متيقنة له ، أو لم تكن كذلك ، فلو كانت الحامل تحيض وترى دم الحيض ، لما جاز طلاقها في حال حيضها ، ولتناقضت الأدلة ، وبطل الإجماع من الفريقين وهذا أمر مرغوب عن المصير إليه والوقوف عليه.

وقد بيّنا انّه لا يجوز لزوجها مجامعتها في قبلها خاصة ، لموضع الدّم وله مجامعتها فيما دون ذلك من سائر بدنها دبرا كان أو غيره على الأصح والأظهر من المذهب ، وبعض أصحابنا يذهب إلى تحريم وطئها في دبرها كتحريم وطئها في قبلها ، وهو السيد المرتضى في مسائل خلافه ، والدليل على ما اخترناه قوله تعالى : « فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ » (2) ولا يخلو المراد به اعتزلوا النساء في زمان الحيض ، أو في موضع الحيض الذي هو الدّم ، فإن كان الأول فهذا خلاف إجماع المسلمين ، فما بقي إلا القسم الآخر وانّما وردت أخبار (3) بأن له منها ما

ص: 150


1- الاستبصار : الباب 90 باب الاستظهار للمستحاضة.
2- البقرة : 222
3- الوسائل : الباب 26 من أبواب الحيض.

فوق المئزر ، وذلك محمول على كراهية ما دون القبل.

فإذا انقطع عنها الدم فالأولى لزوجها أن لا يقربها بجماع في قبلها حتى تغتسل ، وليس ذلك عند أصحابنا بمحظور ، فإن كان شبقا وغلبته الشهوة ، فليأمرها بغسل فرجها ، وقد زالت عنه الكراهة سواء انقطع لأكثر الحيض ، أو لأقلّه ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ » (1) وهذه قد طهرت من وإذا أصبحت المرأة صائمة ثم حاضت ، فلتفطر أيّ وقت رأت الدّم ، ويستحب لها الإمساك تأديبا إذا رأت الدم بعد الزوال ، فأما إذا كانت حائضا ثم طهرت ، فالمستحب لها الإمساك تأديبا ، سواء كان طهرها قبل الزوال أو بعده.

فإذا أرادت الاغتسال ، فكيفية غسلها مثل غسل الجنابة سواء ، إلا انّها لا تستبيح الصّلاة بمجرّده ، على ما قدّمنا القول فيه وبيّناه ، فإذا كان اغتسالها في وقت صلاة ، وأرادت تقديم الوضوء على الغسل ، نوت بوضوئها استباحة الصلاة ، واجبا قربة إلى اللّه تعالى ، ولا تنوي رفع الحدث ، لأنّ حدثها الأكبر باق وهو الغسل ، وإن أرادت تأخير الوضوء عن الغسل ، نوت بغسلها رفع الحدث ، ونوت بوضوئها استباحة الصّلاة ، لأنّ حدثها قد ارتفع واجبا قربة إلى اللّه تعالى ، وإن كان غسلها في غير وقت صلاة ، وأرادت تقديم الوضوء على الغسل نوت بوضوئها استباحة الصلاة مندوبا ، قربة إلى اللّه تعالى ، ونوت أيضا بغسلها مندوبا ترفع به الحدث ، وإن كان غسلها قبل وضوئها نوت به رفع الحدث مندوبا قربة إلى اللّه تعالى ، ونوت بوضوئها بعده استباحة الصّلاة من غير أن ترفع به الحدث.

وإذا كانت المرأة جنبا فجاءها الحيض قبل أن تغتسل غسل الجنابة ، فتدع الغسل إلى أن تطهر من حيضها ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للجنابة ، وقد أجزأها على ما قدّمناه في باب الجنابة وحررناه.

ص: 151


1- البقرة : 222.

والمستحاضة هي التي ترى الدم بعد أكثر أيام الحيض ، وبعد أكثر أيام النفاس ، وبعد استبانة حملها ، على ما حققناه وأسلفنا القول فيه ، وبعد خمسين سنة ، وتغيير عادتها ، وبعد تجاوز دمها عادتها ، والعشرة الأيّام ، واستمراره على ما قدّمناه ، فيكون ما عدا العادة استحاضة وإن كان بعضها في العشرة الأيّام ، هذا مع استمراره وتجاوزه العادة والعشرة الأيام ففي جميع هذه الأحوال هي مستحاضة وكذلك إذا رأت الدم أقل من ثلاثة أيام ، فهي أيضا مستحاضة ، ومتى رأت هذا الدم وجب عليها أن تستبرئ نفسها بقطنة ، ولها ثلاثة أحكام :

أحدها : أن تراه يسيرا لا يثقب الكرسف الذي هو القطن ، فالواجب عليها الوضوء لكلّ صلاة ، وتغيير القطن والخرقة ، ولا يجوز لها أن تجمع بين صلاتين بوضوء واحد ، بل يجب عليها لكلّ صلاة وضوء ، وتغيير القطنة ، والخرقة ، وإتيان الصّلاة بعد وضوئها بلا فصل ، وأمّا إذا توضّأت أولا في أول الوقت ولم تصل إلا في ثانيه أو وسطه أو آخره ، فإنّ صلاتها غير صحيحة ، لأن قولهم عليهم السلام : « يجب الوضوء عليها عند كلّ صلاة » (1) يقتضي المقارنة ، لأن ( عند ) في لسان العرب لا تصغر ، فهي للمقارنة كما انّ قبيلا وبعيدا للمقارنة ، فكذلك عند ، لأنّها مع ترك التصغير بمنزلة بعيد وقبيل في التصغير.

قال شيخنا في مبسوطة : إذا توضأت المستحاضة وقامت إلى الصّلاة ، فانقطع عنها الدم قبل أن تكبّر تكبيرة الإحرام ، فلا يجوز لها الدخول في الصّلاة إلا بعد ان تتوضأ ثانيا ، لأنّ انقطاع دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء ، ثم قال : فإن انقطع بعد تكبيرة الإحرام ودخولها في الصّلاة تمضي في صلاتها ، ولا يجب عليها استينافها (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إذا كان انقطاع دم

ص: 152


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب المستحاضة.
2- المبسوط : كتاب الطهارة باب في أحوال الاستحاضة.

الاستحاضة حدثا ، فيجب عليها قطع الصّلاة واستيناف الوضوء ، وانّما هذا كلام الشافعي ، أورده شيخنا لأنّ الشافعي يستصحب الحال ، وعندنا انّ استصحاب الحال غير صحيح ، وانّ هذه الحال غير ذلك ، وما يستصحب في الحال فبدليل ، وهو إجماع على المتيمّم إذا دخل في الصلاة ووجد الماء فإنّا لا وجب عليها الاستيناف بإجماعنا ، لا إنا قائلون باستصحاب الحال ، فليلحظ ذلك وليتأمل.

والحكم الثاني : أن ترى الدم أكثر من ذلك ، وهو أن يثقب الدم الكرسف ولا يسيل ، فيجب عليها أن تعمل ما عملته في الحكم الأول سواء ، ويزيد عليه الغسل لصلاة الغداة.

والحكم الثالث : أن ترى الدم يثقب الكرسف ويسيل ، فيجب عليها أن تفعل ما فعلته في الحكم الثاني ، ويزيد على ذلك وجوب غسلين ينضافان إلى الغسل الذي في الحكم الثاني ، فإذا فعلت ذلك في أيام استحاضتها ، فهي في حكم الطاهرات في جميع الشرعيات ، إلا انّها يكره لها دخول الكعبة ، وإذا وجب عليها حدّ الجلد لا يقام حتى ينقطع عنها دم الاستحاضة ، لأنّها مريضة ، والمريضة لا يقام عليها حدّ الجلد حتى تبرأ ، فإن لم تفعل ما وصفناه ، وصامت وصلّت ، وجب عليها اعادة صلاتها وصيامها ، ولا يحلّ لزوجها وطؤها.

وإن كانت قد أكلت في زمان استحاضتها ، فإنّه يجب عليها قضاء الصوم والكفارة ، لأنّها أكلت في زمان الصيّام متعمدة لذلك.

وتجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد ، وكذلك بين العشاء الاولى والآخرة ، والجمع منها بين هاتين الفريضتين ، بأن تؤخّر الفريضة المتقدّمة إلى آخر وقتها ، وتصلّي الفريضة الأخيرة في أوّل وقتها يجمع بينهما في الحال ، وذلك على الاستحباب دون الفرض والإيجاب.

وقد يوجد في بعض الأخبار والآثار والكتب المصنفات ، مثل تهذيب

ص: 153

الأحكام (1) ومسائل الخلاف للسيّد المرتضى رحمه اللّه : إن دم الحيض أسود بحراني ، وفي خبر آخر : دم الحيض أحمر بحراني.

قال محمّد ابن إدريس بحراني بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة المفتوحة ، وبالحاء غير المعجمة المسكنة ، وبالراء غير المعجمة المفتوحة ، وبعدها الف والنون المكسورة ، وبعدها ياء مشدّدة ليست للنسب ، وهو الشديد الحمرة والسواد ، كما يقال أبيض يقق وأسود حالك وحانك ، وأحمر بحراني ، وبأحرى ، هكذا أورده ابن الأعرابي في نوادره ، فأوردته كما أورده تنبيها عليه.

والنفساء : هي التي تضع الحمل ، وترى الدم ، لأنّها مشتقة من النفس التي هي الدم ، بدلالة قولهم : كلّ ما لا نفس له سائلة يريدون كلّ ما لا دم له سائل.

فإذا رأت الدم بعد وضعها الحمل بلا فصل ، أو قبل مضي عشرة أيام من وقت وضعها الحمل فهي نفساء وحكمها حكم الحائض سواء ، في جميع الأحكام اللازمة للحائض ، بغير خلاف ، وفي أكثر أيامها على الصحيح من الأقوال والمذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يذهب إلى أن أكثر أيام النفاس عند استمرار دمها ثمانية عشرة يوما ، ذهب إليه السيد المرتضى رحمه اللّه في بعض كتبه (2) ، وكذلك الشيخ المفيد (3) ، وعادا عنه في تصنيف آخر لهما.

عاد السيد عن ذلك في مسائل خلافه (4) بأن قال : عندنا الحد في نفاس المرأة أيام حيضها التي تعهدها وقد روي انّها تستظهر بيوم ويومين (5) ، وروي في أكثره خمسة عشر يوما (6) ، وروي أكثر من هذا (7) ، وإلا ثبت ما تقدّم.

ص: 154


1- التهذيب : لم نتحققه في مظانّه.
2- وهو كتاب الانتصار في كتاب الطهارة.
3- قاله المفيد في المقنعة في باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ص 57.
4- لم نجد كتاب الخلاف للسيد المرتضى رحمه اللّه.
5- الوسائل الباب 3 من أبواب النفاس ح 2 - 4 - 5 - 15 - 11.
6- الوسائل الباب 3 من أبواب النفاس ح 2 - 4 - 5 - 15 - 11.
7- الوسائل الباب 3 من أبواب النفاس ح 2 - 4 - 5 - 15 - 11.

ورجع الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتابه أحكام النساء (1) وفي شرح كتاب الأعلام (2).

والذي يدل على أصل المسألة وما اخترناه ، انّها مخاطبة ، مكلّفة ، وهي داخلة في عموم الأوامر بالصّلوات والصّوم ، وانّما يخرجها في الأيام التي حددناها للإجماع ، ولا إجماع ولا دليل فيما زاد على ذلك ، فيجب دخولها تحت عموم الأوامر ، ولو لم يكن إلا أنّ فيه استظهارا للفرض واحتياطا له لكفى.

وتفارق النفساء الحائض في حدّ أقل النفاس ، فإنّه ليس لقليل النفاس حدّ بل حدّه انقطاع الدم ، فإذا استمر بها الدم فوق العشرة الأيام وتجاوزها ، فعلت ما تفعله المستحاضة ، لا الحائض ، لأنّ الحيض لا يتعقّب النفاس ، لما بيّنا انّ النفاس حكمه حكم الحيض في جميع الأشياء ، فإن رأت الدّم بعد وضعها الحمل بلا فصل مثلا يوما واحدا أو يومين وانقطع إلى تمام العشرة الأيام ، فهي نفساء في اليوم واليومين فحسب ، فإذا رأته قبل مضي العشرة الأيام لحظة واحدة فاليوم واليومان وما بعدها إلى تمام العشرة نفاس ، لأنّه لم يمض لها بين الدّمين طهر ، فإن مضى بين الدّمين عشرة أيام نقاء فالدم الثاني إذا توالى ثلاثة أيام حيض ، فإن لم يمض بين الدمين طهر ، وتجاوز العشرة الأيام منها نقاء ومنها دم ، فالدم الثاني استحاضة ولا يكون نفاسا ، لأنه قد جاوز العشرة الأيام بعد وضعها الحمل وهي أقصى مدته ، ولا يكون حيضا ، لأنّه ما تقدّمه طهر ، فليلحظ ذلك ويحقق.

ويكون النقاء الذي في العشرة الأيام أيضا هي فيه بحكم الطاهرات ، يجب عليها فيه قضاء الصّلاة والصّوم.

وإن وضعت ولم تر الدّم إلى اليوم التاسع أو العاشر ، فهي طاهر ، وحكمها حكم الطاهرات إلى أن رأت الدم ، وهي نفساء ، وحكمها حكم النفساء في اليوم التاسع والعاشر فحسب ، لأنّا قد بيّنا انّ النفساء مشتقة من النفس التي

ص: 155


1- لم نعثر عليهما.
2- لم نعثر عليهما.

هي الدم ، والاشتقاق غير حاصل في الأيام الثمانية ، فيجب أن يكون غير نفساء. ونفساء في الزمان الذي رأت فيه الدم ، لأنّه بعد وضع الحمل ، وقبل خروج العشرة الأيام التي هي أقصى مدة النفساء والنفاس.

فإن قيل أيام النقاء أقل من الطهر ، لأن الطهر عندنا عشرة أيام أقلّه ، فكيف حكمتم بأنّها طهر ، وحكمها حكم الطاهرات فيها؟

قلنا : ولا تقدّمها حيض ولا نفاس ، بل تقدّمها طهر وأطهار ، لأن الحامل على ما بيّناه لا ترى دم الحيض ، فالأيام وما تقدمها بمجموع ذلك أجمع طهر.

فإن رأته بعد وضعها ساعة ، ثم انقطع تسعة أيام ، ثم رأته اليوم العاشر ، كانت جميع الأيام نفاسها ، لأنّها نفساء عند رؤية الدّم بعد الوضع ، ولم يحصل لها في أيام الانقطاع طهر وهو عشرة أيام ، ورأت الدم الثاني قبل خروج العشرة وهي أقصى مدة النفاس ، فكان الجميع نفاسا وهي نفساء في الجميع.

وإذا ولدت المرأة توأمين ، ورأت الدم عقيبهما ، فإنّ النفاس يكون من ولد الأول ، لأنّ النفاس عندنا هو الدم الخارج عقيب الولادة ، ولا يمنع كون أحد الولدين باقيا في بطنها من أن يكون نفاسا ، وأيضا لا يختلف أهل اللغة في أنّ المرأة إذا ولدت وخرج الدم عقيب الولادة ، فإنّه يقال قد نفست ، ولا يعتبرون بقاء ولد في بطنها ، ويسمّون الولد منفوسا ، قال الشاعر وهو أبو صخر الهذلي يمدح آل خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس :

إذا نفس المنفوس من آل خالد *** بدا كرم للناظرين وطيب

فسمّى الولد منفوسا ومحال أنّ يكون الولد منفوسا إلا والام نفساء ، لأنّ الدّم نفسه يسمّى نفسا على ما قدّمناه.

فإذا ولدت الولد الثاني ورأت الدم عقيب ولادتها ، اعتبرت أقصى مدة النفاس من وقت ولادة الثاني ، لأنّ كلّ واحد من الدمين يستحق الاسم بأنّه نفاس ، فينبغي أن يتناول كلّ واحد منهما اللفظ ، وإذا تناول الدم الأخير الاسم

ص: 156

عددنا منه أكثر أيام النفاس ، واستوفينا أقصاه من الأخير ، لتناول الاسم له.

فإن قيل : إذا رأته عند وضع الأول مثلا خمسة أيام ، ثم وضعت الثاني ورأت الدم عقيب وضعه عشرة أيام ، فقد صار خمسة عشرة يوما ، وعندكم على ما بيّنتم انّ أقصى مدة النفاس عشرة أيّام ، فكيف يكون الحكم في ذلك؟

قلنا : ما هذا دم ولادة واحدة ، بل دم عقيب ولادتين ، وإن كان الحمل واحدا ، وعندنا بلا خلاف بيننا ، انّ النفاس هو الدّم الذي تراه المرأة عقيب ولادتها الولد ، وقد رأت عقيب ولادتها الأول خمسة أيام ، فحكمنا بأنّها نفاس لتناول الاسم لها ، فإذا وضعت الثاني ورأت عقيبه الدم فقد رأت الدم عقيب ولادتها الولد الأخير ، فينبغي أن يتناوله الاسم ، فيجب أن يستوفي أقصى مدة النفاس من يوم وضعتها الولد الأخير ، لتناول الاسم ، فليلحظ ذلك ويحقق ، فقد شاهدت جماعة ممن عاصرت من أصحابنا ، لا تحقق القول في ذلك ، وتقف على مسطور لبعض المصنفين ، ولا تبيّنه ولا تحقّقه ، وتحتج عنده ، وتخطي ، فاللّه نسأل التوفيق والتسديد في المقال والفعال.

باب غسل الأموات وما يتقدّم ذلك في آداب المرض ، والعيادة وتلقين المحتضرين ، وما يتصل بذلك

الأولى بالمريض والأفضل له أن يكتم مرضه ولا يشكوه ، وقد روي في حدّ الشكاية للمرض ، عن الصّادق عليه السلام ، أنّ الرّجل يقول حممت اليوم ، وسهرت البارحة ، وقد صدق وليس هذا شكاية ، انّما الشكاية أن يقول : ابتليت بما لم يبتل به أحد وأصابني ما لم يصب أحدا (1).

ص: 157


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب الاحتضار ح 1.

وفي العيادة للمؤمنين فضل كثير وثواب جميل ، والرواية بذلك متظاهرة (1) ويستحب للمريض أن يأذن للعائدين حتى يدخلوا عليه ، فربما كانت لأحدهم دعوة مستجابة.

ولا عيادة في أقل من ثلاثة أيام ، فإذا وجبت ، جعلت غبّا يوما فيوما ثم يغب يومين ، فإذا طالت مدة العلّة ترك المريض وعياله.

ولا عيادة في وجع العين.

ومن السنة تخفيف العيادة ، وتعجيل القيام ، إلا أن يكون المريض يحب الإطالة عنده.

ولا يعاد أهل الذمة ولا تشهد جنائزهم.

وقد روي انّه ليس على النساء عيادة المرضى (2).

ويلقن المحتضر الشهادتين ، وكلمات الفرج ، وقد يأتي ذكرها ، فإن عسر عليه النزع ، نقل إلى المكان الذي كان يكثر الصّلاة فيه.

ويستحب أن يوجّه إلى القبلة ، بأن يجعل باطن قدميه إليها ، بحيث لو جلس لكان مستقبلا إليها ، فإذا قضى نحبه ، والنحب المدة والوقت ، يقال قضى فلان نحبه إذا مات ، فلتغمض عيناه ، ويطبق فوه ، ويمدّ يداه إلى جنبيه ، ورجلاه ، ويكون عنده من يذكر اللّه تعالى ، ويقرأ القرآن ، ويقدّم النظر في أمره عاجلا ولا ينتظر به دخول الوقت ، ولا خروجه ، إلا أن يكون غريقا ، أو مصعوقا ، أو مبطونا وهو الذي علته الذب وهو الإسهال ، - وكان زين العابدين عليه السلام يوم الطف مريضا بالذّرب - أو مدخنا ، أو مهدوما عليه ، فإنّ هؤلاء ينتظر بهم إلى أن يتغيّروا ، لأجل الاستظهار ، وتسبر حالهم بعلامات الموت واماراته ، فإن عرف حالهم ، وإلا تركوا ثلاثة أيام.

وغسل الميت المؤمن أو المحكوم بإيمانه ومن في حكمه ، فرض واجب ، وهو من

ص: 158


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب الاحتضار
2- الوسائل : الباب 69 من أبواب الدفن ، ح 4.

فروض الكفاية.

واعلم انّه كغسل الجنب في الصفة والترتيب ، يبدأ فيه بغسل اليدين على طريق الاستحباب ، ثم الفرج ، ثم الرأس ، ثم الميامن ، ثم المياسر ، وشرح ذلك : أن يوضع الميت على سرير غسله ، ويستحب أن يستقبل هاهنا بوجهه القبلة ، على ما ذكرناه أولا في حال الاحتضار ، ويجب أن تستر عورته بثوب يضعه عليها ، أو بقميصه بعد نزعه عنه ، ويقصد إلى تليين مفاصله برفق ، حتى لا ينكسر منه عضو ، فإن عسر عليه ذلك تركه ، ولم يتعرض له ، ويمسح بطنه مسحا رقيقا في الغسلتين الأوّلتين ، ولا يمسحها في الثالثة ولا يغمزها بحال ، وهذا الحكم سواء كان الميت رجلا أو امرأة ، إلا أن يكون حاملا ، فلا يمسح بطنها في شي ء من الغسلات.

ثمّ يغسل يديه بماء قراح ، والقراح هو الخالص البحت وقد روي أنّه يوضأ وضوء الصلاة ، وذلك شاذ ، والصحيح خلافه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يراه احتياطا في نهايته (1) وفي مبسوطة (2) وقال : قد روي أنّه يوضأ الميت قبل غسله (3) ، فمن عمل بها كان جائزا ، غير أن عمل الطائفة على ترك العمل بذلك ، لأن غسل الميّت كغسل الجنابة ولا وضوء في غسل الجنابة.

قال محمّد بن إدريس : فإذا كان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك ، فإذن لا يجوز العمل بالرواية ، لأنّ العامل بذلك يكون مخالفا للطائفة ، وفيه ما فيه.

ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة السّدر ثلاث مرات ، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ، ليبدو له الأيمن ، ويغسله بماء السدر ثلاثا أيضا ، كما ذكرناه في الرأس من أصل العنق الى قدمه ، ثمّ يقلبه على جنبه الأيمن ، ليبدو له الأيسر ويغسله على ما ذكرناه في الأيمن في الصفة والعدة.

ص: 159


1- النهاية : في غسل الميّت
2- المبسوط : كتاب الجنائز ( بعد كتاب الصلاة ) ص 178 من المطبوع.
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب غسل الميّت.

والمفروض من الأكفان للرجال والنساء ثلاثة أثواب ، مئزر وقميص وإزار ، مع القدرة والاختيار ، على الصحيح من المذهب ، وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ الواجب في حال الاختيار قطعة واحدة ، وهو سلّار.

والمسنون للرجال ، أن يزاد لفافة اخرى ، إمّا حبرة ، بكسر الحاء وفتح الباء ، أو ما يقوم مقامها ، وخرقة يشد بها فخذاه.

ويستحب أن يزاد أيضا عمامة يعمم بها محنكا ، وإن كان امرأة زيدت على مستحب الرجال لفافة أخرى ، لشدّ ثدييها ، وروي نمط (1) والصحيح الأول وهذا مذهب شيخنا الطوسي رحمه اللّه في كتاب الاقتصاد (2) لأنّ النمط هو الحبرة ، وقد زيدت على أكفانها ، لأن الحبرة مشتقة من التزين (3) والتحسين ، وكذلك النمط هو الطريقة وحقيته الأكسية والفرش ذات الطرائق ، ومنه سوق الأنماط بالكوفة ، يقال فلان على نمط واحد ، أي على طريقة واحدة ، قال زهير : تعالين أنماطا عتاقا وكلة.

وإذا اختلف الورثة في الكفن ، اقتصر على المفروض منه وهو ثلاث قطع.

وإذا أخذ السيل الميت أو أكله السّبع وبقي الكفن ، كان للورثة دون غيرهم ويحصّل الكافور ، والأعلى في الاستحباب وزن ثلاثة عشر درهما وثلث ، الذي لم تمسّه النار ، الخالص ، الخام ، الجلال ، ومعنى الجلال الجليل وهو الجيد يقال : جليل وجلال وطويل وطوال ، فهو من أوزان المبالغة في أوصاف الجودة. ويليه في مقدار المستحب أربعة دراهم ، وفي بعض الكتب أربعة مثاقيل ، والمراد بها الدراهم هاهنا ، ويليه في مقدار المستحب درهم واحد ، والواجب ما وقع. عليه اسم الكافور مع الوجدان.

ويحصّل أيضا شي ء من السدر للغسلة الاولى ، وقليل كافور للغسلة الثانية ،

ص: 160


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب التكفين ، ح 16.
2- الاقتصاد : فصل في ذكر غسل الأموات ، ص 248
3- في المطبوع : لأن الحبرة مشتقة من التزيّن.

وشي ء من القطن ليحشى به دبره ، والمواضع التي يخاف خروج شي ء منها ، وشي ء من الذريرة المعروفة بالقمحة ، ذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب التبيان (1) قال : الذريرة ، فتات قصب الطيب ، وهو قصب يجاء به من الهند ، كأنّه قصب النشاب.

وذكر المسعودي ، وهو علي بن الحسين المسعودي الهذلي رجل من جلة أصحابنا له كتب عدة ، في كتابه المعروف المترجم بمروج الذهب ومعادن الجوهر ، في التواريخ وغيرها ، وهذا الكتاب كتاب حسن ، يشتمل على أشياء حسنة قال : أصل الطيب خمسة أصناف ، المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والزعفران ، كلها تحمل من أرض الهند إلا أنّ الزعفران ، والعنبر ، قد يوجد بأرض الزنج ، والأندلس ، قال : وأنواع الأدوية خمسة وعشرون صنفا ، ذكر من جملة ذلك السليخة والورس واللاذن والزباد وقصب الذريرة (2).

قال محمد بن إدريس : والذي أراه أنّها نبات طيب غير الطيب المعهود ، يقال له القمحان نبات طيب يجعلونه على رأس دنّ الخمر ويطيّن عليه ليكسبها منه الريح الطيبة. قد ذكره النابغة الذبياني في شعره ، وفسّره علماء أهل اللغة على ما شرحناه وذكرناه.

وقال صاحب كتاب التاريخ (3) : قال الأصمعي وغيره : يقال للذي يعلو الخمر ، مثل الذريرة القمحان. وقال النابغة الجعدي :

إذا فضّت خواتمه علاه *** بنثر القمحان من المدام

وهل الكافور الذي للغسلة الثانية من جملة الثلاثة عشر درهما وثلث ، أم من غيرها؟ اختلف أصحابنا في ذلك ، فبعض قال : من جملتها ، وبعض قال : من غيرها لا منها ، وهذا هو الأظهر بينهم.

ص: 161


1- التبيان : ج 1 ، ص 448
2- مروج الذهب : ج 1 ص 171 نقلا بالمعنى
3- في المطبوع : التاريخ.

وتنثر الذريرة المتقدّم ذكرها ، على الأكفان.

ويكتب على الأكفان : فلان يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه ، بتربة الحسين عليه السلام.

وقال الشيخ المفيد في رسالته إلى ولده : تبل التربة بالماء ويكتب بها (1). وباقي المصنفين من أصحابنا يطلقون في كتبهم ويقولون يكتب ذلك بتربة الحسين عليه السلام ، والذي اختاره ما ذكره الشيخ المفيد رحمه اللّه ، لأنّه الحقيقة والمعهود في الكتابة ، لأنّ حقيقة ذلك التأثير ، وليس إطلاقهم ممّا ينافي ذلك ، فإن لم توجد التربة ، فبالاصبغ عند الضّرورة.

ويستحب أن يكون الكفن قطنا محضا أبيض ، والكتان مكروه. وليس بمحظور ، والإبريسم المحض لا يجوز ، وجملة الأمر وعقد الباب أنّ كل ثوب يجوز فيه الصّلاة يجوز التكفين به ، إلا انّ بعض الثياب أفضل من بعض ، وما لا تجوز فيه الصلاة من الإبريسم المحض لا يجوز التكفين به.

والواجب أن يغسل ثلاث غسلات ، الاولى بماء السّدر ، والثانية بماء جلال الكافور ، والثالثة بماء القراح ، والماء القراح هو البحت الخالص ، من غير إضافة شي ء إليه على ما ذكرناه.

وكيفية غسله ، مثل غسل الجنابة ، يغسل الغاسل يد الميّت ثلاث مرّات ، ثم ينحيه بقليل أشنان ، وآخر يقلب الماء عليه ، فإذا نحّاه بدأ بغسل رأسه ولحيته ثلاث مرات ، ثم يغسل جانبه الأيمن ثلاث مرات ، ثمّ الأيسر ثلاث مرات ، وآخر يقلب الماء عليه.

ثمّ يقلب بقية ماء السّدر ، ويغسل الأواني ، ويطرح ماء آخر ، ويطرح القليل من الكافور ، ويضربه ، ويغسّله الغسلة الثانية مثل ذلك.

ص: 162


1- رسالة المفيد رحمه اللّه الى ولده.

ثم يقلب بقية ماء الكافور ، ويغسل الأواني ، ويطرح فيها ماء القراح ، ويغسّله الغسلة الثالثة مثل ذلك بالماء القراح ، ويمسح الغاسل يده على بطنه في الغسلتين الأولتين ، ولا يمسح في الغسلة الثالثة ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما مضى ، وأعدناه هاهنا للبيان ، وكلّما قلبه استغفر اللّه وسأله العفو ، ثم ينشّفه بثوب نظيف.

ويغتسل الغاسل فرضا واجبا إمّا في الحال أو فيما بعد ، فإن مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع فإنّه لا ينجس ذلك المائع ، وإن كان الإناء يجب غسله ، لأنّه لاقى جسد الميّت ، وليس كذلك المائع الذي حصل فيه ، لأنّه لم يلاق جسد الميت وحمله على ذلك قياس ، وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة ، إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر ، وإن كنّا متعبدين بغسل ما لاقى جسد الميت ، لأنّ هذه نجاسات حكميات ، وليست عينيات ، والأحكام الشرعيات نثبتها بحسب الأدلة الشرعية.

ولا خلاف أيضا بين الأمّة كافّة إنّ المساجد يجب أن تنزه ، وتجنب النجاسات العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف ذلك بيننا على أن لمن غسل ميّتا أن يدخل المسجد ، ويجلس فيه ، فضلا عن مروره ، وجوازه ، ودخوله إليه ، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك وأدّى إلى تناقض الأدلة.

وأيضا فإنّ الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ، ماء استعمل في الصغرى والآخر في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا انّه طاهر مطهر ، والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصّحيح عند محققي أصحابنا أنّه أيضا طاهر مطهر ، ومن خالف فيه من أصحابنا قال : هو طاهر يزيل به النجاسات العينيات ولا يرفع به الحكميات ، فقد اتفقوا جميعا على انّه طاهر ، ومن جملة الأغسال والطهارات الكبار : غسل من غسل ميتا ، فلو نجس ما يلاقيه من المائعات ، لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وإزالة حدثه طاهرا

ص: 163

بالاتفاق والإجماع اللذين أشرنا إليهما.

والأفضل أن لا يكفّنه إلا بعد أن يغتسل ، فإن لم يفعل توضّأ ثم كفنه ، فيأخذ الخرقة التي هي الخامسة ويترك عليها شيئا من القطن وينثر عليها شيئا من الذريرة ويشد بها فخذيه ، ويضمهما ضما شديدا ويحشو القطن على حلقة الدبر ، وبعض أصحابنا يقول في كتاب له : ويحشو القطن في دبره. والأول أظهر ، لأنّا نجنّب الميت كل ما نجنّبه الأحياء ، ويستوثق من الخرقة.

ثم يؤزره ويلبسه القميص ، وفوق القميص الإزار ، وفوق الإزار الجرة ، ويترك معه جريدتين رطبتين من النخل إن وجدا ، ومن الشجر الرطب ، ويكتب عليهما ما كتب على الأكفان ، ويضع إحديهما من ترقوته اليمنى ، ويلصقها بجلده ، والأخرى من الجانب الأيسر ، بين القميصين والإزار.

ويضع الكافور على مساجده : جبهته ، ويديه ، وعيني ركبتيه ، وطرف أصابع الرجلين فإن فضل منه شي ء تركه على صدره ، ولا يجعل في عينه ، ولا في سمعه ، ولا في فيه ، ولا في أنفه ، شيئا من الكافور والقطن ، إلا ان يخاف خروج شي ء من ذلك فيجعل عليه شيئا من القطن.

ويكره قطع الكفن بالحديد ، ويكره أيضا بل الخيط لخياطته بالريق.

ثم يحمل إلى المصلّى ، فيصلّى عليه ، على ما نذكره في كتاب الصّلاة.

وأفضل ما يمشي المشيع للجنازة خلفها ، ويجوز بين جنبيها ، ويكره ان يتقدّمها مع الاختيار.

فإذا صلّي عليه حمل إلى قبره ، فيترك عند رجلي القبر إن كان رجلا ، وقدّام القبر ممّا يلي القبلة إن كانت امرأة.

ثم ينزل إلى القبر من يأمره الولي ، بحسب الحاجة إن شاء شفعا ، وإن شاء وترا ، فيؤخذ الميت الرجل من عند رجلي القبر ، والمرأة من قدّامه ، فيسل سلا في ثلاث دفعات ولا يفاجأ به القبر دفعة واحدة ، ويوضع في لحده ، وهو أفضل من

ص: 164

الشق ، ويحلّ عقد الأكفان ، ويلقّنه الذي يدفنه الشهادتين ، والإقرار بالنبي والأئمة عليهم السلام ، ثم يضع معه شيئا من تربة الحسين عليه السلام ، وقال الشيخ أبو جعفر الطّوسي رحمه اللّه : تكون التربة في لحده مقابلة وجهه (1). وقال في اقتصاده : يكون في وجهه (2) وقال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان : تكون التربة تحت خدّه وهو الذي يقوى عندي ويضع خده على التراب ، ثمّ يشرّج عليه اللبن. ويخرج من عند رجلي القبر.

ويكره أن ينزل إلى القبر بحذاء أو خفّ.

ويطم القبر ويرفع من الأرض مقدار أربع أصابع مفرجات ، ولا يعلّى أكثر من ذلك ، ويربع ، ويكره أن يطرح فيه من غير ترابه.

ويستحب لمن حضره أن يطرح بظهر كفه ثلاث مرات التراب ، ويترحم عليه ، فإذا فرغ من تسوية القبر ، ينضح الماء على القبر من أربع جوانبه يبدأ الرأس ، فإذا فضل من الماء شي ء صبّه على وسط القبر.

ويترحّم عليه من حضره ، وينصرف ، ويتأخّر الولي أو من يأمره الولي ويستقبل القبلة ، ويجعل القبر أمامه ، وينادي بأعلى صوته معيدا للتلقين الأول ، فإنّه على ما روي (3) يكفى عن مسألة القبر إن شاء اللّه.

وذهب بعض أصحابنا في كتاب له وهو الفقيه أبو الصلاح الحلبي تلميذ السيد المرتضى رحمه اللّه إلى أنّ الملقّن هاهنا يستدبر القبلة ، ويستقبل وجه الميت ويلقنه (4).

ويكره تسخين الماء لغسل الأموات ، إلا أن يدعو إلى ذلك حاجة.

ص: 165


1- هذه العبارة غير موجودة في النهاية والخلاف والمبسوط والجمل والعقود.
2- الاقتصاد : فصل في ذكر غسل الأموات ، ص 250 الطبع الحديث.
3- الوسائل : الباب 35 من أبواب الدفن ، ح 1 و 2 و 3.
4- الكافي : في أحكام الجنائز ، ص 239 طبع مكتبة الإمام أمير المؤمنين بأصبهان.

ويكره أن يصب الماء الذي يغسل به الميت في الكنيف ، بل المستحب اتخاذ حفيرة ليدخل الماء إليها.

ويكره أن يركب الميت في حال غسله ، بل يكون الغاسل على جانبه الأيمن ، ولا يقعده ولا يغمز بطنه.

ويستحب لمن شيّع جنازة المؤمن أن يربع جنازته ، بأن يحملها من أربع جوانبه ، يبدأ بمقدّم السرير الأيمن ، يمرّ عليه ويدور من خلفه إلى الجانب الأيسر ، ثم يمرّ عليه حتى يرجع إلى المقدّم كذلك دور الرحى.

وفي بعض الكتب ولا يفدحه بالقبر دفعة واحدة القدح الأخذ بالشدة.

والموتى المأمور بغسلهم على ثلاثة أضرب ، فضرب منهم لا يجب غسله ، لا قبل الموت ولا بعد الموت ، وهو الشهيد المقتول بين يدي إمام عدل ، أو بين يدي من نصبه في نصرته ، ولا يكفن ، ويدفن معه جميع ما ينطلق عليه اسم الثياب ، سواء أصابها دمه أو لم يصبها ، ولا يكفّن إلا أن يجرّد ويسلب ، فحينئذ يجب تكفينه ، فأمّا غير الثياب فينقسم إلى قسمين ، سلاح وغير سلاح ، فالسلاح يجب نزعه عنه ، سواء أصابه دمه أو لم يصبه بغير خلاف ، وغير السلاح وهو الفرو والقلنسوة والخف ، فإن كان أصاب شيئا من ذلك دمه ، فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، فبعض ينزعه عنه وإن كان قد أصابه دمه ، وبعض لا ينزعه عنه إلا أن يكون ما أصابه دمه ، فأمّا إن كان أصابه دمه فلا ينزعه ، وهذا الذي يقوى في نفسي.

فإن نقل من المعركة وبه رمق ، ومات في غير المعركة وجب غسله.

وذكر السيد المرتضى رحمه اللّه في مسائل خلافه في مسألة غسل الشهيد قال : فإن قيل : لا خلاف في انّه إذا ارتثّ يغسل مع وجوب الشهادة. قلنا : إذا ارتث فلم يمت في المعركة هذا آخر كلام المرتضى.

قال محمّد بن إدريس : ارتثّ بالألف والراء الساكنة ، غير المعجمة والتاء

ص: 166

المضمومة المنقطة من فوقها بنقطتين والثاء المنقطة ثلاث نقط المشددة : إذا طعن أو ضرب فسقط ، وتأويله انّه صار مرميّا به ، كما يلقى رثّ المتاع ، وكذلك فلان رث الثياب ، ويقال كل غثّ ورثّ ، يقال : قد ارتث فلان صريعا إذا فعل به ما قدّمناه ، هكذا أورده المبرد في كتاب الاشتقاقات (1).

والضرب الثاني يجب أن يغتسل قبل موته ، ولا يجب غسله بعد موته وقتله ، وهو المقتول قودا ، والمرجوم ، فإنّهما يؤمران بالاغتسال ، فإذا اغتسلا قتلا ، ولا يجب غسلهما بعد قتلهما.

ويجب على من مسهما بعد القتل الغسل ، لأنّه قد مس ميتا بعد برده بالموت وقبل تغسيله بعد الموت.

ولا يظن ظان ان هذا ما مسّه الا بعد تطهيره.

قلنا ما مسه بعد تطهيره بعد موته ، بل ما مسّه الا قبل تطهيره بعد موته.

ولا يكفّنان أيضا بعد القتل ، لأنّهما يؤمران بالتكفين والتحنيط قبل القتل.

والضرب الثالث يجب غسله بعد الموت وتكفينه ، ظالما كان أو مظلوما ، وإذا وجد من المقتول قطعة ، فإن كان فيها عظم وكان ذلك العظم عظم الصدر ، وجب على من مسه الغسل ، ووجب تغسيل القطعة ، وتكفينها ، والصلاة عليها ، وحكمها حكم الميت نفسه ، وإن كان العظم غير الصدر ، يجب جميع الأحكام الماضية إلا الصلاة عليها فإنّها لا تجب.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة : إذا وجد قطعة من ميت فيها عظم ، وجب غسلها ، ثم استدل فقال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روي أنّ طائرا ألقت يدا بمكة من وقعة الحمل ، فعرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فغسلها أهل مكة ، وصلّوا عليها (2).

ص: 167


1- لم نعثر عليه
2- كتاب الخلاف : المسألة 62 من أحكام الأموات.

قال محمّد بن إدريس : الصحيح انّ اليد ألقيت باليمامة ، ذكر ذلك البلاذري في تاريخه (1) ، وهو أعرف بهذا الشأن ، وأسيد بفتح الالف وكسر السين.

وإن كانت القطعة خالية من العظم ، دفنت ، ولا يجب تكفينها ، ولا غسلها ، ولا الصلاة عليها ، ولا يجب على من مسها الغسل ، بل يجب عليه غسل ما مسّها به فحسب.

وحكم قطعة قطعت من حي آدمي ذلك الحكم.

والمحرم إذا مات غسّل كما يغسّل الحلال ، ويكفّن كتكفينه ، غير أنّه لا يقرّب شيئا من الكافور.

وإن كان الميّت صبيا يغسّل كغسل الرجال ، ويكفّن ، ويحنط كذلك مثل الرجال ، وإن كان الصبي ابن ثلاث سنين أو أقل من ذلك ، فلا بأس أن يغسّله النساء ، عند عدم الرجال مجردا من ثيابه ، وكذلك الصبيّة إذا كان لها ثلاث سنين فما دونها ، جاز للرجال تغسيلها عند عدم النساء ، فإن زادت على ذلك لم يجز ، وبعض أصحابنا يجوّز في الصبي أن يغسّله النساء إلى خمس سنين عند عدم الرجال ، والأول أظهر في المذهب.

ولا بأس أن يغسّل الرجل امرأته ، والمرأة زوجها ، وكذلك كلّ محرّم محرم يغسّل ذا رحمه من فوق الثياب في حال الاختيار ، وهو الأظهر عند أصحابنا ، ومذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، إلا في استبصاره فإنّه قال : ذلك عند الاضطرار دون الاختيار (2).

وإن ماتت المرأة ومات الصبي معها في بطنها دفن معها.

فإن كانت ذمية ، دفنت في مقابر المسلمين لحرمة ولدها ، وجعل ظهرها إلى القبلة ، ليكون وجه الولد إلى القبلة ، إذا كان من مسلم.

ص: 168


1- لم نعثر عليه
2- الاستبصار : الباب 117 من أبواب الجنائز.

وإذا ماتت المرأة ولم يمت ولدها ، شق بطنها من الجانب الأيسر ، واخرج الولد ، وخيط الموضع ، وغسّلت ، ودفنت.

فإن مات الولد ، ولم تمت هي ، ولم يخرج منها ، أدخلت القابلة أو غيرها من الرجال يده في فرجها ، وفقطع الصبي ، وأخرجه قطعة ، قطعة ، وغسّل ، وكفّن ، وحنّط ، ودفن.

ولا يقص شي ء من شعر الميت ، ولا من أظفاره ، ولا يسرح رأسه ، ولا لحيته ، فإن سقط منه شي ء ، جعل معه في أكفانه.

وإذا خرج من الميت شي ء من النجاسة عند الفراغ من تغسيله ، غسل منه ، ولا يجب عليه اعادة الغسل ، فإن أصاب ذلك كفنه ، فالصحيح انّه يغسل منها ، ولا يقرض ما لم يوضع في القبر ، فان وضع في القبر ، واصابته النجاسة ، قرض الموضع من الكفن بالمقراض ، ولا يغسل.

وقال بعض أصحابنا : يقرض بالمقراض ، ولم يفصّل ما فصلناه ، بل أطلق ذلك إطلاقا ، وما اخترناه مذهب الشيخ الصدوق علي بن بابويه في رسالته (1).

وإذا لم يوجد لغسله كافور ، ولا سدر ، فلا بأس أن يغسل ثلاث غسلات بالماء القراح ، وإن وجد الكافور والسدر فلا بدّ منه ، فان ذلك واجب ، لا مستحب جعله على أصح الأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا وهو سلار لا يوجب الثلاث غسلات ، بل غسلة واحدة ، ولا يوجب الكافور ولا السدر في الغسلتين الأولتين.

وإذا مات الإنسان في البحر في مركب ، ولم يقدر على الأرض لدفنه ، غسّل ، وحنّط ، وكفّن ، وصلّي عليه ، ثم يثقل بشي ء ، ويطرح في البحر ليرسب إلى قرار الماء ، وهذا هو الأظهر من الأقوال.

وقال بعض أصحابنا : يترك في خابية ويشد رأسها وترمى في البحر ، ورد بذلك بعض الروايات واختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (2).

ص: 169


1- رسالة ابن بابويه
2- الخلاف : المسألة 36 من أحكام الأموات.

ولا يجوز حمل ميتين على جنازة واحدة مع الاختيار ، لأنّ ذلك بدعة.

ويستحب أن يكون حفر القبر قدر قامة ، أو إلى الترقوة.

ويكره نقل الميت من الموضع الذي مات فيه ليدفن في بلد غيره ، إلا إذا نقل إلى واحد من مشاهد الأئمة ، فإنّ ذلك مستحب ، ما لم يخف عليه الحوادث والانفجار.

فإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله ، ولا نبشه ، ونقله من موضعه ، سواء نقل إلى مشهد أو إلى غيره بل ذلك بدعة في شريعة الإسلام.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، مسألة : إذا أنزل الميت القبر (1) يستحب أن يغطى القبر بثوب ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن كانت امرأة غطي ، وإن كان رجلا لم يغط.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ما وقفت لأحد من أصحابنا في هذه المسألة على مسطور فأحكيه ، فالأصل براءة الذمة من واجب ، أو ندب ، وهذا مذهب الشافعي ، فلا حاجة لنا إلى موافقته على ما لا دليل عليه ، وقد يوجد في بعض نسخ أحكام النساء للشيخ المفيد انّ المرأة يجلل القبر عند دفنها بثوب ، والرجل لا يمدّ عليه ثوب ، فإن كان ورد هذا ، فلا نعدّيه إلى قبر الرجل ، فليلحظ ذلك.

ولا يترك من وجب عليه الصلب ، على خشبته ، أكثر من ثلاثة أيّام ، فإن صلّي عليه ، وهو على خشبته ، يستقبل بوجهه ، وجه المصلى ويكون هو مستدبر القبلة ، هكذا يكون الصلاة عليه ، عند بعض أصحابنا المصنّفين.

والصحيح من الأقوال والأظهر انّه ينزل بعد الثلاثة الأيام ، ويغسل ، ويكفن ، ويحنط ، ويصلّى عليه ، لأنّ الصلاة قبل الغسل والتكفين لا تجوز ، وهذا مذهب شيخنا المفيد وشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه الا أنّ شيخنا أبا جعفر ، لا يصلب المحارب ، إلا إذا قتل ، ويقول : يقتل قودا لا حدا ذكر ذلك في

ص: 170


1- الخلاف : المسألة 87 من أحكام الأموات.

الجزء السادس من مبسوطة في كتاب قطاع الطريق ، فلزمه على ذلك أن يأمره بالغسل ، والتكفين ، والتحنيط ، ثم يصلبه ، لأنّ المقتول قودا بلا خلاف بيننا يؤمر أولا بالغسل ، والتكفين ، ثم يقاد بعد ذلك ، وهو لا يغسله ولا يكفنه إلا بعد موته ، وإنزاله من خشبته.

والصحيح انّه يقتل حدّا ، لا قودا ، لأنّ القتل يتحتم عليه ، وإن عفى ولي المقتول ، وهذا مذهب شيخنا المفيد انّ المحارب إذا شهر السلاح ، الإمام مخيّر بين الصلب ، وبين قطعه من خلاف ، وبين النفي ، والآية (1) معه ، عاضدة لقوله.

ويكره تجصيص القبور ، وتطيينها ، والتظليل عليها ، والمقام عندها ، وتجديدها بعد اندراسها ، ولا بأس بتطينها ابتداء.

والكفن يؤخذ من نفس تركة الميت ، قبل إخراج جميع الحقوق ، من دين ، ووصية ، ونذر ، وكفارة ، وميراث وإن كان الميت امرأة لزم زوجها أكفانها ، وتجهيزها ، ولا يلزم ذلك في مالها ، فإن آثر الزوج أن يكفّنها مما يخصّه من تركتها ونصيبها ، فلا بأس به إذا لم يحسبه من أصل تركتها على ورثتها.

باب التعزية والسنّة في ذلك وهيئة المصاب وما ينبغي أن يكون عليه من علامات المصيبة

تعزية صاحب المصيبة سنة ، ينبغي أن تراعى ، ولا تهمل ، وفيها أجر كبير ، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : من عزّى حزينا كسي في الموقف حلّة يحبر بها (2).

ويجوز التعزية قبل الدفن وبعده ، والأولى أن يكون بعد الدفن ، وإذا عزّى الرجل أخاه في الدين فليقل : ألهمك اللّه صبرا واحتسابا ، ووفّر لك الأجر

ص: 171


1- المائدة : 33
2- الوسائل : الباب 46 من أبواب الدفن وفي بعض الروايات : يحبى بها

والثواب ورحم اللّه المتوفّى ، وأحسن الخلف على مخلّفيه ، وإن قال : أحسن اللّه لك العزاء ، وربط على قلبك بالصبر ، ولا حرمك الأجر ، كان حسنا ، ويجزيه أن يقول له : آجرك اللّه. وإن حضر ولم يتكلّم أجزأه الحضور عن الكلام ، وإن كان الكلام مع الحضور أفضل.

وإن كان المعزّى جزعا قلقا ، وعظه إن تمكن من ذلك ، وسلاه بذكر اللّه تعالى ، وذكر رسوله ، والاسوة به عليه السلام ، وعرّفه ما عليه من الوزر في جزعه ، والأجر على صبره.

وإن كان المعزى يتيما مسح يده على رأسه ، وسكته بلطف ورفق ، ودعا له بحسن الخلافة ، وترحم على ميته.

وليس في تعزية النساء سنّة.

ولا يجوز تعزية الضلال عن الحق ، والمخالفين للاعتقاد الصحيح ، وأصناف الكفار ، فإن اضطر الإنسان إلى تعزيتهم إن اقتضت المصلحة له في دينه ودنياه ذلك ، فليعزهم ، وليدع لهم في التعزية بإلهام الصبر ولا يدع لهم بالأجر ، ولا بأس أن يدعو لهم بالبقاء ، بذلك ثبت الخبر عن أئمة الهدى من آل محمّد عليهم السلام (1).

والمستحب لمشيع الجنازة ، وحاضري أصحاب المصائب ، أن لا ينصرفوا حتى يأذنوا لهم في الانصراف ، بذلك جرت السنة ، فإن كان المعزى جاهلا بما ينبغي له من الإذن لهم في الانصراف ، فسكت عنهم ، انصرفوا بغير إذنه.

وينبغي لصاحب المصيبة أن يتميّز من غيره.

ولا يجوز للوالدين شقّ جيبهما على ولدهما ، فإن فعلا ذلك أثما ، وكانت عليهما كفارة يمين ، على كل واحد منهما ، على ما روي في بعض أخبارنا (2)

ص: 172


1- لم نجد فيما بأيدينا من المصادر.
2- الوسائل : الباب 31 من أبواب الكفارات ، والباب 84 من أبواب الدفن.

واستغفرا ربّهما.

وينبغي لإخوان الميت أن يصنعوا لأهله طعاما على حسب إمكانهم مدة ثلاثة أيّام ، لشغل أهل المصيبة بمصيبتهم ، عن إعداد ما يحتاجون إليه لأنفسهم ، فإنّهم يحوزون أجرا ، ويتبعون به سنة ثابتة (1) عن النبي عليه السلام فيما صنعه بأهل جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه وأرضاه ، ليلة ورود الخبر عليهم بشهادته رحمه اللّه ، فاشتغلوا عن صلاح شئونهم بالمصاب به عليه السلام.

ثم البكاء ليس به بأس. وأمّا اللطم ، والخدش ، وجرّ الشعر ، والنوح بالباطل ، فإنّه محرّم إجماعا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : ويكره الجلوس للتعزية يومين وثلاثة (2).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب أحد من أصحابنا المصنفين إلى ذلك ، ولا وضعه في كتابه ، وانّما هذا من فروع المخالفين وتخريجاتهم ، وأي كراهة في جلوس الإنسان في داره للقاء إخوانه ، والدعاء لهم ، والتسليم عليهم ، واستجلاب الثواب لهم ، في لقائه وعزائه.

وقال شيخنا أيضا في مبسوطة : يجوز لصاحب الميت أن يتميز من غيره ، بإرسال طرف العمامة ، أو أخذ مئزر فوقها ، على الأب والأخ ، فأمّا غيرهما فلا يجوز على حال (3).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب إلى هذا سواه رحمه اللّه ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا انّه لا يجوز اعتقاد ذلك ، وفعله ، سواء كان على الأب ، أو الأخ ، أو غيرهما ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، فيجب اطراحه ، لئلا يكون الفاعل له مبدعا ، لأنّه اعتقاد جهل.

ص: 173


1- الوسائل : الباب 67 من أبواب الدفن ، ح 1.
2- المبسوط : في أحكام الجنائز
3- المبسوط : كتاب الجنائز.

باب تطهير الثياب من النجاسات والبدن والأواني والأوعية

الدم على ضربين ، نجس وطاهر ، قليله وكثيره ، فالطاهر على مذهب أهل البيت بغير خلاف بينهم دم السمك ، والبراغيث ، والبق ، وما أشبه ذلك ، مما ليس بمسفوح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وقال مالك في دم البراغيث : إذا تفاحش غسل ، فإن لم يتفاحش لا بأس به ، وقال : يغسل دم السمك والذباب ، وسوّى الشافعي بين الدماء كلها في النجاسة.

قال محمّد بن إدريس : فقد يوجد في بعض كتب أصحابنا ان النجاسة على ضربين ، دم وغير دم ، فعم ولم يخص ، وهذا تسامح وتساهل في التصنيف ، على انّ العموم قد يخص بالأدلة ، فلا يتوهم متوهم ، إذا وقف على ذلك المسطور انّه صحيح ظاهره.

والدليل على طهارة دم السمك انّه لا خلاف في جواز أكله بدمه ، من غير أن يسفح دمه ، ألا ترى أنّ سائر الدماء لمّا كانت نجسة ، لم يجز أكل الحيوان الذي هي فيه إلا بعد سفحها.

وأيضا قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلى قوله ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (1) فأخبر تعالى انّ ما عدا المسفوح ليس بمحرّم ودم السمك ليس بمسفوح ، فوجب أن لا يكون محرما.

وأيضا قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) (2) يقتضي ظاهره ، إباحة أكل السمك وطهارته بجميع أجزائه ، لأنّ التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه.

فإن قال قائل : كما انّه تعالى خصّ الدم المسفوح بالآية التي ذكرتم ، فقد عمّ

ص: 174


1- الانعام : 145
2- المائدة : 96.

أيضا بسائر الدماء بقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (1) وهذه الآية تقتضي تحريم سائر الدماء المسفوح وغيره؟

قلنا : دم السمك مخصوص من الآية العامة بما قدّمناه من الدلائل ، وبعد فانّ اللّه تعالى لما قال حرّمت عليكم الميتة ، قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : أحلت لنا ميتتان ، وقال تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) ثم اتفقوا على أنّ آية الإباحة مرتّبة على آية الحظر ، كأنّه تعالى قال : حرّمت عليكم الميتة ، إلا الجراد والسمك فوجب أن يكون حكم الدم كذلك ، فتكون آية الإباحة ، مرتبة على آية الحظر ، ويكون التقدير ، حرّمت عليكم الميتة والدم إلا دم السمك ، وما أشبهه مما ليس بمسفوح.

وأيضا فإنّ العام يبنى على الخاص والمطلق على المقيد ، مثاله إذا ورد حكم مطلق في موضع ، ثم ورد ذلك الحكم بعينه في موضع آخر مقيدا بصفة ، فانّ مطلقه يكون محمولا على مقيّده ، ويتبيّن بذلك التقييد مراد المخاطب بالمطلق ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين من تكلّم في أصول الفقه.

فأمّا مسألة الخلاف أن يثبت حكم في موضع مطلقا ، ثمّ يرد ما هو من جنس ذلك الحكم لا بعينه في موضع آخر مقيدا ، فهل يجب حمل المطلق هاهنا على ذلك المقيّد أم لا؟ والصحيح من الأقوال ، أنّ لكل منهما حكم نفسه ، لأنّهما حكمان متغايران ، وإن كان جنسهما واحدا ، ومثاله كفارة الظهار مطلقة ، وكفارة قتل الخطأ مقيدة ، فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا ، إلا بدليل منفصل ، لأنّه يكون قياسا ، والقياس متروك عند أهل البيت عليهم السلام ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : لا بأس بدم ما لم يذك (2).

ص: 175


1- المائدة : 3.
2- الوسائل : الباب 23 من أبواب النجاسات ، ح 2.

فأمّا الكلام في دم البق والبراغيث وما أشبههما ، فالدليل على ما ذهبنا إليه فيه ، الآية التي تقدّمت ، وهو قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) إلى قوله ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) ودم البراغيث والبق ليس بمسفوح ، وليس هذا اعتمادا على تعلّق الحكم بصفة ، وتعويلا على دليل الخطاب ، بل الحكم متعلّق بشرط متى لم يقصر عليه لم يكن مؤثرا ، وخرج من أن يكون شرطا على ما ذكرناه فيما تقدّم ، فإن عورضنا بعموم قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) كان الكلام على ذلك ما تقدّم ، وعلى ما اخترناه إجماع أصحابنا وفتاويهم وتصانيفهم.

فمنهم السيّد المرتضى رضى اللّه عنه يفتي به في مسائل خلافه ويناظر الخصم عليه ، وكذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي يفتي به في مسائل خلافه (1) ويناظر الخصم عليه. فأمّا قوله في جمله وعقوده (2) النجاسة على ضربين ، دم وغير دم ، وعدّ دم السمك ، وأدخله في جملة عموم قوله النجاسة ، فتسامح وتساهل في التصنيف على ما قدّمناه ، واعتذرنا لمن وجد ذلك في كلامه وتصنيفه ، بأنّ العموم مخصوص بالأدلة ، وقد يوجد مثل ذلك في كلام اللّه سبحانه ، وكلام أنبيائه وأئمته عليهم السلام ، ولا يكون ذلك مناقضة في الأدلة ، وذلك لا يجوز بغير خلاف.

وجملة الأمر وعقد الباب أنّ الدّم على تسعة أقسام ، ثلاثة منها قليلها وكثيرها طاهر ، وهي دم السمك والبق والبراغيث ، وما ليس بمسفوح على ما مضى القول فيه.

وثلاثة منها قليلها وكثيرها نجس ، لا تجوز الصلاة في ثوب ، ولا بدن ، أصابه منها قليل ، ولا كثير إلا بعد إزالته بغير خلاف عندنا ، وهي دم الحيض والاستحاضة والنفاس.

ودمان نجسان إلا أنّهما عفت الشريعة عمن هما به ، ولا يمكنه التحرز منهما

ص: 176


1- كتاب الخلاف : المسألة 219 من كتاب الصلاة.
2- الجمل والعقود : في فصل ذكر النجاسات.

في كلّ وقت ، بأن يكونا على صفة السيلان ، بأن لا يرقيا في وقت من الأوقات ، وهما الجراح الدامية ، والقروح اللازمة ، فلا بأس بالصلاة في الثوب والبدن إذا كانا على هذه الصفة ، وهما فيهما كثرا أو قلا للمكلف الذي هما به فحسب ، من غير اعتبار الدرهم وسعته ، فإذا انقطع سيلانهما عمن هما به ، اعتبر ما يعتبره غيره من سعة الدرهم ، وأقل من ذلك ، وعمل عليه على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

والدم التاسع ما عدا ما ذكرناه من الثمانية الأجناس ، وهو دم سائر الحيوان ، سواء كان مأكول اللحم أو غيره ، نجس العين أو غير نجس العين.

وقد ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين من الأعاجم ، وهو الراوندي المكنى بالقطب ، انّ دم الكلب والخنزير لا يجوز الصلاة في قليله ولا كثيره مثل دم الحيض ، قال : لأنّه دم نجس العين ، وهذا خطأ عظيم ، وزلل فاحش ، لأنّ هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا.

فهذا الدم أعني التاسع من الدماء نجس ، إلا انّ الشارع عفى عن ثوب وبدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافي ، وهو المضروب من درهم وثلث ، وبعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي ، وهو منسوب إلى مدينة قديمة ، يقال لها بغل ، قريبة من بابل ، بينها وبينها قريب من فرسخ ، متصلة ببلدة الجامعين ، تجد فيها الحفرة والغسّالون دراهم واسعة ، شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام ، المعتاد ، تقرب سعته من سعة أخمص الراحة.

وقال بعض من عاصرته ، ممن له علم بأخبار الناس والأنساب : انّ المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي البغل ، رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما ، وضرب هذا الدرهم الواسع ، فنسب إليه الدرهم البغلي ، وهذا غير صحيح ، لأنّ الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول عليه السلام قبل الكوفة ، فما كانت سعته أعني سعة الدم في الثوب والبدن ، سعة هذا الدرهم ، لا وزنه

ص: 177

وثقله ، وكان مجتمعا في مكان واحد ، فلا يجوز الصلاة إلا بعد إزالته.

وبعض أصحابنا يقول : سواء كان مجتمعا في مكان واحد ، أو متفرقا بحيث لو جمع كان بمقدار الدرهم ، لا يجوز الصلاة فيه ، وهذا أحوط للعبادة ، والأوّل أقوى وأظهر في المذهب ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، لأنّ الإجماع على سعة قدر الدرهم ، فكلّ موضع ليست هي بسعة قدر الدرهم لا يجب إزالتها فمن ادعى انّه إذا اجتمع كان بقدر الدرهم ، يحتاج إلى دليل.

وما ليس بدم من النجاسات ، يجب إزالة قليله وكثيره ، من ذلك البول ، والغائط ، من الآدمي وغيره من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ، ويكون له دم سائل مسفوح ، وما أكل لحمه ، فلا بأس ببوله ، وروثه ، وذرقه ، وبعض أصحابنا يستثني من هذه الجملة ذرق الدجاج خاصة ، فإن أراد هاهنا بالدجاج ، غير الجلال ، فاستثناؤه له وجه ، وإن أراد الدجاج الجلال ، فلا وجه لاستثنائه ، لأنّه استثناء من مأكول اللحم والجلال غير مأكول اللحم في حال جلله ، فيصير الاستثناء غير حقيقي ، لأنّه استثناء من غير الجنس ، والكلام في الحقائق.

والصحيح انّ الدجاج إذا كان غير الجلال ، فإنّه لا بأس بذرقه ، لأنّ الإجماع من الطائفة حاصل ، على أنّ روث وبول وذرق كل مأكول اللحم من الحيوان طاهر ، والدجاج من ذلك ، فالمراد بالدجاج هاهنا الجلال ، لأنّه محتمل للجلال وغيره ، فيحمل إطلاق ذلك على المقيّد على ما مضى شرحه أولا ، لئلا تتناقض الأدلة.

وما يكره لحمه ، يكره بوله ، وروثه ، مثل البغال ، والحمير ، والدواب ، وإن كان بعضه أشد كراهة من بعض ، وفي أصحابنا من قال ، بول البغال ، والحمير ، والدواب ، وأرواثها نجس ، يجب إزالة قليله وكثيره ، والصحيح خلاف هذا القول.

والمني نجس ، من كل حيوان ، سواء كان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، يجب غسله ولا يجزي فيه الفرك.

والخمر نجس ، بلا خلاف ، ولا تجوز الصلاة في ثوب ، ولا بدن ، أصابه

ص: 178

منها ، قليل ولا كثير ، إلا بعد إزالتها ، مع العلم بها ، وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له (1) وهو ابن بابويه ، إلى انّ الصلاة تجوز في ثوب أصابه الخمر ، قال : لأنّ اللّه حرّم شربها ، ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته ، معتمدا على خبر (2) روي ، وهذا اعتماد منه على أخبار آحاد ، لا توجب علما ، ولا عملا ، وهو مخالف للإجماع من المسلمين ، فضلا عن طائفته ، في أنّ الخمر نجسة ، وقد أجمع أصحابنا على أنّ الصلاة لا تجوز في ثوب أصابته نجاسة ، إلا بعد إزالتها ، سواء كانت النجاسة قليلة أو كثيرة ، إلا ما خرج بالإجماع من الدم التاسع ، والدم الذي لا يرقأ لموضع الضرورة لمن هو به ، على ما مضى ذكرنا لهم.

وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر في جميع الأحكام.

وأسئار الكفار على اختلاف ضروبهم ، من مرتد وكافر أصليّ ، وكافر مليّ ومن حكمه حكمهم.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ ما يؤثّر بالتنجيس ، على ثلاثة أضرب : أحدها يؤثر بالمخالطة ، وثانيها بالملاقاة ، وثالثها بعدم الحياة ، فالأول : أبوال وخرء كل ما لا يؤكل لحمه ، وما يؤكل لحمه إذا كان جلالا ، والشراب المسكر ، والفقاع ، والمني ، والدم المسفوح ، وكل مائع نجس بغيره. والثاني : أن يماس الماء وغيره حيوان نجس العين ، وهو الكلب والخنزير والكافر. والثالث : أن يموت في الماء وغيره حيوان له نفس سائلة ، ولا حكم لما عدا ما ذكرناه في التنجيس.

وكل نجاسة تجب ازالة قليلها وكثيرها ، فإنّه يجب إزالتها عن الثياب والأبدان ، أدركها الطرف ، أو لم يدركها ، إذا تحقق ذلك ، فإن لم يتحقق ذلك ، وشك فيه ، لم يحكم بنجاسة الثوب ، إلا ما أدركه الحس ، فمتى لم يدركها فالثوب على أصل الطهارة.

ص: 179


1- رسالة علي بن بابويه في كتاب لصلاة ، ص 38 الطبع الحديث.
2- الوسائل : كتاب الطهارة الباب 38 من أبواب النجاسات ، ح 2.

وليس لغلبة الظنّ هنا حكم ، لأنّه مذهب أبي حنيفة ، فإن وجد في بعض كتبنا وتصنيف أصحابنا شي ء من ذلك ، فإنّه محمول على التقية.

وقال بعض أصحابنا : إذا ترشش على الثوب أو البدن مثل رءوس الإبر ، فلا ينجس بذلك ، والصحيح الأول ، لأنّ الإجماع على ذلك حاصل.

وإذا تحقق حصول النجاسة في الثوب ، ولم يعلم موضعه بعينه ، وجب غسل الثوب كله ، وإن علم انّه في موضع مخصوص ، وجب غسل ذلك الموضع ، لا غير ، ولا يتعدّى إلى غير ذلك الموضع ، سواء كانت النجاسة رطبة أو يابسة.

وإن علم انّ النجاسة حصلت في أحد الكمّين ، ولم يتميز ، غسلهما معا ، ولم يجز له التحري (1).

والماء الذي ولغ فيه الكلب والخنزير ، إذا أصاب الثوب ، وجب غسله ، لأنّه نجس ، وإن أصابه الماء الذي يغسل به الإناء ، فإن كان من الغسلة الأوّلة ، يجب غسله ، وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة ، لا يجب غسله ، وقال بعض أصحابنا : لا يجب غسله سواء كان من الغسلة الأولة أو الثانية ، وما اخترناه المذهب.

وقال السيد المرتضى في الناصريات (2) قال الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة ، وبين ورود النجاسة على الماء ، قال السيد المرتضى : وهذه المسألة لا أعرف فيها نصا لأصحابنا ولا قولا صريحا. والشافعي يفرق بين ورود الماء على النجاسة ، وورودها عليه ، فيعتبر القلتين في ورود النجاسة على الماء ، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة ، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة ويقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل لذلك صحة ما ذهب إليه الشافعي ، والوجه فيه : انّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة ، لأدّى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من النجاسة ، إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدلّ على

ص: 180


1- وفي بعض النسخ التجزّي.
2- الناصريات : كتاب الطهارة ، المسألة الثالثة.

أنّ الماء إذا ورد على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة ، كما يعتبر فيما يرد النجاسة عليه قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : وما قوى في نفس السيد صحيح ، مستمر على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب.

ولا بأس بعرق الجنب ، والحائض ، إذا كانا خاليين من نجاسة ، فإن كان في بدنهما نجاسة ، وعرقا ، نجس الثوب الذي عرقا فيه ، سواء كانت الجنابة من حلال ، أو حرام ، على الصحيح من الأقوال وأصول المذهب.

وقال بعض أصحابنا : إن كانت الجنابة من حرام ، وجب غسل ما عرق فيه.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (1) على ما رواه بعض أصحابنا ثم قال في موضع آخر من مبسوطة : فإن عرق فيه وكانت الجنابة من حرام ، روى أصحابنا أنّه لا يجوز الصلاة فيه وإن كانت من حلال ، لم يكن به بأس (2).

ويقوى في نفسي أنّ ذلك تغليظ في الكراهة ، دون فساد الصلاة ، لو صلّى فيه ، الا ترى إلى قوله رضوان اللّه عليه الأول : رواه بعض أصحابنا ، وقوله الثاني : روى أصحابنا ، وفي الأول قال رواه بعض أصحابنا ، وشيخنا المفيد رحمه اللّه رجع عمّا ذكره في مقنعته (3) وفي رسالته إلى ولده (4) والغرض من هذا التنبيه ، انّ من قال إذا كانت الجنابة من حرام ، وجب غسل ما عرق فيه ، رجع عن قوله في كتاب آخر ، فقد صار ما اخترناه إجماعا.

وعرق الإبل الجلالة يجب إزالته ، على ما ذهب إليه بعض أصحابنا ، دون عرق غيرها من الجلالات (5).

وأمّا أسئار الجلال ، فقد بيّنا انّ أسئار جميع الحيوان من البهائم ، وذوات

ص: 181


1- المبسوط : في فصل حكم الثوب والبدن والأرض إذا أصابته نجاسة.
2- المبسوط : في فصل حكم الثوب والبدن والأرض إذا أصابته نجاسة.
3- المقنعة : باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ص 71
4- لا توجد عندنا
5- ليس في المطبوع.

الأربع ، مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم ، والطيور جميعها طاهرة ، ما عدا الكلب والخنزير فلا وجه لا عادته.

وكل نجاسة أصابت الثوب أو البدن والنجاسة يابسة والثوب كذلك ، لا يجب غسلهما ، وانّما يستحب مسح اليد بالتراب ، ونضح الثوب.

وإذا أصاب الأرض ، أو الحصير ، أو البارية بول أو غيره ، من المائعات النجسة ، وطلعت عليه الشمس ، وجففته ، فإنّه يطهر بذلك ، ويجوز السجود عليه ، والتيمّم به ، وإن جففته غير الشمس ، لم يطهر ، ولا يطهر غير ما قلناه من الثياب بطلوع الشمس عليه ، وتجفيفه ، وقد روي أنّ ما طلعت عليه الشمس فقد طهرته من الثياب (1) وهذه رواية شاذة ضعيفة ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، والعمل على ما قلناه ، غير انّه يجوز الوقوف عليه في الصلاة ، إذا كان موضع السجود طاهرا ، ولم تكن النجاسة رطبة تتعدى إليه.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : الأرض إذا أصابتها نجاسة ، مثل البول وما أشبهه ، وطلعت عليها الشمس ، أو هبّت عليها الريح ، حتى زالت عين النجاسة ، فإنّها تطهر ، وبه قال الشافعي في القديم (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا غير واضح ، لا يجوز القول به ، لأنّه مخالف لمذهبنا ، وإجماعنا على الشمس ، دون هبوب الرياح ، وهذا مذهب الشافعي ، اختاره الشيخ هاهنا ، ثم رجع عنه في مسألة في الكتاب المشار إليه بأن قال : مسألة : إذا بال على موضع من الأرض ، وجففته الشمس ، طهر الموضع ، وإن جف بغير الشمس لم يطهر ، وكذلك الحكم في البواري والحصر سواء ، وقال الشافعي إذا زالت أوصافها بغير الماء ، بأن تجففها الشمس ، أو

ص: 182


1- الوسائل : الباب 29 من أبواب النجاسات ح 5.
2- الخلاف : مسألة 236 من كتاب الصلاة.

تهب عليها الريح ، فإنّه يطهر في قوله القديم (1) فهذا يدلك على ما بيناه.

ولا يجوز إزالة شي ء من النجاسات بغير الماء المطلق ، من سائر المائعات ، ولا يحكم بطهارة الموضع بذلك ، وفي أصحابنا من اختاره.

ومن صلّى في ثوب فيه نجاسة غير معفو عنها ، مع العلم بذلك ، بطلت صلاته ، وإن علم أنّ فيه نجاسة ثمّ نسيها ، وصلّى ، كان مثل الأول ، عليه الإعادة ، سواء خرج الوقت أو لم يخرج الوقت ، بغير خلاف بين أصحابنا ، في المسألتين معا ، إلا من شيخنا أبي جعفر في استبصاره (2) فحسب ، دون سائر كتبه فإنّه ذهب في الاستبصار إلى انّه : إذا كان بثوب الإنسان نجاسة قد علم بها ثمّ نسيها ، وصلّى فإن كان الوقت باقيا ، وجبت عليه الإعادة ، وإن كان الوقت خرج وتقضى ، فلا اعادة عليه ، والصحيح وجوب الإعادة مع تقدّم العلم ، سواء خرج الوقت أو لم يخرج ، نسيها أو علمها.

وإن لم يعلم ، وصلّى على أصل الطهارة ، ثمّ علم انّه كان نجسا بعد خروج وقت تلك الصلاة ، فلا يجب عليه الإعادة أيضا بلا خلاف ، فإن كان الوقت باقيا ، فبين أصحابنا خلاف في هذه المسألة ، فبعض يذهب إلى وجوب الإعادة عليه ، وبعض منهم من يقول لا يجب عليه الإعادة ، وهذا الذي يقوى في نفسي ، وبه افتي ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وهذا المكلّف امتثل الأمر ، وصلّى صلاة شرعية مأمورا بها ، بلا خلاف ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في استبصاره (3) ، وتأويل أخباره ، واعتماده ، وإن كان في أول نهايته (4)

ص: 183


1- الخلاف : المسألة 236 من كتاب الصلاة.
2- الاستبصار : الباب 109 من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.
3- الاستبصار : الباب 109 من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.
4- الموجود في النهاية التي بأيدينا في باب تطهير الثياب من النجاسات ما هذا لفظه « فان لم يعلم حصولها في الثوب وصلى ثم علم انه كان فيه نجاسة لم يلزمه إعادة الصلاة » انتهى وهو كما ترى موافق لما في استبصاره ومخالف لما نقله ابن إدريس عنه.

يذهب إلى خلاف هذا.

والمذي والوذي طاهران عندنا ، لا تجب إزالتهما.

والقي ء ليس بنجس ، وفي أصحابنا من قال هو نجس ، والأول المعتمد عليه.

والصديد والقيح ، حكمهما حكم القي ء ، سواء.

وكل ما لا يتم الصلاة فيه منفردا ، مثل الخف ، والنعل ، والقلنسوة ، والتكة ، والجورب ، والسيف ، والمنطقة ، والخاتم ، والسوار ، والدملج ، وما أشبه ذلك إذا أصابه نجاسة لم يكن بالصلاة فيه بأس ، إذا انطلق عليه اسم اللباس والملبوس.

فأمّا ما لا ينطلق عليه اسم الملبوس ، ولم يكن لباسا ، فلا يجوز في شي ء منه الصلاة إذا أصابته نجاسة ، وإن كان لا يتم الصلاة فيه منفردا ، لأنّه غير لباس.

وما لا نفس له سائلة من الميتات ، لا ينجس الثوب ولا البدن ، ولا المائع الذي يموت فيه ، ماء كان أو غيره ، وإن تغيّر أوصاف الماء به.

وطين الطريق لا بأس به ، ما لم يعلم فيه نجاسة.

وإذا أصاب الثوب ماء المطر ، وقد خالطه شي ء من النجاسة ، فإن كان جاريا من الميزاب ، والمطر متصل من السماء ، فلا ينجس الثوب والبدن ، ما لم يتغير أحد أوصاف الماء ، فإن سكنت السماء ، وبقي ماء المطر مستنقعا ، اعتبر فيه ما ذكرناه من حكم المياه الراكدة ، غير مياه الآبار بالقلّة والكثرة ، وتغير أحد الأوصاف بالنجاسة ، فيحكم فيه بذلك ، وهذا حكم الوكف (1) مع اتصال المطر من السماء ، وانقطاعه.

والماء الذي يستنجى به ، أو يغتسل به من الجنابة ، إذا رجع عليه ، أو على ثوبه ، لم يكن به بأس بغير خلاف ، فإن انفصل منه ، ووقع على نجاسة ، ثم رجع عليه ، وجب إزالته.

وإذا حصل معه ثوبان ، أحدهما نحس ، والآخر طاهر ، ولم يتميز له الطاهر ،

ص: 184


1- وكف البيت وكفا قطر سقفه.

ولا يتمكن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا : يصلّي في كل واحد منهما ، على الانفراد ، وجوبا ، وقال بعض منهم : ينزعهما ويصلّي عريانا ، وهذا الذي يقوى في نفسي ، وبه افتي ، لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف ، ودليل الإجماع منفي ، فإذا كان كذلك ، فالاحتياط يوجب ما قلناه.

فإن قال قائل : بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، لأنّه إذا صلّى فيهما جميعا ، تبيّن وتيقن بعد فراغه من الصلاتين معا انّه قد صلّى في ثوب طاهر؟.

قلنا : المؤثرات في وجوه الأفعال ، يجب أن تكون مقارنة لها ، لا متأخرة عنها ، والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ، أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة ، من الصلاتين انّه نجس ، ولا يعلم انّه طاهر ، عند افتتاح كل صلاة ، فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة ، وهو شاك في طهارة ثوبه ، ولا يجوز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وأيضا كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة ، فكيف يؤثر في هذا الوجه ، ما يأتي بعده ، ومن شأن المؤثر في وجوه الأفعال ، أن يكون مقارنا لها ، لا يتأخر عنها ، على ما بيناه.

فإن قيل : أليس الداخل في الصلاة ، يعلم أنّ وجوب ما دخل فيه ، موقوف على تمامه؟

قلنا : معاذ اللّه أن نقول ذلك ، بل كل فعل يأتيه في الوقت ، فهو واجب ، ولا يقف على أمر منتظر ، وانما يقف صحته على الاتصال ، والمراد بذلك ، انه إذا اتصل ، فلا قضاء عليه ، وإذا لم يتصل ، فالقضاء واجب ، فاما الوجوب ، واستحقاق الثواب ، فلا يتغير بالوصل ، والقطع ، يبيّن ذلك أنّه ربما وجب القطع ، وربما وجب الوصل ، فلو تغير بالقطع والوصل وجوبه ، لم يصح دخوله في الوجوب.

وليس لأحد أن يقول : انّه بعد الفراغ من الصلاتين ، يقطع على براءة

ص: 185

ذمته ، وانّ العبادة مجزية.

قلنا : لا يصح ذلك ، لأنّ بعد الفراغ قد سقط عنه التكليف ، وينبغي أن يحصل له اليقين في حال ما وجب عليه ، وينبغي أن يتميز له في حال ما وجب عليه ، حتى يصح منه الإقدام عليه ، وتمييزه له من غيره ، وذلك يكون قبل فراغه من الصلاة.

وقد ذكر السيد المرتضى في مسائل خلافه عند مناظرته لأبي حنيفة ، في أنّ المتيمم ، إذا دخل في صلاته ، ثم وجد الماء ، فالواجب عليه ، أن يمضي في صلاته ، وعند أبي حنيفة ، الواجب عليه قطعها قياسا على الصغيرة التي تعتد بالشهور ، ثم اعتدت شهرا ، ثم رأت الدم ، انتقلت عدتها إلى الأقراء ، لأنّ الشهور قد حصلت بدلا من الأقراء ، كذلك التيمم ، قال المرتضى : نحن نقول إذا انتقلت عدتها إلى الأقراء ، احتسب لها بما مضى قروء ، فاما من يقول لا يحتسب ، فله أن يفرّق بينها وبين المتيمم ، وذلك انّ المرأة ، قد تعتد بعدة مشكوك فيها عندهم ، لا يعلم ما حكمها ، ويكون أمرها موقوفا على ما ينكشف فيما بعد ، فإن ظهر حمل ، اعتدت به ، وإن لم يظهر حمل ، اعتدت بالأقراء ، وليس كذلك المتيمم ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة وهو شاك فيها ، ولا يجوز أن تكون موقوفة على ما أمر يظهر ، فلم يلزم من رأى الماء في الصلاة ، الاستيناف لهذه العلّة ، وإن لزم المعتدة بالشهور الانتقال إلى الأقراء (1). هذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه ، ألا ترى إلى قوله : لا يجوز أن يستفتح الصلاة وهو شاك فيها ، ولا يجوز أن تكون موقوفة على أمر يظهر ، فهذا يدلك على ما نبهنا عليه ، من أدلة المسألة ، فإنّها هي بعينها.

ومن كان معه ثوب نجس ، ولا يقدر على الماء ، نزعه ، وصلّى عريانا ، فإن لم يتمكن من نزعه ، خوفا على نفسه من البرد ، صلّى فيه ، ولا اعادة عليه ، وقد

ص: 186


1- لم نعثر على كتاب الخلاف للسيد المرتضى رحمه اللّه

روي انّه إذا تمكن من نزعه أو غسله ، أعاد الصلاة (1).

وبول الصبي الرضيع وحدّه من لم يبلغ سنتين ، نجس ، إذا أصاب الثوب يكفي أن يصبّ الماء عليه ، من غير عصر له ، وقد طهر.

وبول الصبية لا بدّ من عصره مرّتين ، مثل بول البالغين ، وإن كان للصبية دون الحولين.

فإذا تم للصبي حولان وجب عصر الثوب من بوله.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : وإذا أصاب ثوب الإنسان ، كلب ، أو خنزير ، أو ثعلب ، أو أرنب ، أو فأرة ، أو وزغة ، وكان رطبا ، وجب غسل الموضع الذي أصابه ، فإن لم يتعين الموضع ، وجب غسل الثوب كله ، وكذلك إن مس الإنسان بيده أحد ما ذكرناه ، أو صافح ذميا ، وجب عليه ، غسل يده إن كان رطبا ، وإن كان يابسا ، مسحه بالتراب.

قال محمّد بن إدريس : هذا القول غير واضح ، لأنّ هذا خبر ، من أخبار الآحاد ، أورده المصنف على ما وجده ، أمّا الكلب والخنزير فصحيح ما قال ، وأمّا الثعلب والأرنب ، فلا خلاف بين أصحابنا الآن انّ أسئار السباع طاهرة ، وكذلك السباع طاهرة ، عندهم بغير خلاف الآن ، وانما أبو حنيفة ، يذهب إلى أنّ السباع نجسة ، فعلى هذا لا يصح ما قاله هذا القائل.

وأمّا قوله الفأرة والوزغة ، فلا خلاف أيضا ، في أن سؤر الفأر ، طاهر ، وانّه يدخل المائع ، ويخرج منه ، ولا ينجسه بغير خلاف.

وأمّا الوزغة ، فإنّها لا نفس لها سائلة ، كالذباب ، والزنابير ، وما لا نفس له سائلة لا ينجس المائع بموته فيه ، فكيف يصح القول بأن سؤره نجس ، وما لاقاه وهو رطب ينجسه؟

ص: 187


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 45 من أبواب النجاسات ، ح 8.

وأمّا الذمي ، فصحيح ما قال فيه فليلحظ ذلك.

ودم الحيض يجب غسله ، ويستحب حتّه (1) وقرصه ، وليسا بواجبين ، فإن اقتصر على الغسل أجزأه ، فإن بقي له أثر يستحب صبغه بالمشق ، بكسر الميم وتسكين الشين وهو المغرة بتحريك الغين المعجمة ، وهو طين أصفر يقال له المشق ، وما كان منه أحمر يقال له المصر يصبغ به الثياب والأزدية ، ومنه رداء ممصر ، وثوب ممصر ، بالصاد غير المعجمة أي مصبوغ بالمصر ، الذي هو المغرة ، أو بما يغيّر لونه.

ويجوز الصلاة في ثوب الحائض ، ما لم يعلم فيه نجاسة ، وكذلك في ثوب الجنب.

والمذي والوذي طاهران.

ولا يجوز الصلاة في ثياب الكفار التي باشروها بأجسامهم الرطبة ، أو كانت الثياب رطبة ، ولا بأس بثياب الصبيان ، ما لم يعلم فيها نجاسة.

والنجاسة إذا كانت يابسة ، لا ينجس بها الثوب.

والعلقة نجسة ، والمراد بذلك الدم الذي يستحيل منه المضغة ، لا الدود الذي يقال له العلق.

إذا بال الإنسان على الأرض ، فتطهيره ، أن يطرح عليه ذنوب من ماء والذنوب : الدلو الكبيرة ، ويحكم بطهارة الأرض وطهارة الموضع ، الذي ينتقل إليه ذلك الماء.

فإن بال اثنان وجب أن يطرح مثل ذلك وعلى هذا أبدا ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله أمر بذنوب من ماء ، على بول الأعرابي.

إذا بال في موضع ، فإنّه يزول حكم نجاسته بستّة أشياء ، أحدها : أن يكاثر

ص: 188


1- الحت والقرص بمعنى الحك. والدلك باليد وغيره.

عليه الماء حتى يستهلكه ، فلا يرى له لون ظاهر ، ولا رائحة.

الثاني : أن يمرّ عليه سيل ، أو ماء جار فإنّه يطهّره.

الثالث : أن يحفر الموضع في حال رطوبة البول ، فينتقل جميع الأجزاء الرطبة ، فيحكم بطهارة ما عداه.

الرابع : أن يحفر الموضع ، وينتقل ترابه ، حتى يغلب على الظن ، أو يعلم انّه نقل جميع الأجزاء التي أصابتها النجاسة.

الخامس : أن يجي ء عليها مطر ، أو يجي ء عليها سيل ، فيقف فيه بمقدار ما يكون كرا من الماء.

السادس : أن يجف الموضع بالشمس ، فإنّه يحكم بطهارته ، فإن جف بغير الشمس لم يطهر.

النجاسة على ضربين : مائع وجامد ، فالمايع قد قدّمنا حكمه ، وكيفية تطهيرها من الأرض ، والجامد لا يخلو من أحد أمرين ، أمّا أن يكون عينا قائمة متميزة عن التراب ، أو مستهلكة فيه ، فإن كان عينا قائمة ، كالعذرة ، والدم ، وجلد الميتة ، ولحمه ، نظرت فإن كانت نجاسة يابسة ، فإذا أزالها عن المكان ، كان مكانها طاهرا ، وإن كانت رطبة ، فإذا أزالها ، بقيت رطوبتها في المكان ، فتلك الرطوبة بمنزلة البول وقد مضى حكمه وإن كانت العين مستهلكة فيها ، كجلود الميتة ، ولحمها ، والعذرة ، ونحو ذلك ، فهذا المكان لا يطهر بصب الماء عليه.

من حمل حيوانا طاهرا ، مثل الطيور وغيرها ، أو مثل حمل صغير ، أو صبيا صغيرا ، لم تبطل صلاته ، فإن حمل قارورة فيها نجاسة ، مشدودة الرأس بالشمع ، أو بالرصاص ، فجعلها في كمّه ، أو جيبه بطلت صلاته ، لأنّه حامل النجاسة.

وفي الناس من قال لا تبطل صلاته ، قياسا على حمل حيوان في جوفه نجاسة ، والأول هو الصحيح ، لأنّ القياس عند فقهاء آل الرسول صلّى اللّه عليهم متروك ، ولا يجوز للمشرك دخول شي ء من المساجد ، لا بالإذن ، ولا بغير

ص: 189

الإذن ، ولا يحل لمسلم أن يأذن له في ذلك ، لأنّ المشرك نجس ، والمساجد تنزه عن النجاسات.

ولا يجوز الدباغ إلا بالأجسام الطاهرة ، مثل قشور الرمان والعفص (1) والقرظ (2) ، والشبث بالثاء المنقطة ثلاث نقط ، وهو نبت طيب الريح مرّ الطعم يدبغ به ، قال تأبط شرا :

كأنّما حثحثوا حصبا قوادمه *** أو أم خشف بذي شبث وطباق

قال الأصمعي : هما نبتان ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح.

قال محمّد بن إدريس : وليس هو الشب (3) الذي هو الحجارة ، فهي بالباء المنقطة نقطة واحدة ، فإنّها لا يدبغ بها ، وانّما نبهت على ذلك ، لأنّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه قد أورده في المبسوط (4).

ولا يجوز الدباغ ، إلا بما يكون طاهرا ، مثل الشبث والقرظ ، وسمعت بعض أصحابنا ، يصحّف ذلك ، فيقول الشب بالباء المنقطعة من تحتها بنقطة واحدة ، فأردت إيضاح ذلك وأن لا يجري تصحيف فيه.

ص: 190


1- العفض ( مازو ).
2- القرظ بفتحتين شجر يدبغ به. لسان العرب : ج 2. ص 454 ، وبالفارسية : برگ درخت سلم.
3- الشبّ - بالباء المشددة حجر معروف يشبه الزاج يدبغ به الجلود ، لسان العرب : ج 1 ، ص 483 ، وبالفارسية : زاج سفيد.
4- المبسوط : كتاب الطهارة ، باب حكم الأواني والأوعية والظروف. الا ان المضبوط في النسخة التي بأيدينا الشث بالثاء المثلثة.

كتاب الصّلاة

اشارة

ص: 191

كتاب الصّلاة

آكد عبادات الشرع ، وأعمها فرضا ، الصلاة ، لأنّها لا تسقط عن المكلّفين في حال من الأحوال ، مع ثبات العقل ، وإن تغيرت أوصافها ، من قيام ، أو قعود ، إلى غير ذلك ، وباقي العبادات قد يسقط على بعض الوجوه ، وعن قوم دون قوم ، فلذلك بدئ بها في أول كتب العبادات.

واعلم أنّ الصلاة أفعال مخصوصة تتضمن تحليلا وتحريما ، والقول فيها لا يخرج عن ذكر شروطها ، وبيان كيفية فعلها ، وما يجب أو يستحب فيها ، من ذكر أو غيره ، والفرق بين فرضها ونفلها ، وبين ما يعرض فيها فيفسدها ويوجب القضاء وبين ما يعرض فلا يوجب القضاء ، لكنه يوجب تلافيا مخصوصا ، وبين ما لا يوجب ذلك ، وبيان ضروبها ، كصلاة المنفرد والمؤتم ، والإمام ، وما يضاف منها إلى أوقاتها ، كصلاة الجمعة والعيدين وما يضاف منها إلى أسبابها كصلاة المسافر ، والمعذور ، والخسوف ، والكسوف ، والزلازل ، والرياح ، والآيات المهولة ، والخوف ، والاستسقاء ، والنذر ، والطواف ، والقضاء ، والجنازة ، وغير ذلك ، وهذه جملة لا يكاد يخرج عن معناها شي ء من أحكام الصلاة ، ونحن نفسّر ذلك بمشية اللّه تعالى وعونه.

باب أعداد الصّلاة وعدد ركعاتها من المفروض والمسنون

الصلاة المرتبة في اليوم والليلة تنقسم قسمين : مفروض ومسنون ، وكل واحد منهما ينقسم قسمين فرائض الحضر وسننه ، وفرائض السفر وسننه.

ص: 192

فأمّا فرائض الحضر فسبع عشرة ركعة ، الظهر أربع ركعات ، بتشهّدين ، أحدهما في الثانية بغير تسليم ، والثاني في الرابعة بتسليم بعده.

وفريضة العصر مثل ذلك.

وفريضة المغرب ثلاث ركعات ، بتشهدين أحدهما في الثانية من غير تسليم ، والثاني في الثالثة بتسليم بعده.

وفريضة عشاء الآخرة مثل فريضة الظهر والعصر.

والغداة ركعتان بتشهد في الثانية وتسليم بعده.

وأمّا سنن الحضر فأربع وثلاثون ركعة ، ثماني ركعات بعد زوال الشمس قبل الفريضة ، وثماني بعد الفريضة قبل فريضة العصر ، وأربع بعد المغرب ، وركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة تعدان بركعة.

قولهم : تعدان بركعة ، لأنّ نوافل الحضر أربعة وثلاثون ركعة ، فإن عدّت هاتان الركعتان ركعتين كانت نوافل الحضر ، خمسا وثلاثين ركعة ، وخرجت أن تكون أربعا وثلاثين ، فقال أصحابنا : تعدّان بركعة لأجل ضبط جملة العدد الأول.

وإحدى عشرة ركعة صلاة الليل ، وركعتان نافلة الفجر ، بتشهد في كل ركعتين من هذه النوافل كلها وتسليم.

وكذلك جميع النوافل كل ركعتين بتشهد وتسليم بعده لا يجوز غير ذلك ، وقد روي رواية (1) في صلاة الأعرابي أنّها أربع بتسليم بعدها ، فإن صحت هذه الرواية وقف عليها ، ولا يتعداها لأنّ الإجماع حاصل على ما قلناه ، هذه فرائض الحاضر ونوافله في يومه وليلته.

فأمّا فرائض المسافر ، فإحدى عشرة ركعة ، الظهر ركعتان بتشهد في الثانية وتسليم بعده ، وكذلك العصر والعشاء الآخرة ، والمغرب ثلاث ركعات كحالها في

ص: 193


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 39 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 3.

الحضر ، والغداة كحالها أيضا في الحضر ، لأنّه لا قصر إلا في الرباعيات فحسب.

وأمّا سنن المسافر فسبع عشرة ركعة ، على النصف من نوافل الحاضر ، أربعة بعد المغرب كحالها أيضا في الحاضر ، وإحدى عشرة ركعات صلاة الليل ، وركعتان نافلة الفجر ، وتسقط الوتيرة ، وهي الركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة.

ويوجد في بعض كتب أصحابنا ، ويجوز أن يصلّي الركعتان من جلوس اللتان يصليهما في الحضر ، بعد العشاء الآخرة ، فإن لم يفعلهما لم يكن به بأس ، وهذا مستور ، ووضع غير واضح ، إن أراد بقوله : « يجوز أن تصلّى الركعتان » على أنّهما من غير نوافل السفر ، ولا يعتقدهما مصلّيهما من نوافل المسافر المرتبة بل يتطوع الإنسان بصلاة ركعتين من جلوس نافلة ، لا انّهما من جملة نوافل المسافر المرتبة عليه ، غير ساقطة عنه في حال سفره ، فصحيح ما قال ، وإن أراد انّهما في حال سفره ما سقطتا عنه ، وهما على ما كانتا عليه في حال حضره ، فغير واضح ، بل قول خارج عن الإجماع ، لأنّ الإجماع حاصل من أصحابنا على سقوط سبع عشرة ركعة ، من نوافل الحاضر عن المسافر ، هاتان الركعتان من جملة الساقط عنه.

وقد سئل الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه عن هذه المسألة في جملة المسائل الحائريّات المنسوبة إلى أبي الفرج بن الرملي ، فقال السائل : وعن الركعتين اللتين بعد العشاء الآخرة من جلوس ، هل تصلّى في السفر أم لا؟ وما الذي يعمل عليه ، وما العلّة في تركها أو لزومها؟ فأجاب الشيخ أبو جعفر بأن قال تسقطان في السفر ، لأنّ نوافل السفر سبع عشرة ركعة ، ليست منها هذه الصلاة (1) وكذلك يذهب في جمله وعقوده (2) ويوردها في نهايته (3) في الموضع الذي ذكرناه ، وتحدّثنا عليه فليلحظ ذلك.

ص: 194


1- لم نجد هذه المسألة في كتاب الحائريات المطبوع في الرسائل العشر.
2- الجمل والعقود : كتاب الصلاة. في فصل أعداد الصلاة.
3- النهاية : باب أعداد الصلاة.

باب أوقات الصّلاة المرتبة في اليوم والليلة والأوقات المكروه فيها فعلها

إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر ، فإذا مضى مقدار أداء صلاة أربع ركعات ، اشتركت الصلاتان الظهر والعصر ، في الوقت إلى أن يبقى إلى مغيب الشمس مقدار أداء أربع ركعات ، فيخرج وقت الظهر ، ويبقى وقت العصر ، وبالغروب ينقضي وقت العصر.

فإذا غربت الشمس ويعرف غروبها بذهاب الحمرة من ناحية المشرق ، فإذا ذهبت دخل وقت صلاة المغرب ، وإذا مضى مقدار أداء ثلاث ركعات ، دخل وقت العشاء الآخرة ، واشتركت الصلاتان في الوقت ، إلى أن يبقى إلى انتصاف الليل مقدار أداء أربع ركعات ، فيخرج وقت المغرب ، ويخلص ذلك المقدار للعشاء الآخرة.

ووقت صلاة الغداة طلوع الفجر ، وهو البياض المتجلّل أفق الشرق ، ثم يمتدّ إلى قبيل طلوع قرن الشمس ، فإذا طلعت خرج الوقت.

ووقت صلاة الليل من انتصاف الليل إلى طلوع الفجر الثاني ، وقال السيد المرتضى : إلى طلوع الفجر الأوّل.

والقول الأول أظهر في المذهب.

ووقت ركعتي الفجر ، بعد الفراغ من صلاة الليل ، وآخره طلوع الحمرة.

وقال بعض أصحابنا : أوله طلوع الفجر الأول ، والأول من القولين هو الأظهر ، لقولهم عليهم السلام المجمع عليه دسهما في صلاة الليل دسا (1) وسمّيت الدساستين لهذا المعنى.

والذي اخترناه ، مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، رحمه اللّه في جميع كتبه

ص: 195


1- الوسائل : الباب 50 من أبواب المواقيت.

النهاية (1) والمبسوط (2) والجمل والعقود (3) ما خلا مصباحه.

وأداء الصلاة في أول الوقت أفضل من آخره ، بغير خلاف ، ما خلا صلاة الليل ، اعني نافلة صلاة الليل ، فإن فعلها في الربع الأخير من الليل أفضل ، وقيل السدس ، وهذا الذي اخترناه من الأوقات ، هو المعمول عليه ، المحقق من المذهب ، المجمع عليه.

وقد ذهب بعض أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه في سائر كتبه ، إلى أنّ لكلّ صلاة وقتين ، أولا وآخرا ، فالوقت الأول ، لمن لا عذر له ، والثاني لمن له عذر ، فأول وقت الظهر للمختار زوال الشمس وآخره إلى قبل أن يصير ظل كل شي ء مثله ، بمقدار أداء فريضة الظهر ، فإذا صار ظل كل شي ء مثله ، قبل أن يصلّي المختار الفريضة ، صارت الظهر قضاء لا أداء ، وأول وقت العصر عنده للمختار ، بعد فريضة الظهر ، وآخره قبل أن يصير ظل كل شي ء مثليه ، بمقدار أداء فريضة العصر ، فإذا صار ظل كل شي ء مثليه ، قبل أن يصلّي المختار الفريضة صارت الظهر قضاء لا أداء وأول وقت المغرب ، عدم الحمرة من ناحية المشرق ، وآخره للمختار ، قبل غيبوبة الشفق من ناحية المغرب ، بمقدار أداء فريضة المغرب ، فإذا عدمت الحمرة من ناحية المغرب ، ولم يصلّ المختار الفريضة صارت قضاء لا أداء.

وأول وقت العشاء الآخرة ، بعد صلاة المغرب ، وآخره قبل ثلث الليل ، بمقدار أداء فريضة العشاء الآخرة ، فإذا صار الثلث من الليل ، ولم يصلّ المختار صلاة العشاء الآخرة ، صارت قضاء لا أداء فيجعل الوقتين لمكلفين للمختار الوقت الأول ولمن له عذر الوقت الأخير.

ولا خلاف في أنّ أول الوقت لأداء الصلاة أفضل من آخره ، وانّ لكل

ص: 196


1- النهاية : باب أوقات الصلوات
2- المبسوط : كتاب الصلاة ، في ذكر المواقيت.
3- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في ذكر المواقيت.

صلاة وقتين ، ولو قيل أن لكل صلاة وقتا ، وللوقت أول ، وآخر كان صوابا جيدا.

وانّما الخلاف بين أصحابنا في أن هذين الوقتين لمكلّف واحد ، أو لمكلفين ، فالصحيح أنّ الوقتين لمكلّف واحد ، إلا انّ الصلاة في الوقت الأول أفضل ، من الوقت الأخير على ما قدّمناه.

والذي يدل على ما اخترناه ، ويعضد ما قوّيناه ، بعد الإجماع قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) (1) يعني الفجر والعصر ، وطرف الشي ء ما يقرب من نهايته ، ولا يليق ذلك إلا بقول من قال : انّ وقت العصر ممتد إلى قرب غروب الشمس ، لأنّ مصير ظلّ كل شي ء مثله أو مثلية ، يقرب من الوسط ، ولا يقرب من الغاية والنهاية ، ولا معنى لقول من حمل الآية على الفجر والمغرب ، لأنّ المغرب ليس هي في طرف النهار ، وانما هي في طرف الليل ، بدلالة أنّ الصائم يحل له الإفطار في ذلك الوقت ، والإفطار لا يحل في بقية النهار.

وأيضا قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (2) وغسق الليل عندنا انتصافه ، فظاهر هذا الكلام يقتضي انّ وقت الظهر ابتداؤه من دلوك الشمس ، وهو زوالها ، وانّه يمتد إلى غسق الليل ، وخرج منه بالدليل والإجماع وقت غروب الشمس ، فبقي ما قبله.

وأيضا ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله انّه قال : انّما أجلكم في أجل ما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس (3) وظاهر هذا القول يقتضي التناهي وقصر المدة ، ولا يليق ذلك إلا بما اخترناه.

ونظير هذا الخبر في إفادة قصر المدة ما روي من قوله صلى اللّه عليه وآله : بعثت والساعة كهاتين ، وأشار صلى اللّه عليه وآله بالسبابة والوسطى (4).

ص: 197


1- هود : 114
2- الاسراء : 78.
3- صحيح البخاري : ج 6 ، ص 235 ، باب فضل القرآن ، ح 2.
4- البحار : ج 74 ، إلا ان العبارة هكذا ( بعثت انا والساعة كهذه من هذه ).

وأيضا ما روي من انّ النبي صلى اللّه عليه وآله صلّى الظهر في الوقت الذي صلّى فيه العصر بالأمس وهذا يقتضي انّ الوقت وقت لهما جميعا.

ومن ادعى انّ هذا الخبر منسوخ ، وانّه كان قبل استقرار المواقيت ، فقد ادعى ما لا برهان عليه.

وأيضا ما رواه ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وآله من انّه جمع بين الصلاتين في الحضر ، لا لعذر (1) وهذا يدل على اشتراك الوقت.

وليس لأحد أن يحمل هذا الخبر ، على انّه صلّى الظهر في آخر وقتها ، والعصر في أول وقتها ، لأنّ هذا ليس بجمع بين الصلاتين ، وانّما هو فعل كل صلاة في وقتها ، وذكر العذر في الخبر ، يبطل هذا التأويل ، لأنّ فعل الصلاة في وقتها المخصوص بها ، لا يحوج إلى عذر.

ويدلّ أيضا على ما ذهبنا إليه ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله من قوله : من فاتته صلاة العصر ، حتى غربت الشمس ، فكأنما وتر أهله وماله (2) ، فعلّق الفوات بغروب الشمس ، وتعليقه به ، يدل على أنّ الوقت ممتد إلى الغروب.

وأيضا ما روي عنه صلى اللّه عليه وآله ، وعن الأئمة عليهم السلام ، من قولهم : لا يخرج وقت صلاة ، ما لم يدخل وقت صلاة أخرى (3) وهذا يدل على أنّه ، إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى ، وهي المغرب ، فإنّه لا يخرج وقت العصر.

فأما الأخبار (4) التي وردت ورواه أصحابنا في الأقدام والأذرع ، وظلّ كلّ شي ء مثله ، وظلّ كلّ شي ء مثليه ، ليتميّز وقت الظهر والعصر ، والذراع والذراعان ، والقامة والقامتان ، وسبع الشخص ، وسبعا الشخص ، وما أشبه

ص: 198


1- الوسائل : الباب 32 من أبواب المواقيت ، ح 4.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب المواقيت يوجد فيه بمضمونه ، ح 7 و 10.
3- الوسائل : الباب 4 من أبواب المواقيت.
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب المواقيت.

ذلك من الأخبار ، فمحمول على تحديد وقت النوافل ، دون الفرائض ، لأنّه إذا صار ظلّ كلّ شي ء مثله ، ولم يصلّ المكلّف نافلة الظهر ، فقد خرج وقتها ، وصارت قضاء بغير خلاف.

وكذلك نافلة العصر ، إذا صار ظلّ كلّ شي ء مثليه ، ولم يصلّ المكلّف نافلته فقد خرج وقتها ، وصارت قضاء بغير خلاف ، وإن كان وقت الظهر والعصر باقيا ، ولو كانت الأذرع والظل والقامة ، أوقاتا للفرائض ، ما اختلفت هذا الاختلاف وتباينت هذا التباين ، وانما هذا الاختلاف ، لأجل أوقات النوافل ، ليقع التنفل ، والتسبيح ، والدعاء في هذا الزمان على قدر تطويل المكلّف في نافلته ، وتسبيحه ودعائه ، فمن طوّل في نافلته ، كان أكبر المقادير له وقتا ومن قصر دون ذلك في نافلته ، كان أوسط المقادير له وقتا ، ومن قصر في نافلته ، كان أقصر المقادير المضروبة وقتا لنافلته ، وهذا هو الأفضل والأولى ، فجعلت الأقدام والأذرع والأسباع والأظلة والقامات حدّا للنافلة والفضل لا للجواز ، ومن هاهنا جاء الاشتباه على بعض أصحابنا وزلّت الأقدام ، فجعل وقت النافلة وقتا للفريضة ، على ما أسلفنا القول فيه ، وبيّناه ، وبهذه الجملة يلوح السيد المرتضى رضي اللّه عنه في جوابات المسائل الناصريات (1).

وأيضا لا خلاف بين المخالف في المسألة والموافق من أصحابنا ، أنّ الذي أفاض من عرفات ، لا يصلّي المغرب إلا بالمزدلفة ، وإن ذهب ربع الليل ، وذلك هو الأفضل المستحب ولو لم يكن وقتا لها ، لما جاز له تأخير المغرب إلى خروج وقتها ، سواء كان مسافرا أو حاضرا ، مضطرا أو مختارا ، لأنّه ليس للمسافر أن يصلّي الصلاة في غير وقتها ، كما ان ليس للحاضر ذلك.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب ، ويقوله بعض أصحابنا ، من انّه إذا زالت

ص: 199


1- المسائل الناصريات : كتاب الصلاة ، المسألة 72.

الشمس فقد دخل الوقتان معا ، إلا انّ هذه قبل هذه ، وكذلك إذا غربت الشمس ، فقد دخل الوقتان جميعا ، إلا انّ هذه قبل هذه ، فهذا ضد الصواب ، وخطأ من القول ، لأنّ الشمس إذا زالت دخل وقت الظهر فحسب ، فإذا مضى مقدار ما يصلّي الفريضة ، اشترك الوقتان معا ، إلا انّ هذه قبل هذه ، وكذلك إذا غربت الشمس ، فقد دخل وقت المغرب ، من غير اشتراك ، إلى أن يمضي مقدار ما يصلّى فيه الفريضة ، فإذا مضى ذلك الوقت ، اشترك الوقتان جميعا ، إلا انّ الاولى قبل الثانية.

فإذا بقي من النهار مقدار ما يصلّى فيه فريضة العصر ، فقد خرجت المشاركة ، واختص الوقت بالعصر فحسب ، كما انّ بالزوال اختص الوقت بالظهر ، ولم يشارك العصر الظهر ، وكذلك إذا بقي من النهار مقدار أداء فريضة العصر ، اختص به ، ولم يشارك الظهر العصر ، وكذلك القول في المغرب والعشاء الآخرة ، فليلحظ ذلك ، وليتأمّل ، فإنّه قول المحصّلين من أصحابنا الذين يلزمون الأدلة والمعاني ، لا العبارات والألفاظ.

ولا ينبغي لأحد أن يصلّي ، حتى يتيقن دخول الوقت ، فإن شك لغيم أو غيره ، استظهر حتى يزول الريب عنه في دخوله.

ومتى صلّى صلاة في حال فقدان الأمارات والدلالات على الأوقات ، ومع الاستظهار ، وظهر له بعد الفراغ منها ، انّ الوقت لم يدخل ، وجب عليه الإعادة بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، فأمّا ان ظهر له وهو في خلالها ، قبل الفراغ منها ، انّ الوقت لم يدخل ، فذهب بعض أصحابنا ، إلى انّه يعيد ، إن كانت الصلاة وقعت كلها خارج الوقت ، وإن كان قد دخل عليه وقت الصلاة ، وهو فيها ، لم يفرغ منها ، لم يلزمه الإعادة.

وذهب قوم من أصحابنا ، إلى وجوب الإعادة ، إذا ظهر له بعد الفراغ منها ، أو هو في خلالها ، انّ الوقت لم يدخل ، لا فرق بينهما عنده ، وهذا مذهب السيد

ص: 200

المرتضى رضي اللّه عنه ، والأول هو المعمول عليه ، والأظهر في المذهب ، وبه تنطق الأخبار (1) المتواترة المتظاهرة عن الأئمة الطاهرة عليهم السلام ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه وأبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

وأيضا فإنّ هذا المكلّف عند هذه الأحوال ، تكليفه غلبة ظنّه وقد امتثل ذلك ، ودخل في صلاته دخولا شرعيا مأمورا به ، واعادة صلاته المأمور بها ، أو هدمها من أولها ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه.

فأمّا ان كان دخوله في هذه الصلاة لا عند غلبة ظنه ، واستظهاره ، ولا عند فقدان أمارات أوقاته ، ودلالاته ، فالقول عندي ، ما قاله السيد المرتضى في هذه الحال فليلحظ ذلك.

والأوقات التي ورد النهي عن الصلاة التي لا سبب لها فيها ابتداء طلوع الشمس ، وبعد صلاة الغداة ، وبعد صلاة العصر ، وعند غروب الشمس ، وعند قيامها نصف النهار قبل الزوال ، إلا في يوم الجمعة خاصة.

فأمّا الصلاة التي لها سبب. فإنّها لا تكره في وقت من الأوقات.

ومتى صار ظل كلّ شي ء مثله ، ومعرفة ذلك إذا انتصف النهار ، ورأيت الظل ينقص ، فإنّ الشمس لم تزل ، فإذا زاد الظل ، فقد زالت الشمس ، غير انّ أطول ما يكون ظل الزوال ، إذا كانت الشمس في أول الجدي ، وهو أول الشتاء ، حين انقضى الخريف ، وظل العود يومئذ ، ساعة تزول الشمس ، مثله مرّة وثلث ، وأقصر ما يكون الظل ، إذا كانت الشمس في أول السرطان ، وذلك أول الصيف حين انقضاء الربيع ، وظل الزوال يومئذ بالعراق نصف سدس طول العود الذي تقيمه ، وتقع في الشمس في الأيّار ، فإذا زالت الشمس على أيّ ظل كان من الطول والقصر ، فقد دخل وقت الظهر ، فإذا زاد على طول الزوال

ص: 201


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 25 من أبواب المواقيت.

مثل طول العود ، فهو آخر وقت نوافل الظهر ، فإذا صار كذلك ، ولم يكن قد صلّى من النوافل شيئا ، بدأ بالفريضة أولا ، ويؤخر النوافل.

وإن كان قد صلّى منها ركعة أو ركعتين ، فليتممها ، وليخفف قراءتها ، ثمّ يصلّي الفرض.

وكذلك يصلي نوافل العصر ، ما بين الفراغ من الظهر ، إلى أن يصير ظلّ كلّ شي ء مثليه ، على ما قدّمناه ، فان صار كذلك ، ولم يكن قد صلّى شيئا منها ، بدأ بالعصر وأخر النوافل ، وإن كان قد صلّى منها شيئا ، أتم ما بقي عليه ، ثمّ صلّى العصر.

ونوافل المغرب كذلك ، الاعتبار فيها وفي وقتها ، وحصول شي ء منها قبل خروجه.

ووقت الركعتين من جلوس ، بعد العشاء الآخرة ، فإن كان ممن يريد أن يتنفل أخرهما ، يختم صلاته بهاتين الركعتين.

وآخر وقتهما نصف الليل ، فإن قارب انتصافه ، وأراد أن يصلّي صلاة ، فليبدأ بهما ثمّ يتنفل بما أراد.

ووقت صلاة الليل ، بعد انتصافه ، على ما قدّمناه ، إلى طلوع الفجر ، وكلّما قارب الفجر كان أفضل ، فإن طلع الفجر ولم يكن قد صلّى من صلاة الليل شيئا ، بدأ بصلاة الغداة ، وأخّر صلاة الليل ، وإن كان قد صلّى من صلاة الليل عند طلوع الفجر أربع ركعات. أتمّ صلاة الليل ، وخفف القراءة فيها ، ثم صلّى الغداة ، فإن قام إلى صلاة الليل ، وقد قارب الفجر ، خفف الصلاة ، واقتصر من القراءة على الحمد وحدها ، ولا يطول الركوع والسجود ، لئلا يفوته فضل أول وقت صلاة الغداة.

ولا يجوز تقديم صلاة الليل في أوله ، إلا لمسافر يخاف فوتها ، أو شاب يمنعه من قيام آخر الليل رطوبة رأسه ، ولا يجعل ذلك عادة ، على ما روي في بعض الروايات (1).

ص: 202


1- الوسائل : الباب 44 من أبواب المواقيت.

والأحوط والأظهر ، لزوم أصول المذهب ، وان لا يصلّي فريضة ولا نافلة قبل دخول وقتها ، لا لعذر ولا لغيره ، بل قضاء الصلاة لهذين المكلّفين هو المعمول عليه الأظهر ، لا على جهة الأفضل بين القضاء ، وبين تقديمها ، قبل دخول وقتها.

ووقت ركعتي نافلة الغداة ، عند الفراغ من صلاة الليل ، على ما قدّمناه ، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر ، فإذا طلع الفجر ، ولم يكن قد صلّى من صلاة الليل شيئا ، صلّى الركعتين ما بينه وبين طلوع الحمرة ، فإذا طلعت الحمرة ، ولم يكن قد صلّى الركعتين ، أخّرهما ، وصلى الغداة.

ومن فاتته صلاة فريضة فليقضها أيّ وقت ذكرها ، من ليل أو نهار ، ما لم يتضيّق وقت صلاة حاضرة ، فإن تضيّق وقت صلاة حاضرة ، بدأ بها ، ثم بالّتي فاتته ، فإن كان قد دخل في الصلاة الحاضرة ، قبل تضيّق وقتها وقد صلّى منها شيئا قبل الفراغ منها ، فالواجب عليه ، العدول بنيته إلى الصلاة الفائتة ، ثم يصلي بعد الفراغ منها الصلاة الحاضرة ، وعلى هذا إجماع أصحابنا منعقد.

ويصلّي ركعتي الإحرام ، وركعتي الطواف ، والصلاة على الجنازة ، وصلاة الكسوف ، في جميع الأحوال ، ما لم يكن وقت صلاة فريضة قد تضيّق وقتها.

ومن فاته شي ء من صلاة النوافل ، فليقضها أيّ وقت شاء ، من ليل أو نهار ، ما لم يدخل وقت فريضة ، وقد روي (1) إلا عند طلوع الشمس أو غروبها ، فإنّه يكره صلاة النوافل وقضاؤها ، في هذين الوقتين ، وقد وردت رواية (2) بجواز النوافل في الوقتين اللذين ذكرناهما.

قال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته ويعرف زوال الشمس بالأصطرلاب (3) قال محمد بن إدريس : الأصطرلاب ، معناه مقياس النجوم ، وهو باليونانية ( اصطرلافون ) ، واصطر هو النجم ، ولافون هو المرآة ، ومن ذلك

ص: 203


1- الوسائل : الباب 38 من أبواب المواقيت ، ح 1 و 8
2- الوسائل : الباب 38 من أبواب المواقيت ، ح 1 و 8
3- النهاية : باب أوقات الصلاة.

قيل لعلم النجوم اصطر نوميا ، وقد يهذي بعض المولعين بالاشتقاقات في هذا الاسم بما لا معنى له ، وهو انّهم يقولون ، انّ لأب اسم رجل ، وأسطر جمع سطر ، وهو الخط ، وهو اسم يوناني ، واشتقاقه من لسان العرب جهل وسخف.

باب القبلة وكيفية التوجه إليها وتحريها

يجب على المصلّي أن يتوجه إلى الكعبة ، وتكون صلاته إليها بعينها ، إذا أمكنه ذلك ، فإن تعذر ، فإلى جهتها ، فإن لم يتمكن من الأمرين ، تحرّى جهتها ، وصلّى إلى ما يغلب على ظنّه ، بعد الاجتهاد أنّه جهة الكعبة ، وقد روي انّ اللّه تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا (1).

والحرم يكون عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، فلهذا أمر كل من يتوجه إلى الركن العراقي من أهل العراق وغيرهم ، أن يتياسروا في بلادهم عن السمت الذي يتوجهون إليه قليلا ، ليكون ذلك أشد في الاستظهار والتحرز من الخروج عن جهة الحرم ، وهذه الرواية مذهب لبعض أصحابنا ، من جملتهم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، فإنّ هذا مذهبه في سائر كتبه.

والأول مذهب السيد المرتضى وغيره من أصحابنا ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وبه افتي.

ومن أشكلت عليه جهة القبلة ليلا ، يجعل الكوكب المعروف بالجدي ( بفتح جيم ، مكبّر غير مصغر ، لأنّ بعض من عاصرناه من مشايخنا كان يصغره وهو خطأ ، ولقد سألت ابن العطار إمام اللغة ببغداد عن تصغيره فأنكر ذلك ، وقال : ما يصغّر ، واستشهد بالشعر على تكبيره ببيت لم أحفظه ، وقد أورد ابن

ص: 204


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب القبلة ، ح 1.

قتيبة في كتابه الأنواء ببيت مهلهل :

كأنّ الجدي جدي بنات النعش *** يكبّ على اليدين فيستدير

وقال الأخطل وذكر بني سليم :

وما يلاقون قرّاصا إلى نسب *** حتى يلاقي جدي الفرقد القمر

وقال الأعشى :

فأما إذا ما أدلجت فترى لها *** رقيبين ، جديا ما يغيب وفرقدا )

على منكبه الأيمن وتوجّه.

فمن لم يتمكن من ذلك لغيم أو غيره ، وفقد سائر الأمارات والعلامات ، وتساوت في ظنه الجهات ، كان عليه أن يصلّي إلى أربع جهات يمينه ، وشماله ، وأمامه ، ووراءه ، تلك الصلاة بعينها ، وينوي لكل صلاة منها أداء فرضه ، ولا شي ء عليه غير ذلك.

فمن لم يتمكن من الصلاة إلى الجهات الأربع ، لمانع من ضيق وقت أو خوف ، صلّى إلى أيّ جهة شاء ، وليس يلزمه مع الضرورة غير ذلك.

فإن أخطأ القبلة ، وظهر له بعد صلاته ، أعاد في الوقت بغير خلاف ، فان كان قد خرج الوقت فلا اعادة عليه ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، يحتاج إلى دليل قاطع للعذر.

وقد روي انّه إن كان خطاؤه بأن استدبر القبلة ، أعاد على كل حال (1) ، والأول هو المعمول عليه ، ووافقنا فيما ذهبنا إليه مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنّ صلاته ماضية ، ولا اعادة عليه على كل حال.

وقال الشافعي في الجديد : انّ من أخطأ القبلة ، ثم تبيّن له خطأه ، لزمه الإعادة على كل حال ، وقوله في القديم مثل قول أبي حنيفة.

ص: 205


1- الوسائل : الباب ، 11 من أبواب القبلة ، ح 10.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع ، قوله تعالى : ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) فأوجب التوجه على كل مصلّ ، إلى شطر البيت ، فإذا لم يفعل ذلك ، كان الأمر عليه باقيا ، فيلزمه الإعادة.

فإن قيل : الآية تقتضي وجوب التوجه على كل مصلّ ، وليس فيها دلالة على انّه إذا لم يفعل لزمته الإعادة؟

قلنا : لم نحتج بالآية على وجوب القضاء وانّما بيّنا بالآية وجوب التوجه على كل مصلّ ، فإذا لم يأت بالمأمور به ، فهو باق في ذمته ، فيلزمه فعله.

وليس لأحد أن يقول : هذه الآية انما يصح أن يحتج بها الشافعي ، لأنّه يوجب الإعادة على كل حال ، في الوقت وبعد خروج الوقت ، وأنتم تفصّلون بين الأمرين فظاهر الآية يقتضي أن لا فصل بينهما ، فلا دليل لكم على مذهبكم في الآية.

قلنا : إنّما أمر اللّه تعالى كل مصلّ للظهر مثلا بالتوجه إلى شطر البيت ، ما دام في الوقت ، ولم يأمره بالتوجه بعد خروج الوقت ، لأنّه إنّما يأمر بأداء الصلاة ، لا بقضائها ، والأداء ما كان في الوقت ، والقضاء ما خرج عن الوقت ، فهو إذا تحرّى القبلة وصلّى إلى جهة ، ثم تبيّن له الخطأ ، وتيقن انّه صلّى إلى غير القبلة ، وهو في الوقت ، لم يخرج عنه ، فحكم الأمر باق عليه ، ووجوب الصلاة متوجها إلى القبلة باق في ذمّته ، وما فعله غير مأمور به ، ولا يسقط عنه الفرض ، فيجب أن يصلي ما دام الوقت وقت الصلاة ، المأمور بها وهي التي تكون إلى جهة الكعبة ، لأنّه قادر عليها ، وهو متمكن منها ، وبعد خروج الوقت ، لا يقدر على فعل المأمور به بعينه ، لأنّه قد فات بخروج الوقت ، والقضاء في الموضع الذي يجب فيه ، انّما نعلمه بدليل غير دليل وجوب الأداء هكذا يقتضي أصول الفقه عند محققي هذا الشأن.

ص: 206


1- البقرة : 144.

وليس لأحد أن يقول : انّ المصلّي في حال الاشتباه القبلة عليه ، لا يقدر على التوجه إلى القبلة ، فالآية مصروفة إلى من يقدر على ذلك ، لأنّ هذا القول تخصيص لعموم الآية بغير دليل ، ولأنّه إذا تبيّن له الخطأ في الوقت ، فقد زال الاشتباه ، فيجب أن تكون الآية متناولة له ، ويجب أن يفعل الصلاة إلى جهة القبلة.

فإن تعلّقوا بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، انه قال : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1).

فالجواب عن ذلك ، إنّا نقول : انّ خطأه مرفوع ، وانّه غير مؤاخذ به ، وانّما يجب عليه الصلاة ، بالأمر الأوّل ، لأنّه لم يأت بالمأمور به.

فإن تعلّقوا بما روي من ان قوما أشكلت عليهم القبلة ، لظلمة عرضت ، فصلّى بعضهم إلى جهة ، وبعضهم إلى غيرها ، وعلّموا ذلك ، فلمّا أصبحوا رأوا تلك الخطوط إلى غير القبلة ، ولما قدموا من سفرهم ، سألوا النبي صلى اللّه عليه وآله عن ذلك ، فسكت ، فنزل قوله تعالى : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (2) فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله أجزأتكم صلاتكم (3).

والجواب عن ذلك : انما نحمل هذا الخبر ، على انّهم سألوه عن ذلك بعد خروج الوقت ، وهذا صريح في الخبر ، لأنّه كان سؤالهم بعد قدومهم من السّفر ، فلم يأمرهم صلى اللّه عليه وآله بالإعادة ، لأنّ الإعادة على مذهبنا لا تلزم بعد خروج الوقت.

وهذه الأدلة أوردها السيد المرتضى رحمه اللّه على المخالفين محتجا بها عليهم ، ونعم ما أورد ، ففيه الحجة وطريق المحجة.

ص: 207


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 2
2- البقرة : 115.
3- الوسائل : كتاب الصلاة ، باب 30 من أبواب الخلل ، ح 2 ، مع اختلاف يسير في العبارة.

ولا تجزي الصلاة في حال الاختيار ، إلا مع التوجه إلى القبلة ، إلا النافلة في السفر فقد يجوز أن يصليها على الراحلة ، أينما توجهت ، بعد أن يكبّر مستقبلا للقبلة تكبيرة الإحرام.

وقد يجزي في حال الاضطرار ، صلاة الفرض والنفل إلى غير جهة القبلة ، كصلاة المسايف ، والمعانق ، في حال التحام الحرب ، وما أشبه ذلك من أحوال العذر ، وهذا بيّن عند ذكر صلاة المعذور بمشية اللّه تعالى.

ومن جملة أمارات القبلة ، وعلاماتها ، أنّه إذا راعى زوال الشمس ، ثم استقبل عين الشمس ، بلا تأخير ، فإذا رآها على طرف حاجبه الأيمن ، ممّا يلي جبهته في حال الزوال ، علم انّه مستقبل القبلة ، وإن كان عند طلوع الفجر ، جعل الضوء المعترض في أفق السماء في زمان الاعتدال ، على يده اليسرى ، ويستقبل القبلة ، وإن كان عند غروبها ، جعل الشفق الذي في جهة المغرب ، على يده اليمنى ، وهذه العلامات ، علامات لمن توجه إلى الركن العراقي ، من أهل العراق ، وخراسان ، وفارس ، وخوزستان ، ومن والاهم ، فأمّا غير هذه البلدان ، فلهم علامات غير هذه العلامات.

باب الأذان والإقامة وأحكامهما وعدد فصولهما

اختلف قول أصحابنا في الأذان والإقامة ، فقال قوم : إنّ الأذان والإقامة ، من السنن المؤكدة في جميع الصلوات الخمس ، وليسا بواجبين ، وإن كانا في صلاة الجماعة ، وفي صلاة الفجر ، والمغرب ، وصلاة الجمعة ، أشد تأكيدا وهذا الذي أختاره وأعتمد عليه.

وذهب بعض أصحابنا إلى وجوبهما ، على الرجال في كل صلاة جماعة ، في سفر أو حضر ، ويجبان عليهم جماعة وفرادى ، في سفر أو حضر في الفجر والمغرب وصلاة الجمعة ، والإقامة دون الأذان ، تجب عليهم في باقي الصلوات المكتوبات ،

ص: 208

وهذا الذي ذهب إليه السيد المرتضى رحمه اللّه في مصباحه (1).

وبالأول يقول الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (2) ومسائل خلافه (3).

ويذهب في نهايته (4) وجمله وعقوده (5) إلى أنّهما واجبان على الرجال في صلاة الجماعة.

والدلالة على صحة ما اخترناه ، انّ الأصل نفي الوجوب ، فمن ادّعاه فعليه الدلالة الموجبة للعلم ، ولانّه لا خلاف في أنّ الأذان والإقامة ، مشروعان مسنونان ، وفيهما فضل كثير ، وانما الخلاف في الوجوب ، والوجوب زائد على الحكم المجمع عليه فيهما ، فمن ادعاه فعليه الدليل لا محالة.

وبعد فإنّ الأذان والإقامة ممّا يعم البلوى به ، ويتكرر فعله في اليوم والليلة ، فلو كان واجبا حتما ، لورد وجوبه ، وورد مثله ، فيما يوجب العلم ، ويرفع الشك.

ويدل أيضا على ذلك ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، من قوله « الأئمة ضمناء ، والمؤذّنون أمناء » (6).

فالأمين متطوع بالأمانة ، وليس بواجب عليه.

ومن ترك الأذان والإقامة متعمدا ، ودخل في الصلاة ، فلينصرف ، وليؤذّن وليقم ، أو ليقم ما لم يركع ، ثم يستأنف الصلاة.

وإن تركهما ناسيا ، حتى دخل في الصلاة ثم ذكر ، مضى في صلاته ، ولا يستحب له الإعادة ، كالاستحباب في الأول ، بل هاهنا لا يجوز له الرجوع عن صلاته.

ومن أقام ودخل في الصلاة ثم أحدث ما يجب عليه إعادة الصلاة ، فليس عليه إعادة الإقامة ، إلا أن يكون قد تكلّم فإنّه يستحب له إعادة الإقامة أيضا.

ص: 209


1- لا يوجد الكتاب عندنا
2- المبسوط : في فصل الأذان والإقامة وأحكامهما.
3- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 28.
4- النهاية : كتاب الصلاة : في باب الأذان والإقامة وأحكامهما.
5- الجمل والعقود : في فصل الأذان والإقامة وأحكامهما إلا أنّه قال بوجوبهما في الجماعة مطلقا لا على الرجال خاصة
6- المستدرك : الباب 3 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 1.

ومن فاتته صلاة ، وأراد قضاءها ، قضاها كما فاتته بأذان واقامة ، أو بإقامة على ما روي (1).

وليس على النساء أذان ولا اقامة ، بل يتشهدن الشهادتين ، بدلا من ذلك ، فإن أذّنّ وأقمن ، كان أفضل ، إلا أنهنّ لا يرفعن أصواتهن أكثر من إسماع أنفسهن ، ولا يسمعن الرجال.

ويستحب أن يكون المؤذن عدلا أمينا عارفا بالمواقيت ، مضطلعا بها ، معناه قيّما بها. قال لقيط الأيادي :

وقلدوا أمركم لله درّكم *** رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

ويستحب أن يكون عالي الصوت ، جهوريا ، ليكثر الانتفاع بصوته ، حسن الصوت ، مرتّلا مبيّنا للحروف ، مفصحا بها ، مع بيان ألفاظها.

ويكره أن يكون أعمى.

ولا يؤذّن ولا يقيم إلا من يوثق بدينه ، فإن كان الذي يؤذّن ، غير موثوق بدينه ، أذّنت لنفسك ، وأقمت ، هذا في الجماعات المنعقدات.

وكذلك إن صلّيت خلف من لا تقتدي به ، أذنت لنفسك وأقمت.

وإذا صليت خلف من تقتدي به ، فليس عليك أذان ولا اقامة ، وإن لحقت بعض الصلاة ، فإن فاتتك الصلاة معه ، أذنت لنفسك وأقمت.

ولا بأس أن يؤذّن الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، ويقيم ، وإن تولّى ذلك الرجال كان أفضل.

والأذان هو الإعلان في لسان العرب ، وهو في الشريعة كذلك ، إلا انّه تخصّص باعلام دخول وقت صلاة الخمس ، دون سائر الصلوات ، فعلى هذا لا يجوز الأذان قبل دخول الوقت ، فمن أذّن قبل دخوله أعاد بعد دخوله.

ص: 210


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب الأذان والإقامة. والباب 1 و 8 من أبواب قضاء الصلوات.

وقد روي (1) جواز تقديم الأذان في صلاة الغداة خاصة ، إلا انّه يستحب إعادته بعد دخول الفجر ودخول وقته ، والأصل ما قدّمناه ، لأنّ الأذان دعاء إلى الصلاة ، وعلم على حضورها ، ولا يجوز قبل دخول وقتها ، لأنّه وضع الشي ء في غير موضعه.

وروى عاص بن عامر عن بلال أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال له : لا تؤذّن حتى يستبين لك الفجر كذا ، ومدّ يده عرضا (2).

وليس لأحد أن يحمل اسم الأذان هاهنا على الإقامة ، ويستشهد بما روي عنه صلى اللّه عليه وآله من قوله : بين كل أذانين صلاة (3) ، يعنى الأذان والإقامة.

وذلك أنّ إطلاق اسم الأذان لا يتناول الإقامة فلا يجوز حمله عليها إلا بدلالة.

والأفضل أن لا يؤذّن الإنسان إلا وهو على طهر ، فإن أذن وهو على غير طهارة أجزأه ولا يقيم إلا وهو على طهر.

والأفضل أن لا يؤذّن الإنسان وهو راكب ، أو ماش ، ويتأكد ذلك في الإقامة ، وكذلك الأفضل أن لا يؤذّن الإنسان ووجهه إلى غير القبلة ، ويتأكد ذلك في الشهادتين ، وكذلك في الإقامة.

ويكره الكلام في حال الأذان ، ويتأكد ذلك في حال الإقامة ، فإن تكلّم بين فصول الأذان فلا تستحب له إعادته ، وإن تكلّم بين فصول الإقامة ، فالمستحب له إعادتها ، وإذا قال : قد قامت الصلاة ، فقد حرم الكلام على الحاضرين ، ومعنى يحرم يكره الكلام على الحاضرين كراهية شديدة ، لا أنّه محظور حرام ، لأنّ الحظر يحتاج إلى دليل قاطع للعذر وانّما إذا كان الشي ء شديد

ص: 211


1- الوسائل : الباب 8 ، ح 6 و 8. والباب 39 من أبواب الأذان والإقامة.
2- المستدرك الباب 7 من أبواب الأذان والإقامة ح 4.
3- لم نجد الحديث بعينه فيما بأيدينا من كتب الأحاديث الا أنه في الوسائل : في كتاب الصلاة ، في الباب 11 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 7 ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : بين كل أذانين قعدة الحديث.

الكراهة أتوا به على لفظ الحظر والحرام ، وكذلك إذا كان الشي ء على جهة الاستحباب المؤكّد ، أتوا به على جهة الوجوب ، إلا بما يتعلّق بالصلاة من تقديم إمام ، أو تسوية صف.

والترتيب واجب في الأذان والإقامة ، فمن قدّم حرفا منه على حرف ، رجع فقدّم المؤخر ، وأخّر المقدّم منه.

فإن قيل : عندكم أنّ الأذان والإقامة مندوبان ، ومع ذلك فالترتيب فيهما واجب؟

قلنا : غرضنا بما قلنا من وجوب الترتيب مع كون الأذان مندوبا إليه ، أنّ من أتى بهما غير مرتبين يستحق به الإثم ، غير انّا نقول استحقاقه الإثم ليس هو بسبب أنّه أخلّ بواجب عليه فعله ، وانّما هو بسبب ارتكابه بدعة وشيئا غير مشروع ، باعتبار انّه لو ترك الأذان والإقامة وجميع صفاتهما ، فإنّه لا يستحق بذلك إثما ، فانكشف بذلك انّ استحقاق الإثم فيهما إذا فعلا غير مرتّبين ، انّما هو بارتكاب البدعة ، لا بالإخلال بالواجب.

ولا يجوز التثويب في الأذان ، اختلف أصحابنا في التثويب ما هو ، فقال قوم منهم : هو تكرار الشهادتين دفعتين ، وهذا هو الأظهر ، لأنّ التثويب مشتق من ثاب الشي ء إذا رجع ، وأنشد المبرّد لمّا سئل عن التأكيد فقال :

لو رأينا التأكيد خطة عجز

ما شفعنا الأذان بالتثويب

وقال قوم منهم : التثويب هو قول : الصلاة خير من النوم ، وعلى القولين لا يجوز فعل ذلك ، فمن فعله لغير تقية كان مبدعا مأثوما.

وكذلك اختلف الفقهاء في تفسيره.

والدليل على أنّ فعله لا يجوز ، إجماع طائفتنا بغير خلاف بينهم. وأيضا لو كان التثويب مشروعا لوجب أن يقوم دليل شرعي يقطع العذر على ذلك ، ولا دليل عليه.

وأيضا فلا خلاف في أنّ من ترك التثويب لا يلحقه ذم ، ولا عقاب ، لأنّه

ص: 212

امّا أن يكون مسنونا على قول بعض الفقهاء ، أو غير مسنون على قول البعض الآخر ، وفي كلا الأمرين لا ذمّ في تركه ، ويخشى من فعله أن يكون بدعة ومعصية ، يستحق بها الذم ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة.

والإقامة مثنى مثنى ، وهو مذهب أصحابنا كلهم.

ولا يجوز الأذان لشي ء من صلاة النوافل ولا الفرائض سوى الخمس.

والأذان والإقامة خمسة وثلاثون فصلا. الأذان ثمانية عشر فصلا ، والإقامة سبعة عشر فصلا.

والأذان : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، اللّه أكبر - أشهد ان لا إله إلا اللّه ، أشهد أن لا إله إلا اللّه - أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ) - حيّ على الصّلاة ، حيّ على الصّلاة - حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح - حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل - اللّه أكبر ، اللّه أكبر - لا إله إلا اللّه ، لا إله إلا اللّه.

والإقامة سبعة عشر فصلا على ما قدّمناه ، لأنّ فيها نقصان ثلاثة فصول من الأذان ، وزيادة فصلين ، فالنقصان تكبيرتان من الأربع الاولى ، وإسقاط التكرير من لفظ لا إله إلا اللّه في آخره ، والاقتصار على دفعة واحدة ، والزيادة أن يقول بعد حيّ على خير العمل - قد قامت الصّلاة ، قد قامت الصّلاة.

ولا يعرب أواخر الكلم ، بل تكون موقوفة بغير إعراب.

والمستحب أن يرتل الأذان ، ويحدر الإقامة ، والترتيل هو التبيين في تثبت وترسل ، والحدر هو الإرسال والاستعجال ، ثم يقف فيها دون زمان الوقف والتثبت في الأذان.

ومن أذّن فالمستحب له أن يرفع صوته ، فإذا لم يستطع ، فإلى الحد الذي يسمع معه نفسه.

ومن صلّى منفردا فالمستحب له أن يفصل بين الأذان والإقامة ، بسجدة أو

ص: 213

جلسة أو خطوة ، والسجدة أفضل ، إلا في الأذان للمغرب خاصة ، فإنّ الجلسة أو الخطوة السريعة فيها أفضل.

وإذا صلّى في جماعة فمن السنّة أن يفصل بين الأذان والإقامة بشي ء من نوافله ، ليجمع الناس في زمان تشاغله بها ، إلا صلاة المغرب فإنّه لا يجوز ذلك فيها.

ويستحب لمن سمع المؤذّن أن يقول مثل قوله ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا.

وينبغي أن يفصح فيهما بالحروف وبالهاء في الشهادتين ، والمراد بالهاء هاء إله ، لا هاء أشهد ، ولا هاء اللّه ، لأنّ الهاء في أشهد ، مبيّنة ، مفصّح بها ، لا لبس فيها ، وهاء اللّه ، موقوفة مبيّنة أيضا لا لبس فيها ، وانّما المراد هاء إله ، لأنّ بعض الناس ربما أدغم الهاء في لا إله إلا اللّه.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) انّ الأذان لا يختص بمن كان من نسل مخصوص ، كأبي محذورة وسعد القرظ وقال الشافعي : أحب أن يكون من ولد من جعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فيهما الأذان ، مثل أبي محذورة وسعد القرظ.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ( أبو محذورة بالميم المفتوحة والحاء المسكنة غير المعجمة والذال المضمومة المعجمة والواو غير المعجمة والهاء واسمه سلمان ويقال سمرة الحمجيّ القرشي وكان مؤذن الرسول صلى اللّه عليه وآله ، ويقال أوس بن مغير وسعد القرظ بالقاف المفتوحة والراء المفتوحة غير المعجمة والظاي المعجمة ، وكان سعد القرظ مولى لعمار بن ياسر كان يؤذّن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبي بكر بقبا ، فلما ولي عمر ، أنزله المدينة ) أحببت أن أذكر هذين الاسمين ، لئلا يجري فيهما تصحيف ، فاني سمعت بعض أصحابنا يصحّفهما ، فيقول أبي محدورة بالدال غير المعجمة ، ويقول سعد القرط بالطاء غير المعجمة ، وبضم القاف وسكون الراء ، وهو تصحيف.

ص: 214


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 34.

والدليل على ذلك ما ذكره شيخنا ، انّه من خصّ ذلك في نسب معين ، يحتاج إلى دليل ، والأخبار الواردة في الحث على الأذان ، عامة في كل أحد.

وأخذ الأجر على الأذان محظور ، ولا بأس بأخذ الرزق عليه من سلطان الإسلام ، ونوّابه.

ويستحب للإمام أن يلي الأذان والإقامة ، ليحصل له الفضل وثواب الجميع ، إلا أن يكون أمير جيش ، أو أمير سرية ، فالمستحب أن يلي الأذان والإقامة غيره ، ويلي الإمامة هو على ما اختاره شيخنا المفيد رحمه اللّه في رسالته إلى ولده (1).

باب ذكر أعمال الصّلاة المفروضة وما يلحق بذلك من الشروط

علم انّ المفروض من ذلك هو الطهارة ، والتوجه إلى القبلة ، والمعرفة بالوقت ، وأعداد الفرائض ، وستر العورة ، والقيام مع القدرة ، أو ما قام مقامه مع العجز ، والنية ، وتكبيرة الافتتاح ، والقراءة في الركعتين الأوليين ، والتسبيح أو القراءة في الأخيرتين ، والركوع ، والتسبيح فيه ، أو ذكر اللّه ، والسّجود ، والتسبيح فيه ، أو الذكر ، والتشهدان ، الأوّل والثاني ، والصلاة على النبيّ وآله صلّى اللّه عليهم فيهما.

ومن فروض الصلاة ما يجري مجرى الترك ، نحو أن لا يكون على بدن المصلّي وثوبه نجاسة ، منعت الشريعة من الصلاة ، وهي فيه ، أو في موضع سجوده نجاسة.

وان لا يتكلم ، ولا يضحك ولا يأكل ، ولا يشرب ، ولا يفعل فعلا يخرج به من أفعال الصّلاة.

ص: 215


1- لا يوجد عندنا.

فمتى ترك شيئا ممّا ذكرناه عامدا من غير عذر ، فلا صلاة له ، وعليه الإعادة.

ومتى تركه ساهيا كانت له أحكام نذكرها في باب السّهو وبيان أحكامه إن شاء اللّه تعالى.

باب كيفيّة فعل الصّلاة على سبيل الكمال المشتمل على الفرض والنفل

ينبغي لمن أراد الصّلاة وكان منفردا ، بعد ما شرطناه من التوجه إلى القبلة ، والنيّة ، والأذان ، والإقامة ، وغير ذلك ، أن يبتدئ فيكبر ثلاث تكبيرات متواليات يرفع بكل واحدة منهنّ يديه حيال وجهه ، وقد بسط كفيه من غير أن يفرّق بين أصابعه ، إلا الإبهام ، فإنّه يفرّق بينها وبين المسبّحة ، ولا يتجاوز بيديه في رفعهما شحمتي أذنيه ، وإذا أرسل في الثالثة يديه ، قال : اللّهم أنت الملك الحق المبين لا إله إلا أنت سبحانك انّي ظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي انّه لا يغفر الذّنوب إلا أنت.

ثم يكبّر تكبيرتين على الصّفة التي ذكرناها ويقول : لبّيك وسعديك ، ومعنى لبّيك : أي إقامة على إجابتك وطاعتك بعد إقامة ، من قولهم : ألبّ فلان بالمكان ، أي أقام به ، والخير في يديك ، والمهدي من هديت ، عبدك وابن عبديك بين يديك ، لا ملجأ منك إلا إليك ، سبحانك وحنانيك ، الحنان الرّحمة ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت.

ثمّ يكبّر تكبيرتين ليكمل التكبيرات سبعا.

ومن اقتصر على تكبيرة واحدة ، وهي تكبيرة الافتتاح ، أجزأته ، وهي الواجبة التي بها وبالنية معا تنعقد الصلاة ، ويحرم عليه ما كان يحل له قبلها ، فلذلك سمّيت تكبيرة الإحرام ، وتكبيرة الافتتاح ، لأنّ بها تفتح الصّلاة ويجب التلفظ بها ، ويقدّم اللّه على أكبر ، ولا يمدّ أكبر فيقول أكبار ، لأنّ ذلك جمع كبر ،

ص: 216

بفتح الكاف وفتح الباء التي تحتها نقطة واحدة ، وهو الطبل الذي له وجه واحد ، قال الشّاعر ، يهجو قوما :

حاجيتكم من أبوكم يا بني عصب *** شتى ولكنّكم للعاهر الحجر

فجئتم عصبا من كلّ ناحية *** نوعا مخانيث في أعناقها الكبر

بل يأتي بها على وزان أفعل ويقول : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، ( إِنَّ صَلاتِي ، وَنُسُكِي ، وَمَحْيايَ وَمَماتِي ، لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ) ، وأنا من المسلمين.

ثمّ يتعوّذ باللّه من الشيطان الرجيم ، ويفتتح القراءة بالبسملة.

وينبغي أن يلزم المصلّي في صلاته الخشوع ، والخضوع ، والوقار ، ويطرح الأفكار ، ويقبل بقلبه كلّه على صلاته ، ويكون مفرغا قلبه من علائق الدنيا ، وليقم منتصبا ، من غير أن ينحني ظهره ، وليكن نظره في حال قيامه إلى موضع سجوده ، ويفرّق بين قدميه ، ويجعل بينهما قدر شبر ، أو نحوه إن كان رجلا ، ولا يضع يدا على يد ، ولا يقدّم رجلا على أخرى.

فإذا تعوّذ فليفتتح ببسم اللّه الرّحمن الرحيم يجهر بها في كلّ صلاة يجهر فيها بالقراءة ، أو لم يجهر في الأوليين فحسب.

وقوم من أصحابنا يرون أنّ الجهر بها في كل صلاة ، انّما هو للإمام ، وأمّا المنفرد فيجهر بها في صلوات الجهر ، ويخافت فيما عدا ذلك.

ويقرأ الحمد ، وسورة معها أي سورة شاء ، إلا عزائم السجود التي تقدّم ذكرها ، وهي : سجدة لقمان وسجدة الحواميم وسورة النجم واقرأ باسم ربك ، فإنهن يقتضين سجودا واجبا ، وذلك لا يجوز في صلاة الفريضة ، فإن سجد بطلت صلاته ، لأنّه يكون قد زاد سجودا متعمدا في صلاته ، فإن لم يسجد بطلت صلاته أيضا ، لأنّه بقراءة العزيمة يتحتم ، ويتضيّق عليه السجود ، فإذا فعل فعلا يمنعه من الواجب المضيّق ، يكون ذلك الفعل قبيحا ، والقبيح لا يتقرّب به إلى

ص: 217

اللّه تعالى فتكون صلاته منهيا عنها ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

فإن كان قراءته لها ناسيا ، لا على طريق التعمد ، فالواجب عليه ، المضيّ في صلاته ، فإذا سلّم ، قضى السجود ولا شي ء عليه ، لأنّه ما تعمد بطلان صلاته ، فاختلف الحال بين العمد والنسيان.

ولا بأس بقراءة العزائم في صلاة النوافل ، ويجب عليه أن يسجد ، ولا تبطل بذلك نافلته.

فأمّا الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في الركعتين الأخيرتين ، فلا يجوز ، لأنّ الأخيرتين لا يتعيّن فيهما القراءة ، وانّما الإنسان مخيّر بين التسبيح والقراءة ، والدليل على ذلك أنّ الصّلاة عندهم على ضربين : جهرية وإخفاتية.

فالاخفاتية الظهر والعصر ، فان الجهر بالبسملة في الركعتين الأوليين مستحب ، لأنّ فيهما يتعين القراءة فأمّا الأخيرتان فلا يتعيّن فيهما القراءة.

والصّلاة الجهرية وهي الصّبح ، والمغرب ، والعشاء الآخرة ، فإنّ الجهر بالبسملة واجب كوجوبه في جميع الحمد.

وأمّا الآخرتان فلا يجوز الجهر بالقراءة ، إن أرادها المصلّي ، فقد صار المراد بالجهرية الركعتين الأوليين ، دون الأخيرتين ، ولا خلاف بيننا في أنّ الصلاة الإخفاتية لا يجوز فيها الجهر بالقراءة ، والبسملة من جملة القراءة ، وانّما ورد في الصّلاة الإخفاتية التي يتعيّن فيها القراءة ، ولا يتعين القراءة إلا في الركعتين الأوليين فحسب.

وأيضا فطريق الاحتياط ، يوجب ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين في صحّة صلاة من لا يجهر بالبسملة في الأخيرتين ، وفي صحّة صلاة من جهر فيهما خلاف.

وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا في وجوب الإخفات في الركعتين الأخيرتين ، فمن ادّعى استحباب الجهر في بعضها وهو البسملة ، فعليه الدليل.

ص: 218

فإن قيل : عموم الندب والاستحباب بالجهر بالبسملة.

قلنا : ذلك فيما يتعيّن ويتحتم القراءة فيه ، لأنّهم عليهم السلام قالوا يستحب الجهر بالبسملة فيما يجب فيه القراءة بالإخفات ، والركعتان الآخرتان خارجتان من ذلك.

فقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده في قسم المستحب : والجهر ببسم اللّه الرّحمن الرحيم في الموضعين (1) يريد بذلك الظهر والعصر ، فلو أراد الآخرتين من كلّ فريضة لما قال في الموضعين ، بل كان يقول في المواضع.

وأيضا فلا خلاف في أنّ من ترك الجهر بالبسملة في الآخرتين لا يلحقه ذم ، لأنّه امّا أن يكون مسنونا على قول المخالف في المسألة ، أو غير مسنون على قولنا وفي كلا الأمرين لا ذم على تاركه ، وما لا ذم في تركه ويخشى في فعله أن يكون بدعة ومعصية يستحق بها الذّم ومفسدا لصلاته ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة.

وأيضا فقد ورد في ألفاظ الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، تنبيه على ما قدّمناه أورد ذلك حريز بن عبد اللّه السجستاني في كتابه ، وهو حريز بالحاء غير المعجمة والراء غير المعجمة والزاي المعجمة ، وهو من جملة أصحابنا ، وكتابه معتمد عندهم ، قال فيه : وقال زرارة : قال أبو جعفر عليه السلام : لا يقرأ في الركعتين الآخرتين من الأربع ركعات المفروضات شيئا ، إماما كنت أو غير إمام ، قلت : فما أقول فيهما ، قال : إن كنت إماما فقل : سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر. ثلاث مرات ، ثم تكبّر وتركع ، وإن كنت خلف إمام ، فلا تقرأ شيئا في الأوليين ، وأنصت لقراءته ولا تقولن شيئا في الآخرتين ، فإنّ اللّه عزوجل يقول للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في الفريضة خلف الإمام « فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » والآخرتان تبع الأولتين. قال

ص: 219


1- الجمل والعقود : فصل 9 في ذكر ما يقارن حال الصلاة ، الرقم 5 من المسنونات.

زرارة قال أبو جعفر عليه السلام : كأنّ الذي فرض اللّه على العباد من الصّلاة عشرا ، فزاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سبعا ، وفيهنّ السهو وليس فيهن قراءة ، فمن شك في الأوليين أعاد حتى يحفظ ، ويكون على يقين ، فمن شك في الأخيرتين بنى على ما توهم (1).

فليلحظ قوله ، وليس فيهنّ قراءة.

ولا يجوز أن يقرأ في الفريضة بعض سورة.

ويكره أن يقرأ سورتين ، مضافتين إلى أمّ الكتاب ، فإن قرأ ذلك لا تبطل صلاته.

وقد ذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته ، أنّ صلاته تبطل بذلك (2). ورجع عن ذلك في استبصاره ، وقال : ذلك على طريق الكراهة (3). وهذا الذي يقوى عندي ، وافتي به ، لأنّ الإعادة ، وبطلان الصّلاة يحتاج إلى دليل ، وأصحابنا قد ضبطوا قواطع الصّلاة ، وما يوجب الإعادة ، ولم يذكروا ذلك في جملتها ، والأصل صحة الصّلاة ، والإعادة والبطلان بعد الصّحة ، يحتاج إلى دليل ، ويجوز ذلك في النافلة.

فإذا أراد أن يقرأ الإنسان كل واحدة من سورة والضحى وألم نشرح ، منفردة عن الأخرى في الفريضة ، فلا يجوز له ذلك ، لأنّهما سورة واحدة عند أصحابنا ، بل يقرؤهما جميعا وكذلك سورة الفيل ولإيلاف ، فمن أراد قراءة كلّ واحدة من الضحى وألم نشرح في الفرض ، جمع بينهما في ركعة ، وكذلك من أراد قراءة كل واحدة من سورة الفيل ولإيلاف ، جمع بينهما ، وفي النوافل ليس يلزم ذلك.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في التبيان : روى أصحابنا أنّ ألم نشرح مع الضحى سورة واحدة ، لتعلّق بعضها ببعض ، ولم يفصلوا بينهما ببسم

ص: 220


1- الوسائل : الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 1 و 2.
2- كتاب النهاية : في باب القراءة من الصلاة ( ولا يجوز ان يجمع بين سورتين مع الحمد .. ).
3- الاستبصار : ج 1 ، 174 باب القران بين السورتين في الفريضة.

اللّه الرحمن الرحيم ، وأوجبوا قراءتهما في الفرائض في ركعة ، وأن لا يفصل بينهما ، ومثله قالوا في سورة ألم تر كيف ولإيلاف ، وفي المصحف هما سورتان ، فصل بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والذي تقتضيه الأدلة ، وعليه الإجماع ، انّ الإنسان إذا أراد قراءة ألم نشرح مع سورة الضحى بسمل في الضحى وفي ألم نشرح ، والدليل على ذلك إثبات البسملة في المصحف ، فلو لم تكن البسملة من جملة السورة ما جاز ذلك ، وهو إجماع من المسلمين ، ولا يمنع مانع أن يكون في سورة واحدة بسملتان ، كما في سورة النّمل ، وأصحابنا أطلقوا القول بقراءتهما جميعا ، فمن أسقط البسملة بينهما ما قرأهما جميعا.

وأيضا فلا خلاف في عدد آياتهما فإذا لم يبسمل بينهما نقصتا من عددهما ، فلم يكن قد قرأهما جميعا.

وشيخنا أبو جعفر يحتج على المخالفين ، بأنّ البسملة آية من كل سورة ، بأنّها ثابتة في المصاحف ، يعني البسملة ، بإجماع الأمّة بخلاف العشرات ، وهو موافق بإثبات البسملة بينهما ، في المصحف.

وأيضا طريق الاحتياط يقتضي ذلك لأن بقراءة البسملة تصح الصّلاة بغير خلاف وفي ترك قراءتها خلاف ، وكل سورة تضم إلى أمّ الكتاب يجب أن يبتدئ فيها - ببسم اللّه الرحمن الرحيم.

ويتحتم الحمد عندنا في الركعتين الأوليين ، من كل فريضة ، وهل يجب أن يضمّ إليها سورة أخرى أم تجزي بانفرادها للمختار؟ اختلف أصحابنا على قولين ، فبعض منهم يذهب إلى أنّ قراءة الحمد وحدها تجزي للمختار ، وبعضهم يقول لا بدّ من سورة أخرى مع الحمد ، وتحتمها كتحتم الحمد ، وهو الأظهر من

ص: 221


1- التبيان : ج 10 الطبع الحديث في ذيل سورة الانشراح.

المذهب. وبه يفتي السيد المرتضى ، والشيخ أبو جعفر في مسائل خلافه (1) وفي جمله وعقوده (2) والاحتياط يقتضي ذلك.

فأمّا الآخرتان فلا خلاف بينهم في أن الحمد لا يتعيّن ، بل الإنسان مخيّر بين الحمد والتسبيح.

واختلفوا في عدد التسبيح ، منهم من قال أقلّه أربع تسبيحات ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه ، ومنهم من يقول الواجب عشر تسبيحات ، ومنهم من يقول الواجب اثنتا عشرة تسبيحة ، والذي أراه ويقوى عندي العشر ، وأخصّ الأربع للمستعجل.

فإن أراد أن يقرأ الحمد ، يجب عليه الإخفات بجميع حروفها على ما مضى شرحنا لذلك ، فإن أراد التسبيح فالأولى له الإخفات به ، فإن جهر به لا يبطل صلاته ، وحمله على القراءة قياس ، والقياس عند أهل البيت عليهم السلام متروك ، فإن جهر بالقراءة في الحمد بطلت صلاته ، إذا فعل ذلك متعمدا.

ولا بأس بقراءة المعوذتين في الفريضة ، ولا يلتفت إلى خلاف ابن مسعود ، « في أنّهما ليستا من القرآن ».

ولا بأس للمعجل والعليل بأن يقتصرا في الفريضة على أم الكتاب وحدها.

وللمصلّي إذا بدأ بسورة ، أن يرجع عنها ما لم يبلغ نصفها ، إلا قل هو اللّه أحد وقل يا أيّها الكافرون ، فإنّه لا يرجع عنهما ، وهما أفضل ما قرئ في الصّلاة.

ويستحب له أن يقرأ في صلاة الصبح بعد الفاتحة ، سورة من طوال المفصل ، مثل هل أتى على الإنسان ، وإذا الشمس كوّرت ، وما أشبه ذلك.

ويستحب له أن يقرأ في صلاة الليل بشي ء من السّور الطوال ، مثل

ص: 222


1- كتاب الخلاف : في كتاب الصلاة ، المسألة 86.
2- الجمل والعقود : في فصل في ذكر ما يقارن حال الصلاة.

الكهف ، والأنعام ، والحواميم.

وأن يقرأ في صلاة المغرب ، والعشاء الآخرة من ليلة الجمعة ، في الأولى الحمد ، وسورة الجمعة ، وفي الثانية الحمد ، وسبّح اسم ربّك الأعلى.

وفي صلاة الفجر من يوم الجمعة في الأولى ، الحمد والجمعة ، وفي الثانية الحمد وقل هو اللّه أحد. وروي مكان قول هو اللّه أحد ، سورة المنافقين (1). وفي الظهر والعصر ، الجمعة والمنافقين ، تقدم الجمعة في الاولى ، وتؤخّر سورة المنافقين في الثانية.

وإن كنت مصليا الفجر ، أو المغرب ، أو العشاء الآخرة ، أو نوافل الليل جهرت بالقراءة في الركعتين الأولتين ، وهما اللتان يتعين فيهما القراءة.

وإن كنت مصلّيا ما عدا ذلك ، من ترتيب اليوم والليلة ، خافت ، من غير أن تنتهي إلى حدّ لا تسمع معه أذناك ما تقرؤه.

والجهر فيما يجب الجهر فيه واجب ، على الصحيح من المذهب ، حتى أنّه إن تركه متعمدا ، بطلت صلاته ، ووجبت عليه الإعادة وقال السيد المرتضى رضي اللّه عنه في مصباحه ، ذلك من السنن المؤكّدة ومن جهر فيما يجب فيه الإخفات متعمدا ، وجبت عليه الإعادة.

وأدنى الجهر أن تسمع من عن يمينك ، أو شمالك ، ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته.

وحدّ الإخفات أعلاه أن تسمع أذناك بالقراءة ، وليس له حدّ أدنى ، بل إن لم تسمع أذناه القراءة فلا صلاة له ، وإن سمع من عن يمينه أو شماله صار جهرا ، فإذا فعله عامدا بطلت صلاته.

وينبغي أن يرتّل قراءته ، ويبيّنها ، ولا يعجل فيها ، فإذا فرغ من قراءته كبّر ،

ص: 223


1- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 70 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 10.

رافعا يديه حيال وجهه ، على ما تقدّم ذكره ، ثمّ يركع.

وينبغي للراكع أن يمدّ عنقه ، ويسوّي ظهره ، ويفتح إبطيه مجنّحا بهما عن ملاصقة أضلاعه ، ويملأ كفيه من ركبتيه مفرقا بين أصابعه ، ويجعل رأسه حذاء ظهره ، غير منكّس له ، ولا رافع ، ولا يجمع بين راحتيه ، ويجعلهما بين ركبتيه ، لأنّ ذلك هو التطبيق المنهي عنه.

وليكن نظره في حال الركوع إلى ما بين رجليه ، ويقول في ركوعه : اللّهم لك ركعت ، ولك خشعت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وأنت ربي ، خشع لك قلبي ، وسمعي ، وبصري ، وشعري ، وبشري ، ولحمي ، ودمي ، ومخي ، وعظامي ، وعصبي ، وما أقلّته الأرض منّي ، ثم يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ، إن شئت ثلاثا ، وإن شئت خمسا ، وإن شئت سبعا ، والزائد أفضل ، وتسبيحة واحدة يجزي ، وهو أن يقول : سبحان اللّه ، أو يذكر اللّه تعالى بأن يقول : لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، وما أشبه من ذلك من الذكر الذي يقتضي المدحة والثناء.

وقال بعض أصحابنا : أقل ما يجزي تسبيحة واحدة ، وكيفيتها أن يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ، فإذا قال : سبحان اللّه لا يجزيه ، والأول أظهر ، لأنّه لا خلاف بينهم في أن التسبيح لا يتعيّن ، بل ذكر اللّه تعالى ، ولا خلاف في أن من قال سبحان اللّه فقد ذكر اللّه تعالى ، والأصل براءة الذمة في هذه الكيفية المدعاة ، لأنّ الكيفيات عبادات زائدة على الأفعال.

والقول في تسبيح السجود والخلاف فيه ، كالقول في تسبيح الركوع.

ثمّ يرفع رأسه من الركوع ، وهو يقول بعد فراغه من الرفع : سمع اللّه لمن حمده ، الحمد لله رب العالمين ، أهل الكبرياء والعظمة والجود والجبروت. والرفع واجب ويستوي قائما.

والطمأنينة واجبة في القيام ، وكذلك في الركوع ، بقدر ما ينطق بالذكر

ص: 224

الواجب ، وما زاد على ذلك فمستحب.

وينبغي للمرأة إذا ركعت أن يكون تطأطؤها دون تطأطؤ الرجل ، وتضع يديها على فخذيها ، إذا أهوت للركوع.

ويكون قيامها ، وهي جامعة بين قدميها غير مباعدة بينهما.

فإذا عاد الراكع إلى انتصابه واستوى قائما ، كبّر رافعا يديه على ما تقدّم ، وأهوى إلى السجود ، ويلتقي الأرض بيديه جميعا قبل ركبتيه ، ويكون سجوده على سبعة أعظم : الجبهة ، ومفصل الكفين من الزندين ، وعظمي الركبتين ، وطرف إبهامي الرجلين.

والإرغام بطرف الأنف ممّا يلي الحاجبين ، وهو من السنن المؤكدة ، والسجود على السّبعة الأعضاء فريضة ، والثامن سنة وفضيلة.

ومن كان في جبهته علّة ، ووصل إلى الأرض من حدّ قصاص شعر رأسه إلى الحاجبين مقدار الدرهم ، أجزأه ، فإن لم يتمكن من ذلك أجزأه أن يسجد على ما بين الجبهة والصدغين منحرفا ، فإن لم يتمكن من ذلك ، سجد على ذقنه.

وينبغي أن يتخوى في سجوده كما يتخوى البعير الضامر عند بروكه ، ومعنى يتخوى يتجافى ، يقال خوّى البعير تخوية : إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه ، وكذلك الرّجل في سجوده ، وهو أن يكون معلّقا لا يلصق عضديه بجنبيه ، ولا ذراعيه بعضديه ، ولا فخذيه ببطنه ، ولا يفترش ذراعيه كافتراش السّبع ، بل يرفعهما ، ويجنّح بهما ، ويكون نظره في حال السجود إلى طرف أنفه.

وجملة الأمر وعقد الباب ، في نظر المصلّي ، في جميع صلاته على خمسة أضرب ، وهي مستحبة حال قيامه ، قارئا إلى موضع سجوده ، وفي حال قنوته إلى باطن كفيه ، وحال ركوعه إلى ما بين قدميه ، وفي هذه الحال خاصّة يستحب أن يكون مغمض العينين ، وفي حال سجوده إلى طرف أنفه ، وفي حال جلوسه إلى حجره.

ويكره للساجد أن ينفخ موضع سجوده ، فإن كان نفخه بحرفين فقد قطع صلاته.

ص: 225

ولا بأس بأن تكون أعضاء السجود غير الجبهة مستورة ، وتقع على غير ما يجوز السجود عليه ، وإن كانت بارزة ، وعلى ما تقع عليه الجبهة كان أفضل.

وينبغي أن يكون موضع سجوده مساويا في العلو والهبوط لموضع قيامه ، ويقول في السجود : اللّهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، وعليك توكلت ، وأنت ربي ، سجد لك وجهي ، وجسمي ، وشعري ، وبشري ، ومخي ، وعصبي ، وعظامي ، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره ، وشق سمعه وبصره ، تبارك اللّه أحسن الخالقين ، سبحان ربي الأعلى وبحمده.

الواجبة واحدة ، والمستحب ثلاث ، والأفضل خمس ، والأكمل سبع ، وقد ذكرنا فيما تقدّم فقه ذلك.

سجود التلاوة في جميع القرآن مسنون إلا أربع سور ، فإن فيها سجودا واجبا ، على ما قدّمناه على القاري والسّامع والمستمع وهو الناصت.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّه يجب على القاري والمستمع ، دون السامع ، وهو اختيار الشافعي (1). فأما باقي أصحابنا ، لم يفصّلوا ذلك ، وأطلقوا القول بأنّ سجود أربع المواضع يجب على القاري ومن سمع ، وهو الصحيح ، وعليه إجماعهم منعقد.

وروى أبو بصير ، (2) قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها ، فاسجد وإن كنت على غير وضوء ، وإن كنت جنبا ، وإن كانت المرأة لا تصلّي ، وسائر القرآن أنت فيه بالخيار إن شئت سجدت ، وإن شئت لم تسجد.

وينبغي للمرأة إذا أرادت السجود أن تجلس ، ثم تسجد لاطئة بالأرض ،

ص: 226


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 179.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 42 من أبواب قراءة القرآن ، ح 2.

مجتمعة ، واضعة ذراعيها على الأرض ، بخلاف ما ذكرناه في هيأه سجود الرجل ، ولو كانت على هيأه الرجل لم تبطل بذلك صلاتها ، ولو كان الرجل على هيأتها لم تبطل بذلك صلاته ، وانّما سنّ لها هذه الهيأة وللرجل تلك الهيأة.

ثم يرفع رأسه من السجود ، رافعا يديه بالتكبير ، مع رفع رأسه ، ويجلس متمكنا على الأرض ، مفترشا فخذه اليسرى مماسا بوركه الأيسر ، مع ظاهر فخذه اليسرى الأرض ، رافعا فخذه اليمنى عنها ، جاعلا بطن ساقه الأيمن على بطن رجله اليسرى ، (1) مبسوطة على الأرض ، وباطن فخذه اليمني على عرقوبه الأيسر ، وينصب طرف إبهام رجله اليمنى على الأرض ، ويستقبل بركبتيه معا القبلة ولا بأس بالإقعاء بين السجدتين من الاولى والثانية والثالثة والرابعة ، وتركه أفضل ، ويكره أشد من تلك الكراهة في حال الجلوس للتشهدين ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا : ولا يجوز الإقعاء في حال التشهدين ، وذلك على تغليظ الكراهة ، لا الحظر ، لأنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة قيل لا يجوز ، ويعرف ذلك بالقرائن.

ويستحب أن يكبّر لرفع رأسه من السجود ، بعد التمكن من الجلوس ، وكذلك الراكع يكون قوله سمع اللّه لمن حمده بعد انتصابه قائما ، وأنّه إذا كان تكبيره للدخول في فعل من أفعال الصّلاة ، ابتدأ بالتكبير في حال الابتداء به ، وإذا كان تكبيره للخروج عنه ، جعل التكبير بعد الانفصال عنه ، وحصوله فيما يليه.

وينبغي أن يكون نظر الجالس إلى حجره على ما قدّمناه ، ويقول في الجلسة بين السجدتين : اللّهم اغفر لي ، وارحمني ، وادفع عني ، واجبرني ، إني لما أنزلت إليّ من خير فقير.

ثم يرفع يديه بالتكبير ، ويسجد الثانية على الوصف الذي مضى في الأولة.

ص: 227


1- في المطبوع : وظاهرها مبسوطة.

ثم يرفع رأسه ويكبر ، ويجلس متمكنا على الأرض على ما تقدّم من وصفه ، ثم ينهض إلى الركعة الثانية وهو يقول : بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد ، فإذا استوى قائما قرأ الحمد وسورة معها ، فإذا فرغ من القراءة ، بسط كفيه ، حيال صدره ، إلى القنوت ، وجعل باطنهما مما يلي السماء ، وظاهرهما مما يلي الأرض.

ويكون نظره إلى باطنهما ، على ما أسلفنا القول فيه.

والأفضل أن يكون ظاهرهما يلي السماء وباطنهما يلي الأرض في جميع الصلاة إلا في حال القنوت.

وتكون الأصابع مضمومة ، إلا الإبهام ، إلا في الركوع ، فيستحب أن تكون مفرجات الأصابع.

ويكبر للقنوت على أظهر الأقوال ، وبعض أصحابنا يذهب إلى أن تركه أفضل.

والذي ينبغي أن يكون في القنوت على الجملة حمدا لله ، والثناء عليه ، والصلاة على نبيه وآله ، وهو مخيّر بعد ذلك في ضروب الأدعية ، وروي أنّ أفضل ذلك كلمات الفرج (1) ويجوز للقانت أن يدعو لنفسه ، ويسأل حاجته في قنوته ، ويدعو على أعداء الدين ، والظلمة ، والكافرين ، ويسميهم بأسمائهم ، فإنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله ، قنت ودعا على قوم من الكافرين ، وسمّاهم بأسمائهم ، فروي أنّه قال : اللّهم انج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، ( وعياش بن أبي ربيعة ) والمستضعفين من المؤمنين ، وفي بعضها والمستضعفين بمكة ، واشدد وطأتك على مضر ، ورعل ، وذكوان (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : رعل بالراء غير المعجمة المكسورة ، والعين غير المعجمة المسكنة ، واللام ، وذكوان بالذال المعجمة ، وهما قبيلتان من بني سليم.

ص: 228


1- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 7 من أبواب القنوت ، ح 4.
2- مستدرك الوسائل : كتاب الصلاة الباب 10 من أبواب القنوت ، ح 4.

وروي أنّه صلى اللّه عليه وآله دعا أيضا في الصّلاة واستعاذ من فتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : المسيح بالحاء غير المعجمة ، وسمي مسيحا لأنّ عينه ممسوحة خلقة.

ولا بأس ان تسمّت العاطس وأنت في الصلاة ، يقول يرحمك اللّه ، لأنّه دعاء لا يقطع الصلاة.

ورعل وذكوان والمسيح ، أوردهم شيخنا في مسائل خلافه (2) ، فذكرتهم لئلّا يجري تصحيف ، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليه السلام.

والقنوت مستحب في جميع الصلوات الفرض والسنة ، وهو في الفرض آكد ، وفيما يجهر فيه بالقراءة آكد ، وفي المغرب والفجر آكد ، ومحلّه بعد القراءة في الثانية ، وقبل الركوع ، وهو قنوت واحد في الصلاة.

وروي أنّ في الجمعة قنوتين (3) ، والأظهر الأوّل ، لأنّ هذا مروي من طريق الآحاد ، والقنوت الواحد مجمع على استحبابه.

ويجهر به في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة ، ويخافت به فيما يخافت فيه بالقراءة.

وقد روي أنّ القنوت يجهر به على كل حال (4).

فإذا فرغ من قنوته رفع يديه ، وكبر للركوع على ما وصفناه ، وسجد السجدتين ، فإذا جلس من السجدة الثانية متمكنا على ما تقدّم به الوصف ، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى ، دون ركبتيه ، وكفه اليسرى على فخذه اليسرى دون ركبتيه.

ثم ليقل إن كان مصليا فرضا سوى الفجر : بسم اللّه وباللّه ، والحمد لله ،

ص: 229


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 133.
2- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 133.
3- الوسائل : الباب 5 من أبواب القنوت ، ح 5 و 8 و 9.
4- الوسائل : الباب 21 من أبواب القنوت ، ح 1.

والأسماء الحسنى كلها لله ، أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، بين يدي السّاعة ، اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، كأفضل ما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وإن كان في صلاة الفجر يتشهد كتشهد الذي نذكره ، وفي أثره التسليم.

فإذا فرغ من التشهد الذي ذكرناه ، نهض قائما وهو يقول : بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد.

وبعض أصحابنا ينهض إلى الركعات بالتكبير ، لا بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه : ولا يكبر للقنوت ، لأنّه جعل في الصّلوات الخمس أربعا وتسعين تكبيرة ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه بخمس وتسعين تكبيرة ، وهو الأظهر في الأقوال والروايات ، فالخلاف بينهما في تكبيرة واحدة ، لأنّ الشيخ المفيد يقول : انا أقوم إلى الثوالث بالتكبير ، فلأربع فرائض ، لهن ثوالث ، ففيهن أربع تكبيرات ، والفجر لا ثالثة لها ، فلا تكبيرة لها ويوافق في أعداد التكبيرات الباقيات في أحوال الصلاة ، ولا يقنت - بالتكبير.

والشيخ أبو جعفر رحمه اللّه يقول : أنا اقنت في الخمس الفرائض ، أمد يدي بالتكبير ، فيهن خمس تكبيرات ، وعدد التكبيرات في الخمس الصلوات خمس وتسعون تكبيرة ، خمس منها تكبيرة الإحرام واجبة ، وتسعون مسنونة ، منها خمس للقنوت ، في الظهر اثنتان وعشرون تكبيرة ، وفي العصر والعشاء الآخرة مثل ذلك ، وفي المغرب سبع عشرة تكبيرة ، وفي الفجر اثنتا عشرة تكبيرة.

ويسبح في الركعتين الآخرتين من الظهر ، والعصر والعشاء الآخرة ، وفي الركعة الثالثة من المغرب عشرة تسبيحات ، على ما مضى القول فيه يقول : « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه » ثلاث مرات ، ويزيد في الثالثة « واللّه أكبر » ، وإن شاء قرأ الحمد ، والتسبيح أفضل ، على الأظهر من المذهب ،

ص: 230

وبعض أصحابنا لا يفضّل أحدهما على الآخر ، وبعضهم يقول توسطا بين الأخبار ، الحمد أفضل للإمام خاصّة.

فإذا جلس للتشهد الثاني ، قال : التحيات لله ، والصلوات الطيبات الطاهرات الزاكيات الناعمات الغاديات الرائحات المباركات الحسنات لله ، ما طاب وطهر وزكى وخلص ( بفتح اللام ) ونمى أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة ، وأشهد أنّ الجنة حق ، وأنّ النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ، وأشهد أنّ ربي نعم الرب ، وأنّ محمّدا صلى اللّه عليه وآله نعم الرسول ، وأشهد أنّ ما على الرسول إلا البلاغ المبين ، اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وبارك على محمد وآل محمّد ، كأفضل ما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد - والصلاة على محمّد والصلاة على آله واجبتان في التشهدين جميعا ، الأوّل والأخير - السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، السلام على أنبياء اللّه المرسلين ، وعلى ملائكته المقربين ، السلام على محمّد بن عبد اللّه خاتم النبيّين ، السلام على عباد اللّه الصالحين.

ثم يسلّم تسليمة واحدة مستقبل القبلة ، وينحرف بوجهه قليلا إلى يمينه إن كان منفردا ، أو إماما وإن كان مأموما يسلم تسليمتين ، واحدة عن يمينه على كلّ حال ، واخرى عن شماله ، إلا أن تكون جهة شماله خالية من أحد فيسلّم عن يمينه ويدع التسليم على شماله ، ولا يترك التسليم عن يمينه على كل حال ، كان في تلك الجهة أحد ، أو لم يكن على ما قدّمناه ، والذي ذكرناه من كيفية التشهدين فضل ، لا حرج على تاركه ، وأدنى ما يجزى فيهما ، الشهادتان ، والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، والصلاة على آله عليهم السلام.

والتسليم ، الأظهر أنّه مستحب ، وذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه إلى

ص: 231

وجوبه ، وأحتج بما روي عنه عليه السلام من قوله : مفتاحها التكبير وتحليلها التسليم (1).

وهذا أولا خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، خصوصا عند هذا السّيد ، وأيضا لو كان متواترا ، فهو دليل الخطاب ، ودليل الخطاب أيضا عنده وعندنا متروك بدليل آخر ، وأيضا فما روي عنه عليه السلام من قوله : إنّما صلاتنا هذه تكبير وقراءة وركوع وسجود (2) يعارض خبره ، وفيه ما يقويه وهو لفظة « إنما » المحققة المثبتة للمذكور ، النافية لما عداه ، وما ذكر التسليم انّه من جملة صلاتنا ، وأيضا لو كان منها لكان إذا سلّم المصلي ساهيا أو ناسيا في غير موضع التسليم ، لا يجب عليه سجدتا السّهو ، ولا يقطع صلاته به وهذا الا يقوله أحد من أصحابنا.

وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (3) وجمله وعقوده (4) وهو مذهب شيخنا المفيد رضي اللّه عنه ، والأصل براءة الذّمة ، فإن المرتضى قال في الناصريات : ما وجدت لأصحابنا في ذلك نصّا (5) فقد أقرّ أنّه لم يجد لهم في ذلك نصا ولا قولا.

وقد ورد عنهم عليهم السلام انّهم قالوا : اسكتوا عما سكت اللّه عنه (6) وهذا من ذلك.

ويستحب بعد التسليم والخروج من الصلاة أن يكبّر وهو جالس ثلاث تكبيرات يرفع بكل واحدة يديه إلى شحمتي أذنيه ، ثمّ يرسلهما إلى فخذيه في ترسّل واحد.

ص: 232


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 7. والباب 1 من أبواب التسليم ، ح 8 نقلا بالمعنى.
2- عوالي اللئالي : ج 1 ، ص 421.
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب فرائض الصلاة وسننها.
4- الجمل والعقود : في فصل 9 في ذكر ما يقارن حال الصلاة.
5- الناصريات : المسألة 82 من كتاب الصلاة.
6- عوالي اللئالي : ج 3 ، ص 166.

ثمّ يقول لا إله إلا اللّه وحده وحده وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وغلب الأحزاب وحده ، فله الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شي ء قدير.

ثمّ يسبح تسبيح الزّهراء عليها السلام ، وهو أربع وثلاثون تكبيرة ، التكبير أوّل بلا خلاف ، وثلاث وثلاثون تحميدة على الصحيح من المذهب ، وأنّه بعد التكبير ، وقال بعض أصحابنا يجعل التسبيح بعد التكبير ، والأول أظهر في الفتوى والقول ، وثلاث وثلاثون تسبيحة.

ثمّ يصلّي على النبي ، ويستغفر من ذنوبه ، ويدعو بما أحبّ ، ويسجد سجدة الشكر ، وصفتها أن يلصق ذراعيه وجؤجؤه بالأرض ، ويضع جبهته على موضع سجوده ، ثمّ خدّه الأيمن ، ثمّ خده الأيسر ، ثم يعيد جبهته ، ويدعو اللّه في خلال ذلك ، ويسبحه ويعترف بنعمته ، ويجتهد في الشكر عليها.

وقد روي (1) فيما يقال في سجدة الشكر أشياء كثيرة ، من أرادها أخذها من مواضعها ، وأوجزها أن يقول : شكرا شكرا شكرا ويكرر ذلك مرارا ، أدناها ثلاثا ، أو حتى ينقطع النفس ، وإن شاء عفوا عفوا.

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول إذا سجد : وعظتني فلم أتعظ ، وزجرتني عن محارمك فلم أنزجر ، وغمرتني أياديك فما شكرت ، عفوك عفوك يا كريم (2).

ويستحب له إذا رفع رأسه من السّجود ، أن يضع باطن كفه اليمنى على موضع سجوده ، ثمّ يمسح بها وجهه وصدره.

وهذا التعقيب يستحب في دبر كلّ فريضة ونافلة ، والسجود والتعفير ، إلا

ص: 233


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب سجدتي الشكر.
2- الكافي : كتاب الصلاة ، باب السجدة والتسبيح والدعاء فيه ، ح 21.

فريضة المغرب ، فالمستحب أن يكون تعقيبها بهذا الدّعاء ، والسّجود والتعفير ، ما خلا تسبيح الزّهراء ، فإنّه بعد نافلتها ، وبذلك تظاهرت الآثار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، ومن سجد وعقّب بما ذكرناه كان فاعلا فضلا ، ومن ترك ذلك فلا شي ء عليه.

وسجدة الشكر مستحبة عند تجديد نعم اللّه ، ودفع البلايا والنقم ، وأعقاب الصلوات.

وروي عنه عليه السلام انه لما أتى برأس أبي جهل لعنه اللّه تعالى سجد شكرا لله (1).

وروي (2) أنه رأى نغاشيا فسجد ، والنغاشي بالنّون المضمومة والغين المعجمة المفتوحة والشين المعجمة المكسورة والياء المشدّدة : الرّجل القصر الزري.

باب ذكر أحكام الأحداث التي تعرض في الصّلاة وما يتبع ذلك

كلّ شي ء عرض للإنسان في الصلاة ، على وجه لا يتمكن من دفعه ، وهو مما لا ينقض الطهارة ، كالقي ء ، والرعاف ، فعليه أن يغسله ، ويزيله ، ويعود فيبني على ما مضى من صلاته ، بعد أن لا يكون قد استدبر القبلة ، وزال عن جهتها بالكلية ، أو أحدث ما يوجب قطع الصلاة من كلام أو غيره أو ما يوجب نقض الطهارة من سائر الأحداث إلا أن يكون تكلّم ناسيا في الحال التي يأخذ فيها في إزالة ما عرض له من الرعاف الذي يلزم معه إزالته من ثيابه وبدنه ، وهو أن يكون بلغ درهما فصاعدا.

فإما القي ء ، فلا يجب عليه إزالته ولا انصرافه من صلاته ، لأنّه عندنا طاهر لم يكن عليه شي ء ، وجاز له البناء على ما مضى ، ويجري ذلك مجرى أن يتكلّم في

ص: 234


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 182.
2- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 182.

الصلاة ناسيا ، وكذلك من سلّم في غير موضع التسليم ناسيا ثمّ تكلم بعد سلامه متعمدا ، لأنّ عمده هاهنا في حكم السهو ، لأنّه لو علم انّه في الصلاة بعد ، لم يتكلم ، فيجب عليه البناء على صلاته على الصحيح من أقوال أصحابنا.

وروي خلاف ذلك ، والعمل على ما قدّمناه ، إلا أن يكون في الحال التي أخذ فيها ليزيل الدم أحدث ما ينقض الطهارة ، فيجب عليه الاستيناف عامدا كان أو ناسيا.

وعلى المصلي أن يدرأ هذه العوارض ما استطاع ، فإذا غلبت وقهرت فالحكم ما ذكرناه.

فإن كان ذلك العارض مما ينقض الطهارة كان على المصلّي إعادة الصلاة سواء كان فعله الناقض للطهارة متعمدا أو ناسيا ، في طهارة مائية أو ترابية على الأظهر من المذهب.

وبعض أصحابنا يقول : يعيد الطهارة ويبني على صلاته ، والصحيح الأوّل ، يعضد ذلك دليل الاحتياط فإنّ الصلاة في الذمّة بيقين فلا تسقط عنها إلا بيقين مثله ، وقد علمنا انّه إذا أعاد الصلاة من أوّلها فقد تيقن براءتها ، وليس كذلك إذا بنى على ما صلاه منها فانّ ذمته ما برئت بيقين ، وإذا أعاد فقد برئت بيقين فوجبت الإعادة.

وأيضا ما روي عنه عليه السلام من قوله : إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ بين أليتيه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) وهذا المحدث الذي كلامنا فيه قد سمع الصوت ووجد الريح فيجب انصرافه عن الصلاة.

فإن قال المخالف : نحن إذا أوجبنا عليه أن ينصرف من الصلاة ليتوضأ ، ثمّ يبني (2) على ما فعله فقد قلنا بموجب الخبر.

ص: 235


1- المستدرك : الباب 1 من نواقض الوضوء ، ح 5 ، مع اختلاف يسير
2- في المطبوع. ويبني

قلنا : الخبر يقتضي انصرافا عن الصلاة ، وأنتم تقولون انّه ما انصرف عنها ، بل هو فيها وإن تشاغل بالوضوء.

وأيضا فقد روي بالتواتر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : لا صلاة إلا بطهور ، ومن سبقه الحدث فلا طهور له (1) فوجب أن لا يكون في الصلاة ، وأن يخرج لعدم الطهور عنها.

وقد روي أيضا عنه عليه السلام أنّه قال : إذا فسا أحدكم في الصلاة ، فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته (2).

فإن قيل : نحمل هذا الخبر على العمد (3).

قلنا : ظاهر الخبر يتناول العمد وغير العمد ، ولا يجوز أن نخصه إلا بدليل ، وظاهر الأمر الوجوب ، ولا نحمله على الاستحباب إلا بدليل.

والتبسم الذي لا يبلغ حد القهقهة لا يقطعها.

ويردّ المصلّي السّلام إذا سلّم عليه قولا لا (4) فعلا ، ولا يقطع ذلك صلاته ، سواء ردّ بما يكون في لفظ القرآن ، أو بما خالف ذلك إذا أتى بالردّ الواجب الذي تبرأ ذمّته به إذا كان المسلّم عليه قال له : سلام عليكم أو سلام عليك أو السلام عليكم أو عليكم السلام (5) فله أن يرد عليه بأي هذه الألفاظ كان ، لانه ردّ سلام مأمور به ، وينويه ردّ سلام لا قراءة قرآن إذا سلّم الأول بما قدمنا ذكره.

فإن سلّم بغير ما بيّناه ، فلا يجوز للمصلي الردّ عليه ، لأنّه ما تعلّق بذمّته الردّ ، لانّه غير سلام.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر رضي اللّه عنه في مسائل خلافه (6) خبرا عن

ص: 236


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 1 من أبواب الوضوء ، ح 6.
2- سنن أبي داود : ج 1 كتاب الطهارة ص 53 ح 205.
3- في المطبوع : أو على الاستحباب
4- في المطبوع : أو فعلا.
5- أو عليكم السّلام غير موجود في المطبوع
6- الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 141.

محمّد بن مسلم قال : دخلت على أبي جعفر عليه السلام وهو في صلاته فقلت : السّلام عليكم. فقال : السّلام عليكم. قلت كيف أصبحت؟ فسكت ، فلما انصرف فقلت له أيردّ السّلام وهو في الصلاة؟ قال : نعم مثل ما قيل له (1) أورد هذا الخبر إيراد راض به ، مستشهدا به ، محتجا على الخصم بصحّته.

فأمّا ما أورده في نهايته (2) فخبر عثمان بن عيسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى خبر عثمان بن عيسى فقال : ويردّ المصلّي السّلام على من سلّم عليه ويقول له في الرد : سلام عليكم ، ولا يقول : وعليكم السّلام ، وإن قال له المسلّم : عليكم السّلام ، فلا يرد مثل ذلك بل يقول : سلام عليكم (3).

والأصل ما ذكرناه ، لأنّ التحريم يحتاج إلى دليل.

ولا بأس إن عرض للمصلي الأمر المهم الذي لا يحتمل التأخّر ، فيشير بيده ، أو يتنحنح ، أو يسبّح ، ليفهم مراده بذلك.

وكذلك لا بأس بقتل الحيّة ، أو العقرب ، أو ما جرى مجراهما ممّا يخاف ضرره في الصلاة.

ولا يجوز التكفير في الصلاة ، وهو أن يضع يمينه على يساره ، أو يساره على يمينه في حال قيامه ، فمن فعل ذلك مختارا في صلاته فلا صلاة له.

فإن فعله للتقية والخوف لم تبطل صلاته.

ويستحب التوجه بسبع تكبيرات منها واحدة فريضة ، وهي تكبيرة الإحرام بينهنّ ثلاثة أدعية في جميع الصلوات المفروضات والمندوبات.

وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ هذا الحكم والتوجه بالسبع في سبع مواضع

ص: 237


1- الوسائل : الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 1 مع اختلاف يسير.
2- النهاية : آخر باب السهو في الصلاة وأحكامه.
3- الوسائل : الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 2.

فحسب ، في أول كلّ فريضة وفي أوّل ركعة من ركعتي الإحرام ، وفي أوّل ركعة من الوتيرة ، وفي أوّل ركعة من صلاة الليل ، وفي المفردة من الوتر ، وفي أوّل ركعة من نوافل المغرب.

وبعض أصحابنا يقول : في الفرائض الخمس يكون التوجه بالسّبع فحسب.

وبعضهم يقول : لا يكون إلا في الفرائض فحسب.

والأوّل أظهر ، لأنّه داخل في قوله تعالى : ( اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (1) وقوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (2) وهذا دعاء ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في المبسوط (3) وفي مصباحه (4).

والعمل القليل الذي لا يفسد الصلاة لا بأس به وحده ما لا يسمى في العادة كثيرا ، مثل إيماء إلى شي ء ، أو قتل حيّة أو عقرب ، أو تصفيق أو ضرب حائط تنبيها على حاجة ، وما أشبه ذلك.

وبخلاف ذلك الفعل الكثير الذي ليس من أفعال الصلاة فإنّه يفسدها إذا فعله الإنسان عامدا ، وحدّه ما يسمّى في العادة كثيرا بخلاف العمل القليل ، فإنّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رضي اللّه عنه حدّ العمل القليل في المبسوط (5) فقال : وحدّه ما لا يسمى في العادة كثيرا ، فيجب أن يكون حدّ الكثير بخلاف حدّ القليل ، وهو ما يسمى في العادة كثيرا ، مثل الأكل والشرب واللبس وغير ذلك ممّا إذا فعله الإنسان لا يسمّى مصلّيا ، بل يسمّى آكلا وشاربا ، ولا يسمى فاعله في العادة مصلّيا ، فهذا تحقيق الفعل الكثير الذي يفسد الصلاة ، ويورد في الكتب التروك وقواطع الصلاة ، فليلحظ ذلك.

ص: 238


1- الأحزاب : 41
2- غافر : 60
3- المسوط : فصل في تكبيرة الافتتاح وبيان أحكامها.
4- المصباح : التكبيرات السبعة في المواضع السبعة.
5- المبسوط : فصل في ذكر تروك الصلاة وما يقطعها.

باب تفصيل أحكام ما تقدّم ذكره في الصّلاة من المفروض فيها والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز

والذي ذكرناه في صفات الصلاة يشتمل على المفروض منها والمسنون ، وأنا افصّل كل واحد منهما من صاحبه ليعرف الحقيقة فيه إن شاء اللّه.

المفروض من الصلاة أداؤها في وقتها ، واستقبال القبلة لها ، والنية ، والقيام مع القدرة عليه ، أو ما قام مقامه مع العجز عنه ، وتكبيرة الافتتاح ، والقراءة ، والركوع ، والتسبيح فيه أو الذكر لله ، والسجود والتسبيح فيه ، والتشهدان والصلاة على محمّد وآله فيهما معا ، فمن ترك شيئا من هذا متعمدا بطلت صلاته ، وان كان تركه ناسيا فسنبيّن حكمه في باب السهو إن شاء اللّه تعالى.

ومن ترك الطهارة متعمدا وصلّى وجبت عليه إعادة الصلاة ، فإن تركها ناسيا ثمّ ذكر بعد أن صلّى وجبت أيضا عليه الإعادة.

ومن صلّى بغير أذان وإقامة متعمدا ، كانت صلاته ماضية ، ولم يجب عليه إعادتها.

ومن دخل في صلاة قد حضر وقتها بنيّتها ، ثمّ ذكر أن عليه صلاة فائتة ولم يكن قد تضيّق وقت الحاضرة ، فليعدل بنيته إلى الصلاة الفائتة.

وتكبيرة الافتتاح فريضة على ما ذكرناه ، والتلفظ بها واجب ، وأدنى ذلك أن تسمع أذناه ، وتقديم اللّه على أكبر واجب ، والإتيان بأكبر على وزن أفعل واجب.

فمن تركها متعمدا أو ساهيا وجبت عليه الإعادة.

ومن ترك القراءة متعمدا وجبت عليه الإعادة. والواجب من القراءة ما قدّمناه ، وهو الحمد وسورة أخرى في الأوليين للمختار ، ولا يجزيه غير ذلك.

وإن تركها ناسيا حتى يركع ، لم تجب عليه إعادة الصلاة ، ولا حكم سوى الإعادة.

ص: 239

والركوع واجب في كل ركعة ، وأقلّ ما يجزي من الركوع أن ينحني إلى موضع يمكنه وضع يديه على عيني ركبتيه مع الاختيار ، وما زاد على ذلك في الانحناء فمندوب إليه.

ووضع اليدين على الركبتين ، وتفريج الأصابع ، مندوب غير واجب.

والتسبيح في الركوع أو ما قام مقامه من ذكر اللّه واجب تبطل بتركه متعمدا الصلاة.

وإن تركه ناسيا حتى رفع رأسه ، لم يكن عليه شي ء من اعادة وغيرها.

فمن ترك الركوع ناسيا أو متعمدا بطلت صلاته.

وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا : فإن تركه ناسيا ثمّ ذكر في حال السجود ، وجبت عليه الإعادة ، فإن لم يذكر حتى صلّى ركعة أخرى ودخل في الثالثة ثم ذكر ، أسقط الركعة الاولى وبنى كأنّه قد صلّى ركعتين.

وكذلك إن كان قد ترك الركوع في الثانية وذكر في الثالثة ، أسقط الثانية وجعل الثالثة ثانية وتمم الصلاة ، أورد هذا الخبر الشيخ أبو جعفر رضي اللّه عنه في نهايته (1) وليس بواضح ، والصحيح خلاف ذلك ، وهذا القول يخالف أصول المذهب ، لأنّ الإجماع حاصل على أنّه متى لم تسلم الركعتان الأولتان بطلت صلاته ، وكذلك الإجماع حاصل على أنّ الركوع ركن ، متى أخلّ به ساهيا أو عامدا حتى فات وقته وأخذ في حالة اخرى بطلت صلاته ، وانّما أورد الشيخ هذا الخبر على جهته وإن كان اعتقاده بخلافه ، والاعتذار له ما أسلفناه ، والشيخ يرجع عن هذا الإيراد في جميع كتبه ويفتي ببطلان الصلاة.

والسجود فرض في كل ركعة مرتين ، فمن تركهما أو واحدة منهما متعمدا وجبت عليه الإعادة.

ص: 240


1- النهاية : باب فرائض الصلاة وسننها.

وإن تركهما ناسيا ودخل في حالة اخرى وتقضت حالهما ، مثاله تركهما حتى قام إلى الركوع ثم ذكر وجبت عليه الإعادة.

فإن ترك واحدة منهما ناسيا ، ثم ذكر بعد قعوده أو قيامه قبل الركوع ، عاد فسجد سجدة أخرى ، فإذا فرغ منها قام إلى الصلاة فاستأنف القراءة أو التسبيح إن كان مما يسبح فيه.

فإن لم يذكر حتى يركع مضى في صلاته ثمّ قضاها بعد التسليم وعليه سجدتا السهو ، وليس كذلك حكم من ترك السجدتين بمجموعهما ، لأنّهما بمجموعهما ركن وليس كذلك السجدة الواحدة ، فليلحظ ذلك.

والتسبيح في السجود واجب أو الذكر فيه فمن تركه متعمدا وجبت عليه الإعادة ، ومن تركه ناسيا لم يكن عليه شي ء.

والتشهد في الصلاة واجب ، وأقل ما يجزي فيه أن يقول : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فمن تركهما متعمدا وجبت عليه الإعادة ، ومن تركهما ناسيا أو ساهيا قضاهما ، ولم يجب عليه إعادة الصلاة ، ووجب عليه سجدتا السهو. وكذلك الصلاة على الرسول وعلى الأئمة عليهم السلام ، فمن تركهما متعمدا بطلت صلاته ووجب عليه الإعادة ، ومن تركهما ناسيا قضاهما بعد التسليم ولا شي ء عليه غير القضاء ، بخلاف التشهد ، لأنّ من تركه ناسيا قضاه بعد التسليم ووجب عليه سجدتا السهو.

الكلام في التسليم وهو سنة وليس بفرض

على ما قدّمناه من تركه متعمّدا لا تبطل صلاته.

والتكبيرات السبع مع سائر التكبيرات سنة ما عدا تكبيرة الإحرام على الصحيح من المذهب ، وإن كان بعض أصحابنا يذهب إلى وجوب تكبيرة السجود والركوع وهو سلّار.

ص: 241

ورفع اليدين مع كلّ تكبيرة سنة ، فمن ترك ذلك متعمدا أو ناسيا لم تبطل صلاته ، وإن كان السيد المرتضى رضي اللّه عنه يذهب إلى وجوب رفع اليدين مع كل تكبيرة إن أراد أن يكبر التكبيرات المندوبات ، فإن لم يرد أن يكبر وترك التكبيرات لا يوجب عليه الرفع إلا في تكبيرة الإحرام فحسب ، لأنّه لا بدّ أن يكبرها.

والصحيح أنّ رفع اليدين مع كلّ تكبيرة لا يجب ، سواء كانت التكبيرة واجبة أو مندوبة إليها.

ومن ترك الجهر فيما يجهر فيه ، أو جهر فيما يخافت فيه متعمدا ، وجبت عليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسيا لم يكن عليه شي ء.

والقنوت في الصلاة كلّها سنة مؤكدة ، فمن تركه متعمدا كان تاركا سنة وفضيلة ، ومن تركه ناسيا ثم ذكره في الركوع قضاه بعد الركوع استحبابا ، فإن لم يذكر إلا بعد الدخول في الركعة الثالثة مضى في صلاته ثمّ قضاه بعد الفراغ من الصلاة.

وجملة الأمر وعقد الباب انّ ما يقارن حال الصلاة على ثلاثة أقسام : أفعال وكيفياتها وتروك ، وكلّ واحد منهما على ضربين : مفروض ومسنون.

فالمفروض على ضربين. ركن وغير ركن ، فالأركان خمسة : القيام مع القدرة أو ما قام مقامه مع العجز عنه ، والنيّة ، وتكبيرة الإحرام ، والركوع ، والسجود.

فمتى أخلّ بالركن عامدا أو ساهيا ولم يذكر حتّى تقضى حاله ودخل في حالة اخرى ، بطلت صلاته ، سواء خرج وقت الصلاة أو لم يخرج ، وسواء كان الركن من الركعتين الأولتين أو الآخرتين ، ولا يلتفت إلى ما يوجد في بعض الكتب بخلاف ذلك ، فهذا حدّ الركن ، وهو انّه متى أخلّ به عامدا أو ساهيا حتى دخل في حالة اخرى بطلت الصلاة ووجبت إعادتها.

وغير الركن من المفروض ينقسم إلى قسمين : إن أخلّ به عامدا حتى دخل في حالة أخرى الحق بالركن ، وإن أخل به ساهيا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

ص: 242

منه ما لا يجب إعادته ولا الإتيان بحكم آخر بدله ، وهو القراءة وتسبيح الركوع والسجود.

ومنه ما يجب إعادته والإتيان بحكم آخر معه ، وهو التشهد وسجدة واحدة من السجدتين.

ومنه ما يجب تركه ، فإن فعله ناسيا أو ساهيا كالكلام والقيام في حال القعود والتسليم في غير موضعه والجلوس في حال القيام فما هاهنا شي ء يجب إعادته ، بل يجب الإتيان بحكم غيره بدله وهو سجدتا السهو ، وسنبيّن مواضعهما وكيفيتهما إن شاء اللّه تعالى.

والكيفيات الواجبات متى ترك المصلي منها شيئا عامدا بطلت صلاته ، وإن تركها ناسيا أو ساهيا فلها أحكام نذكرها في خلال الأفعال إن شاء اللّه.

وأمّا التروك الواجبة فتنقسم إلى قسمين : أحدهما متى فعله الإنسان عامدا بطلت صلاته ، ومتى فعله ناسيا لا تبطل صلاته بل لها أحكام.

والقسم الثاني متى فعله الإنسان عامدا أو ناسيا بطلت صلاته على كل حال ، سواء كانت الصلاة صلاة متيمم أو صلاة متطهر بالماء على الصحيح من المذهب ، وهو جميع نواقض الطهارة ، فمتى أحدث الإنسان ما ينقض الطهارة عامدا كان أو ساهيا وجبت عليه اعادة صلاته.

وما عدا الناقض من التروك إذا فعله عامدا وجبت الإعادة ، وإذا فعله ناسيا أو ساهيا لا يوجب الإعادة ، بل يوجب بعضه سجدتي السهو مثل الكلام ساهيا ، والتسليم في غير موضعه كذلك فإنّه يوجب سجدتي السهو.

فأمّا الكتف الذي هو التكفير فلا يوجب سجدتي السهو إذا فعله ناسيا ، وكذلك حكم الالتفات إلى ما وراءه ، وهكذا حكم الفعل الكثير وحدّه ما لا يسمّى فاعله في العادة مصلّيا على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه ، فليلحظ هذه الجملة ويحصّل معناها ، فإنّها جليلة الخطر والقدر.

ص: 243

باب أحكام السّهو والشّك في الصّلاة

الشك والسهو لا حكم لهما مع غلبة الظن ، لأنّ غلبة الظنّ تقوم مقام العلم في وجوب العمل عليه مع فقدان دليل العلم ، وانّما يحتاج إلى تفصيل أحكام السهو عند اعتدال الظنّ وتساويه.

وقال بعض أصحابنا : وانّما الحكم لما يتساوى فيه الظنون أو الشك المحض ، بخفض كاف الشك ، وضاد المحض على (1) المجرور ، الذي هو لما ، لا على الظنون ، لأنّ الشك ليس هو عددا فيتساوى كالظنون.

إن اعترض معترض على هذا العبارة فقال : الظنّ معلوم وهو تغليب بالقلب لأحد المجوّزين ظاهري التجويز ، وحدّ الشك هو خطور الشي ء بالبال من غير ترجيح لنفيه أو ثبوته ، فقال : الظنّ إذا تساوى في الشي ء ولم يترجح فقد صار شكا ، فانّ هذه حقيقة على ما مضى من حدّه.

فيقال له : لا يمتنع أن يختلف اللفظ وإن كان المعنى واحدا كما قالوا ، وورد في أدعيتنا عن الأئمة عليهم السلام : إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، والإيمان هو التصديق ، والتصديق هو الايمان.

وكما قال الشاعر : « وهند أتى من دونها النأي والبعد » والبعد هو النأي ، وقال آخر : كذبا ومينا ، والمين : الكذب ، وقال آخر : أقوى وأقفر بعد أم الهيثم ، وهذا كثير جدّا.

ويمكن أن يقال : إذا كان الحدّان مختلفين فهذا غير هذا ، وهو أنّ الشك المحض غير تساوي الظنون وإن كان حكمهما واحدا في الفقه ، والحكم وهو انّ هاهنا ظنونا غير أنّها متساوية ، وفي المسألة الأخرى شكّ محض ، فالعبارة صحيحة.

ص: 244


1- هكذا في المخطوط والمطبوع وفي النظر أنّه سقط منه عطفا وكانت العبارة عطفا على المجرور إلخ.

والسهو المعتدل فيه الظنّ على ضروب ستة : فأوّلها : ما يجب فيه اعادة الصلاة على كلّ حال. وثانيها : ما لا حكم له ولا مزية لوجوده على عدمه. وثالثها : ما يجب فيه العمل على الغالب في الظن. ورابعها : ما يقتضي التدارك والتلافي في الحال أو بعده فيتدارك بعضه لا جميعه. وخامسها : ما يجب فيه الاستظهار والاحتياط في الصلاة. وسادسها : ما يجب فيه جبران الصلاة.

فأمّا الضرب الأوّل وهو المقتضي للإعادة على كلّ حال فهو أن يسهو في الركعتين الأوليين من كلّ رباعية ، أو يسهو في فريضة الغداة ، أو المغرب.

فإن قيل : إذا قلتم الأوليان من كلّ فريضة فلا حاجة لكم أن تقولوا المغرب ، لأنّ لها أوليين بخلاف فريضة الغداة.

قلنا : لأنّ ثالثة المغرب بمنزلة أوّلة الظهر فلذلك ذكرناها.

أو الجمعة مع الإمام يعني الامام والمأموم جميعا ، أو صلاة السفر ، أو يسهو عن الركوع ثمّ لا يذكره حتى يدخل في حالة السجود بحيث لو كان شاكا فيه ودخل في الحال الثانية لا يلتفت إليه ، أو يسهو عن النية ، أو يسهو عن تكبيرة الافتتاح ثم لا يذكرها حتى يركع ، أو يسهو فيترك السجدتين من ركعة أي ركعة كانت ، سواء كانت من الأوليين أو الآخرتين على الصحيح من المذهب ، لأنّهما بمجموعهما ركن على ما بيّناه ، ومن أخلّ بركن حتى تنقضي حاله فيجب عليه إعادة الصلاة على ما سلف القول فيه ، ثم لا يذكر حتى ينفصل من حال السجود ودخل في حالة اخرى بحيث لو كان شاكا لما وجب عليه شي ء ولا يلتفت إليه.

أو ينقص ساهيا من الفرض شيئا من هذا الفرض ركعة أو أكثر ، أو يزيد شيئا ثمّ لا يذكر ذلك حتى يحدث ما ينقض الطهارة ، أو يزيد في صلاته ركعة.

فأمّا من صلّى الظهر مثلا أربع ركعات وجلس في دبر الرابعة فتشهد لها وصلّى على النبي وآله عليهم السلام ثمّ قام ساهيا عن التسليم ، فصلّى ركعة خامسة ، فعلى مذهب من أوجب التسليم فالصلاة باطلة ، وعلى مذهب من لم

ص: 245

يوجبه ، فالأولى أن يقال : الصلاة صحيحة ، لأنّه ما زاد في صلاته ركعة ، لأنّه بقيامه خرج من صلاته ، وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (1) ونعم ما قال.

أو يسهو وهو في حال الصلاة ولم يدر كم صلّى ، ولا حصل شيئا من العدد ، ولم يدر أزاد على الفرض أم نقص.

وكذلك يجب إعادة الصلاة على من سها فدخل فيها بغير طهارة ثم ذكر بعد ذلك ، سواء تقضّى الوقت أو لم يتقض.

وكذلك من صلّى قبل دخول الوقت ساهيا.

ومن صلّى إلى يمين القبلة أو شمالها وذكر والوقت باق ، يجب عليه الإعادة ، فإن علم بعد خروجه فلا اعادة عليه.

وكذلك من كان فرضه الصلاة إلى أربع جهات فصلّى إلى جهة واحدة مع الاختيار والإمكان ومع غير ضرورة ولم تكن تلك الجهة القبلة ثمّ تبين بعد خروج الوقت فإنّه يجب عليه الإعادة.

فأمّا من صلّى صلاة واحدة في حال الضرورة إلى جهة ثم بعد خروج الوقت علم ان كانت الجهة استدبار القبلة ، فبعض أصحابنا يوجب عليه الإعادة على كل حال ، والباقون المحصّلون لا يوجبون الإعادة مع هذه الحال بعد خروج الوقت ، وهذا هو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ويشهد به المتواتر من الأخبار ، وقد قدّمنا ذلك وشرحناه ، وهو اختيار السيد المرتضى رضي اللّه عنه في جوابات الناصريات (2).

ومن صلّى في ثوب نجس مع تقدّم علمه بذلك ساهيا فإنّه يجب عليه إعادة الصلاة ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا بغير خلاف.

ص: 246


1- في الاستبصار : ج 1 ، الباب 219 باب من تيقّن انّه زاد في الصلاة.
2- الناصريات : كتاب الصلاة ، مسألة 80.

فأما إذا لم يتقدّم له العلم بنجاسة وذكر بعد خروج الوقت فلا اعادة عليه ، فإن ذكر والوقت باق ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإعادة ، وقال الباقون لا اعادة عليه ، وهو الصحيح ، لأنّ الإعادة فرض ثان يحتاج إلى دليل مستأنف والأصل براءة الذمة من العبادات ، وبهذا القول يفتي شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في جمله وعقوده (1) وفي استبصاره (2) وإن كان في نهايته (3) يورد من طريق الخبر خلاف ذلك ، وقد بيّنا عذره في هذا الكتاب فيما يورده في نهايته ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا.

ومن صلّى في مكان مغصوب مع تقدّم علمه بالغصب ، سواء كان الموضع دارا أو بستانا.

فإن قيل : البساتين قد ورد أنّه لا بأس بالصلاة فيها من غير اذن من أصحابها ، وهذا مطلق ، وأصحابنا يفتون بذلك من غير تقييد.

قلنا : لا خلاف في أنّ العموم قد يخصّ بالأدلة ، فقد ورد عاما في البساتين وورد الخاص وهو من صلّى في مكان مغصوب يجب عليه الإعادة ، فإذا عملنا بالخاص فقد عملنا ببعض العام ، وإذا عملنا بالعام فقد تركنا الخاص رأسا ، وهذا يعلم من بناء العام على الخاص ، فليلحظ ذلك.

فإن لم يتقدّم له العلم بالغصب فلا اعادة عليه ، سواء علم قبل خروج الوقت أو بعد خروجه بغير خلاف في هذا.

أو (4) لم يكن مختارا للصلاة فيه فلا اعادة عليه أيضا ، سواء خرج منه والوقت باق أو كان مقتضيا بغير خلاف أيضا.

ومن صلّى في ثوب مغصوب كذلك حرفا فحرفا.

ص: 247


1- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في ذكر أحكام السهو ، رقم 5.
2- الاستبصار : كتاب الصلاة ، مسألة 634 و 635.
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب السهو في الصلاة واحكامه. لكن المسألة بخلاف ذلك.
4- في المطبوع : وإن.

ومن سها في صلاة الخسوف والكسوف ، ومن سها في صلاة العيدين إذا كانت واجبة ، ومن سها في صلاة الطواف الواجب ، فجميع ذلك يوجب الإعادة ، لأنّ أصحابنا متفقون على أنّه لا سهو في الأوليين من كل صلاة ، ولا في المغرب ، والفجر ، وصلاة السّفر ، وعلى هذا الإطلاق لا سهو في هذه الصلوات.

وقد ذكر ذلك السيد المرتضى رضي اللّه عنه وذهب إليه في الرسيّات (1).

فأمّا الضرب الثاني من السهو ، وهو الذي لا حكم له ، فهو الذي يكثر ويتواتر ، وحدّه أن يسهو في شي ء واحد ، أو فريضة واحدة ثلاث مرات ، فيسقط بعد ذلك حكمه ، أو يسهو في أكثر الخمس فرائض أعني ثلاث صلوات من الخمس ، كلّ منهن قام إليها فسها فيها ، فيسقط بعد ذلك حكم السهو ، ولا يلتفت إلى سهوه في الفريضة الرابعة.

أو يقع الشك في حال قد تقضّت وأنت في غيرها ، كمن شك في تكبيرة الافتتاح وهو في فاتحة الكتاب ، أو يشك (2) في فاتحة الكتاب وهو في السورة التالية لها ، أو سها في السورة وهو في الركوع.

وقد يلتبس على غير المتأمل عبارة يجدها في الكتب ، وهي من شك في القراءة وهو في حال الركوع ، فيقول : إذا شك في الحمد وهو في حال السورة التالية للحمد ، يجب عليه قراءة الحمد واعادة السورة ، ويحتج بقول أصحابنا : من شك في القراءة وهو قائم قرأ.

فيقال له : نحن نقول بذلك ، وهو أنّه يشك في جميع القراءة قبل انتقاله من سورة إلى غيرها ، فالواجب عليه القراءة ، فأمّا إذا شك في الحمد بعد انتقاله إلى حالة السورة التالية لها فلا يلتفت لأنّه في حال اخرى.

وما أوردناه وقلنا به وصوّرناه ، قد أورده الشيخ المفيد رضي اللّه عنه في

ص: 248


1- رسائل الشريف المرتضى : ج 2 ، ص 386 مسألة 4 من جوابات المسائل الرسية الثانية.
2- في ج وط : أو شك.

رسالته الى ولده ، حرفا فحرفا ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول مذهبنا.

أو يشك في الركوع وهو في حال السجود ، أو يشك في السجود بعد انفصاله من حاله وقيامه إلى الركوع.

وهذا الحكم في جميع أبعاض الصلاة ، إذا شكّ في شي ء من ذلك بعد أن فارقه وانفصل عنه ، فكلّ هذه المواضع لا حكم للسّهو فيها ، اللّهم إلا أن يستيقن فيعمل على اليقين ، ولا حكم أيضا للسّهو في النافلة (1) ، وكذلك لا حكم للسهو في السهو.

أو يشك في التشهد الأول وقد قام إلى الثالثة ، ومن سها عن تسبيح الركوع وقد رفع رأسه.

فأما من قال من أصحابنا وأورد في بعض كتبه في هذا القسم : ومن ترك ركوعا في الركعتين الآخرتين ، وسجد بعده ، حذف السجود ، وأعاد الركوع ، ومن ترك السجدتين في واحدة منهما ، بنى على الركوع في الأول ، وسجد السجدتين ، فهو اعتماد منه على خبر من أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، ولا يترك لأجله أصول المذهب ، وهو أنّ الركن إذا أخلّ به عامدا أو ساهيا وذكره بعد تقضي حاله ووقته ، فإنّه يجب عليه اعادة صلاته بغير خلاف ، ولا خلاف في أنّ الركوع ركن ، وكذلك السجدتين بمجموعهما على ما شرحناه من قبل وبيناه.

فإن قيل : ذلك في الركوع من الأولتين ، وكذلك سجدتا الأوليين.

قلنا : هذا تخصيص بغير دليل.

وأخبار الآحاد غير أدلة تخصّص بها العموم ، بغير خلاف بين أصحابنا قديما وحديثا ، إلا ما يذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في بعض كتبه ، وإن كان في أكثر كتبه يزيّف القول بأخبار الآحاد ، ويردّ القول بها في الاحتجاج ، ويقول : لا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، وهو الحقّ اليقين الذي

ص: 249


1- ليس في ج : « ولا حكم أيضا للسهو في النافلة ».

إطباق الطائفة عليه خلفا وسلفا ، يعيبون الذاهبين إلى خلافه أشدّ عيب ، على ما بيّناه في خطبة كتابنا هذا عن المرتضى رضي اللّه عنه وغيره من أصحابنا ، ومن خالف من أصحابنا في شي ء ، وكان معروف العين ، فلا يلتفت إلى خلافه ، لأنّ الحجّة في غير قوله ، لأنّه من المعلوم انّه غير معصوم ، والحجّة في قول المعصوم ، فليلحظ ذلك.

وأمّا الضرب الثالث من السهو ، وهو الذي يعمل فيه على غالب الظن ، فهو كمن سها فلم يدر صلّى اثنتين أم ثلاثا ، وغلب على ظنّه أحد الأمرين ، فالواجب العمل على ما غلب في ظنّه ، واطراح الأمر الآخر.

وكذلك إن كان شكّه بين الثلاث والأربع ، والاثنتين والأربع ، أو غير ذلك من الأعداد ، بعد أن يكون اليقين حاصلا بالأولتين ، فالواجب في جميع هذا الشك العمل على ما هو أقوى وأغلب في ظنه ، وأرجح عنده.

وكذلك إذا سها وهو قائم ، فلم يدر أركع أم لم يركع ، وغلب على ظنه أنّه لم يركع ، واعتراه وهم ضعيف أنّه ركع ، وجب عليه البناء على الأغلب وفعل الركوع ، وكذلك إن كان الأغلب انّه قد ركع ، بنى عليه ، وكذلك القول في السجود ، والتشهد ، وسائر الأفعال ، إذا التبس أمرها ، وكان الظن قويا في إحدى الجهات ، انّ الواجب عليه العمل على الأغلب في الظن والأقوى.

وأمّا الضرب الرابع من السهو وهو المقتضي للتلافي في الحال ، كمن سها عن قراءة فاتحة الكتاب حتى ابتدأ بالسورة التي تليها ، ثم ذكر ، فيجب عليه أن يتلافى ذلك بقطع السورة ، والابتداء بالفاتحة ، ثم يعود إلى السورة ، أو إلى غيرها ، وهذا القول يعضد ما قدّمناه.

ولا يتوهم أنّ هذا عين المسألة التي قدّمناها وقلنا : إنّ من شك في الحمد وهو في السورة التالية لها ، فلا يلتفت إلى شكه ، ويمضي فيما أخذ فيه ، لأنّ هاهنا ذكر بعد سهوه وشكه ، وما قلناه لما أخذ في السورة التالية ما ذكر أنّ الحمد لم

ص: 250

يقرأها ، بل شكّ في ذلك ، وما تيقن ، ولا ذكر أنّه لم يقرأ الحمد ، فليتأمّل ذلك.

وكذلك إن كان سها عن تكبيرة الافتتاح ، وذكرها وهو في القراءة قبل الركوع ، فعليه أن يكبّرها ، ثم يقرأ.

وكذلك إن سها عن الركوع ، وذكر أنّه لم يركع ، وهو قائم فعليه أن يركع.

وكذلك إن نسي سجدة من السجدتين ، وذكرها في حال القيام قبل أن يركع ، وجب عليه أن يرسل نفسه فيسجدها ، ثم يعود إلى القيام ، فإن لم يذكرها حتى يركع الثانية ، وجب عليه أن يقضيها بعد التسليم ، ويسجد سجدتي السهو على ما سنذكره.

وكذلك إن سها عن التشهد الأول حتى قام ، وذكره في حال القيام ، فعليه أن يجلس ، ويتشهد ، ثم يرجع الى القيام.

وكذلك إن سلّم ساهيا في الجلوس للتشهد الأخير ، قبل أن يتشهّد ، أو قبل أن يصلّي على النبيّ وعلى آله عليهم السلام ، وذكر ذلك وهو جالس ، من غير أن يتكلّم ، أو قد تكلّم ، لا فرق بين الأمرين ، فعليه أن يعيد التشهد ، أو ما فاته منه ، ويسجد سجدتي السهو ، لأنّه سلّم في غير موضع التسليم.

وأمّا الضّرب الخامس من السهو ، وهو الموجب للاحتياط للصلاة ، فكمن سها ، فلم يدر أركع أم لم يركع ، وهو قائم لم يركع ، وتساوت في ذلك ظنونه ، فعليه أن يركع ، ليكون على يقين.

فإن ركع ، ثم ذكر وهو في حال الركوع أنّه كان ركع ، فعليه أن يرسل نفسه إلى السجود إرسالا ، من غير أن يرفع رأسه ، ولا يقيم صلبه.

فإن كان ذكره أنّه قد كان ركع بعد القيام من الركوع والانتصاب ، كان عليه إعادة الصلاة ، لزيادته فيها ركوعا ، وسواء كان هذا الحكم في الركعتين الأوليين ، أو الركعتين الأخريين ، على الصحيح من الأقوال ، وهذا مذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه ، والشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله

ص: 251

وعقوده (1).

وقال في نهايته : ومن شك في الركوع أو السجود في الركعتين الأوليين أعاد الصلاة ، فإن كان شكّه في الركوع في الثالثة أو الرابعة وهو قائم ، فليركع ، فإن ذكر في حال ركوعه انّه كان قد ركع ، أرسل نفسه إلى السجود ، من غير أن يرفع رأسه فإن ذكر بعد رفع رأسه من الركوع أنّه كان قد ركع ، أعاد الصلاة (2) فخص الإرسال بالركعتين الأخريين.

والصحيح ما ذهب إليه في الجمل والعقود (3) ، لأنّه موافق لأصول المذهب ، لأنّ الإنسان إذا شك في شي ء قبل الانتقال من حاله ، فالواجب عليه الإتيان به ، ليكون على يقين ، ولا يجوز له هدم فعله وإبطال صلاته.

وقال في هذا الكتاب أيضا : فإن شك في السجدتين وهو قاعد أو قد قام قبل أن يركع عاد فسجد السجدتين ، فإن ذكر بعد ذلك أنّه كان قد سجدهما ، أعاد الصلاة ، فإن شك بعد ما يركع مضى في صلاته ، وليس عليه شي ء.

وقال أيضا : فإن شكّ في واحدة من السجدتين وهو قاعد أو قائم قبل الركوع ، فليسجد ، فإن ذكر بعد ذلك أنّه كان سجد لم يكن عليه شي ء ، فإن كان شكّه فيها بعد الركوع ، مضى في صلاته وليس عليه شي ء (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا الذي حكيته عن الشيخ أبي جعفر رضي اللّه عنه في نهايته مخالف لما ذهب إليه في جمله وعقوده ، ولما عليه أصول المذهب والعمل والفتوى من فقهاء العصابة ، لأنّ هذه المسائل من القسم الذي لا حكم له ، وهو من شك في شي ء وقد انتقل إلى حالة اخرى ، مثاله من شكّ في تكبيرة الافتتاح وهو في حال القراءة أو في القراءة ، وهو في حال الركوع ، أو في الركوع وهو في حال السجود ، أو شك في السجود وهو في حال القيام ، أو في

ص: 252


1- الجمل والعقود : في فصل 11 من كتاب الصلاة في ذكر أحكام السهو.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب السهو في الصلاة وأحكامه.
3- الجمل والعقود : في فصل 11 من كتاب الصلاة في ذكر أحكام السهو.
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب السهو في الصلاة وأحكامه.

التشهد الأول وقد قام إلى الثالثة.

وهذا مذهب أصحابنا بأجمعهم لا خلاف بينهم في ذلك ، وهذا أيضا مذهبه في الجمل والعقود (1) والمبسوط (2) والاقتصاد (3) وسائر كتبه.

وقد بيّنا وجه الاعتذار له في غير موضع ، واعتذر أيضا هو لنفسه عما يوجد في كتاب النهاية في خطبة المبسوط ، على ما أومأنا إليه من قبل ، وقال : قد أوردت الألفاظ على جهتها ولم أغيّر شيئا منها ، وذكرت ما ورد من الأخبار.

وقلنا : إنّه رضي اللّه عنه أورده أيضا إيرادا لا اعتقادا لصحته ، والفتوى والعمل به ، فهذا وجه الاعتذار له ، وإلا كيف يقول من شك في السجدتين وهو قاعد أو قد قام قبل أن يركع عاد فسجدهما ، ولا خلاف في أنّه إذا شك فيهما بعد قيامه وانفصاله من حال السجود ، لا يلتفت إلى شكه ، وكان وجود شكه كعدمه بغير خلاف ، بل إذا كان شكه في السجدتين في حال سجوده وجلوسه قبل قيامه ، فإنّه يجب عليه أن يسجدهما ، ليكون على يقين من براءة ذمته ، لأنّ حالهما ما تقضّت ، فأمّا إذا قام من حال السجود ، ثم شك فيهما لا يلتفت إلى الشك ، ولا يرجع عن يقينه بشكه ، لأنّه ما قام إلا بعد يقينه بسجودهما ، فإذا لا فرق بين أن يشك فيهما بعد ركوعه ، أو بعد قيامه ، وقبل ركوعه ، فليلحظ ذلك ، وكذلك قوله إن شك في واحدة من السجدتين وهو قاعد أو قائم قبل الركوع ، فليسجد ، أمّا سجوده وهو قاعد ، فصحيح ، وأمّا وهو قائم ، فليس بصحيح ، على ما بيّناه وحققناه ، فليتأمل ، ولا يقلّد إلّا الأدلة ، دون المسطور ، عاد القول إلى تمام الضرب الخامس.

وكذلك إن سها فلم يدر أسجد اثنتين أم واحدة ، وقد رفع رأسه قبل القيام ، فعليه أن يسجد واحدة ، حتى يكون على يقين من الاثنتين ، فإن سجدها

ص: 253


1- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في ذكر أحكام السهو فصل 11.
2- المبسوط : كتاب الصلاة ، في أحكام السهو والشك في الصلاة.
3- الاقتصاد : كتاب الصلاة ، فصل في حكم السهو صفحة 266 الطبع الحديث.

ثم ذكر انّه قد كان سجد سجدتين ، وجب عليه إعادة الصلاة ، لمكان زيادته فيها ركنا.

وإن سها فلم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثا ، وتكافت في ذلك ظنونه وأوهامه ، فعليه أن يبني على الثلاث ، ويتمّم صلاته ، ثم يأتي بعد سلامه بركعتين ، من جلوس ، يقومان مقام ركعة واحدة من قيام ، فإن كان بانيا على النقصان ، كان فيما فعله تمام صلاته ، وإن كان بنى على الكمال ، كانت الركعتان نافلة ، وإن شاء بدلا من الركعتين من جلوس ، أن يصلّي ركعة من قيام ، يتشهد فيها ويسلّم ، جاز له ذلك ، فبكل واحد من الأمرين جاءت الرواية.

فإن كان سهوه وشكّه بين الثلاث والأربع ، وتساوت ظنونه ، فحكمه ما ذكرناه بعينه.

فإن سها بين اثنتين وأربع ، وتساوت ظنونه ، فليبن على أربع فإذا سلّم ، قام فصلّى ركعتين ، يقرأ في كلّ واحدة منهما فاتحة الكتاب ، أو يسبّح فيهما ويتشهد ويسلم ، فإن كان الذي بنى عليه ركعتين ، فهاتان الركعتان تمام صلاته ، وإن كان الذي بنى عليه أربعا ، كانت هاتان له نافلة.

وإن كان سهوه بين ركعتين وثلاث وأربع ، بنى على الأربع وتشهد وسلّم ، ثمّ قام فصلى ركعتين من قيام ، فإذا تشهد وسلّم منهما ، صلّى ركعتين من جلوس ، فإن كان الذي بنى عليه على الحقيقة أربع ركعات ، كان ما صلاة نافلة ، وإن كان اثنتين ، فالركعتان اللتان من قيام تمام صلاته ، واللتان من جلوس نافلة ، وإن كان ثلاثا ، فالركعتان من جلوس ، وهما مقام واحدة من قيام فيها ، تمام الصلاة ، والركعتان من قيام نافلة ، وهذا المسمى بالاحتياط.

وجملة الأمر فيه وعقد بابه ، أنّ مسائله أربع في الفريضة فحسب ، وجميعها عند شكه وتساوي ظنونه ، أعني ظنون المصلي يبني على أكثر ركعاته ، وأكثر صلاته ، على ما سطره مصنّفو أصحابنا رحمهم اللّه ، ولا ينتظر (1) شيئا آخر ، ولا

ص: 254


1- في ط وج ولا يسطرون.

يصلّي ركعة أخرى ويسلّم ، إلا في مسألة واحدة من الأربع لا يسلم وقت شكه وتساويه ، بل الواجب عليه الإتيان بما بقي عليه ، وهي الركعة المتيقنة ، فإذا أتى بها ، فالواجب عليه السلام والإتيان بعد السّلام بركعة احتياطا ، وهي من شكّ بين الاثنتين والثلاث ، فلا يجوز له هاهنا أن يسلّم قبل الإتيان بالركعة المتيقنة ، لأنّه قاطع على أنّه بقي عليه ركعة من فريضته.

فإن قيل : فما بنى على الأكثر. قلنا : قد بنى على الأكثر ، وهي الثلاث ، وصلاته رباعية ، والثلاث أكثر من الاثنتين ، فهو متيقّن أنّه قد بقي عليه ركعة قبل سلامه.

وأيضا هذا الحكم أعني الاحتياط بعد التسليم بالركعات ، لا يكون إلا في الصلوات الرباعيات مع سلامة الأولتين.

فأصحابنا يقولون يبنى على الأكثر ، ويسلّم ، ويعنون بذلك ، كأنّه قد صلّى الأربع ، بحيث يسلّم بعد الأربع لا قبل الأربع ، لأن محل السّلام في الرباعيات بعد الأربع ، فلأجل هذا قالوا يبني على الأربع ، بحيث أنّه إذا لم يبن على الأربع فكيف يجوز له أن يسلّم قبل تمام الصلاة متعمدا ، ومن سلّم قبل تمام صلاته متعمدا بطلت صلاته؟ فقالوا : يبني على الأربع ، أي كأنّه في الحكم قد فرغ من جميع ركعاته وصلاته ويسلّم بعد ذلك ، فيكون السلام في محلّه ، ثم بعد التسليم يبني على الأقل ، كأنّه ما صلّى إلا ركعتين ، أو كأنّه ما صلّى إلا ثلاثا ، ليكون على يقين من براءة ذمّته ، فقبل سلامه يبنى على الأكثر ، لأجل التسليم ، على ما نبهنا عليه ، وبعد التسليم يبني على الأقل ، كأنّه ما صلّى إلا ما تيقنه وما شك فيه يأتي به ليقطع على براءة ذمّته.

وقد قال السيد المرتضى رحمه اللّه في جوابات المسائل الناصريات (1) المسألة الثانية والمائة ، قال صاحب المسائل : من شك في الأولتين استأنف الصلاة ،

ص: 255


1- المسائل الناصريات : كتاب الصلاة ، المسألة 102.

ومن شكّ في الأخريين بنى على اليقين ، قال المرتضى : هذا مذهبنا ، وهو الصحيح عندنا.

ألا ترى إلى قوله رضي اللّه عنه : بنى على اليقين ، إن أراد بنى على اليقين بعد سلامه ويصلّي ما تساوت ظنونه فيه وتوهمه ، فقول صحيح محقق على ما بيّناه ، وإن أراد وقت شكه وقبل سلامه فهذا ، بخلاف عبارة أصحابنا ، لأنّهم يقولون يبني على الأكثر ويسلّم ، والأكثر هو ما توهمه ، ولم يقطع عليه ، فيبني كأنّه قد صلاه بحيث يسلّم ، ولو بنى هاهنا على اليقين ، لما سلّم ، ولا كان يجوز له التسليم ، لأنّ يقينه ثابت في الركعتين الأولتين فحسب ، وهو في شك ممّا عداهما ، فلو بنى عليهما ، لما سلّم ولأتى بما بقي عليه ، بعد قطعه على يقينه قبل سلامه وانفصاله بسلامه منها ، فليلحظ ذلك بعين التأمل الصافي.

وركعات الاحتياط تجب فيها النية ، احتياطا واجبا قربة إلى اللّه ، وتجب فيها تكبيرة الإحرام.

ومن أحدث بعد سلامه وقبل صلاة الاحتياط ، فإنّه لا يفسد صلاته ، بل يجب عليه الإتيان بالاحتياط ، لأنّ هذا ما أحدث في الصلاة ، بل أحدث بعد خروجه من الصلاة بالتسليم ، والاحتياط حكم آخر متجدد غير الصلاة الأولة ، وإن كان من توابعها ومتعلقاتها.

فإن شك وهو قائم هل قيامه الذي هو فيه للركعة الرابعة أو للركعة الخامسة ، فإنّه يجب عليه الجلوس من غير ركوع ، فإذا جلس تشهد وسلّم وقام بعد سلامه فصلّى ركعة احتياطا ، وقد برئت ذمّته ، ولا يجوز له أن يركع في حال قيامه قبل أن يجلس ، لأنّه لا يأمن أن يكون قد صلّى أربعا ، فيكون ركوعه زيادة في صلاته ، فتفسد الصلاة.

فإن قيل : لا يأمن أن يكون قد صلّى أربعا. قلنا : قد تمت صلاته ، وصلاته لركعة الاحتياط بعد تسليمه ، غير مفسدة لها ، لأنّها منفصلة عنها بالتسليم.

ص: 256

فإن قيل : فلم لا يجزيه سجدتا السهو ، ولا يجب عليه ركعة الاحتياط. قلنا : مواضع سجدتي السهو محصورة مضبوطة ، وليس هذا واحدا منها ، ولنا في ذلك مسألة ، قد جنحنا الكلام فيها ، وفرّعناه ، وسألنا أنفسنا عما تعرض ، وبلغنا فيها أبعد الغايات.

وأمّا الضرب السّادس من السهو ، وهو ما يجب فيه جبران الصلاة ، فهو كمن سها عن سجدة من السجدتين ، ثم ذكرها بعد الركوع في الثانية ، فعليه أن يمضي في صلاته ، فإذا سلّم قضى تلك السجدة ، وسجد بعدها سجدتي السهو ، وقد روي (1) في هذا الموضع أنّه يقضي السجدة ، وليس عليه سجدتا السهو.

ومن نسي التشهد الأول ثم ذكره بعد الركوع في الثالثة ، فعليه ، أن يمضي في صلاته ، فإذا سلّم قضاه ، بأن يتشهد ثمّ يسجد سجدتي السهو.

فإن نسي الصلاة على محمّد وآله ، دون التشهد ، حتى جاوز محله ووقته ، فلا اعادة عليه ولا قضاؤه ، لأنّ حمله على التشهد قياس لا نقول به ، فليلحظ ذلك ويحصّل ويتأمّل.

ومن تكلّم في صلاته ساهيا ، بما لا يكون مثله في الصلاة ، فعليه سجدتا السهو.

ومن سلّم في غير موضع التسليم ساهيا ، فعليه سجدتا السهو.

ومن قعد في حال قيام أو قام في حال قعود فعليه سجدتا السهو.

ومن سها فلم يدر أربعا صلّى أم خمسا وتساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو.

فإن قيل : الجبران لا يكون إلا فيما يقطع المصلّي على أنّه فعله أو تركه ناسيا ، فيجبر فعله ذلك بسجدتي السهو ، وليس هو مثل الاحتياط ، فكيف القول في مسألة من سها بين الأربع والخمس.

قلنا أيضا : المصلي قاطع على الأربع ، ويشك في الركعة الخامسة ، فقد صار

ص: 257


1- الوسائل : الباب 14 من أبواب السجود ، ح 4 و 6.

قاطعا على الأربع ، وفي شك من الخمس ، فما خلا من القطع.

فإن سها المصلي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرات كثيرة ، في صلاة واحدة ، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو ، أو سجدتا السهو عن الجميع؟

قلنا : إن كانت المرات من جنس واحد ، فمرّة واحدة يجب سجدتا السهو ، مثلا تكلم ساهيا في الركعة الأوّلة ، وكذلك في باقي الركعات ، فإنّه لا يجب عليه تكرار السجدات ، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب ، لأنّه لا دليل عليه ، وقولهم عليهم السلام : من تكلّم في صلاته ساهيا يجب عليه سجدتا السهو (1) ، وما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.

فأمّا إذا اختلف الجنس ، فالأولى عندي بل الواجب ، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو ، لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس ، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ ، لأنّ هذا قد تكلّم مثلا ، وقام في حال قعود ، وأخل بإحدى السجدتين ، وشك بين الأربع والخمس ، وأخل بالتشهد الأول ، ولم يذكره إلا بعد الركوع في الثالثة ، وقالوا عليهم السلام : من فعل كذا يجب عليه سجدتا السهو ، ومن فعل كذا في صلاته ساهيا يجب عليه سجدتا السهو ، وهذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر ، ولا دليل على تداخلهما ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقق.

وهما سجدتان بعد التسليم ، على الصحيح من المذهب ، سواء كانتا لزيادة في الصلاة أو لنقصان - وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّهما إن كانتا لنقصان ، كانتا قبل التسليم ، وإن كانتا لزيادة كانتا بعد التسليم ، والأول أظهر - بغير ركوع ، ولا قراءة ، ولا تكبيرة الإحرام ، بل لا بدّ من النية للوجوب.

والذي يقال في كل واحدة منهما : بسم اللّه وباللّه اللّهم صلّ على محمّد وآل

ص: 258


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

محمّد ، وإن شاء قال مكان ذلك : بسم اللّه وباللّه السّلام عليك أيّها النبي ورحمة اللّه بالجميع وردت الرواية (1)

ثم يرفع رأسه ، ويتشهد تشهدا خفيفا ، ومعنى ذلك أن يأتي بالواجب من الألفاظ فحسب ، ويسلّم بعده.

ولا بدّ من الكون على طهارة إذا فعلهما ، فإن أحدث قبل الإتيان بهما وبعد سلامه ، لا يجب عليه اعادة صلاته ، بل يجب عليه التطهّر ، وفعلهما ، ولنا فيهما مسألة قد جنحنا الكلام فيها وأشبعناه وانتهينا في ذلك إلى الغاية القصوى.

وبين أصحابنا فيما يوجب سجدتي السهو خلاف ، فذهب بعضهم إلى أنّها أربع مواضع ، وقال آخرون في خمس مواضع ، وقال الباقون الأكثرون المحققون في ست مواضع ، وهو الذي اخترناه ، لما فيه من الاحتياط ، لأنّ العبادات يجب أن يحتاط لها ، ولا يحتاط عليها.

وقد بينا انّه إذا سها عن التشهد الأول ولم يذكره حتى ركع في الثالثة ، فالواجب عليه المضي في صلاته ، فإذا سلّم منها قضاه وسجد سجدتي السهو ، فإن أحدث بعد سلامه وقبل الإتيان بالتشهد المنسيّ وقبل سجدتي السهو ، فلا تبطل صلاته بحدثه الناقض لطهارته ، بعد سلامه منها ، لأنّه بسلامه انفصل منها ، فلم يكن حدثه في صلاته ، بل بعد خروجه منها بالتسليم الواجب عليه.

فإذا كان المنسي هو التشهد الأخير ، وأحدث ما ينقض طهارته قبل الإتيان به ، فالواجب عليه اعادة صلاته من أوّلها ، مستأنفا لها ، لأنّه بعد في قيد صلاته ، لم يخرج منها ، ولا فرغ بسلام يجب عليه ، بل ما فعله من السلام ساهيا في غير موضعه ، كلا سلام ، بل هو في قيد الصلاة بعد ، لم يخرج منها بحال ، فليلحظ الفرق بين المسألتين والتسليمين ، فإنّه واضح للمتأمّل المحصّل.

ص: 259


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

باب القول في لباس المصلّي والقول في أماكن الصّلاة وما يجوز أو تكره الصلاة إليه أو عليه وما يتعلق بذلك

كل مصلّ من الذكران يجب عليه ستر عورتيه ، وهما قبله ودبره ، وقد روي أنّ عورة الرجل ما بين سرّته إلى ركبتيه (1) ، وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا ، وهو الفقيه ابن البراج ، وهو مذهب الشافعي ، والإجماع من فقهاء أهل البيت على المذهب الأول ، وهو القبل والدبر فحسب ، وما عدا ذلك فندب مستحبّ ، وبعضه أفضل من بعض ، وأكمل من الجميع التجمّل في الصلاة بلبس جميل الثياب وأن يكون معمّما محنكا مسرولا مرتديا برداء.

فأمّا العريان فإن قدر على ما يستر به عورته من خرق أو ورق أو حشيش أو طين يطلي به ، وجب عليه أن يسترها ، فإن لم يقدر على ذلك ، صلّى قائما ، مؤميا بالركوع والسجود ، سواء كان بحيث لا يطلع عليه غيره ، أو بحيث يطلع عليه غيره ، وقد روي أنّه إن كان بحيث يطلع عليه غيره ، صلّى جالسا مؤميا (2).

فإن كانوا جماعة صلوا صفا واحدا من جلوس بلا خلاف ، ويتقدّمهم إمامهم بركبتيه.

وأمّا المرأة الحرّة البالغة ، فإنّه يجب عليها ستر رأسها وبدنها من قرنها إلى قدمها ، ولا يجب عليها ستر الوجه والكفين والقدمين ، فان سترت ذلك كان أفضل ، والأولى لها ستر جميع بدنها ما خلا وجهها فحسب ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف (3) والجمل والعقود (4) وبه افتي ، لعموم الأخبار.

ص: 260


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب آداب الحمّام.
2- الوسائل : الباب 50 من أبواب لباس المصلي ، ح 3 و 5 و 7.
3- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 144 الا انه لم يذكر فيه القدمين.
4- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في فصل ستر العورة.

والفضل لها في ثلاثة أثواب ، مقنعة وقميص ودرع.

وأمّا الأمة فلا يجب عليها ستر رأسها ، سواء كانت مطلقة أو مدبرة ، أو أم ولد ، مزوجة كانت أو غير مزوجة ، أو مكاتبة مشروطة عليها ، فأمّا ما عدا الرأس فإنّه يجب عليها تغطيته من جميع جسدها.

والصبية التي لم تبلغ فلا يجب عليها تغطية الرأس ، وحكمها حكم الأمة ، فإن بلغت في خلال الصلاة بالحيض ، بطلت صلاتها ، وإن بلغت بغير ذلك وجب عليها ستر رأسها ، وتغطيته مع قدرتها على ذلك ، وكذلك حكم الأمة إذا أعتقت في خلال الصلاة.

ولا بأس بالصلاة في قميص واحد ، إذا كان يستر ظاهر الجلدة ، ولا يشف ولا يصف ما تحته.

ويستحب له إذا صلّى مؤتزرا بغير قميص أن يلقي على كتفه شيئا ولو كالخيط ، ومن كان عليه قميص يشفّ ، فالأولى أن يأتزر تحته ، ولا يجعل المئزر فوقه ، فإنّه مكروه.

ولا بأس أن يصلّي الرجل في إزار واحد ، يأتزر ببعضه ويرتدي بالبعض الآخر.

ويكره السدل في الصلاة ، كما تفعل اليهود ، وهو أن يتلفف بالإزار ، ولا يرفعه على كتفيه ، وهذا تفسير أهل اللغة في اشتمال الصماء ، وهو اختيار السيد المرتضى رضي اللّه عنه.

فأمّا تفسير الفقهاء لاشتمال الصماء الذي هو السدل ، قالوا هو أن يلتحف بالإزار ، ويدخل طرفيه من تحت يده ، ويجعلهما جميعا على منكب واحد.

وكذلك يكره التوشح بالإزار فوق القميص.

ويكره الصلاة في القباء المشدود ، إلا من ضرورة ، في حرب أو غيرها.

ويجوز الصلاة في ثمانية أجناس من اللباس : القطن ، والكتان ، وجميع ما ينبت من الأرض من أنواع الحشيش والنبات ، ووبر الخز الخالص لا جلده ؛

ص: 261

لأنّ جلد ما لا يؤكل لحمه لا يجوز الصلاة فيه بغير خلاف من غير استثناء ، وكذلك صوف ووبر وشعر ما لا يؤكل لحمه ، إلا وبر الخز ، والصوف والشعر والوبر إذا كان ممّا يؤكل لحمه ، سواء كان مذكّى ما أخذ منه ، أو غير مذكى ، وجلد ما يؤكل لحمه إذا كان مذكّى ، فإن كان ميتا ، فلا تجوز الصلاة فيه ، ولو دبغ ألف دبغة.

وينبغي أن يجمع شرطين ، أحدهما جواز التصرف فيه ، إمّا بالملك أو الإباحة ، والثاني أن يكون خاليا من نجاسة لم يعف الشارع عنها ، كالدّم الذي قدّمناه.

ولا تجوز الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه ، سواء كان مذكّى ، أو لم يكن كذلك ، ولا في وبره ولا صوفه ولا شعره أيضا ، إلا وبر الدابة المسماة بالخز فحسب.

فأمّا جلد ما لا يؤكل لحمه ، فلا تجوز الصلاة فيه بغير استثناء ، على ما قدّمناه ، فعلى هذا لا تجوز الصلاة في السمّور والسنجاب والفنك والثعالب والأرانب وغير ذلك ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا أنّه لا بأس بالصلاة في السنجاب ، ذكره في النهاية (1) شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه وعاد عن ذلك في مسائل الخلاف فقال : لا تجوز الصلاة عندنا في جلد ما لا يؤكل لحمه ، ثمّ قال : وقد وردت رواية (2) في السنجاب (3) فجعل ذلك رواية.

ورجع عن ذلك أيضا في الجزء الثاني من نهايته ، في باب ما يحل من الميتة ويحرم من الذبيحة ، فقال : لا تجوز الصلاة في جلود السباع كلّها ، مثل النمر ، والذئب ، والفهد ، والسبع ، والسمّور والسنجاب ، والأرنب ، وما أشبه ذلك من السباع ، والبهائم ، وقد رويت (4) رخصة في جواز الصلاة في السمّور والسنجاب والفنك (5).

ص: 262


1- النهاية : في فصل ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب لباس المصلي ، ح 3.
3- الخلاف : في مسألة 256 من كتاب الصلاة
4- في ط وج : وردت.
5- النهاية : وقال في ذاك الموضع - والضرب الآخر يجوز استعماله إذا ذكي ودبغ غير انه لا يجوز الصلاة فيه وهي جلود السباع كلها مثل النمر والذئب والفهد والسبع والسمور والسنجاب والأرنب إلخ.

والأصل ما قدّمناه ، فجعل ذلك هاهنا رواية.

ولا يجوز الصلاة في الإبريسم المحض للرجال ، ولا بأس بما كان ممزوجا بغير الإبريسم الذي يجوز الصلاة فيه ، سواء كان السدي ، أو اللحمة ، أو أقلّ ، أو أكثر ، بعد أن يكون ينسب إليه بالجزئية كعشر وتسع وثمن وسبع وأمثال ذلك.

ويجوز الصلاة في الإبريسم المحض للنساء ، وإن تنزهن عنه كان أفضل.

وتكره الصلاة في الثوب المشبع الصبغ.

وكذا تكره في الثوب الذي عليه الصور والتماثيل من الحيوان ، فأمّا صور غير الحيوان فلا بأس ، ولا كراهة في ذلك ، كصور الأشجار.

ويجوز الصلاة في الخف والنعل العربية ، يعني كل نعل لا يغطي ظاهر القدم ، ممّا يجوز المسح عليها.

ولا بأس بالصلاة في الجرموق ، بضم الجيم وهو الخف الواسع الذي يلبس فوق الخف ، أقصر منه.

وعلى المصلّي أن يكون ثوبه وبدنه ومصلّاه خاليا من النجاسات وجوبا ، إلّا مصلّاه على طريق الندب ، ولا يجوز الصلاة في ثوب فيه شي ء من النجاسة ، قليلا أو كثيرا سوى الدم الّذي قدمنا شرحه.

وإذا غسل الثوب من الدم ، فبقي أثر النجاسة بعد زوال عين ما أتى عليه الغسل ، جازت الصلاة فيه.

ويستحب صبغه بشي ء يذهب أثره على ما قدّمناه.

ولا يجوز الصلاة في ثوب فيه خمر ، أو شي ء من الأشربة المسكرة ، وكذلك الفقاع.

وما لا تتم الصلاة فيه - من جميع الملابس ، وما ينطلق عليه اسم الملبوس منفردا ، كالتكة والجورب بفتح الجيم ، والقلنسوة بفتح القاف واللام وضمّ

ص: 263

السين ، والخف ، والنعل ، والخاتم ، والدملج بضمّ الدال واللام ، للمرأة ، والخلخال ، والمنطقة ، وغير ذلك ، مثل السيف والسكين - تجوز الصلاة فيه ، وإن كان عليه نجاسة وأمّا ما لا يكون ملبوسا ، ولا ينطلق اسم الملبوس عليه ، لا تجوز الصلاة فيه إذا كان فيه نجاسة ، لأنّه يكون حاملا للنجاسة ، والأوّل خرج بالإجماع من الفرقة على ذلك.

ولا يظن ظان أنّه لا يجوز إلا في التكة والجورب والقلنسوة والخف والنعل فحسب ، لما نجده في بعض الكتب.

وذلك أنّ أصحابنا قالوا : كل ما لا يتم الصلاة به منفردا تجوز الصلاة فيه وإن كان عليه نجاسة ، ثم ضربوا المثل فقالوا : مثل التكة والخف ، وعددوا أشياء على طريق ضرب المثل ، والمثل عند المحققين غير مستوعب للممثل ، فلا يتوهم انّهم لمّا لم يذكروا غير ما ذكروا ممّا لا تجوز الصلاة فيه منفردا واقتصروا عليه أنّهم يمنعون من غيره - فقد قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة في كتاب صلاة الخوف : إذا أصاب السيف الصقيل نجاسة ، فمسح ذلك بخرقة من أصحابنا من قال أنّه يطهر ، ومنهم من قال لا يطهر ، غير أنّه يجوز الصلاة فيه ، لأنّه لا تتم الصلاة فيه منفردا - فلو أرادوا الاقتصار على ما ضربوا المثل فيه لما قال ذلك ، ولما تعداه إلى غيره ، فليلحظ فإنما أوردت هذا تنبيها.

ويجوز الصلاة في جميع الأراضي ، لأنّ الأرض كلّها مسجد يجوز الصلاة فيها ، إلا ما كان منها مغصوبا ، أو يكون موضع السجود منه نجسا.

وأفضل الأماكن للصلاة المساجد المبنية لها ، إلا نافلة صلاة الليل خاصّة ، فإنّها تكره في المساجد.

وتكره الصلاة في وادي ضجنان ، وهو جبل بتهامة ، ووادي الشقرة بفتح الشين وكسر القاف وهي واحدة الشقر وهو شقائق النعمان ، قال الشاعر : « وعلى الخيل دماء كالشقر » يريد كشقايق النعمان.

ص: 264

والأولى عندي أن وادي الشقرة ، موضع بعينه مخصوص ، سواء كان فيه شقائق النعمان ، أو لم يكن ، وليس كل وادي يكون فيه شقائق النعمان يكره الصلاة فيه ، بل بالموضع المخصوص فحسب ، وهو بطريق مكة ، لأنّ أصحابنا قالوا : يكره الصلاة في طريق مكة بأربعة مواضع ، من جملتها وادي الشقرة ، والذي ينبه على ما اخترناه ، ما ذكره ابن الكلبي في كتاب الأوائل وأسماء المدن ، قال : زرود والشقرة ابنتا يثرب بن قابية بن مهليل (1) بن رام بن عبيل (2) بن عوض بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام هذا آخر كلام ابن الكلبي النسابة ، فقد جعل زرود والشقرة موضعين سمّيا باسم امرأتين ، وهو أبصر بهذا الشأن.

والبيداء ، لأنّها أرض خسف على ما روي في الأخبار ، أنّ جيش السفياني ، يأتي إليها قاصدا مدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فيخسف اللّه تعالى به تلك الأرض (3) ، وبينها وبين ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة ميل واحد وهو ثلاث فرسخ فحسب.

وكذلك يكره الصلاة في كل أرض خسف ، ولهذا كره أمير المؤمنين عليه السلام ، الصلاة في أرض بابل (4) فلمّا عبر الفرات إلى الجانب الغربي وفاته لأجل ذلك أوّل الوقت ، ردّت له الشمس إلى موضعها في أول الوقت ، وصلّى بأصحابه صلاة العصر ، ولا يحل أن يعتقد انّ الشمس غابت ، ودخل الليل ، وخرج وقت العصر بالكلية ، وما صلّى الفريضة عليه السلام ، لأنّ هذا من معتقده جهل بعصمته عليه السلام ، لأنّه يكون مخلا بالواجب المضيّق عليه ، وهذا لا يقوله من عرف إمامته واعتقد عصمته عليه السلام.

وذات الصلاصل ، والصلاصل جمع صلصال وهي الأرض التي لها صوت ودوي.

ص: 265


1- ج : مهلهل
2- في ط وج : عقيل.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب مكان المصلي.
4- أورده في الوسائل : في الباب 38 من أبواب مكان المصلي ، ح 1.

وبين المقابر على الصحيح من المذهب.

وأرض الرمل المنهال الذي لا تستقر الجبهة عليه ، وأرض السبخة بفتح الباء ، فأمّا إذا كان نعتا للأرض كقولك الأرض السبخة ، فبكسر الباء ، فليلحظ هذا الفرق ، فإنّه ذكره الخليل بن أحمد رحمه اللّه في كتاب العين ، وهو ربّ ذلك وجهبذه.

ومعاطن الإبل ، وهي مباركها ، حول المياه للشرب ، هذا حقيقة المعطن عند أهل اللغة ، إلا انّ أهل الشرع لم يخصّصوا ذلك بمبرك دون مبرك.

وقرى النّمل ، وجوف الوادي ، ومجاري المياه ، فعلى هذا الصلاة في الزورق ، تكره مع القدرة على الجدد.

وجوادّ الطرق بتشديد الدّال والحمّامات ، ما عدا البيت المسمّى بالمسلخ ، فإنّه ليس بحمّام لعدم الاشتقاق.

وتكره الفريضة جوف الكعبة خاصّة ، ويستحب صلاة النوافل فيها ، وقال بعض أصحابنا : لا تجوز الصلاة الفريضة مع الاختيار في جوف الكعبة على طريق الحظر ، ذهب إلى ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل الخلاف (1) وإن كان في نهايته (2) ، وجمله وعقوده (3) ، يذهب إلى ما اخترناه ، وهو الصحيح لأنّه إجماع الطائفة ، ولا دليل على بطلان الصلاة ، ولا حظرها في الكعبة.

ويستحب أن يجعل بينه وبين ما يمر به ساترا ولو عنزة ، والعنزة العصا التي لها زجّ حديد ولا تسمّى عنزة إلا أن يكون لها زج حديد ، وتكون قائمة مغروزة في الأرض ، هذا إذا خاف اعتراض ما يعترض بينه وبين الجهة التي يؤمّها ، أو حجرا ، أو كومة - بضمّ الكاف - من تراب.

ص: 266


1- الخلاف : مسألة 168 من كتاب الصلاة.
2- النهاية : في باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
3- الجمل والعقود : في فصل فيما يجوز الصلاة عليه من المكان.

وليس يقطع صلاته مرور إنسان ، أو امرأة أو غيرهما من الدواب ، معترضا لقبلته ، وعليه أن يدرأ ذلك ما استطاع بالتسبيح والإشارة.

ويكره للرجل أن يصلّي وامرأة تصلي متقدمة له ، أو محاذية لجهته ، ولا يكون بينه وبينها عشرة أذرع ، على الصحيح من المذهب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى حظر ذلك ، وبطلان الصلاتين وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) اعتمادا على خبر (2) رواه عمار الساباطي ، وعمار هذا فطحي المذهب ، كافر ملعون ، والأوّل مذهب السيد المرتضى رحمه اللّه ، ذكره في مصباحه ، وهو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأنّ قواطع الصلاة مضبوطة ، قد ضبطها مشيخة الفقهاء بالعدد ، ومن جملتهم شيخنا أبو جعفر ، قد ضبط ذلك بالحصر ، ولم يذكر المسألة ولا تعرض لها بقول ، وأيّ فقه ونظر يقتضي أنّ المرأة تصلّي في ملكها والرجل يصلّي في ملكه وهو آخر الأوقات وتكليف الصلاة عليهما جميعا تكليف مضيّق ، أو هما في محمل كذلك يكون الصلاة باطلة ، وإذا لم يكن عليها إجماع ، ولا دليل قاطع ، فردها إلى أصول المذهب هو الواجب ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، خصوصا إذا أوردها ورواها الكفّار ومخالفو المذهب مثل عمّار وغيره.

وقد روى الثقات ما يخالف هذه الرواية الضعيفة ، ويضادها ويعارضها ، فالعامل بأخبار الآحاد لا يعمل بالخبر إلا إذا كان راويه عدلا.

ولا بأس أن يصلّي الرجل وفي جهة قبلته إنسان نائم ، ولا فرق بين أن يكون ذكرا أو أنثى ، والأفضل أن يكون بينه وبينه ما يستر بعض المصلّي عن المواجهة.

ولا يجوز السجود إلا على الأرض الطاهرة ، وعلى ما أنبتته ، إلا ما أكل أو

ص: 267


1- النهاية : في باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
2- الوسائل : الباب 7 من أبواب مكان المصلي ، ح 1.

لبس ، ويدخل في المأكول جميع الثمار التي يتغذى بها ، وما لبس انّما هو القطن والكتان وما اتخذ منهما.

وعقد الباب (1) انّ السجود لا يجوز إلا على الأرض ، أو ما أنبتته الأرض ، ما لم يكن مأكولا أو ملبوسا بمجرى العادة.

ولا يجوز السجود على الزجاج ، ولا على جميع المعادن ، من النّورة ، والحديد ، والصفر ، والنحاس ، والذهب ، والفضة ، والقار ، والرصاص ، والعقيق ، وغير ذلك من المعادن.

ولا يجوز السجود على الرياش ، ولا على الجلود ، ولا على الرماد ، ولا على الحصر المنسوجة بالسيور ، وهي المدينة ، إذا كانت السيور ظاهرة ، تقع الجبهة عليها ، فإن كانت السيور غير ظاهرة ، والنبات ظاهرا فلا بأس بها ، وصارت كغيرها من الحصر.

ولا بأس بالسجود على القرطاس ، ويكره المكتوب لمن يراه ويحسن القراءة ، لأنّه ربما شغله عن صلاته ، وما خرج عن معنى الأرض وما أنبتته (2) إلا ما استثنيناه فلا يجوز السجود عليه ، وذكر جميعه يطول.

وقد ذهب بعض أصحابنا وقال : لا يجوز الصلاة في ثوب قد أصابته نجاسة ، مع العلم بذلك ، أو غلبة الظن ، فمن صلّى فيه والحال ما وصفناه وجبت عليه الإعادة أمّا قوله « مع العلم » فصحيح ، وأمّا قوله « أو غلبة الظن » فغير واضح ، لأنّ الأشياء على أصل الطهارة ، فلا يرجع عن هذا الأصل إلا بعلم ، فأمّا بغلبة ظن ، فلا يرجع عن المعلوم بالمظنون.

ويكره الصلاة في الثياب السود كلّها ولا يكره في العمامة السوداء ، ولا الخف الأسود.

ص: 268


1- في المطبوع : وجملة الأمر وعقد الباب
2- ج : ما أنبتته الأرض وما استثنيناه.

ويكره ان يصلّي الإنسان في عمامة لا حنك لها ، وهذا هو الاقتعاط ، « بالقاف والتاء المنقطة نقطتين من فوق ، والعين غير المعجمة ، والطاء غير المعجمة » ، المنهي عنه في الحديث ، يرويه المخالف والمؤلف قد ذكره أبو عبيدة القسم بن سلام في غريب الحديث.

فأمّا الصلاة في الثوب الذي يكون تحت وبر الثعلب ، أو الثوب الذي فوقه ، فجائزة ، لأنّ هذه الأوبار طاهرة ، ولو كانت نجسة لما تعدّت نجاستها إلى الثوب ، لقوله عليه السلام : ما بين يابسين من نجاسة (1) وقد يوجد في بعض الكتب أنّه لا يجوز الصلاة في الثوب الذي يكون تحت وبر الثعلب ، ولا الذي فوقه ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) على جهة الإيراد لا الفتوى ، والاعتقاد.

ولا يجوز الصلاة في القلنسوة ، والتكة ، إذا عملا من وبر الأرانب.

وتكره الصلاة فيهما إذا عملا من حرير محض.

وتكره الصلاة إذا كان مع الإنسان شي ء من حديد مشهور ، مثل السكين ، والسيف.

وإذا عمل كافر من أيّ أجناس الكفار ، مجوسيّا كان أو غيره ، ثوبا لمسلم ، لا تجوز الصلاة فيه إلا بعد غسله.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : وإذا عمل مجوسي ثوبا لمسلم ، يستحب أن لا يصلي فيه إلا بعد غسله (3) وهذا خبر من أخبار الآحاد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، بل اعتقاده وفتواه ما ذكره في مبسوطة أنّه لا يجوز الصلاة فيه إلا بعد تطهيره (4) وأيضا إجماع أصحابنا منعقد ، على أن أسئار جميع الكفّار

ص: 269


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة فيما بأيدينا من كتب الأحاديث.
2- النهاية : باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
3- النهاية : باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
4- المبسوط : في فصل فيما يجوز الصلاة فيه من اللباس.

نجسة ، بغير خلاف بينهم.

ويكره أن تصلّي المرأة وفي يدها خلاخل لها صوت ، أو رجلها ، على ما روي في بعض الأخبار (1).

ويكره الصلاة في الخاتم الذي فيه صورة حيوان.

ويكره الصلاة في بيوت النيران ، والخمور ، وبيوت المجوس ، والبيع ، والكنائس.

ويكره أن يصلّي وفي قبلته نار مضرمة.

ويكره صلاته وفي قبلته سلاح مشهور ، كل ذلك على سبيل الكراهة دون الحظر والتحريم ، وإن كان قد ورد في ألفاظ أخبار الآحاد انّه لا يجوز الصلاة في شي ء من ذلك (2) ، لأنّه لا دليل على بطلان الصلاة من كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع.

وقد ورد ما يعارض تلك الأخبار ، قال عبد اللّه بن جعفر الحميري في كتابه قرب الإسناد : سأل عليّ بن جعفر أخاه موسى بن جعفر عن الخاتم ، يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير ، أيصلي فيه؟ قال : لا بأس (3) وقد قلنا أنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة يأتي بلفظ لا يجوز ، وإذا كان شديد الاستحباب يأتي بلفظ الوجوب ، وانّما يعرف ذلك بشواهد الحال وقرائنها.

ولا تجوز الصلاة في المكان المغصوب مع تقدّم العلم بذلك ، والاختيار على ما ذكرناه ، سواء كان الغاصب أو غيره ، مع علمه ، وكذلك لا يجوز الصلاة في الثوب المغصوب ، مع تقدّم العلم بذلك ، فان تقدّم العلم بالغصب للمكان والثوب ، ثم نسي ذلك وسها العالم بهما وقت صلاته ، فلا اعادة عليه ، وحمله

ص: 270


1- الوسائل : الباب 62 من أبواب لباس المصلي ، ح 1 مع اختلاف يسير.
2- الوسائل : الباب 30 من أبواب مكان المصلي.
3- الوسائل : الباب 32 من أبواب مكان المصلي ، ح 10.

على النجاسة في الثوب ، وتقدّم العلم بها ، قياس محض ، ونحن لا نقول به ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : رفع عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه (1) ولعمري إنّ المراد بذلك أحكام النسيان ، فمن أوجب الإعادة فما رفع عنه الأحكام ، ولو لا إجماع أصحابنا المنعقد على إعادة صلاة من تقدّم علمه بالنجاسة ونسيها ، لما أوجبنا الإعادة عليه ، وليس معنا ، فيما نحن فيه ، ذلك الإجماع ، ولا يلتفت إلى ما يوجد ، إن وجد في بعض المصنّفات لرجل من أصحابنا معروف ، فليلحظ ذلك ، فالعامل بذلك مقلّد لما يجده في بعض المختصرات (2).

ومن اضطر إلى الصلاة فوق الكعبة ، فليقم قائما عليها ويصلي ، وقد روي : فليستلق على قفاه ، وليتوجّه إلى البيت المعمور ، وليؤم إيماء (3).

ويكره أن يصلّي وفي قبلته مصحف مفتوح.

وإذا خاف الإنسان الحرّ الشديد من السجود على الأرض ، أو على الحصى ، ولم يكن معه ما يسجد عليه ، لا بأس أن يسجد على كمّه ، فإن لم يكن معه ثوب ، سجد على كفّه.

وإذا حصل في موضع فيه ثلج ، ولم يكن معه ما يسجد عليه ، ولا يقدر على الأرض ، لم يكن بالسجود عليه بأس ، بعد أن يصلّبه بيده.

ويكره للإنسان الصلاة وهو معقوص الشعر ، فإن صلّى كذلك متعمدا ، جازت صلاته ، ولا يجب عليه الإعادة وقد روي أنّه يجب عليه إعادة الصلاة (4) قال بذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه وأصول المذهب يقتضي أن لا اعادة عليه ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، وهذا خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا غير معمول عليها ، ولا يلتفت

ص: 271


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب قواطع الصلاة
2- ج : كتب المختصرات.
3- الوسائل : الباب 17 من أبواب القبلة ، ح 7 مع اختلاف يسير.
4- الوسائل : الباب 36 من أبواب لباس المصلي ، ح 1.

إليها ، وكررنا القول في ذلك ، والإجماع غير حاصل على بطلان الصلاة ، وقواطعها مضبوطة ، محصورة ، قد حصرها فقهاء أصحابنا ، ولم يعدّدوا في جملة ذلك الشعر المعقوص للرجال ، بل سلار قال في رسالته : ويكره الصلاة في شعر معقوص (1).

باب أحكام قضاء الفائت من الصّلوات

كلّ صلاة فريضة فاتت ، إمّا للنسيان أو غيره من الأسباب ، فيجب قضاؤها في حال الذكر لها ، من غير توان في سائر الأوقات ، إلا أن يكون آخر وقت فريضة حاضرة يغلب فيه على ظنّ المصلّي أنّه متى شرع في قضاء الفائتة خرج الوقت ، وفاتت الصلاة الحاضر وقتها ، فيجب أن يبدأ بالحاضرة ، ويعقّب بالفائتة ، والأوقات التي ذكرناها أنّ النهي تناولها ، يجب فيها قضاء الصلاة المفروضة ، عند الذكر لها ، وانّما يكره فيها ابتداء النوافل ، ومتى لم يخش ضيق الوقت الحاضر عن قضاء الماضية ، وصلاة الوقت ، وجب تقديم قضاء الصّلاة الفائتة ، والتعقيب بصلاة الوقت.

والترتيب واجب في قضاء الصلوات ، يبدأ بقضاء الأوّل ، فالأوّل ، سواء دخل في حدّ التكرار ، أو لم يدخل ، فإن لم يكن يتسع الوقت لقضاء جميع الفوائت ، وخشي من فوت صلاة الوقت ، بدأ بما يتسع الوقت له ، من القضاء على الترتيب ، ثمّ عقّب بصلاة الوقت ، وأتى بعد ذلك بباقي القضاء فإن صلّى الحاضر وقتها قبل تضيّق الوقت يجب أن يكون ما فعله غير مجزئ عنه ، وان يجب عليه اعادة تلك الصلاة ، في آخر وقتها ، لأنّه منهي عن هذه الصلاة ، والنهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء ، ولأنّ هذه الصلاة أيضا مفعولة في غير وقتها المشروع لها ، لأنّه إذا ذكر أن عليه فريضة فائتة ، فقد تعيّن عليه بالذكر أداء

ص: 272


1- المراسم كتاب الصلاة ، عند ذكر احكام لباس المصلّي.

تلك الفائتة ، في ذلك الوقت بعينه ، وقد تعيّن الوجوب وضاق ، فإذا صلّى في هذا الوقت غير هذه الصلاة ، كان مصلّيا لها في غير وقتها المشروع لها ، فيجب عليه الإعادة لا محالة.

فإن قيل : وجوب الإعادة يحتاج إلى دليل. فقد ذكرنا الدليل على ذلك.

فإن قيل : فقد أوقعها مكلّفها بنيّتها المخصوصة ، وأتي بجميع أحكامها ، وشروطها في وقت يصح فعلها فيه بإجماع ، فاعادتها بعد فعلها على هذا الوجه يحتاج إلى دليل.

قيل له : لا نسلّم أنّه أوقع هذه الصلاة على جميع شرائطها المشروعة ، وفي وقت يصح فعلها فيه ، لأنّ من شرط هذه الصلاة مع ذكر الفائتة ، أن يؤدّي بعد قضاء الفائتة ، فالوقت الذي أداها فيه وقت لم يضرب لها الآن ، وإن كان يصحّ أن يكون وقتا لها لو لم يذكر الفائتة ، وهذا ممّا لا شبهة فيه للمتأمّل ، وأيضا فالفائتة وقتها مضيّق ، والإتيان بها بعد الذكر لها ، واجب مضيّق ، والمؤداة قبل تضيّق وقتها ، الإتيان بها واجب موسّع له بدل وهو العزم على أدائه قبل تضيّق وقته وخروجه ، والفائت واجب مضيّق لا بدل له ، فالواجب فعل الفائت المضيّق الذي لا بدل له ، وترك الواجب الموسّع الذي له بدل يقوم مقامه ، إلى أن يتضيق وقته ، وكل ما منع من الواجب المضيّق ، فهو قبيح بغير خلاف ، والمؤداة تمنع من الواجب المضيّق ، ففعلها لا يجوز ، لأنّه قبيح منهي عنه ، مثاله ردّ الوديعة بعد مطالبة صاحبها بها ، فإنّه واجب مضيّق ، فلما زالت الشمس طالب بالوديعة صاحبها المودّع ، فقام إلى صلاة الظهر ليصلّيها بعد مطالبة صاحبها بها ، فإذا صلّى والحال ما وصفناه ، فإنّ صلاته باطلة بلا خلاف ، لأنّه عدل من فعل واجب مضيّق إلى فعل واجب موسّع ، فمنع من الواجب المضيّق ، فكان قبيحا على ما قررناه ، ولنا في المضايقة كتاب خلاصة الاستدلال ، على من منع من صحة المضايقة بالاعتلال ، بلغنا فيه إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، بسطنا القول فيه ، وجنحناه وتغلغلنا في شعابه ، وذكرنا فيه ما لم يوجد في كتاب بانفراده ، فمن

ص: 273

أراد الوقوف عليه فليطلبه من حيث أرشدناه.

ومن عليه صلوات كثيرة لا يمكنه قضاؤها إلا في زمان طويل ، فالواجب أن يقضيها في كلّ زمان ، إلا في وقت فريضة حاضرة يخاف فوتها متى تشاغل بالقضاء ، فيقدّم حينئذ أداء الحاضرة ، ثم يعود إلى التشاغل بالقضاء ، فإن كان محتاجا إلى تعيّش يسدّ به جوعته وما لا يمكنه دفعه من خلته (1) كان ذلك الزمان الذي يتشاغل فيه بالتعيّش ، مستثنى من أوقات القضاء ، كما استثنينا منها زمان الصلاة الحاضرة وقتها مع تضيّقه ، ولا يجوز له الزيادة على مقدار الزمان الذي لا بدّ منه في طلب ما يمسك الرمق ، وانّما أبحنا له العدول عن القضاء الواجب المتعيّن لضرورة التعيّش ، فيجب أن يكون ما زاد عليها غير مباح ، وحكم من عليه فرض نفقة في وجوب تحصيلها كحكم نفقته في نفسه. فأمّا فرض يومه وليلته في زمان التعيّش ، فلا يجوز له أن يفعله إلا في آخر الوقت ، كما قلناه من قبل ، فانّ الوجه في ذلك لا يتغيّر بإباحة التعيّش ، فأمّا النوم فيجزي ما يمسك الحياة منه في وجوب التشاغل به مجرى ما يمسك الحياة من الغذاء وتحصيله.

وإذا دخل المصلّي في صلاة العصر ، فلمّا صلّى بعضها ذكر أنّ عليه صلاة الظهر ، فالواجب عليه نقل نيّته إلى صلاة الظهر ، ونوى أنّ ما صلاه ويصلّيه إنّما هو عن الظهر ، ويصلّي العصر بعدها ، وكذلك إن صلّى من المغرب بعضها وذكر أنّ عليه صلاة العصر ، أو صلّى من العشاء الآخرة ركعة أو ما زاد عليها وذكر أنّ عليه المغرب يجب عليه نقل النيّة ، فإن لم يفعل بطلت الصلاة التي افتتحها ، وما أجزأت عن التي ذكرها ، لأنّه لم يصلّها بنيتها.

ومن نسي صلاة فريضة من الخمس وأشكل عليه أيها هي بعينها ، فليصلّ اثنتين وثلاثا وأربعا بثلاث تكبيرات إحرام ، وثلاث نيات ، فإن كان الذي

ص: 274


1- ج : طلبه. ط : علّته.

فاته الفجر كانت الركعتان عنها ، لأنّه نوى بهما الفجر ، وإن كانت المغرب فالثلاث عنها ، لأنّه نوى بها المغرب ، وإن كان الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة فالأربع بدل عنها ، لأنّه نوى الذي فاته ، وعلمه اللّه تعالى ، لأنّ تعيينه ليس في مقدوره ، بل ينوي أصلّي إن ظهرا فظهر ، وإن عصرا فعصر ، وإن عشاء آخرة الذي فاتني (1) فعشاء آخرة.

فإن كان فاتته تلك الصلاة مرات كثيرة فعل ذلك وصلّى اثنتين وثلاثا وأربعا مرّات كثيرة ، إلى أن يغلب على ظنه براءة ذمّته ، وأنّه قد قضى ما فاته ، هذا في حقّ الحاضر ومن في حكمه من المسافرين.

فأمّا المسافر إذا فاتته صلاة من الخمس ولم يدر أيّها هي ، فالواجب عليه أن يصلّي الخمس صلوات ، الظهر ركعتين والعصر كذلك ، والعشاء الآخرة كذلك ، والمغرب ثلاث ركعات ، والفجر ركعتين ، وحمل ذلك على المسألة المتقدّمة قياس وهو باطل عندنا ، ولو لا الإجماع المنعقد على عين تلك المسألة ، لما قلنا به ، لأنّ الصلاة في الذمّة بيقين ، ولا تبرأ إلا بيقين مثله ، ولم يورد ويجمع أصحابنا إلا على صورة المسألة وتعيينها في حقّ من فرضه اربع ركعات من الحاضرين ومن في حكمهم ، فالتجاوز عن ذلك قياس بغير خلاف ، وفيه ما فيه فليلحظ ذلك.

ومن فاتته الخمس بأجمعها ، فليصلّها بأجمعها ، مرتبا لها ، بخمس نيات ، وخمس تكبيرات إحرام ، وسبع عشرة ركعة ، عددا إن كان حاضرا ، وإن كان مسافرا وقد فاتته في حال سفره ، فإحدى عشرة ركعة.

فإن فاته ذلك مرارا كثيرة ، وأيّاما متتابعة ، ولم يحصها عددا ، ولا أيّاما ، فليصلّ على هذا الاعتبار ، ومن هذا العدد ، ويد من ذلك ، ويكثر منه حتى يغلب على ظنّه أنّه قد قضى ما فاته.

ص: 275


1- ج : آخرة فعشاء.

وقضاء النوافل مستحبّ ، وليس بواجب.

ولا يجوز أن يبدأ بقضاء شي ء من النوافل حتى يؤدي جميع الفرائض الفائتة والحاضر وقتها.

ويجوز أن يقضي نوافل الليل بالليل ، ونوافل النّهار بالنّهار ، ونوافل النّهار بالليل ، ونوافل الليل بالنّهار ، فبكل وردت الروايات (1) ويقضي الوتر وترا كما فاته (2) وإذا أسلم الكافر ، وطهرت الحائض والنفساء ، وبلغ الصبي ، وأفاق المجنون ، والمغمى عليه ، قبل غروب الشمس ، في وقت يتسع لفعل فرض الظهر والعصر معا والطهارة لهما ، وجب على كل واحد منهم أداء الصلاتين ، أو قضاؤهما إن أخّرهما ، وكذلك إن تغيّرت أحوالهم من آخر الليل ، صلوا المغرب والعشاء الآخرة ، وصلاة الليل ، وقضوا إن فرّطوا.

ومتى حاضت الطاهر ، بعد إن كان يصحّ لها لو صلّت في أول الوقت الصلاة لزمها قضاء تلك الصلاة.

والمغمى عليه لمرض أو غيره ممّا لا يكون هو السبب في دخوله عليه بمعصية يرتكبها ، لا يجب عليه قضاء ما فاته من الصلوات إذا أفاق ، بل يجب أن يصلّي الصلاة التي أفاق في وقتها ، وقد روي أنّه إذا أفاق آخر النهار ، قضى صلاة ذلك اليوم ، وإذا أفاق آخر الليل ، قضى صلاة تلك الليلة (3). ولا بدّ من أن يعتبر في إفاقته الحدّ الذي يتمكّن معه من الصلاة ، لأنّه إذا لم يفق على هذا الوجه ، كانت إفاقته كإغمائه ، وقد روي في المغمى عليه أنّه يقضي صلاة ثلاثة أيام إذا أفاق (4). وروي أنّه يقضي صلاة شهر (5) ، والمعول عليه ، (6) الوجه الأول.

ص: 276


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب قضاء الصلوات والباب 39 من أبواب المواقيت.
2- الوسائل : أورد ما يدل على ذلك في الباب 10 من أبواب قضاء الصلوات.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 19 و 21 و 22.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 19 و 21 و 22.
5- الوسائل : الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 4 و 5 و 6
6- ج : المعمول عليه.

والمرتد إذا تاب ، وجب عليه قضاء جميع ما تركه في حال ردّته من الصلاة وغيرها من العبادات ، لأنّه بحكم الإسلام.

والعليل إذا وجبت عليه صلاة ، فأخّرها عن أوقاتها حتى مات ، قضاها عنه ولده الأكبر من الذكران ، ويقضي عنه ما فاته من الصيام الذي فرّط فيه ، ولا يقضي عنه إلا الصلاة الفائتة في حال مرض موته فحسب ، دون ما فاته من الصلوات ، في حال غير مرض الموت.

باب صلاة الجماعة وأحكامها وكيفيتها وشروطها وأحكام الأئمة والمأمومين وغير ذلك ممّا يتعلّق بها

الاجتماع في صلاة الفرائض كلّها مستحب ، مندوب إليه ، مؤكد ، وفيه فضل كبير ، وثواب جزيل.

وأقلّ ما تكون الجماعة وتنعقد ، باثنين فصاعدا ، فإذا حضر اثنان ، فليتقدّم أحدهما ، ويقف الآخر على جانبه الأيمن ، ولا بدّ من تقدّم الإمام عليه بقليل ، ووقوفه على جانبه الأيمن على طريق الندب والاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولو وقف خلفه أو عن شماله جازت الصلاة ، وإنّما ذلك سنة الموقف.

وإذا كانوا جماعة ، فليتقدّم أحدهم ويقف في وسط الصفوف ، بارزا ، ويقف الباقون خلفه ، إلا إذا كانوا عراة ، فإنّه لا يتقدمهم أمامهم بل يقف معهم في الصف ، غير بارز كبروز غير العريان ، إلا أنّه لا بدّ من تقدّمه بقليل على المأمومين ، فإن وقف الإمام في طرف ، وجعل المأمومين كلّهم على يمينه ، أو شماله ، جازت الصلاة ، إلا أنّ ذلك أفضل ، لأنّه من سنن موقف صلاة الجماعات.

ص: 277

واعلم أنّ الصلاة في الجماعة أفضل من صلاة الفسد (1) فقد (2) روي أنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بخمس وعشرين صلاة.

ويكره لمن تمكّن من الجماعة ولم يكن له عذر يخصّه ، أو يتعلّق بمن يأتم به ، أن يخلّ بها ، ويعدل عنها.

ويستحبّ لمن يريد دخول المسجد ان يتعاهد نعله ، أو خفه ، أو غير ذلك ، مما هو عليه أو معه ، لئلا يكون فيه شي ء من النجاسات ، سواء كانت النجاسة ممّا عفي عنها في الصلاة ، أو لم يعف بابه (3) ويقدّم رجله اليمنى على اليسرى ، وإذا خرج ، قدّم رجله اليسرى على اليمنى ، عكس دخوله وخروجه إلى المبرز ، ويسلم على الحاضرين فيه ، وإن كانوا في صلاة ، فإن كانوا ممّن ينكرون ذلك ، سلّم تسليما خفيا ، ونوى الملائكة بسلامه ، ويصلّي ركعتين قبل جلوسه ، إن لم يكن الوقت قد تضيّق للفريضة.

ويكره له أن يبصق ، ويمتخط فيه ، فإن اضطر إلى ذلك ، لم يبصق في جهة القبلة ، وانحرف يمينا أو شمالا ، ويستر ما يلقيه من فيه ، ولا ينبغي أن يتخذ المساجد متاجر ، ولا مجالس للحديث ، لا سيّما بالهزل ، وما لا يتضمن ذكر اللّه تعالى وتعظيمه.

وبناء المساجد فيه فضل كبير وثواب جزيل ، ويستحب أن لا يعلى المساجد بل تكون وسطا ، وروي أنّه يستحب أن لا تكون مظلّلة ، ولا يجوز أن تكون مزخرفة ، أو مذهبة ، أو فيها شي ء من التصاوير ، أو مشرفة بل المستحب أن تبنى جما (4).

ويكره أن تبنى المنارة في وسط المسجد ، بل ينبغي أن تبنى مع حائطه ، أو خارجه ، ويكره أن تعلّى عليه على ما روي في الأخبار (5).

ص: 278


1- ج : المنفرد.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 1 - 3 مع الزيادة في الأول.
3- في المطبوع : فإذا دخل فإنّه يقدّم
4- الوسائل : الباب 9 من أبواب أحكام المساجد.
5- الوسائل : الباب 9 من أبواب أحكام المساجد.

ويكره أن يكون في المساجد محاريب داخلة في الحائط.

وينبغي أن يكون الميضاة على أبوابها ، ولا يجوز أن تكون داخلها.

وإذا استهدم مسجد فينبغي أن يعاد مع التمكن من ذلك ، فإن لم يتمكن من إعادته فلا بأس باستعمال آلته في بناء غيره من المساجد.

ولا يجوز أن يؤخذ شي ء من المساجد ، لا في ملك ولا في طريق.

ويكره الجواز فيها ، وجعل ذلك طريقا ليقرّب عليه ممرّه.

وينبغي أن تجنّب المجانين والصبيان ، والضالة ، وإقامة الحدود ، وإنشاد الشعر ، ورفع الأصوات إلا بذكر اللّه تعالى.

ولا بأس بالأحكام فيها ، وليس ذلك بمكروه ، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام حكم في جامع الكوفة ، وقضى فيه بين الناس ، بلا خلاف ، ودكّة القضاء إلى يومنا هذا معروفة ، وقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ينبغي أن تجنّب المساجد الأحكام (1) ورجع عن ذلك في مسائل الخلاف (2) وهذا هو الصحيح ، وانّما أورد ما رواه من أخبار الآحاد ، ولو لم يكن الأمر على ما قلناه ، كان يكون مناقضا لأقواله.

ولا يجوز التوضؤ من الغائط والبول وازالة النجاسات في المساجد ، ولا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك.

ويكره النوم في المساجد كلّها وأشدّها كراهة المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى اللّه عليه وآله.

وإذا أجنب الإنسان في أحد هذين المسجدين ، تيمّم من مكانه على طريق الوجوب ، ثم يخرج على ما قدّمناه ، ولا يلزمه ذلك في غيرهما.

ويستحب كنس المساجد ، وتنظيفها ، والإسراج فيها.

ص: 279


1- النهاية : في باب فضل المساجد والصلاة فيها
2- الخلاف : كتاب القضاء ، مسألة 4.

ولا ينبغي لمن أكل شيئا من المؤذيات ، مثل الثوم والبصل والكراث أن يقرب المسجد ، حتى تزول رائحته عنه.

ولا يجوز الدفن في شي ء من المساجد ، ومن كان في داره مسجد قد جعله للصلاة ، جاز له تغييره ، وتبديله ، وتوسيعه ، وتضييقه ، حسب ما يكون أصلح له ، لأنّه لم يخرجه عن ملكه بالوقفية ، فإن وقفه باللفظ والنيّة فلا يجوز له شي ء من ذلك.

وإذا بنى خارج داره في ملكه مسجدا فان وقفه (1) ونوى القربة وصلى فيه الناس ، ودخلوه زال ملكه عنه ، وإن لم ينو ذلك فملكه باق بحاله.

ويكره سائر الصناعات في المساجد.

ويكره كشف العورة فيها ، ويستحب ستر ما بين السرة إلى الركبة.

وصلاة الفريضة في المسجد أفضل منها في البيت ، وصلاة نافلة الليل خاصة في البيت ، أفضل منها في المسجد.

ولا تصح الصلاة إلا خلف معتقد الحقّ بأسره ، عدل في ديانته ، وحدّ العدل ، هو الذي لا يخلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، ومعه من القرآن ما يصح به الصلاة ، فإن ضمّ إلى ذلك صفات أخر فذلك على جهة الفضل ، بل الواجب والشرط في صحة الانعقاد شرطان : العدالة والقراءة فحسب ، فأمّا الفقه ، والهجرة ، والسن ، وصباحة الوجه ، فعلى جهة الأفضل والأولى والأحقّ بها ممن لا يكون على صفاته ، فعلى هذا لا يجوز الصلاة خلف الفسّاق ، وإن كانوا معتقدين للحق ، ولا خلف أصحاب البدع ، والمعتقدين خلاف الحق.

ولا يؤمّ بالناس الأغلف ، وولد الزنا.

ويكره إمامة الأجذم والأبرص ، وصاحب الفالج الأصحاء ، فيما عدا الجمعة والعيدين فأمّا في الجمعة والعيدين فإنّ ذلك لا يجوز ، وقد ذهب بعض

ص: 280


1- في المطبوع.

أصحابنا إلى أنّ أصحاب هذه الأمراض ، لا يجوز أن يؤمّوا الأصحّاء ، على طريق الحظر ، والأظهر ما قلناه.

ولا يجوز إمامة المحدود الذي لم يتب.

ويكره أن يؤم الأعرابي المهاجر.

ولا يجوز إمامة المقعد بالزمانة ، ولا المقيّد المطلقين ، ولا الجالس القيّام.

ويكره إمامة المتيمم المتوضئين وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّه لا يجوز ذلك.

ويكره للمسافر أن يؤم بالمقيمين ، وللمقيم أن يؤم بالمسافرين في الصلوات التي يختلف فرضهما فيها.

فإن دخل المسافر في صلاة المقيم ، سلّم في الركعتين ، وانصرف ، وإن شاء قام فصلى معه فرضا آخر ، إن كان عليه.

وإن دخل المقيم في صلاة المسافر ، يستحب أن لا ينفتل من مصلاه بعد سلامه ، حتى يتم المقيم صلاته.

ولا يجوز إمامة الأمي لمن معه من القرآن ما يقيم به صلاته ، فإن أمّ أمي ، أميّين مثله ، جاز ذلك له.

ولا يجوز إمامة الشديد اللثغة الذي لا يقيم الحروف ولا ينطق بها على وجهها.

ولا يجوز إمامة اللحنة الذي يغيّر بلحنه معاني القرآن.

ولا يجوز إمامة المرأة الرجال على وجه.

ويجوز للرجال أن يؤموا النساء ، ويكون مقامها وراءه ، فإنّه من آداب سنن الموقف على ما قلناه (1).

ويجوز للمرأة أن تؤم النساء في الفرائض والنوافل ، وذهب بعض أصحابنا وهو السيّد المرتضى إلى أنّه لا يجوز لها أن تؤم النساء في الفرائض ويجوز في

ص: 281


1- ج : ما بيّناه ، راجع ما بيّنه - قدس سره - في ص 241 من هذا الكتاب.

النوافل ، والأول أظهر في المذهب.

ولا بأس بإمامة العبد والأعمى إذا كانا على الصفات التي توجب التقدّم.

والسلطان المحق أحق بالإمامة ، من كل أحد في كل موضع إذا حضر ، نريد بذلك رئيس الكل ، ثم صاحب المنزل في منزله ، وصاحب المسجد في مسجده ، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء فيؤم بالقوم أقرأهم ، فإن تساووا ، فأكبرهم سنا في الإسلام ، فإن تساووا فأعلمهم بالسنّة. وأفقههم في الدين ، فإن تساووا في ذلك فأقدمهم هجرة ، فإن تساووا فقد روي أصبحهم وجها (1).

وقد يجوز إمامة أهل الطبقة التالية لغيرها إذا أذن لهم أهل الطبقة المتقدمة ، إلا أن يكون الإمام الأكبر الذي هو رئيس الزمان ، فإنّه لا يجوز لأحد التقدّم عليه على وجه من الوجوه.

ومن ظهر له أنّه اقتدى بإمام كافر أو فاسق ، لا اعادة عليه ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا ، على الصحيح من الأقوال والأظهر من المذهب ، وذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه إلى وجوب الإعادة ، ولا دليل على ذلك ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، والأصل براءة الذمة من واجب أو ندب ، والإجماع حاصل منعقد على خلافه.

وأفضل الصفوف أوائلها ، وأفضل أوائلها ما دنا من الإمام وحاذاه ، وأفضل الصفوف في صلاة الجنازة أواخرها.

وينبغي أن يقرب من موقف الإمام من إذا اضطر الإمام إلى الخروج من الصلاة استخلفه ، وكان أولاهم بمقامه ، وإذا اجتمع رجال وخصيان وخناثى ونساء وصبيان كان الرجال ممّا يلي الإمام ، ثمّ الخصيان ، ثم الخناثى ، ثمّ الصبيان ، ثم النساء ، وبالعكس من ذلك في ترتيب جنائزهم ، إذا كان الصبيان لهم دون ستّ سنين ، ويتقدّم الأشراف غيرهم ، والأحرار يتقدّمون العبيد.

ص: 282


1- الوسائل : الباب 28 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.

ولتتمّم الصفوف بأن يتقدّم إليها ويتأخّر حتى تتمّم ، وكذلك لا بأس لمن وجد ضيقا في الصف ، أن يتأخر إلى الصف الذي يليه ، بعد أن لا يعرض عن القبلة ، بل يخطو منحرفا.

ومن دخل المسجد ، فلم يجد مقاما له في الصفوف أجزأه ان يقوم وحده محاذيا لمقام الإمام.

وينبغي أن يكون بين كل صفين قدر مسقط جسد الإنسان أو مريض عنز إذا سجد ، فإن تجاوز ذلك إلى القدر الذي لا يتخطّى كان مكروها شديد الكراهة ، حتى أنّه قد ورد بلفظ لا يجوز (1).

ولا يجوز أن يكون مكان الإمام ومقامه أعلى من مقام المأموم ، كسطوح البيوت ، والدكاكين العالية ، وما أشبهها ، فإن كان أعلى منه بشي ء يسير لا يعتد بمثله في العرف والعادة ، ولا يعلم تفاوته ، فلا بأس وجاز ذلك ، فأمّا إن كانت الأرض منحدرة ، ومحدودبة فلا بأس بأن يقف الإمام في الموضع العالي ، ويقف المأموم في المنحدر المنخفض ، وانّما كان ذلك في المكان الذي اتخذ بناء.

ويجوز أن يكون مقام الإمام أسفل من مقام المأموم ، بعد أن لا ينتهي إلى حدّ لا يمكنه معه الاقتداء به.

ومقام الإمام قدّام المأمومين إذا كانوا رجالا أكثر من واحد ، فإن كان المأموم رجلا واحدا صلّى عن يمينه ، وإن كانت امرأة واحدة أو جماعة صلّين خلفه ، وإن كان المأموم رجلا واحدا وامرأة أو جماعة من النساء ، صلّى الرجل عن يمين الإمام ، وصلّت المرأة أو النساء الجماعة خلفهما ، وذلك على جهة الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، على ما قدّمناه ، لأنّه من سنن الموقف الذي فيه الإمام والمأموم.

ص: 283


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة فيما بأيدينا من مجاميعنا الحديثية.

ويجهر الإمام ببسم اللّه الرحمن الرحيم في السورتين ، فيما يجهر فيه بالقراءة على طريق الوجوب ، ويستحب ذلك فيما يخافت فيه ويتعين القراءة عليه فيه ، ولا يجهر فيما سوى ذلك من باقي ركعاته الثوالث والروابع.

واختلفت الرواية في القراءة خلف الإمام الموثوق به ، فروي أنّه لا قراءة على المأموم في جميع الركعات والصلوات ، سواء كانت جهرية أو إخفاتية (1) وهي أظهر الروايات ، والتي يقتضيها أصول المذهب ، لأنّ الإمام ضامن للقراءة بلا خلاف بين أصحابنا.

ومنهم من قال يضمن القراءة والركوع والسجود ، لقوله عليه السلام : الأئمة ضمناء (2).

وروي أنّه لا قراءة على المأموم في الأوليين في جميع الصلوات التي يخافت فيها بالقراءة ، أو يجهر بها ، إلا أن تكون صلاة جهر لم يسمع فيها المأموم قراءة الإمام ، فيقرأ لنفسه (3).

وروي أنّه ينصت فيما جهر الإمام فيه بالقراءة ، ولا يقرأ هو شيئا ، ويلزمه القراءة فيما خافت (4).

وروي أنّه بالخيار فيما خافت فيه الإمام (5).

فأمّا الركعتان الأخريان فقد روي أنّه لا قراءة على المأموم فيهما ولا تسبيح (6) وروي أنّه يقرأ فيهما أو يسبح (7) والأول أظهر لما قدّمناه.

فأمّا من يؤتم به على سبيل التقية ، ممّن ليس بأهل للإمامة ، فلا خلاف في وجوب القراءة خلفه ، إلا أنّه لا بدّ له من إسماعه أذنيه ، وما ورد أنّه مثل حديث النفس (8) فإنه على طريق المبالغة والاستيعاب ، لأنّه لا يسمّى قارئا.

ص: 284


1- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
2- المستدرك : الباب 3 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 1.
3- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
4- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
5- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
6- الوسائل : الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.
7- الوسائل : الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.
8- الوسائل : الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.

وينبغي للإمام والأفضل له أن تكون صلاته على قدر صلاة أضعف من يقتدى به ، ولا يطوّلها ، فيشق ذلك على من يأتم به ، فأمّا إن كان وحده فالتطويل هو الأفضل ، فإنّها العبادة.

ويفتح المأموم على الإمام إذا تجاوز شيئا من القرآن ، أو بدّله أو ارتج عليه.

ومن أدرك الإمام وهو راكع ، وإن لم يدرك تكبيرة الركوع ، فقد أدرك الركعة ، واعتد بها ، فإن رفع رأسه ، فقد فاتته الركعة.

ولا يجب عليه إذا أدركه أن يكبّر سوى تكبيرة الافتتاح ، فأمّا تكبيرة الركوع فلا تجب عليه ، وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في نهايته (1) إلى أنّه يجب عليه أن يكبّر تكبيرة الافتتاح ، وتكبيرة الركوع ، وإلى أنّه إن لم يلحق تكبيرة الركوع وإن لحقه راكعا وأدركه في حال ركوعه وركع معه ما لم يلحق تكبيرة الركوع ، فلا يعتدّ بتلك الركعة ، والأول مذهب السيد المرتضى وباقي أصحابنا ، وهو الصحيح الذي تقتضيه الأصول ، ويشهد بصحته النظر والخبر المتواتر.

ومن أدركه ساجدا ، جاز أن يكبر تكبيرة الافتتاح ، ويسجد معه غير أنّه لا يعتد بتلك الركعة والسجدة.

ومن أدرك الإمام راكعا ، فخاف أن يسبقه بالقيام ، جاز له أن يركع عند دخول المسجد ، ويمشي في ركوعه حتى يدخل في الصف.

ويستحب للإمام إذا أحسّ بداخل إلى المسجد ، بأن يتوقف ويتثاقل حتى يدخل في الصف معه ، فإن كان راكعا جاز له أن يتوقف مثل قدر ركوعه ، وزائدا عليه ، فإن انقطع الحاضرون ، وإلا انتصب قائما.

ومن لحق الإمام في تشهده ، وقد بقيت عليه منه بقيّة ، فدخل في صلاته ،

ص: 285


1- النهاية : كتاب الصلاة. باب الجماعة قال كذلك : ومن لحق بتكبيرة الركوع فقد أدرك تلك الركعة فان لم يلحقها فقد فاتته.

وجلس معه ، لحق فضيلة الجماعة ، ثم ينهض فيصلّي لنفسه ، فإن كان لمّا كبّر ، نوى الصلاة وتكبيرة الإحرام بتكبيرته ، أجزأه أن يقوم بها ولا يستأنف تكبيرة الإحرام ، فإن لم يكن نوى ذلك ، كبر وافتتح صلاته مستأنفا لها.

وإذا سبق الإمام المأموم بشي ء من ركعات الصلاة ، جعل المأموم ما أدركه معه أوّل صلاته ، وما يصلّيه وحده آخرها ، كأنّه (1) أدرك من صلاة الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعتين وفاتته ركعتان ، فالمستحب أن يقرأ فيما أدركه في نفسه بأمّ الكتاب ، فإذا سلّم الإمام ، قام فصلّى الأخريين مسبحا فيهما ، أو قارئا على التخيير كما مضى شرحه ، وكذلك إذا أدرك ركعة واحدة ، قرأ فيها خلف الإمام على طريق الاستحباب ، فإذا سلّم الإمام ، قام فقرأ في الأولى مما ينفرد به ، ثمّ أضاف إليها الركعتين الأخريين بالتسبيح ، إن كانت الصلاة رباعيّة ، وإن كانت ثلاثية أضاف واحدة ، وفي الفجر يقتصر على الاثنتين بالقراءة.

وقال بعض أصحابنا في هذه المسائل ، يجب عليه القراءة قراءة السورتين معا ، ومنهم من قال قراءة الحمد وحدها ، والأول الأظهر ، وهو الذي يقتضيه أصول المذهب ، فأمّا قولهم : يجعل أول ما يلحق معه أوّل صلاته احترازا من مذهب المخالف للإمامية ، وهو أنّه يجعل ما يلحق معه آخر صلاته ، ويقضى الأوّل ، هكذا يذهب المخالف لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وفقهاء أهل الحق (2) يجعلون ما يلحق معه أوّل صلاته ، فإذا سلّم الإمام ، قام فأتمّ ما فاته من غير قضاء.

فأمّا قولهم يقرأ فيما يلحقه الحمد والسورة ، أو الحمد على القول الآخر ، يريدون به أنّ القراءة تتعيّن في الأولتين ، فإذا لم يقرأ فيما يلحقه ، تعيّن عليه أن يقرأ في الأخريين ، لئلا يقلب صلاته ، فيجعل أوّلها آخرها ، وقد ورد بهذا أخبار آحاد ، فلأجل هذه الأخبار قالوا يقرأ.

والصحيح من الأقوال ، أنّ القراءة الأمر بها على جهة الاستحباب ، دون

ص: 286


1- في ط وج : كما أنّه
2- في ط وج : أهل البيت.

الفرض والإيجاب ، لأنّ قراءة الإمام قراءة المأموم ، وانّ هذه الصلاة ما خلت من القراءة لأنّ القائل بذلك يقول إذا لم يقرأ فيما يلحق ، ففي الأخريين لا يتعيّن عليه القراءة بل هو مخير بين التسبيح والقراءة ، فإذا اختار التسبيح خلت الصلاة من قراءة الحمد ، بناء منه على هذا الأصل ، وقد بيّنا أنّ قراءة الإمام كافية للمأموم ، وأنّ صلاته ما خلت من القراءة ، لأنّ صلاته مرتبطة بصلاة إمامه في الصحة والفساد ، فهي كالجزء منها ، وهي لم تخل من القراءة فليلحظ ذلك ويتأمل.

ومن أدرك الركعة الثانية مع الإمام ، فجلس لها الإمام ، وهي للمأموم أولى ، فليجلس بجلوسه متجافيا غير متمكن ، فإذا صلّى الإمام الثالثة وهي للمأموم ثانية ونهض ، تلبث عنه قليلا ، بقدر ما يتشهد تشهدا خفيفا ، ثمّ يلحق به في القيام ، ولا يقوم المأموم لا تمام صلاته الفائتة ، إلا بعد تسليم الإمام ، وإن كان عليه سهو فحين يهوى إلى السجدة الاولى.

وإذا علم الإمام ان فيمن دخل في صلاته من بقي عليه منها ما يحتاج إلى إتمامه ، لم ينتقل عن مصلاه بعد تسليمه ، حتى يتم من بقي عليه ذلك.

ولا يدع الإمام القنوت في صلوات الجهر والإخفات معا.

ويسلّم الإمام واحدة تجاه القبلة ، وينحرف بعينه قليلا إلى يمينه ، والمنفرد يسلّم أيضا واحدة ، ويكون انحرافه إلى يمينه أقل من انحراف الإمام ، والمأموم يسلّم يمينا وشمالا ، فإن لم يكن على يساره أحد ، اقتصر على التسليم على يمينه على ما قدّمنا ذكره ، ولا يترك التسليم على اليمنى ، وإن لم يكن على يمينه أحد.

وليس على المأموم إذا سها خلف الإمام فيما يوجب سجدتي السهو سجدتا السهو ، لأنّ الإمام يتحمل ذلك عنه.

وينبغي للإمام إذا أحدث حدثا يوجب انصرافه ، وأراد أنّ يقدّم من يقوم مقامه ، أن لا يقدّم مسبوقا في تلك الصلاة ، بل من أدرك أولها ، وأفضل من ذلك من قد شهد الإقامة ، فإن قدم مسبوقا بركعة أو أكثر ، صلّى بالقوم ، فإذا أتم

ص: 287

صلاتهم ، أومأ إليهم يمينا وشمالا حتى ينصرفوا ، ثم يكمل هو ما فاته من الصلاة ، فإن كان هذا المقدّم مكان الإمام ، لا يعلم ما تقدّم من صلاة القوم ، فيبني عليها ، جاز أن يدخل في الصلاة ، فإن أخطأ سبّح القوم ، حتى يبني على الصلاة المتقدّمة بتحقيق.

وإذا مات الإمام قبل إتمام الصلاة فجأة ، كان للمأمومين أن يقدّموا غيره ، ويعتدّوا بما تقدّم ، ويطرحون الميت وراءهم.

ولا يجوز للمأموم أن يبتدئ بشي ء من أفعال الصلاة قبل إمامه ، فإن سبقه على سهو عاد إلى حاله ، حتى يكون به مقتديا ، فإن فعل ذلك عامدا لا ساهيا ، فلا يجوز له العود ، فإن عاد بطلت صلاته ، لأنّه يكون قد زاد ركوعا.

وإذا اختلف رجلان ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : كنت إمامك ، فصلاتهما معا تامة.

وإذا اختلفا ، فقال كل واحد منهما للآخر : كنت أئتم بك ، فسدت صلاتهما ، وعليهما أن يستأنفا.

ومن صلّى بقوم وهو على غير وضوء من غير علم منهم بحاله ، فأعلمهم بذلك من حاله ، لزمته الإعادة ، ولم يلزم القوم ، وقد روي أنّه إن أعلمهم في الوقت ، لزمتهم أيضا الإعادة (1) وانّما تسقط عنهم الإعادة بخروج الوقت ، فإن انتقضت طهارة الإمام بعد أن صلى بعض الصلاة ، أدخل من يقوم مقامه ، وأعاد هو الصلاة ، وتمّم القوم صلاتهم ، ومن صلّى بقوم ركعتين ، ثم أخبرهم أنّه لم يكن على طهارة ، أتمّ القوم صلاتهم ، وبنوا عليها ولم يعيدوها ، هكذا روى جميل بن دراج عن زرارة (2) وهو الصحيح ، وفي رواية حمّاد عن الحلبي أنّهم يستقبلون صلاتهم (3) ومن صلى بقوم إلى غير القبلة ، ثم أعلمهم بذلك ، كانت عليه الإعادة ،

ص: 288


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 9 بهذا المضمون.
2- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.
3- البحار : ج 85 ، باب أحكام الجماعة ، ص 68 الطبع الحديث.

دونهم ، وقال بعض أصحابنا : إنّ الإعادة تجب على الجميع ما لم يخرج الوقت ، وهذا هو الصحيح ، وبه أقول وأفتي ، والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنه ، وهو الذي تقتضيه أصول المذهب.

وإذا أمّ الكافر قوما ، ثم علموا بذلك من حاله ، كان القول فيه ، كالقول فيمن علموا أنّه كان على غير طهارة.

ويجوز أن يقتدي المؤدّي بالقاضي ، والقاضي بالمؤدّي ، والمفترض بالمتنفل ، والمتنفل بالمفترض ، ومن يصلّي الظهر بمن يصلّي العصر ، ومن يصلي العصر بمن يصلّي الظهر ، كل ذلك جائز مع اختلاف نيّتهما.

ومن صلّى جماعة أو منفردا ، ثم لحق جماعة أخرى ، فالمستحب له ، أن يعيد مرّة أخرى تلك الصلاة ، بنية الاستحباب أيّ الخمس كانت.

ولا تكون جماعة ، وبين المصلّي وبين الإمام ، أو بين الصف حائل من حائط أو غيره.

ومن صلّى وراء المقاصير ، لا تكون صلاته جماعة ، إلا ان يكون مخرّمة ، وقد وردت رخصة للنساء أن يصلّين ، إذا كان بينهن وبين الإمام حائط (1) والأول الأظهر والأصح.

وإذا صلّى في مسجد جماعة ، كره أن تصلّي الجماعة تلك الصلاة بعينها.

وإذا دخل الإنسان في صلاة نافلة ، ثم أقيمت الصلاة ، جاز له أن يقطعها ، ويدخل في الجماعة.

فإن دخل في صلاة فريضة ، وكان الإمام الذي يصلّي خلفه ، إمام الكل ورئيس الناس ، جاز له أيضا قطعها ، ويدخل معه في الجماعة ، فإن لم يكن رئيس الكلّ ، وكان ممّن يقتدى به ، فليتمم صلاته التي دخل فيها ، ركعتين يخففهما ويحسبهما من التطوع ، على ما روي في بعض الأخبار (2) ، ويدخل في

ص: 289


1- الوسائل : الباب 60 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 56 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.

الجماعة ، وإن كان الإمام ممن لا يقتدى به ، فليبن على صلاته ، ويدخل معه في الصلاة ، فإذا فرغ من صلاته ، سلّم وقام مع الإمام ، فصلّى ما بقي له ، واحتسبه من النافلة ، فإن وافق حال تشهده ، حال قيام الإمام ، فليقتصر في تشهده على الشهادتين ، ويسلّم إيماء ، ويقوم مع الإمام.

ولا يجوز للإمام أن يصلّي بالقوم القيام ، وهو جالس ، إلا أن يكونوا عراة ، فإنّهم يصلّون كلّهم جلوسا ، ولا يتقدّمهم إمامهم إلا بركبتيه على ما قدّمناه.

وإذا أقيمت الصلاة التي يقتدي بالإمام فيها ، لا يجوز أن يصلّي النوافل.

وإذا صلّيت خلف مخالف ، وقرأ سورة يجب فيها السجود ، وكنت مستمعا لقراءته ، ولم يسجد هو ، وخفت أن تسجد وحدك ، فأوم إيماء ، وقد أجزأك ، وإن لم تكن مستمعا لقراءته فلا يجب عليك ذلك.

باب صلاة الجمعة وأحكامها

صلاة الجمعة فريضة على من لم يكن معذورا بما سنذكره من الأعذار بشروط ، أحدها حضور الإمام العادل أو من نصبه للصلاة ، واجتماع خمسة نفر فصاعدا ، الإمام أحدهم على الصحيح من المذهب ، وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : لا يجب الاجتماع إلا أن يبلغ العدد سبعة ، والأول مذهب السيّد المرتضى ، والشيخ المفيد ، وجماعة من أصحابنا ، وهو الذي تعضده الظواهر والآيات ، وبه افتي.

والأعذار والأسباب التي تسقط معها الجمعة ، الصغر والكبر الذي لا حراك معه ، والسفر ، والعبودية ، والجنون ، والتأنيث ، والمرض ، والعمى ، والعرج ، وأن تكون المسافة بين المصلّي وبينها أكثر من فرسخين ، وروي ، أنّ من يخاف ظلما يجري عليه على نفسه ، أو ماله ، هو أيضا معذور في الإخلال بها (1).

ص: 290


1- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 4.

وكذلك من كان متشاغلا بجهاز ميّت ، أو تعليل والد أو من يجري مجراه ، من ذوي الحرمات الوكيدة ، يسعه أن يتأخّر عنها ، فأمّا المحبوس عنها ، والممنوع فلا شك في عذرهما.

ومن كان في مصره والإمام فيه ، وجب عليه الجمع معه ، لأنّه ليس للإمام أن يكلها إلى غيره في بلده مع القدرة والتمكن ، وسقوط الأعذار ، ومن كان نائيا عن الإمام جمع بها مع خلفائه ، ومع من اذن له في الجمع بالناس.

ولا ينبغي ولا يجوز أن يكون بين المسجدين اللذين يجمّع فيهما أقلّ من ثلاثة أميال.

ومن حضر من ذوي الأعذار من المكلّفين الذين ذكرناهم الجمعة صلاها مع الإمام جمعة ركعتين ، لأنّ العذر رخّص له في التأخّر ، فإذا حضر ، زالت الرخصة ، ولزم الفرض.

والخطبتان لا بدّ منهما ، ولا تنعقد الجمعة إلا بهما ، ويجب على الحاضرين استماعهما.

ومن شرطهما الطهارة ، وحضور من تنعقد الجمعة بحضوره ، فإن خطب على غير طهارة ، أو خطب وكان على طهارة إلا أنّه لم يحضر خطبته إلا ثلاثة نفر ، لم يجز ذلك ، ووجب عليه إعادة الخطبة ، فإن لم يعدها لم تصح صلاته جمعة ، والذي ينبغي تحصيله ، أن الطهارة ليست شرطا في صحّة الخطبة بل حضور العدد فحسب ، إذ لا دليل على كون ذلك شرطا في صحة الخطبة ، من كتاب ولا إجماع ، والأصل أن لا تكليف ، وانّما ذهب إلى ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه (1).

وعقد الباب (2) أنّ الجمعة لا تجب إلا إذا اجتمعت شروط ، وهي على ضربين ، أحدهما يرجع إلى مكلّفها ، والثاني يرجع إلى غيره ، فما يرجع إليه تسع

ص: 291


1- الخلاف : كتاب صلاة الجمعة مسألة 32.
2- في المطبوع : وجملة الأمر وعقد الباب.

شرائط : الذكورة ، وكمال العقل ، والحرية ، والصحة من المرض ، وارتفاع العمى ، وارتفاع العرج ، وارتفاع الشيخوخة التي لا حراك معها ، وأن لا يكون مسافرا ، وأن لا يكون بينه وبين الموضع الذي يصلّي فيه الجمعة مسافة فرسخين ، ومع اجتماع هذه الشروط ، لا تنعقد إلا بأربعة شروط ، وهي الشروط الراجعة إلى غيره ، السلطان العادل ، أو من ينصبه للصلاة ، العدد خمسة ، وأن يكون بين الجمعتين ثلاثة أميال فما زاد ، وأن يخطب الإمام خطبتين.

وأقل ما تكون الخطبة أربعة أصناف : حمد اللّه تعالى ، والصلاة على النبي وآله ، والوعظ والزجر ، وقراءة سورة خفيفة من القرآن.

وقد يورد بعض أصحابنا عبارة ينبغي أن يتجافى عنها ، وهي أن قال تسقط الجمعة عن عشرة ، وعدّد في جملة العشرة المجنون والصبي ، وهذان ما هما مكلّفان ، ولا كان عليهما شي ء فسقط ، وانّما هذا لفظ الحديث ، أورده على ما هو ، فهذا وجه الاعتذار له ، فأمّا قول بعض أصحابنا ، فما يرجع إلى مكلّفها من الشرائط فعشرة ، وعدّد البلوغ قسما ، وكمال العقل قسما آخر ، فلا حاجة بنا إلى ذلك ، بل إذا قلنا كمال العقل أجزأنا عن البلوغ ، وإذا قلنا البلوغ لم يجزئنا فالكمال شامل يدخل فيه القسم الآخر ، ولا حاجة بنا إلى القسمين الآخرين ، في عدد من يسقط عنه الجمعة ، على ما قدّمناه.

وما يرجع إلى الجواز الإسلام والعقل ، فالعقل شرط في الوجوب والجواز معا ، والإسلام شرط في الجواز لا غير ، دون الوجوب ، لأنّ الكافر عندنا متعبّد ، ومخاطب بالشرائع ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ من ليس بعاقل ، أو ليس بمسلم ، لا يصح منه الجمعة ، وما عدا هذين الشرطين من الشرائط المقدّم ذكرها ، شرط في الوجوب ، دون الجواز ، لأنّ جميع من قدّمنا ذكره ، يصح منه فعل الجمعة.

والناس في باب الجمعة على ضروب ، من تجب عليه وتنعقد به ، ومن لا تجب عليه ولا تنعقد به ، ومن تنعقد به ولا تجب عليه ، ومن تجب عليه ولا تنعقد به.

ص: 292

فأمّا من تجب عليه وتنعقد به ، فهو كلّ من جمع الشرائط المقدّم ذكرها.

ومن لا تجب عليه ولا تنعقد به ، فهو الصبي والمجنون والمرأة قبل حضورها المسجد مع الإمام ، فأما ان تكلّفت الحضور ، وجب عليها صلاة ركعتين ، غير أنّها لا يتم بها العدد ولا تنعقد بها الجمعة ، وأمّا من تنعقد به ، ولا تجب عليه ، فهو المريض ، والأعمى ، والأعرج ، والشيخ الذي لا حراك به ، ومن كان على رأس أكثر من فرسخين ، والعبد ، والمسافر ، فهؤلاء لا يجب عليهم الحضور ، فإن حضروا الجمعة ، وتمّ بهم العدد ، وجب عليهم ، وانعقدت بهم الجمعة ، ويتم بهم العدد ، وأمّا من تجب عليه ولا تنعقد به ، فهو الكافر ، والمحدث الذي على غير طهارة ، فهما مخاطبان عندنا بالعبادة ، ومع هذا لا تنعقد بهما ، أنّهما لا تصح منهما الصلاة ، وهما على ما هما عليه.

من كان في بلد وجب عليه حضور الجمعة ، سمع النداء ، أو لم يسمع ، فإن كان خارجا عنه ، وبينه وبينه أقل من فرسخين فما دون ، وجب عليه أيضا الحضور فإن زادت المسافة على ذلك لا يجب عليه.

ثمّ لا يخلو ، إمّا أن يكون فيهم العدد الذي ينعقد بهم الجمعة ، أم لا ، فإن كانوا كذلك ، وجب عليهم الجمعة بشرط أن يكون فيهم الإمام ، أو من نصبه الإمام للصلاة ، وإن لم يكونوا ، لم يجب عليهم غير الظهر أربع ركعات.

ومتى كان بينهم وبين البلد أقل من فرسخين ، وفيهم العدد الذي تنعقد بهم الجمعة ، جاز لهم إقامتها ، ويجوز لهم حضور البلد.

ومن وجب عليه الجمعة ، فصلّى الظهر عند الزوال ، لم يجزه عن الجمعة ، فإن لم يحضر الجمعة ، وخرج الوقت ، وجب عليه اعادة الظهر أربعا ، لأنّ ما فعله أولا ، لم يكن فرضه.

إذا كان في قرية جماعة تنعقد بهم الجمعة ، والشرائط حاصلة ، فكل من كان بينه وبينهم أقل من فرسخين فما دونهما ، وليس منهم العدد الذي تنعقد بهم الجمعة ، وجب عليهم الحضور ، وإن كان فيهم العدد جمعوا.

ص: 293

ومن سنن الجمعة الغسل ، وهو من وكيد سننها ، وابتداؤه من طلوع الفجر الثاني إلى زوال الشمس ، وأفضل أوقاته ، ما قرب من الزوال ، ومن ذلك التزين بأنظف الثياب.

وروي كراهية ليس السراويل قائما ، لأنّه يورث الحبن (1) بالحاء غير المعجمة المفتوحة ، والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة المفتوحة ، والنون وهو السقي وهو ورم البطن ، وقال ابن بابويه في رسالته : هو الماء الأصفر ، والأوّل قول أهل اللّغة ، وإليهم المرجع فيه.

ومسّ شي ء من الطيب ، وإماطة الأذى عن الجسد ، وأخذ الشارب ، وتقليم الأظفار ، وأن يبدأ بخنصره اليسرى ، ويختم بخنصره اليمني ، وتطريف الأهل بالفاكهة ، والتقرب إلى اللّه تعالى بشي ء من الصدقة.

وينبغي للإمام أن يعتم شاتيا كان أو قائظا ، ويلبس بردا (2) فبذلك جرت السنة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويستحب أن يلبس العمامة شاتيا كان أم قائظا ، ويرتدي ببرد يمنيّة أو عدني (3).

قال محمّد بن إدريس : يقال تردّيت أتردّى ترديا فأنا متردّ ، فلا يظن ظان أن ذلك لا يجوز ، ويقال أيضا ارتدي يرتدي فهو مرتد ، كل صحيح جائز ، ذكر ذلك الفضل بن سلمة في كتاب البارع ، وقال الرداء الثوب الذي يلبس على الكتفين ، ممدود.

ويأخذ بيده ما يتوكأ عليه ، من قضيب ، أو عنزة ، أو غيرهما.

ويعلو على مرتفع من الأرض ، كمنبر أو غيره ، فإذا رقى المنبر ، فليكن بوقار ، وأناة وتؤدة ، ولا ينبغي له أن يعلو من مراقي المنبر أكثر من عدد مراقي منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ص: 294


1- مستدرك الوسائل : الباب 34 من أبواب أحكام الملابس في غير الصلاة ، ح 1.
2- في ط وج. يرتدي برداء
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجمعة وأحكامها فيها : ببرد يمني أو عدني.

فإذا بلغ إلى مقامه ، جعل وجهه إلى الناس ، وسلّم عليهم. وقال بعض أصحابنا ، وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : ليس ذلك بمستحب (1) ، والأول مذهب المرتضى ، ولا أرى بذلك بأسا ، وإن كان بالمدينة ، ابتدأ بالسلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.

ثم يجلس حتى يؤذّن بين يديه ، وفي المنائر في وقت واحد.

فإذا فرغ من الأذان ، قام الإمام متوكئا على ما في يده ، فابتدأ بالخطبة الأولى ، معلنا بالتحميد لله تعالى ، والتمجيد ، والثناء بآلائه ، وشاهدا لمحمد نبيه صلى اللّه عليه وآله بالرسالة ، وحسن الإبلاغ والإنذار ، ويوشح خطبته بالقرآن ، ومواعظه وآدابه ، ثم يجلس جلسة خفيفة ، ثم يقوم فيفتتح الخطبة الثانية ، بالحمد لله ، والاستغفار ، والصلاة على النبي وعلى آله عليهم السلام ، ويثني عليهم بما هم أهله ، ويدعو لأئمة المسلمين ، ويسأل اللّه تعالى أن يعلي كلمة المؤمنين ، ويسأل لنفسه ، وللمؤمنين ، حوائج الدنيا والآخرة ، ويكون آخر كلامه « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (2).

وإذا كان الإمام يخطب ، حرم الكلام ، ووجب الصمت ، لأنّ سماع الخطبة واجب على الحاضرين ، ويكره من الالتفات وغيره من الافعال ما لا يجوز مثله في الصلاة (3) ولا بأس للرجل أن يتكلّم إذا فرغ الإمام من الخطبة ما بينه وبين أن تقام الصلاة.

ثم ينزل الإمام عن المنبر بعد فراغه من إكمال الخطبتين ، ويبتدئ المؤذّن الذي بين يديه ، بالإقامة ، وينادي باقي المؤذنين ، والمكبرين الصلاة الصلاة.

ولا يجوز الأذان بعد نزوله مضافا إلى الأذان الأول الذي عند الزوال ، فهذا

ص: 295


1- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 40 من صلاة الجمعة
2- النحل : 90.
3- ج : ويكره الالتفات وغيره من الافعال وما لا يجوز مثله في الصلاة.

هو الأذان المنهي عنه ، ويسمّيه بعض أصحابنا الأذان الثالث ، لا يجوز يريد به إلا هذا ، وسمّاه ثالثا ، لانضمام الإقامة فكأنّها أذان آخر.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : الخطبة يوم الجمعة تكون عند قيام الشمس نصف النهار ، فإذا زالت الشمس ، نزل فصلّى بالناس ، وحكي عن السيّد المرتضى أنّه قال : يجوز أن يصلّي عند قيام الشمس يوم الجمعة خاصّة (1).

قال محمّد بن إدريس : ولم أجد للسيّد المرتضى تصنيفا ولا مسطورا بما حكاه شيخنا عنه ، بل بخلافه ، وما قدّمته وشرحته أولا واخترته ، من أنّ الخطبة لا تجوز إلا بعد الزوال ، وكذلك الأذان لا يجوز إلا بعد دخول الوقت في سائر الصلوات ، على ما أسلفنا القول فيه في باب الأذان والإقامة ، هو مذهب المرتضى وفتواه واختياره في مصباحه ، وهو الصحيح ، لأنّه الذي يقتضيه أصول المذهب ، ويعضده النظر والاعتبار ، ولأنّه عمل جميع الأعصار ، ولقوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (2) والنداء للصلاة ، هو الأذان لها ، فالأذان لا يجوز قبل دخول وقت الصلاة ، ولعل شيخنا أبا جعفر ، سمعه من المرتضى في الدرس ، وعرفه منه مشافهة ، دون المسطور ، وهذا هو العذر البيّن ، فانّ الشيخ ما يحكي بحمد اللّه تعالى إلا الحق اليقين ، فإنّه أجلّ قدرا ، وأكثر ديانة من أن يحكي عنه ما لم يسمعه ويحقّقه منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان ، في تفسير سورة الجمعة قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) : قال معناه إذا سمعتم أذان يوم الجمعة ، فامضوا إلى الصلاة ، وقال في قوله « وَذَرُوا الْبَيْعَ » معناه إذا دخل وقت الصلاة ، فاتركوا البيع والشراء ، قال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ، وقال الحسن : كلّ بيع تفوت فيه الصلاة يوم

ص: 296


1- قريب من هذه العبارة في النهاية كتاب الصلاة. باب الجمعة وأحكامها.
2- الجمعة : 9.

الجمعة ، فإنّه بيع حرام لا يجوز ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ النهي يدل على فساد المنهي عنه (1).

قال محمّد بن إدريس : وهذا الذي ذكره في تبيانه ، دليل على رجوعه عما قال في نهايته ، ووفاق لما اخترناه ، أنّ الخطبة والأذان لا يكونان إلا بعد زوال الشمس فليلحظ ذلك.

فإذا دخل الإمام في الصلاة ، فالمستحب له أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة ، وفي الثانية بالمنافقين ، جاهرا بقراءتهما ، وذهب بعض أصحابنا ، أنّ قراءة السورتين له واجب ، لا يجزيه أن يقرأ بغيرهما.

والمستحب للمنفرد يوم الجمعة أيضا قراءتهما ، وأنّه إنّ ابتدأ بغيرهما كان له أن يرجع إليهما ، وإن كان ابتداؤه أيضا بسورة الإخلاص ، وسورة الجحد ، اللتين لا يرجع عنهما ، إذا أخذ فيهما ، ما لم يبلغ نصف السورة ، فإن بلغ النصف تمّم السورة ، وجعلها ركعتي نافلة ، وابتدأ الصلاة بالسورتين ، وذلك على جهة الأفضل في هذه الفريضة خاصّة ، لأنّه لا يجوز نقل النية من الفرض إلى الندب ، إلا في هذه المسألة وفي موضع آخر ، ذكرناه في باب الجماعة.

فأمّا نقل النيّة من النفل إلى الفرض ، فلا يجوز في موضع من المواضع على وجه من الوجوه ، فليلحظ ذلك على ما روي في بعض الأخبار (2) ، وأورده شيخنا في نهايته (3) ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، وترك النقل ، إلا في موضع أجمعنا عليه.

ويستحبّ أن يقرأ في العصر من يوم الجمعة بالسورتين أيضا ، وفي الغداة من يوم الجمعة بالجمعة في الاولى ، وقل هو اللّه أحد في الثانية ، وروي بالمنافقين في الثانية (4) ، وهو اختيار المرتضى في انتصاره (5) وكذلك يستحب أن يقرأ في المعرب ،

ص: 297


1- التبيان : ج 10 ص 8 الطبع الحديث
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب النية ، ح 2.
3- النهاية : باب الجمعة وأحكامها
4- الوسائل : الباب 70 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 10.
5- الانتصار : كتاب الصلاة ، المسألة الثانية من صلاة الجمعة.

من ليلة الجمعة بسورة الجمعة ، وسبّح اسم ربّك الأعلى في الثانية ، وكذلك في صلاة العشاء الآخرة ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ذهب في مصباحه إلى أنّه يقرأ في الثانية من المغرب مكان « سبّح اسم ربّك الأعلى » ، « قل هو اللّه أحد » (1) وذهب في نهايته (2) ومبسوطة (3) إلى ما اخترناه.

فأمّا المنفرد بصلاة الظهر يوم الجمعة ، فقد روي أنّ عليه ، أن يجهر بالقراءة استحبابا (4) وروي أن الجهر انّما يستحب لمن صلاها مقصورة ، بخطبة أو صلاها ظهرا أربعا في جماعة ، ولا جهر على المنفرد (5) ، وهذا حكاه سيّدنا المرتضى رحمه اللّه في مصباحه.

والثاني الذي يقوى في نفسي ، واعتقده ، وافتي به ، وأعمل عليه ، لأنّ شغل الذّمة بواجب أو مندوب يحتاج إلى دليل شرعيّ ، لأنّ الأصل براءة الذّمة ، والإجماع فغير حاصل ، والرواية مختلفة ، فلم يبق إلا لزوم الأصول ، وهو براءة الذمم ، وأيضا في تركه الاحتياط ، لأنّ تاركه عند جميع أصحابنا ، أعني تارك الجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة ، غير ملوم ، ولا مذموم ، وصلاته صحيحة بغير خلاف ، وفاعل الجهر غير آمن من جميع ذلك ، لأنّه إمّا أن يكون مسنونا على قول بعض أصحابنا ، أو غير مسنون على قول البعض الآخر ، وفي كلا الأمرين لا ذم على تاركه ، وما لا ذم في تركه ويخشى في فعله أن يكون بدعة ومعصية يستحق بها الذّم ، ومفسدة (6) للصلاة ، وقاطعا لها ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة.

وعلى الإمام أن يقنت في صلاة الجمعة ، وقد اختلفت الرواية في قنوت الإمام يوم الجمعة ، فروي أنّه يقنت في الأولى قبل الركوع وكذلك الذين خلفه ،

ص: 298


1- مصباح المتهجد : في اعمال ليلة الجمعة ، ص 230 ، الطبع الحديث.
2- النهاية : القراءة في الصلاة وأحكامها.
3- المبسوط : فصل في ذكر القراءة وأحكامها.
4- الوسائل : الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 1.
5- الوسائل : الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 3.
6- ج : مفسدا.

ومن صلاها (1) منفردا ، أو في جماعة ظهرا ، اماما كان أو مأموما ، قنت في الثانية ، قبل الركوع وبعد القراءة أيضا (2) وروي أنّ على الإمام إذا صلاها جمعة مقصورة قنوتين ، في الأولى قبل الركوع وفي الثانية بعد الركوع (3).

قال محمّد بن إدريس : والذي يقوى عندي ، أنّ الصلاة لا يكون فيها إلا قنوت واحد ، أيّ صلاة كانت ، هذا الذي يقتضيه مذهبنا وإجماعنا ، فلا نرجع عن ذلك بأخبار الآحاد التي لا تثمر علما ولا عملا.

فإذا فرغ الإمام من الركعتين ، سلّم تسليمة واحدة على الوجه الذي ذكرناه فيما تقدم ، حيث بيّنا تسليم الإمام والمأموم.

وإن وقع سهو على الإمام فيما يوجب إعادة الصلاة ، وقد صلاها جمعة مقصورة ، أعاد هو ومن اقتدى به.

ومن صحّت له مع الإمام ركعة يسجد فيها ، امّا الاولى ثم خرج منها إمّا لرعاف ، أو ما يجري مجراه ممّا لا ينقض الوضوء ، أو الثانية ، فعليه أن يتمّها ركعتين.

ومن فاتته الجمعة مع الإمام صلاها ظهرا أربعا ، وكذلك من زحمه الناس فلم يصحّ له ركعة يسجد فيها مع الإمام.

فأمّا من كبّر مع الإمام وركع ولم يقدر على السجود لازدحام الناس ، ثم قام الإمام والناس في الركعة الثانية ، وقام معهم ، ثم ركع الإمام فلم يقدر عند الركوع في الثانية لأجل الزحام ، ثم قدر على السجود ، فانّ ركعته الأولى تامة إلى وقت السجود ، إلا انّ عليه أن يسجد لها ، فإن كان نوى بسجوده لمّا سجد في الثانية أنّه عن سجدتي الركعة الأولى ، فقد تمت له الاولى ، وعليه إذا سلّم الإمام أن يقوم فيصلّي ركعة ، يسجد فيها ثم يتشهد ، ويسلّم ، وإن لم ينو ذلك ونوى أنهما للركعة الثانية ، لم تجز عنه الركعة الاولى ولا الثانية ، ويبتدئ فيسجد

ص: 299


1- ج : كان منفردا
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب القنوت ، ح 5 و 8 و 12.
3- الوسائل : الباب 5 من أبواب القنوت ، ح 5 و 8 و 12.

سجدتين وينوى بهما الركعة الاولى ، وعليه بعد ذلك ركعة تامة ، وقد تمت جمعته ، وهذا الذي ذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1) وقال في نهايته : وإن لم ينو بهاتين السجدتين أنّهما للأولى ، كان عليه إعادة الصلاة (2) ، والذي ذكره في نهايته هو الصحيح ، لأنّه موافق لأصول المذهب ، لأنّ الأوّل يكون قد زاد في ركعة واحدة سجدتين ، ومن زاد سجدتين في ركعة واحدة سواء كان فعله عامدا أو ساهيا ، بطلت صلاته بغير خلاف ، والذي ذكره في مسائل الخلاف رواية حفص بن غياث القاضي ، وهو عامي المذهب ، فلا يجوز الرجوع إلى روايته وترك الأصول ، وأيضا فإنّ السجود لا يحتاج إلى نية بانفراده ، بل العبادة إذا كانت ذات أبعاض ، فالنية في أولها كافية لجميع أفعالها ، ففي الخبر أيضا ما يبطله من هذا الوجه ، وأيضا فما استدام النيّة إذا نوى بسجدتيه أنّهما للركعة الثانية ، لأنّهما من حقّهما ، ان يكونا للركعة الأولى فإذا لم يستدم النيّة ، فقد بطلت صلاته بغير خلاف.

وجملة الأمر ، أنّ السجود بانفراده لا يحتاج إلى النية ، بل الاستدامة كافية على ما قدّمناه ، وما قاله شيخنا في مسائل خلافه مذهب السيد المرتضى في مصباحه ، وما ذهب شيخنا إليه في نهايته هو الصحيح على ما اخترناه وقدمناه ، لأنّ فيه الاحتياط ، لانّه لا خلاف أنّ الذمة مشغولة بالصلاة بيقين ، وإذا أعادها برئت بيقين ، وليس كذلك إذا لم يعدها.

والمسافر إذا أمّ مسافرين في الجمعة ، لم يحتج إلى خطبتين ، وصلاها ركعتين ، لأنّ فرض الجمعة ساقط عنه وعنهم ، وفرضه قصر الظهر ، وصلاتها ركعتين.

فإن دخل في صلاته مقيم ، لم يسلم ، وأتمّها أربعا.

ص: 300


1- الخلاف : مسألة 9 من كتاب صلاة الجمعة.
2- النهاية : في باب الجمعة وأحكامها.

وإن دخل مسافر في صلاة حاضر قاصر لها ، أجزأته عن فرضه.

وإذا اجتمع عيد وجمعة في يوم واحد صلّيت صلاة العيد ، وكان الناس بالخيار في حضور الجمعة ، وعلى الإمام أن يعلمهم ذلك في خطبة العيد.

وليس للإمام أن يتأخّر عنهما معا.

فإن اجتمع كسوف وجمعة في وقت واحد ، قدّمت الجمعة ، وأخّرت صلاة الكسوف.

وإن اجتمع استسقاء وكسوف وجمعة لم يقدّم على الجمعة غيرها ، ثم صلّيت صلاة الكسوف ، ثم الاستسقاء ، بعد تجلّي المنكسف ، هذا إذا غلب في الظنّ وكانت الأمارة قوية في أنّ وقت الكسوف لا يفوت ، ولا يخرج وقته ، فأمّا إذا خيف خروج وقت صلاة الكسوف ، فالواجب التشاغل بصلاتها ، وترك صلاة الجمعة في أوّل الوقت ، فإن وقتها لا يفوت ، إلا إذا بقي من النهار مقدار أربع ركعات ، ووقت صلاة الكسوف ، بانجلاء بعض المكسوف يفوت.

فأمّا النوافل يوم الجمعة ، فالمسنون فيها ، زيادة أربع ركعات على النوافل في كل يوم ، واختلف أصحابنا في ترتيبها فذهب السيّد المرتضى رحمه اللّه إلى أن يصلّي عند انبساط الشمس ست ركعات ، فإذا اتضح النهار وارتفعت الشمس ، صلّيت ستا ، فإذا زالت ، صليت ركعتين ، فإذا صليت الظهر ، صلّيت بعدها ستا.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يصلّي عند انبساط الشمس ست ركعات ، وست ركعات عند ارتفاعها ، وست ركعات بعد ذلك ، وركعتين عند الزوال ، وبالجملة أنّه قال : ويقدّم نوافل الجمعة كلّها قبل الزوال ، هذا هو الأفضل في يوم الجمعة خاصّة ، فأمّا في غيره من الأيام ، فلا يجوز تقديم النوافل قبل الزوال ، وهذا هو الصحيح ، وبه افتي ، لأنّ عمل الطائفة عليه ، وتقديم الخيرات أفضل ، والروايات به متظاهرة (1) ، وقال ابن بابويه من أصحابنا : الأفضل تأخير

ص: 301


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

النوافل كلّها ، أعني نوافل يوم الجمعة إلى بعد الزوال ، وهذا غير واضح ، ولا معتمد.

ووقت ركعتي الزوال قبل الزوال ، ولا يجوز أن يصلّي بعد الزوال ، لأن الأخبار (1) وردت عن الأئمة الأطهار بأنّهم سئلوا عن وقت ركعتي الزوال ، أقبل الأذان أو بعده؟ فقالوا : قبل الأذان ، والأذان لا يكون إلا بعد الزوال فمن ذلك ، ما أورده (2) أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، صاحب الرضا عليه السلام في جامعه قال : وسألته عن الزوال يوم الجمعة ما حدّه؟ قال : إذا قامت الشمس فصلّ ركعتين ، فإذا زالت فصلّ الفريضة ساعة تزول ، فإذا زالت قبل أن تصلّي الركعتين ، فلا تصلّهما ، وابدأ بالفريضة ، واقض الركعتين بعد الفريضة ، قال : وسألته عن ركعتي الزوال يوم الجمعة ، قبل الأذان أو بعده ، قال : قبل الأذان.

فتحقق وتحصّل من هذا ، أنّ ركعتي الزوال ، تصلّى قبل الزوال ، لا يجوز غير ذلك ، وشاهدت جماعة من أصحابنا يصلّونهما بعد الزوال ، ويدلك على ما اخترناه ، قول شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه في مقنعته يصلّي لتحقيق الزوال (3).

وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ولا بأس بأن يجتمع المؤمنون في زمان التقية ، بحيث لا ضرر عليهم ، فيصلّون جماعة بخطبتين ، فإن لم يتمكنوا من الخطبة ، جاز لهم أن يصلّوا جماعة لكنهم يصلّون أربع ركعات (4) فدلّ قوله الأول على أنّهم إذا صلّوها بخطبتين ، أجزأتهم صلاة ركعتين عن الأربع وانعقدت جمعة.

وقال في مسائل الخلاف : من شرط انعقاد الجمعة ، الإمام أو من يأمره الإمام بذلك ، من قاض أو أمير ونحو ذلك ، ومتى أقيمت بغيره ، لم تصح ، ثم

ص: 302


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ج 16 و 17.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ج 16 و 17.
3- المقنعة : باب العمل في ليلة الجمعة ويومها ، ص 160. ( وقال هكذا وركعتين حين تزول تستظهر بهما في تحقيق الزوال )
4- النهاية : في الجمعة وأحكامها.

قال : دليلنا أنّه لا خلاف أنّها تنعقد بالإمام أو بأمره ، وليس على انعقادها إذا لم يكن إمام ولا أمره دليل ، ثم قال : وأيضا عليه إجماع الفرقة ، فإنّهم لا يختلفون أنّ من شرط الجمعة الإمام أمره ثم قال : وأيضا فإنّه إجماع ، فإنّ من عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله إلى وقتنا هذا ، ما أقام الجمعة إلا الخلفاء ، والأمراء ، ومن ولّي الصلاة ، فعلم أن ذلك إجماع أهل الأعصار ، ولو انعقدت بالرعية لصلّوها كذلك ، ثم سأل نفسه رضي اللّه عنه فقال : فإن قيل : أليس قد رويتم فيما مضى ، وفي كتبكم ، أنّه يجوز لأهل القرايا والسواد والمؤمنين ، إذا اجتمع العدد الذين ينعقد بهم ، أن يصلّوا الجمعة ، فأجاب بجواب عجيب ، بأن قال : قلنا ذلك مأذون فيه ، مرغب فيه فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام من يصلّي بهم (1).

قال محمد بن إدريس : نحن نقول في جواب السؤال ، القرايا والسواد ، إذا اجتمع العدد الذين تنعقد بهم الجمعة ، وكان فيهم نواب الإمام أو نواب خلفائه ، ونحمل الأخبار على ذلك ، فأما قوله رضي اللّه عنه : « ذلك مأذون مرغّب فيه ، فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام من يصلّى بهم » ، فيحتاج إلى دليل على هذه الدعوى وبرهان ، لأنّ الأصل براءة الذّمة من الوجوب أو الندب ، ولو جرى ذلك مجرى أن ينصب من يصلّي بهم ، لوجبت الجمعة على من يتمكن من الخطبتين ، ولا كان يجزيه صلاة أربع ركعات ، وهذا لا يقوله منّا أحد ، والذي يقوى عندي ، صحة ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، وخلاف ما ذهب إليه في نهايته ، للأدلّة التي ذكرها من إجماع أهل الأعصار ، وأيضا فإنّ عندنا بلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ من شرط انعقاد الجمعة ، الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة ، وأيضا الظهر أربع ركعات في الذّمة بيقين ، فمن قال صلاة ركعتين تجزي عن الأربع ، يحتاج إلى دليل ، فلا نرجع عن المعلوم بالمظنون ، وأخبار الآحاد التي

ص: 303


1- الخلاف : مسألة 43 من كتاب صلاة الجمعة.

لا توجب علما ولا عملا.

وقد ذكر السيّد المرتضى رحمه اللّه في جواب المسائل الميّافارقيات فقال السائل : صلاة الجمعة يجوز أن تصلّى خلف بالمؤالف والمخالف جميعا؟ وهل هي ركعتان مع الخطبة ، يقوم مقام الأربع؟ فقال المرتضى رحمه اللّه : صلاة الجمعة ركعتان من غير زيادة عليهما ، ولا جمعة إلا مع إمام عادل أو من ينصبه الإمام العادل ، فإذا عدم صليت الظهر أربع ركعات (1).

وذكر سلار في رسالته : ولفقهاء الطائفة أيضا أن يصلّوا بالناس في الأعياد والاستسقاء ، فأمّا الجمع فلا (2) هذا آخر كلام سلّار ، في رسالته ، وهو الصحيح ، وقد اعتذرنا في عدة مواضع ، للشيخ أبي جعفر رحمه اللّه فيما يورده في كتاب النهاية ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ هذا الكتاب ، أعني كتاب النهاية كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، وقد قال هو رحمه اللّه في كتابه هذا ما قاله في خطبة مبسوطة ، فكيف يعتمد ويقلد ما يوجد فيه ، وقد تنصّل المصنف من ذلك.

ويستحب الجمع بين الفرضين في يوم الجمعة خاصة من جهة الوقت والزمان معا ، وكذلك يستحب الجمع بينهما بعرفة ، من جهة المكان والزمان معا ، وكذلك يستحب الجمع بين المغرب والعشاء الآخرة بالمشعر الحرام ، ليلة العيد من جهة المكان والزمان معا ، وحدّ الجمع أن لا يصلّي بينهما نافلة ، فأمّا التسبيح والأدعية فمستحب ذلك ، وليس بمانع للجمع.

فإذا فرغ الإمام من صلاة الجمعة ، صلّى العصر بإقامة فحسب ، دون الأذان ، فأمّا من صلّى الظهر أربعا منفردا ، أو مجمعا في جماعة ، فالمستحب له الأذان والإقامة جميعا لصلاة العصر ، مثل سائر الأيام ، وقد يشتبه على كثير من أصحابنا المتفقهة هذا الموضع لما يقفون عليه ، فيما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي

ص: 304


1- رسائل الشريف المرتضى : المجموعة الأولى ، المسألة الثانية ، أحكام صلاة الجمعة ، ص 272.
2- المراسم ، باب ذكر الأمر بالمعروف و ..

رحمه اللّه في نهايته ، في باب الجمعة ، من قوله : ولا يجوز الأذان لصلاة العصر يوم الجمعة ، بل ينبغي إذا فرغ من فريضة الظهر ، أن يقيم للعصر ، ثمّ يصلي ، إماما كان أو مأموما ، وهذا عند التأمل لا درك على المصنّف ، ولا اشتباه فيه ، وهو أن الإمام ، إذا فرغ من صلاة الظهر يوم الجمعة ، وصلّى الجمعة ، يقيم للعصر من غير أذان له ، والذي يدلك على ما قلناه أنّ المسألة ، أوردها في باب الجمعة لا الجماعة ، لا أن مقصود المصنّف كل من صلاها أربعا ، وقد قال الشيخ المفيد في مقنعته ما اخترناه ، وحقق ما ذكرناه ، فقال : فليؤذّن ، وليقم لصلاة العصر (1) وكذلك قال في كتاب الأركان : ثم قم فأذّن للعصر وأقم ، وتوجه بسبع تكبيرات على ما شرح ذلك في صلاة الظهر ، واقرأ فيها السورتين كما قدّمناه (2).

وقال ابن البراج في كتابه الكامل قال : فإذا فرغ من ذلك - يعني من صلاة الظهر يوم الجمعة ، ودعائها - فليؤذّن وليقم لصلاة العصر ، ثم يصلّيها كما صلّى الظهر ، ثم قال : ومن صلّى فرض الجمعة بإمام يقتدى به ، فليصلّ العصر بعد الفراغ من فرض الجمعة ، ولا يفصل بينهما إلا بالإقامة (3).

قال محمّد بن إدريس : فليس الشيخ أبو جعفر رحمه اللّه بأن يقلّد في نهايته ، بأولى من ابن البراج ، والشيخ المفيد بالتقليد في كتاب أركانه ، ومقنعته ، إن كان يجوز التقليد ، ونعوذ باللّه من ذلك ، فكيف وكلام الشيخ أبي جعفر محتمل لما قاله الشيخ المفيد ، وكلام الشيخ المفيد رحمه اللّه غير محتمل ، مع أنّ أصول المذهب والإجماع حاصل منعقد من المسلمين بأجمعهم ، طائفتنا وغيرها ، انّ الأذان والإقامة لكلّ صلاة من الصلوات الخمس المفترضات مندوب إليهما ، مستحب إلا ما خرج بالدليل في المواضع التي ذكرناها ، وخرجت بالإجماع أيضا ،

ص: 305


1- المقنعة : كتاب الصلاة ، باب العمل في ليلة الجمعة ويومها ص 162.
2- كتاب الأركان : لا يوجد عندنا
3- كتاب الكامل : لا يوجد عندنا.

وبقي الباقي على أصله من تأكيد الندب والاستحباب ، فليلحظ ذلك ، ويعمل فيه بالأدلّة ، فإن العمل تابع للعلم.

وإذا صلّى الإنسان خلف من لا يقتدى به جمعة للتقية ، فإن تمكن أن يقدّم صلاته على صلاته فعل ، وإن لم يتمكن ، يصلّي معه ركعتين ، فإذا سلّم الإمام ، قام فأضاف إليهما ركعتين آخرتين ، ويكون ذلك تمام صلاته.

باب النّوافل المرتبة في اليوم والليلة ونوافل شهر رمضان وغيرها من النوافل

قد بيّنا أوقات النوافل في اليوم والليلة ، وعدد ركعاتها ، غير انّا نرتبها هاهنا على وجه أليق به.

إذا زالت الشمس فليصلّ ثماني ركعات للزوال ، يقرأ فيها ما شاء من السور والآيات ، وأفضل ذلك « قل هو اللّه أحد » ويسلم في كلّ ركعتين منها ، ويقنت ، وهذا حكم جميع النوافل ، كلّ ركعتين بتسليم ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّ الإجماع حاصل ، منعقد عليه ، وقد روي في صلاة الأعرابي ، أنّها أربع ركعات بتسليم (1).

ويصلّي ثماني ركعات بعد الفراغ ، من فريضة الظهر.

ويصلّي بعد المغرب أربع ركعات بتشهدين وتسليمين.

ويصلّي ركعتين من جلوس ، بعد العشاء الآخرة ، يعدّان بركعة ، وهي المسمّاة بالوتيرة ، ويجعل هاتين الركعتين بعد كلّ صلاة يريد أن يصلّيها ، وهذا هو الصحيح ، وقد روي أنّه يصلّي بعدهما ركعتين (2) وهذه رواية شاذّة أوردها الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مصباحه (3) ، وأورد في نهايته بخلاف ذلك

ص: 306


1- الوسائل : الباب 39 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، ح 3.
2- الوسائل : الباب 21 من أبواب بقية الصلوات المندوبة ، والباب 44 من أبواب المواقيت ، ح 15.
3- المصباح : ما يستحب فعله بعد العشاء الآخرة من الصلاة ، ص 105 الطبع الحديث.

فقال : ويجعل هاتين الركعتين بعد كل صلاة يريد أن يصلّيها ، ويقوم بعدهما إلى فراشه (1) لأنّ السهر بما لا يجدي (2) نفعا مكروه ، إلّا أن يكون في الفقه ، فقد روي أنّ من أحيى أوّل ليلة خرّب آخره (3).

ويستحب أن لا ينام إلا وهو على طهر ، فإن نسي ذلك ، وذكر عند منامه فليتيمم من فراشه ، ومن خاف أن لا ينتبه (4) آخر الليل ، فليقل عند منامه ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (5) إلى آخر السورة ، ثم يقول : اللّهم أيقظني لعبادتك في وقت كذا ، فإنّه ينتبه إن شاء اللّه على ما ورد الحديث به (6).

فإذا انتصف الليل ، قام إلى صلاة الليل ، ولا يصلّيها في أوله على كل حال ، سواء كان مسافرا ، أو شابا ، بل القضاء هو الأولى لهما.

فإذا قام فالمستحبّ له أن يعمد إلى السواك ، بكسر السين ، وليسك فاه فانّ فيه فضلا كثيرا في هذا الوقت خصوصا ، وإن كان في سائر الأوقات مندوبا إليه.

ثمّ ليستفتح الصلاة بسبع تكبيرات ، على ما رتبناه سنة ، ثم ليصلي (7) ثماني ركعات ، يقرأ في الركعتين الأولتين : « الحمد » و « قل هو اللّه أحد » ستين مرّة ، في كل واحدة منهما ثلاثين مرّة ، وقد روي أن في الثانية يقرأ بدل الثلاثين مرّة « قل هو اللّه أحد » ، « قل يا أيّها الكافرون » (8) وهو مذهب الشيخ المفيد (9) والأوّل أظهر في الرواية (10) ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه وفي الست البواقي ، ما شاء من السور ، إن شاء طول ، وإن شاء قصّر ، والأفضل قراءة السور

ص: 307


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب النوافل وأحكامها
2- ج : الذي لا يجدي.
3- لم نتحققه فيما بأيدينا من المصادر
4- ج : لا ينشط
5- الكهف : 110.
6- لم نجده بعينه في الكتب الموضوعة للحديث لكن وجدناه في كتاب النهاية للشيخ رحمه اللّه في كتاب الصلاة ، باب النوافل وأحكامها
7- م : يصلي
8- لم نتحققه فيما بأيدينا من المصادر.
9- المقنعة : كتاب الصلاة ، باب كيفية الصلاة وصفتها ص 107 و 108.
10- التهذيب : ج 2 ، كتاب الصلاة ، باب 8 ، ح 238.

الطوال ، مثل الأنعام ، والكهف ، والحواميم ، إذا كان عليه وقت كثير.

فإذا فرغ منها ، صلّى ركعتي الشفع ، يقرأ فيهما الحمد والمعوذتين ، ويسلّم بعدهما ، ويستحبّ أن يقرأ فيهما سورة الملك وهل أتى على الإنسان.

ثمّ يقوم إلى الوتر ، ويتوجه فيه أيضا ، على ما قدّمناه.

فإذا قام إلى صلاة الليل ، ولم يكن قد بقي من الوقت مقدار ما يصلّي كل ليلة ، وخاف طلوع الفجر ، خفّف صلاته ، واقتصر على الحمد وحدها ، فإن خاف مع ذلك طلوع الفجر ، صلّى ركعتين ، وأوتر بعدهما ، ويصلّي ركعتي الفجر ، ثمّ يصلي الفريضة ، ثمّ يقضي الثماني ركعات ، فإن لم يطلع الفجر ، أضاف إلى ما صلّى ست ركعات ، ثم أعاد ركعة الوتر وركعتي الفجر.

هذا قول الشيخ المفيد في مقنعته (1) وقال ابن بابويه في رسالته : يعيد ركعتي الفجر فحسب (2) ، والأوّل الذي حكيناه عن شيخنا المفيد أظهر وأفقه ، لأنّه قد صلّى المفردة من الوتر في غير وقتها ، ولهذا أعاد بالاتفاق منهما ركعتي الفجر فإن اعترض بركعتي الشفع ، قلنا : الإجماع حاصل على أن لا يعادا.

وإن كان قد صلّى أربع ركعات من صلاة الليل ، ثمّ طلع الفجر ، تمّم ما بقي عليه أداء ، وخففها ، ثم صلّى الفرض.

ومن نسي ركعتين من صلاة الليل ، ثم ذكر بعد أن أوتر قضاهما ، وأعاد الوتر ، على ما روي في بعض الأخبار (3).

ومن نسي التشهّد في النافلة ، ثم ذكر بعد أن ركع ، أسقط الركوع ، وجلس وتشهّد وسلّم.

وإذا فرغ من صلاة الليل ، قام فصلّى ركعتي الفجر ، وإن لم يكن الفجر

ص: 308


1- المقنعة : كتاب الصلاة ، باب تفصيل أحكام ما تقدم ذكره في الصلاة ، آخر تلك الباب ، ص 144.
2- رسالة ابن بابويه : لم نجد المسألة في الرسالة.
3- الوسائل : الباب 17 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

الأوّل قد طلع بعد.

ويستحب أن يضطجع بعد صلاة نافلة الغداة التي هي الدساسة ، ويقول في حال اضطجاعه الدعاء المعروف في ذلك ، وإن جعل مكان الضجعة سجدة ، كان ذلك جائزا.

ولا بأس أن يصلّي الإنسان النوافل جالسا إذا لم يتمكن من الصلاة قائما فإن تمكن منها قائما وأراد أن يصليها جالسا ، لم يكن بذلك أيضا بأس ، وجاز ذلك على ما أورده شيخنا في نهايته (1) وهو من أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، كما أورد أمثاله إيرادا ، لا اعتقادا ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها مخالفة لأصول المذهب ، لأنّ الصلاة لا تجوز مع الاختيار جالسا ، إلا ما خرج بالدليل والإجماع ، سواء كانت نافلة أو فريضة ، إلا الوتيرة.

فإن قيل : يجوز عندكم صلاة النافلة على الراحلة مختارا في السفر وفي الأمصار ، قلنا : ذلك الإجماع منعقد عليه ، وهو الذي يصححه ، فلا نقيس غيره عليه ، لأنّ القياس عندنا باطل ، فلا نحمل مسألة على مسألة بغير دليل قاطع ، فليلحظ ذلك ، إلا أنّه يستحب له ، والحال ما وصفناه ، أن يصلّى لكل ركعة ركعتين.

ومن كان في دعاء الوتر ، ولم يرد قطعه ، ولحقه عطش ، وبين يديه ماء ، جاز له أن يتقدم خطى فيشرب الماء ، ثم يرجع إلى مكانه ، فيتمم صلاته ، من غير أن يستدبر القبلة ، هذا إذا كان في عزمه الصيام من الغد ، على ما روي في الاخبار (2). ولا يجوز شرب الماء للمصلّي في صلاته في سائر النوافل ، ما عدا هذه المسألة ، ولا يجوز ان يتعدّاها إلى غيرها ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : يجوز عندنا شرب الماء في النافلة (3) وأطلق ذلك ، وإطلاقه غير واضح ، لأنّ القياس عندنا باطل ، لأنّه ما ورد إلا في عين هذه المسألة ، فلا يجوز تعدّيها إلى غيرها ، هذا إذا كان على الرواية إجماع منعقد.

ص: 309


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب النوافل وأحكامها.
2- الوسائل : الباب 23 من أبواب قواطع الصلاة
3- الخلاف : مسألة 159 من كتاب الصلاة.

فأمّا نوافل شهر رمضان ، فإنّه يستحب أن يزاد فيه على المعتاد في غيره من الشهور ، زيادة ألف ركعة بغير خلاف بين أصحابنا ، إلا من عرف اسمه ونسبه ، وهو أبو جعفر محمّد بن بابويه ، وخلافه لا يعتدّ به ، لأنّ الإجماع تقدّمه وتأخّر عنه ، وانّما اختلف أصحابنا في ترتيب الألف ، فذهب فريق منهم إلى أنّه يصلّي من أوّل ليلة إلى عشرين ليلة ، كل ليلة عشرين ركعة ، ثمان بعد الفراغ من فريضة المغرب ونافلتها ، كل ركعتين بتشهد وتسليم بعده ، واثنتي عشرة ركعة بعد العشاء الآخرة قبل الوتيرة ، ويختم صلاته بالوتيرة ، ويزيد في ليلة تسع عشرة مائة ركعة ، بعد الفراغ من جميع صلوات ، ويختم صلاته بالوتيرة ، ما لم يتجاوز نصف الليل ، فإن لم يفرغ إلا بعد نصف الليل ، صلّى الوتيرة قبل نصف الليل ، لئلا تصير قضاء بخروج وقتها ، ويصلّي في العشر الأواخر ، كلّ ليلة ثلاثين ركعة ، ثماني بعد المغرب ، واثنتين وعشرين ركعة بعد العشاء الآخرة ، ويصلّي في ليلة إحدى وعشرين ، ولا ثلاث وعشرين ، زيادة على ما فيهما مائة ركعة كل ليلة (1) فيكون تمام الألف ركعة.

وقال فريق منهم : يصلّي الى تسع عشرة منه ، في كل ليلة عشرين ركعة ، ثماني ركعات بعد المغرب ، واثنتا عشرة ركعة بعد العشاء الآخرة قبل الوتيرة ، ويختم الصلاة بالوتيرة ، وفي ليلة تسع عشرة ، مائة ركعة ، وفي ليلة إحدى وعشرين أيضا مثل ذلك ، وفي ليلة ثلاث وعشرين أيضا مثل ذلك ، ويصلي في ثماني ليال من العشر الأواخر ، في كل ليلة ثلاثين ركعة ، يصلّي بعد المغرب ثماني ركعات ، واثنتين وعشرين ركعة بعد العشاء الآخرة ، فهذه تسعمائة وعشرون ركعة ، ويصلّي في كل يوم جمعة من شهر رمضان أربع ركعات ، لأمير المؤمنين ، وركعتين صلاة فاطمة عليهما السلام ، وأربع ركعات صلاة جعفر بن أبي طالب رحمة اللّه عليه ويصلّي في آخر جمعة من الشهر ، عشرين ركعة صلاة أمير المؤمنين ،

ص: 310


1- ج : مائة ركعة فيكون.

وفي عشية تلك الجمعة ، عشرين ركعة صلاة فاطمة عليها السلام ، فهذه تمام الألف ، والمذهب الأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب الاقتصاد (1) وفي مسائل الخلاف (2) ، وافتى به ، وعمل عليه ، ودل (3) على صحته ، وجعل ما خالفه من المذهب الثاني رواية (4) ما التفت إليها ، ومذهب شيخنا المفيد أيضا في كتاب الأشراف (5).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، وهو الذي افتي به ، ويقوى عندي ، لأنّ الأخبار به أكثر ، وأعدل رواة ، ويعضده أنّ اللّه تعالى ، لا يكلف تكليف ما لا يطاق ، لا في فرض ولا في نافلة ، وقد جعل لهذه النافلة وقتا ، والوقت ينبغي أن يفضل على العبادة ، ولا تفضل العبادة عليه ، أو يكون كالقالب لها ، وهو الصيام ، هذا الذي يقتضيه أصول الفقه ، وفي أقصر ليالي الصيف ، وهي تسع ساعات ، لا يمكن الإتيان بهذه النافلة ، إذا كانت آخر ليلة سبت في الشهر ، لأنّ الوقت يضيق عن الفرض والنافلة المرتبة ، والعشرين ركعة من صلاة فاطمة عليها السلام وعن الأكل ، والشرب ، وللإفطار ، وقضاء حاجة لا بدّ منها ، وغير ذلك ، ومن كابر ، وقال انا أصليها أو صليتها على هذا الترتيب ، فإن سلّم له ذلك ، فصلاة على غير تؤدة ، ولا يكون تاليا للقرآن كما انزل ، ولا راكعا ولا ساجدا السجود المشروع ، وهذا مرغوب عنه على ضجر وملال ، وقد روي في الحديث لا يمل اللّه حتى تملوا (6).

ويستحب أن يصلّي ليلة النصف ، مائة ركعة يقرأ في كل ركعة الحمد (7) وقل هو اللّه أحد ، عشر مرات.

ص: 311


1- الاقتصاد : فصل في ذكر نوافل شهر رمضان وجملة من الصلوات المرغبة فيها ، ص 273.
2- الخلاف : مسألة 269 من كتاب الصلاة من دون بيان كيفية الإتيان لثلاثين ركعة.
3- ج : استدل
4- الوسائل : الباب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان ، ح 1.
5- الاشراف : لا يوجد عندنا
6- الوسائل : الباب 2 من أبواب الدعاء ، ح 15
7- في ط : الحمد مرة.

ويستحب أن يصلّي ليلة الفطر ركعتين ، ويقرأ في أول ركعة منهما ، الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد ألف مرّة ، وفي الثانية الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد مرّة واحدة.

فأمّا صفة صلاة أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّها أربع ركعات بتسليمين ، يقرأ في كل ركعة الحمد ، وخمسين مرة قل هو اللّه أحد.

وصفة صلاة فاطمة عليها السلام ، ركعتان يقرأ في الأولى منهما الحمد مرّة واحدة ، وإنا أنزلناه مائة مرة ، وفي الثانية الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد مائة مرة.

وصفة صلاة جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه أربع ركعات بثلاث مائة مرة « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » يبتدئ الصلاة ، فيقرأ الحمد ويقرأ في الأولى منها « إذا زلزلت » فإذا فرغ منها ، سبح خمس عشرة مرّة ، ثم ليركع ، ويقول ذلك عشرا ، فإذا رفع رأسه قاله عشرا ، فإذا سجد قاله عشرا ، فإذا رفع رأسه من السجود قاله عشرا ، فإذا سجد الثانية قاله عشرا ، فإذا رفع رأسه ثانيا ، قاله عشرا ، فهذه خمس وسبعون مرّة ، ثم لينهض إلى الثانية ، وليصل أربع ركعات على هذا الوصف ، ويقرأ في الثانية « والعاديات » بعد الحمد ، وفي الثالثة بعد الحمد « إذا جاء نصر اللّه والفتح » وفي الرابعة بعد الحمد « قل هو اللّه أحد ».

ويستحب أن يصلّي الإنسان يوم الغدير إذا بقي إلى الزوال نصف ساعة بعد أن يغتسل ركعتين ، يقرأ في كل واحدة منهما الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد عشر مرات ، وآية الكرسي عشر مرات ، وإنّا أنزلناه عشر مرات. وروي أنّ آية الكرسي تكون أخيرا ، وقبلها إنّا أنزلناه (1) فإذا سلّم دعا بعدهما بالدعاء المسطور في كتب العبادات.

ويستحب أن يصلّي الإنسان ليلة المبعث ، اثنتي عشرة ركعة ، ويوم المبعث أيضا وهو يوم السابع والعشرين من رجب ، اثنتي عشرة ركعة ، يقرأ في كل

ص: 312


1- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب بقية صلوات المندوبة ، ح 1 ، وفيه ، ويقرأ في كل ركعة سورة الحمد عشرا.

واحدة منها الحمد ويس ، فإن لم يتمكن قرأ ما سهل عليه من السور ، فإذا فرغ منها جلس في مكانه ، وقرأ أربع مرّات سورة الحمد وقل هو اللّه أحد مثل ذلك ، والمعوذتين بكسر الواو ، كلّ واحدة منهما أربع مرّات ، ثم يقول « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » أربع مرات ، ويقول : « اللّه اللّه ربي لا أشرك به شيئا » أربع مرات.

ويستحب أن يصلي ليلة النصف من شعبان ، أربع ركعات ، يقرأ في كل واحدة منها الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد مائة مرة.

وبالجملة يستحب إحياء هذه الليلة ، بالصلوات والأدعية ، فإنّها ليلة شريفة عظيمة الثواب.

وإذا أراد الإنسان أمرا من الأمور لدينه أو دنياه ، يستحب له أن يصلّي ركعتين ، يقرأ فيهما ما شاء ، ويقنت في الثانية ، فإذا سلّم ، دعا بما أراد ثم ليسجد ، وليستخر اللّه في سجوده مائة مرّة ، يقول : أستخير اللّه في جميع أموري خيرة في عافية ، ثم يفعل ما يقع في قلبه ، والروايات (1) في هذا الباب كثيرة ، والأمر فيها واسع ، والأولى ما ذكرناه.

فأمّا الرقاع ، والبنادق ، والقرعة ، فمن أضعف أخبار الآحاد ، وشواذ الأخبار ، لأنّ رواتها فطحية ملعونون مثل زرعة ورفاعة وغيرهما فلا يلتفت إلى ما اختصا بروايته ، ولا يعرج عليه ، والمحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه ، إلا ما اخترناه ، ولا يذكرون البنادق ، والرقاع ، والقرعة ، إلا في كتب العبادات ، دون كتب الفقه فشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه لم يذكر في نهايته (2) ومبسوطة (3) واقتصاده (4) ، إلا ما ذكرناه واخترناه ، ولم يتعرّض

ص: 313


1- الوسائل : الباب 28 من أبواب بقية الصلوات المندوبة.
2- النهاية : باب نوافل شهر رمضان وغيرها من الصلوات المرغب فيها.
3- المبسوط : في ذكر النوافل من الصلاة.
4- الاقتصاد : فصل في ذكر نوافل شهر رمضان وجملة من الصلوات المرغبة فيها ص 274.

للبنادق ، وكذا شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده (1) لم يتعرض للرقاع ولا للبنادق ، بل أورد روايات كثيرة فيها صلوات وأدعية ، ولم يتعرض لشي ء من الرقاع ، والفقيه عبد العزيز بن البراج رحمه اللّه أورد ما اخترناه ، فقال : وقد ورد في الاستخارة وجوه عدّة ، وأحسنها ما ذكرناه ، وأيضا فالاستخارة في كلام العرب الدعاء ، وهو من استخارة الوحش ، وذلك أن يأخذ القانص ولد الظبية فيعرك اذنه ، فيبغم ، فإذا سمعت أمّه بغامه ، لم تملك أن تأتيه ، فترمي بنفسها عليه ، فيأخذها القانص حينئذ.

قال حميد بن ثور الهلالي ، وذكر ظبية وولدها ، ودعاؤه لها لمّا أخذه القانص ، فقال :

رأت مستخيرا فاستزال فؤادها *** بمحنية تبدو لها وتغيب

أراد رأت داعيا ، فكان معنى استخرت اللّه ، استدعيته إرشادي.

وكان يونس بن حبيب اللغوي يقول : إن معنى قولهم استخرت اللّه ، استفعلت من الخير ، أي سألت اللّه أن يوفق لي خير الأشياء التي أقصدها ، فمعنى صلاة الاستخارة على هذا أي صلاة الدعاء.

وإذا عرض للإنسان حاجة فليصم الأربعاء والخميس والجمعة ، ثم ليبرز تحت السماء في يوم الجمعة ، وليصلّ ركعتين ، يقرأ فيهما بعد الحمد مائتي مرّة ، وعشر مرات قل هو اللّه أحد على ترتيب صلاة التسبيح ، إلا أنّه يجعل بدل التسبيح في صلاة جعفر خمس عشرة مرة قل هو اللّه أحد في الركوع والسجود ، وفي جميع الأحوال ، فإذا فرغ منها ، سأل اللّه تعالى حاجته ، فإذا قضى حاجته ، فليصلّ ركعتين ، شكرا لله تعالى ، يقرأ فيهما ، الحمد وإنا أنزلناه ، أو سورة قل هو اللّه أحد ، ثم ليشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه ، في حال السجود والركوع

ص: 314


1- رسالة الشيخ المفيد : لم نعثر عليه.

وبعد التسليم إن شاء اللّه تعالى.

وقال شيخنا أبو جعفر في مختصر (1) المصباح : ويستحب صلاة أربع ركعات ، وشرح كيفيتها في يوم النيروز « نوروز الفرس » ولم يذكر أيّ يوم هو من الأيّام ، ولا عيّنه بشهر من الشهور الرومية ، ولا العربية ، والذي قد حققه بعض محصّلي أهل الحساب ، وعلماء الهيأة ، وأهل هذه الصنعة في كتاب له ، أنّ يوم النيروز ، يوم العاشر من أيّار ، وشهر أيّار ، أحد وثلاثون يوما ، فإذا مضى منه تسعة أيّام فهو يوم النيروز يقال : نيروز ونوروز لغتان ، وأمّا نيروز المعتضد الذي يقال النيروز المعتضدي ، فإنّه اليوم الحادي عشر من حزيران ، وذلك أنّ أهل السواد والمزارعين شكوا إليه أمر الخراج ، وأنّه يفتح قبل أخذ الغلة ، وحصادها وارتفاعها ، فيستدينون عليها ، فيجحف ذلك بالناس والرعية ، فيقدم أن لا يفتح ويطالب بالخراج ، إلا في أحد عشر يوما من شهر حزيران ، قال بعض من امتدحه من الشعراء على هذا الفعال والمنقبة والرقة والإفضال :

يوم نيروزك يوم واحد لا يتأخّر *** من حزيران يوافي أبدا في أحد عشر

ذكر ذلك جميعه الصولي في كتاب الأوراق.

باب صلاة العيدين

صلاة العيدين فريضة بتكامل الشروط التي ذكرناها في لزوم الجمعة ، من حضور السلطان العادل ، واجتماع العدد المخصوص ، وغير ذلك من الشرائط التي تقدّم ذكرها ، وتجب على ما (2) تجب عليه صلاة الجمعة ، وتسقط عمن تسقط عنه ، وهما سنة إذا صليا على الانفراد ، عند فقد الإمام ، أو نقصان العدد ، أو اختلال ما عدا ذلك من الشروط ، ومعنى قول أصحابنا على الانفراد ، ليس المراد بذلك أن يصلّي كلّ واحد منهم منفردا ، بل الجماعة أيضا عند انفرادها من دون

ص: 315


1- مختصر المصباح : لا يوجد عندنا
2- ط ، ج : على من.

الشرائط مسنونة مستحبة ، ويشتبه على بعض المتفقهة هذا الموضع ، بأن يقول على الانفراد أراد مستحبة إذا صليت (1) كل واحد وحده ، قال : لأنّ الجمع في صلاة النوافل لا يجوز ، فإذا عدمت الشرائط صارت نافلة ، فلا يجوز الاجتماع فيها.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا قلة تأمّل من قائله ، بل مقصود أصحابنا على الانفراد ما ذكرناه من انفرادها عن الشرائط ، فأمّا تعلّقه بأنّ النوافل لا يجوز الجمع فيها ، فتلك النافلة التي لم تكن على وجه من الوجوه ، ولا في وقت من الأوقات واجبة ، ما خلا صلاة الاستسقاء ، وهذه الصلاة أصلها الوجوب ، وانّما سقط عند عدم الشرائط ، وبقي جميع أفعالها وكيفياتها على ما كانت عليه من قبل ، وأيضا فإجماع أصحابنا يدمر ما تعلّق به ، وهو قولهم بأجمعهم يستحب في زمان الغيبة لفقهاء الشيعة ، أن يجمعوا بهم صلوات الأعياد ، فلو كانت الجماعة فيها لا تجوز ، لما قالوا ذلك ، وأيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه سأله السائل في المسائل الحائريات ، عن الجماعة اليوم في صلاة العيدين ، فأجاب بأن قال ذلك مستحب مندوب إليه (2).

وعدد صلاة كل واحد من العيدين ركعتان باثنتي عشرة تكبيرة بغير خلاف ، والقراءة فيها عندنا ، قبل التكبيرات في الركعتين معا ، وانّما الخلاف بين أصحابنا في القنتات ، منهم من يقنت تسع قنتات ، ومنهم من يقنت ثمان قنتات ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، والثاني مذهب شيخنا المفيد ، لأنّ الشيخ المفيد يقوم إلى الركعة الثانية بتكبيرة ، ويجعل هذه التكبيرة من جملة التكبيرات الخمس ، فيسقط لها قنوتها ، لأنّ في دبر كلّ تكبيرة قنوتا ما عدا تكبيرة الإحرام ، وتكبيرتي الركوع ، وشيخنا أبو جعفر لا يقوم إلى الثانية بتكبيرة فإذا قام ، قرأ ، ثم كبّر أربع تكبيرات ، يقنت في دبر كلّ تكبيرة

ص: 316


1- في ط وج : صلاها
2- المسائل الحائريات : لا توجد على ما تفحصنا فيها.

ثم يكبر الخامسة ، يركع بها ، وهذا أظهر في الروايات (1) والعمل ، وبه افتي.

وترتيبها ، ركعتان باثنتي عشرة تكبيرة على ما قدّمناه ، سبع في الاولى وخمس في الثانية ، يفتتح صلاته بتكبيرة الإحرام ، ويتوجه إن شاء ، ثم يقرأ سورة الحمد ، وسورة الأعلى ، ثم يكبر خمس تكبيرات ، يقنت في دبر كلّ تكبيرة قنوتا بالدعاء المعروف في ذلك ، وإن قنت بغيره كان أيضا جائزا ، ثم يكبر السابعة ، ويركع بها ، فإذا قام إلى الثانية ، قام بغير تكبير ، ثم يقرأ الحمد ، ويقرأ بعدها ، والشمس وضحاها ، وروي سورة الغاشية (2) ثم يكبر أربع تكبيرات ، يقنت في دبر كل تكبيرة منها ، ثمّ يكبر الخامسة ، ويركع بها.

وليس في صلاة العيدين أذان ولا إقامة ، ولكن ينادي لها الصلاة ، ثلاث مرّات ، ويجهر الإمام فيهما ، كما يجهر في الجمعة.

والخطبتان فيهما واجبة على الإمام كوجوبهما في الجمعة ، إلا أنّهما في الجمعة قبل الصلاة ، وفي العيدين بعد فراغه من الصلاة ، ولا يجب على المأمومين استماعهما ، بخلاف الجمعة.

ولا منبر في العيدين ينقل نقلا ، بل يوضع للإمام من الطين ما يعلو عليه ، ويخطب.

ووقتهما من طلوع الشمس إلى زوالها من ذلك اليوم ، إلا انّه يستحب في صلاة الأضحى تعجيل الخروج والصلاة ، ويستحب في صلاة الفطر خلاف ذلك ويستحب لمن خرج إلى صلاة العيد أن يخرج في طريق ، ويجي ء في طريق غيرها.

ويستحب أن يكون الوقوف والسجود في صلاة العيدين على الأرض نفسها ، من غير حائل ، وليس قبلها تطوّع بصلاة ، ولا بعدها ، لا قضاء ولا أداء إلى زوال الشمس ، ولا بأس بقضاء الفرائض ، وانّما الكراهة في صلاة النافلة ، إلا بالمدينة ، فإن من غدا إلى صلاة العيد مجتازا على مسجدها استحب له أن

ص: 317


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب صلاة العيد
2- نفس المصدر والباب ح 2 و 4.

يصلّي فيه ركعتين.

وليس على من فاتته صلاة العيدين مع الإمام قضاء واجب ، وإن استحب له أن يأتي بها منفردا.

والسنّة لأهل الأمصار أن يصلّوا العيدين مصحرين ، بارزين من الأبنية ، إلا أهل مكة خاصة ، فإنّهم يصلّون في المسجد الحرام ، لحرمة البيت ، وقد ألحق قوم بذلك مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وعلى آله والأوّل هو المعمول عليه ، وتكون الصلاة في صحن المسجد الحرام ، دون موضع الظلال منه.

ويكره خروج الإمام والمسلمين يوم العيد إلى المصلّى بالسلاح ، إلا لخوف من عدو يخاف مكيدته ، ويكون الخروج في طريق ، والرجوع في غيره.

ومن السنّة المؤكدة في العيدين ، الغسل ، ووقته من طلوع الفجر الثاني ، إلى قبل الخروج إلى المصلى ، والتزين والتطيب ، كما ذكرناه في الجمعة ، ولبس الثياب الجدد ، وأن يطعم الغادي في يوم الفطر شيئا من الحلاوة ، وأفضله السكر ، وروي من تربة سيّدنا الشهيد أبي عبد اللّه الحسين بن علي عليهما السلام (1) والأول أظهر ، لأنّ هذه الرواية شاذة ، من أضعف أخبار الآحاد ، لأنّ أكل الطين على اختلاف ضروبه حرام بالإجماع ، إلا ما خرج بالدليل من أكل التربة الحسينية على متضمنها أفضل السلام للاستشفاء ، فحسب القليل منها ، دون الكثير ، للأمراض ، وما عدا ذلك فهو باق على أصل التحريم ، والإجماع.

ويكون أكله وإفطاره على الحلاوة قبل الخروج إلى الصلاة ، وفي عيد يوم الأضحى لا يطعم شيئا حتى يرجع من الصلاة ، ولهذا سنّ تعجيل الخروج إلى المصلّى في صلاة الأضحى ، وتأخير الخروج إليه في صلاة الفطر.

والتكبير في ليلة الفطر ابتداؤه دبر صلاة المغرب ، إلى أن يرجع الإمام من

ص: 318


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب صلاة العيد ، ح 1.

صلاة العيد ، فكأنه في دبر أربع صلوات أولهن المغرب من ليلة الفطر ، وآخرهن صلاة العيد ، وقال بعض أصحابنا : وهو ابن بابويه في رسالته في دبر ست صلوات (1) الصلوات المذكورات ، والظهر والعصر من يوم العيد ، والأوّل هو الأظهر بين الطائفة ، وعليه عملهم.

وفي الأضحى التكبير على من كان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة ، أولها صلاة الظهر من يوم العيد ، وآخرها صلاة الصبح من يوم النفر الأخير ، ومن كان في غير منى ، من أهل سائر الأمصار ، يكبر في دبر عشر صلوات ، أولهن صلاة الظهر من يوم العيد ، وآخرهنّ صلاة الصبح من يوم النفر الأول.

وصفة التكبير وكيفيته : « اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا » هذا في تكبير عيد الفطر ، فإن كان تكبير صلاة الأضحى ، زيد في آخره بعد قوله : والحمد لله على ما أولانا « ورزقنا من بهيمة الأنعام » وهل هذا التكبير في دبر هذه الصلوات واجب ، أو مندوب ، اختلف أصحابنا على قولين : فذهب قوم منهم إلى أنّه واجب ، وذهب قوم آخرون إلى أنّه مستحب ، فالأول مذهب المرتضى واختياره ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه واختياره في نهايته (2) ومبسوطة (3) وهو الذي يقوى عندي ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الواجب والندب ، إلا بدليل قاطع ، وإذا كان لا إجماع على الوجوب ، فبقي أنّ الأصل براءة الذمة ، وفقدان دليل الوجوب ، والأخبار ناطقة عن الأئمة الأطهار بالاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، يعضد (4) دليل براءة الذمة ، ويؤيده.

ويستحب لمن لم يشهد الموقف بعرفات ، أن يعرّف في بعض المشاهد

ص: 319


1- لم نتحققه في رسالة ابن بابويه
2- النهاية : في صلاة العيدين.
3- المبسوط : كتاب صلاة العيدين
4- ج : يعضده.

الشريفة ، وقد (1) روي في التعريف في مشهد سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين بن علي عليهما السلام فضل كثير ، وثواب جزيل ، فينبغي أن لا يدعه الإنسان مع الاختيار.

ويكره أن يخرج من البلد مسافرا بعد فجر يوم العيد ، إلا بعد أن يشهد صلاة العيد ، فإن خالف فقد ترك الأفضل ، فأمّا قبل ذلك فلا بأس به ، فأمّا بعد طلوع الشمس ، فلا يجوز له السفر إلا بعد الصلاة ، إذا كان ممن تجب عليه صلاة العيد.

ويستحب أن يرفع يديه مع كل تكبيرة ، وإذا أدرك مع الإمام بعض التكبيرات ، تممها مع نفسه ، فإن خاف فوت الركوع والى بينها من غير قنوت.

وينبغي للإمام أن بحث الناس في خطبته في الفطر (2) على الفطرة ، ويذكر وجوبها ، ووزنها ، وجنسها ، ووقت إخراجها ، ومن المستحق لها ، وعلى من تجب ، ومن يستحب له إخراجها إذا لم تجب عليه ، ويبالغ في شرح جميع ذلك.

وفي الأضحى ، يحثهم على الأضحية ويصفها ، ويذكر أجناسها ، ويبالغ في ذلك.

ومن لا تجب عليه صلاة العيد من المسافر والعبد وغيرهما ، يجوز لهما إقامتهما منفردين سنّة.

ولا بأس بخروج العجائز ، ومن لا هيأه لها من النساء ، في صلاة الأعياد ، ليشهدن الصلاة ، ولا يجوز ذلك لذوات الهيئات منهن والجمال.

ووقت صلاة العيد إذا طلعت الشمس ، وارتفعت ، وانبسطت ، والوقت باق إلى زوال الشمس ، فإذا زالت ، فقد فاتت ولا قضاء على ما بيّناه.

باب صلاة الكسوف

صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر فرض واجب ، يقال : كسفت الشمس تكسف كسوفا ، وكسفها اللّه تعالى كسفا يتعدّى ولا يتعدّى ، وكذلك

ص: 320


1- الوسائل : الباب 49 من أبواب المزار وما يناسبه
2- ج : في الخطبة يوم الفطر.

كسف القمر ، إلا أنّ الأجود فيه ، أن يقال خسف القمر ، والعامة تقول : انكسفت الشمس ، قد وضعها بعض مصنفي أصحابنا في كتاب له ، وهي لفظة عامية ، والأولى تجنبها ، واستعمال ما عليه أهل اللغة في ذلك ، قد ذكره الجوهري في صحاحه وغيره من أهل اللغة.

وكذلك عند الزلازل ، والرياح المخوفة ، والظلمة الشديدة ، والآيات التي لم تجر بها العادة تجب الصلاة لها مثل ذلك.

ويستحب أن تصلى هذه الصلاة جماعة ، وإن صليت فرادى كان جائزا.

ومن ترك هذه الصلاة عند كسوف قرص الشمس والقمر بأجمعهما متعمّدا وجب عليه قضاء الصلاة بغسل ، واختلف قول أصحابنا في هذا الغسل ، منهم من ذهب إلى وجوبه ، ومنهم من ذهب إلى استحبابه ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأصل براءة الذمة ولا إجماع على الوجوب ، ولا دليل عليه ، والأول اختيار سلار ، والثاني اختيار شيخنا المفيد وأبي جعفر الطوسي ، والمرتضى رحمهم اللّه.

وإن تركها ناسيا ، والحال ما وصفناه ، قضاها بغير غسل ، لا فرضا ولا ندبا ، بغير خلاف هاهنا في الغسل على القولين معا.

ومتى احترق بعض قرص الشمس ، أو القمر ، وترك الصلاة متعمدا ، وجب عليه القضاء بغير غسل أيضا بلا خلاف ، وإن تركها ناسيا والحال ما قلناه ، لم يكن عليه قضاؤها ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب القضاء في هذه الحال ، وهو اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (1) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، للإجماع المنعقد من جميع أصحابنا بغير خلاف ، على أنّ من فاتته صلاة أو نسيها ، فوقتها حين يذكرها ، والخبر المجمع عليه عند جميع الأمة ، من قول الرسول

ص: 321


1- المقنعة : كتاب الصلاة باب صلاة الكسوف ، ص 211 ، والعبارة هذه : وإن احترق بعضه ولم تعلم بذلك حتى أصبحت صيت القضاء فرادى.

عليه السلام ، أنّ من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها (1) ودليل الاحتياط أيضا ، والأوّل قول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

ووقت هذه الصلاة ، إذا ابتدأ قرص الشمس ، أو القمر في الانكساف ، إلى أن يأخذ في الابتداء للانجلاء ، فإذا ابتدأ في ذلك فقد مضى وقتها ، وصارت فضاء.

ويتوجه فرض هذه الصلاة إلى الذكر ، والأنثى ، والحر ، والعبد ، والمقيم ، والمسافر ، وإلى كل من كان مخاطبا بفرض الصلاة ، ولم يكن له عذر يبيح الإخلال بالفرض ، ويسقط ذلك العذر تكليفه الصلاة ، كالحيض ، والنفاس.

وجملة القول في وقت هذه الصلاة وتحقيق ذلك ، أنّه عند ظهور الكسوف للبصر في المشاهدة ، أو العلم به ، فيمن لم يكن مشاهدا ، من أعمى ، وغيره ، إلا أن يخشى فوت فرض صلاة حاضرة قد تضيّق وقتها ، فيبدأ بذلك الفرض.

وإن دخل وقت فرض ، وأنت في صلاة الكسوف ، وخشيت خروج الوقت ، قطعت الصلاة ، وأتيت بالفرض ، ثم عدت إلى صلاة الكسوف بانيا على ما تقدّم ، محتسبا بما مضى.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : فمتى كان وقت صلاة الكسوف وقت فريضة ، فإن كان أوّل الوقت صلّى صلاة الكسوف ، ثم صلاة الفرض ، فإن تضيّق الوقت بدأ بصلاة الفرض ، ثم قضى صلاة الكسوف ، وقد روي (2) أنّه يبدأ بالفرض على كل حال ، وإن كان في أول الوقت ، وهو الأحوط ، فإن دخل في صلاة الكسوف ، فدخل عليه الوقت ، قطع صلاة الكسوف ، ثم صلّى الفرض ، ثم استأنف صلاة الكسوف ، وإن كان وقت صلاة الليل ، صلّى أولا صلاة الكسوف ، ثم صلاة الليل (3).

ص: 322


1- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 11 و 12 مع اختلاف بعض ألفاظهما لما ذكره قدس سره
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 1.
3- المبسوط : كتاب صلاة الكسوف.

وهذا مذهبه في نهايته (1) ، وقد رجع عن هذا القول ، في جمله وعقوده ، فقال : خمس صلوات تصلى في كل وقت ما لم يتضيّق وقت فريضة حاضرة ، من فاتته صلاة فريضة فوقتها حين يذكرها ، وكذلك قضاء النوافل ما لم يدخل وقت فريضة ، وصلاة الكسوف (2).

وهذا هو الصحيح الذي يعضده الأدلة ، لأنّ وقت الفريضة ممتد ، موسع ، لا يخشى فوته ، وهذه الصلاة يخشى فوتها.

وأيضا لا يجوز قطع صلاة شرعية مأمور بالدخول فيها ، وهذا الذي اخترناه ، مذهب السيد المرتضى ، والإجماع عليه أيضا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه وافق في جمله وعقوده ورجع ، على ما حكيناه عنه ، وكذلك في أوّل كلامه في مبسوطة ثم قال : وقد روي (3). فلا نرجع عن الأدلة برواية غير مجمع على صحتها.

ولا أذان لهذه الصلاة في جمع ولا فرادى.

وهي عشر ركوعات (4) ، بأربع سجدات ، يفتتح الصلاة بالتكبير ، ثم يستفتح ، ويقرأ أم الكتاب وسورة ، ويستحب أن يكون من طوال السور ، وتجهر بالقراءة ، فإذا فرغت منها ، ركعت ، فأطلت الركوع ، بمقدار قراءتك ، إن استطعت ، على جهة الاستحباب ، ثم ترفع رأسك من الركوع ، وتقول اللّه أكبر ، وتقرأ أم الكتاب وسورة ، ثم تركع الثانية ، وتطيل ، على ما تقدّم ، ثم تعود إلى الانتصاب ، والقراءة حتى تستتم خمس ركوعات ، ولا تقل سمع اللّه لمن حمده ، إلا في الركعتين اللتين يليهما السجود ، وهما الخامسة والعاشرة ، فإذا انتصبت من الركعة الخامسة ، كبرت وسجدت سجدتين ، تطيل فيهما أيضا التسبيح ، ثم تنهض ، فتفعل من القراءة والركوع مثل ما تقدّم ، ثمّ تتشهد وتسلّم.

ص: 323


1- النهاية : باب صلاة الكسوف والزلازل والرياح السود.
2- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في فصل ذكر المواقيت.
3- المبسوط : كتاب صلاة الكسوف
4- في ط وج : ركعات.

ولا بأس بأن تقرأ السورة التي تلي أم الكتاب في أكثر من ركعة واحدة ، بأن تبعضها ، فإذا فعلت ذلك أجزأك أن لا تقرأ أم الكتاب ، وتبتدئ بما بلغت إليه من السورة التي قرأت بعضها ، فإذا استأنفت أخرى ، فالمستحب أن تقرأ أم الكتاب.

وجملة القول ، في قراءة هذه الصلاة ، أنّ قراءة الحمد تجب في الخمس ركعات الأوائل ، في أوّل الركوعات ، ويتعيّن ، ولا يجب تكرارها في باقي الخمسة ، فإذا سجد وقام إلى الخمسة الركوعات وجب عليه ، قراءة الحمد في الأوّل منها ، ويتعيّن ذلك ، ولا يجب تكرار قراءة الحمد في باقي الركوعات ، لأنّ الخمس بمنزلة ركعة واحدة ، من صلاة الخمس.

وينبغي أن يكون لك بين كل ركوعين ، قنوت كامل ، تقنت قبل الركعة الثانية ، ثمّ قبل الرابعة ، ثمّ قبل السادسة ، ثمّ قبل الثامنة ، ثمّ قبل العاشرة.

وينبغي أن تقدّر الفراغ من صلاتك (1) بقدر انجلاء المكسوف ، فإن فرغت منها قبل الانجلاء ، فلا تجب عليك إعادة الصلاة ، بل يستحب لك الدعاء والتسبيح إلى أن ينجلي ، وربما ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإعادة ، وهذا غير واضح ، لأنّه ليس عليه دليل ، والأصل براءة الذمة ، والإعادة فرض ثان ، والأمر فقد امتثل بالصلاة الاولى ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الإعادة تستحب ، ولا دليل على ذلك أيضا.

وقال السيد المرتضى في مصباحه ، ومن فاتته صلاة الكسوف ، وجب عليه قضاؤها ، إن كان قرص المنكسف احترق كلّه فإن كان انّما احترق بعضه فلا يجب عليه القضاء ، وقد روي وجوب القضاء على كلّ حال (2) والأول أظهر ، وروي أنّ من تعمّد ترك هذه الصلاة وجب عليه مع القضاء الغسل (3)

ص: 324


1- في ط وج : من قرائتك.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 1.
3- الوسائل : الباب 10 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 5.

قال محمّد بن إدريس : وقد قلنا ما عندنا في ذلك من القضاء وغيره ، فلا وجه لإعادته.

باب صلاة الاستسقاء

والمسنون عند منع السماء قطرها ، وجدب الأرض ، أن ينذر الإمام الناس ، بعزمه على الاجتماع للاستسقاء ، إمّا في خطبته يوم الجمعة ، أو بأن ينادي بذلك فيهم ، ويأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأخذ الأهبة له ، من تقديم التوبة ، والإخلاص لله تعالى ، والانقطاع إليه ، فإذا خرجوا لذلك ، فينبغي أن يلبسوا أخشن ثيابهم ، ويمشوا وهم مطرقون ، مخبتون ، مكثرون لذكر اللّه تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وسيئ أعمالهم ، ويمنع من الحضور معهم أهل الذمة ، وجميع الكفار ، والمتظاهرين بالفسوق ، والمنكر ، والخلاعة ، من أهل الإسلام ، ويخرجوا معهم من النساء العجائز ، والأطفال والبهائم ، ويغدوا الإمام في اليوم الذي أخذ الوعد فيه ، ويستحب أن يكون ذلك اليوم ، يوم الاثنين ، مصحرا إلى المصلى ، بحيث يصلّى صلاة العيدين ، وقد تقدّم المؤذنون بين يديه ، وفي أيديهم العنز والعنز جمع العنزة ، وهي عصا ، فيها زجّ حديد ، ويمشي في أثرهم ، والمنبر محمول بين يديه ، فإذا انتهى إلى الموضع الذي يكون فيه ، تقدّم الى (1) المؤذنين ، بأذان الناس بالصلاة ، بأن يقولوا : الصلاة الصلاة ، بغير أذان ، ولا اقامة.

وقال بعض أصحابنا : إنّ المنبر لا يحمل ، بل المستحب أن يكون ، مثل منبر صلاة العيد ، معمول من طين ، وهذا هو الأظهر في الرواية والقول ، والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، ذكره في مصباحه.

ثم يصلّي بالناس ركعتين ، يجهر فيهما بالقراءة ، على صفة صلاة العيد ، وعدد تكبيرها وهيأتها.

ص: 325


1- ج : قدّم.

فإذا سلّم من الصلاة ، رقى المنبر ، فخطب ، وحمد اللّه تعالى ، وأثنى عليه ، وعدّد نعمه ، وآلاءه ، وصلّى عليه نبيه محمّد صلى اللّه عليه وآله وبالغ في الوعظ ، والزجر ، والإنذار ، وفي بعض الروايات ، أنّ هذه الخطبة تكون قبل الصلاة ، والذي ذكرناه اثبت ، وعليه الإجماع.

فإذا فرغ من الخطبة ، قلب رداءه ، فجعل ما كان على يمينه ، على شماله ، وما كان على شماله ، على يمينه ، ثم يستقبل القبلة ، فيكبر اللّه تعالى مائة تكبيرة رافعا بها صوته ، ويكبّر الناس ، بتكبيرة ، غير رافعين لأصواتهم.

ثم يلتفت إلى يمينه ، ويسبح اللّه تعالى مائة تسبيحة ، رافعا بها صوته ، ويسبّح الناس معه.

ثم يلتفت إلى يساره ، فيهلّل اللّه تعالى مائة تهليلة ، رافعا بها صوته ، ويهلل الناس معه.

ثم يستقبل الناس بوجهه ، فيحمد اللّه تعالى مائة تحميدة ، رافعا بها صوته ، ثم يجلس فيرفع يديه ، ويدعو اللّه تعالى بالسقيا ، ويدعو الناس معه ، وليؤمنوا على دعائه.

وذهب بعض أصحابنا إلى غير هذا الترتيب ، وقال : إذا فرغ من صلاة الركعتين ، وسلّم منهما ، استقبل القبلة ، وكبر اللّه تعالى مائة تكبيرة ، يرفع بها صوته ، ويكبر معه من حضر ، ويلتفت عن يمينه ، فيسبح اللّه مائة مرة ، يرفع بها صوته ، ويسبح معه من حضر ، ثم يلتفت عن يساره ، فيهلل اللّه مائة مرّة ، يرفع بها صوته ، ويقول ذلك من حضر معه ، ثمّ يستقبل الناس بوجهه ، ويحمد اللّه مائة مرّة ، يرفع بها صوته ، ويقول ذلك من حضر معه ، ثم يدعو ، ويصعد المنبر بعد ذلك ، فيخطب بخطبة الاستسقاء ، المروية عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فيجعل الخطبة بعد التكبيرات المائة ، والتسبيحات ، والتهليلات المائة ، والتحميدات المائة.

والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي والذي يقوى في نفسي الأوّل.

ص: 326

ويستحب لأهل الخصب ، أن يدعو لأهل الجدب ، فإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلّوا شكرا لله تعالى ، فإن صلّوا ولم يسقوا ، خرجوا ثانيا ، وثالثا ، لأنّه لا مانع من ذلك.

وإذا نضب ماء العيون أو مياه الآبار ، جاز صلاة الاستسقاء ، لأنّه لا مانع من ذلك.

ولا يجوز أن يقول مطرنا بنوء كذا ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك.

باب صلاة المسافر

السفر على أربعة أقسام : واجب مثل الحجّ والعمرة ، وندب مثل الزيارات وما أشبهها ، ومباح مثل تجارة ، وطلب معيشة ، وما أشبه ذلك فهذه الأنواع الثلاثة ، كلّها يجب فيها التقصير في الصوم والصلاة ، والرابع سفر معصية ، مثل سفر الباغي ، والعادي ، أو سعاية ، أو قطع طريق ، أو إباق عبد من مولاه ، أو نشوز زوج من زوجها ، أو اتّباع سلطان جائر في معونته وطاعته مختارا ، أو طلب صيد للهو والبطر ، فانّ جميع ذلك ، لا يجوز فيه التقصير ، لا في الصوم ولا في الصلاة.

فأمّا الصيد الذي لقوته ، وقوت عياله ، فإنّه يجب فيه التقصير في الصوم والصلاة.

فأمّا إن كان الصيد للتجارة دون الحاجة للقوت ، روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتم الصلاة ، ويفطر الصوم (1).

وكل سفر أوجب التقصير في الصلاة ، أوجب التقصير في الصوم ، وكل سفر أوجب التقصير في الصوم ، أوجب تقصير الصلاة ، إلا هذه المسألة فحسب ، للإجماع عليها ، فصار سفر الصيد ، على ثلاثة أضرب ، وكل ضرب منها ، يخالف

ص: 327


1- مستدرك الوسائل : الباب 7 من أبواب صلاة المسافر ، ح 2.

الآخر ويباينه ، فصيد اللّهو والبطر ، يجب فيه تمام الصلاة والصوم ، وصيد القوت للعيال والنفس ، يجب فيه تقصير الصلاة والصوم ، بالعكس من الأول ، وصيد التجارة ، يجب فيه تمام الصلاة ، وتقصير الصوم.

واعلم أنّ فرض السفر ، في كل صلاة من الصلوات الخمس ، ركعتان ، إلا المغرب وحدها ، فإنّها ثلاث ركعات.

والنوافل التي أكد الإتيان بها في السفر ، سبع عشرة ركعة ، أربع بعد المغرب ، وصلاة الليل ثماني ركعات ، وثلاث الشفع والوتر ، وركعتا الفجر.

وفرض السفر التقصير ، كما أنّ فرض الحضر الإتمام ، فالمتمم مع السفر ، كالمقصّر في الحضر.

ومن تعمّد الإتمام في السفر بعد حصول العلم بوجوبه عليه ، وجبت عليه الإعادة ، لتغييره فرضه ، فإن نسي التقصير ، فأتم ، أعاد ما دام في الوقت ، وبعد خروج الوقت ، لا اعادة عليه ، وقال بعض أصحابنا : يجب عليه الإعادة على كل حال ، والأول هو الصحيح ، لأنّ عليه الإجماع ، وبه تواترت الأخبار (1) وعليه العمل والفتوى ، من محصلي فقهاء آل الرسول عليهم السلام.

وحدّ السفر الذي يجب معه التقصير ، بريدان ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل أربعة آلاف ذراع ، على ما ذكره المسعودي في كتاب مروج الذهب (2) فإنّه قال : الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الأسود ، وهو الذراع الذي وضعه المأمون ، لذرع الثياب ، ومساحة البناء ، وقسمة المنازل ، والذراع أربعة وعشرون إصبعا.

وأصل البريد ، أنّهم كانوا ينصبون في الطرق أعلاما ، فإذا بلغ بعضها ، راكب البريد نزل عنه ، وسلّم ما معه من الكتب إلى غيره ، فكان ما به من الحر والتعب

ص: 328


1- الوسائل : الباب 17 من أبواب صلاة المسافر
2- مروج الذهب : لم نتحققه.

يبرد في ذلك ، أو ينام فيه الراكب ، والنوم يسمى بردا فسمى ما بين الموضعين بريدا ، وانّما الأصل الموضع الذي ينزل فيه الراكب ، ثم قيل للدابة بريد ، وانّما كانت البرد للملوك ثمّ قيل للسير بريد.

وقال مزرّد بن ضرار يمدح عرابة الأوسي.

فدتك عراب اليوم نفسي واسرتي *** وناقتي الناجي إليك بريدها

فمن كان قصده إلى مسافة هذا قدرها ، وكان ممن يجب عليه التقصير ، لزمه ، وتحتم عليه القصر.

وإن كانت قدر المسافة أربعة فراسخ للمار إليها ونوى ، وأراد الرجوع من يومه ، عند الخروج من منزله ، لزمه أيضا التقصير ، فإن لم ينو الرجوع من يومه ، ولا أراده ، وجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير.

وقال بعض أصحابنا : يكون مخيرا بين الإتمام والتقصير ، في الصوم والصلاة ، وهو مذهب شيخنا المفيد.

وقال بعض أصحابنا : يكون مخيّرا ، بين إتمام صلاته وتقصيرها ، ويجب عليه إتمام صيامه ، ولا يكون مخيّرا فيه ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي (1).

وقال بعض أصحابنا : لا يكون مخيرا في شي ء من العبادتين ، بل يجب عليه تمامهما معا ، وهذا الذي اخترناه أولا ، وبه يقول السيّد المرتضى ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، ويقويه النظر ، والأدلة ، والإجماع ، لأنّه لا خلاف عندهم في حدّ المسافة التي تجب ويتحتّم القصر ، على من قصدها ، ووجوب إتمام الصلاة على من لم يقصدها ، فقد أجمعوا على تقصير صلاة القاصد لها ، ولا إجماع منهم ، على تقصير صلاة من لم يقصدها.

وأيضا فالأصول تقتضي أنّ الإنسان لا يكون مخيرا في تمام صلاته ،

ص: 329


1- في النهاية كما يأتي ص 295.

وقصرها ، بل الواجب عليه إما تمامها أو قصرها ، إلا ما خرج بالدليل ، والإجماع من تخييره في البقاع المذكورة.

وأيضا فالإنسان المكلف بالصلاة إمّا أن يكون حاضرا ، أو مسافرا ، فالحاضر ومن في حكمه ، يجب عليه بالإجماع تمام الصلاة ، والمسافر ، ومن في حكمه ، يجب عليه أيضا ، بالإجماع ، تقصير الصلاة ، ولا ثالث معنا ، وأيضا إسقاط الركعتين من الصلاة الرباعية بعد اشتغال الذمة بها ، يحتاج إلى دليل شرعي ، كدليل ثبوتهما ، ولا دليل ولا إجماع على ذلك ، لأنّا قد بيّنا اختلاف أصحابنا في المسألة ، ومن قال بها ، اختلفوا في كيفيتها ، وهل يكون مخيرا بين تمام الصلاة والصوم وبين قصرهما أو يكون مخيرا بين تمام الصلاة وقصرها دون الصوم ، على ما حكيناه عن أصحابنا المصنّفين ، فإذا كان الاختلاف في المسألة حاصلا فلا يرجع ، عن المعلوم المفروض المحتم على الذمم ، المجمع على وجوبه ، واشتغالها به بأخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، وخصوصا على مذهب أصحابنا فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، سلفهم وخلفهم ، في أخبار الآحاد ، وأنّهم مجمعون على ترك العمل بها ، على ما بيناه ، وأوضحناه في صدر كتابنا هذا.

ودليل الاحتياط أيضا يقتضي ما اخترناه ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا جميعهم ، في أنّ المكلف ، إذا تمّم صلاته وصومه ، في المسألة المختلفة فيها ، فانّ ذمته بريئة ، وإذا قصّر ، ففيه الخلاف ، فبالإجماع لا ذمّ على تارك القصر ، وما لا ذمّ في تركه ، ويخشى في فعله أن يكون بدعة ، ومعصية ، ولا تبرأ الذمة معه ، ويستحق بتركه الذم ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة بغير خلاف.

وشيخنا أبو جعفر قال في جمله وعقوده : ومن يلزمه الصوم في السفر ، عشرة ، من نقص سفره عن ثمانية فراسخ (1).

ص: 330


1- الجمل والعقود : في فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ولا خلاف عنده ، وعند جميع أصحابنا ، أنّ من وجب عليه إتمام الصوم ، ولزمه يجب عليه إتمام الصلاة ، ويلزمه ، وكذلك من وجب عليه إتمام الصلاة ، ولزمه ، يجب عليه إتمام الصوم ويلزمه ، طردا وعكسا ، إلا مسألة واحدة استثناها أصحابنا ، وهو طالب الصيد للتجارة ، فإنّه يجب عليه إتمام الصلاة والتقصير في الصيام ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل وقال في مبسوطة : ويجب الإتمام في الصلاة والصوم على عشرة من بين المسافرين ، أحدها من نقص سفره عن ثماني فراسخ (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا رجوع منه عما ذهب إليه في نهايته (2) بلا خلاف.

وابتداء وجوب التقصير على المسافر ، من حيث يغيب عنه أذان مصره المتوسط ، أو تتوارى عنه جدران مدينته ، والاعتماد عندي على الأذان المتوسط ، دون الجدران.

والسفر ، خلاف الاستيطان والمقام ، فاذن لا بدّ من ذكر حدّ الاستيطان ، وحدّه ستة أشهر فصاعدا ، سواء كانت متفرقة أو متوالية.

فعلى هذا التقرير (3) والتحرير ، من نزل في سفره قرية ، أو مدينة ، وله فيها منزل مملوك ، قد استوطنه ستة أشهر ، أتم ، وإن لم يقم المدّة التي توجب على المسافر الإتمام ، أو لم ينو المقام عشرة أيام ، وإن لم يكن كذلك قصّر.

ولا يزال المسافر في تقصير ، حتى يصل إلى موضع منزله ، أو الموضع الذي يسمع أذان بلده منه ، فإن حيل بين منزله وبينه ، بعد الوصول إلى ذلك الموضع ، أتم.

ومن دخل بلدا ، ونوى أنّه يقيم فيه عشرة أيام فصاعدا ، وجب عليه الإتمام ، فإن كان مشككا ، لا يدري كم يقيم ، يقول غدا أخرج ، أو بعد غد ، فليقصر ما بينه وبين شهر. فإذا مضى الشهر أتم.

ص: 331


1- المبسوط : كتاب الصوم في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه .. إلخ.
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان ، قال هكذا ، ومتى كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع فيه لم يجز له الإفطار وهو مخيّر في التقصير في الصلاة حسب ما قدّمناه
3- في م : على التقدير :

ولو ان مسافرا دخل في صلاته ، بنيّة التقصير ، ثم نوى خلال ذلك الصلاة الإقامة ، أتم الصلاة ، فإن كان مقيما ، ودخل في الصلاة ، بنية الإتمام ، بعد ان كان صلّى صلاة على التمام ، ثم نوى السفر قبل فراغه منها ، لم يكن له القصر.

والروايات مختلفة ، فيمن دخل عليه وقت صلاة ، وهو حاضر فسافر ، أو دخل عليه الوقت ، وهو مسافر ، فحضر ، والأظهر بين محصلي أصحابنا ، أنّه يصلّى بحسب حاله وقت الأداء ، فيتم الحاضر ، ويقصّر المسافر ، ما دام في وقت من الصلاة ، وإن كان أخيرا ، فإن خرج الوقت لم يجز إلا قضاؤها بحسب حاله ، عند دخول أول وقتها.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : فإن خرج من منزله ، وقد دخل الوقت ، وجب عليه التمام ، إذا كان قد بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه على التمام ، فإن تضيّق الوقت ، قصّر ولم يتمّم ، وإن دخل من سفره بعد دخول الوقت ، وكان قد بقي من الوقت ، مقدار ما يتمكن فيه من أداء الصلاة على التمام ، فليصل ، وليتمم ، وإن لم يكن قد بقي مقدار ذلك ، قصّر ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) وهذا غير واضح ، ولا مستمر على أصول المذهب ، وانّما هو خبر أورده ، على جهة الإيراد لا الاعتقاد ، على ما اعتذرنا له فيما مضى.

وقد رجع عنه في مسائل خلافه فقال : مسألة : إذا خرج إلى السفر وقد دخل الوقت ، إلا أنّه مضى مقدار ما يصلّي الفرض أربع ركعات ، جاز له التقصير ، ويستحب له الإتمام ، وقال الشافعي : إن سافر بعد دخول الوقت ، فإن كان مضى مقدار ما يمكنه أن يصلّي فيه أربعا ، كان (2) له التقصير ، قال : وهذا قولنا ، وقول الجماعة ، إلا المزني ، فإنّه قال : عليه الإتمام ، ولا يجوز

ص: 332


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر
2- ج : جاز له.

له التقصير ، دليلنا : قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (1) ولم يخص وهذا ضارب ، فيجب أن يجوّز له التقصير ، وأيضا فقد ثبت أنّ الوقت ممتد ، وإذا لم يفت الوقت ، جاز له التقصير.

وروى إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يدخل عليّ وقت الصلاة ، وأنا في السفر ، فلا أصلّي حتى أدخل أهلي ، قال : صلّ وأتمّ الصلاة ، قلت : يدخل عليّ وقت الصلاة ، وأنا في أهلي أريد السفر ، فلا أصلي حتى أخرج ، قال : صلّ وقصّر ، فان لم تفعل ، فقد واللّه خالفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2).

فأمّا الاستحباب الذي قلناه ، فلما رواه بشير النبّال قال : خرجت مع أبي عبد اللّه عليه السلام حتى أتينا الشجرة ، فقال لي أبو عبد اللّه : يا نبال. قلت : لبيك ، قال : إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري وغيرك ، وذلك أنّه دخل وقت الصلاة ، قبل أن نخرج (3) فلمّا اختلفت الأخبار ، حملنا الأوّل على الاجزاء ، وهذا على الاستحباب (4) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا ما ذكره في النهاية ، فلا يجوز القول به ، والعمل عليه. لأنّه مخالف لأصول المذهب ، على ما قلناه ، (5) لأنّ الوقت باق ، وفرض الحاضر غير فرض المسافر ، فكيف يتم المسافر صلاته مع قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) والإجماع حاصل على وجوب القصر للمسافر ، بغير خلاف ، وأيضا كان يلزم عليه أن يقصر الإنسان في منزله ، إذا دخل من سفره على ما قاله رضي اللّه عنه ، وهذا مما لم يذهب إليه أحد ، ولم يقل به فقيه ، ولا مصنّف ذكره في كتابه ، لا منا ،

ص: 333


1- النساء : 101
2- الوسائل : الباب 21 من أبواب صلاة المسافر ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 21 من أبواب صلاة المسافر ، ح 10.
4- الخلاف : المسألة 14 من كتاب صلاة المسافر
5- في ط وج : ولأن.

ولا من مخالفينا ، وما ذكره في مسائل خلافه أيضا فغير واضح ، لأنّه قال : جاز له التقصير ، ويستحب له الإتمام ، ثم استشهد واستدلّ بما يقضى عليه ، ويبطل ما ذهب إليه ، من الآية والخبر ، وهما يوجبان القصر ، ويحتمانه ، ثم رجع بخبر واحد ، وهو خبر النبّال (1) ، إلى الاستحباب ، وإذا كان مع أحد الخبرين القرآن والإجماع ، فكيف يعمل بالخبر المنفرد عن الأدلة القاهرة ، وأيضا فما عمل بخبر النبال لأنّ خبر النبال لفظ الوجوب ، لأنّه قال عليه السلام إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري وغيرك ، وانما حداه على ذلك ، والرجوع عن كتاب له الى كتاب آخر ، اختلاف الاخبار ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها في الشريعة ، والرجوع عن الأدلة القاهرة (2) إليها وأيضا فقد تعارضت ، ومع تعارضها ، ينبغي أن يعمل بما عضده منها الدليل.

والصحيح ما ذهبنا إليه أوّلا ، واخترناه ، لأنّه موافق للأدلّة ، وأصول المذهب ، وعليه الإجماع ، وهو مذهب السيد المرتضى ، ذكره في مصباحه ، والشيخ المفيد وغيرهما من أصحابنا ، ومذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في تهذيبه (3) ، فإنّه حقّق القول في ذلك ، وبالغ فيه ، ورجع عمّا ذكره في نهايته (4) ، ومسائل خلافه (5). في تهذيب الأحكام ، في باب أحكام فوائت الصلاة (6).

فأمّا إذا لم يصل ، لا في منزله ، ولا لمّا خرج إلى السفر ، وفاته أداء الصلاة ، فالواجب عليه قضاؤها ، بحسب حاله ، عند دخول أول وقتها ، على ما قدّمناه ، وهذا مذهب الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في تهذيب الأحكام ، فإنّه حقق

ص: 334


1- الوسائل : مضى القول فيه
2- ليس في ج : القاهرة.
3- لتهذيب : في أحكام فوائت الصلاة ، ذيل ح (353) 14.
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.
5- الخلاف : مسألة 14 من كتاب صلاة المسافر.
6- التهذيب : ذيل ح 14 من باب 10 أحكام فوائت الصلاة.

ذلك ، وبيّنه ، وفصّله ، وشرحه ، شرحا جليا ، في باب أحكام فوائت الصلاة أيضا على ما قدّمناه ، فليلحظ من هناك ، وشيخنا المفيد ، وابن بابويه ، في رسالته (1) والسيد المرتضى في مصباحه ، وهو الصحيح ، لأنّ العبادات ، تجب بدخول الوقت ، وتستقر بإمكان الأداء ، كما لو زالت الشمس على المرأة الطاهرة ، فأمكنها الصلاة ، فلم تفعل حتى حاضت ، استقر القضاء.

فإن قيل : الأخبار ناطقة ، متظاهرة ، متواترة ، والإجماع حاصل ، منعقد ، على أنّ من فاتته صلاة في الحضر ، فذكرها في السفر ، وجب عليه قضاؤها ، صلاة الحاضر أربعا ، كما فاتته ، ومن فاتته صلاة في السفر ، فذكرها في الحضر ، وجب عليه قضاؤها ، صلاة المسافر (2) اثنتين كما فاتته ، وهذا بخلاف ما ذهبتم إليه.

قلنا : ما ذهبنا إلى خلاف ما سأل السائل عنه ، بل إلى وفاق ما قاله ، وانّما يقضي ما فاته في حال الحضر ، ولو صلاها في الحضر ، قبل خروجه ، كأن يصلّي الرباعيّة أربع ركعات ، ففاتته صلاة أربع ركعات ، فيجب عليه أن يقضيها ، كما فاتته في حال السفر (3) ، وكذلك كان يجب عليه أن يصلّي الرباعيّة في حال السفر ركعتين ، فأخلّ بها إلى أن خرج الوقت ، وصار حاضرا ، فيقضي ما فاته كما فاته ، وهي صلاة السفر ركعتان ، فهي الفائتة ، فلو صلاها في سفره لما كان يصلّي إلا ركعتين ، ففاتته صلاة الركعتين ، فيجب عليه أن يقضيها كما فاتته ، فليلحظ ذلك ، فإنّه موافق للأدلّة ، وعليه إجماع أصحابنا ، على ما قدمناه من أقوالهم ، مثل شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه قد ذكره في مبسوطة (4) ، وابن بابويه قد ذكره في رسالته (5) ، والمرتضى في مصباحه ، وشيخنا المفيد في بعض أقواله ، اللّهم على ما مرّ بي وقد تقدم فيما مضى ذكره (6) في باب الجماعة حكم

ص: 335


1- لم نتحققهما في رسالة ابن بابويه.
2- ج : السفر
3- ج : ليس فيه
4- المبسوط : كتاب الصلاة في حكم قضاء الصلوات.
5- لم نتحققهما في رسالة ابن بابويه.
6- ج : وقد تقدم ومضى.

دخول المسافر ، في صلاة المقيم ، والمقيم في صلاة المسافر.

ومن اضطر إلى الصلاة في سفينة ، فأمكنه أن يصلّي قائما ، لم يجزه غير ذلك ، وإن خاف الغرق ، وانقلاب السفينة ، جاز أن يصلّي جالسا ، ويتحرى القبلة ، ليكون توجّهه إليها ، فإن توجه إليها في افتتاح صلاته ، ثم التبست عليه من بعد ، أجزأه التوجّه الأول.

ولا يجوز لأحد أن يصلّي الفريضة راكبا ، إلا من ضرورة شديدة ، وعليه تحري القبلة.

ويجوز أن يصلّي النوافل ، وهو راكب مختارا ، ويصلّي حيث ما توجهت به راحلته ، وإن افتتح الصلاة مستقبلا للقبلة ، كان أولى ، هذا قول السيّد المرتضى ، والصحيح أنّه واجب عليه افتتاح الصلاة مستقبلا للقبلة ، لا يجوز غير ذلك ، وهو قول جماعة أصحابنا ، إلا من شذّ منهم.

ومن صلّى ماشيا لضرورة ، أومأ بصلاته ، فجعل السجود أخفض من الركوع ، والركوع أخفض من الانتصاب.

ولا يجوز التقصير للمكاري ، والملاح ، والراعي ، والبدوي ، إذا طلب القطر والنبت ، فإن أقام في موضع عشرة أيّام ، فهذا يجب عليه التقصير ، إذا سافر عن موضعه سفرا يوجب التقصير ، فقد صار البدوي على ضربين ، أحدهما له دار مقام جرت عادته فيها بالإقامة ، فهذا يجب عليه التقصير إذا سافر عن دار مقامه سفرا يوجب التقصير ، والآخر لا يكون له دار مقام ، وإنّما يتبع مواضع النبت ، ويطلب مواضع القطر ، وطلب المرعى والخصب ، فهذا يجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير.

ولا يجوز التقصير ، للذي يدور في جبايته ، والذي يدور في أمارته ، ومن يدور في تجارته ، من سوق إلى سوق ، والبريد ، وقال ابن بابويه في رسالته (1) والمكاري ،

ص: 336


1- رسالة ابن بابويه : صلاة المسافر.

والكريّ ، فالكريّ هو المكاري ، فاللفظ مختلف ، وإن كان المعنى واحدا. قال عذافر الكندي :

لو شاء ربي لم أكن كريا *** ولم أسق بشعفر المطيا

الشعفر بالشين المعجمة ، والعين غير المعجمة والفاء والراء غير المعجمة ، اسم امرأة من العرب.

بصرية تزوجت بصريا *** يطعمها المالح والطريا

تخاله إذا مشى خصيّا *** من طول ما قد حالف الكرسيا

والكري من الأضداد ، قد ذكره أبو بكر بن الأنباري ، في كتاب الأضداد يكون بمعنى المكاري ، ويكون بمعنى المكتري.

وقال ابن بابويه أيضا في رسالته : ولا يجوز التقصير للاشتقان ، بالشين المعجمة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، والقاف ، والنون ، هكذا سماعنا على من لقيناه ، وسمعنا عليه من الرواة ، ولم يبينوا لنا ما معناه (1).

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : وجدت في كتاب الحيوان للجاحظ ، ما يدل على أنّ الأشتقان ، الأمين الذي يبعثه السلطان على حفاظ البيادر ، قال الجاحظ : وكان أبو عباد النميري ، أتى باب بعض العمال ، يسأله شيئا من عمل السلطان ، فبعثه أشتقانا فسرقوا (2) كل شي ء في البيدر ، وهو لا يشعر ، فعاتبه في ذلك ، فكتب إليه أبو عباد :

كنت بازا أضرب الكر *** كيّ والطير العظاما

فتقنصت بي الصّعو *** فأوهنت القدامى

وإذا ما أرسل البازي *** على الصعو تعامى (3)

ص: 337


1- رسالة ابن بابويه : صلاة المسافر
2- ج : فسرق.
3- الحيوان : ج 5 ، ص 599. والتقنص : الصيد ، والصعو : طائر أصغر من العصفور أحمر الرأس. والقدامى : القوادم وهي ريشات أربع في مقدم الجناح.

وأظنّها كلمة أعجمية ، غير عربية ، فعلى هذا التحرير ، يجب عليه الإتمام ، لأنّه في عمل السلطان.

ومن كان سفره أكثر من حضره ، والأصل في جميع هؤلاء ، ان سفرهم أكثر من حضرهم ، فقد عاد الأمر إلى أنّ من سفره أكثر من حضره ، يجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير ، وجميع الأقسام المقدّم ذكرها ، داخلون في ذلك ، والذي يدلك على هذا التحرير ، ما أورده السيد المرتضى في كتاب الانتصار ، فإنه قال : مسألة : ومما انفردت به الإمامية القول بأنّ من سفره أكثر من حضره ، كالملاحين ، والجمّالين ، ومن جرى مجراهم ، لا تقصير عليه (1) فجعل من سفره أكثر من حضره ، أصلا في المسألة ومثّل الملاحين والجمّالين به.

ثمّ قال السيد المرتضى رضي اللّه عنه في استدلاله على المسألة : والحجة على ما ذهبنا إليه ، إجماع الطائفة ، وأيضا فإنّ المشقة التي تلحق المسافر ، هي الموجبة للتقصير ، في الصوم والصلاة ، ومن ذكرنا حاله ، ممن سفره أكثر من حضره لا مشقة عليه في السفر ، بل ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في كتاب الجمل والعقود ، في فصل في حكم المسافرين : والسفر الذي يجب فيه الإفطار ، يحتاج إلى ثلاثة شروط ، أن لا يكون معصية ، وتكون المسافة بريدين ، ثمانية فراسخ ، أربعة وعشرون ميلا ولا يكون المسافر سفره أكثر من حضره (2). فأتى بهذا القسم ، ولم يذكر باقي الأقسام ، لأنّهم داخلون فيه ، وكل هؤلاء ، يجب عليهم التمام في السفر ، فإن كان لهم مقام في بلدهم عشرة أيام ، وجب عليهم إذا خرجوا

ص: 338


1- الانتصار : كتاب الصلاة ص 53.
2- الجمل والعقود : كتاب الصوم ، فصل في حكم المسافرين.

إلى السفر التقصير ، فإن عادوا إلى بلدهم من سفرهم بعد تقصيرهم ، ولم يقيموا فيه عشرة أيام ، خرجوا متمين ، وهكذا يعتبرون حالهم ، وليس يصير الإنسان بسفرة واحدة ، إذا ورد إلى منزله ، ولم يقم عشرة أيام ، ممّن سفره أكثر من حضره ، بل بأن يتكرّر هذا منه ، ويستمر دفعات ، على توال ، أدناها ثلاث دفعات ، لأنّ هذا طريقة العرف والعادة ، بأن يقال فلان سفره أكثر من حضره ، لأنّ من أقام في منزله مثلا مائة سنة ، ثم سافر سفرة واحدة ، ثم ورد إلى منزله ، ولم يقم فيه عشرة أيام ، ثم سافر فإنّه يجب عليه في سفره الثاني التقصير ، وإن كان لم يقم عشرة أيام ، لأنّه لا يقال في العرف والعادة ، أن فلانا هذا سفره أكثر من حضره ، بسفرة واحدة ، حتى يتكرّر هذا الفعال منه.

فان قيل : فإن سافر الإنسان أوّل سفرة ، بعد الإقامة في المنزل مائة سنة ، وأقام في السفر مثلا شهرا ، ثم ورد إلى منزله فأقام فيه أقل من عشرة أيام ثم خرج ، فقد صار سفره أكثر من حضره الذي في منزله ، وهو أقل من عشرة أيام ، وكان سفره شهرا.

قلنا : فإن كان أقام في سفره خمسة أيام ، ثم ورد إلى منزله وأقام فيه ثمانية أيام ، فقد صار حضره أكثر من سفر ، (1) والسائل يخرجه عن هذا التقدير متمّما فلم يستقم له سؤاله واعتراضه الأوّل.

وقول بعض المصنّفين ، في كتاب له : ومن كان سفره أكثر من حضره ، وحدّه أن لا يقيم في منزله عشرة أيام ، يريد به أنّ من كان سفره أكثر من حضره ، لا يزال في أسفاره متمما ، ما لم يكن له في بلدته مقام عشرة أيام ، فإذا كان له في بلدته مقام عشرة أيام ، أخرجناه من ذلك الحكم ، لا أنّ المراد بقوله : إن كل من لم يقم في بلدته عشرة أيّام ، يخرج متمما من سائر

ص: 339


1- في ط : سفره عند هذا.

المسافرين ، بل من كان سفره أكثر من حضره ، وعرف بالعادة ذلك من حاله ، وانطلق عليه هذا الاسم ، وتكرّر ، فالهاء في قوله وحدّه يرجع إلى هذا الذي تكرّر منه الفعل ، وانطلق عليه في العرف والعادة ، وصار سفره أكثر من حضره ، فحدّ هذا ، أن لا يرجع إلى التقصير في أسفاره ، إلا بمقام عشرة أيام في منزله ، فإن لم يقم عشرة أيام ، وخرج إلى السفر ، يخرج متمما ، على ما كان حكمه في أسفاره أوّلا ، فليلحظ ذلك ، فإن بعض من لحقناه من أصحابنا رحمهم اللّه ، كان يزل في هذه المسألة ويوجب بسفرة واحدة عليه التمام.

وكلام السيد المرتضى في انتصاره ، في استدلاله الذي قدّمناه عنه ، يشعر بصحة ما قلناه ، لأنّه قال ومن ذكرنا حاله ، ممن سفره أكثر من حضره ، لا مشقة عليه في السفر ، بل ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة.

قال محمّد بن إدريس : ومن أقام في منزله مثلا مائة سنة ، وسافر عنه ثلاثة أيام فحسب ، ثم حضر فيه يومين ، ثم سافر عنه ، مشقته في سفره الثاني ، كمشقته في سفره الأول ، وليس هذا ممن لا مشقة عليه في السفر الثاني ، ولا ممن ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة ، لأنّه ما تكرّر ذلك منه ، ولا تعوده بدفعة واحدة ، العادة التي ربما كانت المشقة عليه في مقامه ، والراحة له في سفره.

فأما صاحب الصنعة من المكارين ، والملاحين ، ومن يدور في تجارته ، من سوق إلى سوق ، ومن يدور في أمارته ، فلا يجرون مجرى من لا صنعة له ، ممّن سفره أكثر من حضره ، ولا يعتبر فيهم ما اعتبرناه فيه ، من الدفعات ، بل يجب عليهم التمام ، بنفس خروجهم إلى السفر ، لأنّ صنعتهم تقوم مقام تكرّر من لا صنعة له ، ممّن سفره أكثر من حضره ، لأنّ الأخبار (1) وأقوال أصحابنا

ص: 340


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة المسافر.

وفتاويهم مطلقة ، في وجوب التمام على هؤلاء ، فليلحظ ذلك ، ففيه غموض يحتاج إلى تأمل ، ونضر ، وفقه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في نهايته : فإن كان لهم في بلدهم مقام عشرة أيام ، وجب عليهم التقصير ، وإن كان مقامهم في بلدهم خمسة أيام ، قصّروا بالنهار ، وتمموا الصلاة بالليل (1) وهذا غير واضح ، ولا يجوز العمل به ، بل يجب عليهم التمام بالنهار وبالليل ، بغير خلاف ، ولا نرجع عن المذهب ، بأخبار الآحاد ، لأنّ الإجماع على أنّ هؤلاء إذا لم يقيموا في بلادهم عشرة أيام ، خرجوا متمين لصلواتهم بغير خلاف ، وقد اعتذرنا لشيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنه فيما يوجد في كتاب النهاية ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا ، وقد اعتذر هو في خطبة مبسوطة ، عن هذا الكتاب - يعني النهاية - بما قدّمنا ذكره.

فإن خرج الإنسان بنية السفر ، ثم بدا له قبل أن يبلغ مسافة التقصير ، وكان قد صلّى قصرا ، فليس عليه شي ء ، ولا قضاء ، ولا إعادة ، فان لم يكن قد صلّى ، أو كان في الصلاة ، وبدا له من السفر ، قبل أن يبلغ المسافة تمم صلاته.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في استبصاره ، إلى وجوب الإعادة ، على من صلّى (2) ثم بدا له عن السفر ، ما دام الوقت باقيا (3).

وما اخترناه ، هو اختياره في نهايته (4) ، وهو الصحيح ، لأنّه صلّى صلاة شرعية مأمورا بها ، ما كان يجوز له في حال ما صلاها إلا هي ، والإعادة فرض ثان ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك ، فعمل على خبر زرارة (5) في

ص: 341


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر
2- في ط وج : صلّى على قصر.
3- الاستبصار : أبواب الصلاة في السفر ، 134 - باب المسافر يخرج فرسخا أو فرسخين ويقصر في الصلاة ثم يبدو له عن الخروج
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.
5- الوسائل : الباب 23 من أبواب صلاة المسافر ح 1 و 2.

نهايته ، وعمل على خبر سليمان بن حفص المروزي (1) في استبصاره ، والذي ينبغي أن يعمل عليه من الخبرين ، ما عضده الدليل ، لا بمجرد الخبر ، لأنّا قد بيّنا ، أنّ العمل بأخبار الآحاد لا يجوز عندنا ، فإذا عزم المسافر على مقام عشرة أيام في بلد (2) ، وجب عليه التمام ، فإن صلّى صلاة واحدة ، بعد عزمه على المقام ، أو أكثر من ذلك على التمام ، يعني رباعية ، ثم بدا له في المقام ، فليس له أن يقصر ، إلا بعد خروجه من البلد ، وإن لم يكن صلّى صلاة على التمام ، ثم بدا له في المقام ، فعليه التقصير ، ما بينه وبين شهر ، على ما قدّمناه.

ومن خرج إلى ضيعة له ، وكان له فيها منزل ، قد استوطنه الاستيطان المقدّم ذكره ، وجب عليه التمام ، فإن لم يكن له ذلك ، وجب عليه التقصير.

ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر ، في نفس المسجد الحرام ، وفي نفس مسجد المدينة ، وفي مسجد الكوفة ، والحائر على متضمنة السلام ، والمراد بالحائر ما دار سور المشهد ، والمسجد عليه ، دون ما دار سور البلد عليه ، لأنّ ذلك هو الحائر حقيقة ، لأنّ الحائر في لسان العرب ، الموضع المطمئن الذي يحار الماء فيه ، وقد ذكر ذلك شيخنا المفيد في الإرشاد ، في مقتل الحسين عليه السلام ، لمّا ذكر من قتل معه من أهله ، فقال : والحائر محيط بهم ، إلا العباس رحمة اللّه عليه ، فإنّه قتل على المسناة (3) فتحقق ما قلناه ، والاحتياط أيضا طريقته تقتضي ما بيّناه ، لأنّه مجمع عليه ، وما عداه غير مجمع عليه.

وذهب بعض أصحابنا إلى استحباب الإتمام في مكة جميعها ، وكذلك في المدينة ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (4) ، وذهب السيد

ص: 342


1- الوسائل : الباب 23 من أبواب صلاة المسافر ، ح 1 و 2
2- في ط وج : بلد واحد.
3- الإرشاد : فصل : أسماء من قتل مع الحسين عليه السلام من أهل بيته بطف كربلاء.
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.

المرتضى ، إلى استحباب الإتمام ، في السفر عند قبر كل إمام ، من أئمة الهدى عليهم السلام ، والذي اخترناه ، هو الصحيح ، وأنّه لا يجوز الإتمام ، إلا عند قبر الحسين عليه السلام ، دون قبور باقي الأئمة عليهم السلام ، وفي نفس المسجدين ، دون مكة والمدينة ، لأنّ عليه الإجماع ، والأصل التقصير في حال السفر ، وما عداه فيه الخلاف ، وقال بعض أصحابنا : لا يجوز التقصير في حال السفر ، في هذه المواضع ، وما اخترناه هو الأظهر ، بين الطائفة وعليه عملهم وفتواهم.

وليس على المسافر صلاة الجمعة ، ولا صلاة العيدين.

والمشيّع لأخيه المؤمن ، يجب عليه التقصير ، والمسافر في طاعة ، إذا مال إلى الصيد لهوا وبطرا وجب عليه التمام ، فإذا رجع إلى السفر ، عاد إلى التقصير.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : وإذا خرج قوم إلى السفر ، وساروا أربعة فراسخ ، وقصروا من الصلاة ، ثمّ أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر ، فعليهم التقصير ، إلى أن يتيسر لهم العزم على المقام ، فيرجعون إلى التمام ، ما لم يتجاوز ثلاثين يوما على ما قدّمناه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا قول صحيح ، محقق.

ثم قال شيخنا أبو جعفر بعد ذلك : وإن كان مسيرهم أقل من أربعة فراسخ ، وجب عليهم التمام ، إلى أن يسيروا ، فإذا ساروا رجعوا إلى التقصير (1) وهذا قول غير واضح ، ولا مستقيم ، بل هو خبر ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، ولا فرق بين المسألتين ، وقد رجع في مبسوطة ، عن هذا القول الذي حكيناه عنه في نهايته ، فقال : من خرج من البلد ، إلى موضع بالقرب مسافة فرسخ ، أو فرسخين ، بنيّة أن ينتظر الرفقة هناك ، المقام عشرة أيام فصاعدا ، فإذا تكاملوا ، ساروا سفرا عليهم (2) التقصير ، لا يجوز أن يقصروا ،

ص: 343


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر
2- في المبسوط يجب عليهم.

إلا بعد المسير من الموضع الذي يجتمعون فيه ، لأنّه ما نوى بالخروج إلى هذا الموضع سفرا يجب فيه التقصير ، فإن لم ينو المقام عشرة أيام ، وانّما خرج بنيّة أنّه متى تكاملوا ساروا ، قصّر ما بينه وبين شهر ، ثم يتمم (1) فإن أراد بالمسألة الثانية في النهاية ، أنّه ما نوى بالخروج إلى دون الأربعة فراسخ ، سفرا يجب فيه التقصير ، وإنّما خرج بنيّة أنّه متى تكاملوا ووجد الرفقة ، سافر ، فإنّه يجب عليه التمام ، فهذا مستقيم صحيح ، وإن أراد الخروج للسفر وبنية السفر ، فلمّا وصل إلى دون الأربعة فراسخ ، توقف ، لينتظر الرفقة ، وما عزم على مقام عشرة أيام ، ولا بدا له عن الرجوع من السفر ، فليس بصحيح ، ولا مستقيم ، بل الواجب عليه ، عند هذه الحال التقصير ، مثل المسألة الأولى سواء (2) فليلحظ ذلك.

ويستحبّ للمسافر أن يقول ، عقيب كل صلاة ، ثلاثين مرّة : « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » فإنّ ذلك جبران للصلاة ، ولا بأس أن يجمع الإنسان بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء الآخرة ، في حال السفر ، وكذلك لا بأس أن يجمع بينهما في الحضر ، إلا أنّه إذا جمع بينهما ، لا يجعل بينهما شيئا من النوافل.

وليس على المسافر شي ء من نوافل النهار فإذا سافر بعد زوال الشمس ، قبل أن يصلّي نوافل الزوال ، فليقضها في السفر ، بالليل أو بالنهار ، وعليه نوافل الليل كلّها ، حسب ما قدّمناه ، إلا الوتيرة.

إذا أبق للإنسان عبد ، فخرج في طلبه ، فإن قصد بلدا يقصر في مثله الصلاة ، وقال : إن وجدته قبله رجعت معه ، لم يجز له أن يقصر ، لأنّه لم يقصد سفرا تقصر فيه الصلاة ، فإن لم يقصد بلدا ، لكنه نوى أن يطلبه ، حيث بلغ ، لم يكن له القصر ، لأنّه شاك في المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، وإن نوى قصد

ص: 344


1- المبسوط : كتاب صلاة المسافر ، ص 139 الطبع الحديث
2- ج : الاولى فليلحظ.

ذلك البلد ، سواء وجد العبد ، قبل الوصول إليه ، أو لم يجد ، كان عليه التقصير ، لأنّه نوى سفرا يجب عليه فيه التقصير.

إذا خرج حاجا إلى مكة ، وبينه وبينها مسافرة تقصّر فيها الصلاة ، ونوى أن يقيم بها عشرا ، قصّر في الطريق ، فإذا وصل إليها ، ونوى المقام عشرا ، أتم.

فإن خرج إلى عرفة ، يريد قضاء نسكه ، ولا يريد مقام عشرة أيام ، إذا رجع إلى مكة ، كان له القصر عند خروجه من مكة إلى عرفات ، لأنّه نقض مقامه ، بسفر بينه وبين بلدته ، يقصّر في مثله الصلاة.

وإن كان يريد إذا قضى نسكه ، مقام عشرة أيام بمكة ، أتم بمنى ، وعرفات ، ومكة حتى يخرج من مكة مسافرا ، فيقصّر.

من نسي في السفر ، فصلّى صلاة مقيم ، لم يلزمه الإعادة ، إلا إذا كان الوقت باقيا على ما قدّمناه.

ومتى صلّى صلاة مقيم متعمدا ، أعاد ، على كل حال ، اللّهم إلا ان لم يعلم وجوب التقصير ، فحينئذ يسقط عنه فرض الإعادة.

إذا قصّر المسافر مع الجهل بجواز التقصير ، بطلت صلاته ، لأنّه صلى صلاة يعتقد أنّها باطلة.

إذا سافر إلى بلد له طريقان ، فسلك الأبعد لغرض ، أو لا لغرض ، لزمه التقصير ، وإن كان الأقرب لا يجب فيه التقصير ، لأنّ ما دل على وجوب التقصير عام.

إذا كان قريبا من بلده وصار بحيث يغيب عنه أذان مصره ، فصلّى بنيّة التقصير ، فلمّا صلّى ركعة ، رعف ، فانصرف إلى أقرب بنيان البلد ، بحيث يسمع الأذان من مصره ، ليغسله ، بطلت صلاته ، لأنّ ذلك فعل كثير ، فإن صلّى في موضعه الآن ، تمّم ، لأنّه في وطنه ، وسامع لأذان مصره ، فإن لم يصلّ ، وخرج إلى السفر ، والوقت باق ، قصّر ، فإن فاتت الصلاة ، قضاها على التمام ، لأنّه فرّط في الصلاة ، وهو في وطنه.

ص: 345

فإن دخل في طريقه بلدا يعزم فيه على المقام عشرا ، لزمه التمام ، فإن خرج منه ، وفارقه ، بحيث لا يسمع أذانه ، لزمه التقصير ، فإن عاد إليه لقضاء حاجة ، أو أخذ شي ء نسيه ، لم يلزمه التمام إذا أراد الصلاة فيه ، لأنّه لم يعد الى وطنه ، فكان هذا فرقا بين هذه المسألة والتي قبلها.

باب صلاة الخوف وما يجري مجراها من حال المطاردة والمسايفة

واعلم أنّ الخوف إذا انفرد عن السفر ، لزم فيه التقصير في الصلاة ، مثل ما يلزم في السفر إذا انفرد ، على الصحيح من المذهب ، وقال بعض أصحابنا لا قصر إلا في حال السفر ، والأول عليه العمل والفتوى من الطائفة.

وصفة صلاة الخوف ، أن يفرّق الإمام أصحابه ، إذا كان العدو في خلاف جهة القبلة فرقتين ، فرقة يجعلها بإزاء العدو ، وفرقة خلفه ، ثم يكبّر ، ويصلّي بمن وراءه ركعة واحدة ، فإذا نهض إلى الثانية ، صلّوا لأنفسهم ركعة أخرى ، ونووا مفارقته ، والانفراد بصلاتهم ، وهو قائم يطوّل القراءة ، ثم جلسوا ، فتشهدوا (1) وسلّموا وانصرفوا ، فقاموا مقام أصحابهم ، وجاءت الفرقة الأخرى ، فلحقوه قائما في الثانية ، فاستفتحوا الصلاة ، وأنصتوا لقراءته ، إن كانت الصلاة جهرية ، فإذا ركع ، ركعوا بركوعه ، وسجدوا بسجوده ، فإذا جلس للتشهد ، قاموا فصلّوا ركعة أخرى ، وهو جالس ، ثم جلسوا معه ، فسلّم بهم ، وانصرفوا بتسليمه.

وقد روي أنّه إذا جلس الإمام للثانية تشهّد ، وسلّم ثم قام من خلفه ، فصلّوا الركعة الأخرى وصلّوا لأنفسهم ، وما ذكرناه أولا ، هو الأظهر في المذهب ، والصحيح من الأقوال (2) فإن كانت الصلاة صلاة المغرب ، صلّى الإمام بالطائفة الأولى ركعة واحدة ، فإذا قام إلى الثانية ، أتمّ القوم الصلاة ركعتين ، يجلسون في الثانية

ص: 346


1- في ط : فتشهدوا لأنفسهم
2- في ط وج : الأخرى لأنفسهم.

والثالثة ، ثم يسلّمون ، وينصرفون إلى مقام أصحابهم ، بإزاء العدو ، والإمام منتصب مكانه ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فتدخل في صلاة الإمام ، وليصلّي بهم ركعة ، ثم يجلس في الثانية ، فيجلسون بجلوسه ، ويقوم إلى الثالثة ، وهي لهم ثانية ، فيسبّح هو ، ويقرءون هم لأنفسهم ، هكذا ذكره السيد المرتضى رضي اللّه عنه في مصباحه والصحيح عند أصحابنا المصنّفين والإجماع حاصل عليه ، أنّه لا قراءة عليهم ، فإذا ركع ركعوا ، ثم يسجد ويسجدون ، ويجلس للتشهد ، فإذا جلس للتشهد ، قاموا فأتموا ما بقي عليهم ، فإذا جلسوا سلّم بهم.

ويجب على الفريقين معا أخذ السلاح ، سواء كان عليه نجاسة ، أو لم يكن ، لأنّه مما لا تتم الصلاة به منفردا ، وهو من الملابس ، وقد ذكر شيخنا في مبسوطة أنّ السيف إذا كان عليه نجاسة ، فلا بأس بالصلاة فيه ، وهو على الإنسان ، لأنّه مما لا تتم الصلاة فيه منفردا (1) وحقّق ذلك.

وإذا كانت الحال ، حال طراد وطعان ، وتزاحف ، وتواقف ، ولم يتمكن من الصلاة التي ذكرناها ، وصوّرناها ، وجبت الصلاة بالإيماء ، وينحني المصلّي ، لركوعه ، وسجوده ، ويزيد في الانحناء للسجود ، وكذلك القول في المواجه للسبع ، الذي يخاف وثبته ، ويجزيه أن يصلّي إلى حيث توجه ، إذا خاف من استقبال القبلة ، من وثبة السبع ، أو إيقاع العدو به.

فأمّا عند اشتباك الملحمة ، والتضارب بالسيوف ، والتعانق ، وتعذّر كل ما ذكرناه ، فإنّ الصلاة حينئذ ، تكون بالتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ، كما روي أنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وعلى ذريته فعل هو وأصحابه ، ليلة الهرير (2) يقول : « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » فيكون

ص: 347


1- المبسوط : كتاب صلاة الخوف.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 4 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ، ح 8.

ذلك ، مكان كل ركعة.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ صلاة الخوف التي تكون جماعة بإمام ، ويفرّق الناس فرقتين ، على ما صورناه أولا ، تقصر سفرا وحضرا ، وما عداها من صلاة الخائفين الذين ليسوا بمجمعين (1) ، بل فرادى ، يقصّرون سفرا في الركعات والهيئات ، ويتمّون حضرا ، إذا لم يكونوا في المسافة ، بل يقصّرون في هيئات الصلاة دون أعدادها.

وأمّا السابح في لجة البحر ، ولا يتمكن من مفارقتها ، والموتحل الذي لا يقدر على استيفاء حدود الصلاة ، فيصلّي كل واحد منهما بالإيماء ، ويتحرى التوجه إلى القبلة بجهده ، وقد قدّمنا أنّ جميع صلاة الخائفين والمضطرين ، إذا كانوا غير مسافرين ، تمام في عدد الركعات الرباعيات ، وتقصير في الهيئات ، إذا كانوا حاضرين غير مسافرين ، ما عدا القسم الأول الذي (2) يفرّقهم الإمام فرقتين ، فإن هؤلاء يقصّرون الصلاة في أعدادها ، وهيئاتها ، سفرا وحضرا للآية (3) ، وباقي الأقسام ، يقصّرون هيئاتها ، دون عدد ركعاتها ، لأنّ الصلاة في الذمة بيقين ، فمن أسقط منها شيئا من جملة الركعات ، يحتاج إلى دليل ويقين في سقوطه عن ذمّته.

باب صلاة المريض والعريان وغير ذلك من المضطرين

الصلاة يختلف فرضها بحسب الطاقة ، فمن أطاق القيام ، تلزمه الصلاة حسب ما تلزم الصحيح ، ولا يسقط عنه فرضها ، إذا كان عقله ثابتا ، فإن تمكن من الصلاة قائما لزمه كذلك ، وإن لم يتمكن من القيام بنفسه ، وأمكنه أن يعتمد على حائط ، أو عصا ، أو عكّاز ، فليفعل ، وليصل قائما ، لا يجزيه غير ذلك ، فإن لم يتمكن من ذلك ، فليصلّ جالسا ، وليقرأ ، فإذا أراد الركوع ، قام ، فركع ،

ص: 348


1- في ط وج : بمجتمعين
2- في ط وج : الذين
3- النساء : 102.

فإذا لم يقدر على ذلك ، فليركع جالسا ، وليسجد مثل ذلك ، فإن لم يتمكن من السجود ، إذا صلّى جالسا ، جاز له أن يرفع خمرة « مضمومة الخاء المعجمة » وهي سجادة صغيرة من سعف النخل ، أو ما يجوز السجود عليه فيسجد عليه ، وإن لم يتمكن من الصلاة جالسا ، فليصلّ مضطجعا على جانبه الأيمن ، وليسجد ويكون على جنبه في هذه الحال ، كما يكون الميّت في قبره ، فإن لم يتمكن من السجود ، أومأ إيماء ، فإن لم يتمكن من الاضطجاع على جنبه الأيمن ، صلّى على جنبه الأيسر ، فإن لم يتمكن من الاضطجاع ، فليستلق على قفاه ، وليصلّ مؤميا ، يبدأ الصلاة بالتكبير ، ويقرأ ، فإذا أراد الركوع ، غمض عينيه ، فإذا أراد رفع رأسه من الركوع ، فتحهما ، فإذا أراد السجود ، غمضهما ، فإذا أراد رفع رأسه من السجود ، فتحهما ، فإذا أراد السجود ثانيا غمضهما ، فإذا أراد رفع رأسه ثانيا ، فتحهما ، وعلى هذا يكون صلاته.

والموتحل ، والغريق ، والسابح ، إذا دخل عليهم وقت الصلاة ، ولم يتمكنوا من موضع يصلّون فيه ، فليصلّوا إيماء ويكون ركوعهم وسجودهم بالإيماء ، على ما قدّمناه ، فيما مضى ، ويلزمهم في هذه الأحوال كلّها ، استقبال القبلة ، مع الإمكان ، فإن لم يمكنهم ، فليس عليهم شي ء.

وإذا كان المريض مسافرا ، ويكون راكبا ، جاز له أن يصلّي الفريضة على ظهر دابته ، ويسجد على ما يتمكن منه ، ويجزيه في النوافل أن يومئ إيماء ، وإن لم يسجد.

وحدّ المرض الذي يبيح الصلاة جالسا ، ما يعلمه الإنسان ، من حال نفسه ، أنّه لا يتمكن من الصلاة قائما ، وهو أبصر بشأنه ، قال اللّه تعالى ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (1) أي حجة.

والمريض من سلس البول على ضربين ، أحدهما أن يتراخى زمان الحدث

ص: 349


1- القيامة : 14.

منه ، فيتوضأ للدخول (1) في الصلاة ، فإذا بدره الحدث ، وهو فيها ، خرج عن مكانه ، من غير استدبار للقبلة ، ولا تعمّد لكلام ليس من الصلاة ، فتوضّأ وبنى على صلاته ، فإن كان الماء ، عن يمينه ، أو شماله أو بين يديه ، فهو أهون عليه في تجديد الوضوء ، والبناء على ما أسلفناه من الصلاة.

والضرب الآخر ، أن يبادره الحدث على التوالي ، من غير تراخ بين الأحوال فينبغي له أن يتوضأ ، عند دخوله إلى الصلاة ، ويستعمل خريطة ، يجعل فيها إحليله ، ويمضي في صلاته ، ولا يلتفت إلى الحادث المستديم ، على اتصال الأوقات ، فإذا فرغ من صلاته الأولى ، توضأ وضوء آخر ، للفريضة الثانية ، ولا يجمع بين صلاتين بوضوء واحد ، لأنّه محدث في جميع أوقاته ، وانما لأجل الضرورة ، ساغ له أن يصلّي الفريضة مع الحدث.

ومن به سلس الثفل ، فحكمه حكم من به سلس البول ، وهو على ضربين ، كما بيناه ، فإن كان الحدث تتراخى أوقاته ، فعل كما رسمناه ، لمن به سلس البول ، على تراخي الأوقات ، وإن كان ما به تتوالى أوقاته ، ويحدث على الاتصال ، توضأ عند دخوله في الصلاة ، واشتدّ (2) وجعل على الموضع تحت الشداد ، كرسفا ، وخرقا ، وأوثق المكان ، وعمل في ذلك ، بما شرحناه في حكم المستحاضة ، ومضت صلاته ، بحسب الإمكان ، إلا أنّه ليس ممّن يجب عليه الغسل ، بحسب ما أوجبناه على المستحاضة ، في الأوقات التي ذكرناها ، وبيّنا الحكم فيها على التفصيل والبيان ، لأنّ القياس عندنا باطل ، بغير خلاف ، وانّما يجب عليه ، بعد فراغه من الصلاة ، تطهير الموضع ، بعينه ، وما لقيته النجاسة من أعضائه ، وثيابه ، دون ما سواها ، من سائر جسده ، إذ لا طهارة عليه بما قدّمناه ، وانّما طهارته وضوء الصلاة ثانيا ، وازالة النجاسة عمّا لاقته من الأعضاء ، واللباس.

ص: 350


1- في ط : لكل دخول
2- ج : شدّ.

ومن كانت حاله بالبلوى (1) بالحدث ما ذكرناه ، من تواليه وعدم تمكنه من ضبطه ، فليخفّف الصلاة ، ولا يطلها ، وليقتصر فيها ، على أدنى ما يجزي المصلي عند الضرورة ، من قراءة القرآن ، والتسبيح ، والتشهد ، والدعاء ، ويجزيه إذا كانت حاله ما وصفناه ، أن يقرأ في الأولتين من فرضه ، فاتحة الكتاب خاصّة ، وفي الآخرتين بالتسبيح ، يسبح في كل ركعة منها أربع تسبيحات ، فإن لم يتمكن من قراءة فاتحة الكتاب ، سبّح في جميع الركعات ، فإن لم يتمكن من التسبيحات الأربع ، لتوالي الحدث منه ، فليقتصر على دون ذلك من التسبيح ، في العدد ، ويجزيه منه تسبيحة واحدة ، في قيامه ، ومثلها في ركوعه ، ومثلها في سجوده ، وفي التشهد ، ذكر الشهادتين خاصة ، والصلاة على محمّد وآله ، في التشهدين معا لا بدّ منه ، ويصلّي على أحوط ما يقدر عليه ، في بدار الحدث ، من جلوس ، أو اضطجاع ، وإن كان صلاته بالإيماء أحوط له في حفظ الحدث ، ومنعه من الخروج ، صلّى مؤميا ، على ما قدّمناه ، ويكون سجوده أخفض من ركوعه ، في الصلاة بالإيماء ، وإن كان الشد لموضع الحدث ، على ما أسلفنا القول بوصفه ، يضر بالإنسان ضررا يخاف معه الهلاك ، أو ما يعقبه الهلاك ، أو طول المرض ، لم يلزمه من ذلك ، واحتاط في حفظ لباسه منه ، وصلّى على ما يتمكن منه ، ويتهيأ له من الأفعال والهيئات التي يكون عليها في حال الصلاة ، ولم يلتفت إلى ما يخرج من حدثه ، إذا كانت صورته في الضرورة ما ذكرناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : المستحاضة ، ومن به سلس البول ، يجب عليه تجديد الوضوء ، عند كلّ صلاة فريضة ، ولا يجوز لهما ، أن يجمعا بوضوء واحد ، بين صلاتي فرض (2) وقال في مبسوطة : ولا يجوز للمستحاضة ، أن تجمع بين فرضين ، بوضوء واحد ، وأمّا من به سلس البول ،

ص: 351


1- ج : في البلوى
2- الخلاف : كتاب الحيض ، مسألة 28.

فيجوز له أن يصلّي بوضوء واحد ، صلوات كثيرة لأنّه لا دليل على تجديد الوضوء ، وحمله على الاستحاضة قياس ، لا نقول به ، وانّما يجب عليه أن يشد رأس الإحليل ، بقطن ، ويجعله في كيس ، أو خرقة ، ويحتاط في ذلك (1) وما قدّمناه ، تقتضيه أصول المذهب ، ودليل الاحتياط ، لأنّ من به سلس البول ، إذا فرغ من صلاته ، فقد انتقض وضوؤه ، فيجب عليه اعادة طهارته ، وليس ذلك قياسا كما ذكره ، وانما لو تقدّر منه ، أن يصلّي فرضين ، من غير أن يحدث بينهما ، ما ينقض الوضوء ، لجاز ذلك ، لأنّه لا مانع منه ، وكان يكون حمله على المستحاضة قياسا ، كما ذكره ، وما صوّرناه بخلاف ذلك.

ومن انكسر به المركب في البحر ، فاضطر إلى السباحة ، أو تكسرت به سفينته أو انقلبت في المياه ، وكان مشغولا بالسباحة ، لخلاص نفسه من الهلاك ، وحضرت الصلاة ، فليتوضأ ، وهو يسبح في الماء وضوء الصلاة ، ويخرج رجليه حال سباحته من الماء ليمسح على ظاهرهما في الفضاء ، وليصلّ بالإيماء ، وهو في سباحته ، ويتوجه إلى القبلة ، إن عرفها ، ويكون سجوده أخفض من ركوعه ، وكذلك حكم الحائض في الماء.

والموتحل ، إذا كان على طهارته بالماء ، وإن لم يجد ماء في الوحل ، فليتيمم من غبار ثوبه ان وجد فيه غبارا وإن لم يجد وضع يده على الوحل ، وضعا رفيقا ، ثم رفعهما ، ومسحهما ، حتى يذهب رطوبة الوحل ، من يده ، ثم أمرهما على وجهه ، حسب ما تقدّم من وصفه ، في باب التيمّم ، وصلّى بالإيماء.

وصلاة المقيّدين والممنوعين من حركة جوارحهم ، والمحبوسين في الأمكنة النجسة ، بالأغلال والرباط ، يصلّي كل واحد من هؤلاء ، بحسب إمكانه واستطاعته ، وتحرى القبلة في توجهه ، وركوعه ، وسجوده ، فإن كان ممنوعا عن

ص: 352


1- المبسوط : كتاب الطهارة ، في أحوال المستحاضة ، ج 1 ، ص 68 الطبع الحديث.

القبلة ، بصرف وجهه إلى استدبارها ، سقطت عنه الصلاة إلى القبلة ، وكان عليه أن يصلّي إلى الجهة التي يقدر عليها.

فإن منع من الطهارة بالماء ، والتيمم للصلاة ، سقط عنه فرضها ، في تلك الحال ، ووجب عليه قضاؤها مع التمكن من الطهارة (1).

وقال شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده ، كان عليه أن يذكر اللّه عز اسمه ، في أوقات الصلوات ، بمقدار صلاته من المفروضات ، وليس عليه قضاء الصلاة ، وكذلك حكم المحبوسين في الأمكنة النجسة ، إذا لم يجدوا ماء ، ولا ترابا طاهرا ، ذكروا اللّه تعالى ، بمقدار صلاتهم ، وليس عليهم قضاء إذا وجدوا المياه ، أو الأتربة الطاهرة.

والصحيح من قول أصحابنا ، أنّه يجب عليهم القضاء ، لقول الرسول عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور (2) فنفى أن تكون صلاة شرعية ، إلا بطهور.

فأمّا العريان ، إذا لم يكن معه ما يستر به عورتيه ، وكان وحده ، بحيث لا يرى أحد سوأته ، صلّى قائما ، وإن كان معه غيره ، أو كان بحيث لا يأمن من اطلاع غيره عليه ، صلّى جالسا ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في سائر كتبه وكذلك شيخنا المفيد.

وذهب السيد المرتضى في مصباحه إلى أنّ العريان الذي لا يجد ما يستر به عورته ، يجب أن يؤخّر الصلاة إلى آخر أوقاتها ، طمعا في وجدان ما يستتر به ، فإن لم يجده ، صلّى جالسا ، ويضع يده على فرجه ، ويومئ بالركوع والسجود إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، فإن كانوا جماعة ، وأرادوا أن يجمعوا بالصلاة ، قام الإمام في وسطهم ، وصلّوا جلوسا ، على الصفة التي ذكرناها هذا

ص: 353


1- في ط وج : الطهارة بالماء.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب الوضوء ، ح 1 ، وأيضا باب 1 من أبواب الوضوء ، ح 2 من مستدرك الوسائل.

آخر كلام السيد المرتضى رضي اللّه عنه ، ولم يقسّم حال العريان بل أوجب عليه الصلاة جالسا ، في سائر حالاته.

وشيخانا قسما حاله إلى أنّه يجب عليه إذا أمن من اطلاع غيره عليه ، أن يصلّي قائما بالإيماء ، وإن لم يأمن من اطلاع غيره عليه ، يجب ان يصلّى جالسا بالإيماء.

واستدل شيخنا أبو جعفر على وجوب صلاة العريان قائما في مسائل خلافه ، فقال : دليلنا على وجوب الصلاة قائما طريقة الاحتياط ، فإنّه إذا صلّى كذلك برئت ذمته بيقين ، وإذا صلّى من جلوس لم تبرأ ذمّته بيقين ، قال : وأمّا إسقاط القيام بحيث قلناه ، فلإجماع الفرقة ، قال : وأيضا ستر العورة واجب ، فإذا لم يمكن ذلك إلا بالقعود ، وجب عليه ذلك (1) وهذا دليل منه رضي اللّه عنه غير واضح.

ولقائل أن يقول ، يمكن ستر العورة ، وهو قائم ، بأن يجعل يديه على سوأتيه ، فإن كان على القعود إجماع كما ذكره ، وإلا فدليله على وجوب القيام ، قاض عليه ، في هذه المسألة التي أوجب عليه فيها القعود.

وقال في مسائل خلافه في الجزء الأوّل في كتاب الجماعة : مسألة : يجوز للقاعد أن يأتم بالمومي ، ويجوز للمكتسي أن يأتم بالعريان (2).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد شيخنا بالعريان ، الجالس ، فهذا لا يجوز بالإجماع ، أن يأتم قائم بقاعد ، فلم يبق إلا أنّه أراد بالعريان القائم ، يكون إماما للمكتسي القائم أيضا ، فإذا كان كذلك ، فعنده ، العريان الذي لا يأمن من اطلاع غيره عليه ، لا يجوز أن يصلّي إلا جالسا ، وهذا معه غيره ، فكيف يصلّي قائما ، وهذا رجوع عما ذهب إليه في نهايته (3) ، من قسمة للعريان ، ولا أرى بصلاة المكتسي القائم خلف العريان القائم ، بأسا ، إذ لا دليل على بطلانها ، من

ص: 354


1- الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 151 من مسائل ستر العورة.
2- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 5 من صلاة الجماعة.
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجماعة وأحكامها تعرض للمسألة في آخر الباب.

كتاب ولا سنة ، ولا إجماع ، على ما ذهب إليه في مسائل خلافه.

فامّا أخبار أصحابنا فقد اختلفت في ذلك ، وليس فيها ما يقطع العذر بالتخصيص ، وليس للمسألة دليل ، سوى الإجماع ، فإنّ أصحابنا في كتبهم ، يقسمون حال العريان ، بغير خلاف بينهم.

فأمّا إذا صلوا جماعة عراة ، فلا خلاف ولا قسمة بين أصحابنا في حالهم ، بل الإجماع منعقد على أنّ صلاة جماعتهم ، من جلوس ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه يذهب إلى أنّ صلاة الإمام بالإيماء ، ومن خلفه من العراة بركوع ، وسجود ، وباقي أصحابنا مثل السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وغيرهما ، يذهبون إلى أنّ صلاة المأمومين بالإيماء ، مثل صلاة الإمام ، وهو الصحيح ، لأنّ عليه الإجماع ، لأنّه لا خلاف بينهم ، في أنّ العريان يصلّي بالإيماء ، على سائر حالاته ، ويسقط عنه الركوع والسجود.

واختلف قول أصحابنا ، في صلوات أصحاب الأعذار ، فقال بعضهم : الواجب على العريان ومن في حكمه ، من أصحاب الضرورات ، تأخير الصلاة إلى آخر أوقاتها ، وقال الأكثر منهم : الواجب عليهم ، الإتيان بها ، مثل من عداهم ، إن شاءوا في أوائل أوقاتها ، وإن شاءوا في أواخرها ، إلا المتيمم فحسب ، للإجماع على ذلك ، وما عداه داخل تحت عمومات الأوامر ، وهذا الذي يقتضيه أصول المذهب وبه افتي وأعمل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، واختياره ، والأول مذهب السيّد المرتضى ، وسلار رحمهما اللّه.

باب الصّلاة على الأموات

هذه الصلاة : فرض على الكفاية ، إذا قام بها البعض ، سقط عن الباقين ، وليس فيها قراءة ، ولا ركوع ، ولا سجود ، ولا تسليم ، وانّما هي تكبيرات ، واستغفار ، ودعاء.

ص: 355

وعدد التكبيرات خمس ، يرفع اليد ، في الأولى منهن ، ولا يرفع اليد في التكبيرات الباقيات ، وهذه أشهر الروايات (1) وهو مذهب السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) ، وذهب في استبصاره (3) إلى أنّ الأفضل ، رفع اليدين في جميع التكبيرات الخمس ، والصحيح ما قدّمناه ، لأنّ الإجماع عليه.

وموضع الدعاء للميت أو عليه ، بعد التكبيرة الرابعة ، فإذا كبّر الخامسة ، خرج من الصلاة بغير تسليم ، وهو يقول : اللّهم عفوك عفوك.

ويستحب للإمام أن يقيم مكانه حتى ترفع الجنازة.

ولا يجب هذه الصلاة ، إلا على من وجبت عليه الصلاة ، وكان مكلّفا بها ، أو كان غيره أمر بتكليفه ، إيّاها ، تمرينا له ، دون الأطفال الذين لم يبلغوا ست سنين ، ومن بلغ من الأطفال ست سنين ، وجبت الصلاة عليه ، ومن نقص عن ذلك الحد ، لا تجب الصلاة عليه ، بل تستحبّ الصلاة عليه ، إلا أن يكون هناك تقية.

ولا تجب الصلاة الا على المعتقدين للحق ، أو من كان بحكمهم من أطفالهم ، الذين بلغوا ست سنين ، على ما قدّمناه ، ومن المستضعفين ، وقال بعض أصحابنا : تجب الصلاة على أهل القبلة ، ومن يشهد الشهادتين ، والأول مذهب شيخنا المفيد ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه والأول الأظهر في المذهب ، ويعضده القرآن ، وهو قوله تعالى : ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ ) (4) يعني الكفار ، والمخالف للحق كافر ، بلا خلاف بيننا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة : ولد الزنا ، يغسّل ويصلّى

ص: 356


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب صلاة الجنازة ، وباب 2 من أبواب صلاة الجنازة من مستدرك الوسائل.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة على الموتى.
3- الاستبصار : باب 21 من أبواب الصلاة على الأموات
4- التوبة : 84.

عليه ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وعموم الأخبار (1) التي وردت بالأمر بالصلاة على الأموات ، وأيضا قوله صلى اللّه عليه وآله : صلّوا على من قال لا إله إلا اللّه (2) هذا آخر المسألة (3).

ثم قال في مسائل خلافه ، أيضا : مسألة : إذا قتل أهل العدل رجلا من أهل البغي ، فإنّه لا يغسل ، ولا يصلّى عليه ، ثمّ استدل فقال : دليلنا على ذلك ، أنّه قد ثبت أنّه كافر بأدلّة ، ليس هذا موضع ذكرها ، ولا يصلّى على كافر ، بلا خلاف (4) هذا آخر المسألة قال محمّد بن إدريس : لا استجمل لشيخنا ، هذا التناقض في استدلاله ، يقول في قتيل أهل البغي ، لا يصلّى عليه ، لأنّه قد ثبت كفره بالأدلة ، وولد الزنا لا خلاف بيننا ، أنّه قد ثبت كفره بالأدلة أيضا بلا خلاف ، فكيف يضع هاتين المسألتين ، ويستدل بهذين الدليلين ، وما المعصوم إلا من عصمه اللّه تعالى ، فأمّا الشهادتان ، فهذا يفعلهما ، وهذا أيضا يفعلهما ، وهذه المسألة الأخيرة ، بعد المسألة الأولى ، ما بينهما ، إلا مسألة واحدة فحسب ، وهذا منه رحمه اللّه إغفال في التصنيف.

وتجوز الصلاة ، على الأموات بغير طهارة ، والطهارة أفضل ، ويصلّى على الميت ، في كل وقت من ليل ، أو نهار.

وأولى الناس بالصلاة على الميت ، الولي ، أو من يقدّمه الولي ، فإن حضر الإمام العادل ، كان أولى بالتقدّم ، ويجب على الولي تقديمه ، ولا يجوز لأحد التقدّم عليه ، فإن لم يحضر الإمام العادل ، وحضر رجل من بني هاشم ، معتقد

ص: 357


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب صلاة الجنازة ، وباب 29 من أبواب صلاة الجنازة من مستدرك الوسائل.
2- الخلاف : كتاب أحكام الأموات ، مسألة 57 و 59.
3- الخلاف : كتاب أحكام الأموات ، مسألة 57 و 59.
4- الخلاف : كتاب أحكام الأموات ، مسألة 57 و 59.

للحق استحب للولي أن يقدّمه ، فإن لم يفعل ، لم يجز له أن يتقدم ، فإن حضر جماعة من الأولياء ، كان الأب أولى بالتقدم ، ثمّ الولد ، ثمّ ولد الولد ، ثم الجدّ من قبل الأب ، ثم الأخ من قبل الأب والام ، ثمّ الأخ من قبل الأب ، ثمّ الأخ من قبل الام ، ثمّ العم ، ثمّ الخال ، ثمّ ابن العم ، ثمّ ابن الخال.

وجملته ، انّ من كان أولى بميراثه ، كان أولى بالصلاة عليه ، لقوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (1) وذلك عام.

وإذا اجتمع جماعة في درجة ، قدّم الأقرأ ، ثم الأفقه ، ثم الأسن ، لقوله عليه السلام : « يؤمكم أقرأكم » الخبر (2). فإن تساووا في جميع الصفات ، أقرع بينهم.

والولي الحر ، أولى من المملوك في الصلاة على الميت ، وكذلك الذكر ، أولى من الأنثى ، إذا كان ممن يعقل (3) الصلاة.

ويجوز للنساء أن يصلّين على الجنازة ، مع عدم الرجال وحدهن ، إن شئن فرادى ، وإن شئن جماعة ، فإن صلّين جماعة ، وقفت الإمامة وسطهن ، المعمول به من وقت النبي صلى اللّه عليه وآله إلى وقتنا هذا ، في الصلاة على الجنازة ، أن تصلّي جماعة ، فان صلّى فرادى جاز ، كما صلّي على النبي صلى اللّه عليه وآله.

الأوقات المكروهة للنوافل يجوز أن يصلّى فيها على الجنازة.

لا بأس بالصلاة والدفن ليلا ، وإن فعل بالنهار كان أفضل ، إلا أن يخاف على الميّت.

إذا اجتمع جنازة رجل ، وامرأة ، وخنثى ، ومملوك ، وصبي ، فإن كان للصبي دون ست سنين ، قدّم أولا إلى القبلة ، ثم المرأة ، ثم الخنثى ، ثم المملوك ،

ص: 358


1- الأنفال : 75 ، والأحزاب : 6.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 16 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 3
3- ج : يعتقد.

ثم الرجل ، فإن كان للصبي ست سنين فصاعدا ، جعل مما يلي الرجل ، وصلّي عليهم على الترتيب الذي قدّمناه ، وإن صلّي عليهم فرادى ، كان أفضل.

يسقط فرض الصلاة على الميت ، إذا صلّى عليه واحد.

والزوج ، أحق بالصلاة على المرأة ، من جميع أوليائها.

فإذا أراد الصلاة ، وكانوا جماعة ، تقدّم الإمام ، ووقفوا خلفه صفوفا ، فإن كان فيهم نساء ، وقفن آخر الصفوف ، وإن كان فيهن حائض ، وقفت وحدها في صف ، بارزة عنهم وعنهن.

وإن كانوا نفسين ، تقدّم واحد ، ووقف الآخر خلفه ، بخلاف صلاة ذات الركوع ، في الجماعات ، ولا يقف على يمينه.

فإن كان الميت رجلا ، وقف الإمام في وسط الجنازة ، وإن كان امرأة وقف عند صدرها.

وينبغي أن يكون بين الإمام ، وبين الجنازة شي ء يسير ، ولا يبعد عنها.

ويتحفى عند الصلاة عليه ، إن كان عليه نعلان ، فإن لم يكن عليه نعل ، أو كان عليه خفّ ، صلّى عليه كذلك ولا ينزعه.

وكيفية الصلاة عليه ، أن يرفع يديه بالتكبير ، على ما قدّمناه ، ويكبر تكبيرة ، ويشهد أن لا إله إلا اللّه ، ثم يكبر تكبيرة أخرى ، ولا يرفع يديه بها ، على ما أسلفنا القول فيه ، ويصلّي على النبي وآله صلوات اللّه عليهم ثمّ يكبر الثالثة ، ويدعو للمؤمنين ، ثم يكبر الرابعة ، ويدعو للميت إن كان مؤمنا ، وعليه إن كان مخالفا لاعتقاد الحق ، ويلعنه ويبرأ منه ، وإن كان مستضعفا قال : ربنا اغفر ( لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا ) إلى آخر الآية ، فإن كان لا يعرف مذهبه ، (1) يسأل اللّه تعالى ، أن يحشره مع من كان يتولاه ، وإن كان طفلا سأله أن يجعله له ولأبويه فرطا ، بفتح الفاء والراء ، والفرط في لغة العرب ، هو المتقدّم على القوم ، ليصلح لهم ما يحتاجون إليه ، والدليل على ذلك قول الرسول صلوات اللّه عليه أنا فرطكم على

ص: 359


1- في وج : يسأل.

الحوض (1) ثم يكبر الخامسة.

ولا يبرح من مكانه ، إن كان إماما ، حتى ترفع الجنازة ، ويراها على أيدي الرجال.

ومن فاته شي ء من التكبيرات ، أتمّها عند فراغ الإمام متتابعة ، فإن رفعت الجنازة ، كبر عليها وإن كانت مرفوعة ، وإن بلغت إلى القبر ، كبّر على القبر ، إن شاء.

الأفضل ان لا يرفع يديه ، فيما عدا الأولة من التكبيرات الخمس ، على ما بيناه.

وإن كبر تكبيرة قبل الإمام ، أعادها مع الإمام.

ومن فاتته الصلاة على الجنازة ، جاز أن يصلّي على القبر ، بعد الدفن يوما وليلة ، وقال بعض أصحابنا ثلاثة أيام ، والأول هو الأظهر بين الطائفة.

ولا يجوز الصلاة على غائب مات في بلد آخر ، لأنّه لا دليل عليه ، فإن اعترض معترض ، بصلاة الرسول صلى اللّه عليه وآله على النجاشي ، وقد مات ببلاد الحبشة ، فإنّما دعا له والصلاة تسمى دعاء في أصل الوضع.

ويكره أن يصلّى على جنازة واحدة دفعتين جماعة ، فأمّا فرادى فلا بأس بذلك.

وإذا دخل وقت الصلاة وقد حضرت جنازة ، ولم يتضيّق وقت الصلاة الحاضرة ، ولم يخش على الجنازة حدوث حادث ، فالبدأة بالصلاة أفضل ، وتؤخر الصلاة على الجنازة ، فإن خيف حدوث الحادث بالجنازة ، فالبدأة بالصلاة على الجنازة هو الأفضل والأولى ، وإن كان وقت الحاضرة قد ضاق ، فالبدأة بالحاضرة هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه إلى ما سواه.

وأفضل ما يصلّى على الجنائز ، في مواضعها الموسومة بذلك.

ص: 360


1- سفينة البحار في لغة فرط.

ويكره الصلاة عليها في المساجد ، ومتى صلى على جنازة ثم بان أنّها كانت مقلوبة ، أي رجلا الميت إلى يمين المصلّي ، سويت ، وأعيد الصلاة عليها ، ما لم يدفن ، فإذا دفن فقد مضت الصلاة.

والأفضل أن لا يصلّى على الجنازة إلا على ظهر ، فإن فاجأته جنازة ولم يكن على طهارة ، تيمم ، وصلّى عليها ، فإن لم يمكنه ، صلّى عليها بغير طهارة ، وإن صلّى من غير تيمم جاز أيضا ، إذ قد بيّنا فيما سلف ، أنّ الطهارة ليست شرطا في هذه الصلاة.

وإذا كبر الإمام على جنازة تكبيرة ، أو تكبيرتين ، وأحضرت جنازة اخرى كان مخيرا بين أن يتم خمس تكبيرات على الجنازة الأولة ، ثم يستأنف الصلاة بنية على الأخرى ، وبين أن ينوي الصلاة عليهما معا ويكبر الخمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى إليه ، وقد أجزأه عن الصلاة عليهما.

ومتى صلّى جماعة عراة على ميت ، فلا يتقدم إمامهم ، بل يقف قائما في الوسط ، فإن كان الميت عريانا ، أنزل (1) في القبر أولا ، وغطيت سوأته ، ثم يصلّى عليه بعد ذلك ، ويدفن.

فإذا فرغ من الصلاة عليه حمل إلى القبر.

تمّ كتاب الصلاة مكمّلا ولله المنة (2)

ص: 361


1- ج : ترك وط : انزل
2- ج : ولله المنّة وبه الحول والقوّة.

ص: 362

كتاب الصّيام

اشارة

ص: 363

كتاب الصّيام

باب حقيقة الصوم ومن يجب عليه ذلك ومن لا يجب عليه

الصوم في اللغة : هو الإمساك والكف ، يقال : صام الماء إذا سكن وصام النهار إذا قام في وقت الظهيرة ، قال الشاعر :

خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج واخرى (1) تعلك اللجما

وقال آخر : صام النهار وقالت العفر.

وفي الشرع : هو إمساك خصوص ، على وجه مخصوص ، في زمان مخصوص ، ممن هو على صفة مخصوصة.

ومن شرط انعقاده النية المقارنة فعلا أو حكما ، لأنّه لو لم ينو ، وأمسك عن جميع ذلك ، لم يكن صائما ، وقولنا : إمساك مخصوص ، أردنا الإمساك عن المفطرات التي سنذكرها ، وأردنا على وجه مخصوص ، العمد دون النسيان ، لأنّه لو تناول جميع ذلك ناسيا لم يبطل صومه ، وقولنا : في زمان مخصوص ، أردنا به النهار ، دون الليل ، فإنّ الإمساك عن جميع ذلك ليلا ، لا يسمّى صوما ، وقولنا : ممن هو على صفة مخصوصة ، أردنا به من كان مسلما ، لأنّ الكافر ، لو أمسك عن جميع ذلك ، لم يكن صائما ، وأردنا به أيضا أن لا تكون حائضا ، لأنّها لا يصح منها الصوم ، وكذلك لا يكون مسافرا ، سفرا مخصوصا ، عندنا ، لأنّ المسافر لا ينعقد صومه الفرض ، وقولنا : من شرطه مقارنة النية له ، فعلا أو حكما ، معناه :

ص: 364


1- ج : وخيل.

أن يفعل النية ، في الوقت الذي يجب فعلها فيه ، وحكما : أن يكون ممسكا ، عن جميع ذلك ، وإن لم يفعل النية ، كالنائم طول شهر رمضان ، والمغمى عليه ، فإنّه لا نيّة لهما ، ومع ذلك يصح صومهما ، وكذلك من أمسكه غيره ، عن جميع ما يجب إمساكه ، يكون في حكم الصائم ، إذا نوى ، وإن لم يكن في الحقيقة ممتنعا ، لأنّه لا يتمكن منها ، هذا جميعه ، ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (1) والذي يلوح لي ، ويقوى في نفسي أنّ النائم الذي ذكره ، والمغمى عليه ، غير مكلّفين بالصيام ، ولا هما صائمان صياما شرعيا ، فذكره لهما غير واضح ، وسيأتي الكلام في باب المغمى عليه ، ونذكر ما عندنا في ذلك ، واختلاف أصحابنا فيه.

والنية ، وإن كانت إرادة ، لا تتعلق إلا بالحدوث ، بأن يكون الشي ء قائما يتعلّق في الصوم ، باحداث توطين النفس ، وقهرها ، على الامتناع بتجديد الخوف ، من عقاب اللّه تعالى ، وغير ذلك ، أو بفعل كراهة ، لحدوث هذه الأشياء ، فتكون متعلّقة على هذا الوجه ، فلا ينافي الأصول.

وقال السيد المرتضى رحمه اللّه : الصوم الشرعي : هو توطين النفس ، على الكف عن تناول ما يفسد الصيام ، من أكل ، وشرب ، وجماع ، وما أشبه ذلك.

وقال شيخنا المفيد رحمه اللّه : الصوم في الشرع : هو كف الجوارح ، عما حظر على العبد استعماله منه ، مع حال الصيام ، ومن شرط وجوبه : كمال العقل ، والطاقة ، وليس الإسلام شرطا في الوجوب ، لأنّ الكافر عندنا ، تجب عليه العبادات الشرعية ، وإن لم يكن مسلما ، إلا أنّ الأداء لا يصح منه ، لأنّ النية للقربة من شرطه ، وهذا شي ء يرجع إليه ، لأنّ في مقدوره ، أن يسلم ، ويعرف من يتقرب إليه ، فهو كالمحدث ، إذا دخل وقت الصلاة ، فإنّه مكلّف بالصلاة ،

ص: 365


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.

ولا يصح منه الأداء ، لأنّ إزالة الحدث في مقدوره ، لا لأمر راجع إلى غيره ، لا يصح منه فعله ، إلا أنّه لا يلزمه القضاء ، متى أسلم ، لأنّ القضاء فرض ثان ، ومن شرطه : الإسلام ، وكمال العقل.

وأمّا المرتد عن الإسلام ، إذا رجع ، فإنّه يلزمه قضاء الصوم ، وجميع ما فاته ، من العبادات في حال ارتداده ، لأنّه كان بحكم الإسلام ، لالتزامه له ، أولا ، فلأجل ذلك ، وجب عليه القضاء ، فأمّا إن ارتد ، ثم عاد إلى الإسلام ، قبل أن يفعل ما يفطره ، فلا يبطل صومه بالارتداد ، لأنّه لا دليل عليه.

فأمّا كمال العقل ، شرط في وجوبه عليه ، لأنّ من ليس كذلك ، لا يكون مكلفا ، من المجانين ، وغيرهم ، ولا فرق بين أن لا يكون كامل العقل في الأصل ، أو يزول عقله فيما بعد ، في أن التكليف يزول عنه ، اللّهم إلا ان يزول عقله ، بفعل يفعله ، على وجه يقتضي زواله ، بمجرى العادة ، فإنّه إذا كان كذلك ، لزمه قضاء جميع ما يفوته ، في تلك الأحوال ، وذلك مثل السكران وغيره ، فإنّه يلزمه قضاء ما فاته ، من العبادات كلها ، وإن كان جنى (1) جناية ، زال معها عقله ، على وجه لا يعود ، بأن يصير مجنونا مطبقا ، فإنّه لا يلزمه قضاء ما يفوته ، وأمّا إذا زال عقله بفعل اللّه ، مثل الإغماء ، والجنون ، وغير ذلك فإنّه لا يلزمه قضاء ما يفوته ، في تلك الأحوال ، فعلى هذا ، إذا دخل عليه شهر رمضان ، وهو مغمى عليه ، أو مجنون ، أو نائم ، وبقي كذلك ، يوما ، أو أياما ، كثيرة ، أفاق في بعضها ، أو لم يفق ، لم يلزمه قضاء شي ء ، ممّا مرّ به ، سواء أفطر فيه ، أو طرح في حلقه ، على وجه المداواة له ، فإنّه لا يلزمه القضاء حينئذ.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : لا يلزمه القضاء ، لشي ء ممّا مرّ به ، إلا ما أفطر فيه ، أو طرح في حلقه على وجه المداواة له ، فإنه

ص: 366


1- ط : حين جنايته.

يلزمه حينئذ القضاء ، لان ذلك لمصلحته ومنفعته ، وسواء أفاق في بعض النهار ، أو لم يفق ، فانّ الحال لا يختلف فيه (1) وما ذكره رحمه اللّه كلام المخالفين ، فلا يظن ظان أنّه قوله واعتقاده ، لأنّ هذا ينافي أصول المذهب ، لأنّ الخطاب بالعبادات ، لا يتوجه إلا إلى كاملي العقول ، وأيضا القضاء فرض ثان ، يحتاج إلى دليل شرعيّ ، في إثباته ، فإنّ القضاء ، غير تابع للمقضي ، لأنّه يحتاج إلى دليل شرعي.

وأمّا البلوغ ، فهو شرط في وجوب العبادات الشرعية ، وحدّه في الرجل ، إمّا بالاحتلام ، أو بلوغ خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، وهو خشونة العانة ، والمرأة ، تعرف بلوغها ، من خمس طرائق : إمّا الاحتلام ، أو الإنبات ، أو بلوغ تسع سنين ، وذكر شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مبسوطة في كتاب الصوم : عشر سنين (2) وفي نهايته : تسع سنين (3) وهو الصحيح ، الظاهر في المذهب ، لأنّه لا خلاف بينهم ، أنّ حدّ بلوغ المرأة تسع سنين ، فإذا بلغتها ، وكانت رشيدة ، سلّم الوصي إليها مالها ، وهو بلوغها الوقت الذي يصح أن تعقد على نفسها عقدة النكاح ، ويحل للبعل الدخول بها ، بغير خلاف بين الشيعة الاثني عشرية والحيض ، والحمل ، وهكذا يذكر في الكتب ، والمحصّل من هذا ، بلوغ التسع سنين ، لأنّها لا تحيض قبل ذلك ، ولا تحمل قبل ذلك ، فعاد الأمر إلى بلوغ التسع سنين ، وانّما أوردنا ما أورده غيرنا من المصنّفين ، فأما قبل ذلك ، فإنّما يستحب أخذه به ، على وجه التمرين له ، والتعليم.

والصوم على ضربين : مفروض ، ومسنون ، وقال بعض أصحابنا في كتاب له : الصوم على خمسة أضرب ، واجب ومندوب ، وصوم اذن ، وصوم تأديب ، وصوم قبيح ، وهذا ما لا حاجة إليه ، لأنّا نحدّ الصوم الشرعي ، وما هو تكليف لنا ،

ص: 367


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

والصوم القبيح غير شرعي ، ولا هو تكليف لنا ، فأمّا صوم الاذن ، وصوم التأديب ، فداخلان في صوم المسنون ، فعاد الأمر على هذا التحرير ، إلى أنّ الصوم الشرعي ، على ضربين : واجب ، ومندوب ، لا قسم لهما ثالث ، فإذا تقرر ذلك ، فالمفروض على ضربين : ضرب منهما ، واجب من غير سبب ، وهو صوم شهر رمضان ، فحسب ، والضرب الآخر ، واجب عند سبب ، وهذا الضرب ، نحو من خمسة عشر قسما ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده : أحد عشر قسما (1) ، أوردها فهي معلومة ، فأمّا المزيد عليها ، من الأقسام ، فهو كفارة خلاف النذر ، وكفارة خلاف العهد ، وصوم من أفاض من عرفات ، قبل غروب الشمس متعمدا ، ولم يجد الجزور ، فإنّه يجب عليه أن يصوم بدله ثمانية عشر يوما.

والمفروض على ضربين أيضا بطريقة اخرى : متعين ، وغير متعين ، فالمتعين على ضربين : متعيّن بزمان ، ومتعيّن بصفة ، والمتعين بزمان ، على ضربين ، أحدهما ، لا يمكن أن يقع فيه غير ذلك الصوم ، والشرع على ما هو عليه ، والآخر يمكن ذلك فيه ، أو كان يمكن ، هذا تقسيم شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ، وتقسيمه في الجمل والعقود ، قال : فإن كان الصوم متعيّنا بزمان مخصوص ، على كل حال ، مثل شهر رمضان ، فيكفي فيه نية القربة ، دون نية التعيين ، وإن لم يكن متعينا ، أو كان يجوز ذلك فيه ، احتاج إلى نية التعيين ، وذلك كل صوم ، عدا شهر رمضان (3) واحترازه في العبارتين بقوله : والآخر يمكن ذلك فيه ، أو كان يمكن ، وبقوله في جمله وعقوده : وإن لم يكن متعيّنا ، أو كان يجوز ذلك فيه ،

ص: 368


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر النية وبيان أحكامها في الصوم.
3- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، ومن شرط صحته النية.

مقصوده ومراده بقوله : وإن لم يكن متعيّنا ، النذر الغير متعين (1) بيوم ، وبقوله : أو كان يجوز ذلك فيه ، النذر المعين بيوم ، يريد به (2) كان يجوز أن لا ينذره ناذره ، فلا يكون متعينا بيوم أو أيام ، فالأول صوم شهر رمضان ، فإنّه لا يمكن أن يقع فيه غيره ، إذا كان مقيما في بلده ، أو بلد غير بلده ، إذا كان قد نوى مقام عشرة أيّام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : وما هذه حاله ، لا يحتاج في انعقاده إلى نية التعيين ، ويكفى فيه نية القربة وقال في مبسوطة : ومعنى نية القربة ، ان ينوي أنّه صائم شهر رمضان (3) وقال في مسائل الخلاف : ونية القربة يكفي ، أن ينوي أنّه يصوم متقرّبا به إلى اللّه تعالى ، وان أراد الفضل ، نوى أنّه يصوم غدا ، صوم شهر رمضان ، ونيّة التعيين ، أن ينوي الصوم الذي يريده ، ويعيّنه بالنية (4) ، والذي ذكره في مسائل خلافه ، هو الصحيح ، إذا زاد فيه واجبا ، مثل أن ينوي أنّه يصوم واجبا متقربا به إلى اللّه تعالى.

ولا يظن ظان ، أنه إذا نوى واجبا ، فقد عيّن ، لأنّ الواجب يشتمل على ضروب من الصيام الواجب ، وما ذكره في مبسوطة ، من كيفية نية القربة غير واضح ، وهو مذهب الشافعي ، فلا يظن ظان ، أنّه قوله واعتقاده ، لأنّه قد ذكره عنه وحكاه عنه ، في مسائل الخلاف ، لأنّ القول بذلك ، يؤدّي إلى أنّه ، لا فرق بين نية التعيين ، ونية القربة ، لأنّ نية القربة ، لا تعيّن المنوي ، بل يتقرب بالصوم إلى اللّه سبحانه وتعالى ، لأنّه زمان لا يقع فيه غير الصوم الذي هو واجب فيه ، فعلى ما أورده في مبسوطة ، جمع بين نية القربة ، ونية التعيين ، لأنّه قال : ينوي أنّه صائم شهر رمضان ، وجملة الأمر وعقد الباب أنّ ما عدا شهر رمضان ، عند هذا الفقيه رضي اللّه عنه لا بدّ له من نية التعيين ، ونية القربة معا ، ورمضان

ص: 369


1- ج : غير المتعين
2- ج : النذر المتعيّن بيوم ، ويريد به.
3- المبسوط : كتاب الصوم فصل في ذكر النية - والعبارة هكذا - وفي نية القربة ان ينوي أنه صائم فقط متقربا إلى اللّه تعالى
4- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 4.

يكفي فيه نية القربة فحسب ، دون نية التعيين.

والصحيح ما ذهب سيّدنا المرتضى رضي اللّه عنه إليه ، من أنّ كل زمان يتعين فيه الصوم ، كشهر رمضان ، والنذر المعين ، بيوم أو أيام ، لا يجب فيه نية التعيين ، بل نية القربة فيه كافية ، حتى لو نوى صومه ، عن غيره ، لم يقع إلا عنه وانّما يفتقر إلى تعيين النية ، في الزمان الذي لا يتعين فيه الصوم.

وذكر السيد المرتضى رضي اللّه عنه في جواب مسألة من جملة المسائل الطرابلسيات : الثالثة ما قوله ، حرس اللّه مدته ، فيمن نذر أن يصوم يوما ، يبلغ فيه مرادا ، واتفق ذلك اليوم ، يوم عيد ، أو يوما قد تعيّن صومه عليه ، بنذر آخر ، هل يجزيه صوم اليوم الذي تقدم وجوب صومه عليه بالنذر المتقدّم ، عن يوم يجعله بدلا منه ، إذا اتفق في النذر الثاني ، أم لا؟ وهل يسقط عنه صوم اليوم الثاني (1) الّذي اتفق يوم عيد بغير بدل منه ، أم ببدل؟ فأجاب المرتضى : بأن قال : إذا نذر صوم يوم عليه ببعض الشروط ، واتفق حصول ذلك الشرط ، في يوم قد تعيّن عليه صومه بنذر متقدّم ، لنذره هذا ، فالأولى ، أن لا قضاء عليه ، لأنّ نذره ، تعلّق بما يستحيل ، فلم ينعقد ، وإذا لم ينعقد ، فلا قضاء ، وانّما قلنا انّه مستحيل ، لأنّ صوم ذلك اليوم ، قد تعيّن صومه بنذر سابق ، يستحيل أن يجب بسبب آخر ، فكأنّه نذر ما يستحيل وقوعه ، وجرى مجرى أن يعلّق نذره باجتماع الضدين ، والذي يكشف عن استحالة ما نذره ، أنّه إذا قال : عليّ أن أصوم يوم قدوم فلان ، فكأنّه نذر صيام هذا اليوم ، على وجه يكون صيامه مستحقا بقدوم ذلك القادم ، وهذا اليوم الذي فرضنا ، أنّه متعيّن صومه بسبب متقدّم ، يستحيل فيه أن يستحق صومه بسبب آخر ، من الأسباب وهذا بيّن وهذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه (2)

ص: 370


1- ج : اليوم الذي
2- رسائل الشريف المرتضى المجموعة الاولى : ص 440.

والمقصود من هذا ، أنّه جعله كرمضان ، وأنّه يستحيل أن يقع فيه صوم غيره ، وذلك انّما يحتاج إلى النيّة المعينة للصوم ، في الزمان الذي ليس بمعيّن حتى يعيّنه ، وهذا الزمان في نفسه معيّن ، فهو كرمضان سواء ، وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه : أو كان يجوز ذلك فيه ، يريد به أنّ النذر المعيّن كان يجوز أن لا يكون معيّنا ، على ما تقدّمت الإشارة منّا في تفسيره.

فلقائل أن يقول له : وكان يجوز أن لا يكلفنا اللّه تعالى ، صيام شهر رمضان ، بان لا يوجبه (1) علينا ، فمهما لزمنا في النذر المعيّن من الجواب ، يلزمه مثله ، حذو النعل بالنعل ، فاحترازه ممّا احترز ، غير مجد عليه نفعا.

فرمضان ، عنده يمتاز من سائر ضروب الصيام الواجب بثلاثة أحكام : أحدها ، انّ نيّة القربة ، كافية فيه ، ونية واحدة ، تجزي للشهر جميعه ، ويجوز أن يتقدّمه على بعض الوجوه ، على ما يذهب إليه شيخنا أبو جعفر ورواه من طريق أخبار الآحاد ، بأن يعزم في شعبان ، أنّه إذا حضر رمضان ، صامه ثم حضر رمضان ، وعلمه ، ثم نسي ، وصام ذلك ، أجزأته تلك النية المتقدّمة ، وكان صومه صحيحا ، مجزيا عنه فاما من لم يعلم باستهلال الشهر وأصبح صائما بنية التطوع ، فإنه يجزيه صيامه سواء علم قبل الزوال أو بعد الزوال فاما من أصبح بنية الإفطار ثم قامت عنده البينة بدخول الشهر فان كان ذلك قبل الزوال ولم يتناول ما يفسد الصيام فيجدد النية وقد تم ، صومه ، ولا قضاء عليه ، وإن كان ذلك بعد الزوال ، فيجب عليه الإمساك ، باقي نهاره ، ويجب عليه القضاء ، فإن لم يمسك باقي نهاره ، وأفطر ، فإنّه يجب عليه مع القضاء ، الكفارة ، لأنّه قد أكل في نهار رمضان ، بعد حصول علمه به.

ووقت النية ليلة الصوم ، من أوّلها إلى طلوع الفجر ، فأيّ وقت نوى الصوم ، فقد انعقد صومه ، ومتى لم ينو متعمدا ، مع العلم بأنّه شهر رمضان ، حتى يصبح

ص: 371


1- ج : ولا يوجبه.

فقد فسد صومه ، وعليه القضاء ، وإن لم يعلم أنّه من شهر رمضان ، لعدم رؤيته ، أو لشبهة ، ثم علم بعد أن أصبح ، جاز له أن يجدد النيّة ، إلى الزوال ، وصحّ صومه ، ولا اعادة عليه ، وإن فاتت إلى بعد الزوال ، أمسك بقية النهار ، وكان عليه القضاء ، كما قدّمناه.

وجملة الأمر ، وعقد الباب : انّ الصوم المتعيّن ، مع الذكر له ، يجب أن ينوي مكلّفة من الليل ، وجميع الليل ، محل لنيّته ، فإن تركها متعمدا ، فإنّه يجب عليه القضاء ، وإن تركها ساهيا ، أو بأن لا يعلمه ، فله أن ينوي ما بينه وبين زوال الشمس ، فإن زالت فقد فاتته ، ويجب عليه القضاء ، والذي ينبغي تحصيله ، فإنّه يوجد في الكتب ، أنّ رمضان لو صام الإنسان فيه ، بنية النذر ، أو بنية الكفارة ، أو القضاء ، أو الندب ، وقع عن رمضان ، لأنّه زمان لا يصح أن يقع فيه صوم ، سوى صوم رمضان ، والذي يجب أن يقال ، هذا مع عدم علم المكلّف ، بأنّه رمضان ، وصام بنية صيام غيره ، وقع عنه وأجزأ.

فأمّا إذا علمه ، وحقّقه ، فلا يجزيه إلا أن ينويه ، لأنّ النية ، تحتاج إلى أن يطابق المنوي ، لقول الرسول عليه السلام : الأعمال بالنيّات ، وانّما لامرئ ما نوى (1) فكيف يجزي صوم النفل ، عن الصوم الواجب ، الذي قد علمه المكلف ، وحقّق زمانه ، وانّما يجزي ذلك للناسي ، وغير العالم ، فإطلاق ما يوجد في كتب أصحابنا ، راجع إلى غير العالم المتحقق لزمان رمضان ، فأمّا العالم ، فلا بدّ له ، مع ذكره ، لنية الوجوب (2) ، فحسب ، دون نية التعيين ، لأنّ الواجب على ضروب ، فإذا نوى أصوم واجبا ، فلم يعيّن ، فإذا قال : أصوم واجبا رمضان ، فقد عيّن ، فلا يظن ظان ، أن إذا قال : أصوم واجبا ، فقد عيّن.

ص: 372


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 10 ، وفي المصدر ( ولكل امرء )
2- ج : لنية القربة من نية الوجوب وفي ط : لنية الوجوب من نية القربة.

وأمّا الصوم الغير المتعيّن فمحل النية ، طول ليلة نهاره وإلى قبل زوال الشمس من يومه ، سواء تركها عامدا ، أو ناسيا ، فهذا الفرق ، بين ضربي الصوم الواجب.

فأمّا صوم التطوع ، فله أن ينوي ما دام في نهاره ، سواء كان بعد الزوال ، أو قبله ، على الصحيح من الأقوال والأخبار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : ومتى فاتت ، إلى بعد الزوال ، فقد فات وقتها ، إلا في النوافل خاصّة ، فإنّه روي في بعض الروايات ، جواز تجديدها ، بعد الزوال (1) ، وتحقيقها ، أنّه يجوز تجديدها ، إلى أن يبقى من النهار بمقدار ما يبقى (2) زمان بعدها يمكن أن يكون صوما ، فأمّا إذا كان انتهاء النيّة ، مع انتهاء النهار ، فلا صوم بعده ، على حال (3).

وهذا القول منه رحمه اللّه ، يدل على تضعيفه للرواية ، لأنّه قال : فإنّه روي في بعض الروايات ، جعله رواية ، ثم قال في بعض ، زاده ضعفا آخر : والصحيح ما قدّمناه ، واخترناه ، لأنّه إجماع من الفرقة ، على ذلك ، وهو مذهب السيد المرتضى ، يناظر عليه المخالف له في الانتصار (4).

وإذا جدد نية الإفطار ، في خلال النهار ، وكان قد عقد الصوم في أوّله ، فإنّه لا يصير مفطرا ، حتى يتناول ما يفطر ، وكذلك إن كره الامتناع من الأشياء المخصوصة ، لأنّه لا دليل على ذلك.

وقال السيد المرتضى رضي اللّه عنه ووقت النية في الصيام الواجب ، من قبل طلوع الفجر ، إلى قبل زوال الشمس ، وفي صيام التطوع ، إلى بعد الزوال.

والذي يقع الإمساك عنه ، على ضربين : واجب ومندوب ، فالواجب على ضربين : أحدهما إذا لم يمسك عنه ، لا يجب عليه قضاء ، ولا كفارة ، بل كان

ص: 373


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب وجوب الصوم ونيته ، ح 8
2- ج : من النهار زمان.
3- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر النية وبيان أحكامها في الصوم ، ج 1 ، ص 277 ، وفي المصدر : ومتى فاتته
4- الانتصار : كتاب الصوم ، المسألة الأولى.

مأثوما ، وإن لم يبطل ذلك صومه ، وهو المشي إلى المواضع المنهي عنها ، والكذب على غير اللّه تعالى ، وغير رسوله ، وأئمته عليهم السلام ، والغناء ، وقول الفحش ، والنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ، والحسد ، وقال بعض أصحابنا : التحاسد ، الأولى الإمساك عنه ، والصحيح أنّه داخل فيما يجب الإمساك عنه.

والضرب الآخر ، من قسمي الواجب ، ينقسم إلى قسمين : أحدهما يوجب القضاء والكفارة معا ، والآخر يوجب القضاء دون الكفارة.

فما يوجب القضاء والكفارة ، اختلف أصحابنا فيه ، فقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجمل والعقود : تسعة أشياء ، الأكل والشرب ، والجماع في الفرج ، وإنزال الماء - الذي هو المني ، وشيخنا قيده بالدافق ، ولا حاجة بنا على مذهبنا ، إلى هذا التقييد لأنّا إنما نراعي خروج المني عامدا سواء كان دافقا أو غير دافق في جميع ما نراعي من الاغتسال وغير ذلك ، والكذب على اللّه تعالى ، وعلى رسوله والأئمة عليهم السلام ، متعمّدا ، والارتماس في الماء ، وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمّدا ، مثل غبار الدقيق ، وغبار النفض ، وما جرى مجراه ، والمقام على الجنابة متعمدا ، حتى يطلع الفجر ، ومعاودة النوم بعد انتباهتين ، حتى يطلع الفجر (1).

وما يوجب القضاء دون الكفارة ، فثمانية أشياء : الإقدام على الأكل ، والشرب ، أو الجماع ، قبل أن يرصد الفجر ، مع القدرة على مراعاته ، ويكون طالعا ، وترك القبول عن من قال إنّ الفجر طلع ، والإقدام على تناول ما ذكرناه ، ويكون قد طلع ، وتقليد الغير في أنّ الفجر لم يطلع ، مع قدرته على مراعاته ، ويكون قد طلع ، وتقليد الغير في دخول الليل مع القدرة على مراعاته ، والإقدام على الإفطار ، ولم يدخل ، وكذلك الإقدام على الإفطار ، لعارض يعرض في السماء

ص: 374


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر مما يمسك عنه الصائم ، رقم 1 و 2 و 3 و 4 مما لا يوجب القضاء والكفارة.

من ظلمة ، ثم تبين أنّ الليل لم يدخل ، ومعاودة النوم ، بعد انتباهة واحدة ، قبل أن يغتسل من جنابة ، ولم ينتبه حتى يطلع الفجر ، ودخول الماء إلى الحلق لمن يتبرد ، بتناوله ، دون المضمضة للطهارة ، سواء كانت الطهارة للصلاة ، أو لما يستحب فعلها ، من الكون عليها ، وغير ذلك.

وقال شيخنا : دون المضمضة للصلاة ، ذكره في هذا المختصر أعني جمله وعقوده (1).

وقال في نهايته : ومن تمضمض للتبرد ، دون الطهارة (2) وهو الصحيح.

والحقنة بالمائعات ، هذه الأحكام في الصوم الذي يتعيّن صومه ، مثل صوم شهر رمضان ، والنذر المعيّن.

وقال السيد المرتضى رضي اللّه عنه ، من تعمد الأكل والشرب ، أو استنزال الماء الدافق ، بجماع أو غيره ، أو غيّب فرجه في فرج حيوان محرّم ، أو محلّل له ، أفطر ، وكان عليه القضاء والكفارة ، قال : وقد ألحق قوم من أصحابنا بما ذكرناه ، في وجوب القضاء والكفارة ، اعتماد الكذب ، على اللّه تعالى ، وعلى رسوله صلى اللّه عليه وآله وعلى الأئمة عليهم السلام ، والارتماس في الماء ، والحقنة ، والتعمد للقي ء ، والسعوط ، وبلع ما لا يؤكل ، كالحصى وغيره قال : وقال قوم : إنّ ذلك ينقض الصوم ، وإن لم يبطله ، قال : وهو الأشبه وقالوا في تعمد الحقنة ، وما يتيقّن وصوله إلى الجوف ، من السعوط ، وفي اعتماد القي ء ، وبلع الحصى ، أنّه يوجب القضاء من غير كفارة ، وقد روي أنّ من أجنب في ليل شهر رمضان وتعمد البقاء إلى الصباح ، من غير اغتسال ، كان عليه القضاء والكفارة (3) وروي أن عليه القضاء دون الكفارة (4) ، ولا خلاف أنّه لا شي ء

ص: 375


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم ، رقم 7 مما يوجب القضاء دون الكفارة
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب ما على الصائم اجتنابه.
3- الوسائل : الباب 16 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
4- الوسائل : كتاب الصيام الباب 15 ، ح 4 ، وباب 16 ، ح 1 ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

عليه ، إذا لم يتعمد ذلك ، وغلبه النوم إلى أن يصبح ، ومن ظن أن الشمس قد غربت ، فأفطر ، وظهر فيما بعد ، طلوعها ، فعليه القضاء خاصّة ، ومن تمضمض للطهارة ، فوصل الماء إلى جوفه ، فلا شي ء عليه ، وإن فعل ذلك متبردا ، كان عليه القضاء خاصّة ، هذا آخر قول السيد المرتضى رضي اللّه عنه أوردته على وجهه.

والذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، واعتقد صحته ، ما ذهب إليه المرتضى ، إلا ما استثناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن علق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وشيخنا أبو جعفر ، رجع عما ذهب إليه في الارتماس ، وقال في الاستبصار ، قال : لأنّه لا يمتنع أن يكون الفعل محظورا ، لا يجوز ارتكابه ، وإن لم يوجب القضاء والكفارة ، ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء والكفارة ، أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء (1) هذا قول الشيخ أبي جعفر في الاستبصار ، وقال في مبسوطة ، في وجوب القضاء والكفارة ، والارتماس في الماء على أظهر الروايات (2) وفي أصحابنا من قال إنّه لا يفطر.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ينبغي للعاقل أن يتعجب من اختلاف قوليه ، اللذين ذكرهما في كتابيه ، الاستبصار والمبسوط ، فإنّه قال في استبصاره : ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء ، والكفارة ، أو إيجاب أحدهما ، ثم قال في مبسوطة : يجب القضاء ، والكفارة ، على أظهر الروايات ، فإذا لم يعرف حديثا بهما ، أي روايات تبقى ، حتى تكون ظاهرة ، وهذا فيه مع الفكر ، والإنصاف ، وترك التقليد ، وحسن الرأي بالرجال ، ما فيه ، واللّه المستعان ، والمعصوم من عصمه اللّه تعالى ، فإذا لم يجد حديثا ، ولا ورد به خبر ، والإجماع من الفرقة غير حاصل ، بل هي مسألة خلاف بينهم ، فما بقي لوجوب الكفارة

ص: 376


1- الإستبصار : باب 42 حكم الارتماس في الماء.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم.

والقضاء دليل ، يعتمد عليه ، ولا شي ء يستند إليه ، بل بقي الأصل براءة الذمة ، من أن يعلق عليها شي ء ، إلا بدليل شرعي ، ولا دليل شرعي على ذلك ، لأنّ ما تعرف به المسألة (1) الشرعية ، أربع طرق ، امّا كتاب اللّه تعالى ، أو السنّة المتواترة ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدنا الثلاث ، بقي الرابع ، وهو دليل العقل.

وأمّا الكذب على اللّه سبحانه ، وعلى رسوله ، والأئمة عليهم السلام ، متعمدا ، فقد قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وفي أصحابنا من قال ، إن ذلك لا يفطر ، وانّما ينقص (2) وقال في مبسوطة : والارتماس في الماء ، على أظهر الروايات ، وفي أصحابنا من قال انه لا يفطر مع ما قال في استبصاره ، من أنّه ما وجدت به حديثا ، وفي هذا تناقض ظاهر ، وقول غير واضح.

فأمّا غبار النفض ، فالذي يقوى في نفسي ، أنّه يوجب القضاء ، دون الكفارة ، إذا تعمّد الكون ، في تلك البقعة ، من غير ضرورة ، فأمّا إذا كان مضطرا إلى الكون في تلك البقعة ، وتحفظ ، واحتاط في التحفظ ، فلا شي ء عليه ، من قضاء وغيره ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة ، وبين أصحابنا في ذلك خلاف ، والقضاء مجمع عليه.

فأمّا المقام على الجنابة متعمدا ، حتى يطلع الفجر ، فالأقوى عندي ، وجوب القضاء والكفارة ، للإجماع على ذلك من الفرقة ، ولا يعتد بالشاذّ الذي يخالف في ذلك.

وكذلك يقوى في نفسي القضاء والكفارة ، على من ازدرد شيئا ، يقصد به إفساد الصوم ، سواء كان مطعوما معتادا ، مثل الخبز واللحم ، أولا يكون معتادا ، مثل التراب ، والحجر والفحم (3) ، والحصى ، والخرف ، والبرد ، وغير ذلك ، لأنّه إجماع من الفرقة.

ومن ظن أنّ الشمس قد غابت ، لعارض يعرض في السماء ، من ظلمة أو قتام ، ولم يغلب على ظنه ذلك ، ثم تبين الشمس بعد ذلك ، فالواجب عليه القضاء ، دون الكفارة ، فإن كان مع ظنه ، غلبة قوية ، فلا شي ء عليه ، من

ص: 377


1- في وج : المسائل
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم
3- ج : والحجر والحصى.

قضاء ولا كفارة ، لأنّ ذلك فرضه ، لأنّ الدليل قد فقده ، فصار تكليفه في عبادته غلبة ظنه ، فإن أفطر لا عن امارة ، ولا ظن ، فيجب عليه القضاء والكفارة.

ومن تمضمض للتبرد ، فوصل الماء إلى جوفه ، فعليه القضاء ، دون الكفارة للإجماع على ذلك.

والحقنة بالمائعات ، فقد اختلف في ذلك ، من أصحابنا من يوجب القضاء فحسب ، ومنهم من لا يوجبه ، وهو الذي أراه ، وافتي به ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والإجماع فغير حاصل عليه ، وكذلك تعمد القي ء ، والسعوط ، وتقطير الدهن في الاذن ، ومن طعن بطنه ، فوصل السنان إلى جوفه.

والكفارة اللازمة ، عتق رقبة مؤمنة ، وبعض أصحابنا لا يعتبر الإيمان في الرقبة ، إلا في قتل الخطأ ، فحسب ، والصحيح من المذهب ، اعتبار الإيمان ، في الرقاب في جميع الكفارات.

فإن قيل : فما قيد بالإيمان ، إلّا في كفّارة قتل الخطأ ، قلنا : فقد قال اللّه سبحانه : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (1) والعتق من جملة الإنفاق ، والكافر خبيث بغير خلاف ، فقد نهانا عن إنفاقه الذي هو إعتاقه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه شرعا ، بغير خلاف بيننا ، وهذا مذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه وغيره من أصحابنا.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه لا يعتبر الإيمان ، إلا في كفارة قتل الخطأ ، وما قدّمناه ، واخترناه أظهر ، وأبرأ للذمم ، وفيه الاحتياط ، لأنّه إذا أعتق مؤمنة ، فبالإجماع قد برئت ذمته مما تعلّق عليها ، ولا إجماع إذا خالف ذلك.

أو إطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مد ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ الأصل براءة الذمة مما زاد على المدّ ، وذهب بعض أصحابنا إلى المدين.

ولا يجزي إخراج القيم ، في الكفارات ، ويجوّز إخراج القيم ، في الزكوات عندنا.

ص: 378


1- البقرة : 267.

ومستحقها ، هو مستحقّ زكاة الأموال.

أو صيام شهرين متتابعين.

واختلف أصحابنا ، منهم من قال : إنّ هذه الكفارة مرتبة ، ومنهم من قال : إنّها مخيّر فيها ، وهو الأقوى والأظهر.

فمن لم يقدر على أحد ما ذكرناه ، فليصم ثمانية عشر يوما ، وذهب بعض أصحابنا ، وهو السيد المرتضى إلى أنّ الثمانية عشر ، متتابعات.

فإن لم يقدر ، تصدق بما وجد ، أو صام ما استطاع.

وأمّا المندوب مما يقع الإمساك عنه ، فإنشاد الشعر ، وما يجزي مجرى ذلك ، مما نبيّنه في مواضعه ، إن شاء اللّه تعالى.

وصوم شهر رمضان ، يلزم صيامه ، لسائر المكلفين ، من الرجال ، والنساء ، والعبيد ، والأحرار ، إلا من لم يطقه ، لمرض ، أو عجز من كبر أو غيره ، والحائض ، والنفساء ، والمسافر سفرا مخصوصا عندنا.

والذين يجب عليهم الصيام ، على ضربين ، منهم من إذا لم يصم متعمدا من غير عذر إباحة ذلك ، وجب عليه القضاء والكفارة ، أو القضاء لصاحب العذر ، ومنهم من لا يجب عليه ذلك ، فالذين يجب عليهم ذلك ، كل من كان ظاهره ، ظاهر الإسلام ، والذين لا يجب عليهم ، هم الكفار ، من سائر أصناف من خالف الإسلام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : فإنه وإن كان الصوم واجبا عليهم ، فإنّما يجب بشرط الإسلام (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إن أراد بقوله ، فإنّما يجب بشرط الإسلام ، الصيام ، فغير واضح ، لأنّ عندنا العبادات أجمع ، واجبة على الكفار ، وإن أراد بقوله فإنّما يجب بشرط الإسلام ، القضاء والكفارة ، فصحيح ، لأنّ القضاء فرض

ص: 379


1- النهاية : كتاب الصيام ، في القسم الأول وهو صوم شهر رمضان.

ثان ، والكفارة ، فقول الرسول عليه السلام : يسقطها (1) الإسلام يجب ما قبله ، والأصل أيضا براءة الذمة ، وشغلها ، يحتاج إلى دليل ، فأمّا الأداء ، فلا يصح منهم ، لشي ء يرجع إليهم ، لأنّه في مقدورهم ، على ما بيّناه فيما أسلفناه.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا أتى بهيمة ، فأمنى ، كان عليه القضاء والكفارة ، فإن أولج ، ولم ينزل ، فليس لأصحابنا فيه نص ، لكن يقتضي المذهب ، أنّ عليه القضاء ، لأنّه لا خلاف فيه ، فأمّا الكفارة ، فلا تلزمه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وليس في وجوبها دلالة (2).

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب رضي اللّه عنه ، لمّا وقفت على كلامه ، كثر تعجبي ، والذي دفع به الكفارة ، به يدفع القضاء ، مع قوله لا نصّ لأصحابنا فيه ، وإذا لم يكن نصّ ، مع قولهم عليهم السلام : اسكتوا عما سكت اللّه عنه (3) فقد كلّفه القضاء بغير دليل ، وأي مذهب لنا يقتضي وجوب القضاء ، بل أصول المذهب ، تقتضي نفيه ، وهي براءة الذمة ، والخبر المجمع عليه.

باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه ووقت فرض الصّوم ووقت الإفطار

علامة الشهور ، رؤية الأهلة ، مع زوال العوارض والموانع ، فمتى رأيت الهلال ، وجب عليك الصوم ، سواء ردّت شهادتك ، أو لم ترد ، شهد معك غيرك ، أو لم يشهد ، فإن خفي عليك ، وشهد عندك ، من قامت الدلالة على صدقه ، وجب أيضا عليك الصوم ، وكذلك إن تواتر الخبر برؤيته ، وشاع ذلك ، وجب أيضا الصوم ، وكذلك إن شهد برؤيته شاهدان عدلان ، وجب

ص: 380


1- ج : يسقطهما.
2- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 42
3- عوالي اللئالي : ج 3 ، ص 166.

عليك الصوم ، سواء كانت السماء مصحية ، أو فيها علة ، أو كانا من خارج البلد ، أو داخله ، وعلى كل حال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) إلى أن قال : فإن كان في السماء علّة ، ولم يره جميع أهل البلد ، ورآه خمسون نفسا ، وجب أيضا الصوم ، ولا يجب الصوم ، إذا رآه واحد ، أو اثنان ، بل يلزم فرضه لمن رآه ، حسب ، وليس على غيره شي ء ، ومتى كان في السماء علّة ولم ير في البلد الهلال أصلا ، ورآه خارج البلد ، شاهدان عدلان ، وجب أيضا الصوم ، وإن لم يكن هناك علّة ، وطلب فلم ير ، لم يجب الصوم ، إلا أن يشهد خمسون نفسا ، من خارج البلد ، أنّهم رأوه.

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : والأول هو الصحيح ، والأظهر بين الطائفة ، والذي تدل عليه أصول المذهب ، لأنّ الأحكام في الشريعة جميعها ، موقوفة على شهادة الشاهدين العدلين ، إلا ما خرج بالدليل ، من حدّ الزنا ، واللواط ، والسحق ، والأيدي تقطع بشهادة الشاهدين ، وتستباح الفروج ، وتعتق الرقاب ، وتقتل الأنفس ، وتستباح الأموال ، وغير ذلك ، ويحكم بالكفر والإيمان ، وهو مذهب سيّدنا المرتضى رضي اللّه عنه ذكره في جمل العلم والعمل (2) ومذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه ذكره في المقنعة (3) وهي رأس تصنيفه في الفقه ، وجميع أصحابنا ، إلا من شذ ، وقلّد كتابا يجده ، أو خبر واحد يعتمده ، وقد بيّنا أنّه لا يجوز العمل ، بأخبار الآحاد ، لأنّها لا تثمر علما ولا عملا ، والعمل بها خلاف مذهب أهل البيت عليهم السلام ، ومذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه أيضا في مسائل خلافه (4) ، وفي جمله

ص: 381


1- النهاية : كتاب الصوم. باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه.
2- جمل العلم والعمل : فصل في حقيقة الصوم وعلامة دخول شهر رمضان وما يتصل بذلك.
3- المقنعة : كتاب الصيام ، باب علامة أول شهر رمضان ص 297.
4- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 61.

وعقوده (1) ، لأنّه قال في الجمل والعقود : وعلامة دخوله ، رؤية الهلال ، أو قيام البينة برؤيته ، فأطلق كلامه ، وقال : البينة ، والإطلاق ، يرجع إلى المعهود الشرعي ، والبينة في الشريعة المعهودة ، هي شهادة الشاهدين ، إلا ما خرج بالدليل ، والكلام يرد ، ويحمل على الشامل العام ، دون النادر الشاذ ، فأمّا قوله في مسائل خلافه ، فمفصل غير مجمل ، قال : مسألة : علامة شهر رمضان ، ووجوب صومه ، أحد شيئين ، إمّا رؤية الهلال ، أو شهادة شاهدين ، ثم قال : دليلنا الأخبار المتواترة ، عن النبيّ وعن الأئمة عليهم السلام ، ذكرناها ، في تهذيب الأحكام ، وبيّناه القول فيما يعارضها ، من شواذ الأخبار ، فجعل عمدة الدليل ، الأخبار المتواترة ، ولم يلتفت إلى أخبار الآحاد ، فدلّ على أنّ الأخبار ، بشهادة الشاهدين متواترة ، وليس هي بشهادة الخمسين كذلك ، وانّما أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما اعتذرنا له من قبل ، لأنّ هذا الكتاب أعني كتاب النهاية ، أورد فيه ألفاظ الأحاديث المتواترة ، والآحاد ، وانّما هي رواية شاذة ، ومن أخبار الآحاد الضعيفة ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن حبيب الجماعي (2) ويونس بن عبد الرحمن ، قد وردت أخبار عن الرضا عليه السلام بذمة ، ومع هذا ، فإنّه واحد ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، عند أصحابنا المحصلين ، والخلاف بين أصحابنا الشاذ منهم ، انّما هو في هلال رمضان ، فأمّا غيره من الشهور ، فلا خلاف بينهم ، في أنّه يثبت بشهادة الشاهدين على كل حال.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : مسألة : لا يقبل

ص: 382


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، ص 215 الطبع الحديث.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 13 في المصدر ( حبيب الخزاعي - الخثعمي - الجماعي ).

في هلال شوال ، إلا شاهدان ، وبه قال جميع الفقهاء ، وقال أبو ثور : يثبت بشاهد واحد ، دليلنا : الإجماع ، فإنّ أبا ثور ، لا يعتدّ به ، ومع ذلك فقد انقرض خلافه ، وسبقه الإجماع ، وأيضا بشهادة الشاهدين ، يجوز الإفطار ، بلا خلاف (1) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر.

وذكر في مسائل الخلاف ، مسألة ، لا توافق ما ذكره في نهايته ، ولا توافق مذهب أصحابنا ، ولا المسألة التي حكيناها عنه ، قبل هذا ، من أنّ علامة شهر رمضان ، ووجوب صومه ، أحد شيئين ، إمّا رؤية الهلال ، أو شهادة شاهدين ، فقال : مسألة : لا يقبل في رؤية هلال رمضان ، إلا شهادة شاهدين ، فأمّا الواحد فلا يقبل فيه ، هذا مع الغيم ، فأمّا مع الصحو ، فلا يقبل إلا خمسين (2) قسامة ، أو اثنان من خارج البلد (3) فقبل الشاهدين ، وعمل بشهادتهما ، مع الغيم ، ومع الصحو أيضا ، عمل بشهادتهما ، إذا كانا من خارج البلد ، فأمّا إذا كانا من داخل البلد ، مع الصحو ، فلا يقبل إلا شهادة الخمسين قسامة ، وفي نهايته مع الصحو ، لا تقبل إلا شهادة الخمسين ، سواء كانوا من خارج البلد ، أو داخله ، ومع الغيم ، إذا كانوا من داخل البلد أيضا ، لا تقبل إلا شهادة الخمسين. فأما من خارجه مع الغيم ، فتقبل شهادة الشاهدين ، وهذا يدل على اضطراب الفتوى والقول عنده رحمه اللّه في المسألة ، وفي اختلاف أقواله ، فيها ما فيه ، فلينصف من يقف على قولي هذا ، ويطرح التقليد جانبا ، وذكر القديم والمتقدّم. ثم قال رضي اللّه عنه في دليل المسألة ، دليلنا : إجماع الفرقة ، والأخبار التي ذكرناها في الكتابين المقدّم ذكرهما ، وأيضا فلا خلاف انّ شاهدين يقبلان ، فدل رحمه اللّه بإجماع الفرقة ، وأراد على الشاهدين ، لا على الخمسين ،

ص: 383


1- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 12
2- ج : بشهادة قسامة.
3- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 11 وفي المصدر ( الا خمسون قسامة ).

بدلالة قوله : وأيضا فلا خلاف انّ شاهدين يقبلان ، وأيضا فكتابه كتاب الاستبصار ، عمله لما اختلف فيه من الأخبار ، بحيث يتوسط ويلائم بين الأخبار ، وما أورد فيه أخبار الخمسين ، ولا ذكرها رأسا ، بل أورد أخبار الشاهدين ، وقوّاها ، واعتمد عليها ، وردّ على من خالفها ، من العدد ، والحساب والجدول ، وغير ذلك ، فدلّ على أنّه رحمه اللّه غير قائل بالخمسين.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فإن فقد المكلّف للصيام ، جميع الدلائل ، التي قدّمناها ، عدّ من الشهر الماضي ثلاثين يوما ، وصام بعد ذلك بنية الفرض ، فإن ثبت بعد ذلك ببينة عادلة ، أنّه كان قد رئي الهلال قبله ، بيوم قضيت يوما بدله.

والأفضل ، أن يصوم الإنسان ، يوم الشك على أنّه من شعبان ، فإن قامت له البينة بعد ذلك ، أنّه كان من رمضان ، فقد وفق له ، وأجزأ عنه ، ولم يكن عليه قضاء ، وإن لم يصمه ، فليس عليه شي ء ، ولا يجوز له أن يصوم ذلك اليوم ، على أنّه من شهر رمضان ، ولا أن يصومه ، وهو شاك فيه ، لا ينوى به صيام يوم غير رمضان ، فإن صام على هذا الوجه ، ثم انكشف له أنّه كان من شهر رمضان ، لم يجز عنه ، وكان عليه القضاء ، لأنّه منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

والنية واجبة في الصيام ، على ما قدّمنا القول فيه ، وأسلفناه ، وشرحناه ، ويكفي في نية صيام الشهر كلّه ، أن ينوي في أول الشهر ، ويعزم على أن يصوم الشهر كلّه ، فإن جدد النية كل يوم ، على الاستئناف ، كان أفضل.

وإن نسي أن يعزم على الصوم في أول الشهر ، وذكر قبل الزوال ، جدد النية ، وقد أجزأه ، وإن كان الذكر بعد الزوال ، فإنّه يجب عليه قضاء ذلك اليوم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : وذكر في بعض النهار ، جدد النية ، وقد أجزأه (1) وهذا غير واضح ، لأنّ بعد الزوال ، بعض النهار ، فلا بدّ

ص: 384


1- النهاية : كتاب الصيام ، باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه.

من تقييد البعض ، ولا يجوز إطلاقه ، من غير تقييد.

ومن كان في موضع ، لا طريق له إلى العلم بالشهر ، فتوخى شهرا فصامه ، فوافق ذلك شهر رمضان ، أو كان بعده ، فقد أجزأه عن الفرض ، وإن انكشف له أنّه كان قد صام قبل شهر رمضان ، وجب عليه استئناف الصوم ، وقضاؤه.

والوقت الذي يجب فيه الإمساك ، عن المفطرات ، من الأكل ، والشرب ، هو طلوع الفجر المعترض ، الذي يجب عنده الصلاة ، وقد بيّناه في كتاب الصلاة وأوضحناه ، ومحلل الأكل والشرب ، إلى ذلك الوقت ، فأمّا الجماع ، فإنّه محلل إلى قبل ذلك ، بمقدار ما يتمكن الإنسان من الاغتسال ، فان غلب على ظنه ، وخشي أن يلحقه الفجر ، قبل الغسل ، لم يحل له ذلك ، فإن غلب على ظنه خلاف ذلك ، ثم واقع أهله ، وطلع الفجر ، وهو مخالط لأهله ، فالواجب عليه النزوع ، فإن تحرك حركة تعينه على الدخول والجماع ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة.

ووقت الإفطار ، سقوط القرص ، وعلامته ما قدّمناه ، من زوال الشفق ، الذي هو الحمرة ، من ناحية المشرق ، وهو الوقت الذي ، يجب فيه الصلاة ، والأفضل أن لا يفطر الإنسان ، إلا بعد صلاة المغرب ، فإن لم يستطع الصبر على ذلك ، صلّى الفرض ، وأفطر ، ثم عاد ، فيصلّي نوافله ، فإن لم يمكنه ذلك ، أو كان عنده من يحتاج إلى الإفطار معه ، قدّم الإفطار ، إذا كان في أول الوقت ، فإنّه أفضل ، والحال ما وصفناه ، فإن خاف فوات الفريضة ، فالواجب عليه الإتيان بالصلاة ، لا يجوز له غيره.

باب ما يجب على الصّائم اجتنابه مما يفسد الصّيام وما لا يفسده والفرق بين ما يلزم بفعله القضاء والكفارة وبين ما يلزم منه القضاء دون الكفارة

قد ذكرنا طرفا من ذلك ، وجملة مقنعة ، في باب حقيقة الصوم ، وقسمنا

ص: 385

أقساما ، وذكرنا اختلاف أصحابنا ، فيما يوجب القضاء والكفارة ، وما يوجب القضاء دون الكفارة ، ودللنا على الصحيح من ذلك ، وبيّناه ، وأوضحناه ، ونحن الآن ذاكرون ما جانس ذلك ، ممّا لم نذكره هناك ، على الاستيفاء والبيان.

متى وطأ الإنسان زوجته نهارا في شهر رمضان ، كان عليهما القضاء والكفارة ، إن كانت طاوعته على ذلك ، وإن كان أكرهها ، لم يكن عليها شي ء ، وكان عليه كفارتان ، وقضاء واحد عن نفسه فحسب ، لأنّ صومها صحيح ، فإن كانت أمته ، والحال ما وصفناه ، فلا يلزمه غير كفّارة واحدة ، وحملها على الزوجة قياس ، لا نقول به في الأحكام الشرعيات ، وكذلك إن كانت مزنى بها (1) ، وجميع ما قدّمناه في ذلك الباب ، متى فعله الإنسان ناسيا ، أو ساهيا ، أو جاهلا ، غير عالم بالحكم ، لم يكن عليه شي ء.

ومتى فعله متعمدا ، وجب عليه ما قدّمناه ، وكان على الإمام أن يعزره ، بحسب ما يراه.

فإن تعمّد الإفطار ، ثلاث مرّات ، يرفع فيها إلى الإمام ، فإن كان عالما بتحريم ذلك عليه ، قتله في الثالثة ، وإن لم يكن عالما ، لم يكن عليه شي ء.

ويكره للصائم ، الكحل ، إذا كان فيه مسك ، أو شي ء من الصبر ، فإن لم يكن فيه ذلك ، لم يكن به بأس.

ولا بأس أن يحتجم ، ويفتصد ، إذا احتاج إلى ذلك ، ما لم يخف الضعف ، فإن خاف ذلك كره له فعله ، إلا عند الضرورة الداعية إليه.

ويكره له تقطير الدهن في اذنه ، إلا عند الحاجة إليه.

ويكره له أن يبل الثوب على جسده ، ولا بأس أن يستنقع في الماء إلى عنقه ، ولا يرتمس فيه ، فإنّه محظور ، لا يجوز حسب ما قدّمناه ، ولا يمتنع أن يكون

ص: 386


1- ج : ان كان يزني بها.

الفعل محظورا ، وإن لم يجب فيه القضاء والكفارة.

ويكره الاستنقاع في الماء للنساء ، على الصحيح من الأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا قد ذهب إلى حظره ، ولزوم الكفارة والقضاء ، وهو ابن البراج (1) ، والأظهر ما قدّمناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، ولا دليل من إجماع وغيره على ذلك.

ويكره للصائم السعوط ، وكذلك الحقنة بالجامدات ، ولا يجوز له الاحتقان بالمائعات ، فإن فعل ذلك ، كان مخطئا مأثوما ، ولا يجب عليه القضاء ، وهو مذهب المرتضى وشيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنهما في الاستبصار (2) وفي نهايته (3) ، وهو الصحيح ، وإن كان قد ذهب إلى وجوب القضاء ، في الجمل والعقود (4).

ولا يجوز له أن يتقيأ متعمدا ، فإن فعل ذلك ، كان مخطئا ، ولا يجب عليه القضاء ، على الصحيح من المذهب ، وهو قول السيد المرتضى ، وغيره من أصحابنا ، وإن كان قد ذهب إلى وجوب القضاء قوم منهم ، من جملتهم ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وانّما اخترنا ما ذكرناه ، لأنّ الإجماع غير حاصل في المسألة ، فما بقي معنا إلا دليل الأصل ، وهو براءة الذمة.

فإن ذرعه القي ء ، بالذال المعجمة ، لم يكن عليه شي ء ، وليبصق بما يحصل في فيه ، فإن بلعه متعمدا بعد خروجه من حلقه ، قاصدا إفساد صومه وأكله ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة ، لأنّه قد أكل ، أو ازدرد متعمدا في نهار صيامه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : عليه القضاء (5) ولم يذكر الكفارة ، وليس هذا دليلا على أنّه لا يوجبها عليه ، لأنّ تركه لذكرها ، لا يدل

ص: 387


1- المهذب لابن البراج : ج 1 ، ص 192 ، باب ما يفسد الصوم ويوجب القضاء ، الطبع الحديث.
2- الاستبصار : باب 41 من أبواب كتاب الصيام.
3- النهاية : كتاب الصيام ، باب ما على الصائم اجتنابه.
4- الجمل والعقود : كتاب الصيام رقم 8 مما يوجب القضاء دون الكفارة ، ص 213.
5- النهاية : كتاب الصيام ، باب ما على الصائم اجتنابه.

على أنّه غير قائل بأنّها واجبة عليه.

وقال ابن بابويه في رسالته : لا ينقض الرعاف ، ولا القلس ، ولا القي ء ، إلا أن يتقيأ متعمدا (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : القلس بفتح القاف واللام والسين غير المعجمة ، ما خرج من الحلق ، ملأ الفم ، أو دونه ، وليس بقي ء ، فإن عاد ، فهو القي ء ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح عن الخليل ، وقال اليزيدي : القلس ، خروج الطعام أو الشراب إلى الفم من البطن ، أعاده صاحبه أو ألقاه ، وهذا أقوى ممّا قال الجوهري. وقال ابن فارس في المجمل : القلس القي ء قلس إذا قاء ، فهو قالس ، والقلس بفتح القاف ، وسكون اللام ، مصدر قلس قلسا ، إذا قاء قال ابن دريد ، القلس من الحبال ، ما أدري ما صحته. وقال الجوهري : القلس حبل عظيم ، من ليف ، أو خوص ، من قلوس السفن ، فهذا جملة ما قيل ، في القاف واللام والسين.

ويكره له دخول الحمام ، إذا خاف الضعف ، فإن لم يخف ، فليس بمكروه.

ولا بأس بالسواك ، بكسر السين ، للصائم ، بالرطب منه ، واليابس ، فإن كان يابسا فلا بأس أن يبله أيضا بالماء ، وليحفظ نفسه من ابتلاع ما يحصل في فيه ، من رطوبته.

ويكره له شم النرجس ، وغيره من الرياحين ، وليس كراهية شم النرجس ، مثل الرياحين ، بل هي آكد.

ولا بأس أن يدهن ، بالأدهان الطيّبة ، وغير الطيّبة.

ويكره له شم المسك ، وما يجري مجراه.

ولا بأس بالكحل ما لم يكن ممسّكا أو يكون حادا مثل الذرور ، أو فيه شي ء من الصبر ، بكسر الباء ، وقال ابن بابويه في رسالته : ولا بأس بالكحل ما

ص: 388


1- لم نتحققه في رسالة ابن بابويه.

لم يكن ممسّكا ، وقد روي (1) فيه رخصة ، لأنّه يخرج على عكدة لسانه.

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : العكدة ، بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والكاف المفتوحة ، والدال غير المعجمة المفتوحة وهي أصل اللسان والعكرة بالراء أيضا ، ففي بعض النسخ العكدة بالدال ، وفي بعضها بالراء ، وكلاهما صحيحان.

ويكره للصائم أيضا القبلة ، وكذلك مباشرة النساء ، وملاعبتهن ، فإن باشرهن بما دون الجماع ، أو لاعبهن بشهوة ، فأمذى ، لم يكن عليه شي ء ، فإن أمنى ، كان عليه ما على المجامع ، فإن أمنى من غير ملامسة ، بل لسماع كلام ، أو نظر ، لم يكن عليه شي ء ، ولا يعود إلى ذلك ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه إن نظر إلى من يحرم عليه النظر إليه فأمنى ، كان عليه القضاء دون الكفارة ، والصحيح أنّه لا قضاء عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة.

ولا بأس بالصائم ، أن يزق الطائر ، والطبّاخ ، أن يذوق المرق ، والمرأة أن تمضغ الطعام للصبي ، ولا تبلع شيئا من ذلك.

ولا ينبغي للصائم ، مضغ العلك ، وكلّ ما له طعام ، وقال بعض أصحابنا : عليه القضاء ، والأظهر أن لا قضاء عليه ، ولا بأس أن يمص ما ليس له طعم ، مثل الخرز والخاتم ، وما أشبه ذلك.

قال الشيخ أبو جعفر في مسائل خلافه (2) : مسألة : من جامع في نهار رمضان ، متعمدا من غير عذر ، وجب عليه القضاء والكفارة ، ثم قال : دليلنا : إجماع الفرقة ، ثم استشهد بأخبار ، من جملتها ما رواه أبو هريرة قال : أتى رجل النبي صلى اللّه عليه وآله فقال : هلكت ، فقال : ما شأنك؟ قال : وقعت على

ص: 389


1- مستدرك الوسائل : الباب 16 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 2.
2- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 25.

امرأتي في رمضان ، فقال : تجد ما تعتق رقبة؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال : لا ، قال : اجلس ، فأتى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بعرق فيه تمر ، فقال : تصدّق به (1).

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : العرق بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والراء غير المعجمة المفتوحة ، والقاف ، الزنبيل قد ذكره الهروي في غريب الحديث ، وأهل اللغة في باب العين والراء والقاف ، وسمعت بعض أصحابنا ، صحّف الكلمة ، فقال : العذق بالذال المعجمة ، فالعذق بكسر العين ، والذال المسكنة ، الكباسة ، وهي العرجون ، بما عليه من (2) الشماريخ وبفتح العين ، النخلة نفسها ، فليلحظ ذلك ، فالغرض التنبيه لئلا تصحف الكلمة.

باب حكم المسافر والمريض والعاجز عن الصّيام وغير ذلك

شروط السفر الذي يوجب الإفطار ، ولا يجوز معه صوم شهر رمضان ، في المسافة والصفة ، وغير ذلك ، هي الشروط التي ذكرناها في كتاب الصلاة ، الموجبة لقصرها ، فإن تكلّف المسافر الصوم ، مع العلم بسقوطه عنه ، حرج وأثم ، ووجب عليه القضاء ، على كل حال ، وإن لم يكن عالما به ، كان صومه ماضيا.

ويكره للإنسان السفر في شهر رمضان ، إلا عند الضرورة الداعية له إلى ذلك ، من حج ، أو عمرة ، أو الخوف من تلف مال ، أو هلاك أخ ، أو ما يجزى مجراه ، أو زيارة بعض المشاهد المقدسة ، فإذا مضى ثلاثة وعشرون يوما من الشهر ، جاز له الخروج الى حيث شاء ، ولم يكن سفره مكروها.

ص: 390


1- الخلاف دليل مسألة 25 ، وبمضمونه ح 2 باب 8 من أبواب ما يمسك عنه الصائم في الوسائل.
2- ج : فيه.

ومتى كان سفره أربعة فراسخ ، ولم يرد الرجوع فيه من يومه ، لم يجز له الإفطار ، ويجب عليه الصيام ، وكذا يجب عليه إتمام الصلاة ، وقد وردت رواية شاذة ، بأنّه يكون مخيرا بين إتمام الصلاة ، وبين قصرها (1) وهو الذي أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في نهايته (2) ، وذهب شيخنا المفيد ، إلى التخيير في الصلاة والصيام ، والأول هو المعتمد ، وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الصلاة.

وإذا خرج الإنسان إلى السفر ، بعد طلوع الفجر ، أي وقت كان من النهار ، وكان قد بيّت نيته من الليل للسفر ، وجب عليه الإفطار ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن لم يكن قد بيّت نيّته من الليل للسفر ، ثم خرج بعد طلوع الفجر ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه يجب عليه إتمام ذلك اليوم ، وليس عليه قضاؤه ، فإن أفطر فيه ، وجب عليه القضاء والكفارة ، ويستدل بقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3).

والذي يقال في ذلك ، أنّ هذا خطاب لمن يجب عليه الصيام ، ومكلّف به في جميع يومه ، ويخرج المسافر من تلك الآية ، قوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (4) وأيضا فالحائض في وسط النهار ، يجب عليها أن تعتقد أنّها مفطرة ، بغير خلاف ، وخرجت من الآية ، وما وجب عليها الإتمام ، وكذلك من بيّت نيته للسفر من الليل ، هو قبل خروجه من منزله وقبل أن يغيب عنه أذان مصره ، مخاطب بالصيام ، مكلّف به ، لا يجوز له الإفطار ، فإذا توارى عنه الأذان ، يجب عليه الإفطار ، وما وجب عليه التمام للصيام الذي كان واجبا عليه الإمساك والصيام قبل خروجه ، وبالإجماع يجب عليه الإفطار ، ولم يجب عليه الإتمام فقد خرج من عموم الآية المستدل بها ،

ص: 391


1- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب صلاة المسافر ، ح 2.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر وأشار إليه في كتاب الصوم في باب حكم المسافر في شهر رمضان
3- البقرة : 187
4- البقرة : 184.

وخصّص ، فإذا ساغ له التخصيص ساغ لخصمه ذلك وبطل استدلاله بالعموم ، لأنّه المستدلّ به وما سلم له ، وكلّ من استدل بعموم ، ولم يسلم له ، وخصّصه ، ساغ لخصمه تخصيصه ، لأنّه ما هو أولى بالتخصيص من خصمه ويبطل استدلاله بالعموم.

وذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه إلى أنّه متى خرج إلى السفر قبل الزوال ، فإنّه يجب عليه الإفطار ، فإن صامه ، لا يجزيه صيامه ، ووجب عليه القضاء ، وإلى هذا القول أذهب ، وبه افتي ، لأنّه موافق لظاهر التنزيل ، والمتواتر من الأخبار.

وقال ابن بابويه في رسالته : يجب عليه الإفطار ، وإن خرج بعد العصر والزوال ، وهذا القول عندي أوضح من جميع ما قدّمته من الأقوال ، لأنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، وليس على المسألة ولا قول بها (1) إجماع منعقد ، ولا أخبار مفصّلة متواترة بالتفصيل والتخصيص ، وإذا كان كذلك ، فالتمسّك بالقرآن أولى ، لأنّ هذا مسافر ، بلا خلاف ، ومخاطب بخطاب المسافرين ، من تقصير صلاة وغير ذلك.

وإذا خرج الرجل والمكلّف بالصيام إلى السفر ، فلا يتناول شيئا من الطعام أو الشراب ، أو غير ذلك من المفطرات إلى أن يغيب عنه أذان مصره ، وقد روي ، أو يتوارى عنه جدران بلده (2) والاعتماد على الأذان المتوسط.

ويكره له أن يتملّى من الطعام ، ويروي من الشراب ، ويزيد الكراهة ، وتتأكد في قرب الجماع ، إلا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : ولا يجوز له أن يقرب الجماع ، وهذا اللفظ الذي هو لا يجوز يحتمل تغليظ الكراهة ، ويحتمل الحظر ، ولا دليل على الحظر ، لأنّه غير مكلّف بالصيام ، وهو داخل في قوله تعالى : ( نِساؤُكُمْ

ص: 392


1- في ط وج : والأقوال فيها.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر ، ح 1 و 9 و 10

حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) (1) وغير ذلك من الآيات المقتضية للإباحة ، والشي ء إذا كان عندهم شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، وهذا شي ء يعرف بالقرائن والضمائم.

ويكره صيام النوافل في السفر على كل حال ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) واستبصاره (3) ، ومذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه فإنّه ذكر في مقنعته فقال : ولا يجوز لأحد أن يصوم في السفر تطوعا ، ثم قال : وقد روي حديث في جواز التطوع في السفر بالصيام (4) ، وجاءت أخبار بكراهية ذلك ، وأنّه (5) ليس من البر الصيام في السفر (6) وهي أكثر ، وعليها العمل ، عند فقهاء العصابة ، فمن عمل على أكثر الروايات ، واعتمد على المشهور منها ، في اجتناب الصيام في السفر ، على كلّ وجه ، كان أولى بالحق ، واللّه الموفق للصواب (7) هذا آخر كلام المفيد.

وهذا القول هو الحقّ والصواب ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، من الواجب والمندوب ، فمن ادّعى تكليفا مندوبا أو واجبا ، فإنّه يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، وإلا فالأصل عدم التكليف ، وهو أيضا مذهب جلّة المشيخة الفقهاء من أصحابنا المحصّلين ، فإذا كان دليل الإجماع على المسألة مفقودا ، لأنّهم مختلفون فيها ، بقي أنّ الأصل براءة الذمة من التكليف ، فمن شغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دليل.

وصيام الثلاثة الأيام في الحج واجب في السفر ، كما قال اللّه تعالى ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ ) (8) وقد وردت الرغبة في صيام ثلاثة أيام ، بالمدينة لصلاة

ص: 393


1- البقرة : 223
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان وصيام النذور.
3- الاستبصار : كتاب الصوم ، باب 53 صوم التطوع في السفر ، ذيل ح 4
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 7 و 8 ،
5- في ج : منها انّه.
6- الوسائل : الباب 12 من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 7 و 8 ،
7- المقنعة : كتاب الصوم ، باب حكم المسافرين في الصيام ص 350
8- البقرة : 196.

الحاجة (1).

ومن كان عليه صيام فريضة أو قضاء شهر رمضان ، أو كفارة ظهار ، أو كفارة قتل الخطأ ، أو غير ذلك ، من وجوه الصيام المفروضة ، لم يجز له أن يصومه في السفر ، فإن فعل في السفر شيئا يلزمه به الصيام ، انتظر قدومه إلى بلده ، ولا يصوم في السفر ، فإن نوى مقام عشرة أيام فصاعدا ، في بلد غير بلده ، جاز له حينئذ الصيام.

وأمّا صيام النذر ، فإن كان الناذر قد نذر أن يصوم أياما بأعيانها ، أو يوما بعينه ، ووافق ذلك اليوم أو الأيام أن يكون مسافرا ، وجب عليه الإفطار ، وكان عليه القضاء ، وكذلك إن اتفق أن يكون ذلك اليوم ، يوم عيد ، وجب عليه الإفطار ، ولا قضاء عليه ، على الصحيح الأقوال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى وجوب القضاء في نهايته (2) ، ورجع عنه في مبسوطة (3) ، لأنّ القضاء عما انعقد عليه النذر ، ويوم العيد ، لا يجوز نذره ، ولا ينعقد ، وهو مستثنى من الأيام ، وإلى ما اخترناه ذهب ابن البراج ، وغيره من أصحابنا ، وما أورده شيخنا في نهايته ، خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وقد بيّنا انّ أخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها في الشريعة ، عند أهل البيت عليهم السلام ، وانّما أورده إيرادا لا اعتقادا ، على ما ذكرناه من الاعتذار.

وإن كان الناذر نذر أن يصوم ذلك اليوم ، أو الأيام على كل حال ، مسافرا كان أو حاضرا ، فإنّه يجب عليه الصيام في حال السفر.

ويجوز صيام الاعتكاف في حال السفر ، وكذلك صيام الثمانية عشر يوما ، لمن أفاض من عرفات قبل غروب الشمس عامدا ، ولم يجد الجزور.

ص: 394


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 1.
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان وصيام النذور.
3- المبسوط : كتاب الصوم : فصل في ذكر أقسام الصوم.

والمريض الذي لا يقدر على الصيام ، أو يضرّ به ، يجب عليه الإفطار ، ولا يجزي عنه إن صامه ، بعد تقدّم علمه بوجوب الإفطار ، فإن لم يتقدم له العلم بذلك ، ولا عرف الحكم فيه ، وصام ، فانّ صيامه صحيح ، ولا يجب عليه القضاء.

فإن أفطر في أول النهار ، ثم صحّ فيما بقي منه ، أمسك تأديبا ، وكان عليه القضاء.

فإن لم يصح المريض ، ومات من مرضه الذي أفطر فيه ، يستحب لولده الأكبر من الذكور ، أن يقضي عنه ، ما فاته من الصيام ، وليس ذلك بواجب عليه.

فإن برئ من مرضه ذلك ، ولم يقض ما فاته ، ثم مات ، وجب على وليه أن يقضي عنه ، وكذلك إن كان قد فاته شي ء من الصيام في السفر ، ثم مات قبل أن يقضي ، وكان متمكنا من القضاء ، وجب على وليه أن يصوم عنه.

فإن فات المريض صوم شهر رمضان ، واستمر به المرض إلى رمضان آخر ، ولم يصح فيما بينهما ، صام الحاضر وقضى الأوّل.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه يتصدّق عن الأوّل عن كل يوم ، بمدين من طعام ، فإن لم يمكنه فبمد منه ، فإن لم يتمكن ، لم يكن عليه شي ء ، وليس عليه قضاء.

والأوّل يعضده ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (1) فأوجب على المريض القضاء ، فمن أسقطه يحتاج إلى دليل ، ولا إجماع معنا في المسألة ، والقائل بما ذهب إليه شيخنا قليل ، فبقي ظاهر التنزيل ، فلا يجوز العدول عنه بغير دليل ، وانما قد ورد به أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا.

وذهب ابن بابويه في رسالته ، إلى أنّ الرجل إذا مرض ، وفاته صوم شهر

ص: 395


1- البقرة : 184.

رمضان كلّه ، ولم يصمه إلى أن يدخل عليه شهر رمضان قابل ، فعليه أن يصوم الذي دخل ، ويتصدق عن الأول كل يوم بمد من طعام ، وليس عليه القضاء ، إلا أن يكون صح فيما بين شهري رمضان ، فإن كان كذلك ، ولم يصح ، فعليه أن يتصدق عن الأول لكل يوم ، بمد من طعام ، ويصوم الثاني ، فإذا صام الثاني ، قضى الأول بعده ، فإن فاته شهرا رمضان ، حتى دخل الشهر الثالث. من مرض ، فعليه أن يصوم الذي دخل ، ويتصدّق عن الأول ، لكل يوم بمد من طعام ، ويقضي الثاني ، هذا آخر كلامه ، ألا تراه ، قد أوجب قضاء الثاني مع استمرار المرض.

وبالجملة ، انّ المسألة فيها خلاف ، وليس على ترك القضاء إجماع منعقد ، فإن صح فيما بين الرمضانين ، ولم يقض ما عليه ، وكان في عزمه القضاء ، قبل رمضان الثاني ، ثم مرض ، صام الثاني ، وقضى الأول ، وليس عليه كفارة ، وإن أخّر قضاءه بعد الصحة توانيا ، وجب عليه أن يصوم الثاني ، ويتصدق عن الأول ، ويقضيه أيضا بعد ذلك ، وحكم ما زاد على رمضانين حكم رمضانين على السواء ، وكذلك لا يختلف الحكم ، في أن الذي فاته الشهر كله ، أو بعضه ، بل الحكم فيه سواء ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) ، وجمله وعقوده (2) ، إلا أنّه لم يذكر في مسألة من كان في عزمه القضاء ، قبل رمضان الثاني ثم مرض فرقا.

قال محمّد بن إدريس : وجه الفتوى في التواني ، والعزم على ما أورده رحمه اللّه أنّه إذا كان عازما على أدائه وقضائه ، قبل تضيّق أيامه وأوقاته ، ثم لمّا تضيّق ، مرض في الزمان المضيّق ، حتى أسهل رمضان الثاني ، فلا تجب عليه الكفارة ، فأمّا إذا لم يمرض في زمان التضييق ، فإنّه يجب عليه الكفارة ، لأنّه

ص: 396


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.
2- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في حكم المريض والعاجز عن الصيام ، رقم 1 من أحوال المريض

متوان ، ولا ينفعه عزمه ، لأنّه فرض مضيّق ، فلا يكون العزم ، بدلا منه ، فافترق الأمر بين المسألتين ، وشي ء آخر ، وهو انّ العزم بدل من فعل الواجب الموسع ، فإذا تركه فقد أخلّ بالواجب الذي هو العزم ، فيجب عليه الكفارة ، لأجل تركه الواجب الذي هو العزم.

فأمّا إذا عزم ، وضاق الوقت ، وترك الصوم فقد توانى ، فيجب عليه الكفارة ، لأنّه صار واجبا مضيّقا ، فما بقي يفيد (1) العزم.

فأمّا إذا عزم ، وضاق الوقت ، ومرض ، فلا يجب الكفارة ، لأنّه ما أخل بالواجب الذي هو العزم ، فأمّا إذا لم يعزم ، ومرض في الزمان الذي قد تضيّق عليه ، فيجب أيضا عليه الكفارة ، لإخلاله بالواجب الذي هو العزم ، فهذا يمكن أن يكون وجه الفتيا ، على ما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه.

والذي اعتقده ، وافتي به ، سقوط الكفارة عمن أوجبها عليه ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العبادات ، والتكاليف ، وإخراج الأموال ، إلا بالدليل الشرعي القاطع للأعذار ، والقرآن خال من هذه الكفارة ، والسنة المتواترة خالية أيضا ، والإجماع غير منعقد على وجوب هذه الكفارة ، لأنّ أكثر أصحابنا لا يذهبون إليها ، ولا يوردونها في كتبهم ، مثل الفقيه سلار ، والسيد المرتضى ، وغيرهما ، ولا يذهب إلى الكفارة في هذه المسألة ، إلا شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في الجزء الثاني من مقنعة ولم يذكرها في كتاب الصيام منها ، ولا في غيرها من كتبه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، ومن تابعهما ، وقلّد كتبهما ، أو يتعلّق (2) بأخبار الآحاد التي ليست عند أهل البيت عليهم السلام حجة ، على ما شرحناه ، فلم يبق في المسألة ، إلا لزوم دليل الأصل ، وهو براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل له على ذلك.

ص: 397


1- في ط وج : يفيده
2- في ط وج : ويتعلق.

والمريض إذا كان قد وجب عليه صيام شهرين متتابعين ، ثم مات ، تصدق عنه ، عن شهر ، ويقضي عنه وليه ، شهرا آخر ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) أورده ، وقال في جمله وعقوده : وكل صوم كان واجبا على المريض ، بأحد الأسباب الموجبة له ، ثمّ مات ، تصدق عنه ، أو يصوم عنه وليه (2) وهذا أولى ممّا ذكره في نهايته.

وقال السيد المرتضى ، في انتصاره : يتصدق عنه لكل يوم بمد ، من طعام ، فإن لم يكن له مال ، صام عنه وليه ، فإن كان له وليان ، فأكبرهما (3).

وقال شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في كتاب الأركان : يجب على وليه أن يقضي عنه كل صيام فرّط فيه ، من نذر ، أو كفارة ، أو قضاء رمضان.

قال مصنّف هذا الكتاب : والذي أقوله في ذلك ، أنّ هذين الشهرين ، إن كانا نذرا ، وقدر على الإتيان بهما ، فلم يفعل ، فالواجب على وليه ، وهو أكبر أولاده الذكور ، الصيام للشهرين ، ويكون تكليفه ذلك ، لا يجزيه غيره ، وإن كان عليه كفارة مخيّرة فيها ، فإنّه أيضا مخير ، في أن يصوم شهرين ، أو يكفر من ماله ، قبل قسمة تركته ، أعني الولي ، ولا يتعيّن عليه الصيام ، ولا يجزيه ، إلا أن يفعل من الكفارة جنسا واحدا ، أمّا صياما ، أو إطعاما ، هذا إذا كانت الكفارة مخيرا فيها ، فليتأمل ما قلنا من فقه المسألة.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : والمرأة أيضا ، حكمها ما ذكرناه ، في أن ما يفوتها من الصيام ، بمرض أو طمث ، لا يجب على أحد القضاء عنها ، إلا أن تكون قد تمكنت من القضاء ، فلم تقضه ، فإنّه يجب القضاء عنها ، ما يفوتها بالسفر ، حسب ما قدّمناه في حكم الرجال ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر

ص: 398


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.
2- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في حكم المريض والعاجز عن الصيام ، رقم 3 من أحوال المريض
3- الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة 16.

الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) ، والصحيح من المذهب ، والأقوال ، انّ إلحاق المرأة في هذا الحكم بالرجال ، يحتاج إلى دليل ، وانّما إجماعنا منعقد ، على الوالد يتحمل ولده الأكبر ، ما فرط فيه من الصيام ، ويصير ذلك تكليفا للولد ، وكذلك ما يفوته من صلاة مرضته التي توفّي فيها ، يجب على الولد الأكبر الذكر ، قضاء ذلك عنه ، فأمّا ما فاته من الصلوات في زمانه كلّه ، سواء كان صحيحا ، أو مريضا ، لا يجب على الولد القضاء عنه ، إلا ما فاته في مرضته التي مات فيها ، على ما بيّناه ، وليس هذا مذهبا لأحد من أصحابنا ، وانّما أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا ، وأورد في جمله وعقوده فقال : فإن برئ المريض ، وجب عليه القضاء ، فإن لم يقض ، ومات ، وجب على وليه القضاء ، والولي هو أكبر أولاده الذكور ، فإن كانوا جماعة ، في سن واحد ، كان عليهم القضاء بالحصص ، قال : أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين (2) وهذا غير واضح ، لأنّ هذا تكليف كل واحد بعينه ، وليس هو من فروض الكفايات ، بل من فروض الأعيان ، فإذا صام واحد منهم ما يجب على جميعهم ، لم تبرأ إلا ذمّة من صام ما وجب عليه ، فحسب ، وذمم الباقين مرتهنة ، حتى يصوموا ما تعيّن عليهم ، ووجب في ذمّة كل واحد بانفراده.

والذي تقتضيه الأدلة ، ويجب تحصيله في هذه الفتيا ، أنّه لا يجب على واحد منهم قضاء ذلك ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والإجماع غير منعقد على ذلك ، والقائل بهذا ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، والموافق له من أصحابنا المصنّفين قليل جدا ، والسيد المرتضى ، لم يتعرّض لذلك ، وكذلك شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، وغيرهما ، من المشيخة الجلّة ، وانّما أجمعنا على تكليف

ص: 399


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام - بزيادة ( حكم ) بين حكمها وما ذكرناه.
2- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في حكم المريض والعاجز عن الصيام رقم 1 بدون كلمة ( المريض ).

الولد الأكبر ، وليس هاهنا ولد أكبر ، والتعليل غير قائم هاهنا ، من استحقاقهم السيف ، والمصحف ، وثياب بدنه ، فجميع ما قيل ، وورد في عين مسألة الولد الأكبر ، لم يصح في الجماعة.

وحدّ المرض الذي يجب معه الإفطار ، إذا علم الإنسان من حال نفسه ، أنّه إن صام ، زاد ذلك في مرضه ، أو أضرّ به ، والإنسان على نفسه بصيرة ، وسواء الحكم ، أن يكون المرض في الجسم ، أو يكون رمدا ، أو وجع الأضراس ، فإنّ عند جميع ذلك ، يجب الإفطار مع الخوف من الضرر.

والعاجز عن الصيام ، على ثلاثة أضرب ، الأول : لا يجب عليه قضاء ، ولا كفارة ، وهو الشيخ الهم ، والشيخة كذلك ، اللذان لو تكلفا الصوم بمشقة ، لما أطاقاه.

الثاني : يكفّر ، ولا قضاء عليه ، وهو الشيخ الذي إذا تكلّفه أطاقه ، لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها ، والضرر العظم ، فانّ له أن يفطر ، ويكفّر عن كل يوم بمد من طعام ، وكذلك الشاب ، إذا كان به العطاش ، الذي لا يرجى شفاؤه ، فإن كان العطاش عارضا ، يتوقع زواله ، ويرجى برؤه ، أفطر ، ولا كفارة عليه ، فإذا برئ وجب عليه القضاء.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : يجب على هذا الذي يرجى برؤه ، ويتوقع زواله ، القضاء والكفارة ، وهذا القول غير واضح ، لأنّه بخلاف القرآن ، وإجماع الطائفة ، وما اخترناه مذهب السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد رضي اللّه عنهما ، وهو الصحيح ، لأنّ هذا مريض ، والمريض بالإجماع ، يجب عليه الإفطار ، فإذا برئ ، يجب عليه القضاء ، من غير كفارة ، بغير خلاف في ذلك ، فمن أوجب الكفارة هاهنا يحتاج إلى دليل.

الثالث : الحامل المقرب ، والمرضع القليلة اللبن ، إذا خافتا على ولدهما من الصوم الضرر ، أفطرتا ، وتصدقتا عن كل يوم بمد من طعام ، وتقضيان ذلك اليوم ، وقد ذهب بعض أصحابنا ، إلى أنّه لا قضاء عليهما ، وهو الفقيه سلار ،

ص: 400

والأول هو الأظهر ، الذي يقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته ظاهر القرآن.

وكل هؤلاء الذين ذكرناهم ، وانّهم يجوز لهم الإفطار ، فليس لهم أن يأكلوا شبعا من الطعام ، ولا أن يشربوا ريّا من الشراب ، ولا يجوز لهم أن يواقعوا النساء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : والصحيح ، أنّ ذلك مكروه ، شديد الكراهة ، دون أن يكون محرّما محظورا ، لأنّا قد بيّنا فيما سلف ، أنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، فلفظة لا يجوز ، يحتمل الكراهة والحظر.

باب حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه ، والمسافر إذا قدم أهله ، والحائض إذا طهرت والمريض إذا برئ

من أسلم في شهر رمضان ، وقد مضت منه أيام ، فليس عليه قضاء شي ء مما فاته من الصيام ، وعليه صيام ما يستأنف من الأيام ، وحكم اليوم الذي يسلم فيه ، إن أسلم قبل طلوع الفجر ، كان عليه صيام ذلك اليوم ، فإذا لم يصمه ، وكان عالما بوجوب الصيام ، كان عليه القضاء والكفارة ، وإن لم يكن عالما بوجوب الصيام عليه ، لم يكن عليه إلا القضاء ، فحسب ، وإن أسلم بعد طلوع الفجر ، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم ، وكان عليه أن يمسك تأديبا ، إلى آخر النهار ، ولا يجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وكذلك الغلام ، إذا احتلم ، والجارية إذا بلغت أوان الحيض ، وهو تسع سنين ، على ما أسلفنا القول فيه ، والسيد المرتضى رضي اللّه عنه وشيخنا المفيد ، يقولان : والجارية إذا بلغت الحيض ، يريدان بذلك إذا بلغت أو ان الحيض ، لأنّ الحائض يسقط عنها الصيام ، فإنّها

ص: 401


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.

ليست مكلفة بالصيام - في أنّهما يجب عليهما صيام ما بقي من الأيام ، بعد بلوغهما ، وليس عليهما قضاء ما قد مضى ، مما لم يكونا بلغا فيه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الأوّل من مسائل خلافه ، في كتاب الصلاة : مسألة : الصبي إذا دخل في الصلاة ، أو الصوم ، ثم بلغ في خلال الصلاة ، أو خلال الصوم بالنهار ، بما لا يفسد الصلاة ، من كمال خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، دون الاحتلام الذي يفسد الصلاة ، ينظر فيه ، فإن كان الوقت باقيا ، أعاد الصلاة من أولها ، وإن كان ماضيا لم يكن عليه شي ء ، وأمّا الصوم ، فإنّه يمسك فيه بقية النهار تأديبا ، وليس عليه قضاء ، ثم استدل ، فقال : دليلنا على وجوب إعادة الصلاة ، مع بقاء الوقت ، أنّه مخاطب بها بعد البلوغ ، وإذا كان الوقت باقيا ، وجب عليه فعلها ، وما فعله قبل البلوغ ، لم يكن واجبا عليه ، وانّما كان مندوبا إليه ، ولا يجزي المندوب عن الواجب ، وأمّا الصوم ، فلا يجب عليه إعادته ، لأنّ أول النهار لم يكن مكلّفا به ، فيجب عليه العبادة ، وبقية النهار لا يصح صومه ، ووجوب الإعادة عليه يحتاج إلى دليل والأصل براءة الذمة (1).

ثم قال في هذا الجزء بعينه (2) في كتاب الصيام : مسألة : الصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم ، والمريض إذا برئ ، وقد أفطروا أول النهار ، أمسكوا بقية النهار تأديبا ، ولا يجب ذلك بحال ، فإن كان الصبي نوى الصوم من أوّله ، وجب عليه الإمساك ، وإن كان المريض نوى ذلك ، لم يصح ، لأنّ صوم المريض لا يصح عندنا ، ثم استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، ولا يوجب عليها شيئا ، إلا بدليل (3).

قال محمّد بن إدريس : المسألة التي ذكرها في كتاب الصلاة ، هي

ص: 402


1- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 53.
2- ج : نفسه
3- الخلاف : كتاب الصيام.

الصحيحة ، ودليلها ، ما استدل به رحمه اللّه ، فأمّا المسألة الأخيرة ، ووجوب الإمساك على الصبي الذي ، إذا بلغ ، فلا دليل على ذلك ، بل إجماع أصحابنا منعقد على خلافها ، وانّما يستحب له الإمساك ، ولا يجب على الصبي ، إذا بلغ في خلال الصوم ، الإمساك ، وإنّما هذه فروع المخالفين ، فلا يلتفت إليها ، لأنّها مخالفة لأصول مذهبنا.

والمسافر ، إذا قدم أهله ، وكان قد أفطر قبل قدومه ، فلا فرق بين أن يصل قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، في أنّه لا يجب عليه صيام ذلك اليوم ، بل يمسك تأديبا لا فرضا ووجوبا ، فأمّا إذا لم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، وقدم أهله ، فإن كان قدومه قبل الزوال ، إلى مكان يسمع فيه أذان مصره ، فالواجب عليه تجديد النية ، وصيام ذلك اليوم وجوبا ، لا مندوبا ، ويجزيه ، ولا يجب عليه القضاء ، فإن لم يصمه ، والحال ما وصفناه ، وأفطره ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة ، لأنّه أفطر متعمدا في زمان الصيام ، وإن قدم إلى المكان الذي يسمع منه أذان مصره ، بعد الزوال ، فإنّه يمسك تأديبا ، لا وجوبا ، وعليه قضاء ذلك اليوم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : والمسافر إذا قدم أهله ، وكان قد أفطر ، فعليه أن يمسك بقية النهار ، تأديبا ، وكان عليه القضاء ، فإن لم يكن قد فعل شيئا ينقض الصوم ، وجب عليه الإمساك ، ولم يكن عليه القضاء (1) ولم يفصّل ما فصّلناه ، ولا قال بعد الزوال ، أو قبل الزوال ، بل أطلق ذلك ، ولم يقيّده ، فعلى إطلاقه أنّه إذا قدم بعد الزوال ، ولم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، يجب عليه الإمساك ، ولا يجب عليه القضاء ، وهذا بخلاف الإجماع ، وقد رجع عن هذا القول ، في مبسوطة (2) وفصّل ما فصّلناه ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أصحابنا ، والأصل الذي يقتضيه المذهب ، لأنّ بعد

ص: 403


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم من أسلم في شهر رمضان.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر.

الزوال ، خرج محلّ النية ، وفات وقتها ، بغير خلاف على ما شرحناه فيما مضى.

فإن طلع الفجر وهو بعد خارج البلد ، كان مخيرا بين الإمساك ، مما ينقض الصوم ، ويدخل بلده ، ويتمم صومه ذلك اليوم ، وبين أن يفطر ، فإذا دخل في بلده ، أمسك بقية النهار تأديبا ، ثم قضاه حسب ما قدّمناه ، والأفضل إذا علم أنّه يصل إلى بلده ، أن يمسك عما ينقض الصيام ، فإذا دخل إلى بلده ، تمم صومه ، ولم يكن عليه قضاء.

والحائض إذا طهرت : بفتح الطاء والهاء ، وهو الأفصح ، وطهرت بفتح الطاء وضم الهاء ، في وسط النهار ، أمسكت بقيته تأديبا ، وكان عليها القضاء ، سواء كانت أفطرت قبل ذلك ، أو لم تفطر ، ويجب عليها قضاء ما فاتها ، من الصيام في أيام حيضها.

والمريض إذا برئ في وسط النهار ، أو قدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصوم ، كان عليه الإمساك بقية نهاره ، تأديبا ، وعليه القضاء ، وإن لم يكن قد فعل شيئا ممّا يفسد الصيام ، فحكمه حكم المسافر ، في اعتبار برئه قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، فإن كان قبل الزوال ، وجب عليه تجديد النية ، والصيام ، وأجزأه صيامه ، ولا يجب عليه القضاء ، فإن لم يصمه والحال ما وصفناه ، وجب عليه القضاء والكفارة ، وإن كان برؤه بعد الزوال ، أمسك بقية نهاره تأديبا ، وعليه القضاء.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، أورد المسألة في نهايته ، إيرادا غير واضح ، بل فيه إيهام ، فقال : والمريض إذا برئ في وسط النهار ، وقدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصوم ، كان عليه الإمساك بقية نهاره ، تأديبا ، وعليه القضاء ، وان لم يكن قد فعل شيئا مما يفسد الصيام ، أمسك بقية يومه ، وقد تمّ صومه ، وليس عليه القضاء (1).

ص: 404


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم من أسلم في شهر رمضان.

قال محمد بن إدريس رضي اللّه عنه : وهذا على ما تراه غير واضح ، ووسط النهار الذي عناه ، لا يخلو إمّا أن يكون قبل الزوال ، أو بعده ، فإن كان قبله ، ولم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، فيصح ما قاله ، وإن كان بعد الزوال ، فلا يصح ما قاله ، ووسط النهار أيضا ، لا يتقدّر ، ولا يتصور هاهنا ، لأن وسط الشي ء لا بدّ من أن يكون بعض نصفه الأول ، وبعض نصفه الثاني ، لأ النهار (1) ليس وسط النهار هاهنا ، شيئا خارجا عن النصفين ، فيقال به ، فإن كان برؤه في النصف الأول ، فهو قبل الزوال ، وإن كان برؤه في النصف الثاني ، فهو بعد الزوال ، وذهب في مبسوطة إلى ما قلناه واخترناه ، بأن قال : وحكم المريض إذا برئ ، حكم المسافر إذا قدم أهله (2). وقال في موضع آخر في مبسوطة : والمريض إذا برئ في وسط النهار ، أو قدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصيام ، أمسك بقية النهار تأديبا ، وعليه القضاء ، وإن لم يكن فعل ما يفطر ، أمسك بقية النهار ، وقد تمّ صومه ، إذا كان قبل الزوال ، فإن كان بعده وجب عليه القضاء (3).

باب قضاء شهر رمضان ومن أفطر فيه على العمد والنسيان

من فاته شي ء من شهر رمضان ، بمرض ، أو سفر ، أو شي ء من الأسباب التي توجب الإفطار ، فليقضه أيّ زمان أمكنه ، إلا زمان السفر ولا يجوز له أن يبتدئ بصيام تطوع ، وعليه شي ء من صيام شهر رمضان ، ولا غيره من الصيام الواجب ، حتى يأتي به.

وإذا أراد قضاء ما فاته من رمضان ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فبعض يذهب إلى أنّ الأفضل الإتيان به متتابعا ، وبعض منهم يقول : الأفضل

ص: 405


1- في ج : لانه.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه والمجنون وغيرهم من أصحاب الأعذار
3- المبسوط : كتاب الصوم.

أن يأتي به متفرقا ، ومنهم من قال : إن كان الذي فاته عشرة أيام ، أو ثمانية ، فليتابع بين ثمانية ، أو بين ستة ، ويفرّق الباقي ، والأوّل هو الأظهر بين الطائفة ، وبه افتي ، لأنّ الأصل يقتضيه ، وإلى ذلك ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وإن فرّقه كان أيضا جائزا.

ولا بأس أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ، في أيّ شهر كان ، فإن اتفق أن يكون مسافرا ، انتظر وصوله إلى بلده ، أو المقام في بلد بنيّة المقام عشرة أيّام ، ثم يقضيه إن شاء.

ومن أكل ، أو شرب ، أو فعل ما ينقض الصيام ، في يوم يقضيه ، من شهر رمضان ناسيا ، تمّم صيامه ، وليس عليه شي ء ، وكذلك حكم المتطوع بصيامه ، فإن فعله متعمدا ، وكان قبل الزوال ، أفطر يومه ذلك ، ثم يقضيه يعني اليوم الفائت الأصلي ، الذي أفطره في رمضان ، وكثيرا يطلق في الكتب ، ويوجد ما أنا ذاكره ، وإن فعل ذلك بعد الزوال ، قضى ذلك اليوم يعني اليوم الذي أفطره في رمضان ، فإن أريد قضى ذلك اليوم ، انّ الإشارة راجعة إلى اليوم القضاء الذي ليس من شهر رمضان ، فكان يجب عليه قضاء يومين ، لأنّ يوم أداء شهر رمضان ، الذي أفطر فيه ، يجب عليه أيضا القضاء عنه ، وهذا لا يقوله أحد من الفقهاء ، وكان عليه بعد القضاء ، أو قبل القضاء ، الكفارة لأنّهما فرضان ، اجتمعا ، بأيّهما شاء بدأ ، وهي إطعام عشرة مساكين ، فإن لم يتمكن ، كان عليه صيام ثلاثة أيّام ، متتابعات ، وقال بعض أصحابنا : إنّ عليه كفارة اليمين ، وقال ابن البراج رحمه اللّه : يجب عليه كفارة من أفطر يوما أداء من شهر رمضان.

ومتى أصبح الرجل جنبا ، وقد طلع الفجر ، عامدا كان ، أو ناسيا ، فليفطر ذلك اليوم ، ولا يصمه ، ويصوم غيره من الأيام ، على ما روي في الأخبار (1) وليس كذلك قضاء يوم نذر صومه فأفطره ، فأخذ في القضاء ، فأفطر ، فإنّه لا

ص: 406


1- الوسائل : الباب 19 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك.

يجب عليه كفارة ، سواء أفطر قبل الزوال ، أو بعده ، لأنّ حمله على من أفطر يوما يقضيه من رمضان قياس.

ومن أصبح صائما متطوعا ، جاز له أن يفطر ، أيّ وقت شاء ، إلا أن يدعوه أخوه المؤمن ، فإنّ الأفضل له الإفطار ، إذا لم يعلمه بأنّه صائم.

ومن أصبح بنية الإفطار ، جاز له أن يجدد النية ، لقضاء شهر رمضان ، ما بينه وبين نصف النهار ، فإذا زالت الشمس ، لم يجز له تجديد النية ، للصوم الواجب ، فأمّا المندوب فله أن يجدد النيّة ، إلى آخر النهار ، بمقدار ما يمرّ عليه زمان ، يكون ممسكا فيه ، على ما قدّمناه.

والحائض يجب عليها قضاء ما فاتها ، من الأيام في شهر رمضان ، فإن كانت مستحاضة في شهر رمضان ، فإنّها يجب عليها الصيام ، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة ، فإن لم تفعل ما تفعله المستحاضة ، وأمسكت وصامت ، فإنّها يجب عليها القضاء ، بغير كفارة ، فإن لم تمسك عن المفطرات ، فإنّها يجب عليها مع القضاء ، الكفارة ، لأنّها أفطرت في زمان ، يجب عليها الإمساك ، وهي مخاطبة بالصيام.

فإذا جاءت أيام عادتها بالحيض ، تركت الصيام ، ثم تقضي تلك الأيام.

ومتى أصبحت المرأة صائمة ، ثمّ رأت الدم ، فقد أفطرت ، وإن كان ذلك بعد العصر ، أو قبل غيبوبة الشمس بقليل ، أمسكت تأديبا ، وعليها قضاء ذلك اليوم.

ومتى أصبحت بنية الإفطار ، ثم طهرت في بقية يومها ، أمسكت ما بقي من النهار ، وكان عليها القضاء.

ومن أجنب في أوّل الشهر ، ونسي أن يغتسل ، وصام الشهر كلّه ، وصلّى ، وجب عليه الاغتسال ، وقضاء الصلاة ، بغير خلاف ، فأمّا الصوم ، فلا يجب عليه قضاؤه ، لأنّه ليس من شرط صحة الصوم في الرجال الطهارة ، إلا إذا تركها الإنسان متعمدا ، من غير اضطرار ، من الليل إلى النهار ، وهذا ما تركها متعمدا.

وذهب بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي

ص: 407

رحمه اللّه ، إلى وجوب قضاء الصوم عليه ، ولم يقل أحد بذلك من محققي أصحابنا ، لأنّه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة في فصل في حكم قضاء ما فات من الصوم ، قال : من فاته شي ء من شهر رمضان لمرض ، لا يخلو حاله من ثلاثة أقسام : إمّا أن يبرأ من مرضه ، أو يموت فيه ، أو يستمر به المرض إلى رمضان آخر ، فإن برئ وجب عليه القضاء ، فإن لم يقض ومات فيما بعد ، كان على وليه القضاء عنه ، والولي هو أكبر أولاده الذكور ، فإن كانوا جماعة في سن واحد ، كان عليهم القضاء بالحصص ، أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين ، وإن كانوا إناثا ، لم يلزمهن القضاء ، وكان الواجب الفدية ، من ماله عن كل يوم بمدين ، من طعام وأقلّه مدّ (1).

قال محمّد بن إدريس : أمّا قوله رحمه اللّه : أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين ، فقد قلنا فيما تقدّم ما عندنا فيه ، وامّا قوله ، وإن كانوا إناثا ، لم يلزمهن القضاء ، فنعم ما قال ، وذهب إليه ، فإنّه الصحيح من الأقوال ، وذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه إلى خلاف ذلك ، وأوجب على الكبرى منهن ، مثل ما أوجب على الأكبر من الذكور ، والأظهر الأوّل ، لأنّ الأصل براءة الذمة من التكاليف ، فأمّا قوله : وكان الواجب الفدية ، فغير واضح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولم يقل به أحد من أصحابنا المحققين.

وقال السيد المرتضى في انتصاره : يتصدّق عنه لكل يوم بمدّ ، من طعام ، فإن لم يكن له مال ، صام عنه وليه ، فإن كان له وليّان فأكبرهما (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا الصدقة ، فلا تجب ، لأنّ الميّت ما وجبت عليه كفارة ، بل صوم لا بدل له ، والولي هو المكلف بقضائه ، لا يجزيه غيره ،

ص: 408


1- المبسوط : كتاب الصوم ، أصل في قضاء ما فات من الصوم.
2- الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة 16.

والإجماع منعقد من أصحابنا على ذلك ولم يذهب إلى ما قاله السيد غيره.

والمغمى عليه إذا كان مفيقا في أول الشهر ، ونوى الصوم ، ثم أغمي عليه ، واستمر به أياما ، لم يلزمه قضاء شي ء فاته ، وإن لم يكن مفيقا في أول الشهر ، بل كان مغمى عليه ، وجب عليه القضاء ، على قول بعض أصحابنا ، منهم السيد المرتضى والشيخ المفيد.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه لا قضاء عليه أصلا ، وعندي أنّ الصحيح ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه والدليل على صحة قوله ، أنّ هذا المغمى عليه ، غير مكلّف بالعبادات ، لأنّ عقله زائل ، بغير خلاف ، والخطاب يتوجه إلى العقلاء المكلّفين للصيام ، وليس هذا بداخل تحت خطابهم.

فإن قيل : فهذا مريض ، ويجب على المريض قضاء ما فاته في حال مرضه ، لأنّ اللّه تعالى قال ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (1) فأوجب على المريض عدة من أيام أخر ، بعدد ما فاته ، فهذا داخل في عموم هذه الآية.

قلنا : العموم قد يخص بالأدلة ، بغير خلاف ، ومن جملة مخصصات العموم ، أدلة العقول ، وقد علمنا بعقولنا ، أنّ اللّه تعالى لا يكلّف إلا من أكمل شروط التكليف فيه ، ومن جملة شروط التكليف كمال العقول ، (2) وهذا مثل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (3) فعلمنا أنّ الأمر بالعبادة في الآية متوجه إلى العقلاء ، دون الصبيان والمجانين ، وإن كانا داخلين في عموم الآية ، لأنّهما من جملة الناس ، والمريض على ضربين : مريض يكون مرضه قد أزال عقله ، ومريض يكون مرضه غير زائل (4) لعقله ، فهذا هو المخاطب في الآية بالقضاء ، دون الأول ، فخصّصنا الأوّل بالدليل العقلي.

واحتج شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، على صحّة ما ذهب إليه ، من

ص: 409


1- البقرة : 184
2- في ط وج : العقل
3- البقرة : 21
4- ج : غير مزيل.

سقوط القضاء عنه ، بأن قال في مبسوطة : وعندي لا قضاء عليه أصلا ، لأنّ نيّته المتقدّمة كافية في هذا الباب ، وانّما يجب ذلك ، على مذهب من راعى تعيين النيّة ، أو مقارنة النية التي هي للقربة ، ولسنا نراعي ذلك (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا لا حاجة بنا إليه ، لأنّه غير واضح (2) ، والأحسم للشغب ، ما استدللنا به ، لأنّه لا اعتراض عليه ، ولا استدراك فيه ، ولا طريق للخصم بالطعن إليه ، وهب ، انّا التزمنا تعيين النية ، أو مقارنة النية ، فأي شي ء كان يلزمنا على استدلالنا نحن ، فأمّا على استدلال شيخنا ، فيتجه عليه إلزام الخصم ، بوجوب القضاء ، لأنّه لا يخلو ، إمّا أن يلتزم بأنّه مكلّف عاقل ، أعني المغمى عليه ، أو لا يلتزم بأنّه مكلّف للصيام ، فإن التزم بأنّه مكلّف عاقل ، فإنّه يحتاج إلى ما قال ، وإن لم يلتزم بأنّه مكلّف للصوم عاقل ، فلا حاجة به إلى ما قال رحمه اللّه.

وقال ابن بابويه في رسالته (3) وإذا قضيت شهر رمضان ، أو النذر كنت بالخيار في الإفطار ، إلى زوال الشمس ، فإذا أفطرت بعد الزوال ، فعليك الكفارة ، مثل ما على من أفطر يوما من شهر رمضان.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا من أفطر في قضاء نذر بعد الزوال ، فليس عليه من الكفارة ، ما على من أفطر في قضاء شهر رمضان بعد الزوال ، لأنّ حمل قضاء النذر على قضاء رمضان قياس ، والقياس عندنا باطل ، بغير خلاف ، والأصل براءة الذمة من الكفارة ، ولا دليل عليها بحال.

فأمّا مقدار كفارة من أفطر في قضاء رمضان بعد الزوال ، فكفارة يمين ، على الصحيح ، من أقوال أصحابنا ، ويقوي ذلك ، أنّ الأصل براءة الذمة.

ص: 410


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه.
2- وفي نسخة ج : سقط من العبارة قريب سطر.
3- رسالة ابن بابويه : كتاب الصوم ، كيفية القضاء ص 82.

باب ما يجري مجرى شهر رمضان في وجوب الصّوم وما حكم من أفطر فيه على العمد أو النسيان بكسر النون وسكون السين

الذي يجري مجراه ، صيام شهرين متتابعين ، فيمن قتل خطأ إذا لم يحد العتق وصيام شهرين متتابعين ، على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا إذا لم يختر العتق ، ولا الإطعام وصيام شهرين متتابعين ، في كفارة الظهار ، على من لم يجد عتق رقبة ، فمن وجب عليه شي ء من هذا الصيام ، وجب عليه أن يصومه متتابعا ، كما قال سبحانه (1) مع ارتفاع المرض والحيض ، فإن أفطر مختارا ، من غير مرض أو حيض ، في الشهر الأول ، أو الثاني قبل أن يصوم منه يوما واحدا ، كان عليه الاستئناف بغير خلاف ، وإن كان إفطاره ، بعد أن صام من الثاني ، ولو يوما واحدا ، كان مخطئا ، وجاز له البناء ، ولا يجوز لأحد من أصحابنا أن يقول ، حدّ البناء في الشهرين المتتابعين ، أن يصوم الشهر الأول ، ومن الثاني شيئا ، بل حدّ التتابع ، أن يصوم الشهرين متتابعين ، كما قال تعالى ، بل أجمعنا على أنّه يجوز له البناء ، إذا صام من الثاني شيئا ، وإن كان مخطئا في إفطاره مع اختياره وغير ممتنع أن يكون مخطئا بإفطاره ، ويجوز له البناء على ما صام.

ولا يجوز لأحد وجب عليه صيام هذه الأشياء ، أن يصومه في السفر ، ولا أن يصومه أيام العيدين ، ولا أيام التشريق إذا كان بمنى ، فإن وافق صومه أحد هذه الأيام ، وجب عليه أن يفطر ، ويقضي يوما مكانه ، إذا كان إفطاره بعد صيام الشهر الأول ، ومن الثاني يوما واحدا ، وإن كان إفطاره قبل ذلك ، وجب عليه الاستئناف.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه أطلق ذلك في نهايته ، فقال : وجب

ص: 411


1- قوله تعالى : « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ » الآية ، النساء : 92 ، والمجادلة : 4.

عليه أن يفطر ثم ليقض يوما مكانه ، ولا بدّ من التقييد في هذا الحكم ، قال شيخنا أبو جعفر : إلا أن يكون الذي وجب عليه الصيام ، القاتل في الأشهر الحرم ، فإنّه يجب عليه صيام شهرين متتابعين من الأشهر الحرم ، وإن دخل فيهما صيام يوم العيد ، وأيام التشريق (1) وقد أورد هذا من طريق الخبر ، وهو في حيز الآحاد ، دون التواتر ، لأنّ الإجماع والتواتر ، منعقد على أن صيام العيد محرم ، فإن أجاز صيامه ، يحتاج في جوازه في هذه الكفارة إلى دليل ، وإجماع منعقد ، مثل ذلك الإجماع الذي انعقد على تحريمه.

وذهب شيخنا المفيد ، إلى جواز صوم الكفارة في حال السفر ، والأظهر بين الطائفة أنّ الصوم الواجب ، لا يجوز في السفر ، سواء كان صوم رمضان ، أو غيره من الصيام الواجب ، إلا ما أخرجه الدليل ، من النذر المقيّد بحال السفر ، وصيام ثلاثة أيام بدل هدي المتمتع ، وصيام الاعتكاف المنذور ، وصيام كفارة من أفاض من عرفات قبل مغيب الشمس عامدا ، ولم يجد الجزور ، وهو ثمانية عشر يوما.

ومن وجب عليه صيام شهرين متتابعين ، في أوّل شعبان ، فليتركه إلى انقضاء شهر رمضان ، ثم يصوم شهرين متتابعين ، بعد العيد ، فإن صام شعبان ورمضان ، لم يجزه ، إلا أن يكون قد صام مع شعبان ، شيئا ممّا تقدّم من الأيام ، فيكون قد زاد على الشهر ، فيجوز له البناء عليه ، ويتم شهرين.

ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ، فصام خمسة عشر يوما ، وأفطر ، جاز له البناء ، وإن لم يكن زاد على النصف شيئا آخر ، وفي الشهرين لا بدّ أن يكون قد زاد على النصف شيئا آخر ، من الشهر الثاني ، وهذا فرق ، تواترت به الأخبار ، عن أئمة آل محمد الأطهار ولا يتعدّى إلى غير هذين الحكمين.

ص: 412


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب ما يجري مجرى شهر رمضان.

وقد ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في جمله وعقوده (1) إلى أنّ العبد ، إذا كانت كفارته صيام شهر فصام نصفه ، جاز له التفريق للباقي ، والبناء على ما مضى ، حملا على الشهر المنذور ، أو خبر واحد ، قد ورد بذلك.

والأظهر ما أجمعنا عليه ، وترك التعرض لما عداه يعمل فيه ، على ما يقتضيه أصول المذهب ، وعموم الآي والنصوص.

وأمّا صيام النذر فقد بيّنا حكمه فيما تقدّم.

فمن أفطر في يوم ، قد نذر صومه ، متعمدا ، وجب عليه ما يجب على من أفطر يوما من شهر رمضان ، عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ، فإن لم يتمكن ، صام ثمانية عشر يوما ، فإن لم يقدر ، تصدّق بما يتمكن منه ، فإن لم يستطع ، استغفر اللّه ، وليس عليه شي ء.

ومن نذر أن يصوم حينا من الزمان ، وجب عليه أن يصوم ستة أشهر.

وإن نذر أن يصوم زمانا ، كان عليه أن يصوم خمسة أشهر.

ومن نذر أن يصوم بمكة ، أو بالمدينة ، أو أحد المواضع المعينة ، شهرا بعينه ، فحضره ، وصام بعضه ، ولم يتمكن من المقام ، جاز له أن يخرج ، فإذا رجع إلى بلده ، قضاه ، متمما له ، وبانيا على ما صامه ، ولا يجب عليه استئنافه.

وإن كان الشهر ، غير معيّن بزمان ، فإنّه يجب عليه صيامه في ذلك البلد ، إذا تمكن من المقام ، لا يجزيه غير ذلك ، مع الاختيار للخروج من البلد.

فإن نذره متتابعا ، وخرج من البلد مختارا ، فإنّه لا يجزيه ما صامه ، ولا يجوز له البناء عليه ، وإن لم يتمكن من المقام ، فإن كان صام نصف الشهر ، فله البناء على التمام في بلده ، لأنّ من نذر صيام شهر متتابعا ، وصام نصفه ، وأفطر ، فله البناء عليه ، وإن كان خروجه قبل صيام النصف ، فلا يجوز له البناء ، لأنّ

ص: 413


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، ذيل رقم 4 و 5 من الصيام الواجب الذي متى أفطر في حال دون حال بني ، ص 217.

السفر عندنا يقطع التتابع ، سواء كان مضطرا إليه ، أو مختارا. فأمّا إذا لم يكن الشهر المنذور ، لا متعينا ، ولا متتابعا بالشرط ، فلا يجزيه إلا أن يصومه في البلد الذي عينه فيه ، أيّ وقت قدر عليه.

ومتى عجز الإنسان عن صيام ما نذر فيه ، تصدّق عن كل يوم بمد من طعام ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) وهذا ينبغي أن يقيّد ، ويقال : متى عجز بمرض ، يرجى برؤه ، وشفاؤه ، فلا يكون هذا حكمه ، بل يجب عليه قضاؤه بلا كفارة ، إذا برئ لأنّ المريض لا يجب عليه بإفطاره في حال مرضه في الصوم المعيّن ، كفارة ، بل يجب عليه القضاء إذا برئ فحسب ، بغير خلاف ، فأمّا إذا كان العجز بكبر ، أو بمرض ، لا يرجى برؤه ، ولا شفاؤه ، فيكون الحكم ما قاله شيخنا ، ولا قضاء عليه ، فليتأمّل ذلك ، ففقهه ما ذكرناه.

وصوم كفارة اليمين ، واجب أيضا ، وهو ثلاثة أيام متتابعات ، لا يجوز الفصل بينهما بالإفطار ، مختارا ، إلا أن يعرض مرض ، أو حيض ، فيجوز البناء على ما صام ، سواء كان جاوز أكثر من النصف ، أو أقل من ذلك ، فأمّا إذا فصّل بين الثلاثة الأيام ، لغير حيض ، أو مرض ، فإنّه يجب عليه الاستئناف ، والحر والعبد في هذا الحكم سواء.

وصيام أذى حلق الرأس واجب ، إذا لم ينسك ، ولم يتصدق.

وصيام ثلاثة أيام ، لمن لم يجد دم المتعة ، في الحج ، متتابعات ، وهي بدل الهدي ، مع عدمه ، لا بدل ثمنه ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الصيام بدل الثّمن ، لأنّ عند هذا القائل ، أنّه لا يجزيه الصيام ، مع وجود الثمن ، والأول أظهر ، لأنّ اللّه تعالى ، (2) نقلنا مع عدم الهدي إلى الصيام ، ولم يجعل بينهما واسطة ، فمن ادّعاها

ص: 414


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب ما يجري مجرى شهر رمضان.
2- قوله تعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ ) الآية ، البقرة : 196.

خالف ظاهر التنزيل.

ولا يجوز التفريق بين الثلاثة الأيام إلا في موضع واحد ، وهو إذا صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإنّه يبني على صيامه بعد أيام التشريق ، فأمّا إذا لم يكن المانع من التتابع العيد ، أو كان المانع العيد ، ولم يحصل صيام يومين قبله ، فلا يجوز التفريق بحال.

وشيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده ، جعله في قسم الصيام الذي إذا أفطر المكلّف به في حال دون حال بنى. فقال : وصوم ثلاثة أيّام في دم المتعة ، إن صام يومين ثم أفطر بنى ، وإن صام يوما وأفطر أعاد (1). وهذا الإطلاق ، لا يصح إلا في موضع واحد ، وهو انّه يكون ، قد صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإنّه يبني بعد أيام التشريق ، فأمّا إذا لم يكن صام اليومين المذكورين ، وصام بعد أيام التشريق ، فإنّه لا يبني إذا صام يومين ثم أفطر.

فأمّا صيام السبعة الأيام ، فإذا عاد ، ورجع إلى وطنه ، يصومهن إن شاء متتابعة ، وإن شاء متفرقة ، ولا يجب عليه التتابع ، ولا يجوز له أن يصومهن ، إلا إذا رجع ، ولا يجوز صيامهن في الطريق والسفر ، فإن جاور بمكة ، انتظر قدوم أهل بلده إلى بلدهم ، إذا كان ذلك دون الشهر ، فإن كان أكثر من ذلك ، انتظر شهرا ، ثم صام بعد ذلك.

فإن مات المكلّف بهذا الصيام بعد القدرة عليه ، قال بعض أصحابنا : لا يجب على وليّه القضاء عنه. والأولى أنّه يجب ذلك على الولي ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ كل صوم كان واجبا على الميت ، وقدر عليه ولم يفعله ، فالواجب على الولي القيام به.

وصوم جزاء الصيد ، بحسب قيمة جزائه ، متفرقا ومتتابعا ، ولا يجوز صيامه في السفر ، وقال ابن بابويه في رسالته : يجوز صيامه في السفر (2). والأظهر بين أصحابنا الأول.

ص: 415


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، رقم 6 من الصيام الذي متى أفطر في حال دون حال بنى ، ص 217.
2- رسالة ابن بابويه : كتاب الصوم ، الصوم في السفر ص 73 الطبع الحديث.

وصيام الاعتكاف المنذور واجب أيضا ، فإمّا الاعتكاف المندوب ، فصيامه مندوب بغير خلاف من محصّل ، وسنشبع الكلام ، في باب الاعتكاف إن شاء اللّه تعالى.

وصيام النذر ، له ثلاث مسائل ، ينبغي أن يحقق ، وقد اطلع على فقه النذر ، وهن : إذا نذر الإنسان صيام شهر معيّن ، مثلا رجب أو شعبان. الثانية (1) نذر صيام شهر متتابع ، إلا أنه غير معيّن بزمان ، بل موصوف بصفة ، وهي التتابع. الثالثة : إذا نذر صيام شهر ، ولم يعيّنه ، ولا وصفه بصفة.

فأمّا الأولى ، فإنّه إذا صام بعضه ، سواء كان ذلك البعض ، النصف ، أو أقل من النصف ، أو أكثر من النصف ، وعلى كل حال ، فإنّه يبني ، ولا يستأنف ، بل يجب عليه القضاء لما أفطره ، والكفارة.

الثانية إذا أفطر ، فلا يخلو إفطاره ، إمّا أن يكون قبل النصف ، أو بعد النصف ، فإن كان قبل النصف ، فإنّه يجب عليه الاستئناف ، ولا يعتد بما صام ، ولا يجب عليه فيما أفطر كفارة ، ولا قضاء ، بل يجب عليه الاستئناف للصيام ، فأمّا إن كان أفطر بعد النصف فإنّه يبني ، ولا يستأنف ، ولا يجب عليه الكفارة في الحالين معا.

فأمّا الثالثة فإنّه يبني على كل حال ، سواء كان إفطاره قبل النصف ، أو بعده ، ولا كفارة عليه ، لأن نذره غير معيّن بزمان ، ولا موصوف بصفة ، وهي التتابع.

ومن تعيّن عليه صيام شهرين متتابعين ، لا حد ما ذكرناه من إفطار يوم ، من شهر رمضان عامدا ، أو نذر معيّن ، أو اعتكاف معيّن ، أو ظهار ، أو غير ذلك مما أشبهه ، أو نذر صومهما ، وجب عليه ان يبتدئ شهرين عربيين ، يمكن الموالاة فيهما ، (2) ، دون شعبان ، لأجل شهر رمضان ، ودون شوال ، لأجل يوم الفطر ، ودون ذي الحجة فإذا دخل في الصوم ، وجب عليه المضي فيه حتى يكمل الشهرين.

فإن أفطر في شي ء منهما ، مضطرا بنى على ما صامه ، ولو كان يوما واحدا ،

ص: 416


1- في ط وج : إذا أنذر
2- في ط وج : بينهما.

وإن كان مختارا ، في الشهر الأول ، وقبل أن يدخل في الثاني ، استأنف الصيام ، من أوّله ، وإن أفطر بعد أن صام من الثاني يوما واحدا ، فما زاد ، تمم على ذلك ، وجاز له البناء على ما مضى.

ومن مات ، وعليه شي ء من ضروب الصيام ، لم يؤده ، مع تعيّن فرضه عليه ، وتفريطه فيه ، فعلى وليه القضاء عنه ، وإن لم يتعيّن ذلك عليه لم يتعيّن الصوم على وليه ، ولا يجب على الولي الصيام ، وقد قدّمنا طرفا من ذلك ، فيما تقدّم ، وكذلك صيام الشهرين المتتابعين ، وأعدناه هاهنا تأكيدا ، وشرح بيان.

ومن نذر أن يصوم يوما ، ويفطر يوما ، صوم داود عليه السلام ، فوالى الصوم ، فإنّه يجب عليه كفارة خلاف النذر ، وقد بيّناها ، لأنّه نذر أن يفطر ، فصام ، وإن والى الإفطار مختارا ، لم يجزه ، ولزمه القضاء ، لأيام الصوم ، وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، عن كل يوم أفطره ، وكان يجب عليه صيامه ، ويجب عليه القضاء ، على ما قدّمناه ، لأنّ زمان القضاء مستثنى ، على ما قدّمناه في نذر الدهر.

باب صيام التطوّع ، وما يكون صاحبه فيه بالخيار وصوم التأديب ، والاذن ، وما لا يجوز صيامه

أمّا المسنون من الصيام ، فجميع أيام السنة ، إلا الأيام التي يحرم صيامها ، غير أنّ فيها ما هو أشدّ تأكيدا ، فمن ذلك صوم ثلاثة أيام في كل شهر مستحب ، مندوب إليه ، مؤكد فيه ، وهو أول خميس في العشر الأول ، وأول أربعاء في العشر الثاني ، وآخر خميس في العشر الأخير ، فإن اتفق خميسان في العشر الأخير ، فالخميس الأخير منهما هو المؤكد صيامه ، دون الأول ، فإن جاء الشهر ناقصا ، فلا شي ء عليه ، فينبغي أن لا يتركه الإنسان مع الاختيار ، فإن لم يقدر على صيام هذه الأيام في أوقاتها ، جاز له تأخيرها من شهر إلى شهر ، ثم يقضيها ، وكذلك

ص: 417

لا بأس أن يؤخّرها من الصيف إلى الشتاء ، ثم يقضيها بحسب ما فاته ، فإن عجز عن الصيام ، جاز له أن يتصدق عن كل يوم بدرهم ، أو بمد من طعام.

ويستحب صيام الأربعة الأيام في السنة ، وهي يوم السابع والعشرين من رجب ، وهو يوم مبعث النبي صلّى اللّه عليه وعلى آله ، ويوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وهو يوم مولده عليه السلام ، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة ، وهو يوم دحيت فيه الأرض من تحت الكعبة ، ومعنى دحيت أي سطحت وبسطت ، ويوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، نصب فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عليا أمير المؤمنين عليه السلام إماما للأنام ، وفي هذا اليوم بعينه قتل عثمان بن عفان ، وبايع الناس المهاجرون والأنصار عليّا عليه السلام طائعين مختارين ، ما خلا أربعة أنفس ، منهم عبد اللّه بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، وفي هذا اليوم فلج موسى بن عمران عليه السلام على السحرة ، وأخزى اللّه عزوجل فرعون وجنوده ، وفيه نجّى اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام من النار ، وفيه نصب موسى وصيه يوشع بن نون ، ونطق بفضله على رءوس الأشهاد ، وفيه أظهر عيسى وصيّه شمعون الصفا ، وفيه أشهد سليمان بن داود سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا وصيه ، وهو يوم عظيم ، كثير البركات.

وفي الرابع والعشرين من ذي الحجة ، بأهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، بأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام ، نصارى نجران ، وفيه تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه.

وفي اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر ، نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، هل أتى.

وفي اليوم السادس والعشرين منه ، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، طعن عمر بن الخطاب.

ص: 418

وفي التاسع والعشرين منه ، قبض عمر بن الخطاب ، فينبغي للإنسان أن يصوم هذه الأيام ، فإن فيها فضلا كبيرا ، وثوابا جزيلا ، وقد يلتبس على بعض أصحابنا يوم قبض عمر بن الخطاب ، فيظن أنّه يوم التاسع من ربيع الأول ، وهذا خطأ من قائله ، بإجماع أهل التاريخ والسير ، وقد حقق ذلك شيخنا المفيد ، في كتابه كتاب التواريخ ، وذهب إلى ما قلناه.

ويستحب صيام أول يوم غرة ذي الحجة ، وهو يوم ولد فيه إبراهيم الخليل عليه السلام.

ويستحب صيام يوم عرفة ، إذا حقق هلال ذي الحجة ، فأمّا إذا لم يحقق ، وشك فيه ، والتبست معرفته ، فانّ صيام عرفة ، والحال ما وصفناه ، مكروه ، لأنّ الإنسان لا يأمن من قيام البينة بأنّه يوم عيد.

ويستحب صيام رجب بأسره ، فإن لم يتمكن ، فما تيسر منه ، وكذلك شعبان ، ويصله بشهر رمضان ، فهو شهر شريف ، وصيامه سنّة ، من سنن الرسول عليه السلام ، وفي اليوم الثاني منه ، سنة اثنتين من الهجرة ، نزل فرض صيام شهر رمضان ، فعلى هذا التقدير ، والتاريخ ، يكون قد صام الرسول عليه السلام ، ثمان رمضانات على التحقيق.

وأيام البيض من كل شهر ، وهي يوم الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : يقال هذه أيام البيض ، أي أيام الليالي البيض ، وسمّيت هذه الليالي بيضا ، لطلوع القمر من أولها إلى آخرها ، والعامة تقول الأيام البيض ، حتى أنّ بعض أصحابنا جرى في كتبه المصنّفة ، على عادات العوام في ذلك ، وهو خطأ ، لأنّ الأيام كلها بيض.

وصوم يوم عاشوراء على وجه حزن بمصاب آل الرسول عليهم السلام.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته إلى أن صيام أيام الليالي البيض ، وصيام عرفة ، وصيام يوم عاشوراء ، من القسم المخيّر فيه ، دون

ص: 419

القسم المؤكد ، لأنّه عدّد المؤكد ، ثم قال بعد ذلك : والصوم الذي يكون صاحبه فيه بالخيار ، كذا وكذا (1).

وأمّا صوم الإذن ، فلا تصوم المرأة تطوعا إلا بإذن زوجها ، فإن صامت من غير إذنه ، فلا ينعقد صومها ، ولا يكون شرعيا ، وله مواقعتها فيه ، وإلزامها الإفطار ، ويجب عليها مطاوعته ، فإن كانت صائمة في (2) الواجبات ، فليس له عليها ولاية ، ولا يجوز له منعها من ذلك ، ولا ينعقد نذرها بصيام ، ما دامت في حبال بعلها ، فإن كانت قد نذرت الصيام ، قبل عقده عليها ، فقد صح وانعقد ، وليس له منعها منه ، وكذلك النذر بالحجّ منها.

والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه ، والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن مضيفه ، فإن صاما من غير إذن ، فلا ينعقد لهما صيام شرعي ، ويكونان مأزورين ، ولا يكونان مأجورين.

وأما الصوم التأديب ، فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا ، ومعنى راهق : قارب البلوغ ودنا منه ، وكذلك من أفطر لمرض في أول النهار ، ثم قوى بقية نهاره ، أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا ، وليس بفرض ، وكذلك المسافر إذا أفطر أوّل النهار ، ثم قدم أهله ، أمسك بقية يومه تأديبا ، وكذلك الحائض ، إذا أفطرت في أول النهار ، أو لم تفطر ، ثمّ طهرت في بقية يومها ، أمسكت تأديبا ، وعليها قضاؤه.

وأمّا الذي لا يجوز صومه بحال ، فيوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وثلاثة أيام التشريق ، لمن كان بمنى ، وصوم يوم الشك ، بنية أنّه من رمضان ، وصوم الوصال ، وهو أن يصوم يومين ، من غير أن يفطر بينهما ليلا ، وفسّره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته بغير هذا ، فقال : وهو أن يجعل عشاءه سحوره (3)

ص: 420


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب صيام التطوع
2- في ط وج : من.
3- النهاية : كتاب الصوم ، باب صيام التطوع

والأول هو الأظهر والأصح ، وإليه ذهب في اقتصاده (1) وصوم الصمت ، وصوم نذر المعصية ، وصوم الدهر.

باب الاعتكاف

الاعتكاف في اللغة ، هو اللبث الطويل ، وفي عرف الشرع ، هو طول اللبث للعبادة ، وله شروط ثلاثة ، أحدها يرجع إلى الفاعل ، وثانيها يرجع إلى الفعل ، وثالثها يرجع إلى البقعة.

فالراجع إلى الفاعل ، هو أن يكون مسلما ، بالغا ، عاقلا ، لأنّ من كان بخلاف ذلك ، لا يصح اعتكافه.

وما يرجع إلى الفعل ، فهو أن يكون مع طول اللبث ، صائما ، فإن كان الاعتكاف واجبا ، كان الصوم واجبا ، لأنّه من توابعه وشروطه ، وإن كان مندوبا كان الصوم مندوبا ، وقد يشتبه على كثير من المتفقهة من أصحابنا ، فيظن أنّ صوم الاعتكاف على كل حال واجب ، لأنّ الصوم شرط في انعقاد الاعتكاف.

والراجع إلى البقعة ، هو أن يكون الاعتكاف ، في مساجد مخصوصة ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد النبي عليه السلام ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة.

وقد ذهب بعض أصحابنا وهو ابن بابويه ، إلى أنّ أحد الأربعة ، مسجد المدائن ، وجعل مسجد البصرة رواية ، ويحسن في هذا الموضع ، قول اقلب تصب ، لأنّ الأظهر بين الطائفة ، ما قلناه أولا ، فإن كانت قد رويت بمسجد المدائن رواية ، فهي في حيّز الآحاد (2). ومن شاذ الأحاديث.

ولا ينعقد الاعتكاف في غير هذه المساجد ، لأنّ من شرط المسجد الذي ينعقد فيه الاعتكاف ، عند أصحابنا ، أن يكون صلّى فيه نبيّ ، أو إمام عادل ،

ص: 421


1- الاقتصاد : كتاب الصوم ، في ذكر أقسام الصوم ، ص 293 والعبارة في المصدر هكذا ( وصوم الوصال كذلك يجعل عشاه سحوره أو يطوي يومين ) الطبع الحديث
2- ط : فهي من خبر الآحاد.

جمعة بشرائطها ، وليست إلا هذه التي ذكرناها.

وحكم المرأة وحكم الرجل في هذا الباب سواء ، ولا يصح اعتكافها في مسجد بيتها.

قال السيد المرتضى ، في كتابه الانتصار : وممّا انفردت به الإمامية ، القول بأنّ الاعتكاف لا ينعقد إلا في مسجد صلّى فيه إمام عدل بالناس ، الجمعة ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. ثم ذكر أقاويلهم ، ثمّ قال : وذهب حذيفة إلى أنّ الاعتكاف لا يصح ، إلا في ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجد الرسول عليه السلام ، ومسجد إبراهيم عليه السلام (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : مسجد إبراهيم عليه السلام ، هو مسجد الكوفة ، ذكر ذلك في كتاب الكوفة.

والاعتكاف أصل في نفسه في الشرع ، دون أن يكون له أصل يردّ إليه ، والاعتكاف على ضربين ، واجب وندب ، فالواجب ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنذر ، أو العهد ، والمندوب هو ما يبتدئه ، من غير إيجاب على نفسه ، فالمندوب لا يجب المضي فيه بعد الدخول ، والتلبس به ، بل أيّ وقت أراد المكلّف الرجوع فيه ، جاز له ذلك ، ويكون الصوم له بنية الندب ، دون نيّة الوجوب ، لأنّ عندنا ، العبادة المندوب إليها ، لا تجب بالدخول فيها ، بخلاف ما يذهب إليه أبو حنيفة ، ما خلا الحج المندوب ، فإنّه يجب بالدخول فيه ، وحمل باقي المندوبات عليه قياس ، ونحن لا نقول به.

فأمّا الواجب ، من قسمي الاعتكاف ، فإنّه على ضربين ، مقيّد نذره بزمان ، وغير مقيّد نذره بزمان ، فالمقيّد بزمان ، إذا شرط ناذره العود فيه ، إن عرض له ما يمنعه منه ، وعرض ذلك ، فله العود فيه والرجوع ، ولا يجب عليه إتمامه ، ولا قضاؤه ، ولا كفارة عليه ، لأنّ شرطه ، لم يصادف صفته ، فما حصل شرط النذر على صفته.

ص: 422


1- الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة 17.

فأمّا إذا لم يشرط فيه العود ، إن عرض العارض ، فحينئذ يجب عليه إتمامه ، ولا يجب عليه استئنافه ، ولا يجب عليه كفارة.

فأمّا إذا لم يكن اعتكافه ونذره ، مقيّدا بزمان بعينه ، بل شرط فيه التتابع ، فإن شرط على ربّه تعالى فيه ، فله البناء والإتمام ، دون الاستئناف ، وإن لم يشرط ، وعرض العارض ، فيجب عليه استئنافه ، دون البناء عليه ، ولا يجب عليه كفارة.

فإن كان نذره غير متعيّن بزمان ، ولا شرط فيه التتابع ، بل أطلقه من الأمرين معا ، فمتى اعتكف أقل من ثلاثة أيام متتابعة ، فيجب عليه الاستئناف ، ويراعي فيه ثلاثة ثلاثة ، ولا كفارة عليه إذا أفطر فيه.

ومتى أراد الإنسان أن يعتكف فلا يعتكف أقل من ثلاثة أيام ، فإنّه لا اعتكاف في الشريعة أقل من ذلك ، وأكثره لا حدّ له ، إذا كان الزمان يصح فيه الصوم ، ومن شرط صحته الصوم ، سواء كان الصوم واجبا ، أو مندوبا ، فإن كان الاعتكاف واجبا ، كان الصوم واجبا مثله ، وإن كان الاعتكاف مندوبا ، فالصوم يكون مندوبا ، وقد يلتبس على كثير من أصحابنا ، هذه المسألة ، ويذهب إلى أنّ الصوم في الاعتكاف واجب ، سواء كان الاعتكاف واجبا ، أو مندوبا ، لأجل مسطور ، ولفظ محتمل ، يجده في النهاية ، فإنّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه قال : ولا بدّ أن يصوم واجبا ، لأنّه لا اعتكاف إلا بصوم (1). ولما عدّد في الجمل والعقود ، الصوم الواجب ، قال : وصوم الاعتكاف واجب (2) وهذا كلام محتمل ، ولفظ عام وعموم ، والعموم قد يخصّ بالأدلة ، فيخص قوله : بأنّ الاعتكاف ، إذا كان منذورا واجبا ، كان الصوم واجبا (3).

ص: 423


1- النهاية : باب الاعتكاف.
2- الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه ، رقم 11 من أقسام الصوم الواجب والعبارة هكذا : وصوم الاعتكاف على وجه.
3- ط : بأنّ الاعتكاف إذا كان مندوبا كان الصوم مندوبا ، وإن كان واجبا كان الصوم واجبا.

وقد رجع شيخنا ، في مسائل الخلاف ، وحقّق القول في المسألة ، فقال : مسألة : لا يصح الاعتكاف إلا بصوم ، أيّ صوم كان ، عن نذر ، أو رمضان ، أو تطوعا ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة (1). فدلّ بالإجماع على المسألة ، فعلم أنّه أراد في نهايته ما قلناه.

وقال السيد المرتضى ، في مسائل الطبريات : المسألة الخامسة والثلاثون والمائة : من شرع في الاعتكاف ، ثم أفسده ، لزمه القضاء ، قال السيد المرتضى : الذي نقوله في هذه المسألة ، ليس يخلو الاعتكاف من أن يكون واجبا بالنذر ، أو تطوعا ، فإن كان واجبا ، لزم مع إفساده القضاء ، وإن كان تطوعا ، لم يلزمه القضاء ، لأنّ التطوع لا يجب عندنا بالدخول فيه هذا آخر كلام المرتضى رضي اللّه عنه.

فإذا تحقق وتقرر ما شرحناه ، فما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) ، وفي مبسوطة (3) ، من قوله : فمن اعتكف ثلاثة أيام ، كان فيما زاد عليها بالخيار ، إن أراد أن يزداد ، ازداد ، وإن أراد أن يرجع ، رجع فإن صام بعد الثلاثة الأيام ، يومين آخرين ، لم يجز له الرجوع ، وكان عليه إتمام ثلاثة أيام أخر ، فإن كان قد زاد يوما واحدا ، جاز له أن يفسخ الاعتكاف. وهذه أخبار آحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها.

وينبغي للمعتكف ، أن يشرط على ربه في حال ما يعزم على الاعتكاف ، كما يشرط في حال الإحرام ، بأنّه إن عرض له عارض ، جاز له أن يرجع فيه ، أيّ وقت شاء ، فإن لم يشرط لم يكن له الرجوع فيه ، إلا أن يكون أقل من يومين ، فإن مضى عليه يومان ، وجب عليه تمام ثلاثة أيام ، حسب ما قدّمناه ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في النهاية (4) ، والأصل ما قدّمناه ، وشرحناه ، وحررناه.

والأولى بالمعتكف ، أن يجتنب جميع ما يجتنبه المحرم ، إلا ما خرج بالدليل ،

ص: 424


1- الخلاف : كتاب الاعتكاف ، مسألة 2
2- النهاية : باب الاعتكاف.
3- المبسوط : كتاب الاعتكاف ، في فصل أقسام الاعتكاف
4- النهاية : باب الاعتكاف.

من النساء والطيب ، والرياحين ، والكلام الفحش ، والمماراة ، والبيع ، والشراء ، ولا يفعل شيئا من ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده : ويجب عليه تجنب ما يجب على المحرم تجنبه (1) وقال في مبسوطة : وقد روي أنّه يجتنب ما يجتنبه المحرم ، وذلك مخصوص بما قلناه ، لأنّ لحم الصيد لا يحرم عليه ، وعقد النكاح مثله (2). هذا آخر كلامه في مبسوطة ، فجعله رواية ، وفي الجمل جعله دراية. والأولى ، أن لا يحرم عليه ما يحرم على المحرم ، إلا ما قام الدليل عليه.

ولا يجوز له أن يخرج من المسجد الذي اعتكف فيه ، إلا لضرورة ، تدعوه إلى ذلك ، من تشييع أخ مؤمن ، أو جنازة ، أو عيادة مريض ، أو قضاء حاجة ، لا بدّ له منها ، فمتى خرج لشي ء من هذه الأشياء التي ذكرناها ، فلا يقعد في موضع ، ولا يمشي تحت الظلال ، ولا يقف فيها ، إلا عند ضرورة إلى ذلك ، إلى أن يعود إلى المسجد.

ولا يصلّي المعتكف في غير المسجد الذي اعتكف فيه ، إلا بمكة خاصة ، فإنّه يجوز له أن يصلّي بمكة ، في أيّ بيوتها شاء.

ومتى اعتل المعتكف ، فله أن يخرج من المسجد إلى بيته ، فإذا برئ ، قضى اعتكافه ، وصومه ، على التفصيل الذي فصلناه أولا وشرحناه.

واعتكاف المرأة ، كاعتكاف الرجل سواء ، وحكمها حكمه ، في جميع الأشياء ، فإن حاضت ، خرجت من المسجد ، فإذا طهرت ، عادت ، وقضت الاعتكاف والصوم.

ولا يجوز للمعتكف ، مواقعة النساء ، لا بالليل ، ولا بالنهار ، فمتى واقع الرجل امرأته ، وهو معتكف ، ليلا ، كان عليه ما على من أفطر يوما من شهر رمضان ، فإن كانت مواقعته لها بالنهار ، في شهر رمضان ، أو في غيره ، كان عليه

ص: 425


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر الاعتكاف واحكامه ، رقم 3 من شروط صحة الاعتكاف.
2- المبسوط : كتاب الاعتكاف ، فصل في ما يمنع الاعتكاف منه وما لا يمنع.

كفارتان ، فإن كانت المرأة معتكفة بإذنه ، ووطأها ليلا مكرها لها كان عليه كفارتان ، ولا يبطل اعتكافها ، ولا كفارة عليها ، وإن كانت مطاوعة له ، كان عليها كفارة ، وفسد اعتكافها ، وعليه مثلها ، وإن كان وطؤه لها بالنهار ، مكرها لها ، كان عليه أربع كفارات ، وإن كانت مطاوعة له ، على الفعال ، لم يتحمل كفارتها ، وكان عليها كفارتان وعليه كفارتان ، وفسد اعتكافهما ، ووجب عليهما استئنافه.

ولا يجوز للمرأة أن تعتكف تطوعا ، إلا بإذن زوجها ، ولا للعبد ، والأمة ، إلا بإذن السيد.

وإذا مرض المعتكف ، واضطر إلى الخروج منه ، خرج ، فإن زال العذر ، رجع ، فبنى على ما مضى ، من اعتكافه.

وإذا باع المعتكف ، فالظاهر أنّه لا ينعقد ، لأنّه منهيّ عنه.

والنظر في العلم ، ومذاكرة أهله ، لا يبطل الاعتكاف ، وهو أفضل من الصلاة تطوعا ، عند جميع الفقهاء.

ولا يفسد الاعتكاف جدال ، ولا خصومة ولا سباب ، ولا بيع ولا شراء ، وإن كان لا يجوز له فعل ذلك أجمع ، هكذا أورده شيخنا في مبسوطة (1).

والأولى عندي ، انّ جميع ما يفعله المعتكف ، من القبائح ، ويتشاغل به ، من المعاصي ، والسيئات ، يفسد اعتكافه ، فأمّا ما يضطر إليه ، من أمور الدنيا ، من الأفعال المباحات ، فلا يفسد به اعتكافه ، لأنّ حقيقة الاعتكاف في عرف الشرع ، هو اللبث للعبادة ، والمعتكف اللابث للعبادة ، إذا فعل قبائح ، ومباحات ، لا حاجة إليها ، فما لبث للعبادة ، وخرج من حقيقة المعتكف ، اللابث للعبادة ، وانّما أورد شيخنا في مبسوطة ، كلام المخالفين ، وفروعهم ، وما يصح عندهم ، ويقتضيه مذهبهم ، لأنّ هذا الكتاب معظمه فروع المخالفين.

ص: 426


1- المبسوط : كتاب الاعتكاف ، فصل في ما يفسد الاعتكاف وما يلزمه من الكفارة.

كتاب الزكاة

اشارة

ص: 427

كتاب الزكاة

فصل في حقيقة الزكاة وما تجب فيه وبيان شروطها

الزكاة في اللغة ، هي النمو ، يقال : زكا الزرع ، إذا نما ، وزكا الفرد ، إذا صار زوجا ، فشبه (1) في الشرع ، إخراج بعض المال زكاة ، لما يؤول إليه من زيادة الثواب ، وقيل أيضا : إنّ الزكاة هي التطهير ، لقوله تعالى : ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) (2) أي طاهرة من الذنوب ، فشبه (3) إخراج المال زكاة ، من حيث تطهر ما بقي ، ولو لا ذلك ، لكان حراما ، من حيث أنّ فيه حقا للمساكين ، وقيل أيضا : تطهير المالك من مآثم منعها.

ومدار الزكاة على أربعة فصول : أحدها : ما تجب فيه الزكاة ، وبيان أحكامه. وثانيها : من تجب عليه الزكاة وبيان شروطه ، وثالثها مقدار ما تجب فيه. (4) ورابعها : بيان المستحق وكيفية القسمة.

فأمّا الذي تجب فيه الزكاة ، فتسعة أشياء : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والدنانير ، والدراهم ، والحنطة ، والعلس ( بالعين المفتوحة غير المعجمة ، واللام المفتوحة ، والسين غير المعجمة ضرب من الحنطة ، إذا ديس ، بقي كل حبتين في كمام ، ثم لا يذهب ذلك حتى يدق ، أو يطرح في رحى خفيفة ، ولا يبقى بقاء الحنطة ، وبقاؤها في كمامها ، ويزعم أهلها أنّها إذا هرست ، أو طرحت في

ص: 428


1- ج ، ط : قسمي
2- الكهف : 74.
3- ج ، ط : قسمي
4- ج : وثانيها مقدار ما تجب فيه ، وثالثها من تجب عليه. وفي المطبوع : ثانيها مقدار ما تجب فيه الزكاة وبيان شروطه. وثالثها من تجب عليه الزكاة.

رحى خفيفة ، خرجت على النصف ، فإذا اجتمع عنده حنطة ، وعلس ، ضمّ بعضه إلى بعض ، لأنّها كلّها حنطة ) والشعير ، والسلت ( بضمّ السين غير المعجمة ، واللام المسكنة ، والتاء المنقطة ، بنقطتين من فوقها ، وهو شعير ، فيه ما في الشعير ، فإذا اجتمع عنده شعير وسلت ، ضمّ بعضه إلى بعض ، لأنه كلّه شعير ، لونه لون الشعير ، وطعمه طعمه ، إلا أنّ حبّه أصغر من حب الشعير ) ، والتمر والزبيب.

وشروط وجوب الزكاة في هذه الأجناس التسعة ، أن يكون مالكها حرا ، بالغا ، كامل العقل موسرا ، وحدّ اليسار : ملك النصاب ، وأن يكون في يد مالكه ، وهو غير ممنوع من التصرف فيه. ولا زكاة في المال الغائب عن صاحبه ، الذي لا يتمكن من الوصول إليه ، ولا زكاة في الدين ، إلا أن يكون تأخّر قبضه ، من جهة مالكه ، وأن يكون بحيث متى رامه قبضه.

وقال بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : وشروط وجوب الزكاة من هذه الأجناس ، ستة ، اثنان يرجعان إلى المكلف ، وأربعة ترجع إلى المال ، فما يرجع إلى المكلّف : الحرية ، وكمال العقل ، وما يرجع إلى المال : الملك والنصاب ، والسوم ، وحئول الحول. وينبغي أن يلحق شرطا سابعا ، فيما يرجع إلى المكلّف ، وهو إمكان التصرف طول الحول ، فيصير ثلاثة ترجع إلى المكلّف ، فالحرية شرط في الأجناس كلّها ، لأنّ المملوك لا يجب عليه الزكاة ، لأنّه لا يملك شيئا ، وكمال العقل شرط في الدنانير ، والدراهم فقط ، فامّا ما عداهما ، فإنّه يجب فيه الزكاة ، وإن كان مالكها ليس بعاقل ، من الأطفال ، والمجانين ، والصحيح من المذهب ، الذي تشهد بصحته ، أصول الفقه والشريعة ، أنّ كمال العقل ، شرط في الأجناس التسعة ، على ما قدّمناه أولا ، واخترناه ، وهو مذهب السيد المرتضى رحمه اللّه ، والشيخ الفقيه سلار ، والحسن بن أبي عقيل العماني ، في كتابه ، كتاب المتمسك بحبل آل الرسول ، وهذا الرجل وجه من وجوه أصحابنا ، ثقة ، فقيه ، متكلّم ، كثيرا كان يثني عليه شيخنا المفيد ، وكتابه

ص: 429

كتاب حسن كبير ، هو عندي ، قد ذكره شيخنا أبو جعفر في الفهرست ، وأثنى عليه. وقد ذهب إليه أيضا ، أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد ، الكاتب ، الإسكافي ، وهذا الرجل ، جليل القدر ، كبير المنزلة ، صنّف وأكثر ، ذكره في كتابه ، مختصر الأحمدي للفقه المحمدي ، وانما قيل له الإسكافي ، منسوب إلى إسكاف ، وهي مدينة النهروانات ، وبنو الجنيد ، متقدّموها قديما ، من أيام كسرى ، وحين ملك المسلمون العراق ، في أيام عمر بن الخطاب ، فأقرهم عمر على تقدّم المواضع ، والجنيد هو الذي عمل الشاذروان على النهروانات في أيام كسرى ، وبقيته إلى اليوم ، مشاهدة موجودة ، والمدينة يقال لها إسكاف بني الجنيد ، قد ذكره المرتضى رحمه اللّه ، في جمل العلم والعمل (1) الذي اختار فيه ، وحقق ، وعقد ، وجمل أصول الديانات ، وأصول الشرعيات.

والدليل على صحّة ذلك من وجوه كثيرة : أحدها ظاهر كتاب اللّه تعالى ، وهو قوله سبحانه ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (2) فكان ظاهر الخطاب في الزكاة ، متوجها إلى من توجّه إليه في الصلاة ، لاقترانهما في الظاهر ، واجتماعهما في معنى التوجّه بالاتفاق ، فلمّا بطل توجه الخطاب في الصلاة ، إلى المجانين والأطفال ، بطل توجهه إليهم في الزكاة ، كما بيّناه ، وقوله تعالى في الأمر لرسوله عليه السلام بأخذ الزكاة ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) (3) والطفل لا ذنب له ، فتكون الصدقة تطهيرا له منه ، والمجنون لا جرم له ، فتكون التزكية كفارة له عنه ، وهذا بين بحمد اللّه ، لمن تدبره ، وترك تقليد ما يجده في بعض الكتب.

وأيضا فالخطاب في جميع العبادات ، ما توجّه ، إلا إلى البالغين ، المكلّفين ، بغير خلاف ، فمن أدخل من لا يعقل ، في الخطاب ، يحتاج إلى دليل ، فإن فزع إلى الإجماع ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ في المسألة خلافا بين أصحابنا ،

ص: 430


1- جمل العلم والعمل : المطبوع مع رسائل المرتضى ج 3 ص 74 فصل في شروط وجوب الزكاة.
2- البقرة : 110
3- التوبة : 103.

فبعض منهم ، يوجب الزكاة فيما عدا الدنانير والدراهم ، في أموال الأطفال ، والمجانين ، وبعض منهم لا يوجب ذلك ، والجميع متفقون على أنّه لا زكاة عليهم ، في الدنانير والدراهم ، وانّما اختلفوا فيما عدا الدنانير والدراهم ، فإذا فقدنا دليل الإجماع ، والأصل براءة الذمة من العبادات ، وانّما الخطاب لا يتوجه إلا إلى العقلاء ، وظاهر التنزيل من الآيتين المقدّم ذكرهما ، فلا معدل عن دليل الأصل ، وظاهر الكتاب إذا فقدنا الإجماع.

فإن قيل : فقد روي عن الرسول عليه السلام أنه قال : أمرت أن أخذ الصدقة ، من أغنيائكم ، فأردّها في فقرائكم (1). ولا خلاف أنّ الطفل ، والمجنون ، متى كان لهما مال ، فهما غنيان ، فيجب أخذ صدقتهما على كل حال.

فأوّل ما نقوله في ذلك ، أنّ هذا من أخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، على ما قدّمناه ، ثمّ لو سلمناه تسليم جدل ، قلنا : هذا دليل لنا على المسألة ، دون المخالف فيها ، لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، واجه بخطابه البالغين ولم يواجه الأطفال والمجانين فظاهر الكلام على هذا الترتيب ، لا ينصرف عن المواجهين إلى غيرهم إلا بدليل ، والدليل يمنع من خالف القوم في الوصف ، وفارقهم في المعنى ، لعدم كمال العقل ، لاستحالة إرادتهم بالمواجهة ، والتفهيم ، والمخاطبة ، ووجوب كون الداخل في المواجهة له ، من حكم جواب المخاطبة ، ما كان لمن قصدهم المخاطب بالمواجهة ، مع قوله تعالى في الأمر له بأخذ الصدقات ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) (2) والطفل لا ذنب له ، فتكون الصدقة تطهيرا له منه ، والمجنون لا جرم معه ، فتكون التزكية كفارة له عنه ، على ما أسلفنا القول في ذلك ، وشرحناه.

والملك شرط في الأجناس كلها وكذلك النصاب ، والسوم شرط في المواشي لا غير ، وحئول الحول شرط في المواشي ، والدراهم ، والدنانير ، لأنّ

ص: 431


1- مسند أحمد بن حنبل ج 1 ، ص 233 مضمون الخبر
2- التوبة : 103.

الغلات لا يراعى فيها حئول الحول ، فهذه شرائط الوجوب.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده (1) لا تجب الزكاة ، في الإبل إلا بشروط أربعة : الملك ، والنصاب ، والسوم ، وحئول الحول. وكذلك قال في البقر ، والغنم ، والذهب ، والفضة ، فإنّه قال : شروط زكاة الذهب والفضة أربعة : الملك ، والنصاب والحول ، وكونهما مضروبين دنانير ودراهم.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الأظهر أن يزاد في شروط الإبل ، والبقر ، والغنم ، شرطان آخران ، وهما إمكان التصرف ، بلا خلاف بين أصحابنا ، وكمال العقل ، على الصحيح من المذهب ، على ما قدّمناه.

فأمّا الذهب والفضة ، فيزاد الشرطان ، بلا خلاف ، على رأي شيخنا (2) وعند جميع أصحابنا ، لأنّ الذهب ، والفضة ، إذا كانا للأطفال ، والمجانين ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ الزكاة غير واجبة فيهما ، عليهما ، فإذن لا بدّ من اعتبار شروط ستة ، في الذهب والفضة ، فليلحظ ذلك ، فما المعصوم إلا من عصمه اللّه ، فانّ الخواطر لا تحضر في كل وقت ، واللّه الموفق للصواب.

فأمّا شرائط الضمان ، فاثنان : الإسلام ، وإمكان الأداء ، لأنّ الكافر وإن وجبت عليه الزكاة ، لكونه مخاطبا بالعبادات كلّها ، عندنا ، فلا يلزمه ضمانها إذا أسلم ، وإمكان الأداء ، لا بدّ منه ، لأنّ من لا يتمكن من الأداء ، وإن وجبت عليه ، ثمّ هلك المال ، لم يكن عليه ضمان ، ونحن نذكر الجميع ، في فصل ، ثمّ نذكر لكل جنس من ذلك ، بابا مفردا ، إن شاء اللّه.

فصل في الأصناف التي تجب فيها الزكاة على الجملة وكيفيّة ذلك

فرض الزكاة يتعلّق بثلاثة أصناف : الأموال الصامتة ، والحرث ، والأنعام.

ص: 432


1- الجمل والعقود : كتاب الزكاة فصل في زكاة الإبل ، بزيادة ( وحئول الحول )
2- في ط وج : شيخنا.

فأمّا فرض زكاة الصامتة ، فيختص بكل حر ، بالغ ، كامل العقل ، بشرط أن يكون الصامت ، بالغا نصابه ، حائلا عليه الحول ، من غير أن يتخلله نقصان ، ولا تبدلت (1) أعيانه ، متمكنا مالكه من التصرّف فيه ، بالقبض أو الاذن ، فإذا تكاملت هذه الشروط ، وبلغ العين عشرين مثقالا ، والورق مائتي درهم ، مضروبة ، منقوشة ، للتعامل ، فإذا تكسرت هذه المضروبة دنانير ودراهم ، وصارت قراضة ، فحكمها حكم الدنانير والدراهم ، لأنّها ليست حليا ، ولا سبائك ، وقد ذكر هذا شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة ، في زكاة الغنم (2).

ففي العين نصف دينار ، وفي الورق خمسة دراهم ، ولا شي ء فيما زاد على ذلك ، حتى تبلغ زيادة العين أربعة دنانير ، وزيادة الورق أربعين درهما ، فيكون في تلك عشر دينار ، وفي هذه درهم ، ثمّ على هذا الحساب بالغا ما بلغ العين والورق من كل عشرين مثقالا نصف مثقال ، ومن كل أربعة دنانير ، بعد العشرين عشر مثقال ، وفي كلّ مائتي درهم خمسة دراهم ، ومن كل أربعين درهما درهم ، ولا زكاة فيما بين النصابين.

ومن مسنون الزكاة تزكية البضائع ، إذا حال عليها الحول ، وهي تفي برأس المال ، أو زيادة ، تحسب ما ابتيعت به ، من عين أو ورق ، كزكاة العين والورق ، ومن ذلك أن يقرر ذو المال ، على ماله في كل جمعة ، أو في كل شهر ، شيئا معينا ، يخرجه في أبواب البرّ ، ومن ذلك افتتاح النهار ، وختامه بالصدقة ، وافتتاح السفر ، والقدوم منه بها ، وإعطاء السائل ، ولو بشق تمرة ، واصطناع ذوي اليسار الطعام في كلّ يوم ، أو كلّ جمعة ، أو كلّ شهر لذوي الفاقة من المؤمنين ، وتفقد مخلّفي المؤمن ، في غيبته ، وبعد وفاته ، وقرض ذي الحاجة ، وإنظاره إلى ميسرة وتحليل المؤمن بعد وفاته ، ممّا في ذمّته من الدين ، والتكفل به لمدينه.

ص: 433


1- في ج ط : أن تتبدّل.
2- المبسوط : كتاب الزكاة ، فصل في زكاة الغنم ، ص 201 ( ولا يخفى ان ما يوجد فيه لا يكون بعين ما ذكره ).

وأمّا فرض زكاة الحرث ، فمختص بالحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، دون سائر ما تخرجه الأرض ، من الحبوب ، والثمار ، والخضر ، إذا بلغ كل صنف منها بانفراده ، خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعا ، والصاع تسعة أرطال بالبغدادي ، يكون ذلك ألفين وسبعمائة رطل ، بأوزان بغداد ، على كل من وجب عليه زكاة الدراهم والدنانير ، على ما قدّمنا القول فيه ، وشرحناه ، وقوّيناه بالأدلة ، وأوضحناه ، بعد المؤن التي تنمي الغلة بها ، وتزيد ، ولها فيها صلاح ، إمّا من حفاظ ، أو زيادة ريع فيها ، وبعد حق المزارع ، وخراج السلطان ، إن كانت الأرض خراجيّة ، أن يخرج منه ، إن كان سقى حرثه سيحا ، أو بعلا ، أو عذبا ، العشر ، وإن كان سقى بالغرب ، والنواضح ، فنصف العشر ، وإن سقى بعض مدّة الحاجة سيحا ، وبعض تلك المدة بالنواضح ، والغروب ، زكّى بأكثر المدّتين ، فان تساوت مدة الشربتين زكّى نصفه بالعشر ، ونصفه بنصف العشر ، ويزكّى ما زاد على النصاب ، بزكاته ، ولو كانت حفنة واحدة ، ولا يلزم (1) تكرير الزكاة فيه ، وإن بقي في ملك مزكّيه أحوالا.

ومن مسنون صدقة الحرث ، أن يزكّي كل ما دخل المكيال ، من الحبوب (2) إذا بلغ كل جنس منها ، نصاب ما يجب فيه الزكاة ، وهو خمسة أوسق ، بالعشر ، أو نصف العشر ، فإن نقص عن ذلك ، تصدّق بما تيسر ، ومن ذلك الصدقة ، حين صرام النخل ، وقطاف الكرم ، وحصاد الزرع ، بالضغث من الزرع ، والضغثين ، والعذق بكسر العين ، والعذقين ، والعنقود من العنب ، والعنقودين ، فإذا صار الرطب تمرا ، والعنب زبيبا ، والغلة حبا ، وأراد المالك رفع ذلك ، تصدّق منه بالقبضة ، والقبضتين ، ومن ذلك إباحة عابر السبيل ، تناول اليسير ، مما تنبته الأرض ، من الثمار ، والمباطخ.

وأمّا فرض زكاة الأنعام ، فمتعين على كل من وجبت عليه زكاة الدنانير

ص: 434


1- في ط وج : ولا يلزمه
2- في ط : من الحبوب والثمار

والدراهم ، بشرط أن تكون سائمة ، ويبلغ كل جنس منها النصاب ، ويحول عليه الحول كاملا ، لا يتخلله نقصان ، ولا يتبدّل أعيانه ، ويكون المالك متمكنا من التصرف فيه طول الحول ، غير ممنوع منه بضلال ، أو اغتصاب ، ولكل منها حكم.

فأمّا الإبل فلا شي ء فيها ، حتى تبلغ خمسا ، ففيها شاة ، وفي عشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياه ، وفي عشرين ، أربع شياه ، وفي خمس وعشرين ، خمس شياه ، وفي ست وعشرين ، بنت مخاض ، وهي التي قد كملت حولا ، وسمّيت بصفة أمها المتمخضة بالحمل ، إلى خمس وثلاثين فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون ، وهي التي قد كملت حولين ، ودخلت في الثالث ، وسمّيت بأمها اللبون ، بأختها ، إلى خمس وأربعين فإذا بلغت ستا وأربعين ، ففيها حقة ، وهي التي قد كمل لها ، ثلاث سنين ، ودخلت في الرابعة ، وسمّيت بذلك من حيث يحق لها ، أن يطرقها الفحل ، ويحمل على ظهرها ، إلى ستين. فإذا بلغت احدى وستين ، ففيها جذعة بفتح الذال ، وهي التي قد كمل لها أربع سنين ، ودخلت في الخامسة ، إلى خمس وسبعين ، فإذا بلغت ستا وسبعين ، ففيها بنتا لبون إلى تسعين. فإذا زادت واحدة ، ففيها حقتان ، إلى مائة وعشرين. فإذا زادت على ذلك ، أسقط هذا الاعتبار ، واخرج من كل أربعين ، بنت لبون ، ومن كل خمسين حقة.

ومن وجبت عليه سن ، ولم تكن عنده ، وعنده أعلى منها بدرجة ، أخذت منه ، واعطي شاتين ، أو عشرين درهما فضة. وإن كان عنده أدنى منها بدرجة ، أخذت منه ، ومعها شاتان ، أو عشرون درهما. وقال بعض أصحابنا : وإن كان بينهما درجتان فأربع شياه. وإن كان ثلاث درج ، فست شياه ، أو ما في مقابلة ذلك ، من الدراهم ، وهذا ضرب من الاعتبار ، والقياس ، والمنصوص عن الأئمة عليهم السلام ، والمتداول من الأقوال ، والفتيا بين أصحابنا أنّ هذا الحكم فيما يلي السن ، الواجبة من الدرج ، دون ما بعد عنها ، وحكم البخت والنجب حكم الإبل العربية.

وأمّا زكاة البقر ، فلا شي ء فيها حتى تبلغ ثلاثين ، ففيها تبيع حولي ، أو

ص: 435

تبيعة ، مخيّر بين الذكر والأنثى ، في النصاب الأول في البقر (1) ، إلى تسع وثلاثين ، فإذا بلغت أربعين ، ففيها مسنة ، ثمّ على هذا ، بالغا ما بلغت.

ولا يجوز إخراج الذكران في النصاب الثاني من البقر ، إلا بالقيمة ، من كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، وحكم الجواميس حكم البقر.

فأمّا زكاة الغنم ، فلا شي ء فيها حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغتها ، ففيها شاة ، إلى عشرين ومائة. فإذا زادت واحدة ، ففيها شاتان ، إلى مائتين. فإذا زادت واحدة ، ففيها ثلاث شياه ، إلى ثلاثمائة ، فإذا زادت على ذلك ، أسقط هذا الاعتبار ، وأخرج من كل مائة شاة ، بالغا ما بلغت الغنم ، وحكم المعز حكم الضّأن.

وقال بعض أصحابنا : إذا زادت الغنم على ثلاثمائة واحدة ، ففيها أربع شياه ، إلى أربعمائة. فإذا بلغت أربعمائة ، أسقط هذا الاعتبار ، واخرج من كل مائة شاة ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، والأول مذهب السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وسلار ، وغيرهم من المشيخة ، وهو الأظهر ، والأصح ويعضده أنّ الأصل براءة الذمة ، وأمّا الإجماع ، فغير منعقد على المسألة ، بل بين أصحابنا فيها خلاف ظاهر ، فما بقي إلا لزوم الأصول ، من حفاظ الأموال على أربابها ، وإخراجها من أيديهم يحتاج إلى دليل شرعي ، ويقوّي ذلك أيضا قوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (2). وقال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، في جمله وعقوده ، في فصل زكاة الغنم : العفو خمسة ، أولها تسعة وثلاثون ، والثاني ثمانون ، والثالث أيضا ثمانون ، وهو ما بين مائة واحد وعشرين ، إلى مائتين وواحدة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا سهو منه رحمه اللّه ، ووهم في الحساب ، لأنّ العفو الثالث تسعة وسبعون ، ثمانون إلا واحدة ، والسبر بيننا وبينه ، لأنّ الحساب كما يقال ، عبد صالح ، وسلار في رسالته قد حقّق ذلك ، وقال :

ص: 436


1- ج : الأوّل الى
2- محمد : 36.

النصاب الثالث ، في الغنم ثمانون ، ونعم ما قال ، لأنّ تمام العفو الذي هو ثمانون إلا واحدة ، فإذا تمت واحدة ، صار ثمانين ، فكمل نصابا (1).

وقد يوجد في بعض نسخ الجمل والعقود (2) ، العفو الثالث ثمانون ، إلا واحدة ، وخط المصنّف بيده ، ثمانون ، من غير استثناء ، وقد استدرك شيخنا في مبسوطة على نفسه فقال : الثالث تسعة وسبعون (3). ونعم ما قال.

وقد روي أنّه لا يعدّ في شي ء من الأنعام ، فحل الضراب ، والأظهر أنّه يعدّ ، وذهب سلار من أصحابنا إلى أنّ الذكورة لا زكاة فيها ، وهذا القول لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، لأنّه بخلاف الإجماع ، وما عليه عموم النصوص.

ولا يعدّ ما لم يحل عليه الحول ، في الملك متبع أو منتوج.

ولا زكاة فيما بين النصابين ، من الأعداد.

ولا تؤخذ ذات عوار ، ولا هرمة ، بل تؤخذ من أوساطها ، ولا يجوز أن يكون له أقلّ من سبعة أشهر ، إن كان من الضأن ، فإن كان من المعز فسنة ، وقد دخل في جزء من الثانية.

ولا يؤخذ الربى ، وهي التي تربي ولدها ، ومثل الربى من الضأن ، الرغوث (4) ومن بنات آدم النفساء.

ولا يؤخذ المخاض ، وهي الحامل ، ولا الأكولة ، وهي السمينة المعدّة للأكل ، ولا يؤخذ الفحل ، وأسنان الغنم.

أوّل ما تلد الشاة ، يقال لولدها سخلة ، ذكرا كان أو أنثى ، في الضأن والمعز سواء ، ثم يقال بعد ذلك بهمة ، ذكرا كان أو أنثى ، فهما سواء ، فإذا بلغت أربعة أشهر ، فهي من المعز ، جفر بالجيم المفتوحة ، والفاء المسكنة ، والراء غير المعجمة ،

ص: 437


1- ج : يكمل نصابا.
2- والنسخة هي التي بأيدينا اليوم اعنى المطبوع من قبل مؤسسة النشر الإسلامي بقم المشرفة.
3- المبسوط : كتاب الزكاة ، فصل في زكاة الغنم ، ص 199
4- في ط وج : الرغوث من المغر.

للذكر والأنثى جفرة ، وجمعها جفار ، فإذا جازت أربعة أشهر ، فهي العتود ، وعريض ، ومن حين تولد ، إلى هذه الغاية ، يقال لها عناق للأنثى ، وللذكر جدي ، فإذا استكمل سنة ، ودخل في جزء من الثانية ، فالأنثى عنز ، والذكر تيس.

ومن مسنون صدقة الأنعام ، أن يجعل من أصوافها ، وأوبارها ، وإشعارها ، وألبانها ، قسط للفقراء ، ويمنح الناقة ، والشاة ، والبقرة الحلوبة ، من لا حلوبة له ، ويعان بظهر الإبل ، وأكتاف البقر ، على الجهاد ، والحجّ ، والزيارة ، من لا ظهر له ، ويسعد بذلك الفقراء ، على مصالح دينهم ، ودنياهم.

ومن وكيد السنة أن تزكى ، إناث الخيل السائمة ، بعد حئول الحول ، عن كلّ فرس عتيق ديناران ، وعن كل هجين دينار.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الأوّل من مسائل خلافه. مسألة المتولد بين الظباء والغنم إن كان يسمّى غنما ، اخرج منه ، وإن كان لا يسمّى غنما ، لا يخرج منه ، الزكاة ، ثم قال في استدلاله ، وقد قيل إن الغنم المكية ، آباؤها الظباء ، وتسمية ما لولد بين الظباء والغنم ، رقل ، وجمعه رقال ، لا يمتنع من تناول اسم الغنم له ، فمن أسقط عنها الزكاة ، فعليه الدلالة (1) هذا آخر المسألة.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب رحمه اللّه : ما وجدت في كتب اللغة ، في الذي يبنى من الراء والقاف واللام ، ولا الراء والفاء واللام ، ولا الزاء والقاف واللام ، ولا الزاء والفاء واللام ، ما يقارب ما ذكره شيخنا ، وأظنّ هذه الصورة ، جرى فيها تصحيف ، أو طغيان قلم ، إمّا من الكتاب الذي نقلت منه ، أو من النساخ ، لخلل في نظام الكتابة ، وقصور فيها ، فرأى الكاتب النون منفصلة من القاف ، والدال كان فيها طول ، فظنّها لاما وظنّ النون المنفصلة عن القاف راء فكتبها رقل ، وانّما هي نقد ، محركة القاف ، والنقد بالتحريك ،

ص: 438


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، في زكاة الغنم ، مسألة 32.

والدال غير المعجمة ، جنس من الغنم ، قصار الأرجل ، قباح الوجوه ، يكون بالبحرين ، هكذا ذكره الجوهري ، في كتاب الصحاح ، وغيره من أهل اللغة ، وقال ابن دريد في الجمهرة : دقال الغنم ، صغارها يقال شاة دقلة ، على وزن فعلة ، إذا كانت صغيرة ، بالدال غير المعجمة المفتوحة ، والقاف ، وهذا أقرب إلى تصحيف الكلمة ، والأول هو الذي يقتضيه ظاهر الكلام ، فعلى قول ابن دريد في الجمهرة ، يكون الناسخ ، قد قصّر مدّه الدال الفوقانية ، فظنها راء وهذا وجه التصحيف.

والزكاة على ضربين ، مفروض ومسنون ، وكلّ واحد منهما ، ينقسم قسمين ، فقسم منهما ، زكاة الأموال ، والثاني زكاة الرءوس ، وهي المسمّاة بزكاة الفطرة ، فأمّا زكاة المال ، فيحتاج في معرفتها إلى ستة أشياء ، أحدها معرفة وجوب الزكاة ، والثاني معرفة من تجب عليه ، ومن لا تجب ، والثالث معرفة ما تجب فيه الزكاة ، وما لا تجب ، والرابع معرفة المقدار الذي تجب فيه ، ومعرفة مقدار ما لا تجب ، والخامس معرفة الوقت الذي تجب فيه ، والسادس معرفة من يستحق ذلك ، ومقدار ما يعطى من أقلّ وأكثر.

وأمّا زكاة الرءوس ، فيحتاج فيها أيضا إلى معرفة ستة أشياء ، أحدها معرفة وجوبها ، والثاني معرفة من تجب عليه ، والثالث معرفة ما يجوز إخراجه وما لا يجوز ، والرابع معرفة مقدار ما يجب ، والخامس معرفة الوقت الذي تجب فيه ، والسادس من المستحق لها ، وكم أقلّ ما يعطى ، وأكثر ، وليس يكاد يخرج عن هذه الضروب ، شي ء ممّا يتعلّق بأبواب الزكاة ، ونحن نأتي عليها قسما قسما ، ونستوفيه على حقّه إن شاء اللّه تعالى.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة : ذهب الشافعي ، إلى أنّ لجام الدابة ، لا يجوز أن يكون محلّى بفضة ، وهو حرام ، ثمّ أورد أقوال أصحاب الشافعي ، قالوا : المصحف لا يجوز أن يحلّيه بفضة ، وأمّا تذهيب المحاريب ، وتفضيضها ، قال أبو العباس : ممنوع منه ، وكذلك قناديل

ص: 439

الفضة والذهب ، قال والكعبة وسائر المساجد في ذلك سواء ، قال شيخنا أبو جعفر : لا نص لأصحابنا ، في هذه المسائل ، غير أنّ الأصل الإباحة ، فينبغي أن يكون ذلك مباحا (1).

قال محمّد بن إدريس : هذه المسائل ، بعضها منصوص على تحريمها ، والبعض الآخر معلوم تحريمه على الجملة ، لأنّه داخل في الإسراف ، والإسراف فعله محرّم بغير خلاف ، وأمّا تفضيض المحاريب ، فلا خلاف بيننا في أنّ ذلك لا يجوز ، وأنّه حرام ، وان تزويق المساجد ، وزخرفتها لا يجوز ، منصوص على ذلك ، عن الأئمة عليهم السلام ، قد أورد ذلك شيخنا في نهايته (2) ، وغيره من أصحابنا في كتبهم ، وان اتخاذ الأواني والآلات من الفضة والذهب ، عندنا محرم ، لأنّه من السرف ، والقناديل أواني ، وحلة المصحف ، ولجام الدابة ، من السرف أيضا ، وإن ذلك غير مشروع ، ولو كان جائزا لنقل ، كما نقل أمثاله من المباحات ، مثل الخاتم الفضة ، والمنطقة ، وحلية السيف ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل.

ثمّ انّ شيخنا قال في مسألة قبل هذه : إذا كان له لجام لفرسه محلّى بذهب أو فضة ، لم تلزمه زكاته ، واستعمال ذلك حرام ، لأنّه من السرف (3) فلتلحظ المسألة في مسائل خلافه ، ويحصّل ما قلناه.

باب وجوب الزكاة ومعرفة من تجب عليه

الزكاة المفروضة في شريعة الإسلام واجبة ، بدليل القرآن ، وإجماع المسلمين على كلّ مكلف حر ، رجلا كان أو امرأة ، وهم ينقسمون قسمين ، قسم منهم إذا لم يخرجوا ما يجب عليهم الزكاة ، كان ثابتا في ذممهم ، وهم جميع من هو على ظاهر الإسلام.

ص: 440


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، في استعمال الذهب والفضة وأخذ الآلات والأواني منها ، مسألة 102
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب فضل المساجد والصلاة فيها.
3- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 91.

والقسم الآخر متى لم يخرجوا ما يجب عليهم من الزكاة ، لم يلزمهم قضاؤه ، وهم جميع من خالف الإسلام ، فإنّ الزكاة ، وإن كانت واجبة عليهم عندنا ، هي وباقي العبادات واجبة ، لأنّهم مخاطبون بالشرعيات ، فإذا لم يخرجوا الزكاة لكفرهم ، فمتى أسلموا لا تجب عليهم إعادتها.

وأمّا المجانين ، ومن ليس بكامل العقل ، فلا يجب عليهم شي ء ، من الزكوات ، على ما مضى شرحنا لذلك ، وحكم الأطفال ، حكم من ليس بعاقل من المجانين ، ومن ليس بكامل العقل ، فإنّه لا يجب في أموالهم الصامتة ، وغير الصامتة ، على ما اخترناه الزكاة.

فإن اتجر متجر بأموالهم نظرا لهم ، روي (1) أنّه يستحب له ، ان يخرج من أموالهم الزكاة ، وجاز له أن يأخذ من أموالهم ما يأكله قدر كفايته ، وإن اتجر لنفسه دونهم ، وكان في الحال متمكنا من ضمان ذلك المال ، كانت الزكاة عليه ، والربح له ، فإن لم يكن متمكنا في الحال ، من مقدار ما يضمن به مال الطفل ، وتصرّف فيه لنفسه ، من غير وصية ، ولا ولاية ، لزمه ضمانه ، وكان الربح لليتيم ، ويخرج منه الزكاة ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في نهايته (2) وهذا غير واضح.

ولا يجوز لمن اتجر في أموالهم ، أنّ يأخذ الربح ، سواء كان في الحال متمكنا من مقدار ما يضمن به مال الطفل ، أو لم يكن ، والربح في الحالين معا ، لليتيم.

ولا يجوز للوليّ والوصيّ أن يتصرّف في المال المذكور ، إلا بما يكون فيه صلاح المال ، ويعود نفعه إلى الطفل ، دون المتصرف فيه ، وهذا هو الذي يقتضيه أصل المذهب ، فلا يجوز العدول عنه بخبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وانّما

ص: 441


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب عليه.
2- النهاية : كتاب الزكاة ، باب معرفة وجوب الزكاة ومعرفة من تجب عليه.

أورده رحمه اللّه إيرادا لا اعتقادا.

باب ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب وما يستحب فيه الزكاة

الذي تجب فيه الزكاة ، فرضا لازما عند أهل البيت عليهم السلام تسعة أشياء : الذهب والفضة إذا كانا مضروبين ، دنانير ودراهم ، منقوشين للتعامل ، فإذا كانا سبائك ، أو حليا ، فلا يجب فيهما الزكاة ، سواء قصد صاحبهما الفرار بهما من الزكاة أو لم يقصد.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : متى فعل ذلك قبل حال وجوب الزكاة ، استحب له أن يخرج منهما الزكاة ، وإن جعله كذلك بعد دخول الوقت لزمته الزكاة على كل حال (1). قوله رحمه اللّه : وإن جعله كذلك بعد دخول الوقت لزمته الزكاة على كل حال ، هذا لا خلاف فيه بين المسلمين ، وانّما الخلاف في جعله كذلك قبل دخول الوقت ، فذهب فريق من أصحابنا إلى أنّ الزكاة واجبة عليه بالفرار ، وقال فريق منهم لا تجب ، وهو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، وهو انّ الإجماع منعقد على انه لا زكاة إلا في الدنانير والدراهم ، بشرط حئول الحول ، والسبائك والحلي ليسا بدنانير ودراهم ، والإنسان مسلّط على ماله ، يعمل فيه ما شاء ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته. وقال في جمله وعقوده (2) بخلاف ذلك.

وذهب سيدنا المرتضى رحمه اللّه ، إلى أنّه لا زكاة في ذلك ، ذهب إليه في الطبريات ، في مسألة ذكر الشفعة ، وقال : إذا فرّ الرجل بسهامه من دار ، فوهبها له ، ولم يأخذ منه عن ذلك ثمنا ، وأعطاه ذلك الموهوب له شيئا ، على سبيل

ص: 442


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب.
2- الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل 8 في ذكر ما يستحب فيه الزكاة.

الهدية ، والهبة ، سقط حق الشفعة عن هذا الموهوب ، لأنّه عقد بغير عوض ، ولم يلزمه فيه الشفعة ، بخروجه عن الصفة التي يستحق معها الشفعة.

فإن قال : ألستم تروون أنّ من فر من الزكاة ، بأن سبك الدراهم والدنانير سبائك ، حتى لا تلزمه الزكاة ، وما جرى هذا المجرى ، من فنون الهرب ، من الزكاة ، فإن الزكاة تلزمه ، ولا ينفعه هربه.

قلنا : ليس يمتنع أن يكون لزوم الزكاة من هرب من الزكاة ، لسبك السّبائك ، وما أشبهها ، لم يجب عليه بالسبب الأوّل الذي يجب له فيه الزكاة في الأصل ، لأنّ الزكاة لا تجب عندنا فيما ليس بمضروب من العين والورق ، وأن تكون الزكاة انّما تلزمه هاهنا عقوبة على فراره من الزكاة ، لا لأنّ هذه العين في نفسها تستحق الزكاة فيها ، ويمكن أن يكون ما ورد من الرواية في الأمر بالزكاة لمن هرب من الزكاة ، هو على سبيل التغليظ والتشديد ، لا على سبيل الحتم والإيجاب (1) هذا آخر كلام السيد المرتضى.

والإبل ، والبقر ، والغنم ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وكل ما عدا هذه التسعة الأجناس فإنّه لا تجب فيه الزكاة.

ولا زكاة على مال غائب ، إلا إذا كان (2) صاحبه متمكنا منه ، اي وقت شاء ، بحيث متى رامه قبضه ، فإن كان متمكنا منه ، لزمته الزكاة ، وقد وردت الرواية : إذا غاب عنه سنين ، ولم يكن متمكنا ، منه فيها ، ثم حصل عنده ، يخرج منه زكاة سنة واحدة (3) وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

وقال بعض أصحابنا : زكاة الدين إن كان تأخّره من جهة من هو عليه ، فالزكاة لازمة له ، وإن كان تأخّره من جهة من هو له ، فزكاته عليه.

وقال الآخرون من أصحابنا : زكاته على من هو عليه على كل حال ، ولم

ص: 443


1- رسائل الشريف المرتضى : ج 1 ص 226 مسألة (6) من المسائل الطبريات ذكرها مختصرا.
2- في ط وج : إذا لم يكن
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب الزكاة ، ح 12 و 13.

يفرّق بالفرق الذي فرّقه الأولون ، فمن جملة من قال بهذا ، ابن أبي عقيل ، في كتابه الموسوم ، بكتاب المتمسك بحبل آل الرسول ، فإنّه قال : ولا زكاة في الدين ، حتى يرجع إلى صاحبه ، فإذا رجع إليه فليس فيه زكاة ، حتى يحول عليه الحول في يده ، وزكاة الدين على الذي عليه الدين ، وإن لم يكن له مال غيره ، إذا كان مما تجب فيه الزكاة ، إذا حال عليه الحول في يده ، بذلك جاء التوقيف عنهم عليهم السلام. ثمّ قال : ومن استودعه ماله ، وجب عليه زكاته ، إذا حال عليه الحول ، إذا كان ممّا تجب فيه الزكاة ، فإن قيل : فلم لا قلتم في الدين ، كما قلتم في المال المستودع ، إذا كان لك على رجل دين ، وهو عندك ممّن إذا اقتضيته ، أعطاك. قال : قيل له : الفرق بينهما ، أنّ الدين مال مجهول العين ، ليس بقائم ، ولا مشار إليه ، ولا زكاة في مال هذا سبيله ، والوديعة ، سبيلها سبيل ما في منزلي يتولى أخذها بعينها ، وحرام على المستودع الانتفاع بها وإن ضاعت لم يضمن ، وليس له أن يتصرف فيها ، وليس كذلك الدّين ، هذا آخر كلام الحسن بن علي بن أبي عقيل رحمه اللّه. وكان من جلّة أصحابنا المصنّفين المتكلّمين ، والفقهاء المحصلين ، قد ذكره شيخنا أبو جعفر ، في فهرست المصنّفين ، وأثنى عليه ، وذكر كتابه ، وكذلك شيخنا المفيد كان يثني عليه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وإلى هذا القول ، والمذهب أذهب ، لوضوحه عندي ، ولأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن أوجب الزكاة على مال ليست أعيانه في ملكه ، يحتاج إلى دليل ، وهذا يدل على ما ننبّه عليه ، من فساد بيع الدين ، إلا على من هو عليه.

وإلى ما اخترناه ، ذهب شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في كتاب الإستبصار ، فإنّه قال : لا زكاة في الدين ، حتى يقبضه صاحبه ، ويحول بعد ذلك عليه الحول (1). بخلاف قوله في جمله وعقوده (2).

ص: 444


1- الاستبصار : باب 12 من أبواب الزكاة
2- الجمل والعقود : فصل من كتاب الزكاة.

وإلى هذا يذهب أبو علي بن الجنيد في الأحمدي ، ومال القرض ، ليس فيه زكاة على المقرض ، بل يجب على المستقرض ، إن تركه بحاله حتى يحول عليه الحول ، بغير خلاف ، بين أصحابنا في مال القرض ، وإن تصرف فيه بتجارة وما أشبهها ، لزمه الزكاة استحبابا ، إذا طلب برأس المال ، أو الربح.

ولا تجب في عروض التجارة الزكاة ، لا منها ولا من قيمتها ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، فإنّ قوما منهم يذهبون إلى وجوب الزكاة ، فيها ، يقوّمونها ذهبا وفضة ، ويخرجون من القيمة ، إذا حال الحول ، والأظهر من المذهب الأول ، وقد روي (1) أنّه إن طلبت أمتعة التجارة من صاحبها بوضيعة ، فلا زكاة عليه ، وإن طلبت بربح أو برأس المال ، فأخّر بيعها ، فعليه الزكاة وهي سنّة مؤكدة ، غير واجبة.

وكل ما يدخل الميزان والمكيال ، ما عدا الفواكه ، والخضر ، من الحبوب ، وغيرها ، مثل الدخن ، والذرة ، والقرطمان ، والأرز ، والسمسم ، والباقلاء ، والفول ، وهو الباقلاء والجلبان وهو الماش ، والجلجلان ، وهو السمسم ، وقال بعض أهل اللغة : هو الكربزة ، والدجر بالدال المفتوحة غير المعجمة ، والجيم المسكنة ، والراء غير المعجمة ، وهو اللوبيا ، والفث ، بالفاء المفتوحة ، والثاء المنقطة ، فوقها ثلاث نقط ، وهو برر الأشنان (2). والثفاء ، بالثاء المنقطة ، فوقها ثلاث نقط المضمومة ، والفاء وهو الخردل ، وبرز قوطنا ، وحبّ الرشاد ، والجزر ، والترمس ، وهو الباقلي المصري ، وبرز الكتان ، والقطنية وهو ما يقطن في البيوت من الحبوب ، ( مثل العدس ، والحمص ) بكسر القاف ، وتسكين الطاء ، وما أشبه ذلك ، يستحب أن يخرج منه الزكاة ، سنة مؤكدة ، إذا بلغ مقادير ما يجب فيه الزكاة من الغلات.

وأمّا الإبل ، والبقر ، والغنم ، فليس في شي ء منها زكاة إلّا إذا كانت سائمة ،

ص: 445


1- الوسائل : لا يوجد بعين ما ذكره نعم في باب 13 من أبواب الزكاة من كتاب الوسائل ، وفي باب 12 من أبواب الزكاة من مستدرك الوسائل يوجد ما يدل عليه.
2- ج : وهو الأشنان.

طول الحول بكماله ، ولا يعتبر الأغلب في ذلك.

ولا زكاة في شي ء من العوامل ، ولا المعلوف (1) ، فإن كانت المواشي معلوفة أو للعمل في بعض الحول ، وسائمة في بعضه ، حكم بالأغلب ، فإن تساويا فالأحوط إخراج الزكاة ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ومسائل خلافه (3) ، ثمّ قال في أثناء ذلك في مبسوطة : وإن قلنا لا تجب فيها الزكاة ، كان قويا ، لأنّه لا دليل على وجوب ذلك في الشرع والأصل براءة الذمة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : نعم ما قال شيخنا أخيرا ، فإن ما قوّاه هو الصحيح الذي لا يجوز خلافه ، وما قاله في صدر المسألة ، أضعف وأوهن من بيت العنكبوت.

وحكم الجواميس ، حكم البقر ، على ما قدّمناه ، وكذلك حكم المعز ، حكم الضأن ، وقد قدّمنا أيضا ذلك.

وأمّا الخيل ، ففيها الزكاة مستحبة ، بشرط أن تكون إناثا سائمة ، لا يلزم مالكها عنها مئونة ، فإن لزمته عنها مئونة ، فليس فيها شي ء مستحب.

وما تجب فيه الزكاة على ضربين ، منه ما يعتبر مع ملك النصاب ، حول الحول عليه ، وهو الدنانير ، والدراهم ، والإبل ، والبقر ، والغنم ، وما عدا ذلك لا اعتبار للحول فيه ، بل بلوغ حد النصاب فيه.

ويجوز إخراج القيمة عندنا في الزكاة ، دون العين المخصوصة ، فأمّا الكفارات فلا يجوز إخراج القيم فيها.

باب المقادير التي تجب فيها الزكاة وكمية ما تجب

أمّا الذهب ، فليس في شي ء منه زكاة ، ما لم يبلغ عشرين مثقالا ، فإذا بلغ

ص: 446


1- في ط وج : المعلوفات
2- المبسوط : كتاب الزكاة ، فصل في زكاة البقر ، باختلاف يسير.
3- الخلاف : كتاب الزكاة ، ذيل مسألة 14 ، والعبارة هكذا : ولا على العوامل شي ء ، إنما الصدقة على السائمة الراعية.

ذلك ، على الصفة المتقدّم بيانها ، كان فيه نصف دينار.

وقال بعض أصحابنا ، وهو ابن بابويه ، في رسالته : إنّه لا يجب في الذهب الزكاة ، حتى يبلغ أربعين مثقالا (1). وهذا خلاف إجماع المسلمين ، ثمّ ليس فيه شي ء ، ما لم يزد أربعة دنانير ، على العشرين الأوّلة ، فإذا أزاد ذلك كان فيه قيراطان ، مضافان إلى ما في العشرين دينارا ، وهو نصف دينار ، ثمّ على هذا الحساب ، في كل عشرين نصف دينار ، وفي كلّ أربعة بعد العشرين ، قيراطان بالغا ما بلغ الذهب.

وأمّا زكاة الفضة ، فليس فيها شي ء ، ما لم تبلغ مائتي درهم ، فإذا بلغت ذلك ، كان فيها خمسة دراهم ، ثم ليس فيها شي ء ، إلى أن تزيد أربعين درهما ، فإن زادت ذلك ، كان فيها درهم (2). ثم على هذا الحساب ، كلما زادت أربعين درهما كان فيها زيادة درهم ، بالغا ما بلغت ، وليس فيما دون الأربعين بعد المائتين شي ء من الزكاة.

وقال بعض أصحابنا : وإذا خلّف الرجل دراهم أو دنانير ، نفقة لعياله ، لسنة ، أو سنتين ، أو أكثر من ذلك ، وكان مقدار ما تجب فيه الزكاة ، وكان الرجل غائبا ، لم تجب فيها زكاة ، فإن كان حاضرا ، وجبت عليه الزكاة فيها ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (3) ، وهذا غير واضح بل حكمه حكم المال الغائب ، إن قدر على أخذه ، متى أراده ، بحيث متى رامه أخذه ، فإنّه يجب عليه فيه الزكاة ، سواء كان نفقة ، أو مودعا ، أو كنزه في كنز ، فإنّه ليس بكونه نفقة ، خرج من ملكه ، ولا فرق بينه وبين المال الذي له في يد وكيله ، ومودعه ، وخزانته ، وانّما أورده في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، فإنّه خبر من أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه.

وأمّا زكاة الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، فعلى حد سواء ، وليس في

ص: 447


1- رسالة ابن بابويه : كتاب الزكاة ، فيما تجب فيه الزكاة ص 67 الطبع الحديث.
2- ق : كان فيها ستة دراهم.
3- النهاية : كتاب الزكاة ، باب المقادير التي يجب فيها الزكاة.

شي ء من هذه الأجناس زكاة ، ما لم يبلغ كل جنس منها على حدته ، خمسة أوسق ، ومبلغه الفان وسبعمائة رطل ، بالبغدادي ، بعد إخراج المؤن المقدّم ذكرها ، أولا ومقاسمة السلطان ، إن كانت الأرض خراجية ، فإذا بلغ ذلك ، كان فيه العشر ، إن كان سقى سيحا ، أو شرب بعلا ، والبعل الذي يشرب بعروقه ، فيستغني عن السقي ، يقال قد استبعل النخل ، قال أبو عمرو البعل ، والعذي واحد ، وهو ما سقته السماء ، وقال الأصمعي : العذي ما سقته السّماء ، والبعل ما شرب بعروقه من غير سقي.

وإن كان مما قد سقي بالغرب ، والدوالي ، والنواضح ، وما أشبه ذلك كان فيه نصف العشر.

وإن كان ممّا سقي سيحا ، وغير سيح ، اعتبر الأغلب في سقيه ، فإن كان سقيه سيحا أكثر ، كان حكمه حكم ما يؤخذ منه العشر ، وإن كان سقيه بالغرب والدوالي وما أشبههما أكثر ، كان حكمه حكمه ، يؤخذ منه نصف العشر ، فإن استويا في ذلك ، يؤخذ من نصفه بحساب العشر ، ومن النصف الآخر بحساب نصف العشر ، وما زاد على خمسة أوسق ، كان حكمه حكم الخمسة الأوسق ، في أن يؤخذ منه العشر ، أو نصف العشر ، قليلا كان أو كثيرا.

وأمّا زكاة الإبل ، فليس في شي ء منها زكاة إلى أن تبلغ خمسا. فإذا بلغت ذلك كان فيها شاة ، وليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ عشرا. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها شاتان ، وليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ خمس عشرة. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها ثلاث شياه ، ثم كذلك ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ عشرين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها أربع شياه ، ثم كذلك ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ خمسا وعشرين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها خمس شياه.

والشاة المخرجة عنها ، إن كانت من الضأن ، فأقل ما يجزي الجذع ، محركة الذال ، وهو الذي تمّ له سبعة أشهر ، وإن كانت من المعز ، فلا تجزي إلا ما تمّ له سنة ، ودخل في جزء من الثانية.

ص: 448

فإن زاد على خمس وعشرين واحدة ، كانت فيها بنت مخاض ، أو ابن لبون ، وليس فيها شي ء بعد ذلك ، إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين ، وتزيد واحدة ، فإذا بلغت ذلك ، كان فيها بنت لبون ، وليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ ستا وأربعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها حقة ، وليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ إحدى وستين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها جذعة ، محركة الذال ، ثمّ ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ ستا وسبعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها بنتا لبون ، ثمّ ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ احدى وتسعين ، فإذا بلغت ذلك ، كان فيها حقّتان ، ثم ليس فيها شي ء إلى أن تبلغ مائة واحدى وعشرين. فإذا بلغت ذلك ، تركت هذه العبرة ، ويؤخذ من كل خمسين حقة ، ومن كل أربعين بنت لبون.

قال السيد المرتضى في انتصاره : إنّ الإبل ، إذا بلغت مائة وعشرين ، ثمّ زادت ، فلا شي ء في زيادتها ، حتى تبلغ مائة وثلاثين ، فإذا بلغتها ففيها حقّة واحدة. وابنتا لبون ، وأنّه لا شي ء في الزيادة ما بين العشرين والثلاثين (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

والذي تقتضيه أدلتنا ، وتشهد به أصول مذهبنا ، والمتواتر من الأخبار ، والإجماع منعقد عليه ، ما ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة : إذا بلغت الإبل مائة وعشرين ، ففيها حقتان ، بلا خلاف ، وإذا زادت واحدة ، فالذي يقتضيه المذهب ، أن تكون فيها ثلاث بنات لبون ، إلى مائة وثلاثين ، ففيها حقة وبنتا لبون ، إلى مائة وأربعين ، ففيها حقتان وبنت لبون (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وهذا هو الصحيح المتفق عليه ، المجمع ، والسيد المرتضى ، قد رجع عمّا قاله ، في جواب الناصريات (3) ، وحقق ذلك ، وناظر الفقهاء على صحة مذهبنا.

ص: 449


1- الانتصار : كتاب الزكاة ، المسألة الخامسة.
2- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 3
3- الناصريات : كتاب الزكاة ، مسألة 119.

فإن كان الذي يجب عليه زكاة الإبل ، ليس معه عين ما يجب عليه ، جاز أن يعطي قيمته ، فإن لم يكن معه القيمة ، وكان معه من غير السن الذي وجب عليه ، جاز أن يؤخذ منه ، فإن كان دون ما يستحق عليه ، أخذ منه مع ذلك ما يكون تماما للذي وجب عليه. وإن كان فوق الذي يجب عليه ، أخذ منه وردّ عليه ما فضل له ، مثال ذلك ، انّه إذا وجبت عليه بنت مخاض ، وعنده ابن لبون ، أخذ منه ذلك نصا ، لا بالقيمة عندنا ، وليس عليه شي ء ، ولا له شي ء ، فإن كان عنده بنت لبون ، وقد وجبت عليه بنت مخاض ، أخذت منه ، وأعطاه المصدّق بتشديدة واحدة على الدال ، وهو العامل ، شاتين أو عشرين درهما. فإن كانت قد وجبت عليه بنت لبون ، وعنده بنت مخاض ، أخذت منه ، وأخذ معها شاتان ، أو عشرون درهما. وإذا وجبت عليه حقّة ، وليست عنده ، وعنده بنت لبون ، أخذت منه ، وأعطى معها شاتين ، أو عشرين درهما. وإن كانت قد وجبت عليه بنت لبون وعنده حقّة ، أخذت منه وردّ عليه شاتان أو عشرون درهما. وإذا أوجبت عليه جذعة ، وليست عنده ، وعنده حقّة ، أخذت منه وأعطى معها شاتين أو عشرين درهما. فإن وجبت عليه حقّة ، وعنده جذعة ، أخذت منه ، وردّ عليه شاتان ، أو عشرون درهما.

وأمّا زكاة البقر ، فليس في شي ء منها زكاة ، إلى أن تبلغ ثلاثين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها تبيع ، أو تبيعة ، وهو الذي تمّ له حول كامل ، ودخل في جزء من الثاني ، وهو مخيّر بين الذكر والأنثى ، ثمّ ليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها مسنة ، وهي التي تمّ لها سنتان ، ودخلت في جزء من الثالث ، ولا يجزي إلا الأنثى. وكل ما زاد على ذلك ، كان هذا حكمه ، في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ، وفي كل أربعين مسنّة ، بالغا ما بلغت.

وأمّا الغنم فليس فيها زكاة ، إلى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها شاة ، ثمّ ليس فيها شي ء إلى أن تبلغ مائة وعشرين. فإذا بلغت ذلك ،

ص: 450

وزادت واحدة كان فيها شاتان ، إلى أن تبلغ مائتين. فإذا بلغت ذلك ، وزادت واحدة ، كان فيها ثلاث شياه ، إلى أن تبلغ ثلاثمائة. فإذا بلغت ذلك ، وزادت واحدة ، طرحت هذه العبرة ، وأخذ من كل مائة شاة ، بالغا ما بلغت على الصحيح من الأقوال ، على ما قدّمنا القول فيه.

ومن حصل عنده من كل جنس تجب فيه الزكاة ، أقل من النصاب الذي فيه الزكاة ، وإن كان لو جمع لكان أكثر من النصاب ، والنصابين ، لم يكن عليه شي ء ، حتى يبلغ كل جنس منه الحد الذي تجب فيه الزكاة.

ولو أنّ إنسانا ملك من المواشي ، ما تجب فيه الزكاة ، وإن كانت في مواضع متفرقة ، وجب عليه فيها الزكاة.

وإن وجد في موضع واحد من المواشي ، ما تجب فيه الزكاة لملاك جماعة ، لم يكن عليهم فيها شي ء على حال ، وقول الرسول عليه السلام للعامل : لا تجمع بين متفرق ، ولا تفرق بين مجتمع (1) يريد به ، لا تجمع بين متفرق في الأملاك ، حتى تأخذ منه الزكاة ، وقوله لا تفرق بين مجتمع يريد به في الملك ، حتى لا يأخذ منه الزكاة ، لا ما يذهب إليه المخالف.

ولا بأس أن يخرج الإنسان ما يجب عليه من الزكاة ، من غير الجنس الذي تجب فيه بقيمته ، وإن أخرج من الجنس كان أفضل.

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذهب والفضة ، حتى يحول عليهما الحول ، بعد حصولهما في الملك ، فإن كان مع إنسان مال ، أقل مما تجب فيه الزكاة ، ثمّ أصاب تمام

ص: 451


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة في الوسائل والمستدرك لكن يوجد ما يدل عليه في باب 11 من أبواب زكاة الأنعام في الوسائل ، وفي باب 10 من أبواب زكاة الأنعام من المستدرك.

النصاب ، في وسط الحول ، فليس عليه فيه الزكاة ، حتى يحول على الجميع الحول. من وقت كمال النصاب ، وإذا استهل هلال الثاني عشر ، فقد حال على المال الحول ، ووجبت الزكاة في المال ليلة الهلال ، لا باستكمال جميع الشهر الثاني عشر ، بل بدخول أوّله.

فإن أخرج الإنسان المال عن ملكه ، أو تبدلت أعيانه ، سواء كان البدل من جنسه ، أو غير جنسه ، قبل استهلال الثاني عشر ، سقط عنه فرض الزكاة ، وإن أخرجه من ملكه بعد دخول الشهر الثاني عشر ، وجبت عليه الزكاة ، وكانت في ذمته ، إلى أن يخرج منه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في بعض تصنيفه : إنّه إن بادل بجنسه ، بنى على الحول المبدل ، وإن بادل بغير جنسه فلا يبنى على الحول المبدل ، والصحيح ما قلناه ، لأنّ هذه الطريقة ، تفريع المخالف ، ومقالته ، ذكره في المبسوط (1) ومسائل الخلاف (2) ، ومن المعلوم أنّه رحمه اللّه يذكر في هذا الكتاب ، أقوال المخالفين ولا يميز قولنا من قولهم ، فأمّا نصوص أصحابنا ، وكتبه كتب الأخبار ، وروايات أصحابنا ، فإنّه رحمه اللّه لم يتعرض فيها لشي ء من ذلك ، لأنّها خالية من ذلك ، وكذلك باقي أصحابنا المصنّفين ، لم يتعرضوا فيها لشي ء ، ولا أورده أحد منهم.

وأيضا إجماعنا ، بخلاف ما ذهب إليه في مبسوطة ، وأصول مذهبنا منافية لذلك ، لأنّهم عليهم السلام أوجبوا الزكاة في الأعيان ، دون غيرها من الذمم ، بشرط حئول الحول على العين ، من أوله إلى آخره ، فيما يعتبر فيه الحول ، ومن المعلوم أنّ عين البدل غير عين المبدل ، وانّ إحداهما لم يحل عليها الحول.

وأيضا الأصل براءة الذمة فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل.

ص: 452


1- المبسوط : ج 1 كتاب الزكاة ، فصل في زكاة الغنم ، ص 206.
2- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 63.

وأمّا الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، فلها أحوال ثلاثة : حال تجب فيها ، ولا يجب الإخراج ، ولا الضمان. وحال تجب فيها ، ويجب الإخراج ، ولا يجب الضمان. وحال يجب فيها ، ويجب الإخراج ، ويجب الضمان.

فالحالة الأوّلة ، عند اشتداد الحب ، واحمرار البسر ، وانعقاد الحصرم ، فإنّه تجب فيها الزكاة ، ولا يجب الإخراج منها ، وإن حضر المستحق ، ولا يجب الضمان إن تلفت ، والذي يدلّ على أنّ الزكاة تجب فيها ، أنّ مالكها إذا باعها بعد بدوّ الصلاح ، فإنّ الزكاة عليه ، دون المشتري ، ولو باعها قبل بدوّ الصلاح ، كانت الزكاة على المشتري ، إذا بدا الصلاح فيها وهي على ملكه.

فأمّا الحالة الثانية ، فعند الذراوة ، والكيل ، والتصفية ، والجداد بفتح الجيم ، وبالدالين غير المعجمتين ، وبعض المتفقهة يقول بالذالين المعجمتين ، والأوّل قول أهل اللغة ، وإليهم المرجع في ذلك ، والصرام بشرط التشميس ، والوزن تمرا فإنّه يجب الإخراج إذا حضر المستحق ، ولا يجب الضمان إذا لم يحضر المستحق.

فأمّا الحالة الثالثة ، فإنّه إذا حضر المستحق ، ولم يعطه المالك ، وذهب المال فإنّه يجب عليه الضمان ، لأنّه يجب عند هذه الحالة ، الإخراج ، ويجب الضمان إذا لم يخرجها.

فإذا أخرج زكاة هذه الغلات ، والثمار الأربع ، فليس فيها بعد ذلك شي ء ، وان حال عليها حول وأحوال.

وأمّا الإبل ، والبقر ، والغنم ، فليس في شي ء منها زكاة ، حتى يحول عليها الحول ، من يوم يملكها وكل ما لم يحل عليها الحول ، من صغار الإبل ، والبقر ، والغنم ، لا يجب فيها الزكاة ، ولا يعد مع أمهاته ، ولا منفردا.

ولا يجوز تقديم الزكاة قبل دخول وقتها. فإن حضر مستحق لها ، قبل وجوب الزكاة جاز أن يعطى شيئا ، ويجعل دينا عليه ، وقرضا. فإذا جاء الوقت ، وهو على الصفة التي يستحق معها الزكاة ، احتسب بذلك من الزكاة إن شاء وإن كان قد استغنى بعينها ، فيجوز أن يحتسب بذلك من الزكاة ، وإن كان قد

ص: 453

استغنى بغيرها ، فلا يجوز أن يحتسب بذلك من الزكاة ، وكان على صاحب المال أن يخرجها من رأس ، مستأنفا.

وقال بعض أصحابنا (1) : وكان على صاحب المال أن يخرجها من الرأس ، والأولى عند أهل اللغة ، ان يقال من رأس بغير الف ولام ، ولا يقال من الرأس ، ويجعلونه فيما يخطى فيه العامة.

وإذا حال الحول ، فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه ، إذا حضر المستحق ، فإن أخّر ذلك ، إيثارا به مستحقا ، غير من حضر ، فلا إثم عليه بغير خلاف ، إلا أنّه إن هلك قبل وصوله إلى من يريد إعطاؤه إياه ، فيجب على ربّ المال الضمان.

وقال بعض أصحابنا : إذا حال الحول ، فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه على الفور ، ولا يؤخّره ، فإن أراد على الفور ، وجوبا مضيّقا ، فهذا بخلاف إجماع أصحابنا ، لأنّه لا خلاف بينهم ، في أنّ للإنسان أن يخص بزكاته فقيرا دون فقير ، ولا يكون مخلا بواجب ، ولا فاعلا لقبيح ، وإن أراد بقوله على الفور ، يريد به أنّه إذا حضر المستحق ، فإنّه يجب عليه إخراج الزكاة ، فإن لم يخرجها طلبا وإيثارا بها لغير من حضر من مستحقها ، وهلك المال ، فإنّه يكون ضامنا وتجب عليه الغرامة للفقراء ، فهذا الذي ذهبنا إليه ، واخترناه.

فإن عدم المستحق له ، عزله من ماله ، وانتظر به المستحق ، فإن هلك بعد عزله ، من غير تفريط ، فلا ضمان ، ولا غرامة ، فإن حضرته الوفاة ، وصّى به أن يخرج عنه.

وما روي عنهم عليهم السلام ، من الأخبار ، في جواز تقديم الزكاة ، وتأخيرها (2) ، فالوجه فيه ما قدّمناه ، في أنّ ما تقدّم ، يجعل قرضا ، ويعتبر فيه ما ذكرناه ، وما يؤخر منه ، إنّما يؤخر انتظارا لمستحق ، فأمّا مع وجوده فالأفضل

ص: 454


1- وهو الشيخ رحمه اللّه في كتاب النهاية ، في باب الوقت الذي يجب فيه الزكاة.
2- الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 49 من أبواب المستحقين للزكاة.

إخراجه إليه على البدار ، هكذا أورده وذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وهو الذي قال في هذا الباب : وإذا حال الحول ، فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه ، على الفور ولا يؤخّره.

قال محمّد بن إدريس : وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، وتكلّمنا عليه قبل هذا ، والذي ذهب شيخنا إليه أخيرا ، هو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة ، وظواهر النصوص والإجماع.

قال بعض أصحابنا في كتاب له : إذا أيسر من دفع إليه شي ء من الزكاة ، قبل وجوبها ، على جهة القرض ، ثمّ حال الحول ، وهو موسر ، فإن كان أيسر بغير ما دفع إليه من المال ، فلا يجوز لمن وجبت عليه الزكاة ، الاحتساب بها ، ولا يجزى عنه ، وإن كان أيسر واستغنى بما دفع إليه ، فإنّها تجزي عن دافع الزكاة.

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضيه الأدلة ، ويحكم بصحته النظر ، وأصول المذهب انّه إذا كان عند حئول الحول ، غنيا ، فلا يجزى عن الدافع ، لأنّ الزكاة لا يستحقها الغني ، سواء كان غناه بها ، أو بغيرها ، على كل حال ، لأنّه وقت الدفع والاحتساب غنى ، وله مال وهو القرض ، لأنّ المستقرض يملك مال القرض ، دون القارض بلا خلاف بيننا ، وهو حينئذ غني ، وعندنا أنّ من عليه دين ، وله من المال الذهب والفضة بقدر الدين ، وكان ذلك المال الذي معه نصابا ، فلا يعطى من الزكاة ، ولا يقال أنّه فقير يستحق الزكاة ، بل يجب عليه إخراج الزكاة مما معه ، لأنّ الدين عندنا لا يمنع من وجوب الزكاة ، لأنّ الدين في الذمة ، والزكاة في العين.

باب مستحق الزكاة وأقلّ ما يعطى منها وأكثر

الذي يستحق الزكاة ، هم الثمانية الأصناف الذين ذكرهم اللّه تعالى في

ص: 455


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه الزكاة.

محكم التنزيل وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (1).

فأمّا الفقير فهو الذي لا شي ء معه ، وأمّا المسكين فهو الذي له بلغة من العيش ، لا يكفيه طول سنته وقال بعض أصحابنا عكس ذلك ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) وقال في جمله وعقوده (3) وفاق ما ذهبنا إليه ، واخترناه ، وهكذا في مسائل خلافه (4) ، ومبسوطة (5) ، وهو الصحيح من أقوال أهل اللغة والفقهاء ، لأنّ بين الفريقين اختلاف في ذلك ، والذي يدل على صحّة ذلك قوله تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (6) فسماهم مساكين ، ولهم سفينة بحرية ، تساوي جملة من المال ، وهذا بخلاف ما يذهب إليه المخالف في المسألة ، وقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) ووجه الدلالة من الآية أنّ القرآن نزل على لسان العرب ، ولغتها ، ومذاهبها ، ومخاطباتها ، وموضوع كلامها ، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم ، فلمّا كان الفقير أسوأ حالا من المسكين ، بدأ به تعالى ، ولا يلتفت إلى قول الشاعر :

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد

لأنّه لا يجوز العدول عن الآيتين من القرآن إلى بيت شعر. وأيضا فالبيت المتمسك به ، ليس فيه دلالة على موضع الخلاف ، لأنّ كل واحد من الفقير والمسكين ، إذا ذكر على الانفراد ، دخل الآخر فيه ، وانّما يمتاز أحدهما عن الآخر ، ويحتاج إلى الفرق إذا اجتمعا في اللفظ ، وآيات القرآن جمعتهما في اللفظ.

وأمّا العاملون عليها ، فهم الذين يسعون في جباية الصدقات.

ص: 456


1- التوبة : 60
2- النهاية : كتاب الزكاة ، باب مستحق الزكاة.
3- الجمل والعقود : كتاب الزكاة فصل 11 من مستحق الزكاة.
4- الخلاف : ج 2 كتاب قسمة الصدقات مسألة 10.
5- المبسوط : كتاب الزكاة كتاب قسمة الزكاة والأخماس والأنفال ص 246
6- الكهف : 79.

وامّا المؤلّفة قلوبهم : فهم الذين يتألفون ، ويستمالون إلى الجهاد ، فإنّهم يعطون سهما من الصدقات ، مع الغنى ، والفقر ، والكفر ، والإسلام ، والفسق ، لأنّهم على ضربين مؤلفة الكفر ومؤلفة الإسلام.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : المؤلفة ضرب واحد وهي مؤلفة الكفر ، والأوّل مذهب شيخنا المفيد ، وهو الصحيح ، لأنّه يعضده ظاهر التنزيل ، وعموم الآية ، فمن خصصها يحتاج إلى دليل ، والعامل يعطى مع الغنى ، والفقر ، ولا يجوز أن يعطى مع الفسق ، ولا يكون من بني هاشم ، لأنّ عمالة الصدقات حرمها الرّسول عليه السلام على بني هاشم قاطبة ، لأنّهم لا يجوز لهم أن يأخذوا الصدقة المفروضة. وقال قوم : يجوز ذلك ، لأنّهم يأخذون على وجه العوض ، والأجرة ، فهو كسائر الإجارات ، والأول هو الصحيح ، لأنّ الفضل بن العبّاس ، والمطلب بن ربيعة ، سألا النبي ، صلّى اللّه عليه وعلى آله أن يوليهما العمالة فقال لهما : الصدقة ، انّما هي أوساخ الناس ، وانّها لا تحل لمحمد وآل محمد هذا إذا كانوا متمكنين من الأخماس ، فأمّا إذا لم يكونوا كذلك ، فإنّه يجوز لهم أن يتولوا الصدقات ، ويجوز لهم أيضا أخذ الزكوات الواجبات عند الحاجة والاضطرار.

فأمّا موالي بني هاشم ، فإنّه يجوز لهم أن يتولوا العمالة ، ويجوز لهم أن يأخذوا من الزكوات ، بلا عمالة.

وسهم المؤلفة والعمال ساقط اليوم ، لأنّ المؤلف انّما يتألفه الإمام ، ليجاهد معه ، والعامل انّما يبعثه الإمام ، لجباية الصدقات.

( وَفِي الرِّقابِ ) وهم العبيد عندنا ، والمكاتبون ، بغير خلاف ، ويعتبر فيهم الإيمان والعدالة.

والغارمون ، وهم الذين ركبتهم الديون ، في غير معصية ، ولا فساد.

( وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ) ، وهو كل ما يصرف في الطريق التي يتوصل بها إلى رضى اللّه وثوابه ، ويدخل في ذلك الجهاد ، وغيره من جميع أبواب البر ، والقرب إلى

ص: 457

اللّه تعالى ، من معونة الحاج ، والزوار ، وتكفين الموتى ، وبناء المساجد ، والقناطر ، وغير ذلك.

وبعض أصحابنا ، يقصر السهم على الجهاد ، فحسب ، ذهب إلى ذلك شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته (1) والأظهر الأصح ، ما اخترناه أوّلا ، لأنّه يعضده ظاهر التنزيل ، وعموم الآية ، والمخصّص يحتاج إلى دليل ، وشيخنا أبو جعفر رجع عمّا في نهايته ، في مسائل خلافه (2) ، فقال بما قلناه ، واخترناه.

وابن السبيل ، وهو المنقطع به ، يقال المنقطع ، بفتح الطاء ، ولا يقال المنقطع بكسر الطاء ، في الأسفار ، ويكون محتاجا في الحال ، وإن كان له يسار في بلده وموطنه.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : إذا أقام هذا ، في بلد بنية المقام عشرة أيام ، خرج من أن يكون ابن سبيل. وهذا ليس بواضح ، وانّما يخرج من حكم المسافرين ، في تقصير الصوم والصلاة ، ولا يخرج من كونه ابن سبيل ، ولا منقطعا به ، لحاجته إلى النفقة إلى وطنه ، إلا أن يعزم على الاستطان في هذا البلد ، ويترك السفر إلى بلده ، ونزوعه إليه ، ويستوطن غيره ، فحينئذ يخرج من كونه ابن السبيل.

ويعتبر فيه الإيمان والعدالة ، وأن لا يقدر على الاكتساب ، بقدر ما ينهضه إلى بلده ومئونته.

وإذا كان الإمام ظاهرا أو من نصبه الإمام حاصلا ، فيستحب حمل الزكاة إليه ، ليفرّقها على هذه الأصناف الثمانية ، ويقسم بينهم على حسب ما يراه.

ولا يلزمه أن يجعل لكل صف ، جزء من ثمانية ، بل يجوز له تفضيل بعض منهم على بعض.

ص: 458


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب مستحق الزكاة.
2- الخلاف : ج 2 ، كتاب قسمة الصدقات ، مسألة 21.

وإذا لم يكن الإمام ظاهرا ، ولا من نصبه الإمام حاصلا ، فرقها الإنسان بنفسه ، على ستة أصناف ، ويسقط بعض السادس ، لا جميعه ، على ما حرّرناه وشرحناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) إذا لم يكن الامام ظاهرا ، ولا من نصبه الامام حاصلا ، فرقت الزكاة على خمسة أصناف ، من الذين ذكرناهم ، وهم الفقراء والمساكين ( وَفِي الرِّقابِ ) والغارمون وابن السبيل ، ويسقط سهم المؤلفة قلوبهم ، وسهم السعاة ، وسهم الجهاد ، وقد قلنا نحن ان السهم الذي هو في سبيل اللّه ، ليس هو مخصوصا بالجهاد ، على انفراده دون غيره من أبواب البر ، قال رحمه اللّه : لأنّ هؤلاء لا يوجدون إلا مع ظهور الإمام ، لأنّ المؤلّفة إنّما يتألفهم الإمام ليجاهدوا معه ، والسعاة إنّما يكونون أيضا من قبله في جمع الزكوات ، والجهاد أيضا انما يكون به أو بمن نصبه ، فإذا لم يكن ظاهرا ، ولا من نصبه ، فرّق فيمن عداهم.

والذين يفرق فيهم الزكاة اليوم ، ينبغي أن يحصل فيهم مع احدى الصفات الأصلية ، وهي المسكنة والفقر ، وكونه ابن سبيل ، وكونه غارما ، أن ينضاف خمس صفات أخر إلى الصفة الأصلية ، فتجتمع فيه ست صفات ، وهي الفقر ، والايمان ، والعدالة ، أو حكمهما (2) ، وأن لا يقدر على الاكتساب الحلال بقدر ما يقوم بأوده ، وسدّ خلّته وأود من يجب عليه نفقته ، والأود بفتح الواو ، الاعوجاج ، ولا يكون من بني هاشم ، مع تمكنهم من أخماسهم ، ومستحقاتهم ، ولا يكون ممن يجبر المعطى على نفقته ، وهم العمودان ، الإباء ، وإن علوا ، والأبناء وإن سفلوا ، والزوجة ، والمملوك ، فإن لم يكونوا كذلك ، فلا يجوز أن يعطوا منها شيئا ، فمن أدّى زكاته لغير من سمّيناه ، مع العلم بحاله ، فإنّه لا تبرأ ذمّته ، مما وجب عليه بغير خلاف ، ووجب عليه إخراجها ثانيا بغير خلاف أيضا ، وان لم يعرفه (3) فقد برئت ذمته ، وأخذها من أخذها حراما ، إذا علم انها من الزكاة ، وانه غير مستحق لها.

ص: 459


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب مستحق الزكاة ، وفي المصدر ( حاضرا ) بدل ( حاصلا ).
2- في ط : حكمها
3- ط : لم يعرفهم.

ولو أنّ مخالفا أخرج زكاته إلى أهل معتقده ، من الاسلاميين ، ثمّ استبصر ، وعاد إلى الحق ، كان عليه إعادة الزكاة ، دون سائر ما فعله من العبادات الشرعيات ، قبل رجوعه واستبصاره ، لأنّ الزكاة حق للآدميين ، وباقي العبادات حقّ لله تعالى ، وقد فعلها على ما كان يعتقده.

ولا بأس أن يعطى الزكاة أطفال المؤمنين ، سواء كان آباؤهم المؤمنون فسّاقا ، أو عدولا ، وكل خطاب دخل فيه المؤمنون ، دخل فيه من جمع بين الفسق والايمان ، وإلى هذا ذهب السيد المرتضى في الطبريات (1) وشيخنا أبو جعفر الطوسي في التبيان (2) ، وستراه محققا محرّرا في باب الوقوف من كتابنا هذا (3) إن شاء اللّه تعالى ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه من محصّل.

ولا يجوز أن يعطى أطفال مخالفي الحق ، من سائر الأديان.

ومتى لم يجد من وجبت عليه الزكاة ، مستحقا لها في بلده ، وبعث بها إلى بلد آخر ، لتفرق هناك ، فاصيبت في الطريق ، وكان الطريق آمنا ، لم تظهر فيه أمارة الخوف ، فقد أجزأت عنه ، وإن كان قد وجد لها في بلده مستحقا ، فلم يعطه ، وآثر من يكون في بلد آخر ، كان ضامنا لها ، إن هلكت ، ووجب عليه إعادتها.

ومن وصي إليه بإخراج الزكاة ، أو اعطي شيئا منها ليفرّقه على مستحقه ، فوجده ولم يعطه من غير عذر أباح له التأخير ، ثمّ هلكت ، كان ضامنا للمال.

ولا تحل الصدقة الواجبة في الأموال لبني هاشم قاطبة ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : وهم الذين ينتسبون إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وجعفر بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب ، وعباس بن عبد المطلب (4).

قال محمّد بن إدريس : وهذا القول ليس بواضح ، والصحيح انّ قصي بن

ص: 460


1- رسائل الشريف المرتضى : ج 1 ص 155 المسألة السابعة من المسائل الطبريات
2- لم نعثر عليه فيه.
3- السرائر : كتاب الوقوف والصدقات ، فيما إذا وقف شيئا على المسلمين.
4- النهاية : باب مستحق الزكاة.

كلاب ، واسمه زيد ، وكان يسمّى مجمعا ، لأنّه جمع قبائل قريش ، وأنزلها مكة ، وبنى دار الندوة ، ولد عبد مناف ، وعبد الدار ، وعبد العزى وعبدا.

فأمّا عبد مناف ، فاسمه المغيرة ، فولد هاشما ، وعبد شمس ، والمطلب ونوفلا وأبا عمرو. فأمّا هاشم بن عبد مناف ، فولد عبد المطلب ، وأسدا وغيرهما ، ممّن ، لم يعقب ، فولد عبد المطلب عشرة من الذكور ، وست بنات أسماؤهم ، عبد اللّه وهو أب النبي عليه السلام ، والزبير ، وأبو طالب ، واسمه عبد مناف والعباس ، والمقوّم ، وحمزة ، وضرار ، وأبو لهب ، واسمه عبد العزى ، والحرث ، والغيداق ، واسمه جحل ، الجيم قبل الحاء ، بفتح الجيم ، وسكون الحاء ، والجحل ، اليعسوب العظيم ، وأسماء البنات ، عاتكة ، وأميمة ، والبيضاء ، وبرّة ، وصفية ، وأروى ، هؤلاء الذكور والإناث لأمهات شتى ، فلم يعقب هاشم إلا من عبد المطلب عليه السلام ولم يعقب عبد المطلب من جميع أولاده الذكور ، إلا من خمسة ، وهم عبد اللّه ، وأبو طالب ، والعباس والحرث ، وأبو لهب ، فجميع هؤلاء ، وأولاد هؤلاء ، تحرم عليهم الزكاة الواجبة ، مع تمكنهم من أخماسهم ، ومستحقاتهم على ما قدّمناه ، وهؤلاء بأعيانهم أيضا مستحقو الخمس ، وإلى ما حرّرناه واخترناه ، يذهب شيخنا في مسائل خلافه (1) وانّما أورده إيرادا في نهايته ، للحديث الواحد ، لا اعتقادا.

فأمّا ما عدا صدقة الأموال الواجبة ، فلا بأس أن يعطوا إياها ، ولا بأس أن يعطوا صدقة الأموال مواليهم ، ولا بأس أن يعطي بعضهم بعضا ، صدقة الأموال الواجبة ، في حال تمكنهم من مستحقاتهم ، وانّما يحرم عليهم صدقة من ليس من نسبهم.

ولا يجوز أن يعطى الزكاة لمحترف ، يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده ، وأود

ص: 461


1- الخلاف : ج 2 ، كتاب الوقوف والصدقات ، مسألة 4.

عياله على ما قدّمناه ، فإن كانت صناعته لا تقوم به ، جاز له أن يأخذ ما يتسع به على أهله.

واختلف أصحابنا فيمن يكون معه مقدار من المال ، ويحرم عليه تملك (1) ذلك المال أخذ الزكاة ، فقال بعضهم : إذا ملك نصابا من الذهب ، وهو عشرون دينارا ، فإنّه يحرم عليه أخذ الزكاة. وقال بعضهم : لا تحرم على من ملك سبعين دينارا. وقال بعضهم : لا اقدّره بقدر ، بل إذا ملك من الأموال ما يكون قدر كفايته لمئونته ، طول سنته على الاقتصاد فإنّه يحرم عليه أخذ الزكاة ، سواء كانت (2) نصابا ، أو أقل من نصاب ، أو أكثر من النصاب ، فإن لم يكن بقدر كفايته سنته فلا يحرم عليه أخذ الزكاة ، وهذا هو الصحيح ، وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف.

ومن ملك دارا يسكنها بقدر حاجته ، وخادما يخدمه ، جاز له ان يقبل الزكاة ، فإن كانت داره ، دار غلة تكفيه ولعياله ، لم يجز له ان يقبل الزكاة ، فان لم تكن له في غلتها كفاية ، جاز له ان يقبل الزكاة.

وقد روي (3) أنّه ينبغي ، أن يعطى زكاة الذهب والفضة ، للفقراء والمساكين المعروفين بذلك ، ويعطى زكاة الإبل والبقر والغنم أهل التجمّل ، فإن عرف الإنسان من يستحق الزكاة ، وهو يستحي من التعرض لذلك ، ولا يؤثر إن تعلمه أنّها من الزكاة ، جاز لك أن تعطيه الزكاة ، وإن لم تعلمه أنّه منها ، وقد أجزأت عنك ، إذا نويت.

وإن كان لك على إنسان دين ، ولا يقدر على قضائه ، وهو مستحق له ، جاز لك أن تقاصّه من الزكاة ، وكذلك إن كان الدين على ميّت ، جاز لك أن تقاصّه منها ، وإن كان على أخيك المؤمن دين ، وقد مات ، جاز لك أن تقضي عنه من الزكاة ، وكذلك إن كان الدين على والدك ، أو والدتك أو ولدك (4) جاز لك أن

ص: 462


1- في ط وج : يملك
2- في ط وج : كان.
3- الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 26 من أبواب المستحقين للزكاة
4- ج : أو والدتك جاز.

تقضيه عنهم ، سواء كانوا أحياء أو أمواتا ، من الزكاة ، لأنّ قضاء الدين لا يجب أن يقضيه الولد عن الوالد ، وإن كانت نفقته واجبة عليه ، إلا أن قضاء دينه غير واجب على من تجب عليه نفقته.

وإذا صرفت سهما ( فِي الرِّقابِ ) ، وأعتق الذي اشتري من الزكاة ، فإن أصاب بعد ذلك مالا ، ثم مات ، ولا وارث له ، كان ميراثه لأرباب الزكاة.

وروي أنّ من أعطى غيره زكاة الأموال ، ليفرقها على مستحقيها ، وكان مستحقا للزكاة ، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يعطي غيره ، اللّهم إلا أن يعيّن موكله له أعيانا بأسمائهم ، فإنّه لا يجوز له حينئذ أن يأخذ منها شيئا ، ولا أن يعدل عنهم إلى غيرهم.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، إلا أنّه حقق القول فيها ، وفي أمثالها ، في مبسوطة في الجزء الثاني ، فإنه قال : إذا وكله في إبراء غرمائه لم يدخل هو في الجملة ، وكذلك في حبس غرمائه ، ومخاصمتهم ، وكذلك إذا وكله في تفرقة ثلثه ، في الفقراء والمساكين ، لم يجز له أن يصرف إلى نفسه منه شيئا ، وإن كان فقيرا مسكينا ، لأنّ المذهب الصحيح ، انّ المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إيّاه ، في أمر غيره ، فإذا أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله بأن يأمر أمته أن يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة وهو سديد في موضعه.

واختلف أصحابنا في أقل ما يعطى الفقير من الزكاة في أوّل دفعة ، فقال بعض منهم : أقلّه ما يجب في النصاب الأول ، من سائر أجناس الزكاة. وقال بعض منهم : أخصّه بأوّل ، نصاب الذهب والفضّة ، فحسب. وبعض قال : أقلّه

ص: 463


1- النهاية : باب مستحق الزكاة.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة - حكم التوكيل في إبراء الغرماء ، ص 403.

ما يجب في النصاب الثاني من الذهب والفضّة ، وذهب بعض آخر إلى أنّه يجوز أن يعطى من الزكاة الواحد من الفقراء ، القليل ، والكثير ، ولا يحد القليل بحدّ لا يجزئ غيره ، وهذا هو الأقوى عندي ، لموافقته طاهر التنزيل ، وإليه ذهب السيد المرتضى رحمه اللّه ، في جمل العلم والعمل (1) ، وما روي من الأخبار (2) في المقدار ، فمحمول على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولأنّه إذا أتاها في الزكاة ، وأخرجها قليلا ، في دفعات عدّة ، فلا خلاف انّه ينطلق عليه اسم مؤت ومعط ، فانّ اللّه تعالى قال ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (3) وهذا قد آتاها ، وامتثل ما أمر به.

وأيضا الأصل براءة الذمة ، من المقادير والكيفيات ، لأنّها أمور شرعيات ، تحتاج في إثباتها إلى أدلة شرعيّة ، ولا دليل على ذلك ، لأنّ في المسألة بين أصحابنا خلافا ، على ما صوّرناه ، وإذا لم يكن إجماع فيبقى الأصل ، وهو براءة الذمة.

وليس لأكثر ما يعطى الفقير حدّ محدود ، بل إذا أعطاه دفعة واحدة ، فجائز له ما أراد ، ولو كان الف قنطار.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، في باب من الزيادات في الزكاة : وروى حماد عن حريز عن بريد العجلي ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : بعث أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وآله مصدقا ، من الكوفة إلى باديتها ، ثم أورد الحديث بطوله ، إلى قوله : ولا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، في الساعات التي تريح ، وتعنق ، وأرفق بهن جهدك (4).

ص: 464


1- جمل العلم والعمل : فصل في وجوه إخراج الزكاة ص 125 ، طبع النجف الأشرف سنة 1387
2- الوسائل : الباب 23 من أبواب المستحقين للزكاة.
3- البقرة : 43 و 83 و 110.
4- المقنعة : باب الزيادات من الزكاة ، ص 255. وفي الوسائل : الباب 14 في أبواب زكاة الأنعام ، ح 1.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : سمعت من يقول تريح وتغبق بالغين المعجمة ، والباء ، يعتقده أنّه من الغبوق ، وهو الشرب بالعشي ، وهذا تصحيف فاحش ، وخطأ قبيح ، وإنّما هو (1) بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والنون المفتوحة ، وهو ضرب من سير الإبل ، وهو سير شديد ، قال الزاجر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا *** الى سليمان فنستريحا

لأنّ معنى الكلام ، أنّه لا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، في الساعات التي لها فيها راحة ، ولا في الساعات التي عليها فيها مشقّة ، ولأجل هذا قال تريح من الراحة ، ولو كان فيها من الرواح ، لقال تروح ، وما كان يقول تريح ، ولأنّ الرواح عند العشي يكون قريبا منه ، والغبوق هو شرب العشي ، على ما ذكرناه ، فلم يبق له معنى ، وانّما المعنى ما بيّناه ، وانّما أوردت هذه اللفظة في كتابي ، لأني سمعت جماعة من أصحابنا الفقهاء يصحّفونها.

باب وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه

باب وجوب زكاة الفطرة (2) ومن تجب عليه

الفطرة واجبة على كل مكلّف مالك قبل استهلال شوال أحد الأموال الزكاتية ، فأمّا من ملك غير الأموال الزكاتية ، فلا تجب عليه إخراج الفطرة ، على الصحيح من الأقوال ، وهذا مذهب جميع مصنّفي أصحابنا. ومذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، إلا في مسائل خلافه (3) والصحيح ما وافق فيه أصحابه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل شرعي ، ويلزمه أن يخرجها عنه ، وعن جميع من يعول ، ممّن نجب عليه نفقته ، أو من يتطوع بها عليه ، من صغير وكبير ، حرّ وعبد ، ذكر وأنثى ، ملي ، أو كتابي ، ويجب عليه إخراج الفطرة عن عبده ، سواء كان آبقا أو غير آبق ، مغصوبا أو غير مغصوب ،

ص: 465


1- ج : من العتق
2- ج : الفطر
3- الخلاف : كتاب زكاة الفطرة ، مسألة 28.

لعموم أقوال أصحابنا ، وإجماعهم على وجوب إخراج الفطرة عن العبيد ، وكذلك تجب إخراج الفطرة عن الزوجات ، سواء كنّ نواشز أو لم يكنّ ، وجبت النفقة عليهن أو لم يجب ، دخل بهن ، أو لم يدخل ، دائمات أو منقطعات ، للإجماع والعموم ، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا ، فأمّا الأولاد والوالدان ، فإن كانوا في عياله وضيافته ، فيجب عليه إخراج الفطرة عنهم ، وإن لم يكونوا في عيلته وضيافته ، فلا يجب عليه إخراج الفطرة عنهم ، سواء وجبت نفقتهم عليه ، أو لم تجب ، بخلاف الزوجات والعبيد ، على ما قدّمناه ، لأنّ أصحابنا حصّوا ذلك ، واجمعوا عليه ، وذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة قال : ويلزم الرجل إخراج الفطرة عن خادم زوجته (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا يلزمه ذلك ، إلا إذا كان الخادم في عيلته وضيافته ، إذا لم يملكه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل تأمّلا جيدا.

ويجب إخراج الفطرة عن الضيف ، بشرط أن يكون آخر الشهر في ضيافته ، فأمّا إذا أفطر عنده مثلا ثمانية وعشرين يوما ، ثم انقطع باقي الشهر ، فلا فطرة على مضيّفه ، فإن لم يفطر عنده إلا في محاق الشهر ، وأخّره ، بحيث يتناوله اسم ضيف ، فإنّه يجب عليه إخراج الفطرة عنه ، ولو كان إفطاره عنده ، في الليلتين الأخيرتين فحسب.

وإن رزق ولدا في شهر رمضان ، وجب عليه أن يخرج عنه إذا رزقه في جزء من نهار شهر رمضان ، وإن رزقه بعد خروج شهر رمضان ، فإنّه لا يجب عليه إخراج الفطرة ، بل يستحب ذلك ، ولو كان ذلك قبل الزوال من يوم العيد ، فأمّا إذا ولد بعد الزوال فلا يجب ولا يستحب.

وكذلك من أسلم ليلة الفطر ، أو يوم الفطر ، قبل الزوال ، يستحب له أن يخرج زكاة الفطرة ، وليس ذلك بفرض ، فإن كان إسلامه في جزء من نهار

ص: 466


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239.

رمضان ، وجب عليه أيضا إخراج الفطرة.

ومن لا يملك أحد الأموال الزكاتية ، يستحب له أن يخرج زكاة الفطرة أيضا عن نفسه وعن جميع من يعول ، فإن كان ممن يحلّ له أخذ الفطرة ، أخذها ، ثم أخرجها عن نفسه وعن عياله ، فإن كان به حاجة شديدة إليها ، فليدر ذلك على من يعوله ، حتى ينتهي إلى آخرهم ، ثمّ يخرج رأسا واحدا إلى غيرهم ، وقد أجزأ عنهم كلهم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وإذا كان له مملوك غائب ، يعرف حياته ، وجبت عليه فطرته ، رجا عوده أو لم يرج ، فإن لم يعلم حياته ، لا يلزمه إخراج فطرته (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : يجب عليه إخراج الفطرة عن عبده ، وإن لم يقطع على حياته ، ولا يعلمها حقيقة ويقينا ، ولهذا يعتقه في الكفارات ، بغير خلاف ، ولم يشرط أصحابنا ، علمه بالحياة ، وقطعه عليها.

وقال أيضا في كتابه المبسوط : وإن كان له عبد مغصوب ، لا يلزمه فطرته ، ولا يلزم الغاصب أيضا (2).

قوله رحمه اللّه : ولا يلزم الغاصب صحيح ، وقوله : ولا يلزم سيده الذي هو المغصوب منه ، غير صحيح.

وليس التمكين ، شرطا في وجوب إخراج الفطرة عن عبيد الإنسان ، بل الواجب إخراج الفطرة عن مماليك الإنسان ، سواء كان متمكنا من التصرّف فيهم ، أو غير متمكن ، لأنّ شيخنا أبا جعفر قال : لأنّه غير متمكن منه ، فجعل التمكّن شرطا في وجوب الفطرة.

وقال رحمه اللّه في المبسوط : وإن كان له عبد مقعد ، وهو المعضوب ، بالضاد المعجمة ، قال : لا يلزمه فطرته ، لأنّه ينعتق عليه أمّا قوله (3) في المقعد ، فصحيح ،

ص: 467


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239 و 240.
2- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239 و 240.
3- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239 و 240.

وأمّا تفسيره بالمعضوب فغير واضح ، لأنّ المعضوب غير المقعد ، وهو النضو الخلقة النحيف ، وإن كان أعضاؤه صحيحة فالمعضوب لا ينعتق على مالكه ، بل المقعد ، لأنّ أصحابنا لم يرووا في أن ينعتق العبد ، إلا إذا أقعد بزمانة ، أو جذام ، أو عمى ، فبهذه الآفات ينعتق ، فحسب ، ولم يقولوا ينعتق المعضوب.

وقال شيخنا : والمرأة الموسرة ، إذا كانت تحت معسر ، أو مملوك ، لا يلزمها فطرة نفسها ، وكذلك أمة الموسر ، إذا كانت تحت معسر أو مملوك ، لا يلزم المولى فطرتها.

قال محمّد بن إدريس : بل الواجب على المرأة الموسرة ، وسيد الأمة ، إخراج الفطرة عنهما لأنّها مكلفة بإخراج الفطرة عن نفسها ، وكذلك المولى ، فإن أراد الشيخ أبو جعفر ، ما كان يجب على الزّوج ، فصحيح ، لأنّ الزوج كان يجب عليه أن يخرج ، فسقط لفقره ، وبقي ما يجب عليها وعلى المولى للأمة ، كما يجب أن يخرج عن الضيف مضيفه ، ويجب أن يخرج الضيف عن نفسه إذا كان موسرا.

وذكر في المبسوط أنّه لا يلزم الرجل ، فطرة زوجته الناشزة ، والصحيح أنّه يلزمه ، وكذلك يلزمه إخراج الفطرة ، عن الزوجة التي لا يجب عليه نفقتها ، من النكاح المؤجل ، لعموم قولهم عليهم السلام ، يجب إخراج الفطرة عن الزوجة (1).

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

أفضل ما يخرجه الإنسان في زكاة الفطرة ، التمر ، ثمّ الزبيب ، ويجوز إخراج الحنطة ، والشعير ، والأرز ، والأقط ، واللبن ، والأصل في ذلك أن يخرج كل واحد ممّا يغلب على قوته في أكثر الأحوال ، ومن عدم الأقوات الغالبة على بلده ، أو أراد أن يخرج ثمنها بقيمة الوقت ذهبا أو فضة ، لم يكن بذلك بأس ، وإن

ص: 468


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 243.

كانت موجودة ، لأنّه يجوز عندنا ، إخراج القيمة في الزكوات ، دون الكفارات ، على ما قدّمنا القول في ذلك.

فأمّا القدر الذي يجب إخراجه عن كل رأس ، فصاع ، من أحد الأشياء التي قدّمنا ذكرها ، وقدره تسعة أرطال ، بالبغدادي ، وستة أرطال بالمدني ، إلا اللبن ، فمن يريد إخراجه ، أجزأه ستة أرطال بالبغدادي ، وأربعة بالمدني ، وقدر الصاع أربعة أمداد ، والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف ، والدرهم ستة دوانيق ، والدانق ثمان حبات من أوسط حبات الشعير ، وقد روي أنّه يجوز أنّ يخرج عن كل رأس درهم ، وقد روي أيضا أربعة دوانيق ، والأحوط الذي تقتضيه الأصول ، أن يخرج قيمة الصاع يوم الأداء.

وذكر شيخنا في مبسوطة ، فقال : ويجوز إخراج القيمة عن أحد الأجناس التي قدّمناها ، سواء كان الثمن سلعة ، أو حبا أو خبزا (1).

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب رحمه اللّه : الحب والخبز هو الأصل المقوّم ، وليس هو القيمة ، وانّما هذا مذهب الشافعي ، ذكره هاهنا ، فلا يظن بعض غفلة أصحابنا أنّه مذهبنا ، بل نحن نخرج الحب الذي هو الحنطة والشعير ، وغير ذلك ، وكذلك يخرج الخبز لا بالقيمة ، بل هو الأصل المقوم.

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة ومن يستحقها

تجب زكاة الفطرة على مكلّفها بدخول شوال واستهلاله ، ويتضيّق وقت التأكد (2) يوم الفطر ، قبل صلاة العيد ، فإن لم يخرجها في ذلك الوقت ، فإنّه يجب عليه إخراجها ، وهي في ذمته إلى أن يخرجها. وبعض أصحابنا يقول تكون قضاء ، وبعضهم يقول سقطت ، ولا يجب إخراجها ، وهذا بعيد من الصواب ،

ص: 469


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 242
2- ج : ويتضيق التأكّد.

لأنّه لا دليل على سقوطها بعد وجوبها ، لأنّ من ادعى سقوطها بعد موافقته على وجوبها ، فعليه الدلالة ، ومن قال أنّها قضاء بعد ذلك ، فغير واضح ، لأنّ الزكاة المالية والرأسية ، تجب بدخول وقتها ، فإذا دخل ، وجب الأداء ، ولا يزال الإنسان مؤدّيا لها ، لأنّ بعد دخول وقتها هو وقت الأداء في جميعه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : الوقت الذي تجب فيه إخراج الفطرة ، يوم الفطر قبل صلاة العيد (1). وذهب في جمله وعقوده (2) إلى ما ذكرناه أولا واخترناه ، وانّما أورد ما ذكره في نهايته ، من طريق أخبار الآحاد إيرادا لا عملا واعتقادا.

فإن قدّمها إنسان على الوقت الذي قدّمناه ، فيجعل ذلك قرضا على ما بيّناه في زكاة المال ، وتقديمها قبل وجوبها وحلولها ، ويعتبر فيه ما قدّمناه عند وجوبها ، والأفضل لزوم الوقت ، فإن لم يجد لها مستحقا ، عزلها من ماله ، ثمّ يسلّمها إليه ، إذا وجده ، فإن وجد لها أهلا ، وأخّرها وهلكت ، كان ضامنا إلى أن يسلمها إلى أربابها ، فإن لم يجد لها أهلا ، وأخرجها من ماله ، لم يكن عليه ضمان.

وله أن يحملها من بلد إلى بلد ، إذا لم يجد المستحق ، كما أنّ له حمل زكاة المال ، ويعتبر في هلاكها في الطريق ، ما اعتبرناه في هلاك زكاة المال حرفا فحرفا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز حمل الفطرة من بلد إلى بلد (3).

وهذا على طريق الكراهية ، دون الحظر.

وقال في مختصر المصباح : ويجوز إخراج الفطرة من أول الشهر رخصة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا يجوز العمل بهذه الرخصة (4) إلا على ما قدّمناه ، من تقديمها على جهة القرض ، وينوي الأداء عند هلال شوال ، وإلا فكيف يكون ما فعل قبل تعلّق وجوبه بالذمة مجزيا عما يتعلّق بها في

ص: 470


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.
2- الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل 15 في زكاة الفطرة.
3- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.
4- ج : بهذه الرواية في الرخصة.

المستقبل ، وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في الجزء الثالث من مسائل خلافه في كتاب الإيمان ، أنّه لا يجوز تقديم الكفارات والزكوات قبل وجوبها بحال عندنا (1) وناظر على ذلك وهو الحق اليقين.

وينبغي أن تحمل الفطرة إلى الإمام ، ليضعها في مواضعها حيث يراه ، فإن لم يكن هناك إمام ، حملت إلى فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها ، فإنّهم أعرف بذلك.

وإذا أراد الإنسان أن يتولى ذلك بنفسه ، جاز له ذلك غير أنّه لا يعطيها إلا لمستحق زكاة المال ، فإن لم يجد لها مستحقا ، انتظر بها المستحق ، ولا يجوز له أن يعطيها لغيره ، فإنّه لا يجزيه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : فان لم يوجد لها مستحق من أهل المعرفة ، جاز أن يعطي مكلّفها المستضعفين ، من غيرهم ، ولا يجوز إعطاؤها لمن لا معرفة له ، إلا عند التقية ، أو عدم مستحقيه من أهل المعرفة (2) وهذا غير واضح ، بل ضدّ الصواب والصحيح والصواب ما ذكره في جمله وعقوده ، من أنّه لا يجوز أن يعطى إلا لمستحق زكاة المال ، فإن لم يوجد ، عزلت ، وانتظر بها مستحقها (3) وانّما أورده إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، دون الاعتقاد منه والفتيا ، وقال في نهايته أيضا : والأفضل أن يعطي الإنسان من يخافه من غير الفطرة ، ويضع الفطرة مواضعها (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والأصل ما قدّمناه فلا يجوز العدول عنه بغير

ص: 471


1- الخلاف : هذه مسألة 45 من مسائل الزكاة ، وفي الايمان لا توجد ، ومسألة 31 منها تدل على عدم جواز تقديم الكفارة فراجع.
2- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.
3- الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل 15 في ذكر زكاة الفطرة وعبارته هكذا : ومستحق الفطرة هو مستحق زكاة الأموال وتحرم على من تحرم عليه زكاة الأموال.
4- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.

دليل ، وما ذكره من طريق أخبار الآحاد ، فأورده إيرادا لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يعطي أقل من زكاة رأس واحد لواحد ، مع الاختيار ، على ما وردت به الاخبار ، فإن حضر جماعة محتاجون ، وليس هناك من الأصواع بقدر ما يصيب كل واحد منهم صاع ، جاز أن يفرّق عليهم ، ولا بأس أن يعطي الواحد صاعين ، أو أصواعا ، دفعة واحدة ، سواء قلّت الأصواع ، أو كثرت.

والأفضل أن لا يعدل الإنسان بالفطرة إلى الأباعد ، مع وجود القرابات ، ولا إلى الأقاصي ، مع وجود الجيران ، فإن فعل خلاف ذلك ، كان تاركا فضلا ، ولم يكن عليه بأس.

ذكر شيخنا في الجزء الأول من مسائل خلافه في كتاب الزكاة ، أنّه لا زكاة في الحلي ، ثم استدل ، بأن قال : وروت فريعة بنت أبي أمامة ، قالت : حلّاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله رعاثا ، وحلّى أختي ، وكنا في حجره ، فما أخذ منا زكاة حلي قط (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب : فريعة ، بالفاء اسمها الفارعة ، وانّما صغرت واسم أختها حبيبة ، ولهما أخت أخرى اسمها كبشة ، وهن بنات أبي أمامة ، أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي العقبي ، رأس النقباء ، أول مدفون بالبقيع ، مات في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله ، وأوصى ببناته إليه عليه السلام ، والرعاث بالراء غير المعجمة المكسورة ، والعين غير المعجمة المفتوحة ، والثاء المنقطة ثلاث نقط ، وهي الحلق ، والقرطة ، مأخوذ من رعثات (2) الديك ، وذكر أيضا شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف أنّ التحلية بالذهب حرام كلّه على الرجال ، إلا عند الضرورة ، وذلك مثل أن يجدع أنف إنسان ، فيتخذ أنفا من ذهب ، أو يربط به أسنانه (3).

ص: 472


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، ذيل مسألة 101
2- ج : رعاث.
3- الخلاف : كتاب الزكاة : مسألة 102.

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب رحمه اللّه : فإن قال قائل : وأيّ ضرورة هاهنا يربط أسنانه بفضة أو بنحاس ، أو بحديد ، وغير ذلك ، وكذلك يعمل أنفا من فضة. قلنا : جميع ذلك ينتن ، إلا الذهب فإنّه لا ينتن ، فلأجل ذلك قال إلا عند الضرورة.

باب الجزية وأحكامها

الجزية واجبة على أهل الكتاب ، ومن حكمه حكمهم ، ممّن أبى منهم الإسلام ، وأذعن بها. والتزم أحكامها ، فأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، ومن حكمه حكمهم : المجوس.

وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة ، إذا كانوا بشرائط المكلّفين ، ويسقط عن الصبيان والمجانين ، والبله والنساء منهم ، فأمّا من عدا الأصناف المذكورة الثلاثة ، من جميع الكفار ، فليس يجوز أن يقبل منهم إلا الإسلام ، أو القتل.

ومن وجبت عليه الجزية ، وحل الوقت ، فأسلم قبل أن يعطيها ، سقطت عنه ، ولم يلزمه أداؤها ، على الصحيح من المذهب ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّها لا تسقط ، والأول هو الأظهر ، والذي يعضده دليل الأصل.

وكل من وجبت عليه الجزية ، فالإمام مخير بين أن يضعها على رءوسهم ، أو على أرضيهم ، فإن وضعها على رءوسهم فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم ، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.

وليس للجزية عند أهل البيت عليهم السلام ، حدّ محدود ، ولا قدر موظف ، بل ذلك موكول إلى تدبير الإمام ورأيه ، فيأخذ منهم على قدر أحوالهم ، من الغني والفقير ، بقدر ما يكون به صاغرا.

والصغار اختلف المفسّرون فيه ، والأظهر أنّه التزام أحكامنا عليهم ،

ص: 473

وإجراؤها وان لا (1) يقدر الجزية ، فيوطن نفسه عليها ، بل يكون بحسب ما يراه الإمام ، بما يكون (2) معه ذليلا ، صاغرا ، خائفا ، فلا يزال كذلك ، غير موطن نفسه على شي ء ، فحينئذ يتحقق الصغار الذي هو الذلة ، وذهب بعض أصحابنا وهو شيخنا المفيد ، إلى أنّ الصغار هو أن يأخذهم الإمام ، بما لا يطيقون ، حتى يسلموا ، وإلا فكيف يكون صاغرا ، وهو لا يكترث بما يؤخذ منه ، فيألم لذلك فيسلم.

وكان المستحق للجزية على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، المهاجرين دون غيرهم ، على ما روي (3) ، وهي اليوم لمن قام مقامهم ، مع الإمام في نصرة الإسلام ، والذب عنه ، ولمن يراه الإمام ، من الفقراء والمساكين ، من سائر المسلمين.

ولا بأس بأن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ، ممّا أخذوه ، من ثمن الخمور ، والخنازير ، والأشياء المحرمة التي لا يحل للمسلمين بيعها ، والتصرف فيها بغير خلاف ، وروى أصحابنا ، أنّهم متى تظاهروا بشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، أو نكاح المحرمات في شرعنا ، والربا ، نقضوا بذلك العهد (4).

وروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال في أهل الذمة لا تبدءوهم بالسلام ، واضطروهم إلى أضيق الطرق ، ولا تساووهم في المجالس (5).

وأمّا مماليك أهل الذمة ، فلا جزية عليهم ، لقوله عليه السلام : لا جزية على العبد (6).

فأمّا المستأمن ، والمعاهد ، فهما عبارتان عن معنى واحد ، وهو من دخل إلينا

ص: 474


1- ج : ولا يقدر
2- ج : ممّا يكون.
3- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 69 من أبواب جهاد العدو ، ح 1.
4- المبسوط : ج 2 ، فصل في ما يشترط على أهل الذمة بدون ذكر الربا.
5- المبسوط : ج 2 ، فصل في ما يشترط على أهل الذمّة.
6- مستدرك الوسائل : الباب 5 من أبواب جهاد العدو ، ح 1.

بأمان ، لا للبقاء ، والتأييد فلا يجوز للإمام ، أن يقره في بلد الإسلام سنة ، بلا جزية ، لكن يقره أقل من سنة ، على ما يراه ، بعوض ، أو غير عوض.

وأمّا عقد الجزية ، فهو عقد الذمة ، ولا يصحّ إلا بشرطين ، التزام (1) الجزية ، وأن يجري عليهم أحكام المسلمين مطلقا ، من غير استثناء ، وهو الصغار المذكور في الآية ، على الأظهر من الأقوال.

والفقير الذي لا شي ء معه يجب عليه الجزية ، لأنّه لا دليل على إسقاطها عنه ، وعموم الآية يقتضيه ، ثم ينظر ، فإن لم يقدر على الأداء ، كانت في ذمّته ، فإذا استغنى ، أخذت منه الجزية ، من يوم ضمنها ، وعقد العقد له ، بعد أن يحول عليه الحول ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ، وقال في مسائل الخلاف : لا شي ء عليه (3) واستدل بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4) وما ذكره في مبسوطة أقوى وأظهر ، ولي في ذلك نظر.

البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب : ضرب أنشأه المسلمون وأحدثوه ، وضرب فتحوه عنوة ، وضرب فتحوه صلحا ، فأمّا البلاد التي أنشأها المسلمون ، مثل البصرة والكوفة ، فلا يجوز للإمام ان يقرّ أهل الذمة ، على إنشاء بيعة ، أو كنيسة ، ولا صومعة راهب ، ولا مجتمع لصلاتهم ، فإن صالحهم على شي ء من ذلك ، بطل الصلح بلا خلاف ، وكذلك البلاد التي فيها البيع والكنائس ، وكانت في الأصل قبل بنائها ، وأمّا البلاد التي فتحت عنوة ، فإن لم يكن فيها بيع ولا كنائس ، أو كانت ، لكن هدموها وقت الفتح ، فحكمها حكم بلاد الإسلام ، لا يجوز صلحهم على إحداث ذلك فيها.

وأمّا ما فتح صلحا ، فعلى ضربين أحدهما أن يصالحهم على أن تكون البلاد ملكا لهم ، ويكونوا فيها موادعين على مال بذلوه ، وجزية عقدوها على أنفسهم ،

ص: 475


1- في ط : الزم
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب الجزايا وأحكامها ، فصل فيمن تؤخذ منه الجزية ..
3- الخلاف : كتاب الجزية ، مسألة 10 - وفي المصدر : لا يجب عليه الجزية
4- البقرة : 286.

فهاهنا يجوز إقرارهم على بيعهم وكنائسهم ، وإحداثها ، وإنشائها ، وإظهار الخمور ، والخنازير ، وضرب النواقيس فيها ، لأنّ الملك لهم ، يصنعون به ما أحبّوا ، وإن كان الصلح على أن يكون ملك البلد لنا ، والسكنى لهم ، إن شرط أن يقرّهم على البيع والكنائس ، جاز ، وإن لم يشرط ذلك لهم ، لم يكن لهم ذلك ، لأنّها صارت للمسلمين.

وأمّا دور أهل الذمة ، على ثلاثة أضرب ، دار محدثة ، ودار مبتاعة ، ودار مجدّدة ، أمّا المحدثة فهو أن يشتري عرصة يستأنف فيها بناء ، فليس له أن يعلو على بناء المسلمين ، لقوله عليه السلام : « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (1) وإن ساوى بناء المسلمين ، ولم يعل عليه ، فعليه أن يقصره عنه ، وأمّا الدور المبتاعة ، فإنّها تقر على ما كانت عليه ، لأنّه هكذا ملكها ، وأمّا البناء الذي يعاد بعد انهدامه ، فالحكم فيه ، كالحكم في المحدث ابتداء ، لا يجوز له أن يعلو به على بناء المسلمين ، ولا المساواة ، على ما قلناه ، ولا يلزم أن يكون أقصر من بناء مسلمي أهل البلد كلّهم ، وانّما يلزمه أن يقصره ، عن بناء محلّته ، ولا يجوز أن يمكنوا أن يدخلوا شيئا من المساجد في سائر البلاد ، لا بإذن ، ولا بغير إذن ، لأنّهم أنجاس ، والنجاسة تمنع المساجد.

باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه منها بالبيع والشراء وما لا يصحّ

الأرضون على أربعة أقسام : ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا ، من قبل نفوسهم ، من غير قتال ، مثل أرض المدينة ، فيترك في أيديهم. ويؤخذ منهم العشر ، أو نصف العشر ، بحسب سقيها ، وهي ملك لهم ، يصحّ لهم التصرف

ص: 476


1- الوسائل : كتاب الإرث ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، ح 11.

فيها ، بالبيع والشراء والوقف ، وسائر أنواع التصرفات ، وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها ، وقاموا بعمارتها ، فإن تركوها خرابا ، أخذها إمام المسلمين ، وقبلها من يعمرها ، وأعطى أصحابها طسقها ، وأعطى المتقبل حصته ، وما يبقى ، فهو متروك لمصالح المسلمين ، في بيت مالهم ، على ما روي في الأخبار (1) أورد ذلك شيخنا أبو جعفر.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، فإنّها تخالف الأصول ، والأدلة العقلية ، والسمعية ، فإنّ ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه ، ولا التصرّف فيه بغير إذنه ، واختياره ، فلا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد.

والطسق : الوضيعة توضع على صنف من الزرع ، لكل جريب ، وهو بالفارسية تسك ، وهو كالأجرة للإنسان ، فهذا حقيقة الطسق.

والضرب الثاني من الأرضين ، ما أخذ عنوة بالسيف ، عنوة بفتح العين ، وهو ما أخذ عن خضوع وتذلل ، قال اللّه تعالى ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (2) أي خضعت وذلّت ، فانّ هذه الأرض تكون للمسلمين بأجمعهم ، المقاتلة وغير المقاتلة ، وكان على الإمام أن يقبلها لمن يقوم بعمارتها ، بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك ، وكان على المتقبل إخراج ما قبل به ، من حق الرقبة ، يأخذه الإمام ، فيخرج منه الخمس يقسمه على مستحقيه ، والباقي منه يجعله في بيت مال المسلمين ، يصرف في مصالحهم ، من سدّ الثغور وتجهيز الجيوش ، وبناء القناطر ، وغير ذلك ، وليس في هذا السهم الذي هو حق الرقبة ، زكاة ، لأنّ أربابه وهم المسلمون ، ما يبلغ نصيب كل واحد منهم ، ما يجب فيه الزكاة ، وما يبقى للمتقبل ، يخرج منه الزكاة إذا بلغ النصاب بحسب سقيه ، وهذا الضرب من الأرضين ، لا يصح التصرف فيه ، بالبيع ، والشراء ، والوقف ، والهبة ، وغير ذلك ، أعني نفس الرقبة.

ص: 477


1- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه
2- طه : 111.

فان قيل : نراكم تبيعون ، وتشترون ، وتقفون أرض العراق ، وقد أخذت عنوة قلنا : انّما نبيع ، ونقف ، تصرفنا فيها ، وتحجيرنا ، وبناءنا فأمّا نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها وللإمام أن ينقلها من متقبل إلى غيره ، عند انقضاء مدّة تقبيله ، وله التصرف فيها بحسب ما يراه ، صلاحا للمسلمين ، لأنّ هذه الأرضين للمسلمين قاطبة ، وارتفاعها يقسّم فيهم كلّهم ، المقاتلة ، وغيرهم ، فإنّ المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص ، إلا ما يحويه العسكر ، من الغنائم وأمكن نقله.

والضرب الثالث ، كل أرض صالح أهلها عليها ، وهي أرض الجزية ، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه ، من النصف ، أو الثلث ، أو الرّبع ، وغير ذلك ، وليس عليهم غيره ، فإذا أسلم أربابها ، كان حكم أرضيهم ، حكم أرض من أسلم عليها طوعا ابتداء من قبل نفوسهم ، ويسقط عنهم الصلح ، لأنّه جزية ، بدلا من جزية رءوسهم ، وقد سقطت عنهم بالإسلام ، وهذا الضرب من الأرضين ، يصح التصرف فيه بالبيع ، والشراء ، والهبة ، وغير ذلك من أنواع التصرّف ، وكان للإمام أن يزيد وينقص ما صالحهم عليه ، بعد انقضاء مدّة الصلح ، حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها.

والضرب الرابع ، كلّ أرض انجلى أهلها عنها ، أو كانت مواتا ، فأحييت ، أو كانت آجاما ، وغيرها ممّا لم يزرع فيها ، فاستحدثت (1) مزارع فانّ هذه الأرضين كلّها للإمام خاصّة ، ليس لأحد معه فيها نصيب ، وكان له التصرف فيها ، بالقبض ، والهبة ، والبيع ، والشراء ، حسب ما يراه ، وكان له أن يقبلها بما يراه ، من النصف ، أو الثلث ، أو الربع ، وجاز له أيضا ، بعد انقضاء مدة القبالة ، نزعها من يد من قبله إيّاها ، وتقبيلها لغيره ، وقد استثني من ذلك الأرض التي أحييت بعد مواتها ، فإنّ الذي أحياها ، أولى بالتصرف فيها ، ما دام تقبلها بما يقبلها غيره

ص: 478


1- ج : فأحدثت.

فإن أبى ذلك ، كان للإمام أيضا نزعها من يده ، وتقبيلها لمن يراه ، على ما روي في بعض الأخبار (1) وعلى المتقبل بعد إخراجه مال القبالة ، والمؤن ، فيما يحصل في حصته ، العشر ، أو نصف العشر ، بحسب الماء ، إذا بلغ الأوساق الخمسة ، وكان أيضا على الإمام في حصته الزكاة ، إذا بلغت الأوساق الخمسة.

وقال شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في مقنعته في باب من الزيادات في الزكاة ، أورد خبرا ، قال : روى إسماعيل بن مهاجر ، عن رجل من ثقيف ، قال استعملني علي بن أبي طالب عليه السلام على بانقياء وسواد من سواد الكوفة (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : بانقياء هي القادسية ، وما والاها ، وأعمالها وانّما سميت القادسية ، بدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام ، لأنّه قال : كوني مقدّسة للقادسية ، أي مطهّرة من التقديس ، وانّما سميت القادسيّة بانقياء ، لأنّ إبراهيم عليه السلام ، اشتراها بمائة نعجة من غنمه ، لأنّ « با » مائة و « نقيا » شاة ، بلغة النبط ، وقد ذكر بانقيا أعشى قيس في شعره ، وفسّره علماء اللغة ، وواضعوا كتب الكوفة ، من أهل السيرة ، بما ذكرناه.

والبلاد على ضربين : بلاد الإسلام وبلاد الشرك. فبلاد الإسلام على ضربين : عامر ، وغامر. فالعامر ملك لأهله ، لا يجوز لأحد الشروع فيه ، والتصرف إلا بإذن صاحبه ، وروي عن ابن عباس ، أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله كتب لبلال بن الحرث المزني : بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أقطع بلال بن الحرث المزني عن معادن القبلية ، جلسيها وغوريّها ، وحيث ما يصلح للزرع (3) ولم يعطه حقّ مسلم ، وجلسيها بالجيم ، واللام بعده والسين ، ما كان إلى ناحية نجد ، وغوريّها ما كان إلى ناحية الغور ، قال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي :

لقد جئت غوري البلاد وجلسيها *** وقد ضربتني شمسها وظلولها

ص: 479


1- الوسائل : كتاب الجهاد ، باب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
2- المقنعة ص 257
3- سنن أبي داود : ج 3 ، ص 173 ، ح 3062.

جلسيها يريد نجدها ، لأنّ جلسا ، هو نجد ، والقبلية محرك القاف ، والباء التي تحتها نقطة واحدة منسوبة إلى القبل ، وهو كل نشر من الأرض ، يستقبلك يقال : رأيت بذاك (1) القبل شخصا ، والجلس - بالجيم المفتوحة ، واللام المسكنة ، والسين غير المعجمة - : نجد.

إذا ثبت هذا فان مرافقها ، التي لا بدّ لها منها ، مثل الطريق ومسيل الماء ، ومطارح التراب ، وغير ذلك ، فإنّها في معنى العامر ، من حيث أنّ صاحب العامر أحقّ به ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنه ، فعلى هذا إذا حفر بئرا في موات ، ملكها ، وكان أحق بها وبحريمها الذي هو من مرافقها على حسب الحاجة.

فأمّا الغامر بالغين المعجمة وهو الخراب ، فعلى ضربين : غامر لم يجر عليه ملك لمسلم ، وغامر جرى عليه ملك مسلم. فأما الذي لم يجر عليه ملك مسلم ، فهو لإمام المسلمين يفعل به ما شاء.

وأمّا الذي جرى عليه ملك مسلم ، فمثل قرى المسلمين التي خربت وتعطلت ، فإنّه ينظر ، فإن كان صاحبه أو وارثه ، معيّنا فهو أحقّ به ، وهو في معنى العامر ، ولا يخرج بخرابه عن ملك صاحبه ، وإن لم يكن له صاحب معيّن ، ولا عقب ، ولا وارث ، فهي لإمام المسلمين خاصة ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّها مملوكة ، لا يملكها من يحييها إلا بإذن الإمام.

وأمّا بلاد الشرك فعلى ضربين : عامر وغامر ، فالعامر ملك لأهله ، وكذلك كلما كان به صلاح العامر من الغامر ، كان صاحب العامر أحقّ به ، كما قلنا في العامر في بلاد الإسلام ، حرفا فحرفا ، ولا فرق بينهما أكثر من أنّ العامر في بلاد الإسلام لا يملك بالقهر والغلبة ، والعامر في بلاد الشرك يملك بالقهر والغلبة.

وأمّا الغامر في بلاد الشرك فعلى ضربين : أحدهما لم يجر عليه ملك لأحد ، والآخر جرى عليه ملك ، والّذي لم يجر عليه ملك أحد ، فهي للإمام خاصّة ،

ص: 480


1- في ط وج : بذلك.

لعموم الأخبار (1) ، وامّا الذي جرى عليه ملك ، فإنّه ينظر ، فإن كان صاحبه معيّنا ، فهو له ، ولا يملك بالإحياء ، بلا خلاف ، وإن لم يكن له صاحب معيّن ، ولا وارث ، فهو للإمام عندنا.

والأرضون الموات ، عندنا للإمام خاصّة ، لا يملكها أحد بالإحياء ، إلا أن يأذن الإمام له.

وأمّا الذمي ، فلا يملك إذا أحيا أرضا في بلاد الإسلام ، وكذلك المستأمن ، إلا أن يأذن له الإمام.

فأمّا ما به يكون الإحياء ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : لم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء ، دون ما لا يكون ، غير انّه إذا قال النبي عليه السلام : من أحيا أرضا ميتة فهي له (2) ولم يوجد في اللغة معنى ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة ، فما عرفه الناس إحياء في العادة ، كان إحياء وملك به الموات ، كما انّه عليه السلام قال : البيعان بالخيار ما لم يفترقا (3) وانه نهى عن بيع ما لم يقبض (4) رجع في جميع ذلك إلى العادة (5) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه.

ونعم ما قال ، فهو الحقّ اليقين ، فهذا الذي يقتضيه أصل المذهب ، ولا يلتفت إلى قول المخالفين ، فانّ لهم في ذلك تفريعات وتقسيمات ، فلا يظنّ ظان إذا وقف عليها ، أن يعتقدها قول أصحابنا ، ولا ممّا ورد به خبر ، أو قال مصنّف من أصحابنا ، وإنّما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، بعد أن حقّق ما يقتضيه مذهبنا.

ص: 481


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختصّ بالإمام.
2- الوسائل : الباب 1 من كتاب احياء الموات ، ح 5 و 6 والباب 2.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب الخيار ، ح 1 و 2 و 3.
4- الوسائل : الباب 16 من أبواب أحكام العقود ، ح 21.
5- المبسوط : ج 3 ، كتاب إحياء الأموات ، ص 271.

فجملة ما عند المخالف في ذلك ، أنّ الأرض تحيي للدار ، والحظيرة ، والزراعة ، فاحياءها للدار عندهم فهو بأن يحوّط عليها حائط ، ويسقف عليه. فإذا فعل ذلك ، فقد أحياها عندهم ، وملكها ملكا مستقرا ، ولا فرق بين أن يبني الحائط بطين ، أو بآجر وطين ، أو آجر وجصّ ، أو خشب ، هذا عند المخالف ، فأمّا عندنا فلو خصّ عليها خصا ، أو حجّرها ، أو حوّطها بغير الطين ، والآجر والجصّ ، ملك التصرّف فيها ، وكان أحقّ بها ، من غيره ، ثمّ قال المخالف : فأمّا إذا أخذها للحظيرة ، فقدر الإحياء ، أن يحوطها بحائط من آجر ، أو لبن ، أو طين ، وهو الرهص ، أو خشب ، وليس من شرط الحظيرة أن يجعل لها سقف ، وتعليق الأبواب في الدور ، والحظيرة ليس من شرطه ، وفيهم من قال ، هو شرط ، وأمّا الإحياء للزراعة ، فهو أن يجمع حولها ترابا ، وهو الذي يسمّى مرزا ، الراء قبل الزّاء ، وأن يرتب لها الماء ، إمّا ساقية يحفرها لسوق الماء فيها أو بقناة يحفرها ، أو بئر ، أو عين يستنبطها ، فهذا جميعه أورده شيخنا في كتابه المقدّم ذكره ، شارحا ، وذاكرا تقسيمات المخالف ، وما هو عندهم إحياء ، وكيفيات ذلك ، بعد أن أحكم في الأوّل ، ما هو عندنا إحياء ، والذي يقتضيه مذهبنا ، من الرجوع فيه إلى العرف والعادة ، لأنّه قال : لم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء دون ما لا يكون ، غير أنه إذا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، ولم يوجد في اللغة معني ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة (1).

ثم أورد بعد ذلك تقسيمات المخالف ، في كيفية الإحياء ، فلا يتوهم من يقف عليها ، أنّها مقالة أصحابنا ، فإنّ هذا الكتاب ، أعني المبسوط ، قد ذكر فيه مذهبنا ، ومذهب المخالف ، ولم يميّز أحد المذهبين من الآخر تمييزا جليّا وانّما يحققه ويعرفه من اطلع على المذهبين معا ، وسبر قول أصحابنا وحصّل خلافهم ،

ص: 482


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب إحياء الأموات ، ص 271.

وما نقتضيه أصول مذهبهم ، وإلا فالقارئ ، فيه ، يخبط خبط عشواء.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : إذا تحجّر أرضا ، وباعها ، لم يصح بيعها ، وفي الناس من قال يصحّ ، وهو شاذّ ، قال شيخنا : فأمّا عندنا فلا يصحّ بيعه ، لأنّه لا يملك رقبة الأرض بالإحياء ، وانّما يملك التصرف ، بشرط أن يؤدّي إلى الإمام ما يلزمه عليها ، وعند المخالف لا يجوز ، لأنّه لا يملك بالتحجّر قبل الإحياء ، فكيف يبيع ما لا يملك (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا يدلك ، أرشدك اللّه أنّ التحجّر عند المخالف ، غير الإحياء ، وأنّ الإحياء غير التحجّر ، وشيخنا جعل التحجّر مثل الإحياء الذي قسمه المخالف التقسيمات الأوّل (2) ، ولا فرق عندنا بين التحجّر الذي هو الآثار ، وسواء كانت للدار ، أو الزراعة أو الحظيرة ، أو (3) الإحياء الذي يذهب إليه المخالف ويقسّمه إلى ثلاثة أقسام للدار ، والحظيرة ، والزراعة.

وأمّا المعادن فعلى ضربين : ظاهرة ، وباطنة فالباطنة لها موضع نذكره إن شاء اللّه تعالى. وأمّا الظاهرة ، فهي الماء ، والقير ، والنفط ، والموميا ، والكبريت ، والملح ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا يملك بالإحياء ولا يصير أحد أولى به بالتحجّر من غيره ، وليس للسلطان أن يقطعه ، بل الناس كلّهم فيه سواء ، يأخذون منه قدر حاجتهم ، بل يجب عندنا فيه الخمس ، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يملك بالإحياء.

وأمّا المعادن الباطنة مثل الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، وحجارة البرام ، وغيرها ممّا يكون في بطون الأرض ، والجبال ، ولا يظهر إلا بالعمل فيها ، والمئونة عليها ، فهل تملك بالإحياء ، أم لا؟ قيل فيه (4) قولان : أحدهما أنه (5) تملك ، وهو الصحيح ، وذلك مذهبنا. والثاني : قال المخالف ، لا تملك ، لأنّه لا خلاف في أنّه لا يجوز بيعه ، فلو ملك لجاز بيعه ، وعندنا يجوز بيعه بغير

ص: 483


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب إحياء الأموات ، ص 273
2- في ط وج : الأولة.
3- في ط وج : وبين
4- ط : فيها
5- في ط وج : أنّها.

خلاف بيننا ، فإذا ثبت أنها تملك بالإحياء ، فإنّ إحياءه أن يبلغ نيله ، وما دون البلوغ ، تحجّر ، وليس بإحياء ، فيصير أولى به ، وهذا عند المخالف ، فأمّا عندنا لا فرق بين التحجّر والإحياء ، وقد أورد شيخنا المفيد رحمه اللّه في مقنعته في باب الخراج وعمارة الأرضين ، خبرا ، وهو : روى يونس بن إبراهيم ، عن يحيى بن الأشعث الكندي ، عن مصعب بن يزيد الأنصاري ، قال : استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه على أربعة رساتيق ، المدائن ، والبهقباذات ، وبهرسير ، ونهر حريز ، ونهر الملك (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب ، رحمه اللّه : بهرسير بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، والسين الغير معجمة هي المدائن ، والدليل على ذلك ، أنّ الراوي قال استعملني على أربعة رساتيق ، ثمّ عدّد خمسة ، فذكر المدائن ثم ذكر من جملة الخمسة بهرسير ، فعطف على اللفظ ، دون المعني ، فإن قيل : لا يعطف الشي ء على نفسه. قلنا : إنّما عطفه على لفظه ، دون معناه ، وهذا كثير في القرآن والشعر ، قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

فكل الصفات راجعة إلى موصوف واحد ، وقد عطف بعضها على بعض ، لاختلاف ألفاظها. وقول الحطيئة :

وهند أتى من دونها النأي والبعد

والبعد هو النأي ويدل على ما قلناه أيضا ما ذكره أصحاب السيرة في كتاب صفين ، قالوا : لما سار أمير المؤمنين عليه السلام ، إلى صفين ، قالوا : ثم مضى نحو ساباط ، حتى انتهى إلى مدينة بهرسير ، وإذا رجل من أصحابه ينظر إلى آثار كسرى ، وهو يتمثل بقول ابن يعفور التميمي :

جرت الرّياح على محل ديارهم *** فكأنّما كانوا على ميعاد

ص: 484


1- المقنعة : باب الخراج وعمارة الأرض ، ص 275.

فقال عليه السلام : أفلا قلت : ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) الآية (1) فأمّا البهقباذات فهي ثلاثة ، البهقباذ الأعلى ، وهو ستة طساسيج ، طسوج بابل وخطرنية والفلوجة العليا والسفلى والنهرين وعين التمر والبهقباذ الأوسط أربعة طساسيج طسوج الجبّة ولبداة وسوراء وبريسما ، ونهر الملك ، وباروسما ، والبهقباذ الأسفل ، خمسة طساسيج ، منها طسوج فرات ، وبادقلى وطسوج السيلحين ، الذي فيه الخورنق ، والسدير ، ذكر ذلك عبيد اللّه بن خرداذبة ، في كتابه الممالك والمسالك.

باب الخمس والغنائم

الخمس يجب في كل ما يغنم من دار الحرب ، ما يحويه العسكر ، وما لم يحوه ، وما يمكن نقله إلى دار الإسلام ، وما لا يمكن ، من الأموال والذراري والأرضين ، والعقارات ، والسلاح ، والكراع ، وغير ذلك ممّا يصحّ تملكه ، وكان في أيديهم على وجه الإباحة ، أو الملك ، ولم يكن غصبا لمسلم ويجب أيضا الخمس في جميع المعادن ، ما ينطبع منها : مثل الذهب ، والفضة ، والحديد ، والصفر ، والنحاس ، والرصاص ، والزئبق ، وما لا ينطبع : مثل الكحل ، والزرنيخ ، والياقوت ، والزبرجد ، والبلخش ، والفيروزج ، والعقيق ، والزمرد ، بالذال المعجمة.

ويجب أيضا في القير ، والكبريت ، والنفط ، والملح ، والموميا ، وكل ما يخرج من البحر ، وفي العنبر ، وهو نبات من البحر ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في كتاب الاقتصاد (2) وفي المبسوط (3) أنّه نبات من البحر ، وقال الجاحظ في كتاب الحيوان : العنبر يقذفه البحر إلى جزيرة ، فلا يأكل منه

ص: 485


1- الدخان : 25 و 26 و 27.
2- الاقتصاد : فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس وبيان مستحقه وقسمته ، ص 283 الطبع الحديث.
3- المبسوط : ج 1 فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، وليس فيهما انه نبات من البحر.

شي ء إلا مات ولا ينقره طائر بمنقاره ، إلا نصل فيه منقاره ، وإذا وضع رجليه عليه ، نصلت أظفاره ، فإن كان قد أكل منه ، قتله ما أكل ، وإن لم يكن أكل منه ، فإنّه ميّت لا محالة ، لأنّه إذا بقي بغير منقار ، لم يكن للطائر شي ء يأكل به ، والعطارون يخبروننا بأنّهم ربما وجدوا المنقار والظفر (1) كذا ذكره الجاحظ.

وقال المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر : أصل الطيب خمسة أصناف : المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران كلها تحمل من أرض الهند ، إلا الزعفران ، والعنبر قد يوجد بأرض الزنج والأندلس ، قال : والأفاوية ، خمسة وعشرون صنفا ، ذكر من جملة ذلك السليخة ، والورس ، وقصب الذريرة ، واللاذن ، والزيادة ، وقال ابن جزلة المتطبب في كتاب منهاج البيان : العنبر هو من عين في البحر ، واللاذن ، هو رطوبة وطلّ يقع من السّماء ، فيتعلق بشعر المعزى الراعية ، ولحاها إذا رعت نباتا بفلسوس (2) والزياد عرق دابة مثل السنور (3).

وفي المغرة ، والنورة ، وكلّما يتناوله اسم المعدن ، على اختلاف ضروبه ، سمّيناه وذكرناه ، أو لم نذكره ، فقد حصره بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده ، فقال : الخمس يجب في خمسة وعشرين جنسا (4). وهذا غير واضح ، وحصر ليس بحاصر ، ولم يذكر في جملة ذلك الملح ، ولا الزمرد ، ولا المغرة ، ولا النورة.

ويجب الخمس أيضا في أرباح التجارات ، والمكاسب ، وفيما يفضل من الغلات والزراعات ، على اختلاف أجناسها ، عن مئونة السنة ، له ولعياله.

وفي الكنوز التي توجد في دار الحرب ، من الذهب والفضة ، والدراهم ، والدنانير ، سواء كان عليها أثر الإسلام ، أو لم يكن عليها أثر الإسلام ، فأمّا

ص: 486


1- لا يوجد عندنا
2- في ط : بفلنبوس
3- مروج الذهب : لم نجد فيه.
4- الجمل والعقود : فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، ص 207 الطبع الحديث.

الكنوز التي توجد في بلد (1) الإسلام ، فإن وجدت في ملك الإنسان ، وجب أن يعرف أهله ، فإن عرفه كان له ، وإن لم يعرفه ، أو وجدت في أرض ، لا مالك لها ، أخرج منها الخمس ، وكان له الباقي.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : فهي على ضربين ، ما كان عليها أثر الإسلام ، مثل أن يكون عليها سكة الإسلام ، فهي بمنزلة اللقطة ، وإن لم يكن عليها أثر لإسلام ، أو كان عليها أثر الجاهلية ، من الصور المجسمة ، وغير ذلك ، فإنّه يخرج منها الخمس ، وكان الباقي لمن وجدها (2).

والصحيح ما قدّمناه أولا ، في أنّه يخرج منها الخمس ، سواء كان عليها أثر الإسلام أو لم يكن ، وما ذكره شيخنا في مبسوطة ، مذهب الشافعي ، والصحيح ما ذكره في مسائل خلافه فإنّه قال : يجب في الجميع الخمس ، وأورد خلاف الشافعي ، وقرقه ولم يلتفت إليه ، وقال : دليلنا عموم الأخبار في وجوب الخمس ، من الكنوز ، ولم يفرّقوا بين كنز وكنز (3).

وإذا اختلط المال الحرام بالحلال ، حكم فيه بحكم الأغلب ، فإن كان الغالب حراما احتاط في إخراج الحرام منه ، فإن لم يتميز له اخرج الخمس ، وصار الباقي حلالا ، والتصرف فيه مباحا ، وكذلك إن ورث مالا يعلم أن صاحبه جمع بعضه من جهات محظورة ، من غصب ، وربا ، وغير ذلك ، ولم يعلم مقداره ، أخرج الخمس ، واستعمل الباقي استعمالا مباحا ، وإن غلب في ظنّه ، أو علم أنّ الأكثر حرام ، احتاط في إخراج الحرام منه ، هذا إذا لم يتميز له الحرام ، فان تميّز له بعينه ، أو بمقداره ، وجب إخراجه ، قليلا كان أو كثيرا ، ولا يجب عليه إخراج الخمس منه ، ويرده إلى أربابه ، إذا تميّزوا ، فإن لم يتميزوا جدّ في طلبهم ، وطلب ورّاثهم ، فإن لم يجدهم ، وقطع على انقراضهم ، سلّمه إلى إمام

ص: 487


1- في ط وج : بلاد
2- المبسوط : ج 1 ، فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس.
3- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 148 ، لكن المذكور فيها مخالف لما ذكره.

المسلمين ، فإنّه ماله ، إن كان ظاهرا ، أو حفظه عليه ، إن كان مستترا غائبا من أعدائه ، وقد روي أنّه يتصدق به عنهم (1).

وإذا اشترى ذمي من مسلم أرضا ، كان عليه فيها الخمس.

والعسل الذي يؤخذ من الجبال ، وكذلك المن ، يؤخذ منه الخمس ، وجميع الاستفادات ، من الصيود ، والاحتطاب ، والاحتشاش ، والاستقاء ، والإجارات ، والمجتنيات ، والاكتسابات ، يخرج منه الخمس ، بعد مئونة مستفيدة طول سنته ، على الاقتصاد دون التقصير والإسراف.

والمعدن يملك منه أصحاب الخمس خمسهم ، والباقي لمن استخرجه ، إذا كان في المباح ، فأمّا إذا كان في الملك ، فالخمس لأهله ، والباقي لمالكه.

ولا يعتبر في شي ء من المعادن والكنوز التي يجب فيها الخمس ، الحول ، لأنّه ليس بزكاة بل يجب إخراجه عند أخذها ، ولا يضم أيضا إلى ما معه من الأموال الزكاتية ، لأنّه لا يجب فيها الزكاة ، فإذا حال بعد إخراج الخمس منه حول ، كان عليه فيه الزكاة ، إن كان دراهم أو دنانير ، وإن كان غيرهما ، فلا شي ء فيه.

وجميع ما ذكرناه يجب فيه الخمس ، قليلا كان أو كثيرا ، إلا الكنوز فحسب ، فإنّه لا يجب فيها الخمس ، إلا إذا بلغت إلى القدر الذي يجب فيه الزكاة ، فيكون مقدارها أو قيمتها عشرين دينارا.

والغوص لا يجب فيه الخمس ، إلا إذا بلغ دينارا أو ما قيمته دينار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : إلا الكنوز ، ومعادن الذهب والفضة ، وهذا ليس بواضح ، لأنّ إجماع أصحابنا ، منعقد على استثناء الكنوز ، واعتبار المقدار فيها ، وكذلك الغوص ، ولم يستثنوا غير هذين الجنسين ، فحسب بل إجماعهم منعقد على وجوب إخراج الخمس ، من المعادن جميعها ، على اختلاف

ص: 488


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ح 4.

أجناسها ، قليلا كان المعدن أو كثيرا ، ذهبا كان أو فضة ، من غير اعتبار مقدار ، وهذا إجماع منهم بغير خلاف.

ويجب إخراج الخمس من المعادن والكنوز على الفور ، بعد أخذها ، ولا يعتبر مؤون السنة ، بل يعتبر بعد إخراج مؤنها ونفقاتها ، إن كانت تحتاج إلى ذلك.

وأمّا ما عدا الكنوز ، والمعادن ، من سائر الاستفادات ، والأرباح ، والمكاسب ، والزراعات ، فلا يجب فيها الخمس ، بعد أخذها وحصولها ، بل بعد مئونة المستفيد ، ومئونة من تجب عليه مئونته ، سنة هلالية ، على جهة الاقتصاد ، فإذا فضل بعد نفقته طول سنته شي ء ، أخرج منه الخمس ، قليلا كان الفاضل ، أو كثيرا ، ولا يجب عليه أن يخرج منه الخمس ، بعد حصوله له ، وإخراج ما يكون بقدر نفقته ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وإخراج ذلك على الفور أو وجوبه ذلك الوقت ، يحتاج إلى دليل شرعي ، والشرع خال منه ، بل إجماعنا منعقد بغير خلاف أنّه لا يجب إلا بعد مئونة الرجل طول سنته ، فإذا فضل بعد ذلك شي ء ، أخرج منه الخمس ، من قليله وكثيره ، وأيضا فالمئونة لا يعلمها ، ولا يعلم كميتها ، إلا بعد تقضي سنته ، لأنّه ربما ولد له الأولاد ، أو تزوج الزوجات ، أو انهدمت داره ، ومسكنه ، أو ماتت دابّته ، التي يحتاج إليها ، أو اشترى خادما يحتاج إليه ، أو دابّة يحتاج إليها ، إلى غير ذلك ممّا يطول تعداده وذكره ، والقديم ، ما كلفه إلا بعد هذا جميعه ، ولا أوجب عليه شيئا ، إلا فيما يفضل عن هذا جميعه طول سنته ، وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في جمله وعقوده : ووقت وجوب الخمس فيه ، وقت حصوله (1) يريد به المعادن التي عدّدها ، بدليل قوله واستثنائه الكنوز ، فإنّه قال : إلا الكنوز ، فإنّه يراعى فيها النصاب الذي فيه الزكاة ، والغوص يراعى فيه مقدار دينار ، وما عداهما لا يراعى فيه مقدار ، ولو

ص: 489


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، ص 207.

أراد شيخنا جميع ما يجب فيه الخمس ، على اختلافه لما قال : ووقت وجوب الخمس فيه وقت حصوله ، لأنّ أحدا لا يقول بذلك ، لأنّه وغيره من أصحابنا يقول في المكاسب ، والأرباح ، والزراعات ، والاستفادات ، لا يجب فيها الخمس ، إلا بعد مئونة الرجل طول سنته ، ولا يطلقون الوجوب فيها وقت حصوله ، بل يقيدونه ، ويقولون لا يجب فيها الخمس ، إلا بعد مئونة الرجل طول سنته ، وقد ذكر ابن البراج في كتابه الموسوم بالتعريف ، قال : والوقت الذي يجب إخراج الخمس فيه من المعادن ، هو وقت أخذها (1) فلو كان يجب إخراج الخمس من جميع ما يجب فيه الخمس من الأجناس ، وقت حصوله ، لما أفرد المعادن بالذكر ، دون غيرها فليتأمل ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وما يصطاد من البحر ، من سائر أنواع الحيوان ، لا خمس فيه ، لأنّه ليس بغوص ، فأمّا ما يخرج منه بالغوص ، أو يوجد قفيّا على رأس الماء ، ففيه الخمس (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا قوله رحمه اللّه لأنّه ليس بغوص ، فصحيح ، بل هو استفادة ، ومكتسب ، وعندنا بلا خلاف أنّ في الاستفادة ، الخمس ، بعد المئونة ، ففارق ما يصطاد من البحر ، الغوص. بانّ الخمس لا يجب فيه إلا إذا بلغت قيمته دينارا ، ولا يعتبر مئونة السنة فيه ، وما يصطاد بلا غوص ، لا يعتبر فيه مقدار الدينار ، بل يعتبر فيه مئونة السنة لأنّه استفادة ، وليس بغوص ، فليحصّل عنّي ما ذكرته ، ففيه غموض.

وقال بعض أصحابنا : إنّ الميراث والهدية ، والهبة ، فيه الخمس ، ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي ، في كتاب الكافي (3) الذي صنّفه ، ولم يذكره أحد من أصحابنا ، إلا المشار إليه ، ولو كان صحيحا لنقل نقل أمثاله متواترا ، والأصل براءة الذمة ، فلا نشغلها ، ونعلّق عليها شيئا إلا بدليل ، وأيضا قوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (4).

ص: 490


1- لا يوجد عندنا
2- المبسوط : ج 1 ، فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، في المصدر ( الحيوانات ).
3- الكافي : فصل في الخمس ، ص 170 ، ( وهو غير مشتمل على الهدية )
4- محمّد : 36.

سؤال : إن قيل في غائص غاص دفعة ، فأخرج أقل من قيمة دينار ، ثم غاص ثانية ، فأخرج أقل من قيمة دينار ، إلا أن بمجموعهما ، يكونان دينارا ، فهل عليه فيهما الخمس؟ قيل له : نعم ، يجب عليه فيهما الخمس ، لأنّ الغوص مصدر ، ومعناه المغوص ، والمغوص اسم جنس ، يتناول الدفعة ، والدفعات ، وكذلك القول في رجل ، وجد كنزا ، ينقص عن عشرين دينارا ، ثمّ وجد دفعة ثانية كنزا ، ينقص عن عشرين مثقالا ، المسألة واحدة ، والجواب عنهما سواء.

والأولى عندي والأقوى ، أنّه لا يجب في المسألتين معا الخمس ، إلا أن يبلغ كلّ دفعة في (1) المغوص والمكنوز المقدار المراعى في كلّ واحد منهما ، بانفراده لا مجتمعا مع الدفعة الأخرى ، لأنّ كل دفعة ينطلق عليه اسم المغوص عليه حقيقة لا مجازا ، وكذلك المكنوز ، ويعضد ذلك ، أنّ الأصل براءة الذمة وقوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ، وأيضا إذا وجد الإنسان لقطة أقل من قيمة الدرهم ، ثمّ وجد اخرى أقل من قيمة الدرهم ، فلا خلاف أنّه لا يجب عليه التعريف ، وإن كانتا بمجموعهما تبلغان الدرهم وأكثر.

قال محمّد بن إدريس : ولي في الأولى نظر.

باب قسمة الغنائم والأخماس ومن يستحقها

كل ما يغنمه المسلمون من دار الحرب من جميع الأصناف التي قدمنا ذكرها ، فما حواه العسكر ، يخرج منه الخمس بعد ما يصطفي الإمام عليه السلام ما يختاره ، ما لم يجحف بالغانمين ، وأربعة أخماس ما يبقى ، يقسّم بين المقاتلة ، وما لم يحوه العسكر من الأرضين ، والعقارات ، وغيرها من أنواع الغنائم ، يخرج منه الخمس ، والباقي يكون للمسلمين قاطبة ، مقاتلتهم وغير مقاتلتهم ، من حضر ومن لم يحضر ، من ولد ، ومن لم يولد ، يقسمه الإمام ، بينهم على قدر ما يراه من مؤونتهم ،

ص: 491


1- في ط وج : من.

هكذا ذكره شيخنا في نهايته (1).

قال محمد بن إدريس : ولا أرى لهذا القول وجها ، لأنّ المئونة هاهنا غير معتبرة ، بل الواجب قسمة الغنيمة بين الغانمين ، على رءوسهم ، وخيلهم ، دون مؤونتهم ، بغير خلاف ، بين أصحابنا في ذلك ، للمقاتل سهمه ، سواء كان قليل المئونة ، أو كثيرها.

والخمس يأخذه الإمام ، فيقسمه ستة أقسام ، قسما لله ، وقسما لرسوله ، وقسما لذي القربى ، فقسم اللّه ، وقسم رسوله ، وقسم ذي القربى ، للإمام خاصّة ، يصرفه في أمور نفسه ، وما يلزمه من مئونة من يجب عليه نفقته ، وسهم ليتامى بني هاشم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم. وليس لغير بني هاشم شي ء من الأخماس ، وهؤلاء الذين يحرم عليهم زكاة الأموال الواجبة ، مع تمكنهم من مستحقاتهم ، وأخماسهم ، وقد شرحناهم ، وحققنا نسبهم ، فيما مضى من أبواب الزكاة ، فلا نطوّل بذكره هاهنا.

وعلى الإمام أن يقسم سهامهم فيهم على قدر كفايتهم ، ومؤونتهم ، في السنة على الاقتصاد ، فإن فضل من ذلك شي ء ، كان هو الحافظ له ، والمتولي لحفظه عليهم ، ولا يجوز أن يتملك منه شيئا لنفسه ، لأنّ الحق لهم ، فلا يجوز له أن يأخذ من مالهم شيئا ، وما يوجد في بعض كتب أصحابنا (2) من القول المسطور ، فإن فضل من ذلك شي ء كان له خاصة ، معناه كان له القيام عليه ، والولاية بالحفظ (3) ، والتدبير دون رقبته ، وقد يضاف الشي ء إلى الغير ، بأن يكون قائما عليه ، ومتوليا لحفظه ، فيقال إنّه له ، وفي القرآن مثل ذلك قال اللّه تعالى ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (4) فأضاف تعالى المال إلينا وإن كان مالا لليتيم ، ولا يملك المتولي والوصي رقبته بحال ، بغير خلاف ، بل أضافه إلينا ، لأنّا القوّام عليه ، والحفاظ له ، ومثله في كلام العرب كثير ، ويدلك على ما قلناه ، أنّه لا خلاف بين

ص: 492


1- النهاية : كتاب الخمس ، باب قسمة الغنائم والأخماس.
2- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية
3- في ط وج : لحفظه
4- النساء : 5.

المسلمين ، ولا بين الشيعة خاصة ، أن سهام هؤلاء - أعني اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل ، من بني هاشم خاصة - عندنا ، لا يستحق الإمام منها شيئا جملة ، بل له سهمه ولهم سهمهم ، لأنّ اللّه تعالى كما ملكه سهمه بلام الملك ، والاستحقاق ، ملّكهم سهمهم بذلك اللام ، الذي الواو نائبة عنه ، لأنّ المعطوف في لسان العرب ، له حكم المعطوف عليه ، بغير خلاف.

وقد يوجد أيضا في سواد الكتب ، وشواذ الأخبار ، وإن نقص ، كان عليه أن يتم من خاصّته وهذا غير صحيح ، والكلام عليه ما تقدّم قبله ، بلا فصل ، لأنّ اللّه تعالى ملكه سهمه بلام الملك والاستحقاق ، بنصّ القرآن ، والأصل براءة الذمة الإمام ذمة غيره ، إلا بدليل شرعي ، وذلك مفقود هاهنا ، وقوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ، دليل أيضا ، والقرآن والإجماع من أصحابنا دليلان على استحقاقه عليه السلام ، لنصف الخمس ، فمن أخرج منه شيئا ، وشغل ذمته بتمام كفاية الغير الذين لا يجب عليه نفقتهم ، ولا هم ممن يجبر الإنسان على نفقته ، يحتاج إلى دليل ، ولن نجده بحمد اللّه تعالى ، بل دونه خرط القتاد ، أو المكابرة والعناد ، وما يوجد في سواد بعض الكتب ، فإنّه من أضعف أخبار الآحاد ، لأنّه مرسل غير مسند ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يعمل بذلك ، لأنّه لا يعمل إلا بالمسانيد التي يرويها العدول ، دون المراسيل ، قد أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في تهذيب الأحكام فقال : محمّد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد قال حدّثنا بعض أصحابنا ، وأرسله وذكر الحديث بطوله ، حذفته مخافة التطويل ، واثبت منه المقصود ، وقال في آخر الخبر : فأمّا الخمس فيقسم ستة أسهم : سهم لله ، وسهم للرسول صلى اللّه عليه وآله ، وسهم لذي القربي ، وسهم لليتامى وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ، فالذي لله ، فلرسوله صلى اللّه عليه وآله ، ورسول اللّه أحقّ به ، فهو له ، والذي للرسول ، هو لذي القربى ، والحجة في زمانه فالنصف له خاصة والنصف لليتامى ، والمساكين ، وأبناء

ص: 493

السبيل ، من آل محمد عليهم السلام ، الذين لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة ، عوضهم اللّه مكان ذلك الخمس ، فهو يعطيهم على قدر كفايتهم ، فإن فضل شي ء فهو له ، وإن نقص عنهم ، ولم يكفهم ، أتمه من عنده ، كما صار له الفضل ، كذلك يلزمه النقصان (1) ثمّ أورد خبرا آخر مرسلا ، غير مسند ، أضعف من الخبر الأول ، فقال : الحسن بن علي بن فضال (2) قال : حدّثني علي بن يعقوب أبو الحسن البغدادي ، عن الحسن بن إسماعيل بن صالح الصيمري قال : حدّثني الحسن بن راشد ، قال : حدّثني حماد بن عيسى ، قال : رواه لي بعض أصحابنا ، ذكر عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه السلام. قال : الخمس من خمسة أشياء ، وذكر في آخر الحديث فقال : فله - يعني الإمام - نصف الخمس كملا ، ونصف السهم الباقي بين أهل بيته ثلاثة : سهم لأيتامهم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم ، يقسّم بينهم على الكفاف والسعة (3) ، ما يستغنون به في سنتهم ، فإن فضل عنهم شي ء يستغنون ، فهو للوالي ، وإن عجز أو نقص (4) استغناؤهم ، كان على الوالي أن ينفق من عنده ، بقدر ما يستغنون به ، وانّما صار عليه أن يمونهم ، لأنّ له ما فضل عنهم (5).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فهذان الحديثان الضعيفان ، أوردهما في تهذيب الأحكام الذي لم يصنّف كتابا في الأخبار أكبر منه ، ولم يورد فيه غيرهما مع ما قد جمع فيه من الأخبار المتواترة ، والآحاد ، والمراسيل ، والمسانيد ، وإلا فالسبر (6) بيننا وبين المخالف في ذلك ، فهل يحل لمن له أدنى تأمّل ومعرفة ، أن يعدل عن كتاب اللّه تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إلى

ص: 494


1- التهذيب : كتاب الزكاة ، باب تمييز أهل الخمس ومستحقه ، ح 364.
2- وفي التهذيب علي بن الحسن بن فضال.
3- ج : على الكفايات.
4- ج : ونقص.
5- التهذيب : كتاب الزكاة ، باب قسمة الغنائم ، ح 366.
6- ج : ما لسبر.

هذين الخبرين المرسلين ، وراوي أحدهما فطحي المذهب ، كافر ملعون ، مع كونه مرسلا وهو الحسن بن الفضال ، وبنو فضال كلّهم فطحية ، والحسن رأسهم في الضلال ، ثمّ لو سلّمناهما تسليم جدل ، ما كان فيهما ما ينافي ما ذكرناه ، لأنّه قال فيهما : وإن نقص استغناؤهم ، كان على الوالي أن ينفق من عنده ، بقدر ما يستغنون به ، لأنّه عليه السلام القائم بأمور الرعية ، الناظر في أحوالهم ، سواء كانوا هاشميين ، أو عاميين ، فإنّه يجب عليه أن ينفق عليهم من بيت مال المسلمين ، لا من ماله ، لأنّ لهم في بيت المال حظا مثل سائر الناس ، وليس المال الذي في بيت مال المسلمين مختصا بأرباب الزكوات ، بل الناس جميعهم فيه شرع سواء ، وهو المتولي لتفرقته عليهم ، فقوله : من عنده ، أي من تحت يده ، وأيضا فقد بيّنا أنّه لا يجوز العمل بأخبار الآحاد ، وإن كانت رواتها ثقات ، عند أهل البيت عليهم السلام ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأكثر ما يثمر غلبة الظن ، ولا يجوز العدول عن المعلوم الذي هو كتاب اللّه تعالى إلى المظنون ، وأدلّة العقول تعضد ذلك ، وتشهد به ، لأنّ مال الغير لا يجوز التصرف فيه ، إلا بإذنه ، ولو لم يكن في ذلك إلا طريقة الاحتياط لبراءة الذمة ، لكفى ، لأنّ الذمة مشغولة بهذا المال ، وإيصاله إلى صاحبه ، ومستحقه ، فإذا فعل ذلك تيقن براءة ذمته مما لزمها ، وإذا أعطاه لغيره ففيه الخلاف ، ولم يتيقن براءة ذمته ، وإذا لم يكن مع المخالف إجماع ، فدليل القرآن ، وأدلّة العقول ، ودليل الاحتياط ، التمسك بها في المسألة ، هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه ، لذي لبّ وتأمّل وتحصيل ، وأيضا فالمسألة الشرعيّة ، لا نعلمها إلا من أربع طرق ، كتاب اللّه العزيز ، وسنة رسوله المتواترة ، وإجماع الشيعة الإمامية ، لدخول قول معصوم فيه ، فإذا فقدنا الثلاث الطرق ، فدليل العقل المفزع إليه فيها ، فهذا معنى قول الفقهاء : دلالة الأصل ، فسبرنا كتاب اللّه تعالى ، فما وجدنا فيه ، أنّ مال ابن الحسن ، يعطى لغيره ، ويستحقه سواه ، ويسلّم إليه بغير اذنه ، وكذلك السنة المتواترة ، ولا أجمعنا

ص: 495

على أنّ مال ابن الحسن ، يستحقه غيره ، ويسلم إلى سواه ، بغير اذنه فلم يبق معنا من الأدلة والطرق الأربع ، سوى دليل العقل ، ودليل العقل يحظر علينا التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، هذا لا معدل للمنصف المتأمّل عن هذا الاستدلال إلا إليه ، أعوذ باللّه من سوء التوفيق ، ثم لا تجد مصنّفا من أصحابنا بعد ذكره لهذه المسألة ، إلا ويودع في كتابه ، ويفتي ويقول : إنّ نصف الخمس ، يوصى به لصاحبه ، أو يحفظ لصاحبه ، أو يودع لصاحبه ، على اختلاف العبارات ، فلو أراد أنّه يستحقه غيره مع غيبته ، ويسلم إلى من سواه ، لكانوا مناقضين في أقوالهم ، والأدلة لا تتناقض ، وإلا فالسبر بيننا.

وهؤلاء الذين يستحقون الخمس ، هم الذين قدّمنا ذكرهم ، ممن يحرم عليهم الزكاة ، ذكرا كان أو أنثى ، فإن كان هناك ، من امّه ، من غير أولاد المذكورين ، وكان أبوه منهم حل له الخمس ، ولم تحل له الزكاة ، وإن كان ممن أبوه من غير أولادهم ، وامّه منهم ، لم يحلّ له الخمس ، وحلّت له الزكاة.

واليتامى وابن السبيل ، يعطيهم مع الفقر والغنى ، لأنّ الظاهر يتناولهم.

وينبغي أن يفرّق الخمس في الأولاد ، وأولاد الأولاد ، ولا يخصّ بذلك الأقرب فالأقرب ، لأنّ الاسم يتناول الجميع ، وليس ذلك على وجه الميراث ، ولا يفضل ذكر على الأنثى ، من حيث كان ذكرا ، لأنّ التفرقة انّما هي على قدر حاجتهم إلى ذلك ، وذلك يختلف بحسب أحوالهم ، ويعطى الصغير منهم والكبير ، لتناول الاسم لهم ، والظاهر يقتضي أن يفرّق في جميع من تناوله الاسم ، في بلد الخمس كان ، أو في غيره من البلاد ، قريبا كان ، أو بعيدا ، إلا أن ذلك يشق ، والأولى أن نقول : نخصّ به من حضر البلد الذي فيه الخمس ، ولا يحمل إلى غيره ، إلا مع عدم مستحقه.

ولو أنّ إنسانا حمل ذلك إلى بلد آخر ، ووصل إلى مستحقه ، لم يكن عليه شي ء ، إلا أنّه يكون ضامنا ، إن هلك ، مثل الزكاة.

ولا ينبغي أن يعطي إلا من كان مؤمنا ، أو بحكم الإيمان ، ويكون عدلا

ص: 496

مرضيا ، فإن فرّق في الفساق جاز ذلك ، ولم يكن عليه ضمان ، لأنّ الظاهر يتناولهم.

ومتى حضر الثلاثة الأصناف ، ينبغي أن لا يخصّ به قوم دون قوم ، بل الأفضل تفريقه في جميعهم ، وإن لم يحضر عند المعطي ، إلا فرقة منهم ، جاز له أن يفرّق فيهم ، ولا ينتظر غيرهم ولا يحمل إلى بلد آخر ، إلا على ما قلناه وحررناه.

باب في ذكر الأنفال ومن يستحقها

الأنفال هي جمع نفل ، ونفل يقال بسكون الفاء وفتحها ، وهو الزيادة ، وهي كل أرض خربة باد أهلها ، إذا كانت قد جرى عليها ملك أحد ، وكل أرض ميتة خربة لم يجر عليها ملك لأحد ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، الإيجاف : السير السريع ، أو أسلمها أهلها طوعا بغير قتال ، ورءوس الجبال ، وبطون الأودية ، والآجام التي ليست في أملاك المسلمين ، بل التي كانت مستأجمة قبل فتح الأرض ، والمعادن التي في بطون الأودية ، التي هي ملكه ، وكذلك رءوس الجبال ، فأمّا ما كان من ذلك في أرض المسلمين ، ويد مسلم عليه ، فلا يستحقه عليه السلام ، بل ذلك في الأرض المفتتحة عنوة ، والمعادن التي في بطون الأودية مما هي له ، والأرضون الموات التي لا أرباب لها ، وصوافي الملوك وقطائعهم التي كانت في أيديهم ، لا على وجه الغصب ، وميراث من لا وارث له ومن الغنائم قبل أن تقسّم ، الجارية الرائعة الحسناء ، والفرس الجواد - وقال بعض أصحابنا في كتاب له : الفرس الفاره ، وأهل اللغة يأبون هذا ، ويقولون : إنّ الفرس لا يقال له فاره ، بل يقال فرس جواد ، وحمار فاره - والثوب المرتفع ، وما أشبه ذلك ، من الدرع الحصينة ، والسيف القاطع ، مما لا نظير له ، من رقيق ، أو متاع ، ما لم يجحف بالغانمين.

وإذا قاتل قوم أهل حرب بغير أمر الإمام ، فغنموا ، كانت الغنيمة خاصّة للإمام ، دون غيره ، فجميع ما ذكرناه ، كان للنبي عليه السلام خاصّة ، وهو لمن

ص: 497

قام مقامه من الأئمة ، في كل عصر ، لأجل المقام لا وراثة ، فلا يجوز لأحد التصرّف في شي ء من ذلك ، إلا بإذنه ، فمن تصرّف في شي ء من ذلك بغير اذنه ، كان غاصبا ، وما يحصل منه من الفوائد والنماء للإمام ، دون غيره.

ومتى تصرّف في شي ء منه بأمر الإمام وبإباحته ، أو بضمانه ، وقبالته ، كان عليه أن يؤدّي ما يصالحه الإمام عليه ، من نصف ، أو ثلث ، أو ما تقرر بينهما ، والباقي له ، وكل منهما تجب عليه الزكاة ، إذا بلغت حصته النصاب.

هذا إذا كان في حال ظهور الإمام ، وانبساط يده ، فأمّا في حال الغيبة وزمانها واستتاره عليه السلام ، من أعدائه ، خوفا على نفسه ، فقد رخّصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم ، مما يتعلق بالأخماس وغيرها ، مما لا بدّ لهم ، من المناكح ، والمتاجر - والمراد بالمتاجر أن يشتري الإنسان مما فيه حقوقهم عليهم السلام ويتجر في ذلك ، ولا يتوهم متوهم ، أنّه إذا ربح في ذلك المتجر شيئا ، لا يخرج منه الخمس ، فليحصّل ما قلناه ، فربما اشتبه - والمساكن ، فأمّا ما عدا الثلاثة الأشياء ، فلا يجوز التصرف فيه على حال.

وما يستحقونه من الأخماس ، في الكنوز ، والمعادن ، والأرباح ، والمكاسب ، والزراعات ، الفاضلة عن مئونة السنة ، وغير ذلك في حال الغيبة ، فقد اختلفت أقوال الشيعة الإمامية في ذلك ، وليس فيه نص معيّن ، فقال بعضهم : إنّه جار في حال الاستتار ، مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر والمساكن ، وهذا لا يجوز العمل عليه ، ولا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، لأنّه ضد الدليل ، ونقيض الاحتياط ، وأصول المذهب ، وتصرّف في مال الغير ، بغير اذن قاطع.

وقال قوم : إنّه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا ، فإذا حضرته الوفاة ، وصى به إلى من يثق بديانته ، من إخوانه ، ليسلم إلى صاحب الأمر ، إذا ظهر ، ويوصى به ، كما وصّي إليه إلى أن يصل إلى صاحبه عليه السلام وقال قوم : يجب دفنه ، لأنّ الأرضين تخرج ما فيها ، عند قيام القائم ، مهدي الأنام عليه السلام ، واعتمد في ذلك على خبر واحد.

ص: 498

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والأولى عندي الوصية به ، والوديعة ، ولا يجوز دفنه ، لأنّه لا دليل عليه.

وقال قوم : يجب أن يقسّم الخمس ، ستة أقسام ، فثلاثة أقسام للإمام ، يدفن أو يودع من يوثق بأمانته ، والثلاثة الأقسام الأخر ، تفرّق على مستحقيها ، من أيتام بني هاشم ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، لأنّهم المستحقون لها ، وهم ظاهرون ، وعلى هذا يجب أن يكون العمل والاعتماد والفتيا ، لأنّ مستحقها ظاهر ، وانّما المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر ، فهو مثل الزكاة ، في أنّه يجوز تفرقتها ، وإن كان الذي يجبي الصدقات ويتولّاها ليس بظاهر ، فأمّا القول الأول فلا يجوز العمل به على حال.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا الذي اخترناه ، وحقّقناه ، وأفتينا به ، هو الذي يقتضيه الدين ، وأصول المذهب ، وأدلة العقول ، وأدلة الفقه ، وأدلة الاحتياط ، وإليه يذهب ويعوّل عليه ، جميع محققي أصحابنا المصنّفين ، المحصّلين ، الباحثين ، عن مأخذ الشريعة ، وجهابذة الأدلة ، ونقّاد الآثار ، فانّ جميعهم يذكرون في باب الأنفال هذه المقالة ، ويعتمدون على القول الأخير الذي ارتضيناه ، بغير خلاف بينهم ، ويقولون ما حكيناه. ويذكرون ما شرحناه ، ويصرّحون بأنّه ليس فيه نص معيّن ، فلو كان الخبران الضعيفان صحيحين ، ما كانوا يقولون ليس فيه نص معيّن.

وشيخنا المفيد ، يقول : وإنّما اختلفوا في ذلك ، لعدم ما يلجأ إليه من صريح المقال ، وما سطرناه واخترناه ، مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه واختياره في مبسوطة (1) ، وهذا الكتاب ، اللّهم آخر ما صنّفه في الفقه ، فإنّه بعد النهاية ، والتهذيب ، والاستبصار ، والجمل والعقود ، ومسائل الخلاف ، وإن كان

ص: 499


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، في ذكر الأنفال وما يستحقها ، ص 264.

في جميع كتبه هذا اختياره ، وفتواه ، واعتقاده ، مع اختلاف عباراته في كتبه ، وتصنيفاته ، وإن كان المعنى واحدا ، وقد أفتى فتيا صريحة ، في جواب المسائل الحائريات ، فقال له السائل : وعن رجل وجد كنزا ، لم يجد من يستحق الخمس منه ، ولا من يحمله إليه ، ما يصنع به؟ فقال : الجواب ، الخمس نصفه لصاحب الزمان ، يدفنه أو يودعه عند من يثق به ، ويأمره بأن يوصي بذلك إلى أن يصل إلى مستحقه ، والنصف الآخر يقسمه في يتامى آل الرسول ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، فإنّهم موجودون ، وإن خاف من ذلك ، أودع الخمس كلّه ، أو دفنه (1) هذا أخر فتياه رحمه اللّه ، فلو كان يرى أنّ حقّ صاحب الزمان ، يجوز صرفه إلى بني هاشم ، في حال الغيبة ، لما أفتى بما ذكرناه عنه.

والسيد المرتضى رضي اللّه عنه أفتى في المسائل الموصليات الثانية الفقهية ، وهي المسألة الثلاثون فقال : والخمس ستة أسهم ، ثلاثة منها للإمام القائم بخلافة الرسول ، وهي سهم اللّه ، وسهم رسوله ، وسهم الإمام ، والثلاثة الباقية ، ليتامى آل الرسول ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، خاصة ، دون الخلق أجمعين.

وتحقيق هذه المسألة ، انّ إخراج الخمس واجب ، في جميع الغنائم ، والمكاسب ، وكل ما استفيد بالحرب (2) وما استخرج أيضا من المعادن ، والغوص ، والكنوز ، وما فضل من أرباح التجارات ، والزراعات ، والصناعات ، عن المئونة والكفاية ، وقسمة هذا الخمس ، وتمييز أهله ، هو أن يقسّم على ستّة سهام ، ثلاثة منها للإمام القائم مقام الرسول عليهما السلام وهي سهم اللّه ، وسهم رسوله ، وسهم ذي القربى ، لأنّ إضافة اللّه تعالى ذلك إلى نفسه ، هي في المعنى للرسول عليه السلام ، إنّما (3) أضافها إلى - نفسه ، تفخيما لشأن الرسول ، وتعظيما ، كإضافة طاعة الرسول عليه السلام إليه تعالى ، وكما أضاف رضاه عليه السلام وأذاه إليه ، جلّت عظمته.

ص: 500


1- لم نجد المسألة في المسائل الحائريات.
2- ج : بالحرف.
3- في ط وج : والنما.

والسهم الثاني المذكور المضاف إلى الرسول عليه السلام ، له بصريح الكلام ، وهذان السهمان معا للرسول عليه السلام في حياته ، ولخليفته القائم مقامه بعده.

فأمّا المضاف إلى ذي القربى ، فإنّما عنى به ولي الأمر من بعده ، لأنّه القريب إليه ، الخصيص به.

والثلاثة أسهم الباقية ، ليتامى آل محمّد عليهم السلام ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، وهم بنو هاشم خاصة ، دون غيرهم.

وإذا غنم المسلمون شيئا من دار الكفر ، بالسيف ، قسمه الإمام على خمسة أسهم ، فجعل أربعة منها بين من قاتل عليه ، وجعل السهم الخامس على ستة أسهم ، وهي التي قدّمنا بيانها ، ثلاثة منها ، له عليه السلام ، وثلاثة للثلاثة الأصناف من أهله ، من أيتامهم ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، والحجة في ذلك إجماع الفرقة المحقة عليه ، وعملهم به.

فإن قيل : هذا تخصيص لعموم الكتاب ، لأنّ اللّه تعالى يقول ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (1) فأطلق ، وعمّ ، وأنتم جعلتم المراد بذي القربى واحدا ، ثمّ قال ( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) وهذا عموم ، فكيف خصّصتموه ببني هاشم خاصّة؟.

فالجواب عن ذلك ، أنّ العموم قد يخصّ بالدليل القاطع ، وإذا كانت الفرقة المحقة ، قد أجمعت على الحكم الذي ذكرناه خصّصنا بإجماعهم ، الذي هو غير محتمل الظاهر المحتمل ، على أنّه لا خلاف بين الأمّة ، في تخصيص هذه الظواهر ، لأنّ إطلاق قوله تعالى : « ذي القربى » يقتضي عمومه ، قرابة النبي عليه السلام ، وغيره ، فإذا خصّ به قرابة النبيّ عليه السلام ، فقد عدل عن الظاهر ، وكذلك

ص: 501


1- الأنفال : 41.

إطلاق لفظة اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل تقتضي دخول من كان بهذه الصفة ، من مسلم ، وذمي ، وغني ، وفقير ، ولا خلاف في أنّ عموم ذلك ، غير مراد ، وأنّه مخصوص على كل حال (1) هذا آخر كلام السيد المرتضى لا زيادة فيه ولا نقصان.

قال محمّد بن إدريس : فهل ترى أرشدك اللّه ، خللا في كلام السيد ، أو أنّه أعطى مال ابن الحسن لغيره ، أو تمّم لشركائه عليه السلام من سهمه ، إذا نقص سهمهم عن كفايتهم ، بل قسّمه على ما قسمه اللّه سبحانه ، وأعطى كل ذي حقّ حقّه ، ولم يلتفت إلى خبر شاذ ، وقول سخيف ، ومذهب ضعيف ، وإلى هذا القول ذهب رحمه اللّه في كتابه كتاب الانتصار (2).

وأمّا شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه اللّه ، فقد قال في مقنعته : وقد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك ، عند الغيبة ، وذهب كل فريق منهم إلى مقال ، فمنهم من يسقط (3) فرض إخراجه لغيبة الإمام ، وما تقدّم من الرخص فيه ، من الاخبار ، وبعضهم يوجب كنزه ، ويتأوّل خبرا (4) ورد أنّ الأرض تظهر كنوزها ، عند ظهور القائم ، مهدي الأنام عليه السلام ، وأنّه عليه السلام إذا قام ، دلّه اللّه سبحانه على الكنوز ، فيأخذها من كل مكان ، وبعضهم يرى صلة الذرية به ، وفقراء الشيعة على طريق الاستحباب ، ولست أدفع قرب هذا القول من الصواب ، وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر عليه السلام ، فإن (5) خشي إدراك المنية قبل ظهوره ، وصّى به إلى من يثق به ، في عقله وديانته ، ليسلمه إلى الإمام عليه السلام ، إن أدرك قيامه ، وإلا وصّى به إلى من يقوم مقامه ، في

ص: 502


1- المجموعة الاولى من رسائل الشريف ، ص 8 - 226. راجعها.
2- الانتصار : كتاب الزكاة ، في بيان أواخر مسائل الكتاب.
3- ج : وط : أسقط وفي نسخة المقنعة يسقط.
4- الإرشاد للمفيد رحمه اللّه فصل في سيرته عليه السلام عند قيامه.
5- ج : فإذا.

الثقة والديانة ، ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان عليه السلام. وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم ، لأنّ الخمس حقّ واجب ، لغائب لم يرسم قبل غيبته رسما يجب الانتهاء إليه ، فوجب حفظه عليه ، إلى وقت إيابه ، أو التمكن من إيصاله إليه ، أو وجود من انتقل بالحق إليه ، وجرى أيضا مجرى الزكاة التي يعدم عند حلولها مستحقها فلا يجب عند عدمه سقوطها ، ولا يحل التصرف فيها ، على حسب التصرف في الأملاك ، ويجب حفظها بالنفس ، والوصيّة بها إلى من يقوم بإيصالها إلى مستحقها ، من أهل الزكاة من الأصناف ، وإن ذهب ذاهب إلى صنع ما وصفناه ، في شطر الخمس الذي هو حق خالص للإمام عليه السلام ، وجعل الشطر الآخر في يتامى آل الرسول عليهم السلام ، وأبناء سبيلهم ، ومساكينهم ، على ما جاء في القرآن ، لم تبعد إصابته الحقّ في ذلك ، بل كان على صواب ، وانّما اختلف أصحابنا في هذا الباب ، لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ ، وانّما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة ، مع إقامة الدليل بمقتضى العقل والأثر ، من لزوم الأصول في حظر التصرف في غير المملوك ، إلا بإذن المالك ، وحفظ الودائع لأهلها ورد الحقوق (1) هذا آخر قول شيخنا المفيد رحمه اللّه في مقنعته.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا الشيخ المفيد جليل القدر ، مقتدى بأقواله ، وفتاويه ، انتهت رئاسة الشيعة الإمامية في عصره وزمانه إليه ، على ما حكاه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه عنه ، وهو صاحب النظر الثاقب ، والمناظرات في الإمامة ، والمقالات المستخرجة التي لم تسبق إليها ، فانظر أرشدك اللّه تعالى إلى قوله : « وانّما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ » فلو كان فيه نص صريح ، وأخبار متواترة ، ما جاز له أن

ص: 503


1- المقنعة : كتاب الخمس ، باب الزيادات في باب الأنفال ص 287.

يقول ذلك. ثم قال : « وإنّما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة ، ثم قال : مع إقامة الدليل بمقتضى العقل والأثر من لزوم الأصول ، في حظر التصرف في غير المملوك إلا بإذن المالك » مقصوده ، أنّ اللّه تعالى لا يكلّفنا شيئا إلا وينصب عليه الأدلة ، وإلا يكون تكليفا لما لا يطاق ، وتعالى اللّه عن ذلك ، فلما عدمت النصوص ، والخطاب من جهة الشارع ، كان لنا أدلة العقول منارا وعلما ، على المسألة ، نهتدي بها إليها ، على ما مضى شرحه في باب قسمة الغنائم والأخماس ، فقد أشبعنا القول في ذلك ، وحققناه وقلنا : إذا عدم أدلة الكتاب ، والأخبار المتواترة ، والإجماع في المسألة الشرعية ، كان فرضنا وتكليفنا فيها ، العمل بما يقتضيه العقل ، لأنّها تكون مبقاة عليه بغير خلاف من محصّل ، ولو اقتصر في المسألة على دليل الاحتياط ، لكفى ، فكيف والأدلة العقلية ، والسمعية قائمة عليها؟

ثم قال الشيخ المفيد ، في جواب المسائل التي سأله عنها محمّد بن محمّد بن الرملي وهي مشهورة : سؤال : وعن رجل وجد كنزا ، ثم لم يجد من يستحق الخمس منه ، ولا من يحمل إليه ، ما يصنع به ، وليس له في بلده الذي هو فيه ، أهل يدفع إليه ، ما يصنع به؟ جواب : يصرف نصف الخمس ، ليتامى آل محمّد عليهم السلام ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، ويجوز النصف الآخر ، لولي الأمر عليه السلام ، فإن أدركه ، سلّمه إليه ، وإن لم يدركه ، وصّى به له ، وجعله عند ثقة ، يوصله إليه ، فإن لم يجده الموصى إليه ، وصّى به إلى من جعله يقوم مقامه ، في ذلك ، وإذا لم يجد في بلده من يتامى آل محمد عليهم السلام ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، أحدا نفذه إلى بلد يكون فيه ، ليصل إليهم منه ، فانظر إلى فتوى هذا الشيخ رحمه اللّه.

ص: 504

كتاب الحجّ

اشارة

ص: 505

كتاب الحج

باب حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما

الحج في اللغة هو القصد ، وفي الشريعة كذلك ، إلا أنّه اختص بقصد البيت الحرام ، لأداء مناسك مخصوصة عنده ، متعلّقة بزمان مخصوص ، والعمرة هي الزيارة في اللغة ، وفي الشريعة عبارة عن زيارة البيت الحرام ، لأداء مناسك (1) عنده ، ولا يختص بزمان مخصوص ، إذا كانت مبتولة. فأمّا العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فإنّها تختصّ بزمان مخصوص ، مثل الحجّ سواء ، لأنّها داخلة في الحجّ ، وما ذكرته من حقيقة الحج في الشريعة ، ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (2) وفي جمله وعقوده (3).

والأولى أن يقال : الحج في الشريعة ، هو القصد إلى مواضع مخصوصة ، لأداء مناسك مخصوصة عندها ، متعلقة بزمان مخصوص ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ الوقوف بعرفة وقصدها واجب ، وكذلك المشعر الحرام ، ومنى ، فإذا اقتصرنا في الحد على البيت الحرام فحسب ، خرجت هذه المواضع من القصد ، وهذا لا يجوز ، فأمّا ما ذكره في حقيقة العمرة المبتولة ، فحسن ، لا استدراك عليه فيه ، لأنّ الوقوف بعرفة والمشعر ومنى لا يجب في العمرة المبتولة ، بل قصد البيت الحرام فحسب ، ولو قيّد العمرة بالمبتولة كان حسنا ، بل أطلقها ، وإن كان مقصوده رحمه اللّه ما ذكرناه.

ص: 506


1- في ج : مناسك مخصوصة.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج وكيفيته وشرائط وجوبه.

وهما على ضربين : مفروض ، ومسنون ، فالمفروض منهما على ضربين : مطلق من غير سبب ، وواجب عند سبب. فالمطلق من غير سبب ، هو حجة الإسلام ، وعمرة الإسلام.

وشرائط وجوبهما ثمانية : البلوغ ، وكمال العقل ، والحرية ، والصحة ، ووجود الزاد والراحلة ، والرجوع إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة ، أو الحرفة ، وتخلية السرب من الموانع ، وإمكان المسير.

قولهم : إمكان المسير ، هو غير تخلية السرب ، لأنّ السرب الطريق ، بفتح السين ، وإمكان المسير ، يراد به ، أنّه وجد القدرة من المال في زمان لا يمكنه الوصول إلى مكّة ، لضيق الوقت ، مثال ذلك ، أنّ رجلا من بغداد ، وهو فقير ، استغنى ، ووجد شرائط الحج ، في أوّل ذي الحجّة ، أو كان قد بقي ليوم عرفة ، ثلاثة أيام ، أو أقل من ذلك ، والطريق مخلّى ، أمين ، فلا يجب عليه في هذه السنة الحج ، لأنّه لا يمكنه المسير بحيث يدرك الحج ، وأوقاته ، وأمكنته في هذه المدّة ، فإن وجد المال والشرائط ، ومعه من الزمان ما يمكنه الوصول ، وإدراك هذه المواضع في أوقاتها ، فقد أمكنه المسير ، فهذا معنى إمكان المسير.

ومتى اختل شي ء من هذه الشرائط الثمان ، سقط الوجوب ، ولم يسقط الاستحباب ، هذا على قول بعض أصحابنا ، فإنّهم مختلفون في ذلك ، فبعض يذهب إلى أنّه لا يجب إلا مع هذه الشرائط الثمانية (1) وبعض منهم ، يقول : يجب الحج على كلّ حرّ ، مسلم ، بالغ ، عاقل ، متمكن من الثبوت على الراحلة ، إذا زالت المخاوف والقواطع ، ووجد من الزاد والراحلة ما ينهضه في طريقه ، وما يخلفه لعياله من النفقة.

وعبارة أخرى لمن لا يراعي الثماني شرائط ، بل يسقط الرجوع إلى كفاية ، ويراعي سبع شرائط فحسب ، قال : الحج يجب على كل حرّ ، بالغ ، كامل ، العقل ، صحيح الجسم ، يتمكن من الاستمساك على الراحلة ، مخلّى السرب من الموانع ، يمكنه المسير ، واجد للزاد والراحلة ، ولما يتركه من نفقة من تجب عليه

ص: 507


1- في ج : وط : الثمانية.

نفقته على الاقتصاد ، ولما ينفقه على نفسه ذاهبا وجائيا بالاقتصاد ، وإلى المذهب الأول ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في سائر كتبه إلا في استبصاره (1) ، ومسائل خلافه (2) ، وإلى المذهب الثاني ذهب السيد المرتضى ، في سائر كتبه ، حتى أنّه ذهب في الناصريات ، إلى أنّ الاستطاعة التي يجب معها الحج ، صحّة البدن ، وارتفاع الموانع ، والزاد ، والراحلة فحسب ، وقال رحمه اللّه : وزاد كثير من أصحابنا ، أن يكون له سعة يحج ببعضها ، وتبقى بعضا لقوت عياله ، ثم قال رضي اللّه عنه : دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه ، بعد الإجماع المتكرر ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه ، أنّ الحجّ يلزمه (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والذي يقوى في نفسي ، وثبت عندي ، واختاره وافتي به ، واعتقد صحّته ، ما ذهب إليه السيد المرتضى ، واختاره ، لأنّه إجماع المسلمين قاطبة ، إلا مالكا فإنّه لم يعتبر الراحلة ، ولا الزاد ، إذا كان ذا صناعة يمكنه الاكتساب بها في طريقه ، وإن لم يكن ذا صناعة ، وكان يحسن السؤال ، وجرت عادته به ، لزمه أيضا الحج ، فإن لم يجر عادته به لم يلزمه الحج.

فأمّا ما ذهب إليه الفريق الآخر ، من أصحابنا ، فإنهم يتعلقون باخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يخصص بمثلها القرآن ، ولا يرجع عن ظاهر التنزيل بها ، بل الواجب العمل بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (4) ولا خلاف أنّ من ذكرنا حاله قادر على إتيان البيت ، وقصده ، لأنّه تعالى قال ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ولو لا إجماع المسلمين على إبطال قول مالك ، لكان ظاهر القرآن معه ، بل أجمعنا على تخصيص المواضع التي أجمعنا عليها ، وخصّصناها بالإجماع ، بقي الباقي ، فظاهر

ص: 508


1- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 2 ( ولا يخفى ان ما في الخلاف موافق لسائر كتبه في اشتراط الرجوع الى الكفاية ).
3- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 136.
4- آل عمران : 97.

الآية (1) على عمومها ، فمن خصص ما لم يجمع على تخصيصه ، يحتاج إلى دليل ، الا ترى إلى استدلال السيد المرتضى رضي اللّه عنه وقوله : « دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتكرر ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه ، أنّ الحج يلزمه » فقد استدل بإجماع الفرقة ، وإجماع المسلمين ، بقوله « لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه أن الحج يلزمه » واستدل أيضا على بطلان قول مالك ، وصحة ما ذهب السيد إليه ، واختاره (2) بما روي أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله سئل عن قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) فقيل له : يا رسول اللّه ، ما الاستطاعة؟ فقال : الزاد والراحلة (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وأخبارنا متواترة عامّة في وجوب الحجّ ، على من حاله ما ذكرناه ، قد أوردها أصحابنا في كتب الأخبار ، من جملتها ما ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه تهذيب الأحكام (4) وفي الاستبصار فمما أورده في الاستبصار ، عن الكليني محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، قال سأل حفص الكناسي أبا عبد اللّه عليه السلام ، وأنا عنده ، عن قول اللّه عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه ، مخلّى سربه ، له زاد وراحلة ، فلم يحج ، فهو ممّن يستطيع الحجّ ، قال : نعم (5).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، في قول اللّه عزوجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )

ص: 509


1- ج : بالإجماع وبقي الباقي بظاهر.
2- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 136 ( ولا توجد الرواية بعينها في كتب الروائي ).
3- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 136 ( ولا توجد الرواية بعينها في كتب الروائي ).
4- التهذيب : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
5- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 2.

من استطاع إليه سبيلا قال : أن يكون له ما يحج به ، قال : قلت من عرض عليه ما يحج به ، فاستحيى من ذلك ، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا قال : نعم ، ما شأنه يستحيي ، ولو يحج على حمار أبتر ، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا ، ويركب بعضا ، فليحج (1) موسى بن القاسم ، عن معاوية بن وهب ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر ، قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، قال : يكون له ما يحج به ، قلت : فإن عرض عليه الحج ، فاستحيى ، قال : هو ممّن يستطيع ، ولم يستحيي ، ولو على حمار أجدع أبتر ، قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فجعل شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، هذه الأخبار عمدته ، وبها صدّر الباب في ماهية الاستطاعة ، وانّها شرط في وجوب الحج ، وهذه طريقته في هذا الكتاب ، أعني كتاب الاستبصار ، يقدّم في صدر الباب ما يعمل به من الأخبار ، ويعتمد عليه ، ويفتي به ، وما يخالف ذلك يؤخّره ، ويتحدّث عليه ، هذه عادته ، وسجيّته ، وطريقته في هذا الكتاب ، فمذهبه في الاستبصار ، هو ما اخترناه ، وقد رجع عن مذهبه في نهايته (3) وجمله وعقوده (4) واختار في استبصاره ما ذكرناه ، ثم قال رحمه اللّه : فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن أحمد ، عن علي ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، قول اللّه عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، قال : يخرج ويمشي ، إن لم يكن عنده مركب ، قلت : لا يقدر على المشي ، قال : يمشي ويركب ، قلت : لا يقدر على ذلك ، أعني المشي ، قال : يخدم القوم ويخرج معهم (5).

ص: 510


1- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 3 و 4.
2- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 3 و 4.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
4- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج وكيفيته وشرائط وجوبه.
5- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة : ح د.

عنه ، عن فضالة بن أيوب ، عن معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل عليه دين ، أعليه أن يحج؟ قال : نعم ، انّ حجة الإسلام واجبة ، على من أطاق (1) المشي من المسلمين ، ولقد كان من حج مع النبي عليه السلام ، أكثرهم مشاة ، ولقد مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بكراع الغميم ، فشكوا إليه الجهد والعياء (2) فقال : شدوا أزركم (3) ، واستبطئوا (4) ففعلوا ذلك ، فذهب عنهم (5) (6).

قال رحمه اللّه : فلا تنافي بين هذين الخبرين ، والأخبار الأولة المتقدّمة ، لأنّ الوجه فيهما أحد شيئين ، أحدهما أن يكونا محمولين على الاستحباب ، لأنّ من أطاق المشي ، مندوب إلى الحج ، وإن لم يكن واجبا يستحق بتركه العقاب ، ويكون إطلاق اسم الوجوب عليه على ضرب من التجوز ، مع انّا قد بينا انّ ما هو مؤكد شديد الاستحباب ، يجوز أن يقال فيه أنّه واجب وإن لم يكن فرضا.

والوجه الثاني : أن يكونا محمولين على ضرب من التقية ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامة ، ألا ترى أنّه رحمه اللّه قد اعتمد على الأخبار الأولة ، في وجوب الحج على من وجد الزاد والراحلة ، ونفقة طريقه ذاهبا وجائيا ، وما يخلفه نفقة من يجب عليه نفقته مدّة سفره وغيبته ، ولم يذكر فيها الرجوع إلى كفاية ، إلا في خبر أبي الربيع الشامي ، فإنّ فيه اشتباها ، على غير الناقد المتأمّل ، بل عند تحقيقه ونقده ، هو موافق لغيره من الأخبار التي اعتمد شيخنا عليها ، لا تنافي بينها وبينه وذلك أنّه قال أبو الربيع : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام ، عن قول اللّه عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) فقال : ما يقول الناس في الاستطاعة؟ قال : فقيل له الزاد والراحلة ، قال : فقال أبو عبد اللّه عليه السلام :

ص: 511


1- ج : استطاع.
2- في نسخة الاستبصار : العناء.
3- ج : ازاركم.
4- م : استبطنوا ، وكذلك في نسخة الاستبصار.
5- م : فذهب عيّهم.
6- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 6.

قد سئل أبو جعفر عن هذا ، فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق ، فيسلبهم إيّاه ، لقد هلكوا اذن ، فقيل له : فما السبيل ، قال : فقال : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ، ويبقى ببعض لقوت عياله (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وليس في الخبر ما ينافي ما ذهبنا إليه ، واخترناه ، بل ما يلائمه ويعضده ، وهو دليل لنا ، لا علينا ، بل نعم ما قال عليه السلام ، لأنّه قال : ما يقول الناس في الاستطاعة؟ قال : فقيل له : الزاد والراحلة ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : سئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة ، قدر ما يقوت عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق ، فيسلبهم إيّاه ، لقد هلكوا اذن ، ونحن نقول بما قال عليه السلام ، ولا نوجب الحج على الواجد للزاد والراحلة فحسب ، بل نقول ما قال عليه السلام ، لمّا قيل له : فما السبيل ، قال : فقال : السعة في المال ، إذا كان يحج ببعض ، ويبقي بعض ، يقوت عياله وكذا نقول ، وهذا مذهبنا الذي ذهبنا إليه ، لأنّه عليه السلام قال : السبيل ، السعة في المال ، ثم فسرها فقال : إذا كان يحج ببعض ويبقي بعض يقوت عياله. ولم يذكر في الخبر عليه السلام ويرجع إلى كفاية ، امّا من صناعة ، أو مال ، بل قال عليه السلام : يحج ببعض ، ويبقي بعض يقوت عياله ، وهو الصحيح ، لأنّا أوجبنا الحج ، بأن يجد الزاد والراحلة ، ونفقته ، ذاهبا وجائيا ، وما يخلفه نفقة من يجب عليه نفقته ، من عياله ، وكذلك قال عليه السلام : يحج ببعض ، ويبقي بعض يقوت عياله ، يعني نفقة عياله ، فأمّا إن لم يبق ما يقوت عياله ، مدّة سفره ، وغيبته ، فلا يجب عليه الحج وهل هذا الخبر فيه ، ما ينافي ما قلناه ، أو يرجع به عن ظاهر التنزيل ، والمتواتر من

ص: 512


1- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الحج ، ح 1.

الأخبار ، ولو وجد أخبار آحاد ، فلا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، ولا يترك لها ظاهر القرآن ، وإجماع أصحابنا ، فإنّهم عند تحقيق أقوال الفريقين ، تجدهم متفقين على ما ذهبنا إليه ، وأنا أدلك على ذلك ، وذاك أنّه لا خلاف بينهم ، أنّ العبد إذا لحقه العتاق ، قبل الوقوف بأحد الموقفين ، فانّ حجته مجزية عن حجة الإسلام ، ويجب عليه النيّة للوجوب والحجّ ، ولم يعتبر أحد منهم ، هل هو ممن يرجع إلى كفاية أو صنعة ، لأنّ العبد عندهم لا يملك شيئا فإذن لا مال له يرجع إليه ، ولا أحد منهم اعتبر رجوعه إلى صناعة ، في صحة حجّه ، وهذا منهم إجماع منعقد بغير خلاف.

وكذلك أيضا ، من عرض عليه بعض إخوانه نفقة الحجّ ، فإنّه يجب عليه عند أكثر أصحابنا أيضا ، ولم يعتبروا في وجوب الحجّ عليه رجوعه إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة والحرفة ، بل أوجبوه عليه ، بمجرّد نفقة الحجّ ، وعرضها عليه ، وتمكنه منها فحسب.

وأيضا فقد ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، إلى ما ذهبنا إليه ، في مسألة من مسائل خلافه (1) مضافا إلى استبصاره (2) فقال : مسألة ، المستطيع ببدنه الذي يلزمه فعل الحجّ بنفسه ، أن يكون قادرا على الكون على الراحلة ، ولا يلحقه مشقة غير محتملة ، في الكون عليها ، فإذا كانت هذه صورته ، فلا يجب عليه فرض الحج ، إلا بوجود الزاد والراحلة ، فإن وجد أحدهما ، لا يجب عليه فرض الحج ، وإن كان مطيقا للمشي قادرا عليه ، ثم قال في استدلاله على صحة ما صوّره في المسألة ، دليلنا إجماع الفرقة ، ولا خلاف أن من اعتبرناه ، يجب عليه الحج ، وليس على قول من خالف ذلك دليل ، وأيضا قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، والاستطاعة تتناول القدرة ، وجميع

ص: 513


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 4.
2- الإستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الحج.

ما يحتاج إليه ، فيجب أن يكون من شرطه ، وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال : الاستطاعة الزاد والراحلة ، لمّا سئل عنها روى ذلك ابن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، وجابر بن عبد اللّه ، وعائشة ، وأنس بن مالك ، ورووا (1) أيضا عن علي عليه السلام ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في المسألة ، ألا ترى أرشدك اللّه إلى قوله رحمه اللّه ، ولا خلاف أنّ من اعتبرناه يجب عليه الحجّ ، وما اعتبر فيما صوّره في المسألة الرجوع إلى كفاية ودلّ أيضا ، بإجماع الفرقة على صحة ما صوّره في المسألة.

وأيضا ذكر مسألة أخرى ، فقال : مسألة ، الأعمى يتوجه عليه فرض الحج ، إذا كان له من يقوده ويهديه ، ووجد الزاد والراحلة ، لنفسه ولمن يقوده ، ولا يجب عليه الجمعة ، وقال الشافعي : يجب عليه الحج ، والجمعة ، معا ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الحج ، وإن قدر على جميع ما قلناه ، دليلنا قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، وهذا مستطيع ، فمن أخرجه من العموم ، فعليه الدلالة (2) هذا آخر كلام شيخنا الا ترى أرشدك اللّه ، إلى استدلاله ، فإن كان يعتبر الرجوع إلى الكفاية ، على ما يذكره في بعض كتبه في وجوب الحج ، فقول أبي حنيفة صحيح ، لا حاجة به إلى الرد عليه ، بل ردّ عليه بالآية وعمومها ، ونعم ما استدل به ، فإنّه الدليل القاطع ، والضياء الساطع ، والشفاء النافع.

وقال أيضا في مبسوطة شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : مسألة ، إذا بذل له الاستطاعة ، قدر ما يكفيه ذاهبا وجائيا ، ويخلف لمن يجب عليه نفقته ، لزمه فرض الحجّ ، لأنّه مستطيع (3) هذا آخر كلامه في مبسوطة ، وجعل هذا الكلام مسألة في مسائل خلافه أيضا (4) فهل يحلّ لأحد أن يقول ، انّ الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه ، ما يذهب إلى ما يذهب إليه المرتضى في هذه المسألة ، بعد ما

ص: 514


1- وفي نسخة الخلاف ، ورواه أيضا علي عليه السلام.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 15.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج ، ص 298.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 9.

أوردناه عنه ، وإن كان في بعض كتبه يقول بغير هذا ، فنأخذ ما اتفقا عليه ، ونترك القول الذي انفرد به أحدهما ، إن قلّدا في ذلك ونعوذ باللّه من ذلك ، بل يجب علينا الأخذ بما قام الدّليل عليه من كان القائل به من (1).

وأيضا فقد بيّنا أنّه إذا اختلف أصحابنا الإمامية ، في مسألة ، ولم يكن عليها إجماع منهم ، منعقد ، فالواجب علينا التمسك بظاهر القرآن ، إن كان عليها ظاهر تنزيل ، وهذه المسألة فلا إجماع عليها ، بغير خلاف عند من خالفنا وذهب إلى غير ما اخترناه ، وإذا لم يكن له إجماع عليها ، قلنا نحن ، ظاهر التنزيل دليل عليها ، وعموم الآية ، ولا يجوز العدول عنه ، ولا تخصيصه ، إلا بأدلة قاطعة للأعذار ، إمّا من كتاب اللّه تعالى مثله ، أو سنّة متواترة مقطوع بها ، يجرى مجراه أو إجماع ، وهذه الأدلة مفقودة بحمد اللّه تعالى في المسألة ، فيجب التمسك بعموم القرآن ، فهو الشفاء لكلّ داء.

ومن شرط صحّة أداء حجة الإسلام وعمرته. الإسلام ، وكمال العقل ، لأنّ الكافر ، وإن كان واجبا عليه ، لكونه مخاطبا بالشرائع عندنا ، فلا يصحّ منه أداءهما ، إلا بشرط الإسلام ، وعند تكامل شروط وجوبهما ، يجبان في العمر مرة واحدة ، وما زاد عليها مستحب ، مندوب إليه ، وخصوصا لذوي اليسار والأموال الواسعة ، فإنّهم يستحب لهم أن يحجّوا كلّ سنة.

ووجوبهما على الفور ، دون التراخي ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وما يجب عند سبب ، فهو ما يجب بالنذر ، أو العهد ، أو إفساد حج مندوب ، دخل فيه ، أو عمرة كذلك ، ولا سبب لوجوبهما غير ذلك ، وذلك بحسب النذر ، أو العهد ، إن كان واحدا فواحدا ، وإن كان أكثر فأكثر.

فأمّا المفسودة ، فإنّه يجب عليه الإتيان بحجة صحيحة ، ولو تكرر الفساد لها دفعات.

ولا يصح النذر والعهد بهما ، إلا من كامل العقل ، حرّ ، ومن لا ولاية عليه ، فأمّا من ليس كذلك ، فلا ينعقد نذره ، ولا يراعى في صحة انعقاد النذر ،

ص: 515


1- ج : كان القائل به كائنا من كان.

ما روعي في حجة الإسلام ، من الشروط.

وإذا حصلت الاستطاعة ، ومنعه من الخروج مانع ، من سلطان ، أو عدو ، أو مرض ، ولم يتمكن من الخروج بنفسه ، كان عليه أن يخرج رجلا يحج عنه ، فإذا زالت عنه بعد ذلك الموانع ، كان عليه اعادة الحج ، لأنّ الذي أخرجه ، انّما كان يجب عليه في ماله ، وهذا يلزمه على بدنه ، وماله ، ذكر هذا بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في نهايته (1) وهذا غير واضح ، لأنّه إذا منع ، فما حصلت له الاستطاعة التي هي القدرة على الحج ، ولا يجب عليه أن يخرج رجلا يحج عنه ، لأنّه غير مكلّف بالحج حينئذ بغير خلاف ، وانّما هذا خبر أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

فإن كان متمكنا من الحج والخروج ، فلم يخرج وأدركه الموت ، وكان الحج قد استقر عليه ، ووجب ، وجب أن يخرج عنه من صلب ماله ، ما يحجّ به من بلده ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا ، فإن لم يخلف إلّا قدر ما يحج به (2) ، وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك ، واستقرت ، وجب أن يحج به عنه من بلده ، وقال بعض أصحابنا : بل من بعض المواقيت ولا يلزم الورثة الإجارة من بلده ، بل من بعض المواقيت ، والصحيح الأول ، لأنّه كان يجب عليه نفقة الطريق من بلده ، فلمّا مات سقط الحج عن بدنه ، وبقي في ماله بقدر ما كان يجب عليه ، لو كان حيا ، من نفقة الطريق من بلده ، فأما إذا لم يخلف إلّا قدر ما يحج به ، من بعض المواقيت ، وجب أيضا أن يحج عنه من ذلك الموضع ، وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (3) وبه تواترت أخبارنا ، ورواية أصحابنا ، والمقالة الأخرى ذكرها وذهب إليها في مبسوطة (4) ، وأظنها مذهب المخالفين.

ص: 516


1- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
2- في ط وج : ما يحج به من بلده.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة.

وإن خلف قدر ما يحج به عنه ، أو أقل من ذلك ولم يكن قد وجب عليه الحج قبل ذلك واستقر في ذمّته ، كان ميراثا لورثته ، فهذا معنى قولنا وجبت الحجة واستقرت ، ووجبت وما استقرت ، لأنّ من تمكن من الاستطاعة ، وخرج للأداء ، من غير تفريط ، ولا توان ، بل في سنة تمكنه من الاستطاعة ، خرج ومات قبل تفريطه ، فلا يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه ، لأنّ الحجة ما استقرت في ذمّته ، فأمّا إذا فرّط فيها ، ولم يخرج تلك السنة ، وكان متمكنا من الخروج ، ثم مات ، يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه من بلده ، قبل قسمة الميراث.

ومن لم يملك الاستطاعة ، وكان له ولد ، له مال ، وجب عليه أن يأخذ من ماله ، قدر ما يحج به على الاقتصاد ، ويحج ، ذكر هذا شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ورجع عنه في استبصاره (2) ورجوعه عنه هو الصحيح ، وانّما أورده إيرادا في نهايته ، لا اعتقادا ، ثم قال في النهاية : فان لم يكن له ولد ، وعرض عليه بعض إخوانه ، ما يحتاج إليه من مئونة الطريق ، وجب عليه الحجّ أيضا ، وقال : ومن ليس معه مال ، وحج به بعض إخوانه ، فقد أجزأه ذلك عن حجة الإسلام ، وإن أبسر بعد ذلك (3).

قال محمّد بن إدريس : والذي عندي في ذلك ، أنّ من يعرض عليه بعض إخوانه ، ما يحتاج اليه من مئونة الطريق فحسب ، لا يجب عليه الحجّ ، إذا كان له عائلة تجب عليه نفقتهم ، ولم يكن له ما يخلفه نفقة لهم ، بل هذا يصح فيمن لا يجب عليه نفقة غيره ، بشرط أن يملكه ما يبذل له ، ويعرض عليه ، لا وعدا بالقول دون الفعال ، وكذا أقول فيمن حج به بعض إخوانه ، بشرط أن يخلف لمن تجب عليه نفقته ، إن كان ممن تجب عليه نفقته وفي المسألتين معا ، ما راعى شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته ، الرجوع إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة ،

ص: 517


1- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
2- الاستبصار : كتاب المكاسب ، الباب 26 ، ح 9.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

وهذا يدلك أيضا على ما قدّمناه أولا.

ومتى عدم المكلف الاستطاعة ، جاز له أن يحج عن غيره ، وإن كان ضرورة لم يحجّ بعد حجة الإسلام ، وتكون الحجة مجزية عمن حج عنه ، وهو إذا أيسر بعد ذلك كان عليه اعادة الحج.

ومتى نذر الرجل أن يحج لله تعالى ، وجب عليه الوفاء به ، فإن حجّ الذي نذر ، ولم يكن حج حجة الإسلام ( فقد أجزأت حجته عن حجة الإسلام ) وإن خرج بعد النذر بنية حجة الإسلام لم يجزئه عن الحجة التي نذرها ، وكانت في ذمّته ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته (1) والصحيح أنّه إذا حج بنية النذر لا تجزيه حجته النذورة عن حجة الإسلام ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : الأعمال بالنيات ، وعليه حجتان ، فكيف تجزيه حجة واحدة ، عن حجتين ، وإنّما هذا خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كررنا الاعتذار له في عدة مواضع ، فإنّه رجع عنه في جمله وعقوده (2) وفي مسائل خلافه (3) وقال : الفرضان لا يتداخلان ، وجعل ما ذكره في النهاية رواية ، ما اعتد بها ، ولا التفت إليها.

ومن نذر أن يحج ماشيا ، ثم عجز ، فليركب ، ولا كفّارة عليه ، ولا شي ء يلزمه عل الصحيح من المذهب ، وهذا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (4).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (5) فليسق بدنه ، وليركب ، وليس عليه شي ء ، وإن لم يعجز عن المشي ، كان عليه الوفاء به فإذا انتهى إلى مواضع العبور ، فليكن قائما فيها ، وليس عليه شي ء.

ومن حجّ من أهل القبلة ، وهو مخالف لاعتقاد الحقّ ولم يخل بشي ء من

ص: 518


1- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 20 وأشار الى ذلك في مسألة 254.
4- المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص 441.
5- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

أركانه ، فقد أجزأته حجته عن حجة الإسلام ، ويستحب له اعادة الحجّ بعد استبصاره ، وإن كان قد أخل بشي ء من أركان الحجّ ، لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام ، وكان عليه قضاؤها فيما بعد ، وذهب شيخنا في مسائل خلافه إلى أنّه قال : مسألة ، من قدر على الحج عن نفسه ، لا يجوز أن يحج عن غيره ، وإن كان عاجزا عن الحج عن نفسه ، لفقد الاستطاعة ، جاز له أن يحج عن غيره ، وبه قال الثوري ، وقال مالك وأبو حنيفة : يجوز له أن يحج عن غيره ، على كل حال ، قدر عليه ، أو لم يقدر ، وكذلك يجوز له أن يتطوع به ، وعليه فرض نفسه ، وبه نقول (1).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه وبه نقول ، غير واضح ، والمذهب يقتضي أصوله أنّ من وجب عليه حجة الإسلام ، لا يجوز له أن يتطوع بالحج قبلها ، لأنّ وجوب حجة الإسلام عندنا على الفور ، دون التراخي ، بغير خلاف ، فالواجب المضيّق ، كل ما منع منه ، فهو قبيح ، وانّما هذا مذهب أبي حنيفة ، اختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، وقوله في غير هذا الكتاب ، بخلاف ما ذهب إليه فيه.

باب في أقسام الحجّ

الحج على ثلاثة أقسام ، تمتع بالعمرة إلى الحج ، وقران ، وإفراد ، وانّما كان ذلك لاختلاف المكلفين في الجهات ، والا لو كان عالم اللّه نائيا عن الحرم ، كان الحج قسما واحدا ، وهو التمتع بالعمرة إلى الحج ، ولو كان العالم مستوطنين الحرم ، كان الحج ضربا واحدا ، إمّا قرانا ، أو إفرادا ، فالتمتع ، هو فرض من نأى عن الحرم ، وحدّه ، من كان بينه وبين المسجد الحرام ، ثمانية وأربعون ميلا ، من أربعة جوانب البيت ، من كل جانب اثنا عشر ميلا ، فلا يجوز لهؤلاء ،

ص: 519


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 19.

إلا التمتع ، مع الإمكان ، فإذا لم يمكنهم التمتع ، أجزأتهم الحجة المفردة ، مع الضرورة ، وعدم الاختيار.

وأمّا من كان من أهل حاضري المسجد الحرام ، وهو من كان بينه وبين المسجد الحرام ، أقل من اثني عشر ميلا ، من أربعة جوانبه ، ففرضه القرآن ، أو الافراد ، مخيّر في ذلك ، ولا يجزيه التمتع بحال.

فسياقة ، أفعال حج المتمتع ، الإحرام من الميقات ، في وقته ، مع نيّة الحج (1) والتلبية الأربع ، يجب عليه أن يتلفظ بها دفعة واحدة ، ليعقد إحرامه بها ، فإنّها تتنزل في انعقاد إحرامه منزلة تكبيرة الإحرام ، في انعقاد صلاة المصلي.

ويستحب أن يكررها ، ويكون عليها إلى أن يشاهد بيوت مكة ، فإذا شاهدها قطع التلبية التي كان مندوبا إلى تكرارها.

فإذا كان حاجا على طريق المدينة ، قطع التلبية إذا بلغ عقبة المدنيين.

وإن كان على طريق العراق ، قطع التلبية ، إذا بلغ عقبة ذي طوى ، هذا إذا كان متمتعا.

فإن كان قارنا ، أو مفردا ، فلا يقطع التلبية إلا عند الزوال يوم عرفة.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : فإذا عاين بيوت مكة ، قطع التلبية ، وحدّ بيوت مكة ، عقبة المدنيين ، وإن كان قاصدا إليها ، من طريق المدينة ، فإنّه يقطع التلبية ، إذا بلغ عقبة ذي طوى (2) والأول الأظهر ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي في مصباحه (3) ، وسلار في رسالته (4) وهو الصحيح.

واغتسل مندوبا.

ويستحب أن يدخلها حافيا.

ص: 520


1- ج : مع نية الإحرام.
2- المقنعة : كتاب الحج ، باب صفة الإحرام ص 398.
3- المصباح : في آداب الحج ، ص 620.
4- المراسم ، كتاب الحج ، ذيل شرح كيفية الإحرام.

وإن كان دخولها من طريق المدينة ، دخلها من أعلاها.

ثم دخل المسجد ، فطاف بالبيت سبعا ، وصلّى عند المقام ركعتين.

ثمّ يخرج إلى الصّفا ، والمروة ، فيسعى بينهما ، سبعة أشواط.

ثم يقصر من شعر رأسه ، أو من أظفاره ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، وتحل له النساء ، من دون طوافهن ، لأنّ كل إحرام ، بحج ، أو بعمرة ، سواء كان الحج واجبا ، أو مندوبا ، وكذلك العمرة ، فلا تحل النساء ، الا بطوافهن. ويجب عليه طواف النساء ، لتحل النساء له ، إلا إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهي هذه فلا يجب طواف النساء ، بل يحللن له ، من دون الطواف الذي يلزم كل محرم.

ثمّ ينشئ إحراما آخر ، من مكة بالحج ، يوم التروية ، ويمضي إلى منى ، فيبيت بها ، على جهة الاستحباب ، دون الفرض ، والإيجاب ، ليلة عرفة ، ويغدو منها إلى عرفات ، فيقف هناك إلى غروب الشمس ، ويفيض منها إلى المشعر الحرام ، فيصلّي بها المغرب والعشاء الآخرة ، فإذا طلع الفجر ، من يوم النحر ، وقف بالمشعر وقوفا واجبا ، والوقوف به ركن ، من أركان الحج ، من تركه متعمدا بطل حجه ، وكذلك الوقوف بعرفة ، ويتوجه إلى منى ، فيقضي مناسكه يوم العيد بها ، على ما نبيّنه ، ويمضي إلى مكة ، فيطوف بالبيت طواف الزيارة ، وهو طواف الحج ، ويصلّي عند المقام ركعتين ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ثم يطوف طواف النساء ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، وقد قضى مناسكه كلّها ، للعمرة والحج ، وكان متمتعا ثمّ يعود إلى منى ، أيام التشريق (1) واجب عليه الرجوع إليها ، والمبيت بها ، ورمي الجمار بها أيضا ، وغير ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا القارن ، فهو الذي يحرم من الميقات ، ويقرن بإحرامه ، سياق الهدي ، ويمضي إلى عرفات ، ويقف بها ، ويفيض منها ، إلى المشعر الحرام ، ويقف به ،

ص: 521


1- في نسخة م وج : أيام منى.

ويجي ء إلى منى يوم النحر ، فيقضي مناسكه بها ، ثم يجي ء إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويصلّي عند المقام ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ويطوف طواف النساء ، وقد قضى مناسكه كلّها للحج ، فحسب دون العمرة.

والمفرد ، مناسكه كذلك ، إلا أنّه لا يقرن بإحرامه سياق هدي ، وباقي المناسك هما فيها سواء ، فإن طافا بالبيت قبل وقوفهما بعرفة ، والمشعر ، يستحب لهما تجديد النية (1) عند كل طواف ، ثمّ يخرجان إلى التنعيم ، أو أحد المواضع التي يحرم منها ، فيحرمان من هناك ، بالعمرة المبتولة ، ويرجعان إلى مكة ، فيطوفان بالبيت ، ويصليان عند المقام ، ويسعيان بين الصّفا والمروة ، ويقصران ، أو يحلقان ، ثم يطوفان ، طواف النساء ، واجب ذلك عليهما ، ولا يجب ذلك على المتمتع ، في عمرته ، على ما قدّمناه ، وقد أديا عمرتهما الواجبة عليهما ، فتكون عمرة مفردة ، ونحن نبيّن ذلك زيادة بيان في مواضعه (2) ونزيده شرحا.

من جاور بمكة ، سنة واحدة ، أو سنتين ، كان فرضه التمتع ، فيخرج إلى ميقات بلده ، ويحرم بالحج متمتعا ، فإن جاور بها ثلاث سنين ، لم يجز له التمتع ، وكان حكمه حكم أهل مكة ، وحاضريها ، على ما جاءت به الاخبار المتواترة (3).

وإذا أراد الإنسان ان يحج متمتعا ، فيستحب له أن يوفر شعر رأسه ولحيته ، من أول ذي القعدة ، ولا يمسّ شيئا منهما ، وقال بعض أصحابنا بوجوب توفير ذلك ، فإن حلقه ، وجب عليه دم شاة ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (4) وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في نهايته (5) واستبصاره (6) ، وقال

ص: 522


1- م تجديد التلبية.
2- ج : موضعه.
3- لوسائل : كتاب الحج ، الباب 9 من أبواب أقسام الحج.
4- المقنعة : كتاب الحج ، باب العمل والقول عند الخروج ص 391.
5- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج. إلا أنّه لم يقل بوجوب دم شاة عليه ان حلقه.
6- الاستبصار : كتاب الحج ، باب توفير شعر الرأس واللحية من أوّل ذي القعدة.

في جمله وعقوده (1) بما اخترناه أولا وهو الصحيح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بواجب ، أو مندوب ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وأيضا قبل الإحرام ، الإنسان محل ، ولا خلاف أنّ المحلّ لم يحظر عليه حلق رأسه ، وانّما حظر ذلك على المحرم ، ولا إجماع معنا على وجوب توفير شعر الرأس من هذا الوقت.

فإذا جاء إلى ميقات أهله ، أحرم بالحج متمتعا ، على ما قدّمناه ، ومضى إلى مكة ، فإذا شاهد بيوتها ، فليقطع التلبية المندوب تكرارها ، ثم يدخلها ، فإذا دخلها طاف بالبيت سبعا ، وصلّى عند المقام ركعتين ، ثم سعى بين الصّفا والمروة ، وقصّر من شعر رأسه ، وقد أحلّ من جميع ما أحرم منه ، على ما قدّمناه ، إلا الصيد ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، لا لكونه محرما ، بل لكونه في الحرم.

ثمّ يستحب أن يكون على هيئته هذه إلى يوم التروية ، عند الزوال ، فإذا كان ذلك الوقت ، صلّى الظهر ، وأحرم بعده بالحج ، ومضى إلى منى ، ثمّ ليغد منها إلى عرفات ، فليصل بها الظهر والعصر ، ويقف إلى غروب الشمس ، ثمّ يفيض إلى المشعر ، فيبيت بها تلك الليلة ، فإذا أصبح ، وقف بها على ما قدّمناه ، ثمّ غدا منها إلى منى ، فقضى (2) مناسكه هناك ، ثمّ يجي ء يوم النحر أو من الغد ، والأفضل أن لا يؤخر ذلك عن الغد ، فإن أخره فلا بأس ، ما لم يهل المحرم ، ويطوف بالبيت طواف الحج ، ويصلّي ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، وقد فرغ من مناسكه كلّها ، وحلّ له كل شي ء إلا النساء ، والصيد ، وبقي عليه لتحلة النساء طواف ، فليطف أيّ وقت شاء ، في مدة مقامه بمكة ، فإذا طاف طواف النساء ، حلّت له النساء ، وعليه هدي واجب ، ينحره ، أو يذبحه بمنى ، يوم النحر ، فإن لم يتمكن منه ، كان عليه صيام عشرة أيام ، ثلاثة في الحج ، يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فإن فاته صوم يوم قبل

ص: 523


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه.
2- في ط : فيقضى.

التروية ، صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإذا انقضت أيام التشريق ، صام اليوم الآخر ، بانيا على ما تقدّم من اليومين ، فإن فاته صوم يوم التروية ، فلا يصوم يوم عرفة ، فإن صامه ، لا يجوز له البناء عليه ، فإذا كان بعد أيام التشريق ، صام ثلاثة أيام متواليات ، لا يجزيه غير ذلك ، وسبعة ، إذا رجع إلى أهله.

والمتمتع ، انّما يكون متمتعا ، إذا وقعت عمرته في أشهر الحج ، وهي شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، في تسعة أيام منه ، وإلى طلوع الشمس ، من اليوم العاشر ، فإن وقعت عمرته في غير هذه المدّة المحدودة ، لم يجز له أن يكون متمتعا بتلك العمرة ، وكان عليه لحجته ، عمرة أخرى ، يبتدئ بها في المدة التي قدّمناها.

وكذلك لا يجوز الإحرام بالحج مفردا ، ولا قارنا ، إلا في هذه المدة ، فإن أحرم في غيرها ، فلا حج له ، اللّهم إلا أن يجدد الإحرام ، عند دخول هذه المدة.

وأمّا القارن ، فعليه أن يحرم من ميقات أهله ، ويسوق معه هديا ، يشعره من موضع الإحرام ، يشق سنامه ، ويلطخه بالدم ، أو يعلّق في رقبته نعلا ، مما كان يصلّي فيه ، وليسق الهدي معه إلى منى ، ولا يجوز له أن يحل ، إلى أن يبلغ الهدي محلّه.

وقال شيخنا المفيد في كتاب الأركان : فمتى لم يسق من الميقات ، أو قبل دخول الحرم ، إن لم يقدر على ذلك من الميقات ، لم يكن قارنا ، فإذا أراد أن يدخل مكة ، جاز له ذلك ، لكنه يستحب له أن لا يقطع التلبية ، وإن أراد أن يطوف بالبيت تطوعا ، فعل ذلك ، إلا أنّه كلّما طاف بالبيت ، يستحب له ، ان يلبي عند فراغه ، وليس ذلك بواجب عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته : إلا أنّه كلّما طاف بالبيت ، لبى عند فراغه من الطواف ، ليعقد إحرامه بالتلبية ، وانّما يفعل ذلك ، لأنّه لو لم يفعل ذلك ، دخل في كونه محلا ، وبطلت حجته ، وصارت عمرة (1) وهذا غير واضح ،

ص: 524


1- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.

بل تجديد التلبية مستحب ، عند فراغه من طوافه المندوب ، وقوله رحمه اللّه ليعقد إحرامه ، قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إحرامه منعقد قبل ذلك ، فكيف يقول ليعقد إحرامه؟ وقوله وانّما يفعل ذلك ، لأنّه لو لم يفعل ذلك ، دخل في كونه محلا ، وبطلت حجّته ، وصارت عمرة ، وهذا قول عجيب ، كيف يدخل في كونه محلا ، وكيف يبطل حجته ، وتصير عمرة ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة ، مع قول الرسول عليه السلام : الأعمال بالنيات (1) وانما لامرئ ما نوى (2).

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عن هذا في جمله وعقوده (3) ، ومبسوطة (4) فقال : وتميز القارن ، من المفرد ، بسياق الهدي ، ويستحب لهما تجديد التلبية ، عند كل طواف ، وانّما أورد ما ذكره في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، وقد بيّنا أنّه ليس له أن يحل إلى أن يبلغ الهدي محله ، من يوم النحر ، وليقض مناسكه كلّها ، من الوقوف بالموقفين ، وما يجب عليه من المناسك بمنى ، ثم يعود إلى مكة ، فيطوف بالبيت سبعا ، ويسعى بين الصّفا والمروة سبعا ، ثمّ يطوف طواف النساء ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، وكانت عليه العمرة بعد ذلك.

والمتمتع إذا تمتع ، سقط عنه فرض العمرة ، لأنّ عمرته التي يتمتع بها بالحج (5) قامت مقام العمرة المبتولة ، ولم يلزمه (6) إعادتها.

وأمّا المفرد بكسر الراء ، فانّ عليه ما على القارن سواء ، لا يختلف حكمهما في شي ء ، من مناسك الحجّ ، وانّما يتميز القارن من المفرد ، بسياق الهدي ، فأمّا باقي المناسك ، فهما مشتركان فيه على السواء.

ويستحب لهما ، أن لا يقطعا التلبية إلا بعد الزوال من يوم عرفة.

ص: 525


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر أفعال الحج.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر أنواع الحج وشرائطها.
5- ج : إلى الحج ، في نسخة.
6- ج : لم يلزم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ولا يجوز لهما أن يقطعا التلبية ، إلا بعد الزوال ، من يوم عرفة (1). فإن أراد بقوله : لا يجوز ، التأكيد على فعل الاستحباب ، فنعم ما قال ، وإن أراد ذلك على جهة التحريم ، فغير واضح ، لأنّ تجديد التلبية ، وتكرارها ، بعد التلفظ بها دفعة واحدة ، وانعقاد الإحرام بها ، غير واجب ، أعني تكرارها ، وانّما ذلك مستحب ، مؤكد الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، وليس عليهما هدي وجوبا ، فان ضحّيا استحبابا ، كان لهما فيه فضل جزيل ، وليس ذلك بواجب.

باب المواقيت

معرفة المواقيت واجبة ، لأنّ الإحرام لا يجوز إلا منها ، فلو أنّ إنسانا أحرم قبل ميقاته ، كان إحرامه باطلا ، اللّهم إلا أن يكون قد نذر لله تعالى على نفسه ، أن يحرم من موضع بعينه ، فإنّه يلزمه الوفاء به ، حسب ما نذره ، على ما روي في الاخبار (2) فمن عمل بها ، ونذر الحج ، أو العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فإنّها حج أيضا ، وداخلة فيه ، فلا ينعقد إلا إذا وقع في أشهر الحج ، فإن كان الموضع الذي نذر منه الإحرام ، بينه وبين مكة ، أكثر من مدّة أشهر الحج ، فلا ينعقد الإحرام بالحج أيضا ، وإن كان منذورا ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد ، على أنّه لا ينعقد إحرام حج ، ولا عمرة متمتع بها إلى الحج ، إلا في أشهر الحج ، فإذا وردت أخبار ، بأنّه إذا كان منذورا ، انعقد قبل المواقيت ، فانّ العمل يصح بها ، ويخص بذلك الإجماع ، وأمكن العمل بها ، فإن قيل : فإنّها عام ، قلنا : فالعموم قد يخص بالأدلة.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : والأظهر الذي يقتضيه الأدلة ، وأصول

ص: 526


1- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.
2- الوسائل : كتاب الحج الباب 13 من أبواب المواقيت.

مذهبنا ، أنّ الإحرام لا ينعقد إلا من الميقات ، سواء كان منذورا ، أو غيره ، ولا يصح النذر بذلك أيضا ، لأنّه خلاف المشروع ، ولو انعقد بالنذر ، كان ضرب المواقيت لغوا ، والذي اخترناه ، يذهب إليه السيد المرتضى رحمه اللّه ، وابن أبي عقيل ، من أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة ، من أفسد الحج ، وأراد أن يقضي ، أحرم من الميقات ، ثمّ استدل فقال : دليلنا ، إنّا قد بيّنا أن الإحرام قبل الميقات لا ينعقد ، وهو إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، عامة في ذلك ، فلا يتقدر على مذهبنا هذه المسألة (1) هذا آخر كلامه ، فلو كان ينعقد الإحرام قبل الميقات إذا كان منذورا ، لما قال فلا يتقدّر على مذهبنا هذه المسألة ، وهي تتقدّر عند من قال يصح الإحرام قبل الميقات ، وينعقد إذا كان منذورا ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ومن عرض له مانع من الإحرام ، جاز له أن يؤخر أيضا عن الميقات ، فإذا زال المنع ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه (2).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : جاز له أن يؤخره ، مقصوده كيفية الإحرام الظاهرة ، وهو التعري ، وكشف الرأس ، والارتداء ، والتوشّح والاتزار ، فأمّا النية ، والتلبية ، مع القدرة عليها ، فلا يجوز له ذلك ، لأنّه لا مانع يمنع من ذلك ، ولا ضرورة فيه ، ولا تقية ، وإن أراد ، وقصد شيخنا غير ذلك ، فهذا يكون قد ترك الإحرام متعمدا من موضعه ، فيؤدي إلى إبطال حجه بغير خلاف ، فليتأمّل ذلك.

وإن قدّم إحرامه قبل الوقت ، وأصاب صيدا ، لم يكن عليه شي ء ، لأنّه لم ينعقد إحرامه ، وإن أخّر إحرامه عن الميقات ، وجب عليه أن يرجع إليه ، ويحرم منه ، متعمدا كان أو ناسيا ، فإن لم يمكنه الرجوع إلى الميقات ، وكان قد ترك

ص: 527


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 217 الا أنّه قال في مسألة 62 من كتاب الحج بجواز الإحرام قبل الميقات بالنذر.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب المواقيت.

الإحرام متعمدا ، فلا حج له ، وإن كان تركه ناسيا ، فليحرم من موضعه ، لأنّ الإحرام واجب وركن (1) والأركان في الحج متى تركها الإنسان متعمدا بطل حجه ، إذا فات أوقاتها ، ومحالها ، وأزمانها ، وأمكنتها ، فإن تركها ناسيا ، لا يبطل حجه ، والواجب الذي ليس بركن ، إذا تركه الإنسان متعمدا ، لا يبطل حجه ، بل له أحكام نذكرها ، عند المصير إليها إن شاء اللّه تعالى.

فإن كان قد دخل مكة ، ثمّ ذكر أنّه لم يحرم ، ولم يمكنه الرجوع إلى الميقات ، لخوف الطريق ، أو لضيق الوقت ، وأمكنه الخروج إلى خارج الحرم ، فليخرج إليه ، وليحرم منه ، وإن لم يمكنه ذلك أيضا ، أحرم من موضعه ، وليس عليه شي ء ، وقد وقّت (2) رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، لأهل كل صقع ، ولمن حج على طريقهم ميقاتا ، فوقت لأهل العراق العقيق ، فمن أي جهاته وبقاعه أحرم ينعقد الإحرام منها ، إلا أنّ له ثلاثة أوقات ، أولها المسلخ ، يقال بفتح الميم وبكسرها ، وهو أوله ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقية ، وأوسطها غمرة ، وهي تلي المسلخ ، في الفضل مع ارتفاع التقية (3) وآخرها ذات عرق ، وهو (4) أدونها في الفضل ، إلا عند التقية ، والشناعة ، والخوف ، فذات عرق حينئذ أفضلها في هذه الحال ، ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على كلّ حال.

ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهو مسجد الشجرة ، ووقت لأهل الشام ، الجحفة ، وهي المهيعة ، بتسكين الهاء ، وفتح الياء ، مشتقة من المهيع ، وهو المكان الواسع ، ووقت لأهل الطائف ، قرن المنازل ، وقال بعض أهل اللغة ، وهو الجوهري صاحب كتاب الصحاح ، في الصحاح : قرن بفتح الراء ، ميقات أهل نجد ، والمتداول بين الفقهاء ، وسماعنا على مشايخنا ، رحمهم اللّه ، قرن المنازل ، بتسكين الراء ، واحتج صاحب الصحاح ، بأن أويس القرني منسوب

ص: 528


1- ج : ركن من الأركان في الحج التي متى.
2- ج : ووقّت.
3- ج : مع التقية.
4- في ط وج : وهي.

إليه ، ووقت لأهل اليمن جبلا يقال له يلملم ، ويقال ألملم. وميقات أهل مصر ، ومن صعد من البحر ، جدة.

وإذا حاذى الإنسان أحد هذه المواقيت ، أحرم من ذلك الموضع ، إذا لم يجعل طريقه أحدها.

ومن كان منزله دون هذه المواقيت ، إلى مكة فميقاته منزله ، فعليه أن يحرم منه.

والمجاور بمكة الذي لم يتم له ثلاث سنين ، إذا أراد أن يحج ، فعليه أن يخرج إلى ميقات صقعه ، وليحرم منه ، وإن لم يتمكن فليخرج إلى خارج الحرم ، فيحرم منه ، وإن لم يتمكن من ذلك أيضا ، أحرم من المسجد الحرام.

وقد ذكر أنّ من جاء إلى الميقات ، ولم يقدر على الإحرام ، لمرض ، أو غيره ، فليحرم عنه وليه ، ويجنبه ما يجتنب المحرم ، وقد تم إحرامه ، وهذا غير واضح ، بل إن كان عقله ثابتا ، عليه فالواجب عليه ، أن ينوي هو ، ويلبي ، فإن لم يقدر فلا شي ء عليه ، وانعقد إحرامه بالنية ، وصار بمنزلة الأخرس ، ولا يجزيه نية غيره عنه ، وإن كان زائل العقل ، فقد سقط عنه الحج ، مندوبا ، كان أو واجبا ، فإن أريد بذلك ، أنّ وليّه لا يقربه شيئا ممّا يحرم على المحرم استعماله ، فحسن ، وإن أريد بأنّه ينوي عنه ، ويحرم عنه ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك.

باب كيفيّة الإحرام

الإحرام فريضة ، لا يجوز تركه ، فمن تركه متعمدا فلا حج له ، وإن تركه ناسيا كان حكمه ما قدّمناه في الباب الأول ، إذا ذكر ، فإن لم يذكر أصلا حتى يفرغ من جميع مناسكه ، فقد تمّ حجّه ، ولا شي ء عليه ، إذا كان قد سبق في عزمه الإحرام على ما روي في أخبارنا (1) والذي تقتضيه أصول المذهب أنّه لا

ص: 529


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب المواقيت.

يجزيه ، وتجب عليه الإعادة ، لقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات (1) وهذا عمل بلا نية ، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، ولم يورد هذا ، ولم يقل به أحد ، من أصحابنا ، سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، فالرجوع إلى الأدلة أولى من تقليد الرجال.

وإذا أراد الإنسان أن يحرم بالحج متمتعا ، فإذا انتهى إلى ميقاته ، تنظف ، وقص أظفاره ، وأخذ شيئا من شاربه ، ويزيل الشعر من تحت إبطيه ، وعانته ، ثم ليغتسل ، كل ذلك مستحب ، غير واجب ، ثمّ يلبس ثوبي إحرامه ، يأتزر بأحدهما ، ويتوشح بالآخر ، أو يرتدي به.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثاني ، في باب كيفية التلفظ بالتلبية ، خبرا عن الرضا عليه السلام ، قال فيه : وآخر عهدي بأبي ، أنّه دخل على الفضل بن الربيع ، وعليه ثوبان وساج (2).

قال محمّد بن إدريس : وساج يريد طيلسانا ، لأنّ الساج بالسين غير المعجمة ، والجيم ، الطيلسان الأخضر ، أو الأسود ، قال أبو ذويب :

فما أضحى همي الماء حتى *** كأنّ على نواحي الأرض ساجا

ولا بأس أن يغتسل قبل بلوغه الميقات ، إذا خاف عوز الماء ، فان وجد الماء عند الميقات والإحرام ، أعاد الغسل ، فإنّه أفضل ، وإذا اغتسل بالغداة ، كان غسله كافيا لذلك اليوم ، أيّ وقت أراد أن يحرم فيه فعل ، وكذلك إذا اغتسل أوّل الليل ، كان كافيا له إلى آخره ، سواء نام أو لم ينم ، وقد روي أنّه إذا نام بعد الغسل قبل أن يعقد الإحرام ، كان عليه اعادة الغسل استحبابا (3) والأول هو الأظهر ، لأنّ الأخبار عن الأئمة الأطهار ، جاءت في أنّ من اغتسل نهاره ، كفاه ذلك الغسل ، وكذلك من اغتسل ليلا.

ص: 530


1- الوسائل : كتاب الطهارة باب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6.
2- الاستبصار : حديث 13 من ذلك الباب.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 10 من أبواب الإحرام.

ومتى اغتسل للإحرام ثمّ أكل طعاما لا يجوز للمحرم أكله ، أو لبس ثوبا لا يجوز له لبسه لأجل الإحرام ، يستحب له اعادة الغسل.

ولا بأس أن يلبس المحرم ، أكثر من ثوبي إحرامه ، ثلاثة ، أو أربعة ، أو أكثر من ذلك ، إذا اتقى بها الحر ، أو البرد ، ولا بأس أيضا أن يغيّر ثيابه ، وهو محرم.

فإذا دخل إلى مكة ، وأراد الطواف ، فالأفضل له أن لا يطوف إلا في ثوبيه ، اللذين أحرم فيهما.

وأفضل الثياب للإحرام القطن ، والكتاب البياض (1) ، وانّما يكره التكفين في الكتان ، ولا يكره الإحرام في الكتان.

وجميع ما تصح الصلاة فيه من الثياب للرجال ، يصح لهم الإحرام فيه.

فأمّا النساء ، فالأفضل لهن الثياب البياض (2) من القطن والكتان ، ويجوز لهن الإحرام في الثياب الإبريسم المحض ، لأنّ الصلاة فيها جائزة لهن ، وإلى هذا القول ذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رحمه اللّه ، في كتابه أحكام النساء (3) ، وهو الصحيح ، لأنّ حظر الإحرام لهن في الإبريسم ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، وصحة التصرّف في الملك ، وحمل ذلك على الرجال قياس ، ونحن لا نقول به.

وأفضل الأوقات التي يحرم الإنسان فيها ، بعد الزوال ، ويكون ذلك بعد فريضة الظهر ، فعلى هذا يكون ركعتا الإحرام المندوبة ، قبل فريضة الظهر ، بحيث يكون الإحرام عقيب صلاة الظهر ، وإن اتفق أن يكون الإحرام في غير هذا الوقت ، كان أيضا جائزا ، والأفضل أن يكون الإحرام ، بعد صلاة فريضة ، وأفضل ذلك ، بعد صلاة الظهر ، فإن لم تكن صلاة فريضة ، صلّى ست ركعات ، ونوى بها صلاة الإحرام ، مندوبا قربة إلى اللّه تعالى ، وأحرم في دبرها ،

ص: 531


1- في ط وج : الأبيض.
2- في ط وج : بيض.
3- لا يوجد عندنا.

فإن لم يتمكن من ذلك ، أجزأه ركعتان ، وليقرأ في الأوّلة منهما بعد التوجه ، الحمد ، وقل هو اللّه أحد ، وفي الثانية الحمد ، وقل يا أيّها الكافرون ، فإذا فرغ منهما ، أحرم عقيبهما ، بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ ، فيقول : اللّهم إنّي أريد ما أمرت به ، من التمتع بالعمرة إلى الحجّ ، على كتابك وسنّة نبيّك ، صلى اللّه عليه وآله ، فإن عرض لي عارض ، يحبسني ، فحلّني حيث حبستني ، لقدرك الذي قدّرت عليّ ، اللّهم إن لم يكن حجة ، فعمرة أحرم لك شعري ، وجسدي ، وبشري من النساء ، والطيب ، والثياب ، أبتغي بذلك وجهك ، والدار الآخرة ، وكل هذا القول مستحب ، غير واجب.

وإن كان قارنا ، فليقل : اللّهم إنّي أريد ما أمرت به من الحجّ ، قارنا ، وإن كان مفردا فليذكر ذلك ، نطقا في إحرامه ، فإنّه مستحب.

فأمّا نيات الأفعال ، وما يريد أن يحرم به ، فإنّه يجب ذلك ، ونيات القلوب ، فإنّه لا ينعقد الإحرام إلا بالنية ، والتلبية للمتمتع والمفرد ، وأمّا القارن ، فينعقد إحرامه بالنيّة ، وانضمام التلبية ، أو الإشعار ، أو التقليد ، مخير بين ذلك ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ينعقد الإحرام ، في جميع أنواع الحج ، إلا بالتلبية فحسب ، وهو (1) السيد المرتضى رحمة اللّه ، وبه أقول ، لأنّه مجمع عليه ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ومن أحرم من غير صلاة وغير غسل ، كان عليه إعادة الإحرام ، بصلاة وغسل (2) فأقول : إن أراد أنّه نوى الإحرام ، وأحرم ، ولبّى ، من دون صلاة وغسل ، فقد انعقد إحرامه ، فأيّ اعادة تكون عليه ، وكيف يتقدر ذلك ، وإن أراد أنّه أحرم بالكيفية الظاهرة ، من دون النية والتلبية ، على ما قدّمنا القول في مثله (3) ، ومعناه ، فيصح ذلك ، ويكون لقوله وجه.

ص: 532


1- في ط وج : وهو اختيار.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.
3- ج : في ذلك.

ولا بأس أن يصلّي الإنسان صلاة الإحرام ، أي وقت كان من ليل أو نهار ، ما لم يكن قد تضيق وقت فريضة حاضرة ، فإن تضيق الوقت بدأ بالفريضة ، ثمّ بصلاة الإحرام ، وإن لم يكن تضيق بدأ بصلاة الإحرام.

ويستحب للإنسان ، أن يشترط في الإحرام ، إن لم يكن حجة فعمرة ، وان يحله حيث حبسه ، سواء كانت حجته تمتعا ، أو قرانا ، أو إفرادا ، وكذلك الحكم في العمرة ، وإن لم يكن الاشتراط لسقوط فرض الحج في العام المقبل ، فإن من حج حجة الإسلام ، وأحصر ، لزمه الحج من قابل ، وإن كانت تطوعا ، لم يكن عليه ذلك ، وانّما يكون للشرط تأثير ، وفائدة ، أن يتحلل المشترط ، عند العوائق ، من مرض ، وعدو ، وحصر ، وصدّ ، وغير ذلك ، بغير هدي.

وقال بعض أصحابنا : لا تأثير لهذا الشرط ، في سقوط الدم عند الحصر والصد ، ووجوده كعدمه ، والصحيح الأول ، وهو مذهب السيد المرتضى ، وقد استدل على صحّة ذلك ، بالإجماع ، وبقول الرسول عليه السلام ، لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب : حجي واشترطي وقولي : اللّهم فحلني حيث حبستني (1). ولا فائدة لهذا الشرط ، إلا التأثير فيما ذكرناه من الحكم ، فان احتجوا بعموم قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قلنا : نحمل ذلك على من لم يشترط ، هذا آخر استدلال السيد المرتضى.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : مسألة ، يجوز للمحرم ، أن يشترط في حال إحرامه ، أنّه إن عرض له عارض يحبسه أن يحلّه حيث حبسه من مرض ، أو عدو ، أو انقطاع نفقة ، أو فوات وقت ، وكان ذلك صحيحا ، يجوز له أن يتحلّل إذا عرض له شي ء من ذلك ، وروي ذلك عن

ص: 533


1- مستدرك الوسائل : كتاب الحج ، الباب 16 من أبواب الإحرام ، ( وفي المصدر : أحرمي بدل حجي - من دون قولي اللّهم ).

عمرو ابن مسعود ، وبه قال الشافعي ، وقال بعض أصحابه : إنّه لا تأثير للشرط ، وليس بصحيح عندهم ، والمسألة على قول واحد في القديم ، وفي الجديد على قولين ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وقال الزهري ، ومالك ، وابن عمر ، الشرط لا يفيد شيئا ، ولا يتعلّق به التحلل ، وقال أبو حنيفة : المريض له التحلل من غير شرط ، فإن شرط ، سقط عنه الهدي ، دليلنا : إجماع الفرقة ، ولأنّه شرط ، لا يمنع منه الكتاب ، ولا السنة ، فيجب أن يكون جائزا ، لأنّ المنع يحتاج إلى دليل ، وحديث ضباعة بنت الزبير ، يدل على ذلك ، وروت عائشة أنّ النبي عليه السلام ، دخل على ضباعة بنت الزبير ، فقالت : يا رسول اللّه ، إنّي أريد الحج ، وأنا شاكية ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله : أحرمي ، واشترطي ، وقولي أن تحلّني (1) حيث حبستني (2) وهذا نص.

ثمّ قال رحمه اللّه بعد هذه المسألة بلا فصل : مسألة : إذا شرط على ربّه في حال الإحرام ، ثم حصل الشرط ، وأراد التحلّل فلا بدّ من نية التحلّل ، ولا بدّ من الهدي ، وللشافعي فيه قولان ، في النية والهدي معا ، دليلنا : عموم الآية ، في وجوب الهدي ، على المحصر ، وطريقة الاحتياط (3) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : في المسألة الأوّلة ، يناظر شيخنا رحمه اللّه ، ويخاصم ، من قال أن الشرط لا تأثير له ، ووجوده كعدمه ، وأنّه لا يفيد شيئا ، ثم يستدل على صحّته وتأثيره ، ولا شرط لا يمنع منه الكتاب ، ولا السنّة ، فيجب أن يكون جائزا ، ويستدل بحديث ضباعة بنت الزبير ، وفي المسألة الثانية ، يذهب إلى أنّ وجوده كعدمه ، ولا بدّ من الهدي ، وان اشترط ، ويستدل بعموم الآية ، في وجوب الهدي على المحصر ، وهذا عجيب ، طريف ، فيه ما فيه.

ص: 534


1- في ط وج : وقولي اللّهم فحلّني.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسائل جزاء الصيد ، مسألة 323.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسائل جزاء الصيد ، مسألة 324.

ولا بأس أن يأكل الإنسان لحم الصيد ، وينال النساء ، ويشم الطيب بعد عقد الإحرام ، ما لم يلب ، فإذا لبّى ، حرم عليه جميع ذلك ، كذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وهذا غير واضح ، لأنّه قال بعد عقد الإحرام : والإحرام لا ينعقد إلا بالتلبية ، أو الاشعار ، والتقليد (2) ، للقارن ، ثم قال : ما لم يلب ، فإذا لم يلبّ فما انعقد إحرامه.

والأولى أن يقال : انّما أراد بقوله بعد عقد الإحرام ، لبس ثوبي الإحرام ، والصلاة ، والاغتسال من الكيفية الظاهرة ، على ما أسلفنا القول في معناه ، وإن كان الحاج قارنا ، فإذا ساق ، وأشعر البدنة ، أو قلّدها ، حرم أيضا عليه ذلك ، وإن لم يلب ، لأنّ ذلك يقوم مقام التلبية ، في حقّ القارن.

والاشعار ، هو أن يشق سنام البدنة ، من الجانب الأيمن ، فإن كانت بدنا كثيرة ، صفّها صفّين ، ويشعر إحديهما من جانبها الأيمن ، والأخرى من جانبها الأيسر.

وينبغي إذا أراد الإشعار ، أن يشعرها وهي باركة ، وإذا أراد نحرها ، نحرها وهي قائمة.

والتقليد ، يكون بنعل قد صلى فيه ، لا يجوز غيره.

وإذا أراد المحرم أن يلبي جاهرا بالتلبية ، بعد انعقاد إحرامه بالتلبية المخفت بها التي أدنى التلفظ بها ، أن تسمع أذناه ، التي يقال يلبي سرا ، يريدون بذلك ، غير جاهر بها ، بل متلفظا ، بحيث تسمع أذناه الكلام ، ثم أراد أن يكررها ، جاهرا بها ، فالأفضل له إذا كان حاجا على طريق المدينة ، أن يجهر بها ، إذا أتى البيداء ، وهي الأرض التي يخسف بها جيش السفياني ، التي تكره فيها الصلاة عند الميل ، فلو أريد بذلك التلبية التي ينعقد بها الإحرام ، لما جاز ذلك ، لأنّ البيداء بينها وبين ذي الحليفة ، ميقات أهل المدينة ، ثلاث فراسخ ، وهو ميل ، فكيف يجوز له أن يتجاوز الميقات من غير إحرام ، فيبطل بذلك حجه وانّما

ص: 535


1- النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.
2- في ط : أو التقليد.

المقصود والمراد ما ذكرناه من الإجهار بها ، في حال تكرارها.

وإذا كان حاجا على غير طريق المدينة ، جهر من موضعه بتكرار التلبية المستحبة ، إن أراد ، وإن مشى خطوات ثمّ لبى ، كان أفضل.

والتلبية التي ينعقد بها الإحرام فريضة ، لا يجوز تركها على حال ، والتلفظ بها دفعة واحدة ، هو الواجب ، والجهر بها على الرجال مندوب ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقال بعضهم : الجهر بها واجب ، فأمّا تكرارها مندوب مرغب فيه ، والإتيان بقول لبيك ذا المعارج إلى آخر الفصل مندوب ، أيضا شديد الاستحباب.

وكيفية التلبية الأربع الواجبة التي تتنزل في انعقاد الإحرام بها منزلة تكبيرة الإحرام في انعقاد الصلاة ، هو أن يقول : لبيك اللّهم لبيك ، لبيك انّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبّيك فهذه التلبيات الأربع فريضة ، لا بدّ منها.

فإذا لبّى بالتمتع ، ودخل إلى مكة ، وطاف ، وسعى ، ثم لبّى ، بالحج ، قبل أن يقصّر ، فقد بطلت متعته ، على قول بعض أصحابنا ، وكانت حجته مبتولة ، هذا إذا فعل ذلك متعمدا ، فإن فعله ناسيا ، فليمض فيما أخذ فيه ، وقد تمت متعته ، وليس عليه شي ء.

ومن لبى بالحجّ مفردا ، ودخل مكة ، وطاف ، وسعى ، جاز له أن يقصّر ويجعلها عمرة ، ما لم يلب بعد الطواف ، فإن لبّى بعده ، فليس له متعة ، وليمض في حجّته ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1). ولا أرى لذكر التلبية هاهنا وجها ، وانّما الحكم للنية ، دون التلبية ، لقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات (2).

وينبغي أن يلبّي الإنسان ، ويكرر التلبيات الأربع ، وغيرها من الألفاظ ،

ص: 536


1- النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6.

مندوبا ، في كل وقت ، وعند كل صلاة ، وإذا هبط واديا ، أو صعد شرفا ، وفي الأسحار.

والأخرس ، يجزيه في تلبيته ، تحريك لسانه ، وإشارته ، بالإصبع.

ويقطع المتمتع ، التلبية ، المكررة المندوبة ، إذا شاهد بيوت مكة ، فإذا شاهدها ، يستحب له قطعها ، فإن كان قارنا أو مفردا ، قطع تلبيته يوم عرفة بعد الزوال ، وإذا كان معتمرا قطعها إذا دخل الحرم ، فإن كان المعتمر ممن قد خرج من مكة ، ليعتمر ، فلا يقطعها ، إلا إذا شاهد الكعبة.

ويجرد الصبيان ، من لبس المخيط ، من فخّ ، و « فخ » بالفاء والخاء المعجمة المشددة ، إذا حج بهم على طريق المدينة ، لأنّ فخّا على هذه الطريق ، فأمّا إذا كان إحرامهم من غير ميقات أهل المدينة ، فلا يجوز لبس المخيط لهم ، بل يجردون من المخيط وقت الإحرام ، و « فخّ » هي الموضع الذي قتل به الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام ، وهي من مكة ، على رأس فرسخ ، إذا أريد الحج بهم.

ويجنبون ، كلّما يجتنبه المحرم ، ويفعل بهم ، ما يجب على المحرم فعله ، وإذا حجّ بهم متمتعين ، وجب أن يذبح عنهم ، ويكون الهدي من مال من حجّ بالصبي ، دون مال الصبي ، وينبغي أن يوقف الصبي بالموقفين معا ، ويحضر المشاهد كلّها ، ويرمى عنه ، ويناب عنه ، في جميع ما يتولاه الرجل بنفسه ، وإذا لم يوجد لهم هدي ، كان على الولي الذي أدخلهم في الحج ، أن يصوم عنه.

وأفعال الحج على ضربين : مفروض ، ومسنون ، في الأنواع الثلاثة. والمفروض على ضربين : ركن ، وغير ركن.

فأركان المتمتع عشرة له النيّة ، والإحرام من الميقات في وقته ، وطواف العمرة ، والسعي بين الصّفا والمروة لها ، والإحرام بالحج ، من جوف مكة ، لأنّها ميقاته ، والنية له ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي للحج.

وما ليس بركن ، فثمانية أشياء : التلبيات الأربع على قول بعض أصحابنا وعلى قول

ص: 537

الباقين ، هي ركن ، وهو الأظهر والأصح ، لأن حقيقة الركن ، ما إذا أخل به الإنسان في الحج عامدا ، بطل حجّه ، والتلبية هذا حكمها ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر ، في النهاية في باب فرائض الحج (1) ويذهب في الجمل والعقود ، إلى أنّ التلبية واجبة ، غير ركن (2) ، أو ما قام (3) مقامها مع العجز ، وركعتا طواف العمرة ، والتقصير بعد السعي ، والتلبية عند الإحرام بالحج ، أو ما يقوم مقامها ، على رأي من لا يرى أنّها ركن ، والهدي ، أو ما يقوم مقامه ، من الصوم مع العجز ، ولا يجوز إذا عدمنا القدرة على الهدي ، الانتقال إلا إلى الصوم ، دون الثمن ، لأنّ اللّه تعالى (4) ما نقلنا إلى ثالث ، بل نقلنا إذا عدمنا الهدي ، إلى بدله ، وهو الصوم ، وبعض أصحابنا قال : لا يجوز الانتقال إلى الصوم ، إلا بعد عدم ثمنه ، والأوّل أظهر ، ودليله ما قدّمناه ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء ، وركعتا الطواف له.

وأركان القارن والمفرد ستة : النية ، والإحرام ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي.

وما ليس بركن فيهما أربعة أشياء : التلبية ، أو ما يقوم مقامها للقارن ، من تقليد ، أو إشعار ، على أحد المذهبين ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء ، وركعتا الطواف له.

ويتميز القارن من المفرد بسياق الهدي.

ويستحب لهما تجديد التلبية عند كل طواف.

وأشهر الحج ، قال بعض أصحابنا : ثلاثة أشهر وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وقال بعض أصحابنا : شهران ، وتسعة أيام ، وقال بعض منهم :

ص: 538


1- النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر أفعال الحج.
3- في ط وج : يقوم.
4- في سورة البقرة الآية 196 قال ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ) .

شهران وعشرة أيام ، فالأول مذهب شيخنا المفيد ، في كتابه الأركان ، ويناظر مخالفه على ذلك ، وهو أيضا مذهب شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه في نهايته (1) وقال في جمله وعقوده : شهران وتسعة أيام (2) وقال في مسائل خلافه (3) ومبسوطة (4). وأشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وإلى يوم النحر ، قبل طلوع الفجر منه ، فإذا طلع ، فقد مضى أشهر الحج ، ومعنى ذلك ، أنّه لا يجوز أن يقع إحرام الحج إلا فيه ، ولا إحرام العمرة التي يتمتع بها إلى الحج ، إلا فيها ، وأمّا إحرام العمرة المبتولة ، فجميع أيام السنة وقت له.

والذي يقوى في نفسي ، مذهب شيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر ، في نهايته ، والدليل على ما اخترناه ، ظاهر لسان العرب ، وحقيقة الكلام ، وذلك أنّ اللّه تعالى قال في محكم كتابه : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (5) فجمع سبحانه ، ولم يفرد بالذكر ، ولم يثن ، ووجدنا أهل اللسان ، لا يستعملون هذا القول ، فيما دون أقل من ثلاثة أشهر ، فيقولون : فلان غاب شهرا ، إذا أكمل الشهر لغيبته ، وفلان غاب شهرين ، إذا كان فيهما جميعا غائبا ، وفلان غاب ثلاثة أشهر ، إذا دامت غيبته في الثلاثة ، فثبت أنّ أقل ما يطلق عليه لفظ الأشهر ، في حقيقة اللغة ثلاثة منها ، فوجب أن يجري كلام اللّه تعالى ، وكتابه على الحقيقة ، دون المجاز ، لأنّ الكلام في الحقائق ، دون المجازات ، والاستعارات.

ويزيد ذلك بيانا ما روي عن الأئمة من آل محمّد عليهم السلام أنّ أشهر الحج ثلاثة : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة (6) ويصحّح هذه الرواية ، عن الأئمة

ص: 539


1- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 23.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر أنواع الحج وشرائطها.
5- البقرة : 197.
6- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 11 من أبواب أقسام الحج.

عليهم السلام ، ما أجمعت عليه الطائفة عنهم عليهم السلام في جواز ذبح الهدي طول ذي الحجة ، وطواف الحج ، وسعي الحج ، طول ذي الحجّة ، وكذلك طواف النساء عندنا ، وقالوا عليهم السلام ، فإن لم يجد الهدي حتى يخرج ذو الحجة ، أخّره إلى قابل ، فإنّ أيام الحج قد مضت ، فجعلوا عليهم السلام آخر منتهى الحج ، آخر ذي الحجّة.

فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون آخر أشهر الحج ، اليوم العاشر من ذي الحجة ، بدلالة إجماع الأمّة ، على أنّه ليس لأحد أن يهل بالحج ، ولا يقف بعرفة ، بعد طلوع الفجر من يوم النحر ، وذلك أنّه لو كان باقي ذي الحجة من أشهر الحج ، لجاز فيه ما ذكرناه.

قيل له قد تقدّم القول في بطلان هذا المذهب ، بما ذكرناه من كلام العرب ، وحقيقة اللسان ، وقد قال اللّه تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (1) وقال تعالى ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (2) فلو كان الأمر على ما يذهب إليه مخالفنا في المسألة ، لكان القرآن واردا على غير مفهوم اللغة ، وذلك ضدّ الخبر الذي تلوناه من الكتاب ، على أنّ هذا الذي عارض به الخصم ، بيّن الاضمحلال ، وذلك أنّ أشهر الحج ، انّما هي على ترتيب عمله ، فبعضها وقت للإهلال ، وبعضها وقت للطواف والسعي ، وبعضها وقت للوقوف ، وقد اتفقنا جميعا بغير خلاف ، أنّ طواف الزيارة من الحج ، وهو بعد الفجر من يوم النحر ، وكذلك السعي ، وطواف النساء عندنا ، على ما مضى بيانه ، والمبيت ليالي التشريق بمنى ، ورمي الجمار بعد يوم النحر ، فثبت بذلك ، أنّ القول في ذلك على ما اخترناه.

واختلف أصحابنا ، في أقل ما يكون بين العمرتين ، فقال بعضهم : شهر ، وقال بعضهم : يكون في كل شهر تقع عمرة ، وقال بعضهم : عشرة أيام ، وقال بعضهم : لا أوقت وقتا ، ولا أجعل بينهما مدّة ، وتصح في كل يوم عمرة ، وهذا

ص: 540


1- إبراهيم : 4.
2- الزمر : 29.

القول يقوى في نفسي ، وبه افتي ، وإليه ذهب السيّد المرتضى ، في الناصريات وقال : الذي يذهب إليه أصحابنا ، أنّ العمرة جائزة في سائر أيام السنة. وقال : وقد روي أنّه لا يكون بين العمرتين أقل من عشرة أيام (1) وروي أنّها لا تجوز إلا في كل شهر مرة (2). ثم قال : دليلنا على جواز فعلها على ما ذكرناه ، قوله صلى اللّه عليه وآله : العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما (3) ولم يفصّل عليه السلام (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وما روي في مقدار ما يكون بين العمرتين ، فأخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يجوز إدخال العمرة على الحج ، ولا إدخال الحج على العمرة ، ومعنى ذلك أنّه إذا أحرم بالحج ، لا يجوز أن يحرم بالعمرة ، قبل أن يفرغ من مناسك الحج ، وكذلك إذا أحرم بالعمرة ، لا يجوز أن يحرم بالحج ، حتى يفرغ من مناسكها ، فان فاته وقت التحلّل ، مضى على إحرامه ، وجعلها حجّة منفردة ، ولا يدخل أفعال العمرة في أفعال الحج.

والمتمتع إذا أحرم بالحج من خارج مكة ، وجب عليه الرجوع إليها مع الإمكان ، فإن تعذر ذلك لم يلزمه شي ء وتمّ حجه ولا دم عليه ، لأجل ذلك.

والقارن والمفرد ، إذا أراد أن يأتيا بالعمرة بعد الحج ، وجب عليهما أن يخرجا إلى خارج الحرم ، ويحرما منه ، فإن أحرما من جوف مكة لم يجزهما.

والمستحب لهما ، أن يأتيا بالإحرام ، من الجعرانة ( بفتح الجيم ، وكسر العين ، وفتح الراء ، وتشديدها ، هكذا سماعنا من بعض مشايخنا ، والصحيح ما قاله نفطويه ، في تاريخه ، قال : كان الشافعي يقول : الحديبية بالتخفيف ، ويقول أيضا : الجعرانة بكسر الجيم ، وسكون العين ، وهو أعلم بهذين الموضعين. قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وجدتها كذلك ، بخط أثق (5) به ، قال ابن دريد في

ص: 541


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب العمرة.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب العمرة.
3- كنز العمال : ج 5 ، كتاب الحج والعمرة ، ص 114.
4- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 139.
5- في ج : وط : من أثق.

الجمهرة : الجعرانة بكسر الجيم ، والعين ، وفتح الراء ، وتشديدها ، وهذا الذي يعتمد عليه ) أو التنعيم.

باب ما يجب على المحرم اجتنابه وما لا يجب

إذا عقد المحرم إحرامه بالتلبية ، إن كان متمتعا ، أو مفردا أو بالإشعار ، أو التقليد ، إن كان قارنا حرم عليه لبس الثياب المخيطة ، وغير المخيطة ، إذا كان فيها طيب إلا بعد إزالته ، والنساء ، نظرا ، ولمسا ، وتقبيلا ، ووطيا وعقدا له ولغيره ، يستوي المحرّمات والمحللات في ذلك ، والطيب على اختلاف أجناسه ، والصيد ، ولحم الصيد ، والإشارة إليه ، والدلالة عليه.

وأفضل ما يحرم الإنسان فيه من الثياب ، ما يكون قطنا محضا بيضا ، فإن كان غير بيض كان جائزا ، ولا يكره الإحرام في الثياب الكتان ، إنّما يكره التكفين بها ، ويكره الإحرام في الثياب السود.

وقال شيخنا في نهايته : لا يجوز الإحرام في الثياب السود (1). وانّما أراد شدة الكراهة ، دون أن يكون ذلك محظورا ، وجملة الأمر ، وعقد الباب في هذا ، أنّ كل ثوب يجوز للرجال فيه الصلاة ، يجوز فيه الإحرام.

ويكره الإحرام في الثياب المصبوغة بالعصفر ، وما أشبه ذلك ، لأجل الشهرة ، وإن لم يكن ذلك محظورا.

ولا يحرم الإنسان إلا في ثياب طاهرة ، نظيفة ، فإن كانت وسخة ، غسلها قبل الإحرام ، وإن توسخت بعد الإحرام ، فإنّه يكره غسلها ، وإن لم يكن ذلك محظورا ، إلا إذا أصابها شي ء من النجاسة ، فإنّه يجب عليه غسلها.

ولا بأس أن يستبدل بثيابه في حال الإحرام ، غير أنّه إذا طاف ، لا يطوف

ص: 542


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.

إلا فيما أحرم فيه ، وإن كان لو طاف في غيره ، ممّا استبدل لم يكن محظورا ، ولا وجب عليه بذلك شي ء.

ويكره له النوم على الفرش المصبوغة.

وإن أصاب ثوب المحرم شي ء من خلوق الكعبة ، وزعفرانها ، لم يكن به بأس.

وإذا لم يكن مع الإنسان ثوبا لإحرامه ، وكان معه قباء ، فليلبسه منكوسا ، ومعنى ذلك أن يجعل ذيله فوق أكتافه ، وقال بعض أصحابنا : فليلبسه مقلوبا ، ولا يدخل يديه في يدي القباء ، وإلى ما فسرناه يذهب ويعني بقوله مقلوبا ، لأنّ المقصود بذلك أنّه لا يشبه لبس المخيط ، إذا جعل ذيله على أكتافه ، فأمّا إذا قلبه ، ولبسه ، وجعل ذيله إلى تحت ، فهذا يشبه لبس المخيط ، وما فسرناه به قد ورد صريحا عن الأئمة في ألفاظ الأحاديث ، أورده البزنطي ( بالباء المنقطة ، من تحتها نقطة واحدة المفتوحة ، والزاي المفتوحة المعجمة ، والنون المسكنة ، والطاء غير المعجمة ، صاحب الرضا عليه السلام ) في نوادره ، ويجوز له أن يلبس السراويل ، إذا لم يجد الإزار ، ولا كفارة عليه ولا حرج.

ويكره لبس الثياب المعلمة في حال الإحرام ، ولا يجوز للرجل ، أن يلبس الخاتم يتزين به ، ولا بأس بلبسه للسنّة.

ولا يجوز للمحرم أن يلبس الخفين ، وعليه أن يلبس النعلين ، فإن لم يجدهما ، واضطر إلى لبس الخف ، لم يكن به بأس ، وقال بعض أصحابنا : يشق ظاهر قدمه ، وهو قول بعض المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، والذي رواه أصحابنا ، وأجمعوا عليه ، لبسهما من غير شق (1) وهو الصحيح ، وعليه يعتمد شيخنا أبو جعفر في نهايته (2). وقال : بقول بعض المخالفين ، في مسائل خلافه (3)

ص: 543


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 51 من أبواب تروك الإحرام ، ح 2 و 4.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 75.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه أيضا في نهايته : ويحرم على المرأة في حال الإحرام ، من لبس الثياب ، جميع ما يحرم على الرجال ، ويحل لها ما يحل له (1) قال وقد وردت رواية ، بجواز لبس القميص للنساء ، والأصل ما قدّمناه ، فأمّا السراويل فلا بأس بلبسه لهن على كل حال ، سواء كانت ضرورة ، أو لم تكن (2).

قال محمّد بن إدريس : والأظهر عند أصحابنا ، أنّ لبس الثياب المخيطة غير محرّم على النساء ، بل عمل الطائفة وفتواهم ، وإجماعهم ، على ذلك ، وكذلك عمل المسلمين.

ولا يجوز لهن لبس القفازين ، ولا شي ء من الحلي مما لم تجر عادتهن بلبسه قبل الإحرام. فأمّا ما كنّ يعتدن لبسه فلا بأس به ، غير أنّها لا تظهره لزوجها ، ولا تقصد به الزينة ، فإن قصدت به الزينة ، كان أيضا غير جائز.

والقفّازان في الأصل وعند العرب ، شي ء تتخذه النساء باليدين ، تحشى بقطن ، ويكون له أزرار ، تزر على الساعدين ، من البرد ، تلبسه النساء ، والقفاز أيضا الدستبانج ، الذي يتخذ للجوارح ، من جلد يمده الرجل على يده ، قال الشاعر :

تبا لذي أدب يرضى بمعجزة *** ولا يكون كباز فوق قفّاز

وقد روي أنّه لا بأس بأن تلبس المرأة المحرمة الخلخالين ، والمسك.

قال محمّد بن إدريس : المسك بفتح الميم ، والسين غير المعجمة المفتوحة ، والكاف ، أسورة من ذبل أو عاج قال جرير :

ترى العيس الحولي جوبا بكوعها *** لها مسك من غير عاج ولا ذبل

ويكره لها أن تلبس الثياب المصبوغة المفدمة يعني المشبعة.

ولا بأس أن تلبس المرأة المحرمة ، الخاتم ، وإن كان من ذهب.

ص: 544


1- ج : عليهم.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.

ويحرم على المحرم الرفث ، وهو الجماع.

ويحرم عليه أيضا الفسوق ، وهو الكذب ، والجدال ، وهو قول الرجل : لا واللّه ، وبلى واللّه.

ولا يجوز له قتل شي ء من الدواب ، ولا يجوز له أن ينحي عن بدنه القمل ، يرمي به عنه ، ولا بأس بتحويله له من مكان من بدنه الى مكان منه ، ولا بأس أن ينحّي عنه القراد ، والحلمة.

ولا يجوز له ، أن يمسّ شيئا من الطيب ، على ما قدّمناه ، وقال بعض أصحابنا : الطيب الذي يحرم مسه ، وشمّه ، وأكل طعام يكون فيه المسك ، والعنبر والزعفران ، والورس بفتح الواو ، وهو نبت أحمر ، قاني ، يوجد على قشور شجر ، ينحت منها ، ويجمع ، وهو شبيه بالزعفران المسحوق ، ويجلب من اليمن ، طيّب الريح ، والعود ، والكافور.

فأمّا ما عدا هذا من الطيب ، والرياحين ، فمكروه ، يستحب اجتنابه ، وإن لم يلحق في الحظر بالأوّل ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1).

والأظهر بين الطائفة ، تحريم الطيب على اختلاف أجناسه ، لأنّ الأخبار عامة في تحريم الطيب على المحرم ، فمن خصّصها بطيب دون طيب ، يحتاج إلى دليل.

وكذلك يحرم عليه الادهان بدهن فيه طيب ، فإن اضطر إلى أكل طعام فيه طيب ، أكله غير أنّه يقبض على أنفه ، ولا بأس بالسعوط ، وإن كان فيه طيب ، عند الحاجة إليه.

ومتى أصاب ثوب الإنسان شي ء من الطيب ، كان عليه إزالته.

ومتى اجتاز المحرم في موضع يباع فيه الطيب ، لم يكن عليه شي ء ، فإن باشره بنفسه أمسك على أنفه منه.

ص: 545


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.

ولا يمسك على أنفه من الروائح الكريهة.

ولا بأس بأن يستعمل المحرم الحناء ، للتداوي به ، ويكره ذلك للزينة ، ويكره للمرأة الخضاب إذا قاربت حال الإحرام.

ولا يجوز له الصيد البري ، ولا الإشارة إليه ، ولا الدلالة عليه ، على ما قدّمناه ، ولا أكل ما صاده غيره ، ولا يجوز له أن يذبح شيئا من الصيد ، فإن ذبحه ، كان حكمه حكم الميتة ، لا يجوز لأحد أكله.

ولا يجوز للرجل ، ولا للمرأة أن يكتحلا بالإثمد ، إلا عند الحاجة الداعية إلى ذلك ، ولا بأس بأن يكتحلا بكحل ليس بأسود ، إلا إذا كان فيه طيب ، فإنّه لا يجوز ذلك.

ولا يجوز للمحرم النظر في المرآة ، وبعض يكره ذلك.

ولا يجوز له استعمال الأدهان التي فيها طيب ، قبل أن يحرم ، إذا كانت ممّا يبقى رائحته إلى بعد الإحرام ، ولا بأس عند الضرورة باستعمال ما ليس بطيب منها ، مثل الشيرج ، والسمن ، والزيت ، فأمّا أكلها ، فلا بأس به على جميع الأحوال.

والأدهان الطيبة ، إذا زالت عنها الرائحة ، جاز استعمالها.

ولا يجوز للمحرم أن يحتجم ، إلا إذا خاف ضررا على نفسه.

ولا يجوز له إزالة شي ء من الشعر ، في حال الإحرام ، فإن اضطر إلى ذلك ، بأن يريد مثلا أن يحتجم ، ولا يتأتى له ذلك ، إلا بعد إزالة شي ء من الشعر ، فليزله ، وليس عليه شي ء من الإثم ، بل يجب عليه دم شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين ، مخير في ذلك.

ولا يجوز للمحرم تغطية رأسه ، ولا أن يرتمس في الماء ، بأن يغطّي رأسه ، فأمّا المرأة ، فلا بأس بها ، أن تغطي رأسها ، غير انّها يجب عليها أن تسفر عن وجهها ، ولا يجوز أن تتنقب ، فإن غطى الرجل رأسه ناسيا ، ألقى الغطاء عن

ص: 546

رأسه ، وجدد التلبية استحبابا ، وليس عليه شي ء ، ولا بأس أن يغطي وجهه ، ويعصب رأسه ، عند حاجته إلى ذلك.

ولا يجوز للمحرم أن يظلّل على نفسه سائرا ، إلا إذا خاف الضرر العظيم ، ويجوز له أن يمشي تحت الظلال ، ويجلس تحت الظلال ، والسقوف ، والخيم ، وغير ذلك ، وانّما منع المحرم من الظلال ، إذا كان سائرا ، فأمّا إذا نزل ، فلا بأس أن يستظل ، بما أراد.

والمحرم إذا كان مزاملا لعليل ، جاز له أن يظلل على العليل ، ولا يجوز له أن يظلل على نفسه ، ولا بأس بأن تستظل المرأة ، وتغطي محملها ، وهي سائرة ، بخلاف الرجال.

ولا يحك المحرم جلده حكا يدميه ، ولا يستاك سواكا يدمي فاه ، ولا يدلك جسده ، ووجهه ، ولا رأسه ، في الوضوء والغسل ، لئلا يسقط منهما شي ء من الشعر.

ولا يجوز له قص الأظافير ، على حال.

ولا يجوز للمحرم أن يتزوج ، أو يزوج ، فإن فعل كان العقد باطلا ، ولا يجوز له أيضا أن يشهد العقد ، ولا أن يشهد على عقد النكاح ، ما دام محرما ولا بأس بإقامته الشهادة ، بعد إحلاله من إحرامه ، وانّما يحرم عليه إقامتها في حال إحرامه ، فإن أقامها ، يردّها الحاكم حينئذ ، ولا يقبلها.

ولا بأس أن يشتري الجواري.

ويجوز له تطليق النساء.

ويكره له دخول الحمام ، فإن دخله ، فلا يدلك جسده ، بل يصب عليه الماء صبا.

والمحرم إذا مات ، غسل كتغسيل المحل ، ويكفن كتكفينه ، غير أنّه لا يقرّب شيئا من الكافور.

ويكره له أن يلبي من دعاه ، بل يقول يا سعد.

ص: 547

ولا يجوز للمحرم لبس السلاح ، إلا عند الضرورة ، والخوف.

ولا بأس أن يؤدب الرجل غلامه ، وخادمه ، وهو محرم ، غير أنّه لا يزيد على عشرة أسواط - أورد شيخنا في أثناء مسألة من مسائل خلافه (1) - وعليه ردع من زعفران ، بالراء غير المعجمة ، المفتوحة ، والدال غير المعجمة ، المسكنة ، والعين غير المعجمة ، قال محمّد بن إدريس : يقال به ردع من زعفران ، أو دم أي لطخ وأثر.

باب ما يلزم المحرم عن جناياته من كفارة وفدية وغير ذلك فيما يفعله عمدا أو خطأ

ما يفعله المحرم من محظورات الإحرام على ضربين ، أحدهما يفعله عامدا ، والآخر يفعله ساهيا وناسيا ، فكل ما يفعله من ذلك على وجه السهو والنسيان ، لا يتعلّق به كفارة ، ولا فساد الحج ، إلا الصيد خاصة ، فإنّه يلزمه فداؤه ، عامدا كان ، أو ساهيا ، وما عداه إذا فعله عامدا ، لزمته الكفارة ، وإذا فعله ساهيا ، لم يلزمه شي ء.

فمن ذلك ، إذا جامع المرأة في الفرج ، سواء كان قبلا ، أو دبرا ، قبل الوقوف بالمشعر ، عامدا ، وبعض أصحابنا يقول : ويعتبر قبل الوقوف بعرفة ، والأول هو الأظهر ، فإنّه يفسد حجّه ، ويجب عليه المضي في فاسدة ، وعليه الحجّ من قابل ، قضاء عن هذه الحجة ، سواء كانت حجته فرضا ، أو نفلا ، ويلزم مع ذلك ، كفارة ، وهي بدنة ، والمرأة إن كانت محلّة ، لا يتعلّق بها شي ء ، وإن كانت محرمة ، فلا يخلو إمّا أن تكون مطاوعة له ، أو مكرهة عليها ، فإن طاوعته على ذلك ، كان عليها مثل ما عليه من الكفارة ، والحج ، من قابل ، وينبغي أن يفترقا ، إذا انتهيا إلى المكان الذي فعلا فيه ما فعلا ، إلى أن يقضيا المناسك ، وقد

ص: 548


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 64.

روي أنّ حد الافتراق ، أن لا يخلوا بأنفسهما ، إلا ومعهما ثالث (1).

وإن كان أكرهها على ذلك ، لم يكن عليها شي ء ، ولا يتعلّق به فساد حجّها.

وتضاعفت الكفارة على الرجل ، يتحملها عنها ، وهي بدنة أخرى ، فأمّا حجّة أخرى فلا يلزمه عنها ، لأنّ حجتها ما فسدت.

وإن كان جماعه فيما دون الفرج ، كان عليه بدنة ، ولم يكن عليه الحج من قابل.

وإن كان الجماع في الفرج بعد الوقوف بالمشعر ، كان عليه بدنة ، وليس عليه الحج من قابل ، سواء كان ذلك قبل التحلل ، أو بعده ، وعلى كل حال ، فإذا قضى الحج في القابل ، فأفسد حجه أيضا ، كان عليه مثل ما لزمه في العام الأول ، من الكفارة ، والحج من قابل ، وكذلك ما زاد عليه إلى أن تسلم له حجّة غير مفسودة ، لعموم الأخبار (2).

وإذا جامع أمته ، وهي محرمة ، وهو محلّ ، فإن كان إحرامها بإذنه ، كان عليه كفارة ، يتحملها عنها ، وإن كان إحرامها من غير اذنه ، لم يكن عليه شي ء ، لأنّ إحرامها لم ينعقد ، وكذا الاعتبار في الزوجة ، في حجّة التطوع ، دون حجة الإسلام ، فإن لم يقدر على بدنة ، كان عليه دم شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، وإن كان هو أيضا محرما ، تعلّق به فساد حجّه ، والكفارة ، مثل ما قلناه ، في الحرة سواء.

وإذا وطأ بعد وطء لزمته كفارة ، بكل وطء ، سواء كفر عن الأول ، أو لم يكفر لعموم الأخبار.

ومن أفسد الحجّ ، وأراد القضاء ، أحرم من الميقات ، وكذلك من أفسد العمرة ، أحرم فيما بعد من الميقات ، والمفرد إذا حج ، ثم اعتمر بعده ، فأفسد

ص: 549


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع ، ح 5 و 6.
2- الوسائل : كتاب الحج الباب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع.

عمرته ، قضاها ، وأحرم من أدنى الحل ، والمتمتع إذا أحرم بالحج ، من مكة ، ثم أفسد حجه ، قضاه ، وأحرم من الموضع الذي أحرم منه بالحجّ ، من مكة ، بعد ما يقدّم العمرة المتمتع بها ، على إحرامه من مكة ، في سنة واحدة.

وهل تكون الحجة الثانية ، هي حجة الإسلام ، أو الأولى الفاسدة؟ قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : الاولى الفاسدة ، هي حجة الإسلام ، والثانية عقوبة (1) وقال في مسائل خلافه : بل الثانية هي حجة الإسلام (2) وهذا هو الصحيح الذي تشهد به أصول المذهب ، لأنّ الفاسد لا يجزي ولا تبرأ الذمة بفعله ، والفاسد غير الصحيح.

فإن قيل : إذا كانت الثانية هي حجة الإسلام ، دون الاولى ، وكان يراعى فيها شرائط الوجوب ، فكان إذا حج في العام القابل ، والشرائط مفقودة ، لا تجزيه حجته ، إذا أيسر بعد ذلك ، وحصلت له شرائط الوجوب ، ولا يعتبر أحد ذلك ، بل حجته في العام القابل تجزيه ، ولو حبا حبوا ، فدلّ هذا الاعتبار ، على أنّ الاولى هي حجة الإسلام ، دون الثانية.

قلنا : من حصلت له شرائط الوجوب ، وفرّط فيها ، يجب عليه الحج ، فإذا حج فقيرا ، أو ماشيا بعد ذلك ، أجزأته حجته ، ولا يعتبر شرائط الوجوب ، بعد ذلك ، فعلى هذا التحرير ، والتقرير ، الاعتراض ساقط ، لأنّه بإفساده للأولى فرّط ، فلا اعتبار في الثانية بشرائط الوجوب.

ومتى جامع الرجل قبل طواف الزيارة ، كان عليه جزور ، فإن لم يتمكن كان عليه دم بقرة ، فان لم يتمكن كان عليه دم شاة.

ومتى طاف الإنسان من طواف الزيارة شيئا ، ثم واقع أهله ، قبل أن يتمه ،

ص: 550


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 205.

كان عليه بدنة ، واعادة الطواف.

وإن كان قد سعى من سعيه شيئا ، ثمّ جامع كان عليه الكفارة ، ويبني على ما سعى ، ومن سعى بين الصفا والمروة ستة أشواط ، وظن أنّه كان سعى سبعة ، فقصّر ، وجامع ، وجب عليه دم بدنة ، وروي بقرة (1) ويسعى شوطا آخر ، وانّما وجبت عليه الكفارة ، لأجل أنّه خرج من السعي ، غير قاطع ، ولا متيقن إتمامه ، بل خرج عن ظن منه ، وهاهنا لا يجوز له أن يخرج مع الظن ، بل مع القطع واليقين ، وهذا ليس هو بحكم الناسي ، وهذا يكون في سعي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فلو كان في سعي الحجّ ، كان يجب عليه الكفارة ، ولو سلم له سعيه ، وخرج منه على يقين ، لأنّه قاطع على وجوب طواف النساء عليه ، وليس كذلك العمرة المتمتع بها ، لو سلم له سعيه ، وقصّر لم يجب عليه الكفارة ، لأنّه قد أحلّ بعد تقصيره من جميع ما أحرم منه ، لأنّ طواف النساء غير واجب في العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فليتأمّل ما قلناه ، فلا يصح القول بهذه المسألة ، فإنّها ما ذكرها الشيخ المفيد في مقنعته (2) ، إلا بما حرّرناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : وإن كان قد انصرف من السعي ظنا منه أنّه تممه ، ثمّ جامع ، لم يلزمه الكفارة ، وكان عليه تمام السعي (3) فجعله في حكم الناسي ، ولا يصح هذا أيضا ، إلا في سعي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، على ما حرّرناه.

ومتى جامع الرجل بعد قضاء مناسكه ، قبل طواف النساء ، كان عليه بدنة ، فإن كان قد طاف من طواف النساء شيئا ، فإن كان أكثر من النصف ،

ص: 551


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 14 من أبواب السعي.
2- المقنعة : كتاب الحج ، باب الكفارات ص 433.
3- النهاية : كتاب الحج ، ما يجب على المحرم من الكفارة.

بنى عليه بعد الغسل ، ولم تلزمه الكفارة ، على ما روي في بعض الأخبار (1) وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، وإن كان قد طاف أقل من النصف ، كان عليه الكفارة ، واعادة الطواف.

قال محمّد بن إدريس : أمّا اعتبار النصف في صحة الطواف ، والبناء عليه ، فصحيح ، وأمّا سقوط الكفارة ، ففيه نظر ، لأنّ الإجماع حاصل على أنّ من جامع قبل طواف النساء ، وجبت عليه الكفارة ، وهذا جامع قبل طواف النساء ، فالاحتياط يقتضي وجوب الكفارة.

ومتى عبث بذكره ، حتى أمنى ، فانّ الواجب عليه الكفارة ، وهي بدنة ، فحسب ، ولا يفسد حجه ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في نهايته : حكمه حكم من جامع ، على السواء (3) وقد رجع عن هذا ، في استبصاره (4) ومسائل خلافه (5) ، وهو الصحيح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والكفارة مجمع عليها ، وما زاد على ذلك ، يحتاج إلى دليل شرعي.

ومن نظر إلى غير أهله ، فأمنى ، كان عليه بدنة ، فإن لم يجد فبقرة ، فإن لم يجد فشاة.

وإذا نظر إلى امرأته فأمنى أو أمذى ، لم يكن عليه شي ء ، إلا أن يكون نظر إليها بشهوة فأمنى ، فإنّه يلزمه الكفارة ، وهي بدنة.

فإن مسّها بشهوة ، كان عليه دم بدنة ، إذا أنزل ، وإن لم ينزل ، فدم شاة ، وإن مسّها من غير شهوة ، لم يكن عليه شي ء ، أمنى أو لم يمن.

ومن قبل امرأته من غير شهوة كان عليه دم شاة ، فإن قبّلها بشهوة ، كان عليه دم شاة إذا لم يمن ، فإن أمنى كان عليه جزور.

ص: 552


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 11 من أبواب كفارات الاستمتاع.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
4- الإستبصار : كتاب الحج ، الباب 119 ، ح 3.
5- لم نجد المسألة فيما بأيدينا من كتاب الخلاف.

ومن لاعب امرأته ، فأمنى من غير جماع ، كان عليه بدنة.

ومن تسمّع لكلام امرأة ، أو استمع على من يجامع ، من غير رؤية لهما ، فأمنى ، لم يكن عليه شي ء.

ولا بأس أن يقبّل الرجل امّه وهو محرم.

ومن تزوج امرأة وهو محرم ، فرّق بينهما ، ولم تحلّ له أبدا ، سواء كان قد دخل بها ، أو لم يدخل ، إذا كان عالما بتحريم ذلك عليه ، فإن لم يكن عالما به ، جاز له أن يعقد عليها بعد الإحلال.

والمحرم إذا عقد لمحرم على زوجة ، ودخل بها الزوج ، كان على العاقد بدنة ، وعلى الزوج الداخل بها ، الواطئ لها ، ما على المحرم ، إذا وطأ امرأته من الأحكام.

ولا يجوز للمحرم أن يعقد لغيره ، على امرأة ، فإن فعل ذلك ، كان النكاح باطلا ، ولا يجوز له أن يشهد على عقد نكاح ، فإن أقام الشهادة بذلك ، لم تسمع شهادته.

ومن قلّم ظفرا من أظفاره ، كان عليه مدّ من طعام ، وكذلك الحكم فيما زاد عليه ، فإذا قلّم أظفار يديه جميعا ، كان عليه دم شاة ، فإن قلّم أظفار يديه ورجليه جميعا ، وكان في مجلس واحد ، كان عليه دم ، وإن كان ذلك منه في مجلسين ، كان عليه دمان.

ومن أفتى غيره بتقليم ظفر ، فقلّمه المستفتي ، فأدمى إصبعه ، كان عليه دم شاة.

ومن حلق رأسه لأذى ، كان عليه دم شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو يتصدق على ستة مساكين ، لكل مسكين مدّ من طعام ، أي ذلك فعل ، فقد أجزأه.

ومن ظلل على نفسه ، كان عليه دم ، إذا فعل ذلك وهو سائر على ما قدّمناه.

ومن جادل وهو محرم ، صادقا مرّة ، أو مرتين ، فليس عليه من الكفارة شي ء ، ويجب عليه التوبة والاستغفار ، فإن جادل ثلاث مرات ، فصاعدا كان عليه دم شاة ، وإن جادل كاذبا مرّة ، كان عليه دم شاة ، فإن جادل مرتين كاذبا ، كان عليه دم بقرة ، فإن جادل ثلاث مرات كاذبا ، عليه بدنة.

ص: 553

ومن نحى عن جسمه قمّلة ، فرمى بها ، أو قتلها ، كان عليه كف من طعام ، ولا بأس أن يحوّلها ، من مكان من جسده إلى مكان آخر ، ولا بأس أن ينزع الرجل القراد والحلمة عن بدنه ، وعن بعيره.

وإذا مس المحرم لحيته ، أو رأسه ، فوقع منهما شي ء من شعره ، كان عليه أن يطعم كفا من طعام ، فإن سقط شي ء من شعر رأسه ولحيته ، بمسه لهما في حال الطهارة ، لم يكن عليه شي ء.

والمحرم إذا نتف إبطه ، كان عليه أن يطعم ثلاثة مساكين ، فإن نتف إبطيه جميعا ، كان عليه دم شاة.

ومن لبس ثوبا لا يحل له لبسه ، لأجل الإحرام ، وكونه محرما ، أو أكل طعاما كذلك ، مثل الثوب ، كان عليه دم شاة.

والشجرة إذا كان أصلها في الحرم ، وفرعها في الحل ، لم يجز (1) قلعها ، وكذلك إذا كان أصلها في الحل ، وفرعها في الحرم ، لا يجوز قلعها على حال.

وفي الشجرة الكبيرة دم بقرة ، وفي الصغيرة دم شاة ، على ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مسائل خلافه (2) ، والأخبار (3) عن الأئمة الأطهار ، (عليهم السلام) واردة بالمنع من قلع شجر الحرم ، وقطعه ، ولم يتعرّض فيها للكفارة ، لا في الشجرة الكبيرة ، ولا في الصغيرة.

وكل شي ء ينبت في الحرم من الأشجار ، والحشيش ، فلا يجوز قلعه على حال ، إلا النخل ، وشجر الفواكه ، والإذخر.

ولا بأس أن تقلع ما أنبته أنت في الحرم من الأشجار.

ولا بأس أن يقلع ما ينبت في دار الإنسان بعد بنائه لها ، إذا كانت ملكه ،

ص: 554


1- ط : لا يجوز.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 281.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 86 من أبواب تروك الإحرام.

فإن كان نابتا قبل بنائه لها ، لم يجز له قلعه.

ولا بأس أن يخلي الإنسان إبله لترعى ، ولا يجوز أن يقلع الحشيش ، ويعلفه إبله.

وحدّ الحرم الذي لا يجوز قلع الشجر منه بريد في بريد.

ومن رمى طيرا على شجرة أصلها في الحرم وفرعها في الحل ، كان عليه الفداء ، وإن كان الطير في الحل.

وإذا لبس المحرم قميصا ، كان عليه دم شاة ، فإن لبس ثيابا جماعة ، في موضع واحد ، كان عليه أيضا دم واحد ، فإن لبسها في مواضع متفرقة ، كان عليه لكل ثوب منها فداء.

والأدهان على ضربين ، طيب ، وغير طيب ، فالطيب مثل دهن الورد ، والبنفسج ، والبان ، والزنبق ، بالنون بعد الزاء ، وهو دهن الياسمين ، تسميه الأطباء والصيادلة ، السوسن ، وما أشبه ذلك ، فمتى استعمله المحرم ، يجب عليه دم ، سواء استعمله في حال الاضطرار إليه ، أو حال الاختيار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في الجمل والعقود : وهو مكروه (1) ، وقال في مسائل خلافه (2) وفي نهايته (3) بتحريم استعماله ، وبوجوب الكفارة على مستعملة ، وهو الصحيح.

فأمّا غير الطيب ، مثل دهن السمسم ، والسمن ، والزيت ، فلا يجوز الادهان به ، فإن فعل ذلك ، لا تجب عليه كفارة ، ويجب عليه التوبة والاستغفار ، فأمّا أكله ، فلا بأس به بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في مبسوطة ، في فصل ما يلزم المحرم من الكفارة

ص: 555


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه ، ولا يخفى ما هو المذكور في المتن مخالف لما نقله عنه ، ( 28 ويجتنب الأدهان الطيبة ).
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 90.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه ، وما لا يجب.

الطيب على ضربين أحدهما يجب فيه (1) الكفارة ، والآخر على ثلاثة أضرب (2) ثمّ أورد في جمله ما لا يتعلّق به كفارة ، الشيخ ، والقيصوم ، والإذخر ، وحبق الماء.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : حبق الماء ، بالحاء غير المعجمة ، المفتوحة ، والباء المنقطة من تحتها ، نقطة واحدة ، المفتوحة ، والقاف ، وهو الحندقوق ، ويسمّى الغاغ ، بالغينين المعجمتين ، وقال الجوهري ، في كتاب الصحاح : الحبق ، بالتحريك : الفوذنج ، بالفاء المضمومة ، والواو المسكنة ، والذال المعجمة المفتوحة ، والنون المسكنة والجيم ، وما قلناه أوضح وأبين ، وقال ابن الجزلة المتطبب ، في كتاب منهاج البيان : هو بالفارسيّة فوذنج ، وقيل هو ورق الخلاف ، وهو ثلاثة أنواع جبلي ، وبستاني ، ونهري ، وهو نبات طيب الرائحة ، حديد الطعم ، ورقه مثل ورق الخلاف.

وإذا صاد المحرم نعامة ، فقتلها ، كان عليه جزور ، فإن لم يقدر على ذلك ، قوّم الجزاء ، والمقوّم عندنا هو الفداء ، دون المصيد ، وفض ثمنه على البر ، وتصدّق على كل مسكين نصف صاع ، فإن زاد ذلك على إطعام ستين مسكينا ، لم يلزمه أكثر منه ، وكانت الزيادة له ، وانّما الواجب عليه إطعام هذه العدة ، هذا المقدار ، وإن كان أقل من إطعام ستين مسكينا ، فقد أجزأه ، ولا يلزمه غير ذلك ، فإن لم يقدر على إطعام ستين مسكينا ، صام عن كلّ نصف صاع يوما ، فإن لم يقدر على ذلك ، صام ثمانية عشر يوما.

فإن قتل حمار وحش ، أو بقرة وحش ، كان عليه دم بقرة ، فان لم يقدر ، قوّمها وفض ثمنها ، على البر ، وأطعم كل مسكين نصف صاع ، فإن زاد ذلك على إطعام ثلاثين مسكينا ، لم يكن عليه أكثر من ذلك ، وله أخذ الزيادة ، كما قدّمناه في النعامة ، فإن لم يقدر على ذلك أيضا ، صام عن كل نصف صاع يوما ،

ص: 556


1- ج : أحدهما فيه.
2- المبسوط : ج 1 ، كتاب الحج ، ص 352.

فإن لم يقدر على ذلك صام تسعة أيام.

ومن أصاب ظبيا ، أو ثعلبا ، أو أرنبا ، كان عليه دم شاة ، فإن لم يقدر على ذلك ، قوم الجزاء الذي هو الشاة ، وفض ثمنها على البر ، وأطعم كل مسكين منه نصف صاع ، فإن زاد ذلك على إطعام عشرة مساكين ، فليس عليه غير ذلك ، وإن نقص عنه ، لم يلزمه أيضا أكثر منه ، فإن لم يقدر عليه ، صام عن كل نصف صاع يوما ، فإن لم يقدر على ذلك ، صام ثلاثة أيام.

واختلف أصحابنا في هذه الكفارة ، أعني كفارة الصيد على قولين ، فبعض منهم يذهب إلى أنّها على التخيير ، وبعض منهم يذهب إلى أنّها على الترتيب ، والذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، القول فيها بالتخيير ، وإلى هذا ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1) والجمل والعقود (2) وإلى الترتيب ذهب في نهايته (3) وهو مذهب السيّد المرتضى ، في الانتصار (4) والذي يدل على صحّة ما اخترناه قوله تعالى : ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) إلى قوله ( أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) (5) وأو للتخيير بلا خلاف ، بين أهل اللسان ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز ، يحتاج إلى دليل قاطع للأعذار ، وأيضا الأصل براءة الذّمة ، والترتيب حكم زائد ، يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي ، فمن شغلها بشي ء ، وادعى الترتيب ، يحتاج إلى دلالة الإجماع (6) فغير حاصل ، على أحد القولين ، بل ظاهر التنزيل يعضد ما قلناه ، ودليل على ما اخترناه ، فلا يعدل عنه ، إلا بدليل مثله.

ومن أصاب قطاة ، وما أشبهها ، كان عليه حمل قد فطم ، ورعي من الشجر ،

ص: 557


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 260.
2- لم يوجد في الكتاب الذي بأيدينا مبحث الكفارات.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارات.
4- الانتصار : كتاب الحج ، مسألة 17.
5- المائدة : 95
6- في ط وج : وأما الإجماع :

وحدّه ما أتى عليه أربعة أشهر ، فإنّ أهل اللغة بعد أربعة أشهر يسمّون ولد الضأن حملا.

ومن أصاب يربوعا ، أو قنفذا ، أو ضبّا ، أو ما أشبه ذلك ، كان عليه جدي.

ومن أصاب عصفورا ، أو صعوة ، أو قنبرة ، وما أشبهها ، كان عليه مد من طعام ، وذهب علي بن بابويه في رسالته ، إلى أنّ في الطائر ، جميعه دم شاة ، ما عدا النعامة ، فإنّ فيها جزورا (1) ، وقال أيضا في رسالته : وإن أكلت جرادة ، فعليك دم شاة ، وذهب إلى أنّ إرسال ذكور الإبل ، أو ذكور (2) الغنم ، لا يكون إلا إذا كان البيض فيه فراخ يتحرك ، فأمّا إذا لم يتحرك الفرخ ، وكان البيض لا فراخ فيه ، فإنّه يوجب قيمة البيضة ، فحسب (3) والصحيح في ذلك كلّه ، ما عليه المنظور إليه من أصحابنا ، وقد ذكرناه ، فإن إجماعهم منعقد عليه.

ومن قتل زنبورا خطأ ، لم يكن عليه شي ء ، فإن قتله عمدا ، كان عليه كف من طعام.

ومن أصاب حمامة وهو محرم في الحل ، كان عليه دم ، فإن أصابها وهو محل في الحرم ، كان عليه درهم ، فإن أصابها وهو محرم في الحرم كان عليه دم ، والقيمة الشرعية التي هي الدرهم (4).

وإن قتل فرخا وهو محرم في الحل ، كان عليه حمل ، وإن قتله في الحرم وهو محل ، كان عليه نصف درهم ، وإن قتله وهو محرم في الحرم ، كان عليه الجزاء والقيمة ، وإن أصاب بيض الحمام ، وهو محرم في الحل ، كان عليه درهم لكل بيضة ، فإن أصابه وهو محل في الحرم ، كان عليه ربع درهم ، وإن أصابه وهو محرم في الحرم ، كان عليه الجزاء والقيمة معا ، ولا يختلف الحكم في هذا ، سواء كان الحمام أهليا ، أو من حمام الحرم ، إلا أن حمام الحرم يشتري بقيمته علف لحمام الحرم.

والطير الأهلي ، يتصدق بقيمته الشرعية على المساكين ، بعد أن يغرم لصاحبه

ص: 558


1- رسالة علي بن بابويه : كتاب الحج ، كفارات الإحرام ، ص 88 الطبع الحديث.
2- في ط وج : أو ذكور.
3- رسالة علي بن بابويه : كتاب الحج ، كفارات الإحرام ، ص 88 الطبع الحديث.
4- في ط وج : الدراهم.

قيمته العرفية السوقية.

وبيض الحمام خاصّة ، لا يجب على من أصابه إرسال فحولة الغنم ، ولا الإبل في إناثها بعدد البيض ، بل يجب عليه ما ذكرناه فحسب ، لأنّ البيض على ثلاثة أضرب ضرب لا يجب الإرسال فيه ، وهو بيض الحمام ، ويدخل في الحمام ، كل مطوق يعب في شربه ، والضربان الآخران يجب فيهما الإرسال ، وهو بيض النعام ، الذي لم يتحرك فيه الفرخ ، وكذلك بيض القطا ، والقبج ، وغير ذلك ، وسنبين حكمه عند المصير إليه إن شاء اللّه تعالى.

وكل من كان معه شي ء من الصيد ، وأدخله الحرم ، وجب عليه تخليته ، فإن كان معه طير ، وكان مقصوص الجناح ، فليتركه معه ، يقيم به حتى ينبت ريشه ، ثم يخلّيه.

وقد روي أنّه لا يجوز صيد حمام الحرم ، وإن كان في الحل (1) والأصل الإباحة ، لأنّه ما حرم اصطياده ، إلا لكونه في البقعة المخصوصة التي هي الحرم ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (2) ومسائل خلافه في كتاب الأطعمة ، والصيد والذبائح (3) وإلى الرواية الأولى يذهب في نهايته (4) ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

ومن نتف ريشة من حمام الحرم ، كان عليه صدقة يتصدق بها ، باليد التي نتف بها.

ولا يجوز أن يخرج شي ء من حمام الحرم من الحرم ، فمن أخرج شيئا منه ، كان عليه ردّه ، فإن مات ، كان عليه قيمته.

ويكره شراء القماري وما أشبهها ، وإخراجها من مكة ، على ما روي في

ص: 559


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 44 من أبواب كفارات الصيد.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر ما يلزم المحرم من الكفارة بما يفعله .. ( وفي المصدر : ولا يجوز صيد حمام الحرم وان كان في الحل ).
3- الخلاف : كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 29.
4- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

الاخبار (1). والأولى عندي اجتناب إخراجها من الحرم ، لأنّ جميع الصيد لا يجوز إخراجه من الحرم ، إلا ما أجمعنا عليه.

ومن أدخل طيرا الحرم ، كان عليه تخليته ، وليس له أن يخرجه منه ، فإن أخرجه كان عليه دم شاة.

ومن أغلق بابا على حمام من حمام الحرم ، وفراخ ، وبيض ، فهلكت ، فإن كان أغلق عليها قبل أن يحرم فإن عليه لكل طير درهما ، ولكل فرخ نصف درهم ، ولكل بيضة ربع درهم وإن كان أغلق عليها بعد ما أحرم ، فإنّ عليه لكل طير شاة ، ولكل فرخ حملا ، ولكل بيضة درهما.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ من قتل حمامة ، وفرخها ، وكسر بيضتها ، في الحل ، فانّ عليه في الحمامة شاة ، وفي الفرخ حملا ، وفي البيضة درهما ، فإن فعل ذلك في الحرم ، وهو محرم أيضا فعليه في الحمامة شاة ودرهم ، وفي الفرخ حمل ونصف درهم ، وفي البيضة درهم وربع درهم ، فإن فعل ذلك محل في الحرم ، كان عليه في الحمامة درهم ، وفي فرخها نصف درهم ، وفي بيضتها درهم وربع درهم ، فهذا تحرير الفتيا.

ومن نفر حمام الحرم ، فعليه دم شاة إذا رجعت ، فإن لم ترجع كان عليه لكل طير شاة.

ومن دل على صيد ، فقتل كان عليه فداؤه ، فحسب ، سواء كان محرما في الحرم ، أو في الحل ، وهو محرم ، أو كان محلا في الحرم.

وإذا اجتمع جماعة محرمون على صيد فقتلوه ، وجب على كل واحد منهم الفداء ، ومتى اشتروا لحم صيد ، وأكلوه ، كان أيضا على كل واحد منهم الفداء ، وإذا رمى اثنان صيدا ، فأصاب أحدهما ، وأخطأ الآخر ، كان على كل واحد

ص: 560


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 14 ، من أبواب كفارات الصيد ، ح 3.

منهما الفداء ، على ما روي في بعض الأخبار (1) والذي يقتضيه أصول المذهب ، انّ الذي لم يصب ، ولم يقتل ، لا كفارة عليه ، إلا أن يكون دل القاتل ، ثم رمى معه ، فأخطأ فتكون الكفارة للدلالة ، لا لرميه ، فأما إذا لم يدل ، فلا كفارة عليه بحال.

وإذا قتل اثنان صيدا ، أحدهما محل ، والآخر محرم في الحرم ، كان على المحرم الفداء والقيمة ، وعلى المحل فداء واحد ، والمحرم عليه فداءان.

ومن ذبح صيدا في الحرم ، وهو محل ، كان عليه دم ، لا غير.

وإذا أوقد جماعة نارا ، فوقع فيها طائر ، ولم يكن قصدهم وقوع الطائر فيها ، ولا الاصطياد بها ، كان عليهم كلّهم فداء واحد ، وإن كان قصدهم ذلك ، كان على كل واحد منهم الفداء.

وفي فراخ النعام ، مثل ما في النعام ، على ما روي (2) ، وروي مثل سنه (3) ، وهو الذي يقتضيه الأصول ، والأظهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فإنّ ظاهر التنزيل دليل عليه.

وإذا أصاب المحرم بيض نعام ، فعليه أن يعتبر حال البيض ، فإن كان قد تحرك فيه الفرخ ، كان عليه عن كل بيضة من صغار الإبل ، وروي بكارة من الإبل (4) ، قال ابن الأعرابي في نوادره : يقال بكار بلا هاء ، تثبت فيها للإناث ، وبكارة بإثبات الهاء للذكران.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فلا يظن ظان أن البكارة الأنثى من الإبل ، وانّما البكارة جمع بكر بفتح الباء ، فأوجب الشارع ، في كل بيضة قد تحرك فيها

ص: 561


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 2.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 24 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 4.
3- لم نجد الرواية في كتب الأحاديث لكن الشيخ رحمه اللّه قال به في الخلاف في مسألة 262 من كتاب الحج ، والسيد المرتضى رحمه اللّه في كتابه جمل العلم والعمل وقال في الجواهر في كتاب الحج في باب الكفارات : لم نقف على هذا الحديث.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 24 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 4.

الفرخ ، واحدا من هذا الجمع.

وإن لم يكن قد تحرك فعليه أن يرسل فحولة الإبل في إناثها ، بعدد البيض ، فما نتج كان هديا لبيت اللّه تعالى ، والمعتبر في الإرسال ، وعدد الإبل ، الإناث تكون بعدد البيض ، لا الفحول ، فلو أرسل فحل واحد في عشر إناث ، لم يكن به بأس ، فإن لم يقدر على ذلك ، كان عليه عن كل بيضة شاة ، يذبح الشاة ، أو ما نتج ، إن كان حاجا ، في منى ، وإن كان معتمرا بمكة ، فإن لم يقدر على الشاة ، كان عليه إطعام عشرة مساكين ، عن كل بيضة ، فإن لم يقدر على ذلك ، كان عليه صيام ثلاثة أيام عن كل بيضة أيضا.

وإذا اشترى محل لمحرم بيض نعام فأكله المحرم ، كان على المحلّ لكل بيضة درهم ، وعلى المحرم عن كل بيضة شاة ، ولا يجب عليه الإرسال هاهنا ، وكل ما يصيبه المحرم من الصيد في الحلّ ، كان عليه الفداء لا غير ، وإن أصابه في الحرم ، كان عليه جزاءان معا ، لأنّه جمع بين الإحرام والحرم.

وذهب السيد المرتضى إلى أن من صاد متعمدا وهو محرم في الحل ، كان عليه جزاءان ، فإن كان ذلك منه في الحرم ، وهو محرم عامدا إليه ، تضاعف ما كان يجب عليه في الحلّ.

ومن ضرب بطير على الأرض ، وهو محرم في الحرم ، فقتله ، كان عليه دم ، وقيمتان ، قيمة لحرمة الحرم ، وقيمة لاستصغاره إياه ، وكان عليه التعزير.

ومن شرب لبن ظبية في الحرم ، كان عليه دم وقيمة اللبن معا ، على ما روي في بعض الأخبار (1) وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

وما لا يجب فيه دم ، مثل العصفور وما أشبهه ، إذا أصابه المحرم في الحرم ،

ص: 562


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 54 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1.
2- النهاية : كتاب الحج باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

كان عليه قيمتان.

وإذا صاد المحرم في الحرم ، كان عليه جزاءان ، أو القيمة مضاعفة ، إن كان له قيمة منصوصة.

وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته : وما يجب فيه التضعيف ، هو ما لم يبلغ بدنة ، فإذا بلغ ذلك ، لم يجب عليه غير ذلك (1) وباقي أصحابنا أطلقوا القول ، وأوجبوا التضعيف ، إذا جمع الصفتين ، الإحرام وكونه في الحرم ، سواء بلغ بدنة ، أو لم يبلغ.

ووافق شيخنا أصحابه في مسائل الخلاف فإنه قال : وصيد الحرم ، إذا تجرد عن الإحرام ، يضمن ، فان كان القاتل محرما ، تضاعف الجزاء ، وإن كان محلا لزمه جزاء واحد (2) ، وأطلق القول بذلك ، واستدل بإجماع الطائفة ، وطريقة الاحتياط ، والذي يقوى عندي مضاعفة الكفارة.

وكلّما تكرر من المحرم الصيد ، كان عليه الكفارة ، سواء كان ذلك منه نسيانا أو عمدا ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إذا كان ذلك منه نسيانا ، فإن فعله متعمدا ، مرّة ، كان عليه الكفارة ، وإن فعله مرتين ، فهو ممّن ينتقم اللّه منه ، وليس عليه الجزاء (3). وذهب في مسائل الخلاف ، إلى تكرار الكفارة ، بالدفعات الكثيرة ، سواء كان عامدا ، أو ناسيا (4) وهو الأظهر في المذهب ، ويعضده ظاهر التنزيل (5) ، ومن تمسّك من أصحابنا بالآية وقوله تعالى : ( وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) ليس فيها ما يوجب إسقاط الجزاء ، لأنّه لا يمتنع أن يكون بالمعاودة ينتقم اللّه منه ، وإن لزمه الجزاء ، لأنّه لا تنافي بينهما ، وتحمل الآية على عمومها ، لأنّه تعالى قال ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ

ص: 563


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 278.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 259.
5- المائدة : 95.

النَّعَمِ ) ولم يفرّق بين الأوّل والثاني ، وقوله بعد ذلك ومن عاد فينتقم اللّه منه ، لا يوجب إسقاط الجزاء ، لأنّه لا يمتنع أن يكون بالمعاودة ، ينتقم اللّه منه ، وإن لزمه الجزاء ، على ما قدّمناه ، والمخصّص يحتاج إلى دليل ، وما له منصوص ، يجب فيه ما نصّ عليه ، فإن فرضنا ان يحدث ما لا نصّ فيه ، رجعنا فيه إلى قول عدلين ، على ما يقتضيه ظاهر القرآن ، وما له مثل ، تلزم قيمته وقت الإخراج ، دون الإتلاف ، وما لا مثل له ، يلزم قيمته حال الإتلاف ، دون حال الإخراج ، لأن حال الإتلاف ، وجب عليه قيمته ، فالاعتبار بذلك ، دون حال الإخراج ، لأنّ القيمة قد استقرت في ذمّته.

الجوارح من الطير ، كالبازي ، والصقر ، والشاهين ، والعقاب ، ونحو ذلك ، والسباع من البهائم ، كالنمر ، والفهد ، وغير ذلك ، لا جزاء في قتل شي ء منه ، لأنّ الأصل ، براءة الذمة ، فمن علّق عليها شيئا ، فعليه الدليل.

ومن وجب عليه جزاء صيد أصابه ، وهو محرم ، فإن كان حاجّا ، أو معتمرا عمرة متمتعا بها إلى الحج ، نحر ، أو ذبح ما وجب عليه ، بمنى ، وإن كان معتمرا ، عمرة مبتولة ، نحر بمكة ، أو ذبح قبالة الكعبة ، فإن أراد أن ينحر ، أو يذبح بمنى ، نحر أي مكان شاء منها ، وكذلك بمكة ، ينحر حيث شاء ، غير أنّ الأفضل ، أن ينحر قبالة الكعبة ، في الموضع المعروف بالحزورة.

ومن قتل صيدا وهو محرم ، في غير الحرم ، كان عليه ، فداء واحد ، فإن أكله ، كان عليه فداء آخر ، على ما روي (1) وقال بعض أصحابنا : عليه قيمة ما أكل ، أو شرب من اللبن.

والمحل إذا قتل صيدا في الحرم ، كان عليه فداؤه ، وإذا جمع بينهما تضاعف.

وإذا كسر المحرم قرني الغزال ، كان عليه نصف قيمته ، فإن كسر أحدهما ، كان عليه ربع القيمة ، فإن فقأ عينيه ، كان عليه القيمة ، فإن فقأ واحدة منهما ،

ص: 564


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 55 من أبواب كفارات الصيد ، ح 2.

كان عليه نصف القيمة ، فإن كسر إحدى يديه ، كان عليه نصف قيمته ، فإن كسرهما جميعا كان عليه قيمته ، فإن كسر إحدى رجليه ، كان عليه نصف قيمته ، فإن كسرهما جميعا ، كان عليه قيمته ، فإن قتله ، لم يكن عليه أكثر من قيمة واحدة.

وإذا أصاب المحرم بيض القطا ، أو القبج ، أو الدراج ، فعليه أن يعتبر حال البيض ، فإن كان قد تحرك فيه الفراخ ، كان عليه عن كلّ بيضة مخاض من الغنم ، نريد بالمخاض ، ما يصح أن يكون ماخضا ولا يريد به الحامل ، فان لم يكن تحرك فيه شي ء ، كان عليه أن يرسل فحولة الغنم في إناثها ، بعدد البيض ، فما نتج كان هديا لبيت اللّه تعالى ، فإن لم يقدر ، كان حكمه حكم بيض النعام ، عند تعذر الإرسال ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وقد وردت بذلك أخبار (2) ، ومعنى قوله : حكمه حكم بيض النعام ، انّ النعام إذا كسر بيضه ، فتعذّر الإرسال ، وجب في كل بيضة شاة ، والقطا إذا كسر بيضه ، وتعذر إرسال الغنم ، وجب في كلّ بيضة شاة ، فهذا وجه المشابهة بينهما ، فصار حكمه حكمه ، عند تعذر الإرسال ، ولا يمتنع ذلك ، إذا قام الدليل عليه.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته (3) ومن وطأ بيض نعام ، وهو محرم ، فكسره ، كان عليه أن يرسل فحولة الإبل على إناثها ، بعدد ما كسر من البيض ، فما نتج منها ، كان المنتوج ، هديا لبيت اللّه عزوجل ، فإن لم يقدر على ذلك ، كفر عن كل بيضة ، بإطعام ستين مسكينا ، فإن لم يجد الإطعام ، صام عن كل بيضة شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين ، صام ثمانية عشر يوما ، عوضا عن إطعام كلّ عشرة مساكين ، بصيام ثلاثة أيام ، فإن وطأ بيض القبح ، أو الدراج ، أرسل من فحولة الغنم على إناثها ، بعدد المكسور من البيض ،

ص: 565


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- الوسائل : كتاب الحج الباب 23 من أبواب كفارات الصيد.
3- المقنعة : كتاب الحج ، باب الكفارات ص 436 ، ولا يخفى عدم مطابقة المصدر مع ما نقله عنه.

فما نتج ، كان هديا لبيت اللّه عزوجل ، فإن لم يجد ، ذبح عن كلّ بيضة شاة ، فان لم يجد ، أطعم عن كل بيضة ، عشرة مساكين ، فإن لم يقدر على ذلك ، صام عن كل بيضة ثلاثة أيام.

وقال : ومن قتل زنبورا ، وهو محرم ، كفر عن ذلك بتمرة ، وكذلك إن قتل جرادة ، فإن قتل جرادا كثيرا ، كفر بمد من تمر ، وإن كان قليلا كفر بكف من تمر ، فشيخنا المفيد ، ما جعل بيض القبج ، والدراج ، والقطا ، إذا فقد الإرسال ، حكمه حكم بيض النعام ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : حكمه ، حكم بيض النعام (1) على ما حكيناه عنه ، وقدّمناه ، وحرّرناه ، وشرحناه ، وذلك إذا فقد الإرسال ، وقد بيّنا ما يلزم.

من كسر بيض الحمام ، وينبغي أن يعتبر حاله ، فإن كان قد تحرك فيه الفرخ ، لزمه عن كلّ بيضة حمل ، وقال بعض أصحابنا : شاة ، وإن لم يكن قد تحرك ، لم يكن عليه إلّا القيمة ، حسب ما قدّمناه.

ومن رمى صيدا فأصابه ولم يؤثر فيه ، ومشى مستويا ، لم يكن عليه شي ء ، فليستغفر اللّه (2) فإن لم يعلم هل أثر فيه أم لا ، ومضى على وجهه ، كان عليه الفداء ، فإن أثّر فيه ، بأن دماه ، وكسر يده ، أو رجله ، ثم رآه بعد ذلك ، وقد صلح ، كان عليه ربع الفداء ، وقال بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز لأحد أن يرمي الصيد ، والصيد يؤمّ الحرم ، وإن كان محلا ، فإن رماه أو أصابه ، ودخل الحرم ، ثم مات ، كان لحمه حراما ، وعليه الفداء (3) وهذا غير واضح ، والأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ الصيد الذي هو محرّم ، على المحرم وعلى المحل ، صيد الحرم ، دون سائر الأرض ، وهذا ليس بمحرّم ولا الصيد في الحرم ، فكيف يلزمه فداء ، وهو مخالف لما عليه الإجماع ، وانّما أورد

ص: 566


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- ج : واستغفر.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

هذا شيخنا إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما وجده في أخبار الآحاد.

ومن ربط صيدا بجنب الحرم ، فدخل الحرم ، صار لحمه وثمنه حراما ، ولا يجوز له إخراجه منه ، ولا التعرض به (1) وقد روي أنّ من أصاب صيدا ، وهو محلّ فيما بينه وبين الحرم ، على بريد ، كان عليه الجزاء (2) والأظهر خلاف هذا ، ولا يلتفت إلى هذه الرواية ، لأنّها من أضعف أخبار الآحاد ، وقد قدّمنا ما ينبّه على مثل هذا ، فلا وجه لإعادته.

والمحلّ إذا كان في الحرم ، فرمى صيدا في الحل ، كان عليه الفداء ، ومن أصاب جرادة فعليه أن يتصدّق بتمرة ، فإن أصاب جرادا كثيرا أو أكله كان عليه دم شاة.

ومن قتل جرادا ، على وجه لا يمكنه التحرّز منه ، بأن يكون في طريقه ، ويكون كثيرا ، لم يكن عليه شي ء.

وكل صيد يكون في البحر ، فلا بأس بأكله طريه ومملوحة ، وقال بعض أصحابنا : ومالحه ، وهذا لا يجوز في لغة العرب.

وكل صيد يكون في البر والبحر معا ، فإن كان مما يبيض ويفرّخ في البحر ، فلا بأس بأكله ، وإن كان مما يبيض ويفرّخ في البر ، لم يجز صيده ولا أكله.

وإذا أمر السيد غلامه الذي ، هو مملوكه ، بالصيد كان على السيد الفداء ، وإن كان الغلام محلا.

ولا بأس أن يقتل الإنسان جميع ما يخافه في الحرم ، وإن كان محرما ، مثل السباع ، والهوام ، والحيات ، والعقارب ، وقد روي أنّ من قتل أسدا لم يرده ، كان عليه كبش (3) والصحيح أنّه لا شي ء عليه.

ولا يجوز للمحرم أن يقتل البق ، والبراغيث ، وما أشبهها في الحرم ، فإن

ص: 567


1- ج : له.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 32 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 2.
3- مستدرك الوسائل : ج 2 كتاب الحج ، الباب 28 من أبواب الكفارات ، ح 1. والباب 39 كتاب الحج من أبواب كفارات الوسائل ح 1.

كان محلا لم يكن به بأس.

وكل ما يجوز للمحل ذبحه أو نحره في الحرم ، كان أيضا ذلك للمحرم جائزا مثل الإبل ، والبقر ، والغنم ، والدجاج الحبشي.

وكل ما يدخله المحرم الحرم ، أسيرا من السباع ، أو اشتراه فيه ، فلا بأس بإخراجه ، مثل السباع ، والفهود ، وما أشبهها.

وإذا اضطر المحرم إلى أكل الميتة ، والصيد ، اختلف أصحابنا في ذلك ، واختلفت الأخبار أيضا ، فبعض قال : يأكل الميتة ، وبعض قال : يأكل الصيد ، ويفديه ، وكل منهما أطلق مقالته ، وبعض قال : لا يخلو الصيد ، إمّا أن يكون حيا ، أو لا ، فإن كان حيا ، فلا يجوز له ذبحه ، بل يأكل الميتة ، لأنّه إذا ذبحه ، صار ميتة بغير خلاف. فأمّا إن كان مذبوحا فلا يخلو ذابحه ، إمّا أن يكون محرما أو محلا ، فإن كان محرما ، فلا فرق بينه وبين الميتة. وإن كان ذابحه محلا ، فإن ذبحه في الحرم ، فهو ميتة أيضا ، وإن ذبحه في الحل ، فإن كان المحرم المضطر قادرا على الفداء ، أكل الصيد ، ولم يأكل الميتة ، وإن كان غير قادر على فدائه ، أكل الميتة ، وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأدلة تعضده ، وأصول المذهب تؤيده ، وهو الذي اختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره (1) وذكر في نهايته أنّه يأكل الصيد ، ويفديه ، ولا يأكل الميتة ، فإن لم يتمكن من الفداء ، جاز له أن يأكل الميتة (2).

قال محمّد بن إدريس : والأقوى عندي ، أنّه يأكل الميتة على كل حال ، لأنّه مضطر إليها ، ولا عليه في أكلها كفارة ، ولحم الصيد ممنوع منه لأجل الإحرام على كل حال ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة.

ص: 568


1- الإستبصار : كتاب الحج ، باب من اضطر إلى أكل الميتة والصيد ، باب 135.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

وإذا ذبح المحرم صيدا في غير الحرم ، أو ذبحه محل في الحرم ، لم يجز أكله ، وكان حكمه حكم الميتة سواء.

وكل ما أتلفه المحرم ، من عين حرم عليه إتلافها ، فعليه مع تكرار الإتلاف ، تكرار الفدية ، سواء كان ذلك في مجلس واحد ، أو في مجالس ، كالصيد الذي يتلفه من جنس واحد ، أو أجناس مختلفة ، وسواء كان قد فدى العين الأولى ، أو لم يفدها ، عامدا كان ، أو ناسيا ، وهذا حكم الجماع بعينه ، إلا في النسيان ، وأمّا ما لا نفس له كالشعر ، والظفر ، فحكم مجتمعة ، بخلاف حكم متفرقة ، في قص أظفار اليدين والرجلين مجتمعة ، ومتفرقة ، فأمّا إذا اختلف النوع ، كالطيب واللبس ، فالكفارة واجبة عن كل نوع منه ، وإن كان المجلس واحدا. وهذه جملة كافية في هذا الباب ، مثال الأول : الصيد ، فعلى أيّ وجه فعله ، دفعة أو دفعتين ، أو دفعة بعد دفعة ، في وقت أو وقتين ، فعن كل صيد جزاء ، بلا خلاف ، وكذلك حكم الجماع ، إلا في النسيان ، ومثال الثاني : حلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، فإن حلق دفعة واحدة ، فعليه فدية واحدة ، وإن فعل ذلك في أوقات ، حلق بعضه بالغداة ، وبعضه الظهر ، وبعضه العصر ، فعليه لكلّ فعل كفارة ، وكذلك حكم اللباس والطيب.

باب دخول مكة والطواف بالبيت

يستحب للمحرم إذا أراد دخول الحرم أن يكون على غسل ، إن تمكن من ذلك ، فإن لم يتمكن جاز له أن يؤخّر الغسل إلى بعد الدخول ، ثمّ يغتسل ، إمّا من بئر ميمون بن الحضرمي ( وهي بأبطح مكة ، وكان حفرها في الجاهليّة ، وأخوه العلاء بن الحضرمي ، واسم الحضرمي ، عبد اللّه بن ضماد ، من حضر موت وكان حليفا لبني أميّة ) ، أو من فخ ، وهي على رأس فرسخ من مكة ، إذا كان قادما من طريق المدينة ، على ما قدّمناه ، فإن لم يتمكن اغتسل في مكة ، بالموضع الذي ينزل فيه.

ص: 569

ويستحب أيضا لمن أراد دخول الحرم ، أن يمضغ شيئا من الإذخر ، مكسور الأول ، ليطيب به فمه.

وإذا أراد دخول مكة ، فليدخلها من أعلاها ، إن كان جائيا من طريق المدينة ، وإذا أراد الخروج منها ، خرج من أسلفها.

ويستحب أن لا يدخل مكة إلّا على غسل أيضا ، ويستحب له أن يخلع نعليه ، ويمشي حافيا على سكينة ووقار.

وإذا أراد دخول المسجد الحرام اغتسل أيضا استحبابا ، ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة ، وقد روي أنّ هبل الصنم ، مدفون تحت عتبة باب بني شيبة ، فسن الدخول منها ، ليطأ ويدخله حافيا استحبابا ، على سكينة ووقار.

فإذا أراد الطواف بالبيت ، فليفتتحه من الحجر الأسود ، فإذا دنا ، منه رفع يديه ، وحمد اللّه ، وأثنى عليه ، وصلّى على النبي ، صلى اللّه عليه وآله.

ويستحب له أن يستلم الحجر ، ويقبّله ، وحقيقة استلام الحجر ، وتقبيله ، فهي ما قال السيد المرتضى ، استلام الحجر هو غير مهموز ، لأنّه افتعال من السّلام ، التي هي الحجارة ، واستلامه انّما هو مباشرته ، وتقبيله ، والتمسح به ، وحكى ثعلب وحده في هذه اللفظة ، الهمزة ، وجعله وجها ثانيا لترك (1) الهمزة ، وفسّره بأنّه اتخذه جنّة وسلاحا ، من اللأمة ، وهو الدرع ، وما هذا الوجه الذي حكاه ثعلب ، في هذه اللفظة إلا مليح ، إذا كان مسموعا. فأمّا الغرض في استلام الحجر ، فهو أداء العبادة ، وامتثال أمر الرسول صلى اللّه عليه وآله ، والتأسّي بفعله ، لأنّه أمر عليه السلام باستلام الحجر ، والعلّة في هذه العبادة ، على سبيل الجملة ، هي مصلحة للمكلّفين ، وتقريبهم من الواجب ، وترك القبيح ، وان كنّا لا نعلم (2) الوجه على سبيل التفصيل ، فإن لم يستطع أن

ص: 570


1- ج : وان كان لا يعلم.
2- ط ، ج : لثبوت.

يستلم الحجر ، ويقبله ، استلمه بيده ، فإن لم يقدر على ذلك أيضا ، أشار بيده إليه ، وقال : « أمانتي أديتها ، وميثاقي تعاهدته ، لتشهد لي بالموافاة ، اللّهم تصديقا بكتابك » إلى آخر الدعاء.

ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط ، ويستحب أن يقول في طوافه : « اللّهم إنّي أسألك باسمك الذي يمشى به على ظلل الماء ، كما يمشى به على جدد الأرض » وكلّما انتهيت إلى باب الكعبة ، صلّيت على النبي صلى اللّه عليه وآله ، ودعوت ، فإذا انتهيت إلى مؤخر الكعبة ، وهو المستجار ، دون الركن اليماني بقليل ، في الشوط السابع ، بسطت يديك على البيت ، وألصقت خدّك ، وبطنك ، بالبيت ، وقلت : « اللّهم البيت بيتك ، والعبد عبدك » إلى آخر الدعاء المذكور ، في كتب المناسك والعبادات ، فإن لم يقدر على ذلك ، لم يكن عليه شي ء ، لأنّ ذلك مندوب.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : بسطت يديك على الأرض ، وألصقت خدّك وبطنك بالبيت (1) وانّما ورد بهذا اللفظ حديث ، فأورده على جهته ، وورد حديث آخر بما اخترناه ، أورده رحمه اللّه في تهذيب الأحكام وهو معاوية بن عمار ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا فرغت من طوافك ، وبلغت مؤخر الكعبة ، وهو بحذاء المستجار ، دون الركن اليماني بقليل ، فابسط يديك على البيت ، وألصق بطنك وخدّك بالبيت ، وقل : « اللّهم البيت بيتك ، والعبد عبدك ، وهذا مقام العائذ بك من النار » ثمّ أقر لربك بما عملت ، فإنّه ليس من عبد مؤمن ، يقر لربه بذنوبه ، في هذا المكان ، إلّا غفر اللّه له ، إن شاء اللّه (2). فلو أورد شيخنا رحمه اللّه في نهايته ، هذا الحديث ، مكان ذلك الحديث ، كان حسنا (3) ، لأنّ في ذلك اشتباها.

ص: 571


1- النهاية : كتاب الحج ، باب دخول مكة والطواف بالبيت.
2- التهذيب : كتاب الحج ، باب الطواف ، ح 21.
3- ج : كان أجود.

ويجب عليه أن يختم الطواف بالحجر الأسود كما بدأ به.

ويستحب له أن يستلم الأركان كلّها ، وأشدها تأكيدا ، الركن الذي فيه الحجر ، ثم الركن اليماني.

وينبغي أن يكون الطواف بالبيت ، فيما بين مقام إبراهيم عليه السلام ، والبيت ، يخرج المقام في طوافه ، ويدخل الحجر في طوافه ، ويجعل الكعبة على شماله ، فمتى أخلّ بهذه الكيفية ، أو بشي ء منها ، بطل طوافه.

ويستحب أن يكون الطواف على سكون ، لا سرع فيه ولا ابطأ (1).

ومن طاف بالبيت ستة أشواط ناسيا ، وانصرف ، فليضف إليها شوطا آخر ، ولا شي ء عليه ، فإن لم يذكر حتى يرجع إلى أهله ، أمر من يطوف عنه الشوط الباقي ، فإن ذكر أنّه طاف أقل من سبعة ، وذكر في حال السعي ، رجع ، فتمم ، إن كان طوافه أربعة أشواط ، فصاعدا ، وإن كان أقل منه استأنف الطواف ، ثم عاد إلى السعي ، فتمّمه.

ومن شك في طوافه ، وكان شكه فيما دون السبعة ، وهو في حال الطواف ، قبل انصرافه منه ، فإن كان طواف فريضة ، وجب عليه الإعادة ، وإن كان نافلة ، بنى على الأقل ، وإن كان شكه بعد الانصراف من حاله ، لم يلتفت إليه ، ومضى على طوافه.

ومن طاف ثمانية أشواط ، متعمدا ، وجبت عليه الإعادة.

ومن طاف على غير طهارة ، ناسيا أو متعمدا ، وجبت عليه الإعادة.

ومن ذكر في الشوط الثامن ، قبل أن يتمّمه ، ويبلغ الركن ، أنّه طاف سبعا ، قطع الطواف ، وإن لم يذكر ، حتى يجوزه فلا شي ء عليه ، وكان طوافه صحيحا.

ومن شك ، فلم يعلم سبعة طاف ، أم ثمانية ، قطع الطواف ، وصلّى الركعتين ، وليس عليه شي ء.

ولا يجوز أن يقرن بين طوافين ، في فريضة ، ولا بأس بذلك ، في النوافل ، وذلك على جهة تغليظ الكراهة ، في الفرائض ، دون الحظر ، وفساد الطواف ،

ص: 572


1- ج : لا سرعة فيه ولا بطء.

وإن كان قد ورد : لا يجوز القران بين طوافين في الفريضة (1) فإنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة ، قيل لا يجوز ، ويعرف ذلك بقرائن ، وشاهد حال.

ومن أحدث في طواف الفريضة ، ما ينقض طهارته ، وقد طاف بعضه ، فإن كان قد جاز النصف ، فليتطهر ، ويتمم ما بقي ، وإن كان حدثه قبل أن يبلغ النصف ، فعليه اعادة الطواف من أوله.

ومن قطع طوافه بدخول البيت ، أو بالسّعي في حاجة له ، أو لغيره ، فإن كان قد جاز النصف ، بنى عليه ، وإن لم يكن جاز النصف ، وكان طواف الفريضة ، أعاد الطواف ، وإن كان طواف نافلة ، بنى عليه ، على كلّ حال.

كان قد جاز النصف ، بنى عليه ، وإن لم يكن جاز النصف ، وكان طواف الفريضة ، أعاد الطواف ، وإن كان طواف نافلة ، بنى عليه ، على كل حال.

ومن كان في الطواف ، فتضيّق عليه وقت الصلاة المكتوبة ، فالواجب عليه قطعه ، والإتيان بالمكتوبة ، ثم يتمم الطّواف ، من حيث انتهى اليه ، فإن لم يتضيّق الوقت ، بل دخل عليه ، وهو في الطّواف ، فالمستحبّ له ، الإتيان بالصلاة ، ثم يتمم الطّواف ، وإن تمم الطواف ، ثمّ صلّى ، فلا بأس.

والمريض الذي يستمسك الطّهارة ، فإنّه يطاف به ، ولا يطاف عنه ، وإن كان مرضه مما لا يمكنه معه (2) استمساك الطهارة ، ينتظر به ، فان صلح ، طاف هو بنفسه ، وإن لم يصلح ، طيف عنه ، ويصلّي هو الركعتين ، وقد أجزأه.

ومن طاف بالبيت أربعة أشواط ، ثم مرض ، ينتظر به يوم ، أو يومان ، فإن صلح ، تمم طوافه ، وإن لم يصلح ، أمر من يطوف عنه ، ما بقي عليه ، ويصلّي هو الركعتين ، وإن كان طوافه أقل من ذلك وبرأ ، أعاد الطواف من أوله ، وإن لم يبرأ ، أمر من يطوف عنه أسبوعا.

ص: 573


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 36 من أبواب الطواف.
2- ج : لا يمكنه مع.

ومن حمل غيره ، فطاف به ، ونوى لنفسه أيضا الطواف ، كان ذلك مجزئا عنه.

ولا يجوز للرجل أن يطوف بالبيت ، وهو غير مختون ، على ما روى أصحابنا في الأخبار (1) ولا بأس بذلك للنساء.

ولا يجوز للإنسان أن يطوف ، وفي ثوبه شي ء من النجاسة ، ولا على بدنه ، سواء كانت النجاسة قليلة ، أو كثيرة ، دما ، أو غيره ، وسواء كان الدم دون الدرهم ، أو درهما فصاعدا ، لأنّ العموم ، يجب العمل به ، حتى يقوم دليل الخصوص ، ولا مخصّص هاهنا ، وحمل هذا الموضع ، على الصلاة قياس ، ونحن لا نقول به ، فإن لم يعلم بالنجاسة ، ورآها في حال الطواف ، رجع فغسل ثوبه ، إن كانت عليه ، أو بدنه ، إن كانت فيه ، ثم عاد فتمم طوافه ، فإن علم بعد فراغه من الطواف ، كان طوافه جائزا ، ويصلّي في ثوب طاهر.

ومن نسي طواف الزيارة ، الذي هو طواف الحجّ ، لأنّ أصحابنا يسمون طواف الحجّ ، طواف الزيارة ، حتى رجع (2) إلى أهله ، ووطأ النساء ، وجبت عليه بدنة ، على ما روي (3) ، والأظهر أنّه لا شي ء عليه من الكفارة ، لأنّه في حكم الناسي ، بل الواجب عليه ، الرجوع إلى مكة ، وقضاء طواف الزيارة ، مع تمكنه من الرجوع ، فإن لم يتمكن ، فليستنب من يطوف عنه ، وإن كان طواف النساء هو المنسيّ ، وذكر بعد رجوعه إلى أهله ، جاز له أن يستنيب غيره فيه ، مع التمكن ، والاختيار ، فإن أدركه الموت ، قضي عنه.

ومن طاف بالبيت ، جاز له أن يؤخر السعي ، إلى بعد ساعة ، ولا يجوز له أن يؤخر ذلك ، إلى غد يومه.

ولا يجوز أن يقدّم السعي على الطواف ، فإن قدّم سعيه على الطواف ، كان

ص: 574


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 39 من أبواب الطواف.
2- ج : يرجع.
3- الوسائل : كتاب الحج الباب 58 من أبواب الطواف ، ح 1.

عليه أن يطوف ، ثم يسعى بين الصفا والمروة ، فإن طاف بالبيت أشواطا ، ثم قطعه ناسيا ، وسعى بين الصفا والمروة ، كان عليه أن يتمم طوافه ، وليس عليه استئنافه ، فإن ذكر أنّه لم يكن أتم طوافه ، وقد سعى بعض السعي ، قطع السعي ، وعاد ، فتمم طوافه ، ثم تمم السعي.

والمتمتع إذا أهلّ بالحج ، لا يجوز له أن يطوف ويسعى ، إلا بعد أن يأتي منى ، ويقف بالموقفين ، وقد روي أنّه إذا كان شيخنا كبيرا ، لا يقدر على الرجوع إلى مكة ، أو مريضا ، أو امرأة تخاف الحيض ، فيحول (1) بينها وبين الطواف ، فإنّه لا بأس بهم ، أن يقدّموا طواف الحج والسعي ، والأظهر ترك العمل بهذه الرواية ، فإنّ شيخنا أبا جعفر أوردها في نهايته (2) إيرادا ، ورجع عنها في مسائل خلافه ، فقال : روى أصحابنا ، رخصة في تقديم الطواف والسعي ، قبل الخروج إلى منى وعرفات (3).

وأمّا المفرد والقارن ، فحكمهما حكم المتمتع ، في أنهما لا يجوز لهما تقديم الطواف ، قبل الوقوف بالموقفين ، على الصحيح من الأقوال ، لأنّه لا خلاف فيه ، وقد روي (4) أنّه لا بأس بهما ، أن يقدما الطواف قبل أن يأتيا عرفات ، وأمّا طواف النساء فإنّه لا يجوز إلا بعد الرجوع من منى ، مع الاختيار ، فإن كان هناك ضرورة تمنعه من الرجوع إلى مكة ، أو امرأة تخاف الحيض ، جاز لهما تقديم طواف النساء ، ثم يأتيان الموقفين ومنى ، ويقضيان مناسكهما ، ويذهبان حيث شاءا ، على ما روي في بعض الأخبار (5) ، والصحيح خلاف ذلك ، لأنّ الحج مرتب بعضه على بعض ، لا يجوز تقديم المؤخر ، ولا تأخير المقدّم.

ص: 575


1- ج : ان يحوّل.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب دخول مكة والطواف بالبيت.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 175.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 14 من أبواب أقسام الحج.
5- الوسائل : كتاب الحج ، باب 64 من أبواب الطواف.

ولا يجوز تقديم طواف النساء على السعي ، فمن قدمه عليه ، كان عليه إعادته ، وإن قدمه ناسيا ، أو ساهيا ، لم يكن عليه شي ء ، وقد أجزأه ، ولا بأس أن يعوّل الإنسان على صاحبه ، في تعداد الطواف ، وإن تولى ذلك بنفسه ، كان أفضل ، ومتى شكا جميعا في عدد الطواف ، استأنفا من أوّله ، وقد روي أنه لا يجوز للرجل أن يطوف ، وعليه برطلة (1) ، وذلك محمول على الكراهة ، إن كان ذلك في طواف الحج ، لأنّ له أن يغطي رأسه في هذا الطواف ، فأمّا طواف العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فلا يجوز له تغطية رأسه.

ويستحب للإنسان أن يطوف بالبيت ، ثلاثمائة وستين أسبوعا ، فإن لم يتمكن من ذلك طاف ثلاثمائة وستين شوطا فان لم يتمكن طاف ما تيسر منه.

وقد روي ، أنّه من نذر أن يطوف على أربع ، كان عليه أن يطوف طوافين ، أسبوع ليديه ، وأسبوع لرجليه (2) والأولى عندي ان نذره لا ينعقد ، لأنّه غير مشروع ، وإذا لم يكن مشروعا ، فلا ينعقد ، وانعقاده يحتاج إلى دليل شرعي ، لأنّه حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، لأنّ الرسول عليه السلام ، قال (3) : كل شي ء لا يكون على أمرنا ، فهو ردّ (4) ، وهذا خلاف سنّة الرسول عليه السلام.

فإذا فرغ الإنسان من طوافه ، أتى مقام إبراهيم ، بفتح الميم ، ومن الاستيطان بضمّ الميم ، ويصلّي فيه ركعتين ، يقرأ في كل ركعة منهما الحمد ، وسورة ممّا تيسّر له من القرآن ، ما عدا سورة العزائم.

وركعتا طواف الفريضة ، فريضة ، مثل الطواف ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وقد ذهب شاذ منهم إلى أنهما مسنونان ، والأظهر الأول ، ويعضده قوله

ص: 576


1- الوسائل : كتاب الحج ، باب 67 من أبواب الطواف.
2- الوسائل : كتاب الحج ، باب 70 من أبواب الطواف.
3- صحيح البخاري : ج 3 ، ص 91 باب 60 ، ح 1 ، مع اختلاف يسير.
4- ط. فهو مردود.

تعالى : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) (1) والأمر في عرف الشرع ، يقتضي الوجوب ، عندنا ، بغير خلاف بيننا ، وموضع المقام حيث هو الساعة ، وهي سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

فمن نسي هاتين الركعتين ، أو صلاهما في غير المقام ، ثمّ ذكرهما ، فليعد إلى المقام ، فليصلّ فيه ، ولا يجوز له أن يصلّي في غيره ، فإن خرج من مكة ، وكان قد نسي ركعتي الطواف ، وأمكنه الرجوع إليها ، رجع ، وصلّى عند المقام ، وإن لم يمكنه الرجوع ، صلّى حيث ذكر ، وليس عليه شي ء ، وإذا كان في موضع المقام ، زحام ، فلا بأس أن يصلّي خلفه ، فإن لم يتمكن من الصلاة هناك ، فلا بأس أن يصلّي حياله.

ووقت ركعتي الطواف ، إذا فرغ منه ، أي وقت كان ، من ليل أو نهار ، سواء كان ذلك ، في الأوقات المكروهة لابتداء النوافل فيها ، أو في غيرها.

ومن نسي ركعتي الطواف ، فأدركه الموت ، قبل أن يقضيهما ، كان على وليّه القضاء عنه.

ومن دخل مكة ، يدخلها على أربعة أقسام : أحدها : يدخلها لحج ، أو عمرة ، فلا يجوز أن يدخلها إلا بإحرام ، بلا خلاف.

والثاني : يدخلها لقتال ، عند الحاجة الداعية إليه ، جاز أن يدخلها محلا ، كما دخل النبي صلى اللّه عليه وآله عام الفتح ، وعليه المغفر ، على رأسه ، بلا خلاف.

الثالث : لحاجة لا تتكرر ، مثل تجارة ، وما جرى مجراها ، فلا يجوز عندنا أن يدخلها إلا بإحرام ، إذا كان قد مضى شهر ، من وقت خروجه منها ، فإن كان أقل من شهر ، فإنّه يجوز أن يدخلها بغير إحرام.

الرابع : يدخلها لحاجة تتكرر ، مثل الرعاة ، والحطابة ، وغيرهما ، جاز لهم ، أن يدخلوها عندنا بغير إحرام.

ص: 577


1- البقرة : 125.

باب السعي وأحكامه

السعي بين الصفا والمروة ، ركن من أركان الحجّ ، فمن تركه (1) ، فلا حجّ له ، والأفضل ، إذا فرغ من الطواف ، أن يخرج إلى السعي ، ولا يؤخره.

ولا يجوز تقديم السعي على الطواف ، فإن قدّمه لم يجزه ، وكان عليه الإعادة ، فإذا أراد الخروج إلى الصفا ، استحب له ، استلام الحجر الأسود ، بجميع بدنه ، وأن يأتي زمزم ، فيشرب من مائها ، ويصب على بدنه ، دلوا منه ، ويكون ذلك من الدلو الذي بحذاء الحجر ، وليخرج من الباب المقابل للحجر الأسود ، حتى يقطع الوادي ، فإذا صعد الى الصفا ، نظر إلى البيت ، واستقبل الركن الذي فيه الحجر ، وحمد اللّه ، وأثنى عليه ، وذكر من آلائه ، وبلائه ، وحسن ما صنع به ، ما قدّر عليه ، ويستحب له أن يطيل الوقوف على الصفا ، فإن لم يمكنه ، وقف بحسب ما تيسّر له ، ودعا بما تيسر له ، من الأدعية ، فإنّها كثيرة ، مذكورة مورودة ، في كتب المناسك ، والأدعية ، والعبادات ، لم نوردها هاهنا ، مخافة التطويل ، والصعود على الصفا ، غير واجب ، بل الواجب ، السعي بن الصفا والمروة ، وكذلك صعود المروة ، غير واجب ، ثم ينحدر إلى المروة ، ماشيا ، أو راكبا ، والمشي أفضل ، فإذا انتهى إلى الموضع الذي يرمل فيه ، أي يهرول فيه ، والرمل الإسراع ، وهو أن يملأ فروجه ، استحب له السعي فيه ، والسعي هو الإسراع الذي ذكرناه ، فإذا انتهى إلى آخره ، كفّ عن السعي ، ومشى مشيا ، فإذا جاء من عند المروة ، مشى مشيا ، فإذا وصل إلى موضع السعي ، سعى فيه ، فإذا قطعه ، كفّ عن السعي ، ومشى مشيا ، والسعي هو أن يسرع الإنسان في مشيه ، إن كان ماشيا ، وإن كان راكبا ، حرّك دابته ، في الموضع الذي ذكرناه ، وذلك على الرجال ، دون النساء.

ص: 578


1- في ط وج : تركه متعمدا.

وقطع مسافة ما بين الصفا والمروة ، فريضة ، وركن ، على ما قدّمناه ، فمن تركه متعمدا ، فلا حج له ، ومن تركه ناسيا ، كان عليه إعادة السعي ، لا غير ، فإن خرج من مكة ، ثم ذكر أنّه لم يكن قد سعى ، وجب عليه الرجوع ، وقطع ما بين الصفا والمروة ، فان لم يتمكن من الرجوع ، جاز له أن يأمر من يسعى عنه ، وإن ترك الرمل ، بفتح الراء والميم ، وقد فسّرناه ، لم يكن عليه شي ء.

ويجب البدأة بالصفا ، قبل المروة ، والختم بالمروة ، فمن بدأ بالمروة قبل الصفا ، وجب عليه إعادة السعي.

والسعي المفروض ما بين الصفا والمروة ، سبع مرّات ، فمن سعى أكثر منه متعمدا ، فلا سعي له ، ووجب عليه إعادته ، فإن فعل ذلك ناسيا ، أو ساهيا ، طرح الزيادة ، واعتد بالسبعة.

وليس من شرطه الطهارة ، كما كان ذلك من شرط الطواف.

ومتى سعى ثماني مرات ، ويكون قد بدأ بالصفا ، فإن شاء أن يضيف إليها شيئا (1) فعل ، وإن شاء أن يقطع ، قطع ، وإن سعى ثماني مرات ، وهو عند المروة ، أعاد السعي ، لأنّه بدأ من المروة ، وكان يجب عليه البدأة بالصفا ، يعني بالمرات ، الأشواط ، دون الوقفات ، لأنّه لو أريد بذلك الوقفات ، كان سعيه صحيحا ، لأنّ آخر وقفة ، وهي الثامنة تكون على المروة ، وذلك صحيح ، وهو الواجب ، فيحصل له أربع وقفات على الصفا ، وأربع على المروة ، بينهما سبعة أشواط ، وانّما المراد بذلك ، الأشواط ، فيكون في الشوط الثامن ، على المروة ، فيكون قد بدأ بها ، وذلك لا يجوز ، فلأجل ذلك ، وجب عليه إعادة السعي.

ومن سعى تسع مرات ، وكان عند المروة في التاسعة ، فليس عليه إعادة السعي ، لأنّه بدأ بالصفا ، وختم بالمروة ، كما أمر اللّه تعالى ، والمرات هاهنا ، على ما قدّمناه.

ص: 579


1- ج : ستّا.

ومتى سعى الإنسان أقل من سبع مرات ، ناسيا ، وانصرف ، ثم ذكر أنّه نقص منه شيئا ، رجع ، فتمّم ما نقص ، منه ، فإن لم يعلم كم نقص منه ، وجب عليه إعادة السعي.

وإن كان قد واقع أهله قبل إتمامه السعي ، وجب عليه دم بقرة ، وكذلك إن قصّر أو قلّم أظفاره ، كان عليه دم بقرة ، وإتمام ما نقص (1) ، إذا فعل ذلك عامدا.

ولا بأس أن يجلس الإنسان بين الصفا والمروة ، في حال السعي للاستراحة ، ولا بأس أن يقطع السعي ، لقضاء حاجة له ، أو لبعض إخوانه ، ثمّ يعود ، فيتمم ما قطع عليه.

ومن نسي الهرولة في حال السعي ، حتّى يجوز موضعه ، ثمّ ذكر ، فليرجع القهقرى ، إلى المكان الذي يهرول فيه ، استحبابا.

ومتى فرغ من سعي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهو هذا السعي ، قصّر ، فإذا قصّر ، أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، من النساء ، والطيب ، وغير ذلك ، ممّا حرم عليه ، لأجل الإحرام ، لأنّه ليس في العمرة المتمتع بها ، طواف النساء ، وأدنى التقصير ، أن يقصّ أظفاره ، أو شيئا من شعره ، وإن كان يسيرا ، ولا يجوز له أن يحلق رأسه كلّه ، فإن فعله ، كان عليه دم شاة ، فإذا كان يوم النحر ، أمرّ الموسى على رأسه وجوبا ، حين يريد أن يحلق ، هذا إذا كان حلقه متعمدا ، فإن كان حلقه ناسيا ، لم يكن عليه شي ء ، فإذا حلق بعض رأسه لا كلّه ، فقد قصّر أيضا على ما ذكره ، شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (2) وفي نهايته (3) ما منع إلا من حلق رأسه كله.

فإن نسي التقصير ، حتى يهل بالحج ، فلا شي ء عليه ، وقد روي أنّ عليه دم شاة ، وقد تمت متعته (4) فإن تركه متعمدا ، فقد بطلت متعته ، وصارت حجته

ص: 580


1- في ط : ما نقص من السعي.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في السعي وأحكامه.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب السعي بين الصفا والمروة.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب التقصير ، ح 2.

مفردة ، على ما ذكره بعض أصحابنا المصنّفين ، وروي في الاخبار (1).

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب ، أنّه لا ينعقد إحرامه بحج ، لأنّه بعد في عمرته ، لم يتحلل منها ، وقد أجمعنا على أنّه لا يجوز إدخال الحجّ على العمرة ، ولا إدخال العمرة على الحجّ ، قبل فراغ مناسكهما.

والأصلع ، يمرّ الموسى على رأسه ، استحبابا ، لا وجوبا ، يوم النحر ، وعند التقصير ، يأخذ من شعر لحيته ، أو حاجبيه ، أو يقلم أظفاره.

وليس على النساء حلق ، وفرضهن التقصير ، في جميع المواضع.

ومن حلق رأسه في العمرة المتمتع بها ، يجب عليه حلقه يوم النحر ، فإن لم ينبت شعره ، أمرّ الموسى على رأسه.

ويستحب للمتمتع ، إذا فرغ من متعته ، وقصر أن لا يلبس المخيط ، ويتشبّه ، بضم الهاء ، بالمحرمين ، بعد إحلاله ، قبل الإحرام بالحج.

ومتى جامع قبل التقصير ، كان عليه بدنة ، إن كان موسرا ، وإن كان متوسطا ، فبقرة ، وإن كان فقيرا ، فشاة.

ولا ينبغي للمتمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج من مكة ، قبل أن يقضي مناسكه كلها ، إلا لضرورة ، فإذا اضطر إلى الخروج ، خرج إلى حيث لا يفوته الحج ، ويخرج محرما بالحج ، فإن أمكنه الرجوع إلى مكة ، وإلا مضى إلى عرفات.

فإن خرج بغير إحرام ، ثم عاد ، فإن كان عوده في الشهر الذي خرج فيه ، لم يضره أن يدخل مكة بغير إحرام ، وإن كان عوده إليها في غير ذلك الشهر ، دخلها محرما بالعمرة إلى الحج ، وتكون العمرة الأخيرة ، هي التي يتمتع بها إلى الحج.

ويجوز للمحرم المتمتع ، إذا دخل مكة ، أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، إذا علم ، أو غلب على ظنه ، أنّه يقدر على إنشاء الإحرام بالحج بعده ، والخروج إلى

ص: 581


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 54 من أبواب الإحرام ، ح 4 و 5.

عرفات ، والمشعر ، ولا يفوته شي ء من ذلك ، سواء كان ذلك ، ودخوله إلى مكة ، قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، يوم التروية ، أو ليلة عرفة ، أو يوم عرفة ، قبل زواله ، أو بعد زواله ، على الصحيح والأظهر ، من أقوال أصحابنا ، لأنّ وقت الوقوف بعرفة ، للمضطر ، إلى طلوع الفجر ، من يوم النحر.

وقال بعض أصحابنا : وهو اختيار شيخنا المفيد ، إذا زالت الشمس ، من يوم التروية ، ولم يكن أحلّ من عمرته ، فقد فاتته المتعة ، ولا يجوز له التحلل منها ، بل يبقى على إحرامه ، ويكون حجة مفردة.

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وقد دلّلنا على صحّته ، وإن كانت قد وردت بذلك القول أخبار آحاد (1) لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ، ولا عملا.

وإذا غلب على ظنّه ، أنّه يفوته ذلك ، أقام على إحرامه ، وجعلها حجّة مفردة ، أي وقت كان ذلك ، على ما قدّمناه ، والأفضل ، إذا كان عليه زمان ، أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، ويحل ، وينشئ الإحرام بالحج ، يوم التروية ، عند الزوال ، فإن لم يلحق مكة ، إلا ليلة عرفة ، أو يوم عرفة ، جاز أيضا أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، ثمّ ينشئ الإحرام ، للحج على ما قدّمناه.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : ينشئ الإحرام للحج ، ما بينه ، وبين الزوال ، من يوم عرفة ، فإذا زالت الشمس ، من يوم عرفة ، فقد فاتته العمرة ، وتكون حجة مفردة ، هذا إذا غلب على ظنّه ، أنّه يلحق بعرفات (2) ، على ما قلناه ، وإن غلب على ظنه ، أنّه لا يلحقها ، فلا يجوز له أن يحل ، بل يقيم على إحرامه ، على ما قلناه ، وهذا القول ، يقوله شيخنا أبو جعفر الطوسي أيضا في نهايته (3)

ص: 582


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب أقسام الحج ، ومن جملتها ح 14.
2- ج : عرفات.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب الإحرام للحج.

ومبسوطة (1) ، واستبصاره (2) ، والأول وهو ما اخترناه ، مذهبه ، وقوله في جمله وعقوده (3) وفي اقتصاده (4) ومبسوطة (5) في فصل ذكر الإحرام بالحج ، والقول الأول في فصل ، في السعي وأحكامه.

باب الإحرام بالحج

قد قلنا في الباب الأوّل ، أن الأفضل ، أن يحرم بالحجّ يوم التروية ، ويكون ذلك عند الزوال ، بعد أن يصلّي فريضة الظهر ، فإن لم يتمكن من ذلك (6) جاز أن يحرم بقية نهاره أي وقت (7) شاء ، بعد أن يعلم ، أو يغلب على ظنه ، أنّه يلحق عرفات في وقتها ، وقد بيّنا أن وقت عرفات ، ممتد إلى طلوع الفجر ، من يوم النحر ، على ما أسلفنا القول فيه ، وشرحناه.

وينبغي له أن يفعل عند هذا الإحرام ، جميع ما فعله عند الإحرام الأول ، من الغسل ، والتنظيف ، وإزالة الشعر عن جسده ، وأخذ شي ء من شاربه ، وتقليم أظفاره ، وغير ذلك ، ثم يلبس ثوبي إحرامه ، ويدخل المسجد حافيا ، عليه السكينة والوقار ، ويصلّي ركعتين عند المقام ، أو في الحجر ، فإن صلّى ست ركعات للإحرام ، كان أفضل ، وإن صلّى فريضة الظهر ، ثم أحرم في دبرها ، كان أفضل ، ويصلّي ركعات الإحرام قبل الفريضة ، ثم يصلّي الفريضة ، ويحرم في دبرها.

وأفضل المواضع التي يحرم منها ، المسجد الحرام ، وفي المسجد من عند المقام ، ومن أحرم من غير المسجد ، كان أيضا جائزا ، لأنّ ميقاته مكة جميعها ، لا يجوز

ص: 583


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في السعي وأحكامه.
2- الاستبصار : الباب 166 باب الوقت الذي يلحق الإنسان فيه المتعة.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج.
4- الاقتصاد : فصل في ذكر الإحرام بالحج ، ص 305.
5- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج.
6- ج : نهاره أو أي وقت.
7- ج ، ط : من ذلك في هذا الوقت.

له أن يحرم من غيرها ، فإن أحرم من غيرها ، وجب الرجوع إليها ، والإحرام منها ، ويحرم بالحجّ مفردا ، ويدعو بالدعاء ، كما كان يدعو عند الإحرام الأوّل ، إلا أنّه يذكر الحج مفردا ، لأنّ عمرته قد مضت ، فإن كان ماشيا ، جهر بالتلبية ، من موضعه الذي عقد الإحرام فيه ، وإن كان راكبا ، لبّى إذا نهض به بعيره ، فإذا انتهى إلى الردم ، وأشرف على الأبطح ، رفع صوته بالتلبية ، ثم ليخرج إلى منى ، ويكون على تلبيته إلى زوال الشمس ، من يوم عرفة ، فإذا زالت ، قطع التلبية.

ومن سها في حال الإحرام بالحج ، فأحرم بالعمرة ، عمل على أنّه أحرم بالحج ، وليس عليه شي ء.

وإذا أحرم بالحج ، لا ينبغي له أن يطوف بالبيت ، إلى أن يرجع من منى ، فإن سها ، فطاف بالبيت ، لم ينتقض إحرامه ، سواء جدّد التلبية ، أو لم يجدّدها ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : غير أنّه يعقده بتجديد التلبية (1).

قال محمّد بن إدريس : إحرامه منعقد ، لم ينتقض ، فلا حاجة به إلى انعقاد المنعقد.

ومن نسي الإحرام بالحج ، إلى أن يحصل بعرفات ، جدّد الإحرام بها ، وليس عليه شي ء ، فإن لم يذكر حتى يرجع إلى بلده ، فإن كان قد قضى مناسكه ، كلها ، لم يكن عليه شي ء ، على ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، في نهايته (2) وقال في مبسوطة : أمّا النية فهي ركن في الأنواع الثلاثة ، من تركها فلا حج له ، عامدا كان ، أو ناسيا ، إذا كان من أهل النية ثم قال بعد ذلك : وعلى هذا إذا فقد النية ، لكونه سكران (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الذي يقتضيه أصول المذهب ، ما ذهب إليه

ص: 584


1- النهاية : كتاب الحج ، باب الإحرام بالحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب الإحرام بالحج.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

باب الغدو إلى عرفات

يستحب للإمام ، أن لا يخرج من منى ، إلا بعد طلوع الشمس ، من يوم عرفة ، ومن عدا الإمام ، يجوز له الخروج ، بعد أن يصلّي الفجر ، ويوسع له أيضا إلى طلوع الشمس.

ويكره له أن يجوز وادي محسّر ، إلا بعد طلوع الشمس ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز له أن يجوز وادي محسّر ، إلا بعد طلوع الشمس ، وذلك على تغليظ الكراهة ، دون الحظر وقال أيضا : ومن اضطر إلى الخروج ، قبل طلوع الفجر ، جاز له أن يخرج ، ويصلّي في الطريق (1) ومع الاختيار ، دون الاضطرار ، يكون مكروها ، لا محظورا ، لأنّا قد بيّنا ، أنّ المبيت بها سنّة مندوب إليها ، دون فريضة ، واجبة ، محظور تركها.

فإذا توجّه إلى عرفات ، فليقل : « اللّهم إيّاك صمدت ، وإيّاك اعتمدت ، ووجهك أردت ، أسألك أن تبارك لي في رحلتي ، وأن تقضي لي حاجتي ، وأن تجعلني ممّن تباهي به اليوم ، من هو أفضل منّي ».

ويستحب أن يكون ، على تكرار تلبيته ، على ما ذكرناه إلى زوال الشمس ، فإذا زالت ، اغتسل ، وصلّى الظهر والعصر جميعا ، يجمع بينهما ، بأذان واحد وإقامتين ، لأجل البقعة ، ثم يقف بالموقف ، ويدعو لنفسه ، ولوالديه ، ولإخوانه المؤمنين ، والأدعية في ذلك كثيرة لا تحصى ، من أرادها ، رجع إليها في كتب المناسك والعبادات لم نوردها هاهنا خوف الإطالة.

ويستحب أن يضرب الإنسان ، خباءه بنمرة ، بفتح النون ، وكسر الميم ، وهي بطن عرنة بضم العين ، وفتح الراء ، والنون ، دون الموقف ، ودون الجبل ،

ص: 585


1- النهاية : كتاب الحج ، باب العدول إلى عرفات.

في مبسوطة ، لقوله تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (1). وقول الرسول صلى اللّه عليه وآله : الأعمال بالنيات (2) وانّما لامرئ ما نوى (3) وهذا الخبر مجمع عليه ، وبهذا افتي ، وعليه أعمل ، فلا نرجع عن الأدلة ، بأخبار الآحاد ، إن وجدت.

باب نزول منى

يستحب لمن أراد الخروج إلى منى ، أن لا يخرج من مكة ، حتى يصلّي الظهر ، يوم التروية بها ، ثم يخرج إلى منى ، إلا الإمام خاصّة ، فإن عليه أن يصلّي الظهر والعصر ، يوم التروية بمنى ، ويقيم بها ، إلى طلوع الشمس استحبابا ، لا إيجابا ، من يوم عرفة ، ثم يغدو إلى عرفات ، فإن اضطر الإنسان إلى الخروج ، بأن يكون عليلا ، يخاف أن لا يلحق ، أو يكون شيخا كبيرا ، أو يخاف الزحام ، جاز له أن يتعجّل ، قبل أن يصلّي الظهر.

فإذا توجّه إلى منى فليقل : « اللّهم إيّاك أرجو ، وإيّاك أدعو ، فبلّغني أملي ، وأصلح لي عملي ».

فإذا نزل منى ، فليقل : « اللّهم هذه منى ، وهي مما مننت به علينا من المناسك ، فأسألك أن تمن عليّ ، بما مننت به على أوليائك ، فإنّما أنا عبدك وفي قبضتك ».

ونزول منى عند التوجه إلى عرفات ، والمبيت بها ليلة عرفة ، مندوب غير واجب.

وحدّها من العقبة ، إلى وادي محسّر ، بكسر السين وتشديدها.

ص: 586


1- الليل : 19.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.
3- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.

اقتداء بالرسول عليه السلام ، لأنّه عليه السلام ضرب خباءه ، وقبته هناك ، ثمّ أتى الموقف.

وحدّ عرفة ، من بطن عرنة ، وثويّة ، بفتح الثاء ، وتشديد الياء ، ونمرة ، إلى ذي المجاز ، ولا يرتفع إلى الجبل ، إلا عند الضرورة إلى ذلك ، ويكون وقوفه على السهل ، ولا يترك خللا إن وجده ، إلا سده بنفسه ، ورحله.

ولا يجوز الوقوف تحت الأراك ، ولا في نمرة ، ولا ثوية ، ولا عرفة ، ولا ذي المجاز ، فانّ هذه المواضع ليست من عرفات ، فمن وقف بها ، فلا حج له ، ولا بأس بالنزول فيها ، غير أنّه إذا أراد الوقوف ، بعد الزوال ، جاء إلى الموقف ، فوقف هناك ، والوقوف بميسرة الجبل ، أفضل من غيره ، وليس ذلك بواجب ، بل الواجب الوقوف بسفح الجبل ، ولو قليلا بعد الزوال ، وأمّا الدعاء والصلاة في ذلك الموضع ، فمندوب غير واجب ، وانّما الواجب الوقوف ولو قليلا فحسب.

وقال شيخنا في مسائل خلافه (1) ومبسوطة : إنّ وقت الوقوف بعرفة ، من الزوال يوم عرفة ، إلى طلوع الفجر يوم العيد (2).

والصحيح أنّ وقتها ، من الزوال إلى غروب الشمس ، من يوم عرفة ، لأنّه لا خلاف في ذلك ، وما ذكره في الكتابين ، مذهب بعض المخالفين.

باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام

إذا غربت الشمس ، من يوم عرفة ، فليفض الحاج ، من عرفات إلى المزدلفة وإن أفاض بعد غروب الشمس ، لم يكن عليه إثم ، إذا أدرك المشعر الحرام في وقته ، ووقته من طلوع الفجر ، من يوم النحر ، إلى طلوع الشمس ، من ذلك اليوم ، وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ وقت المشعر ، ليلة العيد (3) وهو

ص: 587


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 156.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 166.

مذهب المخالفين ، والأول هو المذهب ، وهو اختياره في نهايته (1) ولا يجوز الإفاضة قبل غيبوبة الشمس ، فمن أفاض قبل مغيبها متعمدا ، كان عليه بدنة ، فإن عاد إليها قبل مغيبها ثم أفاض عند مغيبها لم يكن عليه كفارة.

والبدنة ، ينحرها يوم النحر ، بمنى ، فإن لم يقدر على البدنة ، صام ثمانية عشر يوما ، إمّا في الطريق ، أو إذا رجع إلى أهله.

وإن كانت الإفاضة قبل مغيب الشمس ، على طريق السهو ، أو يكون جاهلا ، بأن ذلك لا يجوز ، لم يكن عليه شي ء.

فإذا أراد أن يفيض ، فيستحب له أن يقول : « اللّهم لا تجعله آخر العهد من هذا الموقف ، وارزقنيه أبدا ما أبقيتني ، واقلبني اليوم ، مفلحا ، منجحا ، مستجابا لي ، مرحوما ، مغفورا ، بأفضل ما ينقلب به اليوم ، أحد من وفدك عليك وأعطني أفضل ما أعطيت أحدا منهم ، من الخير ، والبركة ، والرحمة ، والرضوان ، والمغفرة ، وبارك لي ، فيما أرجع إليه ، من مال ، أو أهل ، أو قليل ، أو كثير ، وبارك لهم في » واقتصد في السير ، وسر سيرا جميلا ، فإذا بلغت إلى الكثيب الأحمر ، عن يمين الطريق ، فقل : « اللّهم ارحم موقفي ، وزد في عملي ، وسلّم لي ديني ، وتقبل مناسكي ».

ويستحب أن لا يصلي المغرب والعشاء الآخرة ، إلا بالمزدلفة ، وإن ذهب من الليل ربعه ، أو ثلثه.

ويستحب له أن يجمع بين الصلاتين ، بالمزدلفة ليلة النحر ، بأذان واحد ، وإقامتين ، وحدّ الجمع ، أن لا يصلّي بينهما ، نوافل ، فإن فصل بين الفرضين بالنوافل ، لم يكن مأثوما ، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وحدّ المشعر الحرام ، ما بين المأزمين ، بكسر الزاء ، إلى الحياض ، وإلى وادي محسّر ، فلا ينبغي أن يقف الإنسان ، إلا فيما بين ذلك ، فإن ضاق عليه الموضع ،

ص: 588


1- النهاية : كتاب الحج ، باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام.

جاز له أن يرتفع إلى الجبل ، فإذا أصبح يوم النّحر ، صلّى فريضة الغداة ، ووقف للدعاء ، وليحمد اللّه تعالى ، وليثن عليه ، وليذكر من آلائه ، وحسن بلائه ، ما قدر عليه ، ويصلّي على النبي صلى اللّه عليه وآله.

ويستحب للصرورة ، وهو الذي لم يحج ، إلا تلك السنة ، أن يطأ المشعر برجله.

وإن كان الوقوف واجبا عليه ، وركنا من أركان الحج عندنا ، من تركه متعمدا ، فلا حج له ، وأدناه ، أن يقف (1) بعد طلوع الفجر ، إمّا قبل صلاة الغداة ، أو بعدها ، بعد أن يكون قد طلع الفجر الثاني ، ولو قليلا ، والدعاء ، وملازمة الموضع ، إلى طلوع الشمس مندوب ، غير واجب.

وإذا طلعت الشمس ، رجع إلى منى ، ورجوعه الآن إلى منى واجب ، لأنّ عليه بها يوم النحر ، ثلاثة مناسك ، مفروضة.

ويكره له أن يجوز وادي محسّر ، إلا بعد طلوع الشمس ، ولا يجوز الخروج من المشعر الحرام ، قبل طلوع الفجر ، للمختار ، فان خرج قبل طلوعه متعمدا ، فلا حج له ، وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : كان عليه دم شاة (2).

والصحيح الأوّل ، وما ذكره رحمه اللّه ، خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، والذي يدل على صحة ما قلناه ، أن الوقوف بالمشعر الحرام ، في وقته ركن من أركان الحج ، بغير خلاف بيننا ، ولا خلاف أنّه ، من أخلّ بركن من أركان الحج متعمدا ، بطل حجه ، فإن كان خروجه ساهيا ، أو ناسيا ، لم يكن عليه شي ء.

وقد رخص للمرأة ، والرجل ، الذي يخاف على نفسه ، أن يفيضا إلى منى ، قبل طلوع الفجر ، فإذا بلغ وادي محسّر ، فليهرول فيه ، حتى يقطعه ، وذلك على طريق الاستحباب ، فإن كان راكبا ، حرّك مركوبه.

ويستحب له أن يأخذ حصى الجمار من المشعر الحرام ، ليلة النحر ، وإن

ص: 589


1- ج : ما يقف
2- النهاية : كتاب الحج باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام.

أخذه من منى ، ومن سائر الحرم ، كان أيضا جائزا ، سوى المسجد الحرام ، ومسجد الخيف ، ومن حصى الجمار ، ولا يجوز أخذ الحصى من غير الحرم ، ولا يجوز أن يرمي الجمار ، الا بالحصى ، فحسب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : لا يجوز الرمي ، إلا بالحجر ، وما كان من جنسه ، من البرام ، والجوهر ، وأنواع الحجارة ، ولا يجوز بغيره كالمدر ، والآجر ، والكحل ، والزرنيخ ، والملح ، وغير ذلك ، من الذهب ، والفضة (1) إلى هاهنا آخر كلامه.

وما ذكرناه ، هو الصحيح ، لأنّه لا خلاف في إجزائه ، وبراءة الذمة معه ، وما عدا الحصى ، فيه الخلاف ، وروي عنه عليه السلام ، أنّه قال غداة جمع ، التقط حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعهن في يده ، قال : بأمثال هؤلاء ، فارموا ، بأمثال هؤلاء فارموا ، ومثل الحصى حصى (2). وروي أنّه قال عليه السلام ، لمّا هبط مكان محسّرا : أيّها الناس عليكم بحصى الخذف (3) وقد رجع شيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده ، عما ذكره في مسائل خلافه ، فقال : لا يجزي غير الحصار (4).

ويكره أن تكون صما ، ويستحب أن تكون برشا ، ويستحب أن يكون قدرها ، مثل الأنملة ، منقطة ، كحلية ، ويكره أن يكسر من الحصى شي ء ، بل يلتقط بعدد ما يحتاج الإنسان إليه ، ويستحب أن لا ترمي ، إلا على طهر ، فإن رميت على غير طهر ، لم يكن عليه شي ء.

فإذا رماها ، فإنه يجب أن يرميها خذفا ، والخذف عند أهل اللسان ، رمي الحجر ، بأطراف الأصابع ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، يضع كل حصاة منها ، على بطن إبهامه ، ويدفعها بظفر السبّابة ، ويرميها من بطن الوادي.

ص: 590


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 163
2- الخلاف : ذيل مسألة 163.
3- الخلاف : ذيل مسألة 163.
4- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها ، رقم 4.

وينبغي أن يرمي يوم النحر ، جمرة العقبة ، وهي التي إلى مكة ، أقرب ، بسبع حصيات ، يرميها من قبل وجهها ، وحدها ذلك اليوم فحسب.

ويستحب أن يكون بينه وبين الجمرة ، قدر عشرة أذرع ، إلى خمسة عشر ذراعا ، ويقول حين يريد أن يرمي ، الحصى : « اللّهم هؤلاء حصياتي ، فأحصهن لي ، وارفعهن في عملي » ويقول مع كل حصاة : « اللّهم أدحر عني الشيطان ، اللّهم تصديقا بكتابك ، وعلى سنة نبيّك ، صلى اللّه عليه وآله ، اللّهم اجعله حجا مبرورا ، وعملا مقبولا وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا ».

ويجوز أن يرميها راكبا ، وماشيا ، والركوب أفضل ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله رماها راكبا ، ويكون مستقبلا لها ، مستدبرا للكعبة ، وإن رماها عن يسارها ، جاز.

وجميع أفعال الحج ، يستحب أن يكون مستقبل القبلة ، من الوقوف بالموقفين ، ورمي الجمار ، إلا رمي جمرة العقبة ، يوم النحر ، فحسب.

ولا يأخذ الحصى ، من المواضع التي تكون فيها نجاسة ، فإن أخذها ، وغسلها ، أجزأه وإن لم يغسلها ، ترك الأفضل ، وأجزأه ، لأنّ الاسم يتناولها.

باب الذبح

الهدي واجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج ، وإن كان قارنا ، ذبح هديه الذي ساقه ، وإن كان مفردا ، لم يكن عليه شي ء. وإن تطوع بالأضحية ، كان له فضل كثير ، ومن وجب عليه الهدي ، فلم يقدر عليه ، قال بعض أصحابنا. فإن كان معه ثمنه ، خلّفه عند من يثق به ، حتى يشتري له هديا ، يذبح عنه في العام المقبل ، في ذي الحجّة ، فإن أصابه في مدة مقامه بمكة ، إلى انقضاء ذي الحجّة ، جاز له أن يشتريه ، ويذبحه ، وإن لم يصبه ، فعلى ما ذكرناه ، فإن لم يقدر على الهدي ، ولا على ثمنه ، وجب عليه صيام عشرة أيام ، والأظهر الأصحّ ، أنّه

ص: 591

إذا لم يجد الهدى ، ووجد ثمنه ، لا يلزمه أن يخلّفه ، بل الواجب عليه إذا عدم الهدي ، الصّوم ، سواء وجد الثمن ، أو لم يجد ، لأنّ اللّه سبحانه ، لم ينقلنا عند عدم الهدي ، إلا إلى الصوم ، ولم يجعل بينهما واسطة ، فمن نقلنا إلى ما لم ينقلنا اللّه تعالى إليه ، يحتاج إلى دليل شرعي.

وإلى ما اخترناه يذهب ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده ، في فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها ، قال : فهدي المتمتّع فرض مع القدرة ، ومع العجز فالصّوم بدل منه هذا آخر كلامه.

والصّوم ثلاثة أيام في الحجّ ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ، فالثلاثة الأيام ، يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فإن فإنه صوم هذه الأيام ، صام يوم الحصبة ، وهو يوم النفر ، ويومان بعده ، متواليات ، وسمّي يوم النفر الثاني ، يوم الحصبة ، لأنّه يستحب لمن نفر في النّفر الثاني ، التحصيب ، ولا يستحب لمن نفر في النفر الأول ، التحصيب ، وهو نزول المحصّب ، وهو ما بين العقبة ، وبين مكة ، وهي أرض ذات حصى صغار ، مستوية بطحاء ، إذا رحل من منى ، حصل فيها ، يستحب له النزول هناك قليلا اقتداء بالرّسول صلى اللّه عليه وآله ، لأنّه نزل هناك ، ونفّذ عائشة مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ، إلى التنعيم ، فأحرمت بالعمرة المفردة ، وجاءت إلى مكّة ، وطاقت ، وسعت ، وقصرت ، وفرغت من مناسكها جميعا ، ثم جاءت إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله ، فرحل قاصدا إلى المدينة.

فإن فاته ذلك أيضا ، صامهن في بقية ذي الحجّة ، فإن أهلّ المحرم ، ولم يكن صام ، وجب عليه دم شاة ، واستقر في ذمّته. وليس له صوم.

فإن مات من وجب عليه الهدي ، ولم يكن صام الثلاثة الأيام ، مع القدرة عليها ، والتمكّن من الصيام ، صام عنه وليه ، الثلاثة ، الأيام ، فأمّا السبعة الأيام ، فقد قال بعض أصحابنا : لا يلزم الولي قضاء السبعة ، والأولى عندي والأحوط ، أنّه يلزم الولي القضاء عنه ، إذا تمكن من وجبت عليه من صيامهن ، ولم يفعل ،

ص: 592

لأنّ الإجماع حاصل ، منعقد على أنّ الولي يلزمه أن يقضي عمن هو ولي له ، ما فاته من صيام ، تمكن منه ، فلم يصمه ، وهذا الصيام ، من جملة ذلك ، وداخل تحته ، فإذا صام الثلاثة الأيام ، ورجع إلى أهله ، صام السّبعة الأيام ، ولا يجوز له أن يصومهن في السفر ، ولا قبل رجوعه إلى أهله ، فإن جاور بمكة ، انتظر مدة وصول أهل بلده إلى بلده ، إن كان وصولهم في أقلّ من شهر ، فإن كان أكثر من شهر ، انتظر شهرا ، ولو كان من أبعد بعد ، ثم صام بعد ذلك ، السبعة الأيام.

ومن فاته صوم يوم قبل التروية ، صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، ثم صام يوما آخر ، بعد أيام التشريق ، ولا يجوز له أن يصوم أيام التشريق ، فإن فاته صوم يوم التروية ، فلا يصم يوم عرفة ، بل يصوم الثلاثة الأيام ، بعد انقضاء أيام التشريق ، متتابعات.

وقد رويت (1) رخصة في تقديم الصوم الثلاثة أيام ، من أول العشر ، والأحوط الأول.

فإن قيل : كيف يصام بدل الهدي ، قبل وجوب الهدي ، لأنّ الهدي ما يجب ذبحه إلا يوم النحر ، ولا يجوز قبله؟

قلنا : إذا أحرم بالحجّ متمتعا ، وجب عليه الدم ، ويستقر في ذمته ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وقال عطاء : لا يجب حتى يقف بعرفة ، وقال مالك : لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة ، دليلنا : قوله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (2) فجعل تعالى الحج غاية لوجوب الهدي ، فالغاية وجود أول الحجّ ، دون إكماله ، يدل عليه قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3) كانت الغاية ، دخول أوّل الليل ، دون إكماله كلّه ، وإجماع أصحابنا أيضا ، منعقد على ذلك ، إلا أنّهم أجمعوا ، على أنّه لا يجوز الصيام إلا يوم قبل التروية ،

ص: 593


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 54 من أبواب الذبح
2- البقرة : 196
3- البقرة : 187.

ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وقبل ذلك لا يجوز ، ولو لا إجماعهم ، لجاز ذلك ، لعموم الآية ، وصيام هذه الأيام ، يجوز ، سواء أحرم بالحج ، أو لم يحرم ، لأجل الإجماع من أصحابنا أيضا وإلا فما كان يجوز الصيام ، إلا بعد إحرام الحجّ ، لأنّه قال تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) فجعل الحج غاية لوجوب الهدي ، فإذا لم يحرم ، ما وجدت الغاية ، بل الإجماع مخصّص لذلك ، ويمكن أن يقال : العمرة المتمتع بها إلى الحج ، حجّ ، وحكمها ، حكم الحج ، لأنّها لا ينعقد الإحرام بها ، إلا في أشهر الحجّ ، فعلى هذا إذا أحرم بها ، فقد وجد أول الحج.

إذا تلبس بالصوم ، ثم وجد الهدي ، لم يجب عليه أن يعود إليه ، وله المضي فيه ، وله الرجوع إلى الهدي ، بل هو الأفضل.

ومن لم يصم الثلاثة الأيام ، وخرج عقيب أيام التشريق ، صامها في الطريق ، فإن لم يتمكّن ، صامهن مع السبعة الأيام ، إذا رجع إلى أهله ، إذا كان ذلك ، قبل أن يهلّ المحرّم ، فإن أهلّ المحرّم ، استقر في ذمّته الدم ، على ما بيناه ولا بأس بتفريق الصوم السبعة الأيام.

والمتمتع إذا كان مملوكا ، وحج بإذن مولاه ، كان فرضه الصيام ، فإن أعتق العبد ، قبل انقضاء الوقوف بالمشعر الحرام ، كان عليه الهدي ، ولم يجزه الصوم ، مع الإمكان ، فإن لم يقدر عليه ، كان حكمه حكم الأحرار ، في الأصل ، على ما فصلناه.

والصوم بعد أيام التشريق ، يكون أداء ، لا قضاء لأنّ وقته باق.

وإذا أحرم بالحج ، ولم يكن صام ، ثم وجد الهدي ، لم يجز له الصوم ، فإن مات ، وجب أن يشتري الهدي ، من تركته ، من أصل المال ، لأنّه دين عليه.

ولا يجوز أن يذبح الهدي الواجب في الحج ، والعمرة المتمتع بها إلى الحج ، إلا بمنى ، يوم النحر ، أو بعده ، فإن ذبح بمكة ، أو بغير منى ، لم يجزه ، وما ليس بواجب ، جاز ذبحه ، أو نحره ، بمكة.

ص: 594

وإذا ساق هديا في الحج ، فلا يذبحه أيضا إلا بمنى ، فإن ساقه في العمرة المبتولة ، نحره بمكة ، قبالة الكعبة ، بالموضع المعروف بالحزورة.

وأيام النحر بمنى ، أربعة أيام ، يوم النحر ، وثلاثة أيّام بعده ، وفي غيرها من البلدان ، ثلاثة أيام ، يوم النحر ، ويومان بعده ، هذا في التطوع ، فأمّا هدي المتعة ، فإنّه يجوز ذبحه طول ذي الحجة ، إلا أنّه يكون بعد انقضاء هذه الأيام ، قضاء ، هكذا قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) والأولى عندي ، أن لا يكون قضاء ، لأنّ ذي الحجة بطوله ، من أشهر الحجّ ، ووقت للذبح الواجب ، فالوقت ما خرج ، فلا يكون قضاء ، لأنّ القضاء ما كان له وقت ، ففات ، والتطوع قد مضى وقته ، ولا قضاء فيها.

ولا يجوز في الهدي الواجب ، إلا واحد عن واحد ، مع الاختيار ، ومع الضرورة ، والعدم ، فالصيام.

وقال بعض أصحابنا : ويجوز عند الضرورة ، الواحد من الهدي ، عن خمسة ، وعن سبعة ، وعن سبعين. وإلى هذا القول ، يذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) وجمله وعقوده (3) ، ومبسوطة (4) ، وإلى القول الأول ، يذهب في مسائل خلافه ، في الجزء الأول ، وفي الجزء الثالث (5) ، وهو الأظهر الأصح ، الذي يعضده ، ظاهر التنزيل ، ولا يلتفت إلى أخبار آحاد ، إن صحت ، كان لها وجه ، وهو في الهدي المتطوع به ، فأمّا ما ذكره شيخنا أبو جعفر في الجزء الأول ، من مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة ، يجوز اشتراك سبعة في بدنة واحدة ، أو في بقرة واحدة ، إذا

ص: 595


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب الذبح.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى ، رقم 8 و 9.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة.
5- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 341 ( الجزء الأول ).

كانوا مفترضين (1) وكانوا أهل خوان واحد ، سواء كانوا متمتعين ، أو قارنين ، ثم قال : وقال مالك : لا يجوز الاشتراك ، إلا في موضع واحد ، وهو إذا كانوا متطوعين ، وقد روى ذلك أصحابنا بقول شيخنا أبي جعفر أيضا ، قال : وهو الأحوط ، وقال في الجزء الثالث من مسائل خلافه : الهدي الواجب ، لا يجزئ إلا واحد عن واحد ، وإن كان تطوعا ، يجوز عن سبعة ، إذا كانوا أهل بيت واحد ، وإن كانوا من أهل بيوت شتى لا يجزي ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي : يجوز للسبعة ، أن يشتركوا في بدنة ، أو بقرة ، في الضحايا ، والهدايا ، سواء كانوا مفترضين ، عن نذر ، أو هدي الحجّ ، أو متطوعين ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، وطريقة الاحتياط.

ولا يجوز في الهدي ولا الأضحية العرجاء ، البيّن عرجها ، ولا العوراء ، البيّن عورها ، ولا العجفاء ، ولا الخرماء ولا الجذاء ، وهي المقطوعة الاذن ، ولا العضباء ، وهي المكسورة القرن ، فان كان القرن الداخل صحيحا ، لم يكن به بأس ، وإن كان ما ظهر منه ، مقطوعا ، فلا بأس به ، وإن كانت اذنه مشقوقة ، أو مثقوبة ، إذا لم يكن قطع منها شي ء.

ومن اشترى هديا على أنّه تام ، فوجده ناقصا ، لم يجز عنه ، إذا كان واجبا ، فإن كان تطوّعا ، لم يكن به بأس.

ولا يجوز الهدي ، إذا كان خصيا ، ولا التضحية به ، فإن كان موجوء ، لم يكن به بأس ، وهو أفضل من الشاة ، والشاة أفضل من الخصي.

وأفضل الهدي البدن ، فمن لم يجد ، فمن البقر ، فإن لم يجد ، ففحلا من الضأن ، ينظر في سواد ، ويمشي في سواد ، ويبرك في سواد ، والمراد بذلك ، أن تكون هذه المواضع سودا ، وقال أهل التأويل ، معنى ذلك ، أنّه من عظمه ،

ص: 596


1- وفي المصدر كانوا متقربين.

وشحمه ، ينظر في في ء شحمه ، ويمشي في فيئه ، ويبرك في ظل شحمه ، والأول هو الظاهر ، فإن لم يجد فتيس من المعز فإن لم يجد إلا شاة ، كان جائزا.

وأفضل ما يكون من البدن ، والبقر ، ذوات الأرحام ، ومن الغنم الفحولة.

ولا يجوز من الإبل ، إلا الثني ، فما فوقه ، وهو الذي تمّ له خمس سنين ، ودخل في السادسة ، وكذلك من البقر ، لا يجوز إلا الثني ، وهو الذي تمت له سنة ، ودخل في الثانية ، ويجزي من الضأن الجذع لسنته ، والجذع ما كان له سبعة أشهر.

وينبغي أن يكون الهدي سمينا ، فإن اشتراه على انه سمين ، فخرج مهزولا ، أجزأ عنه ، وإن اشتراه على أنّه مهزول ، فخرج سمينا ، كان مجزيا ، أيضا ، وإن اشتراه على أنّه مهزول ، وخرج كذلك ، لم يجز عنه.

وحد الهزال على ما روي في الاخبار (1) ، أن لا يكون على كليتيه شي ء من الشحم ، وإذا لم يجد على هذه الصفة ، اشترى ما تيسر له.

وأمّا عيوب الهدي فضربان : أحدهما يمنع الإجزاء والثاني يكره ، وان أجزأ فالذي يمنع الإجزاء ، ما روى البراء بن عازب عن النبي صلى اللّه عليه وآله في حديثه : العوراء البيّن عورها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعرجاء البيّن عرجها ، والكسير الذي لا ينقى (2) ( قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه معنى لا ينقى ، بالنون والقاف ، الذي لا نقى له ، لأنّ النقي بالنون المكسورة ، والقاف المسكنة ، المخّ ) والعضباء لا تجزي ، وهي التي انكسر قرنها الداخل والظاهر.

ولا يجزي الخصي والموجوء ، وهو المدقوق الخصي ، وما عدا ذلك فمكروه ، إلا أن يكون ناقص الخلقة ، أو قطع قاطع من خلقته ، الا ما كان وسما ، ولا بأس بذلك ، ما لم يبن منها ، وينقص الخلقة ، لما رواه علي عليه السلام ، عن

ص: 597


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 16 من أبواب الذبح.
2- فمسند أحمد بن حنبل : ج 4 ص 284.

الرسول صلى اللّه عليه وآله من أمره ، أن يستشرف العين والاذن (1).

قال محمّد بن إدريس : يستشرف ، يقال : استشرفت الشي ء ، إذا رفعت بصرك تنظر إليه ، وبسطت كفك فوق حاجبك ، كالذي يستظل من الشمس ، ومنه قول ابن مطير

فيا عجبا للناس يستشرفونني *** كأن لم يروا مثلي محبا ولا قبلي

ويستحب أن لا يشتري إلا ما قد عرّف به ، وهو أن يكون احضر عرفات ، وذلك على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولأنّه لو لم يحضر عرفات ، أجزأه ، سواء أخبر أنّه قد عرّف به ، أو لم يخبر.

ومن اشترى هديه ، فهلك ، أو ضلّ ، أو سرق ، فإن كان واجبا (2) ، وجب أن يقيم بدله ، وإن كان تطوّعا ، فلا شي ء عليه.

ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور ، ولا الكفارات ، فأمّا هدي المتمتع ، والقارن ، فالواجب أن يأكل منه ، ولو قليلا ، ويتصدق على القانع ، والمعتر ، ولو قليلا ، لقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (3) والأمر عندنا يقتضي الوجوب ، والفور دون التراخي.

فأمّا الأضحية ، فالمستحب أن يأكل ثلثها ، ويتصدق على القانع والمعتر ، بثلثها ، ويهدي إلى أصدقائه ثلثها ، على ما رواه أصحابنا (4).

ومن اشترى هديا ، وذبحه ، فاستعرفه رجل ، وذكر أنّه هديه ، ضلّ عنه ، وأقام بذلك بيّنة ، كان له لحمه ، والغرم ما بين قيمته حيا ومذبوحا ، ولا يجزي عن واحد منهما.

وإذا نتج الهدي المعيّن ، كان حكم ولده حكمه ، في وجوب نجره ، أو ذبحه ، ولا بأس بركوبه ، وشرب لبنه ، ما لم يضر به وبولده.

ص: 598


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 21 من أبواب الذبح ح 2 ، وفي المصدر : ان نستشرف ، بدل ان يستشرف.
2- ج : وجبا في الذمة
3- الحج : 36.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 40 من أبواب الذبح.

وإذا أراد نحر البدنة ، نحرها وهي قائمة ، من قبل اليمين ، ويربط يديها ما بين الخف ، إلى الركبة ، ويطعن بضم العين في لبّتها.

ويستحب أن يتولّى النحر ، أو الذبح ، بنفسه ، فإن لم يقو عليه ، أو لا يحسنه ، جعل يده ، مع يد الذابح ، فإن استناب فيه ، كان جائزا ، ويسمّي اللّه تعالى ، ويقول : وجّهت وجهي إلى قوله وأنا من المسلمين ، ثمّ يقول : اللّهم منك ، ولك ، بسم اللّه واللّه أكبر ، وذكر اللّه هو الواجب ، والباقي مندوب.

ومن أخطأ في الذبيحة ، فذكر غير صاحبها ، أجزأت عنه بالنية.

وينبغي أن يبدأ بمنى ، بالذبح ، قبل الحلق ، وفي العقيقة ، بالحلق قبل الذبح ، فإن قدّم الحلق على الذبح ، ناسيا ، أو متعمدا ، لم يكن عليه شي ء.

ولا يجوز أن يحلق رأسه ، ولا أن يزور البيت ، إلّا بعد الذبح ، وإن يبلغ الهدي محلّه ، وهو أن يحصل في رحله ، ومتى حلق قبل أن يحصل الهدي في رحله ، لم يكن عليه شي ء.

ومن وجب عليه بدنة ، في نذر أو كفارة ، ولم يجدها ، كان عليه سبع شياه.

والصبي إذا حجّ به متمتعا ، وجب على وليه ، أن يذبح عنه ، من مال الولي ، دون مال الصبي.

ومن لم يتمكن من شراء الهدي ، إلا ببيع بعض ثيابه التي يتجمل بها ، لم يلزمه ذلك ، وأجزأه الصوم.

ومن نذر أن ينحر بدنة ، فإن سمّى الموضع الذي ينحر فيه ، فعليه الوفاء به ، وإن لم يسم الموضع ، فلا يجوز له أن ينحرها ، إلا بفناء الكعبة.

الهدي على ثلاثة أضرب : تطوع ، ونذر شي ء بعينه ابتداء ، وتعيين نذر (1) واجب في ذمته ، فإن كان تطوعا ، مثل إن خرج حاجا ، أو معتمرا ، فساق معه هديا ، بنية أن ينحره في منى ، أو بمكة ، من غير أن يشعره ، أو يقلده ، فهذا على ملكه ، يتصرّف فيه كيف شاء ، من بيع ، وهبة ، وله ولده ، وشرب لبنه ، وإن هلك ، فلا شي ء عليه.

ص: 599


1- في ط وج : هدي.

الثاني : هدي أوجبه بالنذر ، ابتداء بعينه ، مثل أن قال : لله عليّ أن أهدى هذه الشاة ، أو هذه البقرة ، أو هذه الناقة ، فإذا قال هذا ، زال ملكه عنها ، وانقطع تصرفه في حق نفسه فيها ، وهي أمانة للمساكين في يده ، وعليه أن يسوقها إلى المنحر ، فإن وصل نحر ، وإن عطب في الطريق ، نحره حيث عطب ، وجعل عليه علامته ، من كتاب وغيره ، على ما روي (1) ليعرف أنّه هدي للمساكين ، فإذا وجدها المساكين ، حلّ لهم التصرّف فيها ، وإن هلكت فلا شي ء عليه ، فإن نتجت هذه الناقة ، ساق معها ولدها ، وهي والولد للمساكين.

الثالث : ما وجب في ذمته ، عن نذر ، أو ارتكاب محظور ، كاللباس ، والطيب ، والقوب ، والصيد ، أو مثل دم المتعة ، فمتى ما عيّنه في هدي ، بعينه ، تعيّن فيه ، فإذا عيّنه ، زال ملكه عنه ، وانقطع تصرفه فيه ، وعليه أن يسوقه إلى المنحر ، فإن وصل ، نحره ، وأجزأه ، وإن عطب في الطريق ، أو هلك ، سقط التعيين ، وكان عليه إخراج الذي في ذمّته ، وكل هدي كان نذرا ، أو كفارة ، مطلقا كان ، أو معيّنا ، لا يجوز الأكل منه ، وما كان تطوعا ، أو هدي التمتع ، جاز الأكل منه.

ويستحب أن لا يأخذ الإنسان شيئا من جلود الهدايا ، والضحايا ، بل يتصدق بها كلّها ، ويكره أن يعطيها الجزار.

ومن لم يجد الأضحية ، جاز له أن يتصدّق بثمنها ، فإن اختلفت أثمانها ، نظر إلى الثمن الأول ، والثاني ، والثالث ، وجمعها ، ثم يتصدق بثلثها.

ويكره للإنسان أن يضحي بكبش قد تولى تربيته.

باب الحلق والتقصير

يستحب للإنسان ، أن يحلق رأسه بعد الذبح ، وهو مخير بين الحلق ،

ص: 600


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 31 من أبواب الذبح.

والتقصير ، سواء كان صرورة ، أو لم يكن ، لبّد شعره ، أو لم يلبّده ، وتلبيد الشعر في الإحرام ، أن يأخذ عسلا ، أو صمغا ، ويجعله في رأسه ، لئلا يقمل ، أو يتسخ ، وقال بعض أصحابنا : الصرورة لا يجزيه إلا الحلق ، وكذلك من لبّد شعره ، وإن لم يكن صرورة ، إلا أنّ الحلق أفضل ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر ، في الجمل والعقود (1) والثاني ذكره في نهايته (2) ، وهو مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان (3) والصحيح الأوّل ، وهو الأظهر بين أصحابنا ، ويعضده قوله تعالى : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) (4).

ومن ترك الحلق عامدا ، أو التقصير ، إلى أن يزور البيت ، كان عليه دم شاة ، وإن فعله ناسيا ، لم يكن عليه شي ء ، وكان عليه اعادة الطواف.

ومن رجل من منى قبل الحلق ، فليرجع إليها ، ولا يحلق رأسه إلا بها ، مع القدرة ، فإن لم يتمكن من الرجوع إليها ، فليحلق رأسه ، مكانه ، ويرد شعره إليها ، ويدفنه هناك ، فإن لم يتمكن من ردّ الشعر ، لم يكن عليه شي ء.

والمرأة ليس عليها حلق ، بل الواجب عليها التقصير.

وإذا أراد أن يحلق ، فالمستحب له أن يبدأ بناصيته ، من القرن الأيمن ، ويحلق إلى العظمين ، ويقول إذا حلق : اللّهم أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيمة.

وإذا حلق رأسه ، فقد حلّ له كل شي ء أحرم منه ، إلا النساء ، والطيب ، إن كان متمتعا ، فإن كان قارنا ، أو مفردا ، حلّ له كلّ شي ء ، إلا النساء فحسب.

فإذا طاف المتمتع طواف الحجّ ويسمّى طواف الزيارة ، حلّ له كل شي ء إلا النساء ، فحسب ، فإذا طاف طوافهن ، حلّت له النساء.

ص: 601


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب الحلق والتقصير.
3- قاله في المقنعة : في كتاب الحج ، في باب الحلق ص 419
4- الفتح : 27.

ويستحب أن لا يلبس ثياب المخيطة ، إلا بعد الفراغ من طواف الزيارة ، وليس ذلك بمحظور ، وكذلك يستحب أن لا يمسّ الطيب ، إلا بعد الفراغ من طواف النساء ، وإن لم يكن ذلك محظورا.

وذهب شيخنا أبو جعفر ، في تبيانه (1) إلى أنّ الحلق ، أو التقصير ، مندوب ، غير واجب ، وكذلك أيام منى ، ورمي الجمار (2).

باب زيارة البيت والرّجوع إلى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ المستمتع من مناسكه ، يوم النحر بمنى ، وهي ثلاثة ، رمي جمرة العقبة ، فحسب ، على ما قدّمناه ، والذبح والحلق ، أو التقصير ، على جهة التخيير ، على ما ذكرناه ، ولا بأس بتقديم أيّها شاء ، على الآخر ، إلا أنّ الأفضل الترتيب ، فليتوجه إلى مكة يوم النحر ، لطواف الحج ، وسعيه.

ويستحب له أن لا يؤخره إلا لعذر ، فإن أخّره لعذر ، زار البيت من الغد.

ويستحب له أن لا يؤخّر طواف الحج ، وسعيه أكثر من ذلك ، فإن أخّره فلا بأس عليه ، وله أن يأتي بالطواف ، والسعي ، طول ذي الحجّة ، لأنّه من شهور الحجّ ، وانّما يقدّم ذلك على جهة التأكيد للمتمتع ، ولا يجوز له تأخير ذلك إلى استهلال المحرم ، فمن أخّره عامدا بطل حجّه.

ويستحب لمن أراد زيارة البيت ، أن يغتسل قبل دخوله المسجد ، والطواف بالبيت ، ويقلّم أظفاره ، ويأخذ شيئا من شاربه ، ثم يزور ، وغسله أوّل نهاره ، كاف له إلى اللّيل ، وكذلك إن اغتسل أول ليلة ، كفاه ذلك إلى النهار ، سواء نام أو لم ينم ، وقد روي أنّه إن نقضه بحدث أو نوم ، فليعد الغسل (3). والأول

ص: 602


1- في م : في نهايته
2- التبيان : في تفسير الآية 196 من سورة البقرة.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب مقدمات الطواف ..

أظهر ، وهذه رواية ضعيفة.

ثمّ يدخل المسجد ، فأول ما يبدأ به إذا دخل المسجد الحرام ، الطواف بالبيت ، إلا أن يكون عليه صلاة فائتة ، فريضة ، فإنّه يبدأ بالصلاة ، أو يكون قد دخل وقت الصلاة المؤداة ، ولم يكن عليه فائتة ، فإنّه يبدأ أولا ، بالصلاة ، أو وجد الناس في الجماعة ، فإنّه يدخل معهم فيها ، وكذلك إن خاف فوت صلاة الليل ، أو فوت ركعتي الفجر ، فإنّه يبدأ بذلك أولا.

فإذا فرغ منه ، بدأ بالطواف ، فإذا شرع في الطواف ، ابتدأه من الحجر الأسود.

والمستحب ، استلامه بجميع بدنه ، فإن لم يمكنه إلا ببعضه ، جاز ذلك ، فإن لم يقدر استلمه بيده ، فإن لم يقدر أشار إليه ، واستقبله ، وكبّر وقال ما قاله حين طاف بالبيت ، طواف العمرة المتمتع بها ، وقد ذكرناه فيما مضى ، ثمّ يطوف بالبيت أسبوعا ، كما قدّمنا وصفه ، إلا أنّه ينوي بهذا الطواف ، طواف الحجّ ، ويصلّي عند المقام ركعتين.

ثمّ يستحب له ، أن يرجع إلى الحجر الأسود ، فيقبّله إن استطاع ، ثم ليخرج إلى الصفا ، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكة ، ثمّ يأتي المروة ، ويطوف بينهما سبعة أشواط ، يبدأ بالصفا ، ويختم بالمروة ، وجوبا ، فإذا فعل ذلك ، فقد حلّ له كلّ شي ء أحرم منه ، إلا النساء.

هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر وذهب في نهايته (1) إليه ، إلا أنّه رجع عنه ، في استبصاره ، وقال : إذا طاف طواف الحجّ فحسب ، حلّ له كل شي ء ، إلا النساء (2) وإلى هذا يذهب السيد المرتضى ، في انتصاره (3) ، وهو الذي أعمل عليه ، وافتي به ، وليس عليه هاهنا بعد السعي ، حلق ، ولا تقصير.

ص: 603


1- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت.
2- الاستبصار : كتاب الحج ، باب انّه إذا طاف طواف الزيارة رقم الباب 199.
3- الانتصار : كتاب الحج ، مسألة 20.

ثمّ ليرجع إلى البيت ، ويطوف طواف النساء أسبوعا ، ويصلّي عند المقام ركعتين وجوبا ، وليس عليه سعي ، بعد طواف النساء ، لأنّ كل طواف واجب لا بدّ له من سعي واجب ، إلا طواف النساء ، لا سعي بعده.

وكل إحرام لا بدّ له من طواف النساء ، لتحلّ له ، إلا إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحجّ ، لا طواف نساء فيها ، وتحلّ من دونه.

واعلم أنّ طواف النساء ، فريضة في الحجّ ، وفي العمرة المبتولة ، وليس بواجب في العمرة المتمتع بها (1) إلى الحجّ ، على ما قدّمناه ، وإن مات من وجب عليه طواف النساء ، كان على وليه القضاء ، عنه ، وإن تركه وهو حي ، كان عليه قضاؤه ، فإن لم يتمكن من الرجوع إلى مكة ، جاز له أن يأمر من ينوب عنه فيه ، فإذا طاف النائب عنه ، حلّت له النساء ، ولا تحل له النساء ، إلا بعد العلم بأنّه قد طاف عنه ، وهو واجب على النساء ، والرجال ، والشيوخ ، والخصيان ، لا يجوز لهم تركه وإن لم يريدوا وطء النساء.

وإذا فرغ الإنسان من الطواف ، فليرجع إلى منى ، ولا يبيت ليالي التشريق ، إلا بها ، فإن بات في غيرها ، كان عليه دم شاة ، وقد روي (2) أنّه إن بات بمكة ، مشتغلا بالعبادة والطواف ، لم يكن عليه شي ء ، وإن لم يكن مشتغلا بهما ، كان عليه ما ذكرناه ، والأول أظهر.

وإن خرج من منى بعد نصف الليل ، جاز له أن يبيت بغيرها ، غير أنّه لا يدخل مكة ، إلا بعد طلوع الفجر ، على ما روي في الأخبار (3) وإن تمكن أن لا يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر ، كان أفضل على تلك الرواية.

ومن بات الثلاث ليال بغير منى ، متعمدا ، كان عليه ثلاث من الغنم ،

ص: 604


1- ج : في العمرة التي يتمتع بها.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 1 من أبواب العود إلى منى.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 1 من أبواب العود إلى منى.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : من بات عن منى ليلة ، كان عليه دم شاة ، على ما قدّمناه ، فإن بات عنها ليلتين ، كان عليه دمان ، فإن بات ليلة الثالثة ، لا يلزمه شي ء ، لأنّ له النفر في الأول ، والنفر الأول يوم الثاني من أيام التشريق بلا خلاف ، والنفر الثاني يوم الثالث من أيام التشريق ، وقد روي في بعض الأخبار ، (1) أنّ من بات ثلاث ليال عن منى ، فعليه ثلاثة دماء (2) وذلك محمول على الاستحباب ، أو على من لم ينفر في النفر الأول ، حتى غابت الشمس ، فإنّه إذا غابت ، ليس له أن ينفر ، فإن نفر فعليه دم ، والأول مذهبه في نهايته (3) وهو الصحيح ، لأنّ التخريج الذي خرجه ، لا يستقيم له ، وذلك أنّ من عليه كفارة ، لا يجوز له أن ينفر ، في النفر الأول ، بغير خلاف ، فقوله رحمه اللّه : له أن ينفر في النفر الأول ، غير مسلّم ، لأنّ عليه كفارة لأجل إخلاله بالمبيت ليلتين.

والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيام التشريق من منى ، طول نهاره ، وإذا أراد أن يأتي مكة للطواف بالبيت تطوعا ، جاز له ذلك ، غير أن الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى ، لرمي الجمار ، كان عليه وجوبا ، أن يرمي ثلاثة أيام ، الثاني من النحر ، والثالث ، والرابع ، كل يوم بإحدى وعشرين حصاة ، ويكون ذلك عند الزوال ، فإنّه الأفضل ، فإن رماها ما بين طلوع الشمس إلى غروب الشمس ، لم يكن به بأس ، وقال شيخنا في مسائل الخلاف : ولا يجوز الرمي أيام التشريق ، إلا بعد الزوال ، وقد روي رخصة ، قبل الزوال ، في الأيام كلها (4) ، وما ذكره في نهايته (5) ومبسوطة (6) هو الأظهر ، الأصح ، عند بعض أصحابنا ، وما ذكره في مسائل خلافه ، مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة.

ص: 605


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 1 من أبواب العود إلى منى.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 176.
5- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.
6- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.

وهل رمي الجمار واجب ، أو مسنون؟ لا خلاف بين أصحابنا في كونه واجبا ، ولا أظن أحدا من المسلمين ، يخالف في ذلك ، وقد يشتبه على بعض أصحابنا ، ويعتقد أنّه مسنون ، غير واجب ، لما يجده من كلام بعض المصنفين ، وعبارة موهمة ، أوردها في كتبه ، ويقلّد المسطور بغير فكر ، ولا نظر ، وهذا غاية الخطأ ، وضدّ الصواب. فانّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه ، قال في الجمل والعقود : والرمي مسنون (1) فيظن من يقف على هذه العبارة ، أنّه مندوب ، وانّما أراد الشيخ بقوله مسنون ، أنّ فرضه عرف من جهة السنة ، لأنّ القرآن لا يدل على ذلك ، والدليل على صحّة هذا الاعتبار والقول ، ما اعتذر شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاستبصار ، وتأوّل لفظ بعض الاخبار ، فقال الراوي في الخبر ، في باب وجوب غسل الميّت ، وغسل من غسل ميتا ، فأورد الأخبار بوجوب الغسل ، على من غسل ميتا ، ثم أورد خبرا عن ابن أبي نجران ، يتضمن أن الغسل من الجنابة فريضة ، وغسل الميت سنة ، فقال شيخنا أبو جعفر ، فما تضمن هذا الخبر ، من أن غسل الميّت سنة ، لا يعترض (2) ما قلناه من وجوه ، أحدها أنّ هذا الخبر مرسل ، لأنّ ابن أبي نجران ، قال عن رجل ، ولم يذكر من هو ، ولا يمتنع أن يكون غير موثوق به ، ولو سلم ، لكان المراد في إضافة هذا الغسل ، إلى السنة ، أنّ فرضه عرف من جهة السنة ، لأنّ القرآن ، لا يدل على ذلك ، وانّما علمناه بالسنة (3). هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر في الاستبصار.

وإذا احتمل قوله في الجمل والعقود ما ذكرناه ، كان موافقا لقوله في مبسوطة ، ونهايته ، لئلا يتناقض قولاه ، فإنّه قال في نهايته : وإذا رجع الإنسان إلى منى ، لرمي الجمار ، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيام (4) فأتى بلفظ يقتضي

ص: 606


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، باب 9 فصل في نزول منى.
2- ج : لا يعارض
3- الاستبصار : كتاب الطهارة : باب 60 ، ح 9.
4- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.

الوجوب ، بغير خلاف في عرف الشريعة وقال في مبسوطة مصرحا : والواجب عليه ، أن يرمي ثلاثة أيام التشريق ، الثاني من النحر ، والثالث والرابع ، كل يوم بإحدى وعشرين حصاة ، ثلاث جمار ، كل جمرة منها ، بسبع حصيات وإلى الوجوب يذهب في مسائل الخلاف ، ويلوح به ، ويدل عليه.

ثم الأخبار التي أوردها في تهذيب الأحكام (1) متناصرة بالوجوب ، عامة الألفاظ ، وكذلك الأخبار المتواترة دالة على الوجوب ، ثم فعل الرسول والأئمة عليهم السلام يدل على ما اخترناه ، وشرحناه ، لأنّ الحجّ في القرآن مجمل ، وفعله عليه السلام ، إذا كان بيانا المجمل ، جرى مجرى قوله ، والبيان في حكم المبيّن ، ولا خلاف أنّه عليه السلام ، رمى الجمار ، وقال : خذوا عنّي مناسككم ، فقد أمرنا بالأخذ ، والأمر يقتضي الوجوب عندنا ، والفور ، دون التراخي.

وأيضا دليل الاحتياط يقتضيه ، لأنّه لا خلاف بين الأمّة ، أنّ من رمى الجمار ، برئت ذمّته من جميع أفعال الحجّ ، والخلاف حاصل إذا لم يرم الجمار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره ، في كتاب الحجّ ، في باب من نسي رمي الجمار حتى يأتي مكة ، أورد أخبارا تتضمن الرجوع ، والأمر بالرمي ، ثم أورد خبرا عن معاوية بن عمار ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، رجل نسي رمي الجمار ، قال : يرجع ويرميها ، قلت : فإنّه نسيها أو جهلها حتى فاته ، وخرج ، قال : ليس عليه ان يعيد.

فقال شيخنا : قال محمد بن الحسن ، يعنى نفسه ، قوله عليه السلام ، ليس عليه أن يعيد ، معناه ليس عليه أن يعيد في هذه السنة ، وإن كان يجب عليه إعادته في السنة المقبلة ، إمّا بنفسه مع التمكن ، أو يأمر من ينوب عنه ، وانّما كان كذلك ، لأنّ أيام الرمي ، هي أيّام التشريق ، فإذا فاتته ، لم يلزمه شي ء ،

ص: 607


1- التهذيب : كتاب الحج ، باب 19 باب الرجوع الى منى ورمي الجمار.

إلا في العام المقبل ، في مثل هذه الأيام (1) هذا آخر كلام الشيخ أبي جعفر في استبصاره.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : فلو كان الرمي مندوبا عند شيخنا ، لما قال يجب عليه إعادته في السنة المقبلة ، إمّا بنفسه مع التمكن ، أو يأمر من ينوب عنه ، لأنّ المندوب ، لا يجب على تاركه إعادته.

فإن أراد رمي الجمار ، في أيام التشريق ، فليبدأ بالجمرة التي تلي المشعر الحرام ، وليرمها عن يسارها ، من بطن المسيل ، بسبع حصيات ، يرميهن خذفا ، وقد بيّنا لغته ، على ما قال الجوهري في كتاب الصحاح ، وهو أن قال : فإنّ الخذف بالحصى ، الرمي منه بالأصابع.

ويكبّر مع كل حصاة استحبابا ، ويدعو بالدعاء الذي قدّمناه ، ثم يقوم عن يسار الطريق ، ويستقبل القبلة ، ويحمد اللّه تعالى ، ويثني عليه ، ويصلّي على النبي صلى اللّه عليه وآله ، ثم ليتقدّم قليلا ، ويدعو ، ويسأله أن يتقبل منه.

فإن رماها بالسبع الحصيات في دفعة واحدة ، لا يجزيه بغير خلاف بيننا ثم يتقدّم أيضا ، ويرمي الجمرة الثانية ، ويصنع عندها كما صنع عند الاولى ، ويقف ويدعو بعد الحصاة السابعة ، ثم يمضي إلى الثالثة ، وهي جمرة العقبة ، تكون الأخيرة ، بها يختم الرمي ، في جميع أيام التشريق ، وانّما يحصل لها مزية ، بالرمي عليها وحدها يوم النحر فحسب ، فيرميها كما رمى الأوليين ، ولا يقف عندها.

فإذا غابت الشمس ، ولم يكن قد رمى بعد ، فلا يجوز له أن يرمي ، إلا في الغد ، فإذا كان من الغد ، رمى ليومه مرة ومرة قضاء لما فاته ، ويفصل بينهما بساعة.

وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة ، والذي ليومه عند الزوال ،

ص: 608


1- الاستبصار : الباب 204 ح 2 مع اختلاف في المتن.

ومعنى قولنا بكرة ، المراد به بعد طلوع الشمس ، أول ذلك ، لأنّا قد بيّنا أنّ الرمي ما بين طلوع الشمس إلى غروبها ، والباكورة من الفاكهة : أوائلها ، وقد أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب المصباح لفظا يشتبه على غير المتأمل ، وهو أن قال في صلاة يوم الجمعة : يصلي ست ركعات بكرة (1) والمراد بذلك عند انبساط الشمس في أول ذلك ، يدل على ذلك ما أورده في نهايته ، وهو أن قال : يصلّي ست ركعات ، عند انبساط الشمس (2) فيظن من يقف على ما قاله في مصباحه ، أنّ المراد بقوله رحمه اللّه بكرة ، عند طلوع الفجر ، وهذا بعيد من قائله.

فإن فاته رمي يومين ، رماها كلها يوم النفر ، وليس عليه شي ء.

ولا يجوز الرمي بالليل ، وقد رخص للعليل ، والخائف ، والرعاة ، والعبيد ، في الرمي بالليل.

ومن نسي رمي الجمار ، إلى أن أتى مكة ، فإنّه يجب عليه العود إلى منى ورميها ، وليس عليه كفّارة ، إذا كانت أيّام التشريق لم يخرج ، فإن ذكرها بعد خروج أيام التشريق ، فالواجب عليه تركها إلى القابل ، ورميها في أيام التشريق ، إن تمكن من العود ، وإلا استناب من يرميها عنه.

وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه ، حكم الرجل سواء.

والترتيب واجب في الرمي ، يجب أن يبدأ بالجمرة التي تلي المشعر ، وبعض أصحابنا يسميها العظمى ، ثمّ الوسطى ، ثمّ جمرة العقبة ، فمن خالف شيئا منها أو رماها منكوسة ، كان عليه الإعادة.

ومن بدأ بجمرة العقبة ، ثم الوسطى ثم الأولى ، أعاد على الوسطى ، ثم جمرة العقبة.

فإن نسي ، فرمى الجمرة الأولى ، بثلاث حصيات ، ورمى الجمرتين

ص: 609


1- المصباح : نوافل الجمعة ، ص 309 الطبع الحديث.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجمعة وأحكامها.

الأخريين على التمام ، كان عليه أن يعيد عليها كلّها.

وإن كان قد رمي الجمرة الأولى ، بأربع حصيات ، ثمّ رمى الجمرتين على التمام ، كان عليه أن يعيد على الاولى ، بثلاث حصيات ، وكذلك إن كان قد رمى من الوسطى أقل من أربع حصيات ، أعاد عليها ، وعلى ما بعدها ، وإن رماها بأربع ، تمّمها ، وليس عليه الإعادة على ما بعدها.

فالاعتبار بحصول رمي أربع حصيات ، فإذا كان كذلك ، تمّمها ولا يجب عليه الإعادة على ما بعدها ، فإن كان قد رمى أقل من أربع حصيات ، على إحدى الجمرات تممها ، وأعاد مستأنفا على ما بعدها.

ومن رمى جمرة بست حصيات ، وضاعت واحدة ، أعاد عليها بالحصاة ، وإن كان من الغد.

ولا يجوز أن يأخذ من حصى الجمار الذي قد رمى به ، فيرمي بها.

ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة ، ولم يعلم من أيّ الجمار هي ، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة.

فإن رمى بحصاة ، فوقعت في محمله ، أعاد مكانها حصاة أخرى.

فإن أصابت إنسانا ، أو دابة ، ثم وقعت على الجمرة ، فقد أجزأه إذا وقعت باعتماده.

ويجوز أن يرمي راكبا ، وماشيا.

ويجوز الرمي عن العليل ، والمبطون ، والصبي ، ولا بدّ من إذنه إذا كان عقله ثابتا.

ويستحب أن يترك الحصى في كفه ، ثم يؤخذ ويرمي به.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى ، عقيب خمس عشرة صلاة ، من الفرائض ، يبدأ بالتكبير يوم النحر بعد الظهر إلى صلاة الفجر ، من اليوم الثالث ، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات ، يبدأ عقيب الظهر من يوم النحر ، إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني ، من أيام التشريق ، ويقول في التكبير : « اللّه أكبر ، اللّه

ص: 610

أكبر ، لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، اللّه أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

ومن أصحابنا ، من قال : إنّ التكبير واجب ، ومنهم من قال : إنّه مسنون ، وهو الأظهر الأصح ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العبادات ، فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل ، من كتاب أو سنّة ، متواترة ، أو إجماع ، والإجماع ، غير حاصل ، لأنّ بين أصحابنا خلافا في ذلك ، على ما بيّناه ، والكتاب خال من ذلك ، وكذلك السنة المتواترة ، بقي معنا ، الأصل براءة الذمة.

وإلى هذا القول ، ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في مبسوطة (1) ، وذهب في جمله وعقوده (2) ، إلى أنّه واجب ، وكذلك في استبصاره (3) وإلى الوجوب ، ذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه.

ولا يكبر عندنا عقيب النوافل ، ولا في الطرقات ، والشوارع لأجل هذه الأيام ، خصوصا ، ولا يكبّر أيضا ، قبل يوم النحر ، في شي ء من أيام العشر بحال.

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

ولا بأس أن ينفر الإنسان من منى ، اليوم الثاني من أيام التشريق ، وهو اليوم الثالث من يوم النحر ، فإن أقام إلى النفر الأخير ، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق ، والرابع من يوم النحر ، كان أفضل ، ويوم الحادي عشر ، يسمّى يوم القرّ ، لأنّ الناس يقرون فيه بمنى ، لا يبرحونه ، والثاني عشر ، يوم النفر الأول ، والثالث عشر ، يوم النفر الثاني ، وليلته تسمّى ليلة التحصيب ، لأنّه النفر الأخير.

ص: 611


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، باب 9 فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها.
3- الاستبصار : كتاب الحج ، باب 206 ان التكبير أيام التشريق عقيب الصلوات المفروضات واجب.

والتحصيب يستحب لمن نفر في النفر الثاني ، دون الأول على ما قدّمناه ، وقال شيخنا في مبسوطة : وليلة الرابع ، ليلة التحصيب (1) فإن أراد رحمه اللّه ، الرابع من يوم النحر ، فصحيح ، وإن أراد الرابع عشر ، فغير واضح ، لأنّ التحصيب ، لا يكون إلا لمن نفر في النفر الأخير ، والنفر الأخير ، بلا خلاف من الأمة ، هو اليوم الثالث عشر ، من ذي الحجة ، فإن كان ممن أصاب النساء ، في إحرامه ، أو صيدا ، لم يجز له أن ينفر في النفر الأول ، ويجب عليه المقام إلى النفر الأخير.

وإن أراد أن ينفر في النفر الأول ، فلا ينفر ، إلا بعد الزوال ، إلا أن تدعوه ضرورة إليه ، من خوف ، وغيره ، فإنه لا بأس أن ينفر قبل الزوال ، وله أن ينفر ما بينه وبين الزوال ، وما بينه وبين غروب الشمس ، فإذا غابت الشمس لم يجز له النفر والبيت بمنى إلى الغد.

وإذا نفر في النفر الأخير ، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشمس ، أيّ وقت شاء ، فإن لم ينفر ، وأراد المقام بمنى ، جاز له ذلك ، إلا الإمام خاصة ، فإنّ عليه أن يصلّي الظهر بمكة.

ومن نفر من منى ، وكان قد قضى مناسكه كلها ، جاز له أن لا يدخل مكة ، وإن كان قد بقي عليه شي ء من المناسك ، فلا بدّ له من الرجوع إليها ، والأفضل على كل حال ، الرجوع لتوديع البيت ، وطواف الوداع.

ويستحب أن يصلّي الإنسان بمسجد منى ، وهو مسجد الخيف ، والخيف سفح الجبل ، لأنّ كل سفح جبل عند أهل اللسان ، يسمّى خيفا ، فلما كان هذا المسجد في سفح الجبل ، سمّي مسجد الخيف ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، يسجد عند المنارة ، التي في وسط المسجد ، وفوقها إلى القبلة ، نحوا من

ص: 612


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج ونزول منى.

ثلاثين ذراعا ، وعن يمينها ، ويسارها ، مثل ذلك ، فإن استطعت أن يكون مصلاك فيه ، فافعل ، ويستحب أن يصلّي فيه ست ركعات.

فإذا خرج من منى ، وبلغ مسجد الحصباء ، وهو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فليدخله ، وليسترح فيه قليلا ، وليستلق على قفاه ، وليس لهذا المسجد المذكور في الكتب أثر اليوم.

وانّما المستحب التحصيب ، وهو نزول الموضع ، والاستراحة فيه ، اقتداء. بالرسول صلى اللّه عليه وآله على ما تقدّم ذكرنا له ، وهو انّما يستحب لمن نفر في النفر الثاني ، دون الأول ، وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، على ما قدّمناه وحققناه ، قال الثوري : سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ، ما كانت العرب تسمّيه؟ فقال : ليس عندي من ذلك علم ، ولقيت ابن مناذر ، وأخبرته بذلك ، فعجب وقال : أسقط مثل هذا على أبي عبيدة ، وهي أربعة أيام متواليات ، كلها على الراء ، يوم النحر ، والثاني يوم القر ، والثالث يوم النفر والرابع يوم الصدر (1) فحدثت أبا عبيدة ، فكتبه عني ، عن ابن مناذر.

قال محمّد بن إدريس : وقد يوجد في بعض نسخ المبسوط ، أنّ يوم الحادي عشر ، يوم النفر ، وهذا خطأ من الكتّاب ، والنسّاخ ، إن كانوا غيّروا ذلك ، أو إغفال في التصنيف ، فما المعصوم ، إلا من عصمه اللّه ، وابن مناذر هذا شاعر ، لغوي ، بصري ، صاحب القصيدة الدالية الطويلة :

كلّ حي لاقى الحمام فمودي

فإذا جاء إلى مكة ، فليدخل الكعبة ، إن تمكن من ذلك ، سنّة واستحبابا ، دون أن يكون ذلك فرضا وإيجابا ، سواء كان الإنسان صرورة ، أو غير صرورة ، إلا انّه يتأكد في حقّ الصرورة.

ص: 613


1- الصدر بفتحتين ، رجوع المسافر من مقصده ورجوع الحاج عن الحج ويوم الرابع من يوم النحر.

فإذا أراد دخول الكعبة ، فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكدة ، فإذا دخلها فلا يمتخط فيها ، ولا يبصق ، ولا يجوز دخولها بحذاء على ما روي (1) ، وانّما هو على تغليظ الكراهة ، ويقول إذا دخلها : اللّهم انّك قلت « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » فآمني من عذابك ، عذاب القبر.

ثم يصلّي بين الأسطوانتين ، على الرخامة الحمراء ، ركعتين ، يقرأ في الأولى منهما ، حم السجدة ، وفي الثانية عدد آياتها ، ثم ليصلّ في زوايا البيت كلها ، ثم يقول : اللّهم من تهيّأ وتعبّأ إلى آخر الدعاء.

فإذا صلّى عند الرخامة الحمراء ، على ما قدّمناه ، وفي زوايا البيت ، قام فاستقبل الحائط ، بين الركن اليماني والغربي ، يرفع يديه عليه ، ويلتصق به ، ويدعو ، ثم يتحوّل إلى الركن اليماني ، فيفعل به مثل ذلك ، ثمّ يفعل مثل ذلك بباقي الأركان ، ثمّ ليخرج.

ويكره أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة ، مع الاختيار ، فإن اضطر إلى ذلك ، لم يكن عليه بأس ، فأمّا النوافل ، فمرغّب الصلاة فيها شديد الاستحباب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته في هذا الباب : ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة (2) وإليه يذهب في مسائل خلافه (3) والصحيح أنّه مكروه ، غير محظور ، وقد ذهب إلى الكراهة ، في جمله وعقوده (4) ، وهو الأظهر بين أصحابنا ، وما ورد من لفظ لا يجوز ، نحمله على تغليظ الكراهة ، دون الحظر ، لأنّ الشي ء إذا كان عندهم شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، وقد ذكرنا ذلك ، وأشبعنا القول فيه ، فيما مضى ، من كتاب الصلاة.

ص: 614


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 36 من أبواب مقدمات الطواف ، ح 1.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب النفر من منى ودخول الكعبة.
3- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 168.
4- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، فصل فيما يجوز الصلاة عليه من المكان.

فإذا خرج من البيت ، عاد ، فاستقبله ، وصلّى عن يمينه ركعتين.

ويستحب له أن يلح بالدعاء ، عند الحطيم ، فإنّه أشرف بقعة على وجه الأرض ، والحطيم ما بين الحجر الأسود ، وباب الكعبة ، وسمّي حطيما ، لأنّ ذنوب بني آدم ، تنحطم عنده ، على ما روي في الأخبار (1).

فإذا أراد الخروج من مكة ، جاء الى البيت ، فطاف به ، أسبوعا ، طواف الوداع ، سنّة مؤكدة ، فإن استطاع أن يستلم الحجر ، والركن ، في كل شوط ، فعل ، وإن لم يتمكن ، فعل ذلك في ابتداء طوافه ، وانتهائه ، ثمّ يأتي المستجار ، فيصنع عنده ، كما صنع يوم قدم مكة ، ويتخير لنفسه من الدعاء ، ما أراد ، ثم يستلم الحجر الأسود ، ثمّ يودع البيت ، فيقول : اللّهم لا تجعله آخر العهد من بيتك ، ثمّ ليأت زمزم ، فيشرب من مائها ، وبئر زمزم ، بئر لا غير (2) ، حكمها حكم الآبار ينجسها ، ما ينجس الآبار ، ويطهّرها ، ما يطهّر الآبار ، وسمّيت بهذا الاسم قال أبو الحسن ، علي بن الحسين المسعودي ، في كتابه المترجم بمروج الذهب ومعادن الجوهر ، في التاريخ ، وغيره - وهو كتاب حسن كثير ، (3) الفوائد ، وهذا الرجل من مصنّفي أصحابنا ، معتقد للحق ، له كتاب المقالات - قال ، وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام ، وتطوف به ، تعظيما لجدّها إبراهيم ، وتمسّكا بدينه ، وحفظا لأنسابها ، وكان آخر من حج منهم ، ساسان بن بابك ، جد أردشير بن بابك ، أول ملوك ساسان كان وأبوهم ، الذي يرجعون إليه ، كرجوع الملوك المروانية ، إلى مروان بن الحكم ، وخلفاء العبّاسين ، إلى العبّاس بن عبد المطلب ، فكان ساسان إذا أتى البيت ، طاف به ، وزمزم على بئر إسماعيل ، فقيل : انّما سمّيت زمزم ، لزمزمته عليها ، هو وغيره ، من فارس ، وهذا يدل على كثرة ترادف هذا الفعل منهم ، على هذه البئر ، وفي ذلك يقول الشاعر على قديم الزمان :

ص: 615


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 29 ، ح 14
2- في ط وج
3- في ط وج : حسن كبير.

زمزمت الفرس على زمزم

وذاك من سالفها الأقدم

ثم ليخرج ويقول : آئبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون ، إلى ربنا راغبون إلى ربّنا راجعون.

فإذا خرج من باب المسجد ، فليكن خروجه ، من باب الحنّاطين ، وهي باب بني جمح ، قبيلة من قبائل قريش ، وهي بإزاء الركن الشامي ، من أبواب المسجد الحرام ، على التقريب ، فيخر ساجدا ، ويقوم مستقبل الكعبة ، فيقول : اللّهم انّي أنقلب على لا إله إلا اللّه.

ومن لم يتمكن من طواف الوداع ، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج ، لم يكن عليه شي ء.

وإذا أراد الخروج من مكة ، فالمستحب له أن يشتري بدرهم تمرا ، يتصدق به ، على ما وردت الأخبار بذلك (1).

باب فرائض الحجّ وتفصيل ذلك

قد ذكرنا فرائض الحج ، فيما تقدّم ، في اختلاف ضروب الحج ، وفرّقنا بين الأركان ، وما ليس بركن ، ونحن الآن ، نذكر تفصيل أحكامها ، إن شاء اللّه أمّا النية ، فهي ركن ، في الأنواع الثلاثة ، من تركها فلا حج له ، عامدا كان ، أو ناسيا ، إذا كان من أهل النية ، فإن لم يكن من أهلها ، أجزأت فيه نية غيره عنه ، وذلك مثل الصبي ، يحرم عنه وليه ، وينوي ، وينعقد إحرامه عندنا ، فعلى هذا إذا فقد النية ، لكونه سكران ، وإن حضر المشاهد ، وقضى المناسك ، لم يصح حجه بحال.

ثم الإحرام من الميقات ، وهو ركن ، من تركه متعمدا ، فلا حج له ، وإن

ص: 616


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب العود إلى منى.

نسيه ثم ذكر ، وعليه وقت ، رجع وأحرم منه ، فإن لم يمكنه ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه ، فإن لم يذكر حتى قضى المناسك كلّها ، روي في بعض الأخبار (1) أنّه لا شي ء عليه وتم حجه.

والتلبيات الأربع ، فريضة ، وقال بعض أصحابنا : هي ركن ، وقال بعضهم : انّها غير ركن ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مبسوطة (2) إلا أنّه قال : إن تركها متعمدا ، فلا حجّ له ، إذا كان قادرا عليها ، وكذلك قال في نهايته (3).

قال محمّد بن إدريس : فهذا حدّ الركن ، إن تركه متعمدا ، بطل حجّه ، بخلاف طواف النساء ، لأنّ طواف النساء فرض ، وليس بركن ، لا يجب على من أخل به متعمدا ، اعادة الحج ، بغير خلاف.

ثم قال شيخنا أبو جعفر : وإن تركها ناسيا ، لبّى حين ذكر ، ولا شي ء عليه (4).

قال محمّد بن إدريس : إحرامه ما انعقد ، إذا لم يلبّ ، فيكون قد ترك الإحرام ناسيا ، لا أنّه أحرم ، ونسي التلبية ، بل إحرامه ما انعقد ، إذا كان متمتعا ، أو مفردا.

والطواف بالبيت ، إن كان متمتعا ثلاثة أطواف ، أولها : طواف العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهو ركن فيها ، فإن تركه متعمدا ، بطلت متعته ، وإن تركه ناسيا أعاد.

والثاني : طواف الزيارة ، الذي هو طواف الحجّ ، إن تركه متعمدا فلا حج له ، فإن تركه ناسيا ، أعاده على ما مضى القول فيه.

والثالث : طواف النساء ، فهو فرض ، وليس بركن ، فإن تركه متعمدا ، لم

ص: 617


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب المواقيت.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

تحل له النساء ، حتى يقضيه ، ولا يبطل حجه ، وإن تركه ناسيا ، قضاه (1) ، أو يستنيب فيه.

وإن كان قارنا أو مفردا ، طوافان ، طواف الحج ، وطواف النساء ، وحكمهما ما قلناه في المتمتع.

ويجب مع كل طواف ، ركعتان ، على الصحيح من الأقوال ، عند المقام ، وهما فرضان ، فإن تركهما متعمدا ، قضاهما في ذلك المقام ، فإن خرج ، سأل من ينوب عنه فيهما ، ولا يبطل حجه.

فإن قال قائل : أصحابكم يقولون في كتبهم ، الحاج المتمتع يجب عليه ثلاثة أطواف ، والقارن والمفرد طوافان ، ولو قالوا : يجب على القارن والمفرد أربعة أطواف ، والمتمتع ثلاثة أطواف ، كان هو الصواب ، لأنّ القارن والمفرد ، عليهما مع طوافيهما الذين ذكرتموهما ، طوافان آخران ، أحدهما طواف العمرة المبتولة ، والآخر طواف النساء لها ، فكيف الجواب؟

قلنا : قول أصحابنا سديد في موضعه ، لأنّهم قالوا يجب على الحاج القارن ، والمفرد ، ويذكرون فرائض الحج ، والمعتمر عمرة مبتولة ، ليس بحاج ، ولا العمرة المبتولة حج ، وانّما هي مقطوعة عن الحج ، فلهذا قالوا مبتولة ، أي مقطوعة ، لأنّ البتل القطع ، وليس كذلك العمرة المتمتع بها إلى الحج ، لأنّها حج ، وحكمها حكم الحج ، على ما قدّمناه ، ولقوله عليه السلام : دخلت العمرة في الحج هكذا ، وشبّك بين أصابعه (2).

والسعي بين الصفا والمروة ركن ، فإن كان متمتعا يلزمه سعيان ، أحدهما للعمرة ، والآخر للحج ، وإن كان مفردا ، أو قارنا ، سعي واحد للحج ، فإن تركه متعمدا ، فلا حج له ، وإن تركه ناسيا ، قضاه أيّ وقت ذكره ، إذا كان ذلك في أشهر الحج.

ص: 618


1- ج ، ط : قضاه ، ولا تحل له أيضا النساء ، حتى يقضيه.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 3 من أبواب أقسام الحج ، ح 121.

والوقوف بالموقفين ، عرفات ، والمشعر الحرام ، ركنان ، من تركهما ، أو واحدا منهما ، متعمدا فلا حج له ، فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا ، وجب عليه أن يعود ، فيقف بها ، ما بينه وبين طلوع الفجر ، من يوم النحر ، فإن لم يذكر إلا بعد طلوع الفجر ، وكان قد وقف بالمشعر ، فقد تم حجه ، ولا شي ء عليه ، وإن لم يكن وقف بالمشعر في وقته ، وجب عليه اعادة الحج ، لأنّه لم يحصل له أحد الموقفين في وقته.

وإذا ورد الحاج ليلا ، وعلم أنّه إن مضى إلى عرفات ، وقف (1) بها ، وإن كان قليلا ، ثم عاد إلى المشعر ، قبل طلوع الشمس ، وجب عليه المضي إليها ، والوقوف بها ، ثم يعود إلى المشعر ، فإن غلب في ظنّه ، أنّه إن مضى إلى عرفات ، لم يلحق المشعر ، قبل طلوع الشمس ، اقتصر على الوقوف بالمشعر ، وقد تمّ حجه ، ولا شي ء عليه.

ومن أدرك المشعر ، قبل طلوع الشمس ، فقد أدرك الحج ، فإن أدركه بعد طلوعها ، فقد فاته الحج.

ومن وقف بعرفات ، ثمّ قصد المشعر ، فعاقه في الطريق عائق ، فلم يلحق إلى قرب الزوال ، فقد تمّ حجّه ، لأنّه حصل له الوقوف بأحد الموقفين في وقته.

ومن لم يكن وقف بعرفات ، وأدرك المشعر بعد طلوع الشمس ، فقد فاته الحج ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

وذهب السيد المرتضى في انتصاره (2) إلى أنّ وقته ، جميع اليوم من يوم العيد ، فمن أدرك المشعر ، قبل غروب الشمس من يوم العيد ، فقد أدرك المشعر.

ومن فاته الحج ، أقام على إحرامه ، إلى انقضاء أيام التشريق ، ثم يجي ء إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويسعى ، ويتحلل بعمرة ، وإن كان قد ساق معه هديا ، نحره بمكة ، وعليه الحج من قابل ، إن كانت حجة الإسلام ، وإن كانت تطوعا ،

ص: 619


1- في ط وج : ووقف
2- الانتصار : كتاب الحج ، مسألة 2.

كان بالخيار ، إن شاء حج ، وإن شاء لم يحج ، ولا يلزمه لمكان الفوات ، حجة أخرى ، لأنّه لم يفسدها.

ومن فاته الحج ، سقطت عنه توابعه ، من الرمي ، وغير ذلك ، وانّما عليه المقام بمنى استحبابا ، وليس عليه بها حلق ، ولا تقصير ، ولا ذبح ، وانّما يقصّر إذا تحلل بعمرة ، بعد الطواف والسعي ، ولا يلزمه دم ، لمكان الفوات.

ومن كان متمتعا ، ففاته الحجّ ، فإن كانت حجّة الإسلام ، فلا يقضيها ، إلا متمتعا ، لأنّ ذلك فرضه ، ولا يجوز غيره ، ويحتاج إلى أن يعيد العمرة ، في أشهر الحج ، في السنة المقبلة ، فإن لم تكن حجة الإسلام ، أو كان من أهل مكة وحاضريها ، جاز أن يقضيها مفردا ، أو قارنا.

وإن فاته القران ، أو الإفراد ، جاز أن يقضيه متمتعا ، لأنّه أفضل ، بعد أن يكون قد حجّ حجة الإسلام متمتعا ، إن كان فرضه التمتع.

والمواضع التي يجب أن يكون الإنسان فيها مفيقا ، حتى يجزيه ، أربعة : الإحرام ، والوقوف بالموقفين ، والطواف ، والسعي. وإن كان مجنونا أو مغلوبا على عقله ، لم ينعقد إحرامه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وما عدا ذلك ، يصح منه (1) والأولى عندي ، أنّه لا يصح منه شي ء من العبادات ، والمناسك ، إذا كان مجنونا ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله قال : الأعمال بالنيات ، وانّما لامرئ ما نوى (2) والنية لا تصح منه ، وقال تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (3) فنفى تعالى أن يجزي أحدا بعمله ، إلا ما أريد وطلب به وجه ربه الأعلى ، والمجنون لا إرادة له.

ص: 620


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات
3- الليل : 19.

وصلاة الطواف ، حكمها حكم الأربعة ، سواء ، وكذلك طواف النساء.

وكذلك حكم النوم سواء وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : والأولى ، أن نقول : يصح منه الوقوف بالموقفين ، وإن كان نائما ، لأنّ الغرض الكون فيه ، لا الذكر (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : هذا غير واضح ، ولا بدّ له من نية القربة في الوقوف ، بغير خلاف ، لما قدّمناه من الأدلة ، والإجماع أيضا حاصل عليه ، إلا أنّه قال في نهايته : ومن حضر المناسك كلها ، ورتبها في مواضعها ، إلا أنّه كان سكران ، فلا حج له ، وكان عليه الحج من قابل (2) وهذا هو الواضح الصحيح ، الذي يقتضيه الأصول.

باب مناسك النساء في الحجّ والعمرة

الحج واجب على النساء ، كوجوبه على الرجال ، لأنّ الآية عامة ، والإجماع منعقد عليه ، وشرائط وجوبه عليهن شرائط وجوبه عليهم سواء ، وليس من شرطه عليهن وجود محرم ، ولا زوج ، ولا طاعة للزوج عليها في حجة الإسلام ، ومعنى ذلك ، أنّها إذا أرادت حجة الإسلام ، فليس لزوجها منعها من ذلك ، وينبغي أن يساعدها على الخروج معها ، فإن لم يفعل ، خرجت مع بعض الرجال الثقات ، من المؤمنين ، وإن أرادت أن تحج تطوعا ، لم يكن لها ذلك ، وكان له منعها منه ، وإن نذرت الحج ، فإن كان النذر قبل العقد عليها أو بعد العقد ، وكان بإذن زوجها كان حكمه حكم حجة الإسلام ، وإن كان بغير اذنه لم ينعقد نذرها.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجمل والعقود : وما يلزم الرجال بالنذر ، يلزم مثله النساء (3) وأطلق ذلك ، ولم يقيده ، ولا فصّله ، وقيّد ذلك

ص: 621


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر مناسك النساء.

وفصله - على ما فصّلناه وقيدناه - في مبسوطة (1) وهو الحق اليقين.

وإذا كانت في عدة الطلاق ، جاز لها أن تخرج في حجة الإسلام ، سواء كانت للزوج عليها رجعة ، أو لم يكن ، وليس لها أن تخرج في حجة التطوع ، إلا في التطليقة التي لا يكون للزوج عليها فيها رجعة.

فأمّا عدة المتوفّى عنها زوجها ، أو عدة الفسخ ، فإنّه يجوز لها أن تخرج ، على كل حال ، فرضا كان الحج ، أو نفلا.

وإذا حجّت المرأة بإذن الزوج ، حجة التطوع ، أو بلا إذنه حجة الإسلام ، كان قدر نفقة الحضر عليه ، وما زاد لأجل السفر عليها ، فإن أفسدت حجّها ، بأن مكنت زوجها من وطئها مختارة ، قبل الوقوف بالمشعر ، لزمها القضاء ، وكان في القضاء مقدار نفقة الحضر على الزوج ، وما زاد على ذلك فعليها ، في مالها ، ويلزمها مع ذلك كفارة ، وهي بدنة ، في مالها خاصّة.

وقد بيّنا كيفية إحرامها ، في باب الإحرام ، وانّ عليها أن تحرم من الميقات ، ولا تؤخره ، فإن كانت حائضا توضّأت ، وضوء الصلاة ، واحتشت ، واستثفرت ، واغتسلت ، وأحرمت ، إلا أنّها لا تصلّي ركعتي الإحرام.

فإن قيل : الحائض لا يصح منها الغسل ، ولا الوضوء.

قلنا : لا يصحّان منها على وجه يرفعان الحدث ، وأمّا على غير ذلك الوجه ، فإنّهما يصحّان منها بغير خلاف ، وغسل الإحرام ، لا يرفع الحدث ، وانّما هو للتنظيف على وجه العبادة.

وكذلك يصح منها غسل الأعياد ، والجمع ، فإن تركت الإحرام ، ظنا منها أنّه لا يجوز لها ذلك ، حتى جازت الميقات ، فعليها أن ترجع إليه ، وتحرم منه مع الإمكان ، فإن لم يمكنها ، أحرمت من موضعها ، ما لم تدخل مكة ، فإن

ص: 622


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر حكم النساء في الحج.

دخلتها ، خرجت إلى خارج الحرم ، وأحرمت من هناك ، فإن لم يمكنها ، أحرمت من موضعها.

وإذا دخلت المرأة مكة ، متمتعة ، طافت بالبيت ، وسعت بين الصفا والمروة ، وقصّرت ، وقد أحلّت من كل شي ء أحرمت منه ، مثل الرجال سواء.

فإن حاضت قبل الطواف ، انتظرت ما بينها ، وبين الوقت الذي تخرج إلى عرفات ، وقد بيّنا فيما مضى ، فإن طهرت ، طافت وسعت ، وإن لم تطهر ، فقد مضت متعتها ، وتكون حجة مفردة ، تقضي المناسك كلّها ، ثمّ تأتي بالعمرة بعد ذلك مبتولة ، ويكون حكمها حكم من حج مفردا ، ولا هدي عليها.

وإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ، ثمّ حاضت ، كان حكمها حكم من لم يطف ، وقد قدّمناه.

وإذا حاضت ، وقد طافت أربعة أشواط ، قطعت الطواف ، وسعت ، وقصّرت ، ثم أحرمت بالحجّ وقد تمّت متعتها ، فإذا فرغت من المناسك ، وطهرت ، تمّمت الطواف ، بانية على ما طافت ، غير مستأنفة له ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر ، وذهب إليه في كتبه.

والذي تقتضيه الأدلة ، أنّها إذا جاءها الحيض ، قبل جميع الطواف ، فلا متعة لها ، وانّما ورد بما قاله شيخنا أبو جعفر خبران مرسلان ، فعمل عليهما ، وقد بيّنا ، أنّه لا يعمل بأخبار الآحاد ، وإن كانت مسندة ، فكيف بالمراسيل.

وإن طافت الطواف كله ، ولم تصلّ عند المقام ، ثمّ حاضت ، خرجت من المسجد ، وسعت ، وقصّرت ، وأحرمت بالحج ، وقضت المناسك ، كلّها ، ثمّ تقضي الركعتين إذا طهرت.

وإذا طافت بالبيت ، وسعت بين الصفا والمروة ، وقصّرت ، ثم أحرمت بالحج ، وخافت أن يجيئها الحيض ، فيما بعد فلا تتمكن من طواف الزيارة ، وطواف النساء ، جاز لها أن تقدّم الطوافين معا ، والسعي ، ثمّ تخرج فتقضي باقي

ص: 623

المناسك ، وتمضي إلى منزلها ، على ما روي في شواذ الأخبار (1).

وقد ذهب إلى ذلك ، شيخنا أبو جعفر ، في نهايته (2) ورجع عنه في مسائل الخلاف (3) وقال : روى أصحابنا ، رخصة في تقديم الطواف والسعي ، قبل الخروج إلى منى ، وعرفات.

والصحيح أنّه لا يجوز تقديم المؤخّر ، ولا تأخير المقدّم ، من أفعال الحج ، لأنّه مرتب ، هذا هو الذي تقتضيه أصول المذهب ، والإجماع منعقد عليه ، والاحتياط يقتضيه أيضا ، فلا يرجع عن المعلوم إلى المظنون ، وأخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ويجوز للمستحاضة ، أن تطوف بالبيت ، وتصلّي عند المقام ، وتشهد المناسك كلّها ، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة ، لأنّها بحكم الطاهرات.

فإذا أرادت الحائض وداع البيت ، فلا تدخل المسجد ، بل تودّع من أدنى باب من أبواب المسجد ، وتنصرف والمراد بأدنى باب يعني أقرب باب من أبواب المسجد إلى الكعبة.

وإذا كانت المرأة عليلة ، لا تقدر على الطواف ، طيف بها ، وإن كان بها علّة تمنع من حملها ، والطواف بها ، طاف عنها وليّها ، وليس عليها شي ء.

وليس على النساء رفع الصوت بالتلبية ، لا وجوبا ، ولا استحبابا ، ولا كشف الرأس.

ويجوز لها لبس المخيط ، وقال شيخنا في نهايته : يحرم ، على النساء في الإحرام ، من لبس المخيط ، مثل ما يحرم على الرجال (4). وقد رجع عن ذلك في مبسوطة ، وقال : يجوز لهن لبس المخيط (5).

ص: 624


1- الوسائل : الباب 64 من أبواب الطواف.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب مناسك النساء في الحج والعمرة.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 175.
4- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.
5- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر حكم النساء في الحج.

وكذلك يجوز لها تظليل المحمل وليس عليها حلق ، ولا دخول البيت مؤكدا ، فإن أرادت دخول البيت ، فلتدخله إذا لم يكن زحام.

وقد روي أنّ المستحاضة ، لا يجوز لها دخول البيت على حال (1) وذلك على تغليظ الكراهة ، لا على جهة الحظر ، لأنّا قد بيّنا أنّها بحكم الطاهرات.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الأول من مسائل خلافه (2) في كتاب الحج ، فقال : مسألة ، يجوز للمرأة أن تخرج في حجّة الإسلام ، وإن كانت معتدة ، أيّ عدة كانت ، ومنع الفقهاء كلّهم من ذلك ، ثمّ استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وعموم الآية ، لم يذكر فيها ، إلا أن تكون في العدة ، فمن منع في هذه الحال ، فعليه الدلالة ، ثمّ ذهب في الجزء الثالث ، في مسائل خلافه ، في كتاب العدد ، فقال : مسألة ، إذا أحرمت المرأة بالحج ، ثم طلّقها زوجها ، ووجب عليها العدة ، فإن كان الوقت ضيّقا بحيث تخاف فوت الحج إن أقامت ، فإنّها تخرج ، وتقضي حجّها ، ثم تعود ، فتقضي باقي العدة ، إن بقي عليها شي ء ، وإن كان الوقت واسعا ، أو كانت محرمة بعمرة ، فإنّها تقيم ، وتقضي عدتها ، ثم تحج ، وتعتمر (3) ثمّ قال : دليلنا قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (4) ولم يفصّل.

قال محمّد بن إدريس : الصحيح ما قاله وذهب إليه في المسألة الأولى التي ذكرها في كتاب الحج ، لأنّ في حجّة الإسلام تخرج بغير إذن الزوج ، بغير خلاف بيننا ، والآية أيضا دليل على ذلك ، وإجماعنا ، وقوله عليه السلام : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه ، فإذا خرجن فليخرجن تفلات » بالتاء المنقطة من فوقها نقطتين المفتوحة ، والفاء المكسورة ، أي غير متطيّبات.

ص: 625


1- الوسائل الباب 91 من أبواب الطواف.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 329.
3- الخلاف : كتاب العدة ، مسألة 25
4- البقرة : 196.

باب الاستيجار للحج ومن يحج عن غيره

من وجب عليه الحج ، لا يجوز له أن يحج عن غيره ، ولا تنعقد الإجارة إلا بعد أن يقضي حجه الذي وجب عليه ، فإذا أتى به ، جاز له بعد ذلك ، أن يحج عن غيره ، سواء وجبت عليه ، واستقرت ، أو وجبت ، ولم تستقر ، وكان متمكنا من المضي ، ثم فرّط ، فأمّا إن وجبت عليه الحجّة ، ولم يفرّط في المضي ، ثم حدث ما يمنعه من المضي ، ولم يتمكن منه ، ثمّ لم يقدر على الحج فيما بعده ، ولا حصلت له شرائطه ، فإنّه يجوز له أن يحج عن غيره ، لأنّه لم تستقر في ذمته ، فأمّا من استقرت حجة الإسلام في ذمته ، بأن فرّط فيها ، فلا يجوز ان يحج عن غيره ، سواء افتقر فيما بعد ، أو لم يفتقر ، تمكن من المضي ، أو لم يتمكن. فأمّا من لم يجب عليه ، ولم يتمكن من الحج ، ولا حصلت له شرائطه ، يجوز له أن يحج عن غيره ، فإن تمكن بعد ذلك من المال ، كان عليه أن يحج عن نفسه.

وينبغي لمن يحج عن غيره ، أن يذكره في المواضع كلّها باللفظ ، مندوبا لا وجوبا ، فيقول عند الإحرام : اللّهم ما أصابني من تعب ، أو نصب ، أو لغوب ، فأجر فلان بن فلان ، وآجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التلبية ، والطواف ، والسعي ، والموقفين ، وعند الذبح ، وعند قضاء جميع المناسك ، فإن لم يذكره في هذه المواضع باللفظ ، وكانت نيته الحج عنه ، ونوى ذلك بقلبه ، دون لسانه ، فقد أجزأ ذلك.

ومن أمر غيره أن يحج عنه متمتعا ، فليس له أن يحج عنه مفردا ، ولا قارنا ، فإن حج عنه كذلك ، لم يجزئه ، وكان عليه الإعادة ، ان كانت الحجة المستأجر لها غير معيّنة بزمان ، بل كانت الإجارة في الذمة غير مقيدة بزمان ، فإن كانت مقيدة بزمان ، انفسخت الإجارة ، ووجب عليه ردّ جميع الأجرة ، وكان المستأجر بالخيار ، بين أن يستأجره هو أو غيره.

ص: 626

وإن أمره أن يحج عنه مفردا ، أو قارنا ، جاز له أن يحج عنه متمتعا ، لأنّه يعدل إلى ما هو الأفضل ، هكذا رواية أصحابنا (1) وفتياهم.

وتحقيق ذلك ، انّ من كان فرضه التمتع ، فحج عنه قارنا ، أو مفردا ، فإنّه لا يجزيه ، ومن كان فرضه القران ، أو الإفراد ، فحج عنه متمتعا ، فإنّه لا يجزيه إلا أن يكون قد حج المستنيب حجة الإسلام ، فحينئذ يصح إطلاق القول ، والعمل بالرواية ، ويدل على هذا التحرير ، قولهم : وإن أمره أن يحج عنه مفردا ، أو قارنا ، جاز له أن يحج عنه متمتعا ، لأنّه يعدل إلى ما هو أفضل ، فلو لم يكن قد حجّ حجّة الإسلام بحسب فرضه ، وحاله ، وتكليفه ، لما كان التمتع أفضل ، بل كان إن كان فرضه التمتع ، فهو الواجب ، لا يجوز سواه ، وليس لدخول « أفضل » معنى ، لأنّ أفعل ، لا يدخل إلا في أمرين ، يشتركان ثمّ يزيد أحدهما على الآخر ، وكذلك لو كان فرضه القران ، أو الإفراد ، لما كان التمتع أفضل ، بل لا يجوز له التمتع ، فكيف يقال أفضل ، فيخص إطلاق القول ، والأخبار بالأدلة ، لأنّ العموم قد يخصّ بالأدلة ، بغير خلاف.

ومن أمر غيره أن يحج عنه على طريق بعينها ، جاز له أن يعدل عن تلك الطريق إلى طريق آخر.

و (2) إذا أمره أن يحج عنه بنفسه ، فليس له أن يأمر غيره بالنيابة عنه.

وإن جعل الأمر في ذلك إليه ، ووكله إليه ، إمّا بنفسه ، أو يستأجر عنه ، ويكون وكيلا له في عقد الإجارة مع غيره ، جاز ذلك.

فاما ان أمره أن يستأجر له ، من يحج عنه فلا يجوز للمأمور أن يحجّ عن الآمر وإذا أخذ حجّة عن غيره ، وكانت معينة بسنة معلومة ، فلا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى لتلك السنة ، لأنّ الإجارة معينة بزمان ، فلا يصح أن يعمل فيه عملا لغير

ص: 627


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب النيابة في الحج ، ح 1
2- في ط وج : وأما.

المستأجر ، لأنّ منافعه قد استحقت عليه في ذلك الزمان ، فإن خالف وخرج الزمان ، والسنة المعينة ، ولم يحرم ، انفسخت الإجارة ، لأنّ الوقت الذي عيّنه قد فات ، وإن أخذ حجة ، ليحج في غير تلك السنة ، فلا بأس.

وإن كانت الحجة في الذمة ، لا معيّنة بزمان ، بأن يقول استأجرتك على أن تحج عني ، صح العقد ، واقتضى التعجيل ، في هذا العام.

وإن شرط التأجيل إلى عام ، أو عامين ، جاز ، فإذا وقع مطلقا ، فانقضت السنة قبل فعل الحج ، لم تبطل الإجارة ، ولا ينفسخ العقد ، لأنّ الإجارة في الذمة لا تبطل بالتأخير ، وليس للمستأجر أن يفسخ الإجارة ، لمكان التأخير ، فإذا أحرم في السنة الثانية ، كان إحرامه صحيحا عمّن استأجره.

إذا مات الأجير ، فإن كان قبل الإحرام ، وجب على ورثته أن يردّوا بمقدار اجرة ما بقي من المسافة ، وإن كان موته بعد الإحرام ، لا يلزمه شي ء ، وأجزأت عن المستأجر ، وسواء كان ذلك قبل استيفاء الأركان ، أو بعدها ، قبل التحلّل ، أو بعده ، وعلى جميع الأحوال ، لعموم الأخبار في ذلك (1).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : فإن مات النائب في الحج ، وكان موته بعد الإحرام ، ودخول الحرم ، فقد سقطت عنه عهدة الحج ، وأجزأ عمن حج عنه ، وإن مات قبل الإحرام ، ودخول الحرم ، كان على ورثته ، إن خلف في أيديهم شيئا مقدار ما بقي عليه من نفقة الطريق ، فراعى دخول الحرم ، والإحرام معا (2). والصحيح ما ذكرناه واخترناه ، وهو مجرّد الإحرام ، دون دخول الحرم ، وإلى هذا القول ذهب في مبسوطة (3) وأفتى ، ودلّ على صحّته ، في مسائل خلافه (4) وهو الصحيح.

ص: 628


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب النيابة في الحج ، إلا أنّ روايات الباب لا تدل على المطلوب بالصراحة
2- النهاية : كتاب الحج ، باب من حج عن غيره.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الاستيجار للحج.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 244.

ومن حجّ عن غيره ، قصد عن بعض الطريق ، كان عليه مما أخذه ، بمقدار ما بقي من الطريق ، اللّهم إلا أن يضمن الحج فيما يستأنف ، ويتولاه بنفسه ، إن كانت السنة معيّنة ، وإن كانت الإجارة في الذمة ، فعلى ما ذكرناه.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته الاعتبار ، انّ المستأجر على الحج ، إذا صدّ ، أو مات قبل الإحرام ، لا يستحق شيئا ، من الأجرة ، لأنّه ما فعل الحج الذي استؤجر عليه ، ولا دخل فيه ، ولا فعل شيئا من أفعاله.

وإلى ما اخترناه ، يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ودلّ على صحته ، إلا أنّه قوّى ما ذهب إليه الصيرفي ، والإصطخري ، صاحبا الشافعي ، من أنه (2) يستحق من الأجرة بمقدار ما قطع من المسافة ، تعليلا منهما ، وتخريجا ، ولا حاجة بنا إلى ذلك ، مع قيام الأدلّة ، على أن المستناب لم يأت بما استنيب فيه ، ولا شيئا من أفعاله. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره ، وهو بمكة ، إلا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطواف بنفسه ، ولا يمكن حمله ، والطواف به ، ومعنى مبطون ، أي به بطن ، وهو الذرب ، وانطلاق الغائط ، وإن كان غائبا ، جاز أن يطاف عنه.

وإذا حج الإنسان عن غيره ، من أخ له ، أو أب ، أو ذي قرابة ، أو مؤمن ، فانّ ثواب ذلك يصل إلى من حج عنه ، من غير أن ينقص من ثوابه شي ء.

وإذا حج عمّن يجب عليه الحج ، بعد موته ، تطوعا منه بذلك ، فإنه يسقط عن الميت بذلك ، فرض الحج ، على ما روى أصحابنا في الأخبار (3).

ومن كان عنده وديعة ، ومات صاحبها ، وله ورثة ، وكان قد وجبت عليه حجة الإسلام ، واستقرت في ذمته ، ولم يحجّها ، جاز له أن يأخذ منها ، بمقدار ما يحج عنه من بلده ، ويرد الباقي ، لأنّ الورثة لا تستحق الميراث ، إلا بعد قضاء

ص: 629


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 243
2- في ط وج : لأنّه.
3- الوسائل : الباب 21 من أبواب وجوب الحج.

الديون ، والحج من جملة الديون (1).

إذا غلب على ظنه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجة الإسلام ، فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه ، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا ، إلا بأمرهم. ولا بأس أن تحج المرأة عن المرأة وعن الرجل ، سواء كانت المرأة النائبة حجّت حجة الإسلام ، أو لم تحج صرورة كانت ، أو غير صرورة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) ، واستبصاره (3) ، ولا بأس أن تحج المرأة عن الرجل ، إذا كانت قد حجت حجة الإسلام ، وكانت عارفة ، وإذا لم تكن حجّت حجة الإسلام ، وكانت صرورة ، لم يجز لها أن تحج عن غيرها على حال ، والأوّل هو الصحيح والأظهر ، وبه تواترت عموم الأخبار (4) ، والإجماع منعقد على جواز الاستنابة في الحج ، فالمخصّص يحتاج إلى دليل ، ولا يجوز أن نرجع في التخصيص إلى خبر واحد ، لا (5) يوجب علما ، ولا عملا ، وتعارضه أخبار كثيرة ، وانّما شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه خصّ عموم الأخبار المتواترة العامة (6) ، بأخبار آحاد ، متوسّطا ، وجامعا بينها ، في كتاب الاستبصار (7) ، ولم يتعرض أحد من أصحابنا لذلك بقول ، ولا تخصيص ، وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي رحمه اللّه في كتابه الأركان ، فإنّه قال : ومن وجب عليه الحج ، فلا يجوز له أن يحج عن غيره ، ولا بأس أن يحج الصرورة عن الصرورة ، إذا لم يكن للصرورة مال يحج به عن نفسه ثم قال في باب مختصر المسائل في الحج ، والجوابات : مسألة أخرى ، فإن سأل سائل ، فقال : لم زعمتم أنّ الصرورة الذي لم يحج حجّة الإسلام ، يجوز له أن يحج عن غيره ، وهو لم يؤدّ فرض نفسه؟ وما الدليل على ذلك؟ جواب ، قيل له :

ص: 630


1- ج : الدين
2- النهاية : كتاب الحج ، باب من حج عن غيره.
3- الاستبصار : كتاب الحج ، الباب 220 باب جواز أن تحجّ المرأة عن الرجل.
4- الوسائل : الباب 8 من أبواب النيابة في الحج
5- في ط وج : لأنّه لا.
6- الوسائل : الباب 8 من أبواب النيابة في الحج
7- الاستبصار : كتاب الحج ، الباب 220 باب جواز أن تحجّ المرأة عن الرجل.

الدليل عليه ، مع ما ورد من النصّ (1) عن أئمة الهدى عليهم السلام ، انّ القضاء عن الحاج ، انّما يحتاج فيه إلى العلم بمناسك الحج ، فإذا وجد من يعلم ذلك ، ويتمكن من إقامة الفرض ، ولم يمنعه منه مانع من فساد في الديانة ، أو لزوم فرض ، أو ما وجب (2) عليه من أداء هذا الفرض ، على وجه القضاء ، فقد لزم القول بجواز ذلك ، وفسد العقد على إبطاله. ثم قال : ويؤيّد هذا ، ما رواه الزهري ، عن سليمان بن بشّار ، عن ابن عبّاس ، قال : حدّثني الفضل بن عباس ، قال : أتت امرأة من خثعم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت : يا رسول اللّه إنّ أبي أدركته فريضة الحج ، وهو شيخ كبير ، لا يستطيع أن يثبت على دابته ، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : فحجّي عن أبيك (3) فأطلق الأمر لها بالحج ، عن غيرها ، ولم يشترط عليه السلام عليها في ذلك ، أن تحج أولا عن نفسها ، ولا جعل الأمر لها بشرط إن كانت حجّت قبل الحال عن نفسها ، فدلّ ذلك على أنّه إذا لم يكن مانع للإنسان من الحج ، وكان ظاهر العدالة ، فله أن يحج عن غيره ، ثم قال : سؤال ، فإن قال قائل : إنّ هذا الخبر يوجب عليكم جواز حج الإنسان عن غيره ، وان كان له مال يستطيع به الحج عن نفسه ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله ، لم يسألها أيضا عن حالها ، ولا شرط لها في ذلك ، عدم استطاعتها بنفسها ، وهذا نقض مذهبكم قال رحمه اللّه : جواب ، قيل له : ليس الأمر على ما ظننت ، وذلك أنّ توجّه الفرض إلى واجد الاستطاعة بظاهر القرآن ، يعني النبي صلى اللّه عليه وآله عن الشرط في ذلك ، وإذا كان المستطيع قد توجّه إليه فرض الحجّ عن نفسه ، ووجب عليه على الفور بما قدمناه ، فقد حظر عليه كل ما أخرجه عن القيام ، بما وجب عليه ، فكانت هذه الدلالة

ص: 631


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب النيابة في الحج
2- في النسخة المعتمدة : أداء ما وجب.
3- مستدرك الوسائل : ج 2 ، باب 5 من أبواب النيابة في الحج.

مغنية عن الشرط ، لما ضمنه ، على ما بيّناه ، ولم يشتبه القول في خلافه ، لتعريه من الدلالة بما شرحناه (1) هذا آخر قول شيخنا المفيد رحمه اللّه.

ولا يجوز لأحد أن يحج عن غيره ، إذا كان مخالفا له في الاعتقاد ، من غير استثناء سواء كان أباه ، أو غيره.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : اللّهم إلا أن يكون أباه ، فإنّه يجوز له أن يحج عنه (2).

وهذه رواية شاذة ، أوردها رضي اللّه عنه في هذا الكتاب ، كما أورد أمثالها ، ممّا لا يعمل به ، ولا يعتقد صحّته ، ولا يفتي به ، إيرادا لا اعتقادا ، لأنّه كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، على ما قدّمنا القول في معناه.

ومتى فعل الأجير من محظورات الإحرام ما يلزمه به كفارة ، كان عليه في ماله ، من الصيد ، واللباس ، والطيب ، وغير ذلك.

وإن أفسد الحجة ، وجب عليه قضاؤها عن نفسه ، وكانت الحجة باقية عليه ، ثم ينظر فيها ، فإن كانت معينة بزمان ، انفسخت الإجارة ، ولزم المستأجر أن يستأجر من ينوب عنه فيها ، وإن لم تكن معينة ، بل تكون في الذمة ، لم تتفسخ ، وعليه أن يأتي بحجة أخرى في المستقبل ، عمن استأجره ، بعد أن يقضي الحجة التي أفسدها عن نفسه ، ولم يكن للمستأجر فسخ هذه الإجارة عليه ، والحجة الأولى مفسودة (3) ، لا تجزئ عنه ، والثانية قضاء عنها ، عن نفسه ، وانّما يقضي عن المستأجر ، بعد ذلك على ما بيّناه.

ومن استأجر إنسانا ليحج عنه متمتعا ، فإن هذي المتعة تلزم الأجير في ماله ، لأنّه متضمّن (4) العقد.

إذا كان عليه حجتان ، حجة النذر ، وحجة الإسلام ، وهو مغصوب ، بالعين

ص: 632


1- مختصر المسائل في الحج : لا يوجد عندنا.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب من حج عن غيره
3- ج : والحجة الأولة فاسدة
4- ج : يتضمن.

غير المعجمة ، والضاد المعجمة ، وهو الذي خلق نضوا ، ولا يقدر على الثبوت على الراحلة ، جاز له أن يستأجر رجلين ، يحجان عنه ، في سنة واحدة ، يكون فعل كل واحد منهما واقعا بحسب نيته ، سبق أو لم يسبق.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحج ، لا يجوز تركها ، ومن تمتع بالعمرة إلى الحج ، سقط عنه فرضها ، وإن لم يتمتع ، كان عليه أن يعتمر ، بعد انقضاء الحج ، إن أراد بعد انقضاء أيام التشريق ، وإن شاء أخّرها ، إلى استقبال المحرّم ، لأنّ جميع أيام السنة وقت لها ، على ما ذكرناه متقدما.

ومن دخل مكة بالعمرة المفردة ، في غير أشهر الحج ، لم يجز له أن يتمتع بها إلى الحج ، فإن أراد التمتع ، كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحج ، وإن دخل مكة بالعمرة المفردة ، في أشهر الحج ، جاز له أن يقضيها ، ويخرج إلى بلده ، أو إلى أيّ موضع شاء ، والأفضل له ، أن يقيم حتى يحج ، ويجعلها متعة.

وإذا دخل مكة بعد خروجه ، فإن كان بين خروجه ودخوله أقل من شهر ، فلا بأس أن يدخل مكة بغير إحرام ، ويجوز له أن يتمتع بعمرته الأولى ، وإن كان شهرا فصاعدا ، فلا يجوز له أن يدخل مكة إلا محرما ، ولا يجوز له أن يتمتع بعمرته الأوّلة ، بل الواجب عليه إنشاء عمرة يتمتع بها. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ ويجعلها متعة (1).

وإذا دخلها بنية التمتع ، فينبغي له أن لا يجعلها مفردة ، وإن لا يخرج من مكة ، لأنّه صار مرتبطا بالحج.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : لم يجز له أن يجعلها مفردة ، وأن يخرج من مكة لأنّه صار مرتبطا بالحج ، والأولى ما ذكرناه ، من كون ذلك مكروها ، لا أنّه محظور ، بل الأفضل له أن لا يخرج من مكة ، والأفضل له أن لا

ص: 633


1- في ط وج : عمرة.

يجعلها مفردة (1) وقد رجع شيخنا عمّا في نهايته ، في مبسوطة (2) وقال بما اخترناه ، لأنّه لا دليل على حظر الخروج من مكة ، بعد الإحلال من جميع مناسكها ، والاعتبار في رجوعه ما ذكرناه أولا ، من الشهر حرفا فحرفا.

وأفضل العمر ما كانت في رجب ، وهي تلي الحج ، في الفضل على ما روي (3).

ويستحب أن يعتمر الإنسان في كلّ شهر ، إذا تمكن من ذلك ، وفي كل عشرة أيّام ، وقد بيّنا فيما مضى ، أقل ما يكون بين العمرتين ، وما اخترناه في ذلك ، وهو جواز الاعتمار في سائر الأيّام ، وهو مذهب السيد المرتضى ، لأنّ الإجماع منعقد على جواز الاعتمار ، والحث عليه ، والترغيب فيه ، فمن خصّص ذلك ، يحتاج إلى دليل ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد في ذلك ، إن وجدت.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه (4) مسألة أورد فيها وانس كلّما حمم رأسه ، اعتمر ، يعني نبت شعره. قال محمّد بن إدريس : حمم بالحاء غير المعجمة ، رأسه ، إذا اسود بعد الحلق ، وحمم الفرخ ، إذا طلع ريشه ، فأردت إيراد الكلمة ، لئلا تصحف.

وينبغي إذا أحرم المعتمر ، أن يذكر في دعائه ، أنّه محرم بالعمرة المفردة ، وإذا دخل الحرم ، قطع التلبية ، حسب ما قدمناه ، هذا إذا جاء من بلده ، وأحرم من أحد المواقيت ، فأمّا من خرج من مكة ، إلى خارج الحرم ، ليعتمر ، وأحرم ، فلا يقطع التلبية ، إلا إذا شاهد الكعبة.

فإذا دخل مكة ، طاف بالبيت طوافا واحدا ، وسعى بين الصفا والمروة ، ثم يقصّر إن شاء ، وإن شاء حلق. وفي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، لا يجوز له

ص: 634


1- النهاية : كتاب الحج ، باب العمرة المفردة.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في شرائط الوجوب. والعبارة بعينها عبارة النهاية فما رجع في المبسوط عما في النهاية
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب العمرة ، ح 16.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 26.

الحلق ، بل الواجب المتحتم عليه ، التقصير.

ويجب عليه - أعني على المعتمر - عمرة مفردة ، بعد تقصيره ، أو حلقه ، لتحلّة النساء ، طواف ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه.

باب حكم العبيد والمكاتبين والمدبّرين في الحج

لا يجوز للعبد أن يحرم إلا بإذن سيده ، فإن أحرم بغير اذنه ، لم ينعقد إحرامه ، وللسيد منعه منه ، فإن اذن له سيده في الإحرام بالحج ، فأحرم ، لم يكن له فيما بعد منعه ، وهكذا الحكم في المدبر ، والمدبرة ، وأم الولد ، لا يختلف الحكم فيه ، والأمة المزوجة ، لمالكها منعها من الإحرام ، وللزوج أيضا منعها ، والمكاتب لا ينعقد إحرامه ، سواء كان مشروطا عليه ، أو مطلقا ، لأنّه إن كان مشروطا عليه فهو بحكم الرق ، وإن كان مطلقا ، وقد تحرر منه بعضه ، فهو غير متعيّن.

إذا أحرم العبد بإذن سيّده ، ثم أعتق ، فإن أدرك المشعر الحرام بعد العتق ، فقد أدرك حجّة الإسلام ، وإن فاته المشعر ، فقد فاته الحج ، وعليه الحج فيما بعد ، إذا وجدت الشرائط.

وإذا أحرم بغير اذن سيده ، ثم أفسد الحج ، لم يتعلّق به حكم ، لأنّا قد بيّنا أنّ إحرامه ، غير منعقد.

وإن أحرم بإذن سيده ، فأفسد الحج ، لزمه القضاء ، وعلى سيّده تمكينه منه.

وإذا أفسد العبد الحج ، ولزمه القضاء على ما قلناه ، فأعتقه السيد ، فلا يخلو أن يكون بعد الوقوف بالمشعر ، أو قبله ، فإن كان بعده ، كان عليه أن يتم هذه الحجة ، وتلزمه حجة الإسلام فيما بعد ، وحجة القضاء ، ويجب عليه البدأة بحجة الإسلام ، مع وجود الشرائط ، وحصولها ، ثمّ بحجة القضاء ، وإن أعتق قبل الوقوف بالمشعر ، فلا فصل بين أن يفسد بعد العتق أو قبل العتق ، فإنّه يمضي في فاسدة ، ولا تجزيه الفاسدة عن حجّة الإسلام ، ويلزمه القضاء في القابل ،

ص: 635

ويجزيه القضاء عن حجّة الإسلام ، لأنّ ما أفسده ، لو لم يفسده لكان يجزيه عن حجة الإسلام ، وهذه قضاء عنها.

إذا أحرم بإذن مولاه ، فارتكب محظورا عامدا ، يلزمه به دم ، مثل اللباس ، والطيب ، وحلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، واللمس بشهوة ، والوطي في الفرج ، أو فيما دون الفرج ، وقتل الصيد ، أو أكله ، ففرضه الصيام ، وليس عليه دم ، وليس لمولاه منعه من الصيام ، لأنّه دخل في الإحرام بإذنه ، فيلزمه الإذن في توابعه.

ودم المتعة ، فسيّده بالخيار ، بين أن يهدي عنه ، أو يأمره بالصيام ، وليس له منعه من الصيام ، لأنّه بإذنه دخل فيه.

باب حكم الصبيان في الحج

الصبي الذي لم يبلغ ، قد بيّنا أنّه لا حج عليه ، ولا ينعقد إحرامه ، ويجوز عندنا أن يحرم عنه الولي ، والولي الذي يصح إحرامه عنه ، الأب ، والجد ، وإن علا ، فإن كان غيرهما ، فإن كان وصيا ، أوله ، ولاية عليه وليّها ، فهو بمنزلة الأب.

النفقة الزائدة على نفقته في الحضر ، يلزم وليه دونه.

وكلّ ما أمكن الصبي أن يفعله من أفعال الحج ، فعله ، وما لا يمكنه ، فعلى وليّه أن ينوب عنه ، والوقوف بالموقفين ، يحضر على كل حال ، مميّزا كان ، أو غير مميز ، وأمّا الإحرام ، فإن كان مميزا ، أحرم بنفسه ، وإن لم يكن مميزا ، أحرم عنه وليّه ، ورمي الجمار كذلك ، وكذلك الطواف ، ومتى طاف به ، ونوى به الطواف عن نفسه ، أجزأ عنهما ، وحكم السعي مثل ذلك ، وليس كذلك ركعتا الطواف.

وأمّا محظورات الإحرام ، فكلّ ما يحرم على المحرم البالغ ، يحرم على الصبي ، والنكاح إن عقد له ، كان باطلا ، وأمّا الوطي فيما دون الفرج ، واللباس ، والطيب ، واللمس بشهوة ، وحلق الشعر ، وترجيل الشعر ، وتقليم الأظفار ، فالظاهر أنّه لا يتعلق به شي ء ، لما روي عنهم عليهم السلام ، من أنّ عمد الصبي

ص: 636

وخطأه سواء (1) والخطأ في هذه الأشياء ، لا يتعلّق به كفارة من البالغين.

وقيل : إنّ قتل الصيد ، يتعلّق به الجزاء ، على كل حال ، لأنّ النسيان يتعلّق به من البالغ ، الجزاء.

والصحيح أنّه لا يتعلق بذلك كفّارة ، وحمله على ما قيل قياس ، لأنّ الخطاب متوجه في الأحكام الشرعيات ، والعقليات ، إلى العقلاء البالغين المكلّفين ، والصبي غير مخاطب بشي ء من الشرعيات ، ولو لا الإجماع ، والدليل القاهر ، لما أوجبنا على البالغ في النسيان شيئا ، فقام الدليل في البالغ ، ولم يقم في غير البالغ.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : قتل الصيد يتعلّق به الجزاء ، على كل حال ، قال : لأنّ النسيان يتعلّق به من البالغ الجزاء.

وأمّا الوطي في الفرج ، فإن كان ناسيا ، لا شي ء عليه ، ولا يفسد حجه ، مثل البالغ سواء ، وإن كان عامدا ، فعلى ما قلناه ، من أنّ عمده وخطأه سواء ، لا يتعلّق به أيضا فساد الحج ، ثم قال : ولو قلنا أنّ عمده عمد ، لعموم الأخبار ، فيمن وطأ عامدا في الفرج ، من أنّه يفسد حجه ، فقد فسد حجه ، ويلزمه القضاء ، ثم قال ، والأقوى الأوّل ، لأنّ إيجاب القضاء يتوجه إلى المكلّفين ، وهذا ليس بمكلّف (2) هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة ، وهو الأصحّ ، بل الحق اليقين ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

باب في حكم المحصور والمصدود

الحصر عند أصحابنا لا يكون إلا بالمرض ، والصد يكون من جهة العدو ، وعند الفقهاء ، الحصر والصد واحد ، وهما من جهة العدو ، والصحيح الأوّل ،

ص: 637


1- الوسائل : كتاب الديات الباب 11 من أبواب العاقلة ، ح 2.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر حكم الصبيان في الحج.

فالمحصور هو الذي يلحقه المرض في الطريق ، فلا يقدر على النفوذ إلى مكة ، فإذا كان كذلك ، فإن كان قد ساق هديا ، فليبعث به إلى مكة ، ويجتنب هو جميع ما يجتنبه المحرم ، إلى أن يبلغ الهدي محله ، ومحله منى ، يوم النحر ، إن كان حاجّا ، وإن كان معتمرا ، فمحله مكة ، بفناء الكعبة ، فإذا بلغ الهدي محلّه ، قصّر من شعر رأسه ، وحل له كل شي ء ، إلا النساء ، ويجب عليه الحج من قابل ، إذا كان صرورة ، ووجد الشرائط في القابل ، وإن كان قد حج حجّة الإسلام ، كان عليه الحج في القابل ، استحبابا ، لا إيجابا ، ولم تحل له النساء ، إلى أن يحج في العام القابل ، أو يأمر من يطوف عنه طواف النساء.

فإن وجد من نفسه خفّة بعد أن بعث هديه ، فليلحق بأصحابه ، فإن أدرك أحد الموقفين في وقته ، فقد أدرك الحج ، وليس عليه الحج من قابل ، وإن لم يدرك أحد الموقفين في وقته ، فقد فاته الحج ، وكان عليه الحج من قابل ، هذا هو تحرير الفتيا.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فليلحق بأصحابه ، فإن أدرك مكة قبل أن ينحر هديه ، قضى مناسكه ، كلّها وقد أجزأه ، وليس عليه الحج من قابل ، وإن وجدهم قد ذبحوا الهدي ، فقد فاته الحج ، وكان عليه الحج من قابل ، قال رحمه اللّه : وانّما كان الأمر على ذلك ، لأنّ الذبح انّما يكون يوم النحر ، فإذا وجدهم قد ذبحوا الهدي ، فقد فاته الموقفان ، وإن لحقهم قبل الذبح ، يجوز أن يلحق أحد الموقفين ، فمتى لم يلحق واحدا منهما ، فقد فاته أيضا الحج (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : اعتبار شيخنا رحمه اللّه بإدراك مكة ، قبل أن ينحر هديه ، غير واضح ، لأنّ النحر يكون في منى يوم العيد ، ولا يصل الحاج منى إلا بعد طلوع الشمس ، من يوم النحر ، وبطلوع الشمس ، يفوت وقت المشعر الحرام ، وبفواته يفوته الحج ، فلو أدرك أصحابه بمنى ، ولم ينحروا

ص: 638


1- النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

الهدي ، ما نفعه ذلك ، فلا اعتبار بذبح الهدي ، وإدراكه ، بل الاعتبار بإدراك المشعر الحرام في وقته ، على ما اعتبرناه.

ومن لم يكن ساق الهدي ، فليبعث بثمنه مع أصحابه ، ويواعدهم وقتا بعينه ، بأن يشتروه ويذبحوا عنه ، ثم يحل بعد ذلك ، فإن ردّوا عليه الثمن ، ولم يكونوا وجدوا الهدي ، وكان قد أحلّ ، لم يكن عليه شي ء ويجب عليه أن يبعث به في العام القابل ، ليذبح في موضع الذبح ، روي (1) أنّه يجب عليه أن يمسك ممّا يمسك عنه المحرم ، إلى أن يذبح عنه (2) ، ذكر ذلك شيخنا في نهايته (3) ولا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة ، وهذا ليس بمحرم ، بغير خلاف ، فكيف يحرم عليه لبس المخيط ، والجماع ، والصيد ، وليس هو بمحرم ، ولا في الحرم ، حتى يحرم عليه الصيد ، ولا يرجع فيه إلى أخبار الآحاد ، وما أورده رحمه اللّه في نهايته ، فعلى جهة الإيراد ، لا الاعتقاد.

وذهب ابن بابويه في رسالته ، فقال : وإذا قرن الرجل الحج والعمرة ، وأحصر ، بعث هديا مع هديه ، ولا يحل حتى يبلغ الهدي محلّه.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : أمّا قوله رحمه اللّه : وإذا قرن الرجل الحج والعمرة ، فمراده كل واحد منهما على الانفراد ، ويقرن إلى إحرامه بواحد من الحج ، أو من العمرة ، هديا يشعره ، أو يقلّده ، فيخرج من مكة بذلك ، وإن لم يكن ذلك عليه واجبا ابتداء ، وما مقصوده ومراده ، أن يحرم بهما جميعا ، ويقرن بينهما ، لأنّ هذا مذهب من خالفنا ، في حد القران ، ومذهبنا أن يقرن إلى إحرامه سياق هدي ، فليلحظ ذلك ، ويتأمّل ، فأمّا قوله بعث هديا مع هديه ، إذا أحصر ، يريد أنّ هديه الأوّل الّذي قرنه إلى إحرامه ، ما يجزيه في تحليله من

ص: 639


1- في ط وج : وقد روي
2- الوسائل : الباب 2 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

إحرامه ، لأنّ هذا كان واجبا عليه ، قبل حصره ، فإذا أراد التحلّل من إحرامه بالمرض الذي هو الحصر عندنا ، على ما فسرناه ، فيجب عليه هدي آخر ، لذلك ، لقوله تعالى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (1) وما قاله قوي معتمد ، غير أن باقي أصحابنا ، قالوا : يبعث هديه الذي ساقه ، ولم يقولوا يبعث بهدي آخر ، فإذا بلغ محلّه أحلّ إلا من النساء ، فهذا فائدة قوله رحمه اللّه : وإن كان المحصور معتمرا فعل ما ذكرناه ، وكانت العمرة عليه فرضا في الشهر الداخل ، إذا كانت واجبة ، وإن كانت نفلا ، كانت عليه العمرة في الشهر الداخل ، تطوّعا ، وإنفاذ الهدي أو بعث ثمنه على ما ذكرناه أولا ، انّما يجب على من لم يشترط على ربّه في إحرامه على ما أسلفنا القول فيه وحرّرناه.

فأمّا من اشترط على ربه في حال إحرامه ، إن عرض له عارض ، فحلّه حيت حبسته (2) ، ثمّ عرض المرض ، فله أن يتحلّل من دون إنفاذ هدي ، أو ثمن هدي ، إلا أن كان قد ساقه ، وأشعره ، أو قلّده ، فلينفذه ، فأمّا إذا لم يكن ساقه ، واشترط ، فله التحلّل إذا بلغ الهدي محلّه ، وبلوغه يوم العيد ، فإذا كان يوم النحر ، فليتحلل من جميع ما أحرم منه ، إلا النساء على ما قدّمناه.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته ، والمحصور بالمرض ، إن كان ساق هديا ، أقام على إحرامه ، حتى يبلغ الهدي محلّه ثم يحلّ ، ولا يقرب النساء ، حتى يقضي المناسك من قابل ، هذا إذا كان في حجّة الإسلام ، فأمّا حجة التطوّع ، فإنّه ينحر هديه ، وقد أحلّ ممّا كان أحرم منه ، فإن شاء حج من قابل ، وإن لم يشأ ، لم يجب عليه الحج ، والمصدود بالعد وينحر هديه الذي ساقه بمكانه ، ويقصّر من شعر رأسه ، ويحل ، وليس عليه اجتناب النساء ، سواء كانت حجته فريضة ، أو سنّة (3) هذا آخر كلام المفيد رحمه اللّه.

ص: 640


1- البقرة : 196
2- في ط وج : حبسه
3- المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص 446.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وأمّا المصدود ، فهو الذي يصدّه العدو عن الدخول إلى مكة ، أو الوقوف بالموقفين ، فإذا كان ذلك ، ذبح هديه في المكان الذي صد فيه ، سواء كان في الحرم ، أو خارجه ، لأنّ الرسول عليه السلام صدّه المشركون بالحديبية ، والحديبية اسم بئر ، وهي خارج الحرم ، يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العصّار (1) اللغوي ، فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف ، وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد ، ولا ينتظر في إحلاله ، بلوغ الهدي محله ، ولا يراعي زمانا ، ولا مكانا في إجلاله ، فإذا كان قد ساق هديا ، ذبحه ، وإن كان لم يسق هديا ، فان كان اشترط في إحرامه ، إن عرض له عارض يحلّه (2). حيث حبسه ، فليحل ، ولا هدي عليه ، وإن لم يشترط ، فلا بدّ من الهدي ، وبعضهم يخص وجوب الهدي بالمحصور ، لا بالمصدود ، وهو الأظهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولقوله تعالى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (3) أراد به المرض ، لأنّه يقال أحصره المرض ، وحصره العدو ، ويحل من كلّ شي ء أحرم منه ، من النساء ، وغيره ، أعني المصدود بالعدوّ.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : والمحصور إن كان قد أحصر ، وقد أحرم بالحج قارنا ، فليس له أن يحج في المستقبل متمتعا ، بل يدخل بمثل ما خرج منه (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وليس على ما قاله رحمه اللّه دليل من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الأصل براءة الذمة ، وبما شاء يحرم في المستقبل.

وقال رحمه اللّه في النهاية : ومن أراد أن يبعث بهدي تطوّعا ، فليبعثه ، ويواعد أصحابه يوما بعينه ، ثم ليجتنب جميع ما يجتنبه المحرم ، من الثياب ، والنساء ، والطيب ، وغيره ، إلّا أنّه لا يلبّي ، فإن فعل شيئا ممّا يحرم عليه ، كانت

ص: 641


1- في ط : العصار الفوهي
2- ج : فحلّه
3- البقرة : 196
4- النهاية : كتاب الحج ، باب الحصور والمصدور.

عليه الكفارة ، كما يجب على المحرم سواء ، فإذا كان اليوم الذي واعدهم ، أحلّ. وإن بعث بالهدي من أفق من الآفاق ، يواعدهم يوما بعينه ، بإشعاره وتقليده ، فإذا كان ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم ، إلى أن يبلغ الهدي محلّه ، ثمّ إنّه أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه (1).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، وهذه أخبار آحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، وهذه أمور شرعيّة ، يحتاج مثبتها ومدعيها إلى أدلّة شرعية ، ولا دلالة له من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فأصحابنا لا يوردون هذا في كتبهم ، ولا يودعونه في تصانيفهم ، وانّما أورده ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه النهاية ، إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّ الكتاب المذكور ، كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، كثيرا ما يورد فيه أشياء غير معمول عليها ، والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعيّة.

والمصدود بالعدو إذا منع من الوصول إلى البيت ، كان له أن يتحلّل ، لعموم الآية ، ثم ينظر ، فإن لم يكن له طريق إلا الذي صدفيه ، فله أن يتحلّل بلا خلاف ، وإن كان له طريق آخر ، فإن كان ذلك الطريق ، مثل الذي صدّ عنه ، لم يكن له التحلّل ، لأنّه لا فرق بين الطريق الأوّل والثاني ، وإن كان الطريق الآخر ، أطول من الطريق الذي صدّ عنه ، فإن لم يكن له نفقة تمكنه أن يقطع بها الطريق الآخر ، فله أن يتحلّل ، لأنّه مصدود عن الأول ، وإن كان معه نفقة تمكنه قطع الطريق الأطول ، إلا أنّه يخاف إذا سلك ذلك الطريق ، فاته الحج ، لم يكن له التحلّل ، لأنّ التحلّل انّما يجوز بالصد ، لا بخوف الفوات ، وهذا غير مصدود هاهنا ، فإنّه يجب أن يمضي على إحرامه في ذلك الطريق ، فإن أدرك الحج جاز ، وإن فاته الحج لزمه القضاء ، إن كانت حجّة الإسلام ، أو

ص: 642


1- النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

نذرا في الذمة ، لا معيّنا بتلك السنة ، وإن كانت تطوعا ، كان بالخيار ، هذا في الحصر والصدّ العام.

فأمّا الصد الخاص ، وهو أن يحبس بدين عليه ، أو غير ذلك ، فلا يخلو أنّ يحبس بحق ، أو بغير حق. فإن حبس بحقّ ، بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه ، فلم يقضه ، لم يكن له أن يتحلّل ، لأنّه متمكن من الخلاص ، فهو حابس نفسه باختياره ، وإن حبس ظلما ، أو بدين لا يقدر على أدائه ، كان له أن يتحلّل ، لعموم الآية (1) ، والأخبار (2).

ومن صدّ عن البيت ، وقد وقف بعرفة ، والمشعر الحرام ، وعن الرمي أيّام التشريق ، فإنّه يتحلّل ، فإن لحق أيام الرمي ، رمى ، وحلق ، وذبح ، وإن لم يلحق ، أمر من ينوب عنه في ذلك ، فإذا تمكن أتى مكة ، وطاف طواف الحج ، وسعى سعيه ، وقد تمّ حجّه ، ولا قضاء عليه ، هذا إذا طاف ، وسعى ، في ذي الحجّة.

فأمّا إذا أهل المحرم ، ولم يكن قد طاف ، وسعى ، كان عليه الحج ، من قابل ، لأنّه لم يستوف أركان الحج ، من الطواف والسعي ، فأما إذا طاف ، وسعى ، ومنع من المبيت ، والرمي ، فقد تمّ حجّة ، لأنّ ذلك من المفروضات التي ليست أركانا.

وإن كان متمكنا من المبيت ، ومصدودا عن الوقوف بالموقفين ، أو عن أحدهما ، جاز له التحلّل ، لعموم الآية (3) ، والأخبار (4).

فإن لم يتحلّل ، وأقام على إحرامه ، حتّى فاته الوقوف ، فقد فاته الحج ، وعليه أن يتحلّل ، بعمل عمرة ، ولا يلزمه دم ، لفوات الحج ، ويلزمه القضاء ، إن كانت الحجّة واجبة على ما قدّمناه ، وإن كانت تطوّعا ، كان بالخيار.

إذا صد فأفسد حجّه ، فله التحلّل ، وكذلك إن أفسد حجّه ، ثمّ صد ، كان له التحلّل ، لعموم الآية (5) والأخبار (6) ، ويلزمه الدم بالتحلّل ، عند بعض

ص: 643


1- البقرة : 196
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.
3- البقرة : 196
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.
5- البقرة : 196
6- الوسائل : الباب 6 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.

أصحابنا ، وبدنة بالإفساد ، والقضاء في المستقبل ، سواء كان الحج واجبا ، أو مندوبا.

فإن انكشف العدو ، وكان الوقت واسعا ، وأمكنه الحج ، قضى من سنته ، وليس هاهنا حجة فاسدة يقضي في سنتها ، إلا هذه ، فإن ضاق الوقت ، قضى من قابل ، وإن لم يتحلّل من الفاسدة.

فإن زال الصد ، والحج لم يفت ، مضى في الفاسدة ، وتحلّل ، وإن فاته ، تحلّل بعمل عمرة ، وتلزمه بدنة للإفساد ، ولا شي ء عليه للفوات ، والقضاء عليه من قابل ، على ما بيّناه.

وإن كان العدو باقيا ، فله التحلل ، فإذا تحلّل ، لزمه دم ، عند بعض أصحابنا ، للتحلّل ، وبدنة للإفساد ، والقضاء من قابل ، وليس عليه أكثر من قضاء واحد.

وإذا أراد التحلّل من صدّ العدو ، فلا بدّ من نية التحلّل ، مثل الدخول فيه ، وكذلك إذا أحصر بالمرض.

باب في الزيادات من فقه الحج

من أحدث حدثا في غير الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، ضيّق عليه في المطعم ، والمشرب ، حتى يخرج ، فيقام عليه الحدّ ، فإن أحدث في الحرم ما يجب عليه الحدّ ، أقيم عليه فيه.

ولا ينبغي أن يمنع الحاج خصوصا شيئا من دور مكة ، ومنازلها ، للإجماع على ذلك ، فأمّا الاستشهاد بالآية (1) فضعيف ، بل إجماع أصحابنا منعقد ، وأخبارهم متواترة (2) ، فإن لم تكن متواترة ، فهي متلقاة بالقبول ، لم يدفعها أحد منهم ، فالإجماع هو الدليل القاطع على ذلك ، دون غيره.

ص: 644


1- الحج : 25
2- الوسائل : الباب 32 من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها.

فأمّا الآية وهو قوله تعالى : ( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) (1) فإنّ الضمير ، راجع إلى ما تقدّم ، وهو نفس المسجد الحرام ، دون مكة جميعها ، وأيضا قوله تعالى : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا ) (2) فحظر علينا عزوجل دخول غير بيوتنا ، فأمّا من قال لا يجوز بيع رباع مكة ، ولا إجارتها ، فصحيح ، إن أراد نفس الأرض ، لأنّ مكة أخذت عنوة بالسيف ، فهي لجميع المسلمين ، لاتباع ، ولا توقف ، ولا تستأجر ، فأمّا التصرف ، والتحجير ، والآثار ، فيجوز بيع ذلك ، وإجارته ، كما يجوز بيع سواد العراق المفتتحة عنوة ، فيحمل ما ورد في ذلك على نفس الأرض ، دون التصرف ، لئلّا تتناقض الأدلة ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل.

ولا ينبغي لأحد ، أن يرفع بناء فوق الكعبة.

ومن وجد شيئا في الحرم ، لا يجوز له أخذه ، فإن أخذه عرّفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا كان مخيرا بين شيئين ، أحدهما يتصدق به عن صاحبه بشرط الضمان ، إن لم يرض بذلك صاحبه والآخر أن يحفظه على صاحبه ، حفظ أمانة ، وليس له أن يتملكه ، ولا يكون كسبيل ماله.

وإن وجده في غير الحرم ، عرّفه سنة ، ثم هو مخير بين شيئين ، أحدهما التصدق به ، بشرط الضمان إن لم يرض صاحبه ، والآخر أن يجعله كسبيل ماله. وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : ثم هو مخير بين ثلاثة أشياء ، يعني في لقطة غير الحرم ، بعد تعريفه سنة ، بين أن يحفظه على صاحبه أمانة ، وبين أن يتصدق عنه بشرط الضمان ، وبين أن يتملكه لنفسه ، وعليه ضمانه (3) والصحيح أنّه يكون بين خيرتين ، فحسب ، لأنّ إجماع أصحابنا منعقد ، أنّه يكون بعد السنة وتعريفه فيها ، كسبيل ماله ، وانّما الشافعي يخيّره بين ثلاثة أشياء ،

ص: 645


1- الحج : 25
2- النور : 27.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في الزيادات من فقه الحج.

وإلى ما اخترناه وحررناه ، ذهب شيخنا أبو جعفر ، في نهايته (1).

وتكره الصلاة في طريق مكة ، في أربعة مواضع ، البيداء ، وقد فسّرناها في كتاب الصلاة ، وذات الصلاصل ، وضجنان ، ووادي الشقرة.

ويستحب الإتمام في الحرمين ، مكة والمدينة ، ما دام مقيما ، وإن لم ينو المقام عشرة أيّام ، وإن قصّر فلا شي ء عليه.

وكذلك يستحب الإتمام في مسجد الكوفة ، وفي مشهد الحسين عليه السلام ، هذا على قول بعض أصحابنا ، والأظهر الأكثر عند المحصّلين ، أن لا يجوز الإتمام من غير نية المقام عشرة أيّام للمسافر ، إلا في نفس المسجدين فحسب ، دون مكة جميعها ، ودون المدينة جميعها ، لأنّ الإجماع حاصل على ذلك ، والخلاف فيما عداه ، والأصل التقصير للمسافر ، فأخرجنا ما أخرجنا بدليل الإجماع ، بقي ما عداه على ما كان ، وكذلك نفس مسجد الكوفة ، دون الكوفة ، وكذلك في نفس مشهد الحسين عليه السلام ، دون ما عدا المسجد الذي لا يجوز للجنب الجلوس فيه ، ولا تقريبه النجاسات.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثاني ، إلى جواز الإتمام في مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وقال : أخص ما ورد من الأخبار ، بالإتمام في نفس المساجد ، دون ما عداها بالذكر ، تعظيما لها (2) ، ثمّ ذكر في الأخبار الأخر ، ألفاظا يكون هذه المساجد داخلة فيها.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا منه رحمه اللّه تعسف ، لا حاجة به إليه ، وتأويل بعيد ، وإذا كنّا لا نعمل بأخبار الآحاد ، وإجماعنا منعقد على ما ذكرناه ، من الإتمام في نفس المساجد المذكورة ، فلا يلتفت إلى ما عداه.

ص: 646


1- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج والعبارة هكذا وإذا وجد في غير الحرم فليعرّفه سنة ثم هو كسبيل ماله يعمل به ما شاء. وهذا بخلاف ما نقله ابن إدريس عنه.
2- الاستبصار : كتاب الحج ، الباب 228 و 229.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه عن هذا القول في كتب الصلاة ، في باب الصلاة في السفر ، فإنّه قال : ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر ، بمكة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، والحائر على ساكنه السلام ، فخص نفس مسجد الكوفة ، دون الكوفة ، وفي الاستبصار قال : يتمم في الكوفة (1).

ويكره الحج والعمرة على الإبل الجلّالة.

ويستحب لمن حج على طريق العراق ، أن يبدأ أوّلا بزيارة النبي عليه السلام ، والمدينة ، فإنّه لا يأمن أن لا يتمكن من العود إليها ، فان بدأ بمكة ، فلا بد له من العود إليها على طريق الاستحباب المؤكد ، دون الفرض المحتم.

وإذا ترك الناس الحج ، وجب على الإمام أن يجبرهم على ذلك ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) : وكذلك إن تركوا زيارة النبي صلوات اللّه عليه كان عليه إجبارهم عليها.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : إجبارهم على زيارة الرسول صلوات اللّه عليه لا يجوز ، لأنّها غير واجبة ، بل ذلك مؤكد الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، بغير خلاف ، وانّما إذا كان الشي ء شديد الاستحباب ، أتى به على لفظ الوجوب ، على ما أسلفنا القول في معناه.

ويجوز للإنسان إذا وجب عليه الحج ، أن يستدين ما يحج به ، إذا كان من ورائه ما إن مات قضى عنه ، فإن لم يكن له ذلك ، فلا يجوز له الاستدانة.

ويستحب الاجتماع يوم عرفة ، والدعاء عند المشاهد ، وفي المواضع المعظمة.

ويستحب لمن انصرف من الحج ، أن يعزم على العود إليه ، ويسأل اللّه تعالى ذلك.

ومن جاور بمكة ، فالطواف له أفضل من الصلاة ، ما لم يجاوز ثلاث سنين فإذا جاوزها أو كان من أهل مكة ، كانت الصلاة له أفضل.

ص: 647


1- الإستبصار : كتاب الحج ، الباب 228 و 229.
2- النهاية : كتاب الحج. باب آخر من فقه الحج.

ولا بأس أن يحج الإنسان عن غيره ، تطوعا ، إذا كان ميتا ، فإنّه يتفضل اللّه تعالى عليه ، بمثل ثوابه ، للإجماع من أصحابنا على ذلك.

وتكره المجاورة بمكة ، ويستحب إذا فرغ من مناسكه ، الخروج منها.

ومن أخرج شيئا من حصى المسجد الحرام ، كان عليه رده.

ويكره أن يخرج من الحرمين ، بعد طلوع الشمس قبل أن يصلّي الصلاتين ، فإذا صلاهما خرج إن شاء.

ولا يعرف أصحابنا كراهية أن يقال لمن لم يحج : صرورة ، بل رواياتنا وردت بذلك ، ولا أن يقال لحجة الوداع : حجة الوداع ، ولا أن يقال : شوط وأشواط ، بل ذلك كله ورد في الأخبار ، ولا يعرف أصحابنا استحبابا لشرب نبيذ السقاية.

وأشهر الحج ، قد بيّنا أنّها : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والأيّام المعلومات : عشر ذي الحجة ، والأيام المعدودات : أيّام التشريق ، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة ، ويسمّى الحادي عشر منها يوم القرّ لأنّ الناس يقرّون فيه بمنى (1) ولا يبرحونه على ما قدّمناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : والأيّام المعلومات : أيّام التشريق ، والأيام المعدودات : هي عشر ذي الحجة (2) والأول هو الأظهر الأصحّ ، الذي لا يجوز القول بخلافه ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (3) وقد رجع الشيخ أبو جعفر ، عمّا ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه وقال : الأيام المعدودات : أيّام التشريق بلا خلاف (4).

وإذا أوصى الإنسان بحجة ، وكانت حجة الإسلام ، أخرجت من أصل المال ، من الموضع الذي مات فيه من بلده ، وهو الذي وردت روايات أصحابنا

ص: 648


1- ج : في منى
2- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
3- المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص 452.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 332.

به (1) وقال بعض أصحابنا : لا يلزم الورثة أن يخرجوا إلا إجارة من بعض المواقيت ، والأول هو المذهب ، وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته (2) وإن كان يقول في مبسوطة بخلافه (3).

وإن كان ما أوصى به نافلة ، أخرجت من الثلث ، فإن لم يبلغ الثلث ما يحج عنه من موضعه ، حجّ عنه من بعض الطريق ، وهذا هو الأظهر ، وبه نطقت الأخبار عن الأئمة الأطهار (4) وهو قول شيخنا أبي جعفر أيضا في نهايته (5).

ومن نذر أن يحج لله تعالى ، ثمّ مات قبل أن يحج ، ولم يكن أيضا قد حجّ حجة الإسلام ، أخرجت عنه حجّة الإسلام من صلب المال وكذلك الحجة المنذورة أيضا تخرج من صلب المال ، لأنّه واجب في ذمته ، ودين في رقبته ، ولا خلاف أنّ الواجبات ، والديون تخرج من صلب ماله.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويخرج ما نذر فيه من ثلثه (6) وهذا من طريق خبر الآحاد ، أورده رحمه اللّه دون أن يكون اعتقاده ومذهبه ، فإن لم يكن المال إلا بقدر ما يحج عنه حجّة الإسلام حجّ به عنه.

ومن وجب عليه حجة الإسلام ، ولم تكن استقرّت عليه ، فخرج لأدائها ، فمات في الطريق ، فلا شي ء عليه ، ولا على وليّه ، ولا يخرج شي ء من تركته في الحج ، سواء مات قبل الإحرام ودخول الحرم ، أو بعده ، لأنّه ما فرّط في ذلك ، ولا استقرت الحجّة في ذمّته.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : ومن وجبت عليه حجة الإسلام ، فخرج لأدائها فمات في الطريق ، فإن كان قد دخل الحرم فقد أجزأ

ص: 649


1- الوسائل : الباب 2 و 3 من أبواب النيابة للحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبها.
4- الوسائل : الباب 2 و 3 من أبواب النيابة للحج.
5- النهاية : كتاب الوصية ، باب الوصية المبهمة.
6- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

عنه ، وإن لم يكن قد دخل الحرم ، كان على وليّه أن يقضي عنه حجة الإسلام من تركته (1) ، وهذا غير واضح على ما قلناه.

فأمّا إن كانت الحجة وجبت عليه ، واستقرت ، بأن فرط في المضي إلى الحج ، بعد وجوبه في سنة وجوبه ، ثمّ مضى بعد تلك السنة ، ومات في الطريق ، فإن كان مات بعد الإحرام فقد أجزأت عنه ، ولا يجب على الورثة إخراج حجّة عنه ، وإن كان موته قبل الإحرام ، فما أجزأت عنه ، ويجب على الورثة ، إخراج حجّة عنه ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

ومن اوصى أن يحج عنه كل سنة من وجه بعينه ، فلم يسع ذلك المال للحج ، في كل سنة جاز أن يجعل مال سنتين لسنة واحدة.

ومن أوصى أن يحج عنه ، ولم يذكر ، كم مرة ، ولا بكم من ماله ، وجب على الورثة ، إخراج حجة واحدة فحسب ، لأنّ بحجة واحدة ، قد امتثلوا ما وصّاهم به بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وجب أن يحج عنه ما بقي من ثلثه شي ء يمكن أن يحج به (2) ، وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه يعضده من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وما ذهبنا إليه لا خلاف فيه ، لأنّه أقل ما يمتثل به الأمر ، والزائد على ذلك يحتاج إلى دليل ، وانّما أورده إيرادا ، من جهة الخبر الواحد ، لا اعتقادا كما أورد نظائره من قوله : الأيّام المعدودات عشر ذي الحجة ، والمعلومات أيام التشريق ، ثم قال في مسائل الخلاف : الأيام المعدودات أيّام التشريق بلا خلاف (3).

فإن قال : حجوا عني بثلثي ، وجب أن يحج عنه مدة ما يبقى من ثلثه شي ء يمكن أن يحج به ، فإن قال : حجّوا عني بثلثي حجة واحدة ، حجّ عنه بجميع ثلثه حجة واحدة.

ص: 650


1- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 332.

وإذا خرج الإنسان من مكة ، فليتوجّه إلى المدينة ، لزيارة النبي عليه السلام استحبابا ، لا إيجابا ، على ما قدّمناه ، فإذا بلغ إلى المعرّس ، نزله ، وصلّى فيه ركعتين استحبابا ، ليلا كان ، أو نهارا ، لأنّ المعرّس مشتق من التعريس ، والتعريس نزول القوم في السفر من آخر الليل ، يقعون فيه ، وقعة للاستراحة ، ثمّ يرتحلون ، والموضع معرّس فالموضع نزله عليه السلام آخر الليل ، واستراح فيه فسنّ فيه النزول اقتداء به عليه السلام ، سواء كان وقت التعريس ، أو لم يكن ، فلأجل ذلك قالوا ليلا كان أو نهارا ، يريدون به ذلك ، وإن لم يكن ذلك الوقت وقت التعريس ، فإن جازه ونسي ، رجع وصلّى فيه ، واضطجع قليلا.

وإذا انتهى إلى مسجد الغدير ، دخله ، وصلّى فيه ركعتين.

واعلم أنّ للمدينة حرما ، مثل حرم مكة ، وحدّه ما بين لابتيها ، واللابة : الحرة ، والحرة : الحجارة السود ، وهو من ظل عائر إلى ظل وعير ، ولا يعضد شجرها ، ولا بأس ان يؤكل صيدها ، إلا ما صيد بين الحرتين ، هكذا أورده شيخنا في نهايته بهذه العبارة (1).

والأولى أن يقال : وحدّه من ظل عائر إلى ظل وعير ، لا يعضد شجرها ، ولا بأس أن يؤكل صيدها ، إلا ما صيد بين الحرتين لأنّ الحرتين غير ظل عاير ، وظل وعير ، والحرتان ما بين الظلين ، لأنّه قال لا يعضد الشجر فيما بين الظلين ، ولا بأس ان يؤكل الصيد ، الا ما صيد بين الحرتين ، فدلّ على أنّ الحرتين داخلتان في الظلين ، وإلا كان يكون الكلام متناقضا ، فلو كانت الحرتان هما حدّ حرم المدينة الأوّل ، لما حلّ الصيد في شي ء من حرم المدينة.

ويستحب لمن أراد دخول المدينة أن يغتسل ، وكذلك إذا أراد دخول مسجد النبي عليه السلام ، فإذا دخله ، أتى قبر الرسول عليه السلام فزارة ، فإذا فرغ من

ص: 651


1- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

زيارته أتى المنبر ، فمسحه ، ومسح رمانتيه.

ويستحب الصلاة بين القبر والمنبر ، ركعتين ، فإنّ فيه روضة من رياض الجنة ، وقد روي أنّ فاطمة عليها السلام مدفونة هناك (1) ، وقد روي أنّها مدفونة في بيتها (2) وهو الأظهر في الروايات ، وعند المحصّلين من أصحابنا ، إلا أنّه لمّا زاد بنو أمية في المسجد صارت فيه ، وروي أنّها مدفونة بالبقيع (3) ويعرف ببقيع الفرقد ، وهو شجر مثل العوسج ، وحبّه أشدّ حمرة من حبّه ، وهذه الرواية بعيدة من الصواب.

ويستحب المجاورة بالمدينة ، وإكثار الصلاة في مسجد النبي عليه السلام.

ويكره النوم في مسجد الرسول عليه السلام.

ويستحب لمن له مقام بالمدينة ، أن يصوم ثلاثة أيّام بها ، الأربعاء والخميس ، والجمعة ، ويصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة ، واسمه بشير بن عبد المنذر الأنصاري ، شهد بدرا ، والعقبة الأخيرة وهي أسطوانة التوبة ، وذلك أنّه تخلّف في بعض الغزوات عن الرسول عليه السلام فندم على ذلك ، وربط نفسه إلى هذه الأسطوانة بسلسلة ، وقال : لا يحلّني إلا رسول اللّه عليه السلام ، فلمّا قدم الرسول عليه السلام حلّه ، واستغفر له ، فتاب اللّه عليه ، فسميت أسطوانة التوبة ، ويقعد عندها يوم الأربعاء ، ويأتي ليلة الخميس الأسطوانة التي تلي مقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ومصلّاه ، ويصلّي عندها ، ويصلّى ليلة الجمعة عند مقام النبي صلى اللّه عليه وآله.

ويستحب أن يكون هذه الثلاثة الأيام معتكفا في المسجد ، ولا يخرج منه إلا لضرورة.

ويستحب إتيان المشاهد ، والمساجد كلّها بالمدينة ، مسجد قباء ممدود ،

ص: 652


1- الوسائل : الباب 18 من أبواب المزار وما يناسبه ، ح 4.
2- الوسائل : الباب 18 من أبواب المزار وما يناسبه ، ح 4.
3- الوسائل : الباب 18 من أبواب المزار وما يناسبه ، ح 4.

ومشربة أم إبراهيم عليه السلام ، والمشربة الغرفة ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح ، ومسجد الفضيخ ، وقيل إنّه الذي ردّت الشمس فيه لأمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة ، والفضيخ شراب ، يتخذ من البسر وحده ، من غير أن تمسّه النار ، فسمّي الموضع بمسجد الفضيخ ، لأنّه كان يعمل ذلك الشراب عنده ، ويأتي قبور الشهداء كلّهم ، ويأتي قبر حمزة بأحد ، وقبور الشهداء هناك أيضا ، إلا أنّه يبدأ بقبر حمزة عليه السلام ولا يتركه إلا عند الضرورة إن شاء اللّه تعالى.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : صيد وجّ - وهو بلد باليمن - غير محرّم ولا مكروه (1) قال محمّد بن إدريس : سمعت بعض مشايخنا يصحّف ذلك ، ويجعل الكلمتين كلمة واحدة ، فيقول صيدوخ بالخاء (2) ، فأردت إيراد المسألة لئلا تصحف.

اعلم إنّ وجّأ بالجيم المشدّدة بلد بالطائف ، لا باليمن ، وفي الحديث : آخر وطأه وطأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بوج ، يريد غزاة الطائف قال الشاعر :

فإن تسق من أعناب وجّ فاننا *** لنا العين تجري من كسيس ومن خمر

الكسيس بالسّينين غير المعجمتين : نبيذ التمر.

وقال النميري في زينب بنت يوسف أخت الحجاج :

مررن بوجّ رائحات عشيّة *** يلبين للرّحمن مؤتجرات

وكانت قد نذرت أن تحج من الطائف ماشية ، وبين الطائف وبين مكّة يومان ، فمشت ذلك في اثنين وأربعين يوما ، وجعلت بطن وجّ مرحلة ، وهو قدر ثلاثمائة ذراع.

ص: 653


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 309
2- ليس في ج : بالخاء. وفي المط : بالحاء المهملة.

فصل في الزيارات

زيارة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عند قبره ، وكلّ واحد من الأئمة من بعده ، صلوات اللّه عليهم في مشاهدهم ، من السنن المؤكدة ، والعبادات المعظمة ، في كلّ جمعة ، أو كلّ شهر ، أو كلّ سنة ، إن أمكن ذلك ، وإلا فمرّة في العمر.

ويستحب لقاصد الزيارة ، بل يلزمه أن يخرج من منزله عازما عليها ، لوجهها ، مخلصا بها لله سبحانه ، فإذا انتهى إلى مسجد النبي عليه السلام ، أو مشهد الإمام المزور عليه السلام ، فليغتسل (1) قبل دخوله ، سنّة مؤكدة ، ويلبس ثيابا نظيفة طاهرة جددا بضم الدال ، لأنّها جمع جديد ، فأمّا جدد بفتح الدال ، فالطريق في الأرض ، ومنه قوله تعالى : ( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) (2) هذا مع الإمكان ، فيأت القبر ، وعليه السكينة ، والوقار ، فإذا انتهى إليه ، فليقف ممّا يلي وجه المزور عليه السلام وظهره إلى القبلة ، ويسلّم عليه ، ويذكره بما هو أهله ، من الألفاظ المروية عن أئمة الهدى عليهم السلام ، وإلا فبما نفث به صدره.

فإذا فرغ من الذكر ، فليضع خدّه الأيمن على القبر ، ويدعو اللّه تعالى ، ويتضرّع إليه بحقّه ، ويلحّ عليه ، ويرغب إليه أن يجعله من أهل شفاعته ، ثمّ يضع خدّه الأيسر ، ويدعو ويجتهد ، ثمّ يتحوّل إلى الرأس فيسلّم عليه ويعفّر خدّيه على القبر ، ويدعو ثمّ يصلّي ويتضرّع (3) الركعتين عنده ، ممّا يلي الرأس ويعقّبهما بتسبيح فاطمة عليها السلام ، ويدعو ويتضرّع ، ثمّ يتحوّل إلى عند الرجلين ، فيسلّم ويدعو ويعفّر خدّيه على القبر ، ويودّع وينصرف.

فإذا كانت الزيارة لأبي عبد اللّه الحسين عليه السلام زار ولده عليّا الأكبر ، وأمّه ليلى ، بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وهو أوّل قتيل في الوقعة ،

ص: 654


1- ج : فيغتسل
2- فاطر : 27
3- في ط وج : ويدعو ثم.

يوم الطف ، من آل أبي طالب عليه السلام ، وولد علي بن الحسين عليه السلام هذا في إمارة عثمان ، وقد روي ذلك عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام ، وقد مدحه الشعراء ، وروي عن أبي عبيدة ، وخلف الأحمر ، أنّ هذه الأبيات ، قيلت في عليّ بن الحسين الأكبر ، المقتول بكربلاء :

لم تر عين نظرت مثله *** من محتف يمشي ولا ناعل

يغلي نيّ ء اللحم حتى إذا *** انضج لم يغل على الآكل

كان إذا شبت له ناره *** يوقدها بالشرف القابل

كيما يراها بائس مرمل *** أو فرد حيّ ليس بالآهل

اعني ابن ليلى ذا السدا والنّدا *** أعني ابن بنت الحسب الفاضل

لا يؤثر الدنيا على دينه *** ولا يبيع الحقّ بالباطل (1)

وقد ذهب شيخنا المفيد ، في كتاب الإرشاد ، إلى أنّ المقتول بالطف ، هو علي الأصغر ، وهو ابن الثقفية ، وانّ علي الأكبر ، هو زين العابدين عليه السلام ، أمّه أم ولد ، وهي شاة زنان ، بنت كسرى يزدجرد (2).

قال محمّد بن إدريس : والأولى الرجوع إلى أهل هذه الصناعة ، وهم النسّابون ، وأصحاب السّير والأخبار والتواريخ ، مثل الزبير بن بكّار ، في كتاب أنساب قريش ، وأبي الفرج الأصفهاني ، في مقاتل الطالبيين ، والبلاذري ، والمزني ، صاحب كتاب لباب أخبار الخلفاء ، والعمري النّسابة حقّق ذلك ، في كتاب المجدي ، فإنّه قال : وزعم من لا بصيرة له ، أنّ عليا الأصغر ، هو المقتول بالطفّ ، وهذا خطأ ووهم وإلى هذا ذهب صاحب كتاب الزواجر والمواعظ ، وابن قتيبة في المعارف ، وابن جرير الطبري المحقّق لهذا الشأن ، وابن أبي الأزهر في تاريخه ، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ، وصاحب كتاب الفاخر ،

ص: 655


1- مقاتل الطالبيين ص 53
2- الإرشاد في دفن أجسادهم المطهّرة

مصنف من أصحابنا الإماميّة ، ذكره شيخنا أبو جعفر ، في فهرست المصنفين ، وأبو عليّ بن همام ، في كتاب الأنوار ، في تواريخ أهل البيت ، ومواليدهم ، وهو من جملة أصحابنا المصنفين المحقّقين ، فهؤلاء جميعا أطبقوا على هذا القول ، وهم أبصر بهذا النوع.

قال أبو عبيد (1) في كتاب الأمثال : وعند جفينة (2) الخبر اليقين ، قال : وهذا قول الأصمعي ، وأما هشام بن الكلبي ، فإنّه أخبر أنّه جهينة ، وكان ابن الكلبي بهذا النوع البر من الأصمعي.

قال محمّد بن إدريس : نعم ما قال أبو عبيد (3) لأنّ أهل كلّ فن ، أعلم بفنّهم من غيرهم ، وأبصر وأضبط.

وقد ذهب أيضا شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد ، إلى أنّ عبيد اللّه بن النهشليّة ، قتل بكربلاء مع أخيه الحسين عليه السلام (4) وهذا خطأ محض ، بلا مراء ، لأنّ عبيد اللّه بن النهشليّة ، كان في جيش مصعب بن الزبير ، ومن جملة أصحابه ، قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد بالمذار ، وقبره هناك ظاهر ، الخبر بذلك متواتر ، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر ، في الحائريات (5) ، لمّا سأله السائل عمّا ذكره المفيد في الإرشاد ، فأجاب بأنّ عبيد اللّه بن النهشليّة ، قتله أصحاب المختار بالمذار ، وقبره هناك معروف ، عند أهل تلك البلاد.

ونسب شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد ، العبّاس بن علي ، فقال : امّه أمّ البنين ، بنت حزام بن خالد بن دارم ، وهذا خطأ ، وانّما أمّ العبّاس ، المسمّى بالسقّاء ، ويسمّيه أهل النسب أبا قربة ، المقتول بكربلاء ، صاحب راية الحسين عليه السلام ذلك اليوم ، أمّ البنين ، بنت حزام بن خالد بن ربيعة ، وربيعة

ص: 656


1- في ط وج : أبو عبيدة
2- في ط وج : جهينة.
3- في ط وج : أبو عبيدة
4- الإرشاد : باب ذكر أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ، وفي المصدر هو ابن ليلى بنت مسعود الدارمية.
5- لا يوجد في الحائريات.

هذا ، هو أخو لبيد الشاعر ، ابن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وليست من بني دارم التميميين.

وقال ابن حبيب النسابة ، في كتاب المنمق لما ذكر أبناء الحبشيات من قريش ، ذكر من جملتهم العبّاس بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهذا خطأ منه ، وتغفيل ، وقلة تحصيل. وكذلك قال في أبناء السنديات من قريش ، ذكر من جملتهم ، محمّد بن عليّ بن أبي طالب بن الحنفية ، وأم علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال محمّد بن إدريس : وهذا جهل من ابن حبيب ، وقلّة تأمّل.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وأيّ غضاضة تلحقنا ، وأيّ نقص يدخل على مذهبنا إذا كان المقتول عليا الأكبر ، وكان عليا الأصغر الإمام المعصوم بعد أبيه الحسين عليهما السلام فإنّه كان لزين العابدين ، يوم الطف ، ثلاث وعشرون سنة ، ومحمّد ولده الباقر عليه السلام ، حي ، له ثلاث سنين وأشهر ، ثم بعد ذلك كلّه ، فسيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان أصغر ولد أبيه سنا ، ولم ينقصه ذلك.

وإذا كانت الزيارة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فليبدأ بالتسليم عليه ، ثم على آدم ، ونوح ، لكون الجميع مدفونا هناك ، على ما رواه أصحابنا (1) ، فإذا فرغ من الزيارة ، فليصل عند الرأس ، ست ركعات لزيارة كلّ حجة منهم ، ركعتان.

والمستحب أن يقرأ في الأولى منهما ، فاتحة الكتاب ، وسورة الرحمن ، وفي الثانية منهما ، فاتحة الكتاب ، وسورة يس ، ثم يتشهد ، ويسلم ، ثم يسبّح تسبيح الزهراء عليها السلام ويستغفر لذنوبه ، ويدعو ، ثمّ يسجد لله شكرا ، ويقول في

ص: 657


1- الوسائل : باب 27 من أبواب المزار وما يناسبه.

سجوده : شكرا شكرا ، مائة مرّة ، ولا أرى التعفير على قبر أحد ، ولا التقبيل له ، سوى قبور الأئمة عليهم السلام ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في استحبابه ، وإثباته إلى دليل شرعي ، ولن يجده طالبه ، ولو لا إجماع طائفتنا على التقبيل ، والتعفير ، على قبور الأئمة عليهم السلام عند زيارتهم ، لما جاز ذلك ، لما بيناه ، وتفصيل ما أجملناه من الزيارات ، وشرح أذكارها ، موجود في غير موضع من كتب السلف الجلّة المشيخة رضي اللّه عنهم ، من طلبه وجده.

ومن لم يتمكن من زيارة النبي ، والأئمة عليهم السلام ، بجنب قبورهم ، لبعد داره ، أو لبعض الموانع ، فليزرهم ، أو من شاء منهم ، من حيث هو ، مصحرا ، أو من علو داره أو من مصلاه ، في كلّ يوم ، أو كلّ جمعة ، أو كلّ شهر.

ومن السنة ، زيارة أهل الإيمان ، أحياء وأمواتا.

ومن زار أخاه المؤمن ، فلينزل على حكمه ، ولا يحتشمه ، ولا يكلّفه.

ومن زاره أخوه المؤمن ، فليستقبله ، ويصافحه ، ويعتنقه ، وذكر بعض أصحابنا المصنفين في تصنيفه : ويقبّل كلّ واحد منهما ، موضع سجود الآخر ، وقد روي في الأخبار ، التقبيل للقادم من الحج (1) وليكرم كلّ واحد منهما صاحبه ، وليتحف به.

وعلى المزور ، الاعتراف بحقّ زائره ، وليتحفه بما يحضره من طعام ، وشراب ، وفاكهة ، وطيب ، أو ما تيسّر من ذلك ، وأدناه شرب الماء ، أو الوضوء ، وصلاة ركعتين عنده ، والتأنيس بالحديث ، فإنّه جانب من القري ، والتشييع له عند الانصراف.

وإذا زار قبر بعض إخوانه المؤمنين ، فليستظهره ، ويجعل وجهه إلى القبلة ، بخلاف زيارة قبر الإمام المعصوم ، في الوقوف ، والكيفية ، على ما قدّمناه ، وتقرأ سورة الإخلاص سبعا ، وسورة القدر سبعا ، وتضع يدك على القبر ، وقل اللّهم

ص: 658


1- تحف العقول : باب ما روي عن أمير المؤمنين ، حديث أربعمائة.

ارحم غربته ، وصل وحدته ، وآنس وحشته ، وأسكن إليه من رحمتك ، رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك ، وألحقه بمن كان يتولاه ، ويستغفر اللّه لذنبه ، وينصرف إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ الجزء الأوّل من كتاب السرائر ، الحاوي لتحرير الفتاوي ، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء اللّه تعالى كتاب الجهاد ، وسيرة الإمام باب فرض الجهاد ، ومن يجب عليه ، وشرائط وجوبه ، وحكم الرباط ، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل : وصلواته وتحيّاته على سيّدنا محمّد النبي وعلى آله الطاهرين الأئمة الراشدين.

كتبه وفرغ منه نسخا وتصنيفا مؤلّفه ومنشئه « محمد بن إدريس » وذلك بحلّة الجامعين ، تاريخ ذي القعدة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة حامدا مصليا مستغفرا من اللّه تائبا من خطائه ولله المنة وبه الثقة (1).

ص: 659


1- قد كتب كاتب نسخة الأصل هنا ما لفظه : واتفق الفراغ من انتساخه في العشر الأوّل من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة. وحسبنا اللّه ونعم الوكيل كما انه كتب في حاشية النسخة هكذا : بلغ مقابلة بخط المصنف رضي اللّه عنه وصحّ الّا ما زاغ عنه النظر أو حسر عنه البصر. وكتب في ذي حجة من سنة أربعين وستمائة واللّه الموفق.

ص: 660

فهرس الموضوعات

من حياة المؤلف قدس سره... 5

مقدمة المؤلف... 41

كتاب الطهارة

باب في أحكام الطهارة وجهة وجوبها وكيفية أقسامها وحقيقتها

الطهارة لغة وشرعا... 56

تقسيم الطهارة إلى كبرى وصغرى ، وكل منهما إلى واجب وندب... 57

باب المياه وأحكامها

الماء المطلق والمضاف وأحكامهما... 58

في بيان حد الكر من الماء... 60

في طهارة الماء المستعمل في التطهير ومطهريته... 61

تقسيم الماء إلى جار وواقف... 62

طريق تطهير ماء القليل إذا تنجس... 63

في تنجس ماء البئر بوقوع النجاسة فيه ، وبيان حد النزح... 69

فيما يوجب نزح الجميع أو المراوحة وما يوجب نزح البعض... 72

أحكام الأسئار... 84

عدم جواز استعمال الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما لا بعينه... 85

حول الاخبار أو الشهادة بنجاسة الماء... 86

ص: 661

أحكام ماء الحمام... 89

كيفية تطهير الاناء الذي ولغ فيه الكلب... 91

باب أحكام الاستنجاء والاستطابة وكيفية الوضوء وأحكامه

أحكام الاستنجاء... 95

في وجوب النية في الطهارة وبيان وقتها وكيفيتها... 98

كيفية الوضوء وما وجب غسله فيه... 99

في لزوم الترتيب والموالاة في الطهارة... 101

فيمن شك في حال الوضوء أو بعده ومن تيقن الطهارة والحدث معاً... 104

باب أحكام الاحداث الناقضة للطهارة

في نواقض الوضوء وأنها ثلاثة أضرب... 106

فيما يوجب الغسل... 107

تعداد نواقض الطهارة المائية... 111

استباحة الصلاة بغسل الجنابة واختلاف الأقوال في غيره... 112

باب الجنابة وأحكامها وكيفية الطهارة

منها فيما يوجب الجنابة... 114

ما يحرم على الجنب... 117

غسل الجنابة كيفيتها وسننها وآدابها... 118

حكم من وجد بعد الغسل بللا... 122

في إجزاء غسل الجنابة عن الأغسال المفروضة والمسنونة... 123

الأغسال المسنونة... 124

باب التيمم وأحكامه

كيفية تيمم البدل من الوضوء... 135

كيفية التيمم بدل الغسل... 137

اختلاف الأقوال فيمن دخل في الصلاة بالتيمم ثم أصاب الماء... 139

ص: 662

من نسى الماء في رحله فتيمم وصلى ثم علم به من بعد... 140

إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم... 142

باب أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس

بيان صفات دم الحيض... 143

أحكام الحائض وأنها عشرون حكماً... 144

لو اشتبه دم الحيض بدم العذرة والقرح... 146

إن تجاوز الدم عن العشرة فلها أربعة أحوال... 146

من لم تكن لها عادة ورأت الدم اليوم واليومين... 149

اختلاف الأقوال والأصحاب في الحبلى المستبين حملها... 150

المستحاضة وصفها وبيان أحكامها... 152

في دم النفاس وأحكامه... 154

في عدم الحد لقليل النفاس... 155

باب غسل الأموات وما يتقدم ذلك

آداب المريض وفضل عيادته... 157

فيما يستحب فعله عند احتضاره وبعده... 158

في أن غسل الميت واجب كفائي... 158

بيان ترتيب غسل الميت وكيفيته... 159

المفروض من الأكفان ومسنونها... 160

الواجب أن يغسل الميت ثلاث غسلات... 162

آداب التدفين... 164

في أحكام الشهيد غسلا وكفناً ودفنا... 166

فيمن يجب أن يغتسل قبل موته... 167

لا بأس أن يغسل المحرم المحرم رحمه في حال الاختيار... 168

إذا لم يوجد سدر ولا كافور يغسل ثلاث غسلات بالقراح... 169

ص: 663

باب التعزية والسنة في ذلك

استحباب تعزية صاحب العزاء وكيفيتها وشرائطها... 171

لا يجوز للوالدين شق جيبهما على ولدهما... 172

باب تطهير الثياب والبدن والأواني والأوعية من النجاسات

في تفصيل الدماء الطاهرة وأحكامها... 174

تقسيم الدم على تسعة أقسام وبيان أحكامها... 176

في الدم المعفو عنه في الصلاة... 177

ما يؤثر بالتنجيس على ثلاثة أضرب... 179

حكم الماء إذا ولغ فيه الكلب والخنزير... 180

في عرق الجنب والحائض... 181

فيما يطهره الشمس من النجاسة... 182

حكم من صلى في النجس نسياناً أو جهلا... 183

لا بأس بنجاسة مالا يتم الصلاة فيه... 184

فيمن كان معه ثوبان أحدهما نجس لا بعينه... 184

أحكام أبوال الصبيان... 187

تطهير الموضع النجس بالبول بستة أشياء... 188

النجاسة على ضربين مايع وجامد... 189

كتاب الصلاة

في أن الصلاة آكد العبادات... 192

باب أعداد الصلاة وعدد ركعاتها

الصلاة المرتبة تنقسم إلى قسمين... 192

تفصيل أعداد فرائض الحضر والسفر من الصلاة وسننها... 193

باب أوقات الصلاة المرتبة

وقت صلاة الظهرين والعشاءين وصلاة الليل وركعتي الفجر... 195

ص: 664

فيمن صلى وظهر له بعد الفراغ أن الوقت لم يدخل... 200

باب القبلة وكيفية التوجه إليها وتجربها

يجب على المصلي التوجه إلى الكعبة بعينها إن أمكن وإلا فإلى جهتها... 204

فيمن لم يتمكن له القبلة... 205

حكم من أخطأ القبلة وظهر له في الوقت أو خارجه... 205

باب الأذان والإقامة وأحكامهما وعدد فصولهما

اختلاف الأصحاب في الأذان والإقامة والمختار استحبابهما... 208

في مستحبات المؤذن ووقت الاذان... 210

في وجوب الترتيب في الأذان والإقامة وعدم جواز التثويب في الاذان... 212

بيان فصول الأذان والإقامة... 213

باب ذكر أعمال الصلاة المفروضة وما يلحق بذلك من الشروط

بيان واجبات الصلاة وموانعها... 215

باب كيفية فعل الصلاة على سبيل الكمال

استحباب التكبيرات السبعة وكيفيتها... 216

فيما ينبغي للمصلى في صلاته من خشوع وخضوع وغيرهما... 217

لا يجوز الجهر ببسم اللّه في الأخيرتين... 218

في السور التي لا يجوز الاكتفاء بها منفرداً... 220

الأظهر وجوب ضم سورة أخرى إلى الحمد في الأولتين... 221

التخيير بين الحمد والتسبيح في الأخير تين وبيان عدد التسبيح... 222

فيما يستحب أن يقرأ من السور في الصلوات... 222

فيما ينبغي في الركوع وذكره ووجوب الطمأنينة في القيام والركوع... 224

أحكام السجود وواجباته... 225

سجود التلاوة وأحكامه... 226

في القنوت... 228

ص: 665

في التشهد وذكره... 229

في التسليم... 231

في المستحبات بعد التسليم... 232

باب ذكر أحكام الاحداث التي تعرض في الصلاة

فيما يعرض الانسان في الصلاة من القئ والرعاف... 234

فيما يعرض الانسان في الصلاة مما ينقض الطهارة... 235

في حكم المصلي فيما لو سلم عليه... 236

عدم جواز التكفير في الصلاة... 237

حول فعل القليل والكثير في الصلاة... 238

باب تفصيل أحكام ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون

فيما يجب من الصلاة... 239

فيمن دخل في الحاضرة في سعة الوقت وعليه فائتة... 239

فيمن ترك الركوع... 240

في وجوب التشهد وصورته ، وأن التسليم سنة... 241

تقسيم المفروض من الصلاة إلى ركن وغيره ، وبيان أحكامهما... 242

أحكام تروك الصلاة... 243

باب أحكام السهو والشك في الصلاة

لا حكم للسهو والشك مع غلبة الظن... 244

السهو على ضروب ستة ، فالضرب الأول ما يقتضى إعادة الصلاة... 245

من صلى في مكان مغصوب أو ثوب مغصوب... 247

الضرب الثاني من السهو هو الذي لا حكم له ككثير الشك وغيره... 248

الضرب الثالث من السهو هو الذي يعمل فيه على غالب الظن... 250

الضرب الرابع من السهو هو الذي يقتضي التلافي في الحال... 250

الضرب الخامس من السهو هو الموجب للاحتياط... 251

ص: 666

في الصور التي يبني فيها على الأكثر... 254

الضرب السادس من السهو هو الموجب لجبران الصلاة... 257

في تداخل سجدتي السهو وعدمه وبيان ذكره وأحكامه... 258

باب القول في لباس المصلي والقول في أماكن الصلاة

في وجوب الستر على المصلى ، وبيان حده للذكر والأنثى... 260

كيفية صلاة العاري... 260

يجوز الصلاة في ثمانية أجناس من اللباس... 261

يشترط في لباس المصلي الطهارة والإباحة... 262

عدم جواز الصلاة في الإبريسم المحض للرجال... 263

الأمكنة التي تكره فيها الصلاة... 264

فيما يجوز السجود عليه وما لا يجوز... 267

في مكروهات لباس المصلي... 268

باب أحكام قضاء الفائت من الصلوات

يجب قضاء الفائتة من الصلاة من غير توان... 272

لزوم الترتيب في قضاء الصلوات... 272

في حكم من دخل في صلاة وتذكر أنه لم يصل ما قبلها... 274

فيمن نسى صلاة فريضة من الخمس ولم يعلم بعينها... 274

حكم الحايض ، والمغمى عليه في قضاء الصلاة... 276

باب صلاة الجماعة وأحكامها

تأكد استحباب الجماعة في الفرائض وفضلها... 277

فضل بناء المساجد وأحكامها... 278

فيمن أجنب في المسجدين... 279

شرائط إمام الجماعة... 280

فيمن لا يجوز إمامتهم للجماعة... 281

ص: 667

فيما لو ظهر كفر الامام أو فسقه... 282

سقوط القراءة عن المأموم... 284

من أدرك الامام راكعاً أو ساجداً... 285

لا يجوز للمأموم السبق على الامام في أفعال الصلاة... 288

يجوز اقتداء المؤدي بالقاضي وبالعكس والمفترض بالمتنفل وبالعكس... 289

باب صلاة الجمعة وأحكامها

شرائط فرض صلاة الجمعة... 290

تقسيم شرائط وجوب الجمعة إلى قسمين... 291

في سنن الجمعة... 294

خطبة الجمعة وآدابها ووقتها... 295

تقدم صلاة الجمعة على صلاة الكسوف والاستسقاء... 301

باب النوافل المرتبة وغيرها

أوقات نوافل اليومية... 306

لا بأس أن يصلى النوافل جالساً... 309

نوافل شهر رمضان وتفصيلها... 310

صلاة أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام وسائر الصلوات الواردة... 312

باب صلاة العيدين

شروط فرض صلاة العيدين... 315

كيفية صلاة العيدين وما يستحب فيهما... 316

باب صلاة الكسوف

في وجوب صلاة الكسوف والخسوف واستحبابها جماعة... 320

وقت صلاة الكسوف والخسوف... 322

كيفية صلاة الكسوف... 323

باب صلاة الاستسقاء

ص: 668

مقدمات صلاة الاستسقاء وكيفية فعلها... 325

باب صلاة المسافر

في أن السفر على أربعة أقسام... 327

لا يجوز تقصير الصلاة في سفر المعصية ويجب في سائر الاسفار... 327

حد السفر الذي يجب معه التقصير... 328

حكم من سافر إلى أربعة فراسخ وأراد الرجوع من يومه... 329

من دخل عليه وقت الصلاة وهو حاضر فسافر وبالعكس... 332

لا يجوز التقصير للمكاري والملاح والراعي والبدوي... 336

من كان سفره أكثر من حضره يجب عليه التمام... 338

يستحب الاتمام في أربعة مواطن... 342

باب صلاة الخوف

في الخوف الموجب لقصر الصلاة وبيان كيفيتها وآدابها... 346

باب صلاة المريض والعريان وغير ذلك

من أمكنه القيام معتمدا فليصل قائماً وإلا فجالساً... 348

حكم المريض المبتلى بسلس البول والثفل... 350

في صلاة المقيدين والممنوعين من الحركة والمحبوسين... 352

باب صلاة الأموات

صلاة الأموات فرض كفائي... 355

فيمن يجب الصلاة عليهم... 356

في جواز الصلاة على الأموات بغير طهارة... 357

يجوز للنساء أن يصلين على الجنازة مع عدم الرجال... 358

كيفية صلاة الأموات... 359

كتاب الصيام

باب حقيقة الصوم ومن يجب عليه ومن لا يجب عليه

ص: 669

حقيقة الصوم لغة وشرعاً وبيان شرائطه... 364

فيما يلزم المرتد عن الاسلام إذا رجع... 366

في شرطية البلوغ لوجوب العبادات وحده في الرجل والمرأة... 367

أقسام الصوم حكماً... 367

صوم المفروض على ضربين... 368

عدم لزوم التعيين في المعين بل يكفي نية القربة... 370

وقت نية صوم المتعين ليلة الصوم... 371

وقت نية صوم الغير المتعين والتطوع... 373

فيما يوجب القضاء والكفارة أو القضاء وحده... 374

بيان الكفارة اللازمة بالمفطرات... 378

باب علامة شهر رمضان ووقتي الامساك والافطار

في بيان طرق ثبوت الهلال... 380

حكم صوم يوم الشك... 384

الوقت الذي يجب فيه الامساك ووقت الافطار... 385

باب ما يجب على الصائم اجتنابه

فيما لو جامع زوجته نهاراً وطاوعته على ذلك... 385

فيما يكره للصائم... 386

باب حكم المسافر والمريض والعاجز عن الصيام وغير ذلك

شروط السفر الموجب للافطار... 390

فيمن كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع من يومه... 391

حكم النوافل في السفر... 393

حكم صوم المريض وأحكام ما فات منه من الصوم... 395

العاجز عن الصيام على ثلاثة أضرب... 400

باب حكم من أسلم في شهر رمضان

ص: 670

حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه... 401

حكم المسافر إذا قدم أهله... 403

حكم المريض إذا برئ في وسط النهار... 404

باب قضاء شهر رمضان ومن أفطر فيه على العمد والنسيان

لا يجوز التطوع بالصيام لمن عليه صوم واجب... 405

حكم من أجنب ونسي الغسل... 407

أحكام المغمى عليه... 409

باب ما يجرى مجرى صوم شهر رمضان

أحكام صيام الشهرين المتتابعين... 411

فيمن تعمد في إفطار صوم النذر... 413

صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعات... 414

ثلاث مسائل لصيام النذر... 416

باب صيام التطوع

في أن صوم جميع أيام السنة مسنون الا الأيام المحرمة... 417

باب الاعتكاف

الاعتكاف لغة وشرعاً... 421

الاعتكاف على ضربين واجب وندب... 422

كتاب الزكاة

فصل في حقيقة الزكاة وما تجب فيه وبيان شروطها

حقيقة الزكاة لغة وشرعاً ، والذي تجب فيه الزكاة... 428

شروط وجوب الزكاة في الأجناس التسعة... 429

فصل في الأصناف التي تجب فيها الزكاة

في متعلقات فرض الزكاة وبيان شروطه... 432

ص: 671

باب وجوب الزكاة

فيمن تجب عليهم الزكاة وبيان شروطه... 440

باب ما تجب فيه الزكاة ومالا تجب

هل على السبائك والحلي زكاة ؟... 442

هل على المال الغائب زكاة ؟... 443

باب المقادير التي تجب فيها الزكاة

حد نصاب النقدين وما يخرج منهما... 446

حد نصاب الغلات وما يخرج منهما... 447

حد نصاب الانعام وما يخرج منهما... 448

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذهب والفضة حتى يحول عليهما الحول... 451

وقت وجوب الزكاة في الغلات والانعام... 453

باب مستحق الزكاة وأقل ما يعطى منها وأكثر

الأصناف المستحقة للزكاة وأحكامها وشرائطها... 455

باب وجوب زكاة الفطرة

شرائط وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه... 465

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

في أجناس زكاة الفطرة... 468

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة

فيمن يستحقها... 469

باب أحكام الجزية

باب أحكام الأرضين

الأرضون على أربعة أقسام وأحكامها... 473

تقسيم البلاد إلى ضربين وبيان حكم كل منهما... 479

ص: 672

أحكام أراضي الموات... 481

المعادن وأحكامها... 483

باب الخمس والغنائم

فيما يجب فيه الخمس

باب قسمة الغنائم والأخماس ومن يستحقها

كيفية تقسيم الغنائم... 491

في تقسيم الخمس إلى أقسام ستة وبيان مصرفها ومستحقها... 492

باب في ذكر الأنفال ومن يستحقها

الأنفال معناها ومصاديقها وأحكامها... 497

كتاب الحج

باب حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما

الحج لغة وشرعاً... 506

شرائط وجوب الحج والعمرة... 507

في أن وجوبهما على الفور... 515

باب في أقسام الحج تقسيم الحج

إلى ثلاثة أقسام... 519

أفعال حج التمتع... 520

في حج القران والافراد... 521

وقت عمرة التمتع... 524

باب المواقيت

الاحرام قبل الميقات باطل... 526

في المواقيت وأهلها... 528

باب كيفية الاحرام

ص: 673

فيمن ترك الاحرام عمداً أو نسيانا... 529

إحرام حج التمتع وآدابه... 530

التلبية التي ينعقد بها الاحرام فريضة... 536

تقسيم أفعال الحج إلى مفروض ومسنون والمفروض إلى ركن وغيره وبيان أركان التمتع       537

بيان أشهر الحج... 538

باب ما يجب على المحرم اجتنابه وما لا يجب

فيما يحرم أو يكره لبسه وما يستحب لبسه... 542

في سائر محرمات الاحرام... 545

باب ما يلزم المحرم عن جناياته

فيما يفعله المحرم عامداً أو ناسياً وما يترتب عليه... 548

حكم من أفسد الحج أو العمرة... 549

تفصيل أحكام الصيد وكفارته... 556

اختلاف الأصحاب في المضطر إلى أكل الميتة والصيد... 568

باب دخول مكة والطواف بالبيت

فيما يستحب للمحرم لو أراد دخل الحرم... 569

أحكام متعلقة بالطواف... 572

في صلاة الطواف... 577

باب السعي وأحكامه

السعي ركن من أركان الحج... 578

باب الاحرام بالحج

الاحرام بالحج ووقته ومقامه... 583

فيمن نسى الاحرام بالحج... 584

باب الغدو إلى عرفات

وقت الخروج إلى عرفات وبيان حدها... 585

ص: 674

باب النزول إلى منى

وقت فضيلة الخروج إلى منى... 586

باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام

وقت الإفاضة من عرفات ووقت إدراك المشعر... 587

حد المشعر الحرام... 588

باب الذبح

في وجوب الهدي وفيمن لم يقدر على ذلك... 591

حكم الصوم الذي هو بدل الهدي... 592

في جواز الهدي الواحد عن غير واحد عند الضرورة وعدمه... 595

شرائط الهدي... 596

الهدي على ثلاثة أضرب... 599

باب الحلق والتقصير

التخيير بين الحلق والتقصير... 600

باب زيارة البيت والرجوع إلى منى ورمي الجمار

طواف الحج وآدابه... 602

طواف النساء ومن وجب عليه وأحكامه... 604

أحكام رمي الجمار... 605

باب النفر من منى ودخول الكعبة

النفر من منى وأحكامه... 611

في استحباب دخول الكعبة وما يستحب فيها... 613

باب فرائض الحج وتفصيل ذلك

في ركنية النية والاحرام... 616

أحكام التلبية والطواف بالبيت... 617

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

ص: 675

شرايط وجوب الحج على النساء كشرائط وجوبه على الرجال... 621

في أحكام الحيض الحادث وسائر أحكام المختصة بها... 623

باب الاستيجار للحج

في شرائط الأجير للحج وما ينبغي... 626

في أحكام مترتبة على موت الأجير... 628

في نيابة المرأة عن الغير... 630

باب العمرة المفردة أحكام العمرة المفروضة... 633

أحكام العمرة المسنونة وأفضلها... 634

باب حكم العبيد والمكاتبين والمدبرين

لا يجوز الاحرام للعبد الا بإذن سيده... 635

باب حكم الصبيان في الحج

في لزوم إحرام الولي عن الصبي وأحكام سائر أفعال الحج بالنسبة إلى الصبي... 636

باب حكم المحصور والمصدود

فيما يوجب الحصر والصد وأحكام كل منهما... 637

باب في الزيادات من فقه الحج

فيمن أحدث حدثا فالتجأ إلى الحرم... 644

إستحباب إتمام الصلاة في الحرمين... 646

في أحكام متعلقة بالوصية للحج... 650

فيما يستحب لدخول المدينة وما بعده... 651

فصل في الزيارات

تأكد استحباب زيارة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وكيفيتها... 654

في استحباب زيارة أهل الايمان أحياء وأمواتاً... 658

ص: 676

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 2

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1410 ه-.ق

الصفحات: 768

المكتبة الإسلامية

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الثاني

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

كتاب السرائر

(ج2)

المؤلف: محمد بن إدريس الحلي

المحقق: لجنة التحقيق

الموضوع: فقه

عدد الأجزاء: 3 أجزاء

الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الثانية

المطبوع: 3000 نسخة

التاريخ: 1410 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

ربّ يسّر

كتاب الجهاد وسيرة الإمام

اشارة

باب فرض الجهاد ومن يجب عليه وشرائط وجوبه وحكم الرباط

الجهاد فريضة من فرائض الإسلام ، وركن من أركانه ، وهو من فروض الكفايات ، ومعنى ذلك أنّه إذا قام به من في قيامه كفاية وغنا عن الباقين ولا يؤدي إلى الإخلال بشي ء من أمر الدين ، سقط عن الآخرين ، ومتى لم يقم به أحد لحق جميعهم الذم ، واستحقوا بأسرهم العقاب.

ويسقط الجهاد عن النساء ، والصّبيان ، والشيوخ الكبار ، والمرضى ، ومن ليس به نهضة إلى القيام بشرطه.

ومن كان متمكنا من إقامة غيره مقامه في الدفاع عنه ، وهو غير متمكّن من القيام به بنفسه ، وجب عليه إقامته وإزاحة علته فيما يحتاج إليه.

ومن تمكن من القيام بنفسه فأقام (2) غيره مقامه ، سقط عنه فرضه ، إلا أن يلزمه الناظر في أمر (3) المسلمين القيام بنفسه ، فحينئذ يجب عليه أن يتولى هو الجهاد ، ولا يكفيه إقامة غيره (4).

ومن يجب عليه الجهاد انّما يجب عليه عند شروط ، وهي أن يكون الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره ، ولا يسوغ لهم الجهاد من دونه ، ظاهرا ، أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين في الجهاد حاضرا ، ثمّ

ص: 3


1- ل : سقط منها البسملة و « ربّ يسّر ».
2- ل : واقام :
3- ل : في أمور.
4- ج : اقامة غير مقامه.

يدعوهم إلى الجهاد فيجب عليهم حينئذ القيام به ، ومتى لم يكن الإمام ظاهرا ، ولا من نصبه حاضرا ، لم تجز مجاهدة العدو.

والجهاد مع أئمّة الجور ، أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم ، وإن أصاب لم يوجر ، وإن أصيب كان مأثوما ، اللّهم إلا أن يدهم المسلمين والعياذ باللّه أمر من قبل العدو يخاف منه على بيضة الإسلام ، ويخشى بواره ، وبيضة الإسلام : مجتمع الإسلام وأصله ، أو يخاف على قوم منهم ، وجب حينئذ أيضا جهادهم ودفاعهم ، غير أنّه يقصد المجاهد والحال ما وصفناه الدفاع عن نفسه ، وعن حوزة الإسلام ، وعن المؤمنين ، ولا يقصد الجهاد مع السّلطان الجائر ، ولا مجاهدتهم ليدخلهم في الإسلام ، وهكذا حكم من كان في دار الحرب ، ودهمهم عدو يخاف منه على نفسه ، جاز أن يجاهد مع الكفار دفعا عن نفسه وماله ، دون الجهاد الذي يجب في الشرع.

ومتى جاهدوا مع عدم الإمام ، وعدم من نصبه للجهاد ، فظفروا ، وغنموا ، كانت الغنيمة كلها للإمام خاصة ، ولا يستحقون هم منها (1) شيئا أصلا.

والمرابة ، فيها فضل كبير ، وثواب جزيل ، إذا كان هناك إمام عادل ، وحدّها ثلاثة أيّام إلى أربعين يوما ، فإن زاد على ذلك كان جهادا ، وحكمه حكم المجاهدين.

ومن نذر المرابطة في حال استتار الإمام ، وجب عليه الوفاء به ، غير انه لا يجاهد العدو ، إلا على ما قلناه من الدفاع عن الإسلام والنّفس.

وإن نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين في حال ظهور الإمام ، وجب عليه الوفاء به ، وإن كان ذلك في حال استتاره ، لا يجب عليه الوفاء بالنذر. على قول بعض أصحابنا (2) ، بل قال يصرفه في وجوه البر.

ص: 4


1- ل : ولا يستحقون منها.
2- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية ، كتاب الجهاد ، إلا أنه في المصدر : « في حال انقباض يد الإمام » مكان قوله : « حال استتاره ».

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إن كان النذر غير صحيح ، فما يجب عليه صرفه في وجوه البر ، وإن كان النذر صحيحا فيوجهه إلى الجهة (1) المنذور فيها ، لا يجزيه غيره.

ثمّ قال الذاهب الأوّل الذي حكينا كلامه : إلا أن يخاف من الشناعة لتركه الوفاء بالنذر ، فيصرفه إليهم تقية.

والذي اعتمده وأعمل عليه ، صحة هذا النذر ، ووجوب الإتيان به ، لأنّه إمّا مندوب إليه ، أو مباح ، والنذر في المباح يجب الوفاء به ، وكذلك المندوب إليه ولا مانع يمنع منه.

ومن آجر نفسه لينوب عن غيره في المرابطة ، فإن كان في حال انقباض يد الإمام العادل ، قال بعض أصحابنا : لا يلزمه الوفاء به ، ويردّ عليه ما أخذه منه ، فإن لم يجده فعلى ورثته ، وإن لم يكن له ورثة ، لزمه الوفاء به ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي يقوى عندي ، وتقتضيه الأدلة ، لزوم الإجارة في الحالين معا ، غير أنّه لا يجاهد العدو إلا على ما قلناه من الدفاع عن النفس والإسلام ، لأنّ عندنا بغير خلاف أنّه إذا نذر المرابطة في حال استتار الإمام ، وجب عليه الوفاء به ، غير أنّه لا يجاهد العدو إلا على ما قلناه ، وقد قدّمنا (3) ذلك. فإن كان في حال ظهور الإمام ، لزمه الوفاء به ، على كلّ حال.

ومن لا يمكنه المرابطة بنفسه ، فرابطة دابة ، أو أعان المرابطين بشي ء من ماله ، كان فيه الثواب.

ص: 5


1- ج : في الجهة.
2- النهاية : كتاب الجهاد ، إلا أنّ في المصدر : « ومن أخذ من إنسان ».
3- ل : قد بيّنا.

باب في ذكر أصناف الكفار ومن يجب قتالهم منهم وكيفية القتال

الكفار على ثلاثة أضرب ، أهل كتاب وهم اليهود والنّصارى ، فهؤلاء يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية. ومن له شبهة كتاب فهم المجوس (1) ، فحكمهم حكم أهل الكتاب ، يقرون أيضا على دينهم ببذل الجزية. ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب ، وهم من عدا هؤلاء الثلاثة الأصناف ، من عباد الأصنام ، والأوثان ، والكواكب ، وغيرهم فلا يقرون على دينهم ببذل الجزية.

ومتى امتنع أهل الكتاب ، ومن له شبهة كتاب ، من بذل الجزية ، كان حكمهم حكم غيرهم من الكفّار ، في وجوب قتالهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم وتكون فيئا.

وينبغي للإمام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار ، الأقرب فالأقرب ، والأولى أن يشحن كلّ طرف من أطراف بلاد الإسلام بقوم يكونون أكفاء لمن يليهم من الكفّار ، ويولّي عليهم أميرا عاقلا دينا خيّرا شجاعا يقدم في موضع الإقدام ، ويتأنى في موضع التّأني.

ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام ، وإظهار الشهادتين ، والإقرار بالتوحيد ، والعدل ، والتزام جميع شرائع الإسلام ، فمتى دعوا إلى ذلك ، ولم يجيبوا حلّ قتالهم ، ومتى لم يدعوا لم يجز قتالهم.

والداعي ينبغي أن يكون الإمام أو من يأمره الإمام.

ولا يجوز قتال النساء ، فإن قاتلن المسلمين ، وعاون أزواجهن ، ورجالهن ، أمسك عنهن ، فإن اضطر إلى قتلهن جاز حينئذ قتلهن ، ولم يكن به بأس.

وشرائط الذّمة ، الامتناع من مجاهرة المسلمين ، بأكل لحم الخنزير ، وشرب

ص: 6


1- ج : وهم المجوس.

الخمور ، وأكل الربا ، ونكاح المحرمات في شريعة الإسلام ، وإن لا يأووا عينا على المسلمين ، ولا يعاونوا عليهم كافرا ، وان لا يستقروا (1) على مسلم ، فمتى فعلوا شيئا من ذلك ، فقد خرجوا من الذمة ، وجرى عليهم أحكام الكفار الحربيين الذين لا كتاب لهم.

ومن أسلم من الكفار وهو بعد في دار الحرب ، كان إسلامه حقنا لدمه ، من القتل ، ولولده الصغار من السبي. فأمّا الكبار (2) منهم البالغون ، فحكمهم حكم غيرهم من الكفار ، وماله من الأخذ ، كلّ ما كان صامتا ، أو متاعا ، أو أثاثا ، وجميع ما يمكن نقله إلى دار الإسلام ، وأمّا الأرضون ، والعقارات ، وما لا يمكن نقله فهو في ء للمسلمين.

ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه ، إلا بتغريق المساكن ، ورميهم بالنيران ، وإلقاء السم في بلادهم ، فإنّه لا يجوز أن يلقى السمّ في بلادهم قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وكره أصحابنا إلقاء السمّ (3) وقال في نهايته :

لا يجوز إلقاء السّم في بلادهم (4) وما ذكره في نهايته ، به نطقت الأخبار عن الأئمة الأطهار (5) وروى أصحابنا كراهيّة تبييت العدو حتى يصبح (6).

والوجه في جميع ما تقدم أنّه إذا كان مستظهرا وفيه قوة ، ولا حاجة به إلى الإغارة ليلا ، امتنع ، وإذا كان بالعكس من ذلك ، جاز الإغارة ليلا ، وروى ابن عبّاس عن المصعب بن حنانة ، قال : قلت يا رسول اللّه ، نبيّت المشركين وفيهم النساء والصبيان ، فقال : انّهم منهم (7).

وأمّا تخريب المنازل ، والحصون ، وقطع الأشجار المثمرة ، فإنّه جائز إذا غلب

ص: 7


1- ل : ولا يسقروا.
2- ل : فأمّا الكبار البالغون.
3- المبسوط في فصل أصناف الكفار وكيفية قتالهم.
4- النهاية : كتاب الجهاد ، باب من يجب قتالهم.
5- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 16 من أبواب جهاد العدو ، والباب 15 من مستدرك الوسائل.
6- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 17 من أبواب جهاد العدو.
7- سنن ابن ماجة : ج 2 ص 947 ح 2839 وسنن أبي داود : ج 3 ص 54 ح 2672 الصعب بن جثامة وفيهما كالمبسوط الموافق لما في الكتب الرجالية وفي ج. الصعب بن خبانه.

في ظنّه أنّه لا يملك إلا بذلك ، فإن غلب في ظنه أنّه يملكه ، فالأفضل أن لا يفعل ، فإن فعل جاز ، كما فعل الرّسول عليه السلام بالطائف ، وبنى النضير ، وخيبر ، فأحرق على بنى النّضير ، وخرّب ديارهم.

وإذا تترس المشركون بأطفالهم ، فإن كان ذلك حال التحام القتال ، جاز رميهم ، ولا يقصد الطفل ، بل يقصد من خلفه ، لأنّه لو لم يفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد ، وكذلك الحكم إذا تترسوا بأسارى المسلمين ، وكذلك إذا تترسوا بالنساء ، فإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النازلين عليهم ، فهلك المسلمون فيما بينهم ، أو هلك من أموالهم شي ء ، لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامته من الدية ، والأرش.

فإمّا الكفارة في قتل المسلم النازل عندهم ، من غير قصد إلى قتله ، فإنّ الدية لا تجب ، ولا القود ، بل يجب الكفارة لقوله تعالى ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (1) ولم يذكر الدية.

ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان ، وفي أيّ شهر كان ، إلا الأشهر الحرم ، فإنّ من يرى منهم خاصّة لهذه الأشهر حرمة ، لا يبتدءون فيها بالقتال ، فإن بدءوا هم بقتال المسلمين جاز حينئذ قتالهم ، وان لم يبتدئوا ، أمسك عنهم إلى انقضاء هذه الأشهر ، فأمّا غيرهم من سائر أصناف الكفار ، فإنّهم يبتدئون فيها بالقتال على كل حال.

ولا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال ، غير أنّه لا يجوز أن يطلب المبارزة ، إلا بإذن الإمام.

ولا يجوز لأحد أن يؤمن إنسانا على نفسه ثم يقتله ، فإنّه يكون غادرا (2).

ويلحق بالذراري من لم يكن قد أنبت بعد ، ومن أنبت ، الحق بالرجال واجرى عليه أحكامهم.

ص: 8


1- النساء : 92.
2- ل : عاديا غادرا.

ويكره قتل من يجب قتله صبرا ، وانّما يقتل على غير ذلك الوجه ، ومعنى صبرا (1) حبسا للقتل.

ولا يجوز أن يفر واحد من واحد ، ولا اثنين ، فإن فر منهما ، كان مأثوما ، ومن فر من أكثر من اثنين ، لم يكن به بأس.

باب قسمة الفي ء وأحكام الأسارى

قد ذكرنا في كتاب الزكاة كيفيّة قسمة الفي ء ، غير انّا نذكر هاهنا ما يليق بهذا المكان.

كلّ ما غنمه المسلمون من المشركين ، ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس ، فيصرفه في أهله ومستحقه ، حسب ما بيّناه في كتاب الزكاة ، بعد اصطفاء ما يصطفيه ، والباقي على ضربين ، ضرب منه للمقاتلة خاصّة ، دون غيرهم من المسلمين ، وضرب هو عام لجميع المسلمين ، مقاتليهم وغير مقاتليهم ، فالذي هو لجميع المسلمين ، فكلّ ما عدا (2) ما حواه العسكر ، من الأرضين ، والعقارات ، وغير ذلك ، فإنّه بأجمعه في ء للمسلمين ، من غاب منهم ، ومن حضر على السواء ، وما حواه العسكر يقسم بين المقاتلة خاصة ، ولا يشركهم فيه غيرهم.

فإن قاتلوا وغنموا ، فلحقهم قوم آخرون ، لمعونتهم ، أو مدد لهم (3) ، كان لهم من القسمة ، مثل ما لهم ، يشاركونهم ، هذا إذا لحقوا بهم قبل قسمة الغنيمة ، فأمّا إذا لحقوا بعد القسمة ، فلا نصيب لهم معهم ، وكذلك إذا نفذ أمير الجيش سرية إلى جهة ، فغنموا ، شاركهم الجيش ، لأنّه مدد لهم ، وهم من جملته.

وينبغي للإمام أن يسوّي بين المسلمين في القسمة ، لا يفضل أحدا منهم

ص: 9


1- ج : ويعنى بقولهم صبرا.
2- ج : المسلمين ، كلّ ما عدا.
3- ل : آخرون ومددهم.

لشرفه ، أو علمه ، أو زهده على من ليس كذلك في قسمة الفي ء.

وينبغي أن يقسم للفارس سهمين ، وللراجل سهما على الصحيح من المذهب.

وقال بعض أصحابنا (1) : يعطى الفارس ثلاثة أسهم ، وإن لم يكن معه إلا فرس واحد ، والأظهر من الأقوال الأول.

فإن كان مع الرجل ، أفراس جماعة ، لم يسهم منها إلا لفرسين ، فيعطى ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، ولصاحب الفرس الواحد سهمان ، ولا يسهم لشي ء من المركوب من الإبل ، والبغال ، والحمير ، والبقر ، والفيلة ، إلا للخيل خاصّة ، بلا خلاف ، سواء كان الفرس عتيقا كريما ، أو برذونا ، أو هجينا ، أو مقرفا ، أو حطما ، أو قحما ، أو ضرعا ، أو أعجف ، أو رازحا ، فإنّه يسهم له (2).

فالعتيق ، الذي أبوه كريم ، وامه كريمة. والبرذون الذي أبوه كريم (3) ، وامه غير عتيقة ، وهي الكريمة. والهجين ، الذي أبوه عتيق ، وامه غير عتيقة ، والمقرف عكس ذلك. والحطم : المتكسر. والقحم ، بفتح القاف وسكون الحاء ، الكبير. والضرع ، بفتح الضاد والراء : الصغير والأعجف : المهزول. والرازح : الذي لا حراك به.

ومن ولد في أرض الجهاد من الذكور قبل قسمة الغنيمة ، كان له من السهم مثل ما للمقاتل على السواء ، على ما رواه أصحابنا (4).

وإذا قاتل قوم من المسلمين المشركين في السفينة ، فغنموا وفيهم الفرسان والرجالة ، كان قسمتهم مثل قسمتهم لو قاتلوا على البر سواء ، للفارس سهمان ، وللراجل سهم ، على ما رواه أصحابنا (5).

وعبيد المشركين إذا لحقوا بالمسلمين قبل مواليهم ، وأسلموا ، كانوا أحرارا ،

ص: 10


1- وهو الإسكافي على ما في الجواهر.
2- ج : يسهم.
3- ج : أبوه غير كريم.
4- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 41 ، ح 8 - 9.
5- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 38 من أبواب جهاد العدو.

وحكمهم حكم الأحرار المسلمين ، وإن لحقوا بعد مواليهم ، كان حكمهم حكم العبيد ، لا يخرجون من ملكة ساداتهم ، وفي الأول خرجوا باللحوق قبل السادة من ملكتهم ، ولو أسلم السادة بعدهم لم يعودوا إلى ملكتهم.

ومتى أغار المشركون على المسلمين ، فأخذوا منهم ذراريهم ، وعبيدهم ، وأموالهم ، ثم ظفر بهم المسلمون ، فأخذوا منهم ما كانوا أخذوه ، فإنّ أولادهم يردّون إليهم بعد أن يقيموا البيّنة ، ولا يسترقون بغير خلاف في ذلك.

فأمّا العبيد والأمتعة والأثاثات (1) ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : يقومون في سهام المقاتلة ، ويعطي الإمام مواليهم أثمانهم من بيت المال (2).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، وتعضده الأدلة ، وافتي به ، أنّ ذلك إن قامت البيّنة به قبل القسمة ، ردّ على أصحابه بأعيانه ، ولا يغرم الإمام للمقاتلة عوضه شيئا ، وإن كان ذلك بعد قسمة الغنيمة على المقاتلة ، ردّ أيضا بأعيانه على أصحابه ، ورد الإمام قيمة ذلك للمقاتلة من بيت المال ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّ المشركين لا يملكون أموال المسلمين ، وتملكه من أربابه يحتاج إلى دليل ، وقول الرسول عليه السلام لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه (3) ، والمسلم ، ما طابت نفسه بأخذ ماله.

وإلى ما اخترناه وحررناه يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (4) فإنه قال بعد ما أورد أخبارا : والذي أعمل عليه ، أنّه أحق بعين ماله على كل حال (5) ، وهذه الأخبار على ضرب من التقية ، ثم قال : والذي يدل على ذلك ، ما رواه

ص: 11


1- ل : والأثاث.
2- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قسمة ألفي.
3- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 5.
4- الاستبصار : كتاب الجهاد ، الباب 3 في أن المشركين يأخذون من مال المسلمين.
5- ل : وتحمل.

الحسن بن محبوب ، في كتاب المشيخة ، عن عليّ بن رئاب ، عن طربال ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سئل عن رجل كانت له جارية ، فأغار عليه المشركون ، وأخذوها منه ، ثمّ انّ المسلمين بعد غزوهم ، فأخذوها فيما غنموا منهم ، فقال : إن كانت في الغنائم ، وأقام البيّنة أنّ المشركين أغاروا عليهم وأخذوها منه ، ردّت عليه ، وإن كانت اشتريت ، وخرجت من المغنم ، فأصابها ، ردّت عليه برمتها ، وأعطى الذي اشتراها ، الثمن من المغنم من جميعه ، فإن لم يصبها حتى تفرّق الناس ، وقسموا جميع الغنائم ، فأصابها بعد ، قال : يأخذها من الذي هي في يده ، إذا أقام البيّنة ، ويرجع الذي هي في يده على أمير الجيش بالثمن (1) هذا آخر كلام شيخنا في الاستبصار ، وإلى ما اخترناه يذهب في مسائل خلافه أيضا (2).

والأسارى ، فعندنا على ضربين ، أحدهما أخذ قبل أن ( تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) ، وينقضي الحرب والقتال ، فإنّه لا يجوز للإمام استبقاؤه ، بل يقتله ، بأن يضرب رقبته (3) ، أو يقطع يديه ورجليه ، ويتركه حتى ينزف ويموت ، إلا أن يسلم ، فيسقط عنه القتل.

والضرب الآخر ، هو كلّ أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها ، فإنّه يكون الامام مخيرا فيه ، بين أن يمن عليه ، فيطلقه ، وبين أن يسترقه ، وبين أن يفاديه ، وليس له قتله بحال.

ومن أخذ أسيرا فعجز عن المشي ، ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الامام ، فليطلقه ، لأنّه لا يعلم ما حكم الامام فيه.

ومن كان في يده أسير ، وجب عليه أن يطعمه ، ويسقيه ، وإن أريد قتله في الحال ولا يجوز قتال أحد من الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة ، إلا بعد دعائهم الى

ص: 12


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب الجهاد ، ح 5 ، وفي الاستبصار : كتاب الجهاد ، الباب 3 ح 5.
2- الخلاف : كتاب السير ، مسألة 10.
3- ل : عنقه.

الإسلام ، وإظهار الشهادتين ، والإقرار بالتوحيد والعدل ، والتزام جميع شرائع الإسلام ، والداعي يكون الإمام ، أو من يأمره الإمام ، على ما قدمناه.

فإن بدر إنسان ، فقتل منهم قبل الدعاء ، فلا قود عليه ، ولا دية ، لأنّه لا دليل عليه ، وقوله عزوجل ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (1) أراد بالحج والأدلة ، وقيل : أراد بذلك (2) ، عند قيام المهدي عليه السلام ، وقيل : إنّه أراد على أديان العرب كلّها (3) ، وقد كان ذلك.

فإن أسر الكافر ، وله زوجة ، فإنّهما على الزوجية ما لم يختر الإمام الاسترقاق ، فإن منّ عليه ، أو فأداه ، عاد إلى زوجته ، وإن اختار استرقاقه ، انفسخ النكاح.

وإن كان الأسير امرأة مزوجة ، فإن النكاح ينفسخ بنفس الأسر لأنّها صارت رقيقة بنفس الأسر.

وإذا وقعت المرأة وولدها في السبي ، قال بعض أصحابنا : لا يجوز للإمام أن يفرّق بينهما ، فيعطي الام لواحد ، والولد لآخر.

وهكذا إذا كان لرجل أمة ، وولدها ، فلا يجوز أن يفرّق بينهما يبيع ولا هبة (4) ولا غيرهما من أسباب الملك ، وفي أصحابنا من قال : انّ ذلك مكروه ، ولا يفسد البيع به ، وهو الأقوى عندي ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، فإنّه قال : فإن خالف وباع ، جاز البيع على الظاهر من المذهب (5) ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، وكذلك في موضع من نهايته (6).

وأمّا التفرقة بينه وبين الوالد ، فإنه جائز بغير خلاف.

قد بيّنا أنّه متى حدث الرق في الزوجين ، أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما ،

ص: 13


1- التوبة : 33.
2- ج : ذلك.
3- ل : وقيل أراد أديان العرب كلّها.
4- ج : أوهبة.
5- المبسوط : كتاب الجهاد ، في فصل حكم الأسارى.
6- النهاية : باب العتق وأحكامه.

فالنساء يرققن بنفس حيازة الغنيمة ، والرجال يرقون باختيار الإمام ، لا بحيازة الغنيمة ، فعلى هذا إذا سبي الزوجان ، انفسخ النكاح في الحال ، لأنّ الزوجة صارت مملوكة بنفس الحيازة ، وإن كان المسبي الرجل ، لا ينفسخ النكاح ، إلا إذا اختار الإمام استرقاقه ، فإن كان المسبي المرأة ، انفسخ أيضا في الحال لما قلناه.

فأمّا إذا كان الزوجان جميعا مملوكين ، فإنّه لا ينفسخ النكاح ، لأنّه ما حدث رق هاهنا ، لأنّهما كانا رقيقين قبل ذلك.

والفرس الذي يقسم له ، ما تناوله اسم الخيل والفرس ، سواء كان عتيقا أو هجينا أو مقرفا ، فالعتيق الذي أبوه وامه عربيان ، عتيقان ، خالصان. والهجين الذي أبوه كريم عتيق ، وامّه برذونة والمقرف الذي أمه كريمة عتيقة ، وأبوه برذون ، قال الشاعر :

وما هند إلا مهرة عربيّة *** سليلة أفراس تجلّلها بغل

فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى *** وإن يك أقراف فمن جهة الفحل

فأمّا من قاتل على حمار ، أو على بغل ، أو جمل ، فلا يسهم لمركوبه ، لانّه ليس بفرس ، ولا يسمّى راكبه فارسا.

وتجب الهجرة على كل من قدر عليها ، ولا يأمن على نفسه من المقام بين الكفار ، ولا يتمكن من إظهار دينه بينهم ، فيلزمه أن يهاجر ، والهجرة باقية أبدا ، ما دام الشرك قائما ، وروي عن النبي عليه السلام ، أنّه قال : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها (1).

وما روي من قوله عليه السلام : لا هجرة بعد الفتح (2) ، معناه لا هجرة بعد الفتح ، فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح ، وقيل : المراد لا هجرة (3) بعد الفتح من مكّة ،

ص: 14


1- التاج : ج 4 ، ص 345 ، كنز العمال : ج 16 ، ص 654. أخرجه عن صحيح مسلم وسنن أبي داود.
2- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 36 من أبواب جهاد العدو ح 7.
3- ج : المراد بعد.

لأنّها صارت دار إسلام.

ولا جهاد على العبيد.

والمسلم ، إذا أسره المشركون ، لم يجز له أن يتزوّج فيما بينهم ، فإن اضطر جاز له أن يتزوج في اليهود والنصارى ، على ما روي في بعض الأخبار (1) فأمّا غيرهم فلا يقربهم على حال (2).

باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفيّة قتالهم والسيرة فيهم

كل من خرج على إمام عادل ، ونكث بيعته ، وخالفه في أحكامه ، فهو باغ ، وجاز للإمام قتاله ، ومجاهدته ، ويجب على من يستنهضه الإمام في قتالهم ، النهوض معه ، ولا يسوغ له التأخير عن ذلك.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّه لا يجب قتال أهل البغي ، ولا يتعلّق بهم أحكامهم ، إلا بثلاثة شروط :

أحدها : أن يكونوا في منعة ، ولا يمكن كفهم وتفريق (3) جمعهم ، إلا باتفاق ، وتجهيز جيوش وقتال.

والثاني : أن يخرجوا عن قبضة الإمام ، منفردين عنه ، في بلد أو بادية ، فأمّا إن كانوا معه في قبضته ، فليسوا أهل بغي.

والثالث : أن يكونوا على المباينة بتأويل سائغ (4) عندهم ، فأمّا من باين وانفرد بغير تأويل ، فهو قاطع طريق ، وحكمهم حكم المحاربين ، لا حكم البغاة.

ومن خرج على إمام جائز ، لم يجز قتالهم على حال.

ولا يجوز قتال أهل البغي ، إلا بأمر الإمام ، ومن قاتلهم ، فلا ينصرف

ص: 15


1- الوسائل : كتاب النكاح ، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ح 3 - 4 - 5.
2- ل : على كل حال.
3- ل : ولا تفريق.
4- ل : شائع عنهم.

عنهم إلا بعد الظفر بهم ، أو يفيئوا إلى الحقّ ، ومن رجع عنهم من دون ذلك ، فقد باء بغضب من اللّه تعالى ، وعقابه ، عقاب من فرّ من الزحف.

وأهل البغي عند أصحابنا على ضربين ، ضرب منهم يقاتلون ، ولا يكون لهم رئيس يرجعون اليه ، والضرب الآخر ، يكون لهم أمير ورئيس يرجعون في أمورهم إليه ، فالضرب الأوّل ، كأهل البصرة وأصحاب الجمل. والضرب الثاني كأهل الشام وأصحاب معاوية بصفين ، فإذا لم يكن لهم رئيس يرجعون إليه ، فإنّه لا يجاز على جريحهم ، ولا يتبع هاربهم (1) ، ولا تسبى ذراريهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ومتى كان لهم رئيس يرجعون إليه في أمورهم ، كان للإمام أن يجيز على جريحهم ، وأن يتبع هاربهم ، وأن يقتل أسيرهم.

ولا يجوز سبي الذراري على حال.

ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر ، ويقسم على المقاتلة حسب ما قدّمناه ، وليس له ما لم يحوه العسكر ، ولا له إليه سبيل على حال ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (2) والجمل والعقود (3).

ثم قال في مبسوطة : إذا انقضت الحرب بين أهل العدل والبغي ، إمّا بالهزيمة ، أو بأن عادوا إلى الحقّ ، وطاعة الإمام ، وقد كانوا أخذوا الأموال ، وأتلفوا ، وقتلوا ، نظرت ، فكلّ من وجد عين ماله عند غيره ، كان أحق به ، سواء كان من أهل العدل ، أو أهل البغي ، لما رواه ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : المسلم أخ المسلم ، لا يحل له دمه ، وماله إلا بطيبة من نفسه ، وروي أنّ عليا عليه السلام لما هزم الناس يوم الجمل ، قالوا له : يا أمير المؤمنين ، ألا تأخذ أموالهم ، قال : لا ، لأنّهم تحرّموا بحرمة الإسلام ، فلا تحل أموالهم في دار الهجرة ،

ص: 16


1- ل : منهزمهم.
2- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين ..
3- الجمل والعقود : لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.

وروى أبو قبيس ، أنّ عليّا عليه السلام ، نادى : من وجد ماله فليأخذه ، فمرّ بنا رجل ، فعرف قدرا نطبخ فيها ، فسألناه أن يصبر حتى ينضج ، فلم يفعل ، ورمى برجله فأخذها ، قال رحمه اللّه : وقد روى أصحابنا ، أنّ ما يحويه العسكر ، من الأموال ، فإنّه يغنم ، قال : وهذا يكون إذا لم يرجعوا إلى طاعة الإمام ، فأمّا إن رجعوا إلى طاعته ، فهم أحق بأموالهم (1) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة.

وذكر أيضا في مبسوطة ، فقال : إذا وقع أسير من أهل البغي في أيدي أهل العدل ، فإن كان شابا من أهل القتال ، وهو الجلد الذي يقاتل ، كان له حبسه ، ولم يكن له قتله ، قال : وقال بعضهم : له قتله ، قال رحمه اللّه : والأوّل مذهبنا (2) فقد اعتمد رحمه اللّه ، وأقرّ بأنّ الأوّل مذهبنا ، وهو أنّه لا يقتل الأسير.

وقال في مسائل خلافه (3) ، في أحكام أهل البغي ، مثل قوله في مبسوطة في الأسير ، ولم يذكر شيئا من أحكامهم في الاستبصار ، ولا في تهذيب الأحكام ، ولا ذكر في أخذ المال ، ولا قتل الأسير شيئا ، والأخبار التي أوردها في كتاب تهذيب الأحكام ، وهو أكبر كتاب له في الأخبار ، ما فيها شي ء من أخذ ما حواه العسكر ، ولا قتل الأسير ، بل أورد أخبارا في هذا الكتاب يتضمن خلاف ما ذكره في نهايته (4) ، وجمله وعقوده (5).

من ذلك الإيراد : محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن وهب ، بن (6) جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن مروان بن الحكم لعنه اللّه قال : لما هزمنا عليّ بالبصرة ، رد على الناس أموالهم ، من أقام بينة أعطاه ، ومن لم يقم بيّنة أحلفه ، قال : فقال له قائل : يا أمير المؤمنين ، اقسم الفي ء بيننا والسبي ،

ص: 17


1- المبسوط : ج 7 قتال أهل البغي.
2- المبسوط : ج 7 قتال أهل البغي.
3- الخلاف : كتاب الباغي ، المسألة 6.
4- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين.
5- الجمل والعقود : لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.
6- ج : ل : عن.

قال : فلما أكثروا عليه ، قال : أيّكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه ، فكفّوا (1).

وغير ذلك من الأخبار لم يذكر فيها أخذ ما حواه العسكر بحال ، وشيخنا المفيد لم يتعرض لذلك في مقنعته بحال.

فأمّا السيد المرتضى فقد ذكر في المسائل الناصريات ، المسألة السادسة والمائتان : يغنم ما حوت عليه عساكر أهل البغي ، يصرف للفارس بفرس عتيق ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه ، ويسهم للبرذون سهم واحد ، قال السيد المرتضى رحمه اللّه : هذا غير صحيح ، لأنّ أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم ، وقسمتها كما تقسم أموال أهل الحرب ، ولا أعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك ، ويرجع الناس كلّهم في هذا الموضع ، إلى ما قضى به أمير المؤمنين عليه السلام في محاربي أهل البصرة ، فإنّه منع من غنيمة أموالهم ، فلمّا روجع عليه السلام في ذلك ، قال أيّكم يأخذ عائشة في سهمه ، وليس يمتنع أن يخالف حكم قتال أهل البغي ، لقتال أهل دار الحرب في هذا الباب ، كما يخالف في أننا لا نتبع موليهم ، وإن كان اتباع المولّي من باقي المحاربين جائزا ، وانّما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل البغي ، وبسلاحهم في حال قيام الحرب ، فقال الشافعي : لا يجوز ذلك ، وقال أبو حنيفة : يجوز ما دامت الحرب قائمة ، ثم قال المرتضى رحمه اللّه : وليس يمتنع عندي أن يجوز قتالهم بسلاحهم على وجه لا يقع التملك له لأنّ ما منع من غنيمة أموالهم وقسمتها ، لا يمنع من قتالهم بسلاحهم ، لا على وجه التملك له ، كأنهم رموا حربة إلى جهة أهل الحق ، فيجوز أن يرموا بها على سبيل المدافعة والمقاتلة ، فأمّا استدلال الشافعي بقوله عليه السلام. لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه فليس بصحيح ، لأنّه إنّما نفى تملّك مال المسلمين وحيازته بغير طيب نفوسهم ، وليس كذلك المدافعة والممانعة ، وقد استدلّ

ص: 18


1- التهذيب : ج 6 ص 155 ، ح 273. وفيه عن وهب عن حفص عن أبيه إلخ.

أصحاب أبي حنيفة على صحّة ما ذهبوا إليه ، في هذه المسألة بقوله تعالى ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ) (1) قالوا : فأباح القتال عاما ، وذلك يشمل على قتالهم بدوابهم ، وسلاحهم ، وعلى قتالهم بدوابنا وسلاحنا ، قال المرتضى : وهذا قريب (2).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : الصحيح ما ذهب السيّد المرتضى رضي اللّه عنه اليه ، وهو الذي أختاره ، وافتي به ، والذي يدلّ على صحّة ذلك ، ما استدلّ به رضي اللّه عنه ، وأيضا فإجماع المسلمين على ذلك ، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، وقد حكينا في صدر المسألة ، أقوال شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتبه ، ولا دليل على خلاف ما اخترناه ، وقول الرسول عليه السلام : لا يحلّ ما امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه ، وهذا الخبر قد تلقته الأمة (3) بالقبول ، ودليل العقل يعضده ، ويشيده ، لأنّ الأصل بقاء الأملاك على أربابها ، ولا يحل تملكها إلا بالأدلة القاطعة للأعذار.

والمحارب ، هو كلّ من قصد إلى أخذ مال الإنسان ، وشهر السلاح في برّ ، أو بحر ، أو حضر ، أو سفر ، فمتى كان شي ء من ذلك ، جاز للإنسان دفعه عن نفسه ، وماله ، فإن أدّى ذلك (4) إلى قتل اللّص ، لم يكن عليه شي ء ، وإن أدّى إلى قتله هو كان بحكم الشهداء ، وثوابه ثوابهم ، هذا مع غلبة ظنّه بأنّه يندفع له ، وأنّه مستظهر عليه ، وأمّا إن غلب على ظنّه العطب ، وإن اللص يستظهر عليه (5) ، فلا يتعرض له بحال ، لأنّ التحرز من الضرر المظنون ، يجب كوجوبه من الضرر المعلوم ، فأمّا حكم المحارب ، وحده ، فسنذكره إن شاء اللّه تعالى في كتاب الحدود عند المصير إليه.

ص: 19


1- الحجرات : 9.
2- المسائل الناصريات : المصدر ما هو المذكور في المتن.
3- ل : الإماميّة.
4- ل : ذلك الدفع.
5- ل : مستظهر عليه. وكذا قبله.

باب من زيادات ذلك

يجوز للإمام أن يذم لجميع المشركين ، فأمّا من عدا الإمام ، فلا يجوز له أن يذم لجميعهم ، بل إن كان واليا على صقع من الأصقاع ، فله أن يذم لمن في صقعه ، فأمّا إن لم يكن واليا فلا يجوز أن يذم ، إلا لآحاد المشركين ، دون الجماعات ، ويجوز للإمام أن يذم لقوم منهم ، ويجوز له (1) أن يصالحهم على ما يراه ، ولا يجوز لأحد أن يذم عليه إلا باذنه ، وإذا كان جماعة من المسلمين في سرية فأذمّ واحد منهم لمشرك ، كانت ذمته ماضية على الكلّ ، ولم يجز (2) لأحد منهم الخلاف عليه ، وإن كان أدونهم في الشرف ، حرا كان أو عبدا.

ومتى استذم قوم من المشركين إلى المسلمين ، فقال لهم المسلمون : لا نذمكم ، فجاؤا إليهم ظنّا منهم أنّهم أذمّوهم ، كانوا مأمونين ، ولم يكن عليهم سبيل.

ومن أذم مشركا ، أو غير مشرك ، ثم حفره ، ونقض ذمامه ، كان غادرا آثما.

ويكره أن يعرقب الإنسان الدابة على جميع الأحوال ، فإن وقفت عليه في أرض العدو فليخلها ، ولا يعرقبها ، إلا إذا خاف أن تركب ، ويلحقه العدو عليها ، فله عند هذه الحال أن يعرقبها.

وإذا اشتبه قتلى المشركين بقتلى المسلمين ، فقد روي أنّه يوارى منهم من كان صغير الذكر (3) وهذه رواية شاذّة ، لا يعضدها شي ء من الأدلة ، والأقوى عندي أنّه يقرع عليهم ، لأنّ كل أمر مشكل عندنا فيه القرعة بغير خلاف. وهذا من ذاك.

فأمّا الصلاة عليهم ، فالأظهر من أقوال أصحابنا أنّه يصلي عليهم بنية الصلاة على المسلمين دون الكفار.

ولا بأس أن يغزو الإنسان عن غيره ، ويأخذ منه على ذلك الأجرة ، فإن حصلت غنيمة كان السهم للأجير دون المستأجر.

ص: 20


1- ج : ويجوز.
2- ل : ولم يحل.
3- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 65 من أبواب جهاد العدو ح 1.

ويكره تبييت العدوّ ليلا ، وانّما يلاقون بالنهار ، وهذا مع الاستظهار ، على ما قدّمناه.

ويستحب أن لا يؤخذ في القتال إلا بعد زوال الشمس ، فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل ذلك ، فلا بأس.

ولا يجوز التمثيل بالكفار ، ولا الغدر بهم ، ولا الغلول (1) منهم.

ولا ينبغي تغريق المساكن والزروع ، ولا قطع الأشجار المثمرة في أرض العدو ، والإضرار (2) بهم ، إلا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه وشرحناه.

وقال بعض أصحابنا (3) إنّه ليس للأعراب من الغنيمة شي ء ، وإن قاتلوا مع المهاجرين ، وهذه رواية شاذّة ، مخالفة لأصول مذهب أصحابنا ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الزيادات (4) ، وهذا يدلّ على وهنها عنده ، لأنّه لا خلاف بين المسلمين أن كل من قاتل من المسلمين ، فإنّه من جملة المقاتلة ، وانّ الغنيمة للمقاتلة ، وسهمه ثابت في ذلك ، فلا يخرج من هذا الإجماع ، إلا بإجماع مثله ، أو دليل مكاف له ، ولا يرجع فيه إلى أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن له إقامة الحدود والقضاء والحكم بين المختلفين ومن ليس له ذلك

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان بلا خلاف بين الأمة ، وإنما الخلاف في أنّهما هل يجبان عقلا أو سمعا؟ فقال الجمهور من المتكلمين والمحصّلين من الفقهاء : إنّهما يجبان سمعا ، وأنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما ، وانّما علمناه بدليل الإجماع من الأمة ، وبآي من القرآن (5) والأخبار

ص: 21


1- الغلول : الخيانة.
2- ج : للإضرار.
3- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية ، باب قسمة الفي ء.
4- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين.
5- آل عمران : 104 ، 110 ، 114 والأعراف : 157 والتوبة : 71 ، 112 والحج : 41 وغيرها توجد في مظانها.

المتواترة (1).

فأمّا ما يقع منه على وجه المدافعة ، فإنّه يعلم وجوبه عقلا لما علمناه بالعقل ، من وجوب دفع المضار عن النفس ، وذلك لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف فيما عداه ، وهذا هو الذي (2) يقوى في نفسي ، والذي يدلّ عليه ، هو أنّه لو وجبا عقلا ، لكان في العقل دليل على وجوبهما ، وقد سبرنا أدلة العقل ، فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما ، ولا يمكن العلم الضروري في ذلك ، لوجود الخلاف فيه ، وهذا القول خيرة السيد المرتضى.

وقال قوم : طريق وجوبهما العقل ، وإلى هذا المذهب يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه الاقتصاد (3) بعد أن قوّى الأوّل ، واستدل على صحته بأدلة العقول ، ثم قال رحمه اللّه : ويقوى في نفسي أنّه يجب (4) عقلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : لما فيه من اللطف ، ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، قال : لأنّا متى قلنا ذلك ، لزمنا أنّ الإمامة ليست واجبة ، بأن يقال يكفى العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، وما زاد عليه في حكم الندب ، وليس بواجب ، قال رحمه اللّه : فالأليق بذلك أنّه واجب.

ثمّ قال رحمه اللّه : واختلفوا في كيفيّة وجوبهما ، فقال الأكثر : إنّهما من فروض الكفاية (5) إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين ، وقال قوم : هما من فروض الأعيان ، ثم قال رحمه اللّه : وهو الأقوى عندي ، لعموم أي القرآن والأخبار.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : والأظهر بين أصحابنا ، أنّهما من فروض الكفاية (6) ، إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين ، وهو اختيار السيد المرتضى.

والأمر بالمعروف على ضربين ، واجب وندب ، فالأمر بالواجب منه واجب ، والأمر بالمندوب مندوب ، لأنّ الأمر به ، لا يزيد على المأمور به نفسه ، والنهي عن

ص: 22


1- الوسائل : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب 1.
2- ج : وهذا الذي.
3- الاقتصاد : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- وفي المصدر : انهما يجبان.
5- ل : فروض الكفايات.
6- ل : فروض الكفايات.

المنكر لا ينقسم ، بل كلّه قبيح ، فالنهي عنه كلّه واجب.

والنهي عن المنكر له شروط ستة ، أحدها أن يعلمه منكرا ، وثانيها أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه ، وثالثها أن يظن أن إنكاره يؤثر أو يجوّزه ، ورابعها أن لا يخاف على نفسه ، وخامسها أن لا يخاف على ماله ، وسادسها أن لا يكون فيه مفسدة ، وإن اقتصرت على أربعة شروط كان كافيا ، لأنّك إذا قلت : لا يكون فيه مفسدة ، دخل فيه الخوف على النفس والمال ، لأنّ ذلك كلّه مفسدة.

والغرص بإنكار المنكر ، أن لا يقع ، فإذا أثّر القول والوعظ في ارتفاعه ، اقتصر عليه ، ولا يجوز حينئذ باليد ، وإن لم يؤثر وجب باليد ، بأن يمتنع (1) منه ، ويدفع عنه ، وإن أدّى ذلك إلى إيلام المنكر عليه ، والإضرار به ، وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر ، وأن لا يقع من فاعله ، ولا (2) يقصد إيقاع الضرر به.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاقتصاد : غير أنّ ظاهر مذهب شيوخنا الإماميّة ، أنّ هذا الجنس من الإنكار ، لا يكون إلا للإمام ، أو لمن يأذن له الإمام فيه. ثم قال رحمه اللّه : وكان المرتضى رحمه اللّه يخالف في ذلك ، ويقول : يجوز فعل ذلك بغير إذنه ، لأنّ ما يفعل بإذنهم يكون مقصودا ، وهذا بخلاف ذلك ، لأنّه غير مقصود ، وإنّما قصده المدافعة والممانعة ، فإن وقع ضرر فهو غير مقصود (3) ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي في الاقتصاد.

وما ذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه إليه ، هو الأقوى ، وبه أفتي ، وقد رجع شيخنا أبو جعفر الطوسي ، إلى قول المرتضى في كتاب التبيان (4) ، وقوّاه ،

ص: 23


1- ج : ل : يمنع.
2- ل : وان لا.
3- الاقتصاد : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- التبيان : ج 2 في ذيل الآية 104 - 114 من سورة آل عمران.

ونصره ، وضعّف ما عداه ، وإلى ما ذهب في الاقتصاد ذهب في النهاية : فقال في نهايته : وقد يجب إنكار المنكر بضرب من الفعل ، وهو أن يهجر فاعله ، ويعرض عنه ، وعن تعظيمه ، ويفعل معه من الاستخفاف ما يرتدع معه من المناكير ، فإن خاف الفاعل للإنكار باللسان ضررا ، اقتصر على الإنكار بالقلب ، حسب ما قدّمناه في المعروف سواء (1).

وأمّا إقامة الحدود ، فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان ، المنصوب من قبل اللّه تعالى ، أو من نصبه الإمام لإقامتها ، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال ، وقد رخّص في حال قصور أيدي أئمة الحق ، وتغلب الظالمين ، أن يقيم الإنسان الحد على ولده ، وأهله ، ومماليكه ، إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين ، وأمن بوائقهم.

قال محمّد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : والأقوى عندي ، أنّه لا يجوز له (2) أن يقيم الحدود إلا على عبده فحسب ، دون ما عداه من الأهل ، والقرابات ، لما قد ورد في العبد من الأخبار (3) واستفاض به النقل بين الخاص والعام.

وقد روي أنّ من استخلفه سلطان ظالم على قوم ، وجعل إليه إقامة الحدود ، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال (4) ويعتقد أنه انّما (5) يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور ، ويجب على المؤمنين معونته ، وتمكينه من ذلك ، ما لم يتعدّ الحقّ في ذلك ، وما هو مشروع في شريعة الإسلام ، فإن تعدّى ما جعل إليه الحقّ ، لم يجز له القيام به ، ولا لأحد معاونته على ذلك.

ص: 24


1- النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- ج : لا يجوز.
3- الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود.
4- لا توجد في غير النهاية وأوردها فيها في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- ج : ويعتقد أنما.

والأولى في الديانة ترك العمل بهذه الرواية ، بل الواجب ذلك.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب : والرواية أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وقد اعتذرنا له فيما يورده في هذا الكتاب ، أعني النهاية ، في عدّة مواضع ، وقلنا أنّه يورده إيرادا ، من طريق الخبر ، لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ، ومن المسلمين جميعا ، أنّه لا يجوز إقامة الحدود ، ولا المخاطب بها إلا الأئمة ، والحكّام القائمون بإذنهم في ذلك ، فأمّا غيرهم فلا يجوز له التعرض بها على حال ، ولا يرجع عن هذا الإجماع ، بأخبار الآحاد ، بل بإجماع مثله ، أو كتاب اللّه تعالى ، أو سنة متواترة مقطوع بها.

فإن خاف الإنسان على نفسه من ترك إقامتها ، فإنّه يجوز له أن يفعل في حال التقيّة ما لم يبلغ (2) قتل النفوس فلا يجوز (3) فيه التقيّة ، عند أصحابنا بلا خلاف بينهم.

وأمّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين ، فلا يجوز أيضا إلا لمن أذن له سلطان الحقّ في ذلك ، وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم ، المأمونين المحصّلين الباحثين عن مآخذ الشريعة ، الديانين القيمين بذلك ، في حال لا يتمكنون فيه من توليته (4) بنفوسهم ، فمن تمكن من إنفاذ حكم وهو من أهله ، أو إصلاح بين الناس ، أو فصل بين المختلفين ، فليفعل ذلك ، وله به الأجر والثواب ، ما لم يخف في ذلك على نفسه ، ولا على أحد من أهل الإيمان ، ويأمن الضرر فيه ، فإن خاف شيئا من ذلك ، لم يجز له التعرّض له على حال.

ومن دعا غيره إلى فقيه من فقهاء أهل الحقّ ، ليفصل بينهما ، فلم يجبه ، وآثر المضي إلى المتولّي من قبل الظالمين ، كان في ذلك متعديا للحقّ ، مرتكبا للآثام ،

ص: 25


1- النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
2- ل : لم يبلغ فيه.
3- ج : فإنه لا يجوز.
4- ل : توليتهم.

مخالفا للإمام ، مرتكبا للسيئات العظام.

ولا يجوز لمن يتولّى الفصل بين المختلفين ، والقضاء بينهم ، أن يحكم إلا بموجب الحق ، ولا يجوز له (1) أن يحكم بمذهب أهل الخلاف ، فإن كان قد تولى الحكم من قبل الظالمين بغير اختياره ، فليجتهد أيضا في تنفيذ الأحكام ، على ما يقتضيه شريعة الإسلام ، فإن اضطر إلى تنفيذ حكم على مذهب أهل الخلاف ، بالخوف على النفس ، أو الأهل ، أو المؤمنين ، أو على أموالهم ، جاز له تنفيذ الحكم ، ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس ، فإنّه لا تقيّة له في قتل النفوس ، حسب ما أسلفنا القول في معناه.

ويجوز لأهل الحق ، أن يجمعوا بالناس ، الصلوات كلّها ، وقد روي (2) صلاة الجمعة والعيدين ، ويخطبوا الخطبتين ، ويصلّوا بهم صلاة الكسوف ، ما لم يخافوا في ذلك ضررا ، فان خافوا في ذلك الضرر ، لم يجز لهم التعرض (3) على حال ، وقد قلنا ما عندنا في صلاة الجمعة جمعة ، وانّ ذلك لا يجوز في حال استتار الإمام ، لأنّ الجمعة لا تنعقد ، ولا تصح إلا بالإمام ، أو بإذن من جهته ، وتوليته لذلك ، فإذا فقدنا ذلك ، صليناها ظهرا أربع ركعات ، وأشبعنا القول فيه في كتاب الصلاة ، وحررناه.

وقد ذكر سلار في رسالته ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال :

ولفقهاء الطائفة ، أن يصلوا بالناس في الأعياد ، والاستسقاء ، فأمّا الجمع فلا (4) هذا آخر كلامه وهو الأظهر.

ومن لا يحسن القضايا والأحكام في إقامة الحدود وغيرها ، لا يجوز له

ص: 26


1- ج : لا يجوز ان يحكم.
2- النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- ل. ق : التعرض له.
4- المراسم : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

التعرض لذلك على حال ، فإن تعرض له كان مأثوما معاقبا ، فإن أكره على تولّي ذلك ، واضطرته تقية ، لم يكن عليه في ذلك شي ء ، ويجتهد لنفسه من الأباطيل (1) بكلّ ما يقدر عليه.

ولا يجوز لأحد أن يختار النظر من قبل الظالمين ، إلا في حال يقطع ويعلم أنه لا يتعدى الواجب ، ويتمكن من وضع الأشياء مواضعها ، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن علم أنّه يخل بواجب ، أو يركب قبيحا ، أو غلب على ظنّه ذلك ، فلا يجوز له التعرض له بحال من الأحوال مع الاختيار ، فإن أكره على الدخول فيه ، واضطرته التقية ، جاز له حينئذ ذلك ، وليجتهد ويتحرز لنفسه حسب ما قدمناه.

ص: 27


1- ل : التحرز من الأباطيل.

ص: 28

كتاب الديون والكفالات والحوالات والوكالات

اشارة

ص: 29

باب كراهية الدين وكراهية النزول على الغريم

يكره للإنسان الدين مع الاختيار ، وفقد الاضطرار إليه ، فإن فعل مختارا لا اضطرارا ، فالأولى له أن لا يفعل ، إلا إذا كان له ما يرجع إليه ، فيقضي به دينه ، فإن لم يكن له ما يرجع إليه ، فقد روي (1) أنّه إن كان له ولي يعلم أنّه إن مات قضى عنه ، قام ذلك مقام ما يملك.

وهذا غير واضح ، لأنّ الولي لا يجب عليه قضاء دين من هو ولي له ، بغير خلاف ، وقد أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا من طريق خبر الآحاد.

فإذا خلا من الوجهين ، فإنّه يكره له الاستدانة ، وليس ذلك بمحظور ، إذا كان عازما على قضائه ، منفقا له في الطاعات أو المباحات ، وأمّا في حال الاضطرار ، فإنّه غير مكروه ، وفي هذه الحال لا يستدين إلا مقدار حاجته وكفايته ، على الاقتصاد من نفقته ، ونفقة عياله ، ممن تجب عليه نفقته.

ولا يجوز للإنسان أن يستدين ما يصرفه في نفقة الحج ، إلا بعد أن يكون الحجّ قد وجب عليه بوجود شرائطه ، ويكون له ما إذا رجع إليه قضى منه دينه.

ص: 30


1- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 2 من أبواب الدين والقرض ، ح 5.
2- النهاية : كتاب الديون والكفالات ...

وما ورد من الأخبار (1) في جواز الاستدانة للنفقة في الحج ، فمحمول على ما ذكرناه ، وحرّرناه ، لا على من لا يكون الحجّ قد وجب عليه ، ولا يكون له ما إذا رجع إليه قضى منه دينه ، لأنّ هذا لا يجب عليه الحج ، وهو على هذه الصفة ، وإذا كان ذلك لا يجب عليه ، فلا يجوز أن يستدين ليفعل ما لا يجب عليه.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه العزم على قضائه ، فإن ترك العزم على ذلك ، كان مأثوما ، وهو بمنزلة السارق ، على ما روي (2) في الآثار عن الأئمة الأطهار.

ومن كان له غريم ، فلا ينبغي له أن ينزل عليه ، فإن نزل فلا يقيم عنده ، أكثر من ثلاثة أيّام.

ومن اضطر إلى الدين ، ولا يملك شيئا ، يرجع إليه ، وكان ممن يجد الصدقة ، فالأولى له ، والأفضل في ديانته ، أن يقبل الصدقة ، ولا يتعرض للدين ، لأنّ الصدقة حق جعلها اللّه له في الأموال.

ومن كان له غريم له عليه دين ، فأهدى المدين ، بفتح الميم ، الذي هو الغريم ، له شيئا لم تكن قد جرت به عادته ، وانّما فعله لمكان الدين ، استحب له أن يحتسبه من دينه ، وليس ذلك بواجب.

وقد روي (3) أنّه إذا رأى صاحب الدين المدين ، ( قد قلنا إنّ المدين بفتح الميم ، الذي عليه الدين ، ويقال مديون أيضا ، ودائن ، ومديان ، أربع لغات ، ويقال أيضا لغة خامسة مدان ، فأمّا الفاعل الذي له الدين ، فهو مدين بضمّ الميم ، وكسر الدال ، يقال : أدان زيد عمروا ، إذا أعطاه ، فزيد مدين ، وعمرو مدان ، ومدين بفتح الميم ) في الحرم لم يجز له مطالبته فيه ، ولا ملازمته ، بل ينبغي أن يتركه حتى يخرج من الحرم ، ثم يطالبه كيف شاء ، ذكر ذلك ، وأورده شيخنا أبو جعفر

ص: 31


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 50 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
2- الوسائل : كتاب التجارة الباب 5 من أبواب الدين والقرض.
3- الوسائل : كتاب التجارة الباب 22 من أبواب الدين والقرض.

في نهايته (1).

وقال ابن بابويه في رسالته : وإذا (2) كان لك على رجل حقّ (3) فوجدته بمكة ، أو في الحرم ، فلا تطالبه ، ولا تسلّم عليه ، فتفرعه ، إلا أن تكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس بأن تطالبه به في الحرم.

قال محمد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : الذي يقوى عندي ، في تحرير هذا القول ، وما ذكره وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أن يحمل الخبر ، على أن صاحب الدين ، طالب المدين خارج الحرم ، ثمّ هرب منه والتجأ إلى الحرم ، فلا يجوز لصاحب الدين مطالبته ، ولا إفزاعه ، فأمّا إذا لم يهرب إلى الحرم ، ولا التجأ إليه خوفا من المطالبة ، بل وجده في الحرم ، وهو ملي بماله ، موسر بدينه ، فله مطالبته وملازمته ، وقول ابن بابويه : إلا أن يكون أعطيته حقك في الحرم ، فلك أن تطالبه في الحرم ، يلوح بما ذكرناه ، على ما حرّرناه ، ولو كان ما روي صحيحا ، لورد ورود أمثاله متواترا ، والصحابة ، والتابعون ، والمسلمون في جميع الأعصار ، يتحاكمون إلى الحكام في الحرم ، ويطالبون الغرماء بالديون ، ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء إلى عصرنا هذا ، من غير تناكر بينهم في ذلك ، وإجماع المسلمين على خلاف ذلك ، ووفاق ما اخترناه وحرّرناه ، وهذا معلوم ضرورة ، أو كالضرورة ، فلا نرجع عن الأمور المعلومة ، بأخبار ضعيفة أكثر ما (4) تثمر الظن ، دون اليقين والعلم ، ولا يورد ذلك في كتابه (5) إلا الآحاد من أصحابنا ، ولا إجماع عليه منهم ، والأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل ، والإنسان مسلّط على أخذ ماله ، والمطالبة به ، عقلا وشرعا.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه السعي في قضائه ، والعزم على أدائه ، وترك

ص: 32


1- النهاية : كتاب الديون والكفالات ..
2- ج : إذا.
3- ج : دين.
4- ج : أكثرها.
5- ج : كتاب.

الإسراف في النفقة ، وينبغي له أن يتقنع (1) بالقصد ، ولا يجب عليه أن يضيّق على نفسه ، بل يكون بين ذلك قواما.

ويجب عليه عند مطالبة من له الحق ، دفع جميع ما يملكه إليه ، ما خلا داره التي يسكنها ، إذا كانت قدر كفاية سكناه ، وخادمه الذي يحتاج إلى خدمته ، وقوت يومه وليلته فحسب ، وما فضل عن ذلك ، فيجب دفعه الى من له عليه الدين (2) ، عند المطالبة.

باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميت

كل من كان عليه دين ، وجب عليه قضاؤه حسب ما يجب عليه (3) فإن كان حالا وجب عليه ، قضاؤه عند المطالبة في الحال ، إذا كان قادرا على أدائه ، لا يجوز له تأخيره بعد المطالبة له ، فإن كان في أوّل وقت الصلاة وصلّى بعد المطالبة ، فإن صلاته غير صحيحة ، لأنّ قضاء الدين بعد المطالبة واجب مضيّق ، وأداء الصلاة في أوّل وقتها واجب موسع ، وكلّ شي ء منع من الواجب المضيّق فهو قبيح ، بغير خلاف من محصّل ، وإن كان الدين مؤجلا وجب عليه قضاؤه عند حلول الأجل مع المطالبة.

ومن وجب عليه أداء الدين ، لا يجوز له مطله ودفعه مع قدرته على قضائه ، فقد قال الرسول عليه السلام : مطل الغني ظلم (4) ، فإن مطل ودفع كان على الحاكم حبسه ، بعد إقامة البيّنة بالحقّ ، وسؤال الخصم ذلك ، وإلزامه الخروج ممّا وجب عليه ، فإن حبسه ثمّ ظهر له بعد ذلك إعساره ، وجب عليه تخليته ، سواء حضر خصمه أو لم يحضر ، لقوله تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (5) وإن لم يكن معسرا غير أنّه يدفع به ، جاز للحاكم أن يبيع عليه متاعه

ص: 33


1- ل : ان ينفق
2- ح. من له الدين.
3- ج : قضاؤه ، فإن كان آه.
4- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 8 ، الحديث 3.
5- البقرة : 280.

وعقاره ما عدا داره ، وكذلك للحاكم أن يبيع عليه ماله الظاهر قبل حبسه ، وإنّما له حبسه إذا لم يكن له مال ظاهر ، ولا قامت له بيّنة بالإعسار. فله حبسه حتى يستبين حاله ، فانّ الغرض في ذلك استخلاص الحقّ لصاحبه ، دون الحبس.

وإن كان من وجب عليه الدين ، وثبت عند الحاكم غائبا ، وجب على الحاكم بعد سؤال صاحب الحقّ ومطالبته أن يبيع على الغائب شيئا من أملاكه ، غير أنّه لا يسلمه إلى خصمه إلا بعد كفلاء ، فإن حضر الغائب ولم يكن له بيّنة ، تبطل بينة صاحب الدين ، برئت ذمته ، وذمّة الكفلاء من الكفالة ، وإن كانت له بيّنة تبطل بينة صاحب الحق ، رد الكفلاء عليه المال ، ويبطل البيع إن كان قد باع شيئا من أملاكه ، لأنّ الحاكم يفعل على ظاهر الأحوال ، فإن تبين له الحق ردّ (1) ما فعله إليه.

ومتى كان المدين معسرا ، لم يجز لصاحب الدين مطالبته ، والإلحاح عليه ، بل ينبغي له أن يرفق به ، ويجب عليه أن ينظره إلى أن يوسع اللّه عليه ، أو يبلغ خبره الإمام ، فيقضي دينه عنه ، من سهم الغارمين إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة أو مباح ، وكذلك إذا لم يعلم في أي شي ء أنفقه ، فأمّا إذا علم أنّه أنفقه في المعاصي ، فلا يجوز له أن يقضي عنه من سهم الغارمين ، ويجوز أن يعطي هو من سهم الفقراء إذا كان عدلا مستحقا للزكاة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان لا يعلم في ما ذا أنفقه ، أو علم أنّه أنفقه في معصية لم يجب عليه القضاء عنه (2).

وهذا غير واضح ، لأنّه رضي اللّه عنه ، جعل عدم العلم في ما ذا أنفقه مثل العلم بأنّه أنفقه في معصية ولا ينبغي أن يحمل الأمور إلا على الحلال والصحة ، دون الفساد ، وانّما تعبدنا

ص: 34


1- ج : نقض.
2- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت.

بالظاهر ، فأمّا تقييده في نهايته إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة ، فما منع من إنفاقه على المباح (1) ، لأنّ ذلك دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عند المحقّقين لأصول الفقه من أصحابنا غير معمول عليه.

ولا يجوز أن تباع دار الإنسان التي يسكنها ، ولا خادمه الذي يخدمه في الدين ، إذا كان مقدار ما فيها كفايته ، فإن كانت دار غلة ، وكذلك إن كانت كبيرة واسعة ، وله في دونها كفاية ، الزم بيعها ، والاقتصار على كفايته منها ، على ما قدمناه.

والمنع من بيع الدار والخادم في الدين ، على ما روي في بعض الأخبار (2) فإن تحقق إجماع من أصحابنا نرجع إليه ، لا دليل عليه سوى الإجماع منهم.

ومتى ألحّ صاحب الدين على المدين ، وأراد حبسه ولم يكن له بيّنة بالدين ، وخاف المدين إن أقر عند الحاكم بالدين من الحبس ، فيضر ذلك به وبعياله ، ولم يكن الحاكم عالما بإعساره وحاله ، جاز له أن ينكر ويحلف باللّه ما له قبلي شي ء ، ويورّى في نفسه ما يخرجه من الكذب ، ينوي عند قوله شي ء ، يستحقه الآن ، يخفى ذلك ، ويظهر ما عداه ، ممّا ذكرناه ، فإنّه إذا فعل ذلك صادق (3) بارّ ، لأنّه لا يستحق عليه في هذه الحال شيئا من المطالبة والخروج إليه من حقه عند إعساره ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » وينطوي على أنّه إذا تمكن من قضائه ، قضاه ، ويجب عليه العزم على ذلك ، ولا شي ء عليه من الآثام ، فإذا تمكن من قضائه ، وجب عليه القضاء.

ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك ، لم يجز له مطالبته بعد ذلك بشي ء منه ظاهرا ، فإن جاء الحالف تائبا ، وردّ عليه ماله ، جاز له أخذه ، فإن أعطاه مع رأس المال ربحا أخذ رأس ماله ، ونصف الربح ، هكذا أورده

ص: 35


1- ل : من إنفاقه في المباح. ق : في إنفاقه في المباح.
2- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 11 من أبواب الدين والقرض.
3- ل : ذلك كان صادقا.

شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وتحرير الفتيا بذلك ، انّ المال المحلّف عليه إن كان قرضا ، أو دينا ، أو غصبا ، فالربح للحالف ، لا يستحق صاحب الدين منه ، قليلا ولا كثيرا في الدين والقرض ، لأنّ هذا ربح مال الحالف ، لأنّ القرض والدين في ذمته ، والربح له ، دون القارض وصاحب الدين ، بغير خلاف.

فأمّا إن كان المال غصبا ، واشترى الغاصب المتاع بثمن في ذمّته ، ونقد الشي ء المغصوب عوضا عمّا لزمه في ذمّته ، فالربح أيضا للغاصب ، لأنّه نماء ملكه وأرباحه.

وإن كان الشراء لا في الذمّة ، بل بعين المال المغصوب ، فالصحيح من أقوال أصحابنا ، وعند المحصلين منهم ، أنّ البيع غير منعقد ، ولا صحيح ، والأمتعة لأصحابها ، والأرباح والأثمان لأصحابها.

فأمّا إن كان المال مضاربة ، شرط له من الربح نصفه ، فيصح القول بذلك ، وتحمل وتخص ما ورد من الأخبار بذلك ، لأنّ العموم قد يخص بالأدلة ، فهذا تحرير القول في هذه الفتيا ، فليتأمّل ، وليفهم عنّا ما قلناه ، فإنّ فيه غموضا والتباسا على غير المحصّل لهذا الشأن.

وإن لم يحلفه غير أنّه لم يتمكن من أخذه منه ، ووقع له عنده مال ، جاز له أن يأخذ حقه منه (2) من غير زيادة عليه ، إن كان من جنس ماله ، ومثلا له ، وإن كان من غير جنسه ، فله أن يقوّمه على نفسه ، بالقيمة العدل ، ويأخذه.

وإن كان ما وقع عنده على سبيل الوديعة ، جاز له أيضا أخذه منها ، وقال

ص: 36


1- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميّت ، والعبارة في المصدر هكذا : « ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك لم يجز له أخذه فإن أعطاه من رأس المال ربحا أخذ رأس ماله ونصف الربح.
2- ج : حقه ، من.

شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له ذلك ، ولا يخون فيها (1) إلا أنّه رجع عن هذا القول ، في كتابه الاستبصار (2). وقال بما اخترناه ، وقال : أحمل الخبر على الكراهة دون الحظر. ونعم ما قال ، لأنّه إذا أخذ ماله ، فما تعدّى ، ولا ظلم ، ولا خان ، والشارع نهى عن إضاعة المال ، وقال اللّه تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (3) وهذا محسن ، لا مسي ء.

ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه ، غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، على ما قدّمناه ، فإن حضرته الوفاة ، سلّمه إلى من يثق بديانته ، وجعله وصيّه في تسليمه إلى صاحبه ، فإن مات من له الدين ، سلّمه إلى ورثته ، فإن لم يعلم له وارثا ، اجتهد في طلبه ، فإن لم يجده ، سلّمه إلى الحاكم ، فإن قطع على أنّه لا وارث له ، كان لإمام المسلمين ، وقد روي (4) أنّه إذا لم يظفر بوارث له ، تصدّق به عنه ، وليس عليه شي ء ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (5) من طريق الخبر إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّ الصدقة لا دليل عليها ، من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الإجماع والأصول المقررة لمذهبنا ، تشهد بأنّ الإمام يستحق ميراث من لا وارث له.

وقال شيخنا أيضا في نهايته ، في صدر السؤال : ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه ، غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل ماله من ملكه (6).

وهذا غير واجب ، أعني عزل المال ، بغير خلاف بين المسلمين ، فضلا عن طائفتنا.

وإذا استدانت المرأة على زوجها ، وهو غائب عنها ، فأنفقته بالمعروف ، وجب عليه القضاء عنها ، فإن كان زائدا على المعروف ، لم يكن عليه قضاؤه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (7).

ص: 37


1- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.
2- الاستبصار : كتاب المكاسب ، الباب 27. ذيل الحديث 2. (172) أورد الخبر في الوسائل : الباب 83 من أبواب ما يكتسب به ، ح 3.
3- التوبة : 91.
4- الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة.
5- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.
6- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.
7- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.

وتحرير الفتيا بذلك ، أنّ الزوج يجب عليه تسليم النفقة بالمعروف إلى المرأة ، ثم تقضي ما استدانت وان قضاء الدين واجب عليها ، دون الزوج ، والغريم هي ، دونه ، وهي المطالبة بالدين ، دون الزوج.

ومن له على غيره مال ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ثم يدفعه إليه ، إن شاء للمضاربة والمضاربة (1) لا تكون إلا بالأموال المعينة ، ولا تكون بما في الذمّم ، لأنّ ما في الذمّة غير معيّن ولا يتعين إلا بعد قبضه وتعيينه ، لأنّ الإنسان مخيّر في جهات القضاء من سائر أمواله ، وهذا إجماع منعقد من أصحابنا.

فعلى هذا التحرير الذي لا خلاف فيه ، بيع الدين على غير من هو عليه ، لا يصح ، لأنّ البيوع على ضربين ، بيوع الأعيان ، وبيوع ما في الذمم ، وبيوع الأعيان على ضربين ، بيع عين مرئية مشاهدة ، فلا يحتاج إلى وصفها ، وبيع عين غير مشاهدة ، يحتاج إلى وصفها ، وذكر جنسها ، وهذا البيع يسميه الفقهاء بيع خيار الرؤية ، ولا بد أن يكون ملك جنسها في ملك البائع في حال عقد البيع ، إلا أنّها غير مشاهدة ، فيصفها ليقوم وصفها مقام مشاهدتها ، وهي غير مضمونة ، إن هلكت قبل التسليم على البائع.

فبيع الدين بيع عين غير مشاهدة (2) مرئية بغير خلاف ، ولا بيع عن معينة موصوفة في ملك البائع ، فإنّه لا يصلح له وصفها ، لأنّا قد قدّمنا أنّ الدين عينه غير معيّن في ملك صاحبه ، بل لا يتعيّن إلا بقبضه له ، وقلنا إنّ من عليه الدين ، مخيّر في (3) جهات القضاء من سائر أمواله ، فلا يتقدّر أن تكون عين شي ء له وهي بعينها لمن له عليه (4) الحق ، وإن كان على الجملة لصاحب الدين على المدين حق من جنس من أجناس من الأموال ، وليس له عليه (5) عين معينة من الأعيان ، والشي ء

ص: 38


1- ل : لأنّ مال المضاربة. ق : لأنّ مال المضاربة والمضاربة.
2- ج : فبيع الدين لا بيع عين مشاهدة.
3- ج : من جهات.
4- ج : لمن عليه.
5- ج : وليس عليه.

المبيع بيع خيار الرؤية ، يحتاج إلى أن يكون ملك جنسه معيّنا في ملك بائعه ، ويذكر جنسه ، ويصفه : لأنّه من جملة بيوع الأعيان.

فأمّا الضرب الآخر من البيوع الذي هو في الذمّة ، هو المسمّى بالسّلم ، بفتح السين واللام ، والسلف ، فهذا مضمون على بايعه ، يحتاج إلى الأوصاف ، والآجال المحروسة من الزيادة والنقصان ، امّا بالسنين والأعوام ، أو بالشهور والأيّام ، ومن شرط صحته قبض رأس المال الذي هو الثمن ، قبل الافتراق من مجلس العقد ، وبيع الدين ليس كذلك بغير خلاف.

فإن قيل : هذا خلاف إجماع الإمامية ، وذلك أنّ إجماعهم منعقد بغير خلاف على صحّة بيع الدين وإمضائه ، وعموم أخبارهم على ذلك ، وكذلك أقوالهم ، وتصنيفاتهم ، ومسطوراتهم ، وفتاويهم.

قلنا : نحن ما دفعنا ذلك أجمع ، وأبطلناه ، بل نحن عاملون بمقتضاه ، ومخصصون لما ناقض الدليل ونفاه ، لأنّه لا خلاف بين المحصلين لأصول الفقه ، أنّ العموم قد يخص بالأدلة ، وقد قلنا انّ بيع الدين على من هو عليه جائز ، صحيح ، لا خلاف فيه ، فقد عملنا بالإجماع ، واتبعنا ظواهر الأقوال ، والأخبار ، والفتاوى ، وما في التصنيفات ، وأعطينا الظاهر حقه ، وخصصنا ما عدا بيع من عليه الدين ، بالأدلة المجمع عليها ، المقررة المحررة عند أصحابنا ، المقدم ذكرها ، وهذا تحقيق لا يبلغه إلا محصّل لأصول الفقه ، ضابط لفروع المذهب ، عالم بأحكامه محكم لمداره ، وتقريراته ، وتقسيماته ، ومما يشيد ما حررناه ، إجماع أصحابنا الذي لا خلاف فيه ، وانعقاده على أنّ من كان له على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ويتعيّن في ملكه ، ثمّ يدفعه إليه إن شاء للمضاربة ، لأنّه قبل قبضه وتعيينه في ملكه ، ملك لمن هو عليه ما انتقلت عينه إليه ، فكيف يصح له أن يضاربه بعين ماله ، فإنّه قبل أن يقبضه ويتعين عينه في ملكه ، مال من هو عليه ، فكيف يضاربه بماله ، ولو فعل ذلك ، لكان الربح كلّه لمن عليه المال ، لأنّه

ص: 39

ربح ماله ، ولا تصح المضاربة ، لأنّ حقيقتها وموضوعها في الشريعة ، أن من العامل العمل ، ومن رب المال المال ، ومن عليه الدين ، منه المال والعمل جميعا.

فإن قيل : أنتم قد جعلتم من جملة أدلتكم على صحة ما حرّرتموه واخترتموه ، مسألة من كان له على غيره دين ، فلا يجوز له أن يجعله معه مضاربة ، إلا بعد قبضه وتعيينه له في ملكه ، ولا يجوز له قبل ذلك جعله مضاربة ، فعلى سياق هذا الاستدلال ، والاعتبار ، يلزمكم أن لا تجوزوا بيع الدين على من هو عليه ، قبل قبضه وتعيينه في ملك بائعه.

قلنا : لا يلزمنا ذلك ، لأنّ بيع خيار الرؤية ، لا يحتاج إلا إلى ذكر الجنس ، وكونه في ملك البائع ، والوصف له ، دون تعيين عينه بالإشارة إليه ، والمشاهدة له ، والقطع عليه ، وليس كذلك حكم مال المضاربة ، لأنّه يجب أن يكون مذكور الجنس معينا ، ولا يكفي ذكر الجنس والصفة ، دون تعيينه في الملك ، كما كفى ذلك في بيع خيار الرؤية ، وإن كان كلّ واحد من المالين ، مملوك الجنس ، غير متعيّن ملك عينه ، ولا يتعيّن ملك عينه ، إلا بعد قبضه ، فيصح بيعه على من هو عليه ، بيع خيار الرؤية ، لأنّه مملوك الجنس للبائع ، ومن هو عليه عالم بصفته ، فقام علم من هو عليه به ، وبصفته ، مقام وصف البائع له ، فجمع هذا البيع الأمرين اللذين هما شرط في صحة بيع خيار الرؤية ، وهو ذكر الجنس ، وعلم من هو عليه الذي هو قائم مقام صفته ، لأنّ ذكر الصفة في بيع العين الغائبة ، يقوم مقام المشاهدة والرؤية لبيع العين الحاضرة المشاهدة ، لأنّا لا نحتاج أن نصف العين المرئية عند البيع ، ولا ذلك شرط في صحة العقد عليها ، وهو شرط في صحة بيع العين الغائبة مع ذكر جنسها ، فلأجل ذلك جوّزنا بيعها على من هي عليه ، دون من سواه ، لأنّ البيع عليه ، بيع خيار الرؤية ، لأنّ من شرطه ذكر الجنس والصفة ، فإذا بيع عليه ، فقد جمع الأمرين جميعا ، وليس كذلك بيعه على غير من هو عليه ، لأنّ أحد الأمرين لا يحصل له ، لأنّ صاحبه لا يعلم عينه ، حتى يصفها للمشتري ،

ص: 40

ولا يميّزها للعين ، حتى يصفها فإن وصفها ، كان كاذبا جاهلا ، لأنّ عينها ما تميزت له في ملكه ، وإن كان مالكا لجنسها ، دون عينها قبل قبضها من الذي هي في ذمّته ، فيدخل في النهي عن بيع الغرر ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، فلأجل هذا جوّزنا بيعها على من هي عليه ، دون من سواه ، وليس كذلك إذا ضاربه بها ، لأنّ مال المضاربة يحتاج أن يكون متميز العين في ملك رب المال ، وقبل قبضه ممن هو في ذمته ، ليس هو متميز العين ، فافترق الأمران ، ويعضد ما أصلناه ، قولهم في باب بيع الديون والأرزاق : ومن كان له على غيره دين ، جاز له بيعه نقدا ، ويكره ذلك نسية ، وأطلقوا القول بكراهية النسية ، وهذا لا يجوز بالإجماع ، لأنّه إن كان الدين ذهبا ، فلا يحل بيعه بذهب نسية ، بغير خلاف ، ثم قالوا فإن وفي الذي عليه الدين المشتري ، وإلا رجع على من باعه إيّاه بدركه ، ثم قالوا : وإذا باع الدين بأقل ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أن يؤدّي أكثر مما وزنه المشتري.

قال محمّد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : إن كان البيع للدين صحيحا ماضيا ، لزم المدين أن يؤدّي جميع الدين إلى المشتري ، وإن كان قد اشتراه بأقل من الدين بأقل قليل ، لأنّ الثمن قد يكون عندنا أقل قيمة من السلعة ، مع علم البائع بغير خلاف ، فدلّ هذا أجمع على فساد هذا البيع ، وإبطال ما (1) خالف ما ذكرناه.

قال شيخنا أبو جعفر في الجزء الرابع من المبسوط : إذا كان لرجل في ذمّة رجل حرّ ، دين ، عن غير سلم ، فباعه من إنسان بعوض ، أو ثوب ، أو غيره ، قال قوم : إنّه يصح ، لأنّه لمّا جاز أن يبتاع بدين في ذمته ، جاز أن يبتاع بدين له في ذمة غيره ، فإن كلّ واحد من الدينين مملوك له ، وقال اخرون : إنّه لا يصحّ ، لأنّ الدين الذي له في ذمة الغير ، ليس بمقدور على تسليمه ، فإنّه ربما منعه من هو عليه وربما جحده ، وربما أفلس ، ومن ابتاع ما لا يقدر على تسليمه بطل بيعه ، كما لو

ص: 41


1- ل : وإبطال قول من خالف ما ذكرناه.

ابتاع لعبد مغصوب ، أو آبق ، قال رحمه اللّه : والأوّل رواية أصحابنا ، وقالوا : إنّما يصحّ لأنّه مضمون (1).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : انظر أرشدك اللّه ، ووفقك لاصابة الحقّ ، إلى ما قال شيخنا أبو جعفر ، وتأمّله ، واسبره ، ففيه ما فيه ، جعل رحمه اللّه الدين ثمنا ، وأصحابنا يجعلونه مثمنا ، لأنّهم قالوا بيع الدين ، ثم قال رحمه اللّه : رواية أصحابنا ، فجعله رواية ولو كان إجماعا لقال وإجماع أصحابنا ، أو مذهبنا ، ثمّ قال : وقالوا إنّما يصحّ لأنّه مضمون.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : عند أصحابنا انّ البيع المضمون ، هو بيع السلف ، فهو المضمون الذي هو في الذمّة ، لا بيع الأعيان ، لأنّ البيع عندهم على الضربين ، المقدم ذكرهما وأيضا الذي يجوز خلاف ما نصرناه (2) واخترناه ، لا يجوّزه في كل دين ، ويقول : انّ بيع السلم بعد حلوله على غير من هو عليه ، لا يجوز ، وعلى من هو عليه يجوز ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، ولأجل ذلك قال في الكلام الذي أوردناه عنه في مبسوطة ، قبل هذا الموضع ، وهو إذا كان لرجل في ذمّة رجل حرّ دين ، عن غير سلم ، فباعه من إنسان ، فاحترز من السلم ، فقد خصّص العموم في بيع الدين ، وإذا خصّص من يستدل بالعموم ، ساغ لخصمه التخصيص ، وبطل استدلاله بالعموم ، لأنّه ما هو أولى بالتخصيص من خصمه ، وأيضا فما ورد بذلك سوى خبرين فحسب ، أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام ، الذي ماله أكبر منه في الأخبار ، ولأجل ذلك قال : رواية أصحابنا ، وهما - أعني الخبرين - أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، قال : سئل أبو جعفر عليه السلام عن رجل كان

ص: 42


1- المبسوط : كتاب المكاتب ، فصل في بيع المكاتب وشرائه .. ج 1. ص 7 - 126.
2- ل : نظرناه.

له على رجل دين ، فجاءه رجل ، فاشترى منه بعرض ، ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال له : أعطني مال فلان عليك ، فاني قد اشتريته ، فكيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : يرد عليه الرجل الذي عليه الدين ، ماله الذي اشتراه به ، الرجل الذي عليه الدين (1).

محمد بن أحمد بن عيسى ، عن محمد بن الفضيل ، قال : قلت للرضا عليه السلام رجل اشترى دينا على رجل ، ثم ذهب إلى صاحب الدين ، فقال له ادفع إلى مال فلان عليك ، فقد اشتريته منه ، فقال عليه السلام : يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين ، وبري ء الذي عليه المال ، من جميع ما بقي عليه (2).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : فهل يحل لمحصّل ، وعامل بالأدلة ، أن يرجع في ديانته إلى العمل بهذين الخبرين ، وفيهما ما فيهما من الاضطراب ، وأصلهما وراويهما واحد ، وهو محمد بن الفضيل ، وأخبار الآحاد عندنا لا يعمل عليها ، ولا يرجع في الأدلة إليها ، لأنّها لا تثمر علما ، ولا توجب عملا.

ومن شاهد مدينا له بفتح الميم ، على ما قدّمناه (3) ، قد باع ما لا يحلّ تملكه للمسلمين ، من خمر ، أو لحم خنزير ، وغير ذلك ، وأخذ ثمنه ، جاز له أن يأخذ منه ، فيكون حلالا له ، ويكون ذنب ذلك على من باع ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) مطلقا ، غير مقيّد ، والمراد بذلك أن يكون البائع الذي هو المدين ، ممّن أقرّنه الشريعة على ما يراه ، من تحليل بيع الخمر ، وهو أهل الكتاب ، لأنّ ذلك حلال عندهم ، ويجوز للمسلم قبض دينه منهم ، إذا كان ثمن خمورهم ، وخنازيرهم ، وليس المراد بذلك ، أن يكون الدين على مسلم ، فيبيع المسلم الخمر ،

ص: 43


1- التهذيب : ج 6 الديون ، الباب 81 ح 401 و 410 ، وفي الوسائل : الباب 15 من أبواب الدين والقرض ح 2 و 3. وفي ج : ذيل حديث أبي حمزة هكذا : « من الرجل الذي له عليه الدين »
2- التهذيب : ج 6 الديون ، الباب 81 ح 401 و 410 ، وفي الوسائل : الباب 15 من أبواب الدين والقرض ح 2 و 3. وفي ج : ذيل حديث أبي حمزة هكذا : « من الرجل الذي له عليه الدين »
3- ج : وصفناه.
4- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميّت.

ويقبض المسلم من المسلم دينه منه ، لأنّ بيع الخمر للمسلم حرام ، وثمنه حرام ، وجميع أنواع التصرّفات فيها حرام على المسلمين ، بغير خلاف بينهم ، وعندنا أنّ الخمر ليست بمملوكة للمسلم ، فكيف يجوز بيع غير المملوك ، والبيع لغير المملوك لا ينعقد ، ولا يملك الثمن ، فكيف يكون حلالا له.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في مسائل الخلاف ، في الجزء الثاني من كتاب الرهن : مسألة : الخمر ليست بمملوكة ، ثمّ قال في استدلاله : ومن ادّعى حجة أنّه يملكها ، فعليه الدلالة (1).

ثم قال شيخنا أبو جعفر أيضا ، في مبسوطة ، في الجزء الثاني في كتاب الرهن : إذا استقرض ذمي من مسلم مالا ، ورهن عنده بذلك خمرا ، يكون على يد ذمي آخر يبيعها عند محلّ الحق (2) فباعها ، وأتى بثمنها ، جاز له أخذه ، ولا يجبر عليه ، وإذا كانت المسألة بحالها ، غير أنّ الخمر كانت عند مسلم ، وشرط أن يبيعها عند محلّ الحق (3) فباعها وقبض ثمنها ، لم يصح ، ولم يكن لبيع المسلم الخمر وقبض ثمنها حكم ، ولا يجوز للمسلم قبض دينه منه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4).

ألا تراه قيد هاهنا ، وفرق بين بيع الذمي الخمر ، وبين بيع المسلم لها ، فقيد ما أطلقه في نهايته ، وانّما يورد أخبار الآحاد ، وغير الآحاد في النهاية إيرادا ، مطلقا على ألفاظها ، لا اعتقادا ، لأنّه كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، على ما أشرنا إليه من قبل.

وأيضا قول الرسول عليه السلام : إنّ اللّه إذا حرّم شيئا ، حرم ثمنه (5) ، والخمر محرّمة بالإجماع ، فيجب أن يكون ثمنها محرما ، لا محلّلا ، ولنا في ذلك - أعني بيع الخمر ، وهل يحل قبض الدين من ثمنها - جواب مسألة وردت من حلب علينا

ص: 44


1- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 36 ، وفي المصدر : ومن ادّعى صحة.
2- و (3) ل : محل الخمر. وفي المصدر : « محل الحق » وهو الصحيح
3- ل : محل الخمر. وفي المصدر : « محل الحق » وهو الصحيح
4- المبسوط : أحكام الرهن.
5- عوالي اللئالي : ج 2 ص 110 ، ح 301.

من أصحابنا الإماميّة ، سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، قد بلغنا فيها إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات.

وإذا كان شريكان لهما مال على الناس ، فتقاسما ، واحتال كلّ واحد منهما شيئا منه ، ثمّ قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على الناس أيضا مثل ذلك ، لأنّ المال الذي في ذمم الغرماء من الديون ، غير مقسوم ، فهو شركة بعد ، لأنّ ما في الذمم غير مقبوض ، ولا متعيّن ، حتّى يصح قسمته ، فلأجل ذلك ، مهما حصل منه شي ء ، يكون بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما.

ومن كان له دين على غيره ، فأعطاه شيئا بعد شي ء من غير الجنس الذي له عليه ، ثمّ تغيّرت الأسعار ، كان له بسعر يوم أعطاه تلك السلعة ، لا بسعر وقت محاسبته إيّاه ، لأنّه أعطاه إيّاه عمّا له في ذمّته ، وهو من غير جنس ماله ، فيحتسب بقيمة يوم إعطائه وتسليمه إليه ، لا يوم محاسبته عليه ، لأنّه ما أعطاه إيّاه قرضا ، بل عمّا له في ذمّته ، فيسقط عنه بقيمته وقت تسليمه وإعطائه لا وقت محاسبته ، ولا يلزمه ردّ مثله ، إن كان له مثل ، ولو كان أعطاه إيّاه قرضا ، لا عن دين له ، وجب عليه ردّ مثله ، إن كان له مثل ، وقت مطالبته به ، بخلاف ذلك ، فامّا إذا لم يكن له مثل ، وكان يضمن بالقيمة ، لا بالمثليّة ، فإنّه يرد قيمته وقت إعطائه وتسليمه ، دون وقت مطالبته ومحاسبته ، في المسألتين معا ، فليتأمّل ذلك.

باب قضاء الدين عن الميّت

يجب أن يقضى الدين عن الميّت من أصل التركة ، وهو أول ما يبدأ به بعد الكفن المفروض ، ثمّ تليه الوصيّة ، ثم الميراث بعد ذلك أجمع ، فإن أقيم بينة على ميت بمال ، وكانت عادلة ، وجب معها على من أقامها اليمن باللّه ، انّ له ذلك المال حقا ، ولم يكن الميّت قد خرج إليه منه ، فإذا حلف ، كان له ما أقام عليه

ص: 45

البيّنة ، وحلف عليه ، فإن امتنع عن اليمين ، انصرف ، ولم يكن له في ظاهر الحكم شي ء ، ولم تنفعه بينته ، ولم يلزم الورثة اليمين ، لأنّه ما ادّعى عليهم شيئا ، فإن ادّعى عليهم العلم بذلك ، لزمهم أن يحلفوا أنّهم لا يعلمون أنّ له حقا على ميّتهم.

فإن لم يكن للمدّعي على الميت ، إلا شاهد واحد ، وكان عدلا ، لزم المدّعي أيضا اليمين معه ، لأنّ الشاهد واليمين عندنا في المال جائز ، ولا يلزمه يمين أخرى ، لأنّ يمينه تأتي على أنّ له ذلك المال حقا ، وليس لنا على يمين واحدة ، وحكم واحد ، من حالف واحد ، يمينان ، والأصل براءة الذمّة ، وقد يشتبه هذا الحكم على كثير من أصحابنا ، حتى سمعت جماعة يسألون عنه.

ومتى لم يخلف الميّت شيئا ، لم يلزم الورثة قضاء الدين عنه بحال ، فإن تبرع منهم إنسان بالقضاء عنه ، كان له بذلك ، الأجر والثواب إن كان المقضي عنه معتقدا للحق ، ويجوز أن يكون ذلك القضاء ممّا يحتسب به من مال الزكاة ، إذا كان قد أنفقه في الطاعات ، أو المباحات ، على ما شرحناه فيما مضى ، سواء كان الميّت ممن يجبر القاضي للدين على نفقته ، أو ممن لا يجبر.

ومتى أقرّ بعض الورثة بالدين ، لزمه في حصّته بمقدار ما يصيبه من أصل التركة ، على ما رواه بعض أصحابنا ، فإن شهد نفسان منهم ، وكانا عدلين مرضيين ، أجيزت شهادتهما على باقي الورثة ، واستوفي الدين من جميع الورثة بعد يمين المدعي على ما قدمناه ، وكذلك إن شهد منهم واحد ، وكان مرضيا عدلا في ديانته.

وشيخنا أبو جعفر ، ما ذكر (1) في نهايته إلا ان قال : فإن شهد نفسان منهم (2) ولم يذكر الواحد.

وذكر في مسائل الخلاف ، في الجزء الثالث ما قلناه من شهادة الواحد المرضي ، لأنّ أصول مذهبنا تقضي بذلك ، وهو أنّ الشاهد واليمين ماضية في

ص: 46


1- له : ما ذكره.
2- النهاية : باب قضاء الدين عن الميت.

الأموال ، وما المقصود منه المال ، سواء كان دينا أو غيره من الأموال ، وبعض أصحابنا يخصه بالدين فقط ، والصحيح الأوّل.

وإن لم يكن الشاهدان ، أو الشاهد الدين من الورثة عدولا ، الزموا في حصصهم (1) بمقدار ما يصيبهم حسب ما روي (2) ولا يلزمهم الدين على الكمال ، مثال ذلك ، إذا مات إنسان وخلّف ابنين وتركة ، فادّعى أجنبي دينا على الميّت ، فأقر أحدهما بما ادّعاه المدّعي ، وكان المقر غير مرضي ، كان له نصف الدين في حصّة المقر ، وبذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يأخذ من نصيب المقر جميع الدين ، وقد استدل بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، على صحّة مقالتنا ، بأن قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقال : وأيضا فان المدّعي وأحد الابنين قد اعترف بالدين على الميّت ، وان الدين يتعلق بالتركة في حقّه ، وحق أخيه ، بدليل أنه البيّنة لو قامت به ، استوفى منهما ، فإذا كان كذلك كان تحقيق الكلام ، لك علي وعلى أخي ، ولو قال هذا لم يجب عليه من حقّه ، إلا نصف الدين (3).

وهذا الاستدلال لا أراه معتمدا ، بل الدليل المعتمد هو الإجماع ، إن كان ، وإلا كان الاستدلال علينا ، لا لنا : لأنّ أصول مذهبنا تقتضي أنّ الورثة لا يستحقون شيئا من التركة ، دون قضاء جميع الديون ، ولا يسوغ ولا يحلّ لهم التصرف في التركة ، دون القضاء ، إذا كانت بقدر الدين ، لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (4) فشرط في صحة الميراث وانتقاله ، أن يكون ما يفضل عن الدين ، فلم يملك الوارث إلا بعد قضاء الدين ، وهذا قد ملك قبل قضاء الدين ، فإن كان على المسألة إجماع من أصحابنا ، فهو الدليل دون غيره.

ص: 47


1- ج : حصتهم.
2- الوسائل : الباب 26 من أحكام الوصايا.
3- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 62.
4- النساء : 11 - 12.

فأمّا الأخبار فهي آحاد ، رواتها رجال العامّة ، وهما خبران قد أوردهما شيخنا أبو جعفر في كتاب الإستبصار (1) أحدهما عن الحكم بن عتيبة وهو عامي المذهب ، والآخر عن أبي البختري ، وهب بن وهب ، وهو (2) عامي المذهب ، كان قاضيا.

وإلحاق ذلك بإقرار بعض الورثة بوارث ، قياس وهو عندنا باطل.

وأيضا فإقرار بعض الورثة بوارث من المعلوم أنّه يستحق المقر شيئا من التركة ولا يحرمها (3) وإقراره بالدين إقرار بأنّه لا يستحقّ منها شيئا ، إلا بعد قضائه جميعه ، فافترق الأمران.

وأيضا فما قال بهذا غير شيخنا أبي جعفر ، ومن اتبعه ، وقلّده ، والسيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، غير قائلين بذلك.

ومن مات وعليه دين ، يستحب لبعض إخوانه أن يقضي عنه دينه ، وإن قضاه من سهم الغارمين من الزكاة ، كان ذلك جائزا حسب ما قدّمناه.

وإذا لم يخلف الميّت إلا مقدار ما يكفن به ، سقط الدين وكفن بما خلف ، حسب ما قدّمناه ، فإن تبرع إنسان بتكفينه ، كان ما خلفه للديّان دون الورثة ، فإن انجزع (4) عليه آخر بكفن كان للورثة دون الديان ، لأنّ الديّان لا يستحقون إلا ما خلفه الميّت ، وهذا ما خلفه.

وتحرير ذلك ، إنّ المتصدق بالكفن الثاني إن قبضه الورثة ، وتصدق به عليهم ، وإلا فهو باق على ملكه ، وهو بالخيار فيه ، لأنّ الصدقة لا يملكها المتصدق بها عليه إلا بعد قبضها ، فإذا لم يقبضها ، فهي مبقاة على ملك صاحبها ، وهذه المسألة ذكرها شيخنا ابن بابويه في رسالته (5) وأطلق القول فيها ، وتحريرها ما ذكرناه.

وإن قتل إنسان وعليه دين ، وجب أن يقضي ما عليه من ديته ، سواء كان

ص: 48


1- الاستبصار : كتاب الوصايا ، باب إقرار بعض الورثة لغيره بدين على الميت ، ح 1 و 2 (435 و 436) وفي الوسائل : الباب 26 في أحكام الوصايا ، ح 5 و 8.
2- ل : وهو أيضا.
3- ج : لا يحرّمه عليه.
4- ج فان تبرّع عليه آخر بكفن آخر.
5- لم يعثر عليه.

قتله عمدا أو خطاء ، فإن كان ما عليه محيطا بديته ، وكان قد قتل عمدا ، لم يكن لأوليائه القود ، إلا بعد أن يضمنوا الدين عن صاحبهم ، فإن لم يفعلوا ذلك ، لم يكن لهم القود على حال ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وما عليه إجماع طائفتنا ، انّ قتل العمد المحض موجبه القود فحسب ، دون التملّك ، واللّه تعالى قال في محكم التنزيل ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) (2) وقال تعالى ( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (3) ولا يرجع عن هذه الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

والاولى أن يخص ما ورد من الأخبار بقتل الخطإ ، لأنّ قتل الخطأ يوجب المال بغير خلاف ، دون القود ، وكأنّما الميّت خلّف مالا ، أو استحق بسببه مال ، فيقضي به دينه.

وأمّا قتل العمد المحض ، فإنّه يوجب القود ، دون المال ، فكأن الميّت ما خلّف مالا ، ولا يستحق بسببه مال ، فإن عفت الورثة واصطلح القاتل والورثة على مال ، فإنّهم استحقّوه بفعلهم وعفوهم ، وفي قتل الخطأ ما استحقّوه بعفوهم ، بل بسبب الميّت ، لأنّهم لا يستحقّون غيره ، وفي قتل العمد المحض ، استحقوا القود ، دون المال ، فمن أبطله عليهم ، ودفعه عنهم ، فقد أبطل سلطانهم الذي جعله اللّه لهم ، وخالف ظاهر التنزيل ، وأبطل القود ، إذا لم يؤدوا إلى صاحب الدين الدية ، وأسقطوا اللطف الذي هو الزجر في قوله تعالى « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » لأنّ من علم أنّه يقتل ، إذا قتل ، كف عن القتل ، فحيي (4) هو ومن يريد أن يقتله.

وأيضا فصاحب الدين لا يستحق إلا ما يخلف الميّت من الأموال ، وكان

ص: 49


1- النهاية : باب قضاء الدين عن الميّت.
2- البقرة : 179.
3- الاسراء : 33.
4- ل. : فيحيي.

مملوكا له في حياته ، أو مالا مستحقا بسببه ، على ما قلناه في قتل الخطإ ، لأجل الإجماع ، والأخبار على قتل الخطأ ، لأن موجبه المال ، وقتل العمد المحض ، لا مال ، ولا موجبه المال ، فمن أين يستحق صاحب الدين المال ، ويمنع من القود حتى يأخذ المال.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام خبرا فحسب ، في هذا المعنى في باب الديون وأحكامها ، وهو : الصفار ، عن أيوب بن نوح ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الحميد بن سعيد ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام ، عن رجل قتل ، وعليه دين ، ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدّية من قائله ، أعليهم أن يقضوا الدين ، قال : نعم ، قال : قلت وهو لم يترك شيئا ، قال عليه السلام : إنّما أخذوا الدية ، فعليهم أن يقضوا عنه الدين (1).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وليس في هذا الحديث - إذا تلقى بالقبول وسلم ما ينافي ما قلناه ، لأنّه ما قال قتل عمدا محضا ، وانّما قال أخذوا أهله الدّية ، وهذا يدلّ على أنّ القتل كان موجبه الدّية ، دون القود ، لأنّ أهله لا يأخذون الدّية بنفس القتل إلا في قتل الخطأ ، وقتل العمد شبيه الخطأ ، فالخبر دليل لنا ، لا علينا.

فإن قيل : قد قال في الخبر ، فأخذ أهله الدّية من قاتله ، ولو كان القتل خطأ محضا ، ما أخذوا الدّية من قاتله ، بل كانوا يأخذونها من عاقلته دونه ، بغير خلاف.

قلنا : يأخذونها أيضا عندنا من القاتل ، في القتل العمد شبيه الخطأ ، دون العاقلة ، فنخص هذه المواضع بقتل يوجب المال ، وهما قتلان ، قتل خطأ محض ، وقتل عمد شبيه الخطأ ، وانّما منعنا من القتل العمد المحض الذي لا يوجب المال ، بل موجبه القود ، فحسب ، للأدلّة القاهرة المقدّم ذكرها ، وأعطينا الظاهر حقّه ، لئلا تتناقض الأدلة ، كما يعمل في آيات القران ذلك.

ص: 50


1- التهذيب : الباب 81 من كتاب الديون ، ح 41 / 416 ، ج 6 ص 192.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسيّ ، في مبسوطة في ذكر الشهادة على الجنايات : إذا ادّعى رجل على رجل أنّه جرحه قطع يده أو رجله ، أو قلع عينه ، فأنكر ، فأقام المدّعي شاهدين ، وهما وارثاه ، أخواه أو عماه ، بذلك ، لم يخل الجرح من أحد أمرين ، إمّا أن يكون قد اندمل ، أو لم يندمل ، فإن شهدا بعد اندمال الجرح ، قبلتا وحكمت بها للمشهود له ، لأنّ شهادة الأخ لأخيه مقبولة ، وهذه الشهادة بعد الاندمال لا تجر نفعا ، ولا يدفع بها ضررا ، وإن كانت الشهادة قبل اندمال الجرح ، لم تقبل هذه الشهادة ، لأنّهما متهمان ، فانّ الجرح قد يصير نفسا ، فيجب الدّية على القاتل ، ويستحقها الشاهدان ، فلهذا لم تقبل.

ثمّ قال رحمه اللّه : فرع ، إذا ادّعى مريض على رجل مالا ، فأنكر المدعى عليه ، فأقام المدّعي شاهدين بذلك ، أخويه أو عميه ، وهما وارثاه ، قال قوم : لا تقبل ، لأنّهما متّهمان ، لأنّ المريض قد يموت ، فيكون لهما ، وقال آخرون : مقبولة غير مردودة ، وهو الأصحّ عندي ، لأنّهما لا يجران منفعة ، ولا يدفعان ضررا ، لأنّ الحق إذا ثبت ، ملكه المريض ، فإذا مات ورثاه عن الميّت ، لا عن المشهود عليه ، وليس كذلك إذا كانت الشهادة بالجناية ، لأنّه متى مات المجني عليه ، وجبت الدّية بموته على القاتل ، يستحقّها الشاهدان على المشهود عليه ، فلهذا ردت ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

ألا ترى أرشدك اللّه قول شيخنا ، وفرقه بين المسألتين ، في الشهادة بالجناية ، والشهادة بالمال ، وأنّ الشهادة بالمال مقبولة ، وقوله : لأنّ الحق - يعني المال - إذا ثبت ملكه المريض فإذا مات ورثاه عن الميّت ، لا عن المشهود عليه ، وليس كذلك إذا كانت الشهادة بالجناية ، لأنّه متى مات المجني عليه ، وجبت الدّية بموته على القاتل ، يستحقّها الشاهدان على المشهود عليه ، فلهذا ردت ، فقد أفتى بأنّ

ص: 51


1- المبسوط : كتاب كفارة القتل ، في ذكر الشهادة على الجنايات.

المال المتروك يستحقه الوارث عن الميت ، لا عن المشهود عليه به ، والدية لا يستحقها الوارث عن الميّت ، بل عن المشهود عليه ، لأنّها ليس بمال للميّت حتى يستحق عنه ، ولو لا الدليل في دية الخطأ ، ودية العمد شبيه الخطأ لما كان كذلك.

ثمّ قال شيخنا أيضا في مبسوطة : وإذا وجد الرجل قتيلا في داره ، وفي الدار عبد المقتول ، كان لوثا على العبد ، وللورثة أن يقسموا ، أو يثبتوا القتل على العبد ، ويكون فائدته ، أن يملكوا قتله عندنا ، إن كان عمدا ، قال رحمه اللّه : وفيه فائدة أخرى ، وهي أنّ الجناية إذا ثبتت ، تعلّق أرشها برقبته ، فربما كان رهنا ، فإذا مات كان للوارث أن يقدم حق الجناية على حق الرهن ، فإذا كانت فيه فائدة ، كان لهم أن يقسموا ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

فلو كان الدين الذي على المقتول عمدا محضا ، يمنع (2) الورثة من القود ، لما قال ذلك ، وقال أيضا في الجزء الثاني من المبسوط ، في كتاب التفليس : وإذا جنى على المفلس ، فلا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن تكون جناية عمدا ، أو خطأ ، فإن كانت خطأ ، توجب الأرش ، فإنّه قد استحق الأرش ، وتعلّق به حق الغرماء ، فيأخذه ، ويقسمه بينهم ، وإن كانت الجناية عمدا توجب القصاص ، فإنّه مخير بين أن يقتص (3) ، وبين أن يعدل عن القصاص إلى الأرش ، إذا بذل له الجاني ، وليس للغرماء أن يجبروه على الأرش (4).

قال محمّد بن إدريس : فإذا مات ، ورث وارثه ما كان يستحقه من القصاص ، لأنّه لا خلاف في أنّ الوارث يستحق ما كان يستحقه مورثه ، من جميع الحقوق ، فمن منع (5) ذلك يحتاج إلى دليل.

وإذا تبرع إنسان بضمان الدين عن الميّت ، في حال حياته ، أو بعد وفاته

ص: 52


1- المبسوط : كتاب القسامة.
2- من هنا وقع سقط في نسخة « ق » قريب ثلاث صفحات.
3- ل : أن يقصه.
4- المبسوط : كتاب التفليس ، ج 2.
5- ل : فمن أنكر.

برئت ذمّة الميّت ، سواء قضى ذلك المال الضامن ، أو لم يقض ، إذا كان صاحب الدين قد رضي به ، فإن لم يكن قد رضي به ، كان في ذمّة الميّت على ما كان.

ومن مات وعليه دين مؤجّل ، حل أجل ماله ، ولزم ورثته الخروج ممّا كان عليه ، إن خلّف تركة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكذلك إن كان له دين مؤجّل ، حل أجل ماله ، وجاز للورثة المطالبة به في الحال (1).

وقال في مسائل الخلاف : مسألة ، من مات وعليه دين مؤجّل ، حل عليه بموته ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، ومالك ، وأكثر الفقهاء ، إلا الحسن البصري ، فإنّه قال : لا تصير المؤجلة حالة بالموت ، فأمّا إذا كانت له ديون مؤجلة ، فلا تحل بموته ، بلا خلاف ، إلا رواية شاذة ، رواها أصحابنا أنّها تصير حالة ، ثم قال : دليلنا على بطلان مذهب الحسن البصري إجماع الفرقة ، بل إجماع المسلمين ، لأنّ خلافه قد انقرض ، وهو واحد لا يعتد به لشذوذة (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، مصنف هذا الكتاب : والذي ذكره شيخنا في مسائل الخلاف ، هو الصحيح ، وبه افتى ، وأعمل ، لأنّ به تشهد الأدلة القاهرة (3) ، وما ذكره رحمه اللّه في نهايته ، فهو خبر شاذّ من أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ، قد شهد بذلك شيخنا في مسائل الخلاف ، وقال : إلا رواية شاذة رواها أصحابنا ، انّها تصير حالة ، فلو كان رحمه اللّه عاملا بأخبار الآحاد ، لما قال ذلك ، ولا ساغ له ترك العمل بالرواية ، وبخبر الواحد ، وكلّ من قال عنه أنّه كان يعمل بأخبار الآحاد ، فهو محجوج بقوله هذا ، وجميع ما يورده ويذكره في نهايته ، ممّا لا تشهد بصحته الأدلة ، فهي أخبار آحاد يوردها ، كما

ص: 53


1- النهاية : باب قضاء الدين عن الميّت.
2- الخلاف : كتاب التفليس ، مسألة 14.
3- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 12 من أبواب الدين والقرض. ح 4.

أورد هذه الرواية ، فلا يظن ظان أنّه إذا قال روى أصحابنا ، أو رواية أصحابنا ، انّ جميع الإماميّة روت ذلك ، وتواترت به ، وأجمعت عليه ، وانّما مراده رحمه اللّه ، انّ هذا القول والرواية من جهة أصحابنا ، وراويها منهم ، لا من رواية مخالفيهم ، فهذا مقصوده ومراده رحمه اللّه ، فلا يتوهم عليه غير ذلك ، فيغلط عليه ، ويعتقد أنّ جميع ما يورده ويطلقه في نهايته اعتقاده ، وحقّ وصواب عنده.

ومن مات وعليه ديون لجماعة من الناس ، تحاصّوا ما وجد من تركته ، بمقدار ديونهم ، ولم يفضل بعضهم على بعض ، فإن وجد واحد منهم متاعه بعينه عنده ، وكان للميت مال ، يقضي ديون الباقين عنه ، رد عنه (1) بغير نمائه المنفصل عنه ، كالحمل ، ولم يحاصه باقي الغرماء ، وإن لم يخلّف وفاء لديون الباقين ، كان صاحبه وباقي الغرماء سواء.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكذلك لو كان حيّا والتوى على غرمائه ، ( معنى التوى دافع وماطل ) ردّ عليه ماله ، ولم يحاصه باقي الغرماء (2).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : حكم الحيّ هاهنا بخلاف حكم الميّت ، لأنّ الحيّ ، من وجد عين متاعه أخذه بعينه ، دون نمائه المنفصل ، ولم يحاصّه باقي الغرماء ، سواء بقي له بعد أخذه ، وفاء لديون الباقين ، أو لم يبق ، والميّت ، لصاحب المتاع ، أخذه بشرط أن يكون للميّت بعد أخذه ، وفاء لديون الباقين.

وإذا مات من له الديون ، فصالح المدين ورثته على شي ء ، مما كان عليه ، كان ذلك جائزا ، وتبرأ بذلك ذمّته ، إذا أعلمهم مقدار ما عليهم من المال ، ورضوا ( بضمّ الضاد ) بمقدار ما صالحوه عليه ، ومتى لم يعلمهم مقدار ما عليه من المال ، ولم يرضوا ( بفتح الضاد ) به بعد إعلامهم ، لم يكن ذلك الصلح جائزا ، ولم تبرأ بذلك الذمّة.

ص: 54


1- ل : رد عليه.
2- النهاية : باب قضاء الدين عن الميت.

باب بيع الديون والأرزاق

الدين لا يخلو إمّا أن يكون مؤجّلا ، أو حالا ، فإن كان مؤجلا ، فلا يجوز بيعه بغير خلاف (1) على غير من هو في ذمّته ، فامّا أن كان حالا فلا يجوز بيعه بدين آخر ، لا ممن هو عليه ، ولا من غيره بغير خلاف أيضا ، ونهى النبي عليه السلام عن بيع الكالي بالكالي (2) وهو بيع الدين بالدين ، ومثاله أن يسلم الإنسان في طعام أو غيره ، إلى وقت معلوم ، فإذا حلّ الأجل ، لم يجد الذي عليه ذلك طعاما ، فيبتاعه من الذي هو له ، بدين إلى أجل آخر ، ومثله أيضا ، أن يسلم الإنسان في طعام ، ولا يدفع الثمن ، بل يبقيه دينا عليه ، وما جرى مجرى ذلك.

فإن باعه ممن هو عليه بعد حلوله ، وكان ذهبا فباعه بذهب ، أو كان فضة فباعه بفضة ، أو كان فضّة فباعه بذهب ، أو كان ذهبا فباعه بفضّة ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأن ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معيّن موجود مشاهد ، بثمن في الذمّة ، فأمّا إن باعه على من هو عليه نقدا ويدا ، فلا بأس بذلك ، وإن كان على غيره ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك في باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت ، وبلغنا فيه إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، وأوضحنا اعتقادنا فيه ، بما لا حاجة هاهنا إلى إعادته.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره من الديون نقدا ، ويكره أن يبيع ذلك نسية ، ثمّ قال : ولا يجوز بيعه بدين آخر مثله (3).

قال محمد بن إدريس : قوله رحمه اللّه ، يكره أن يبيع ذلك نسية ، لا يصحّ بل

ص: 55


1- إلى هنا ينتهي سقط نسخة « ق ».
2- مستدرك الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 15 من أبواب الدين والقرض ، ح 1.
3- النهاية : باب بيع الديون والأرزاق.

ذلك حرام محظور ، غير مكروه ، بل هذا بعينه بيع الدين بالدين ، وانّما يورد أخبار آحاد بألفاظها ، وإن لم يكن عاملا بها ، ولا معتقدا لصحتها ، ولا يكون مناقضا لأقواله ، لأنّه قال بعده : ولا يجوز بيعه بدين آخر مثله ، وذلك أيضا دين.

ثم قال شيخنا : فإن وفي الذي عليه الدين ، المشتري ، وإلا رجع على من اشتراه منه بالدرك.

ثمّ قال : ومن باع الدين بأقل ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال (1).

قال محمد بن إدريس : قوله رحمه اللّه ، ومن باع الدين بأقل مما له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال ، طريف عجيب (2) ، يضحك الثكلى ، وهو أنّه إذا كان الدين ذهبا ، كيف يجوز أن يبيعه بذهب أقل منه ، أو إن كان فضة ، فكيف يجوز أن يبيعه بفضة أقل منه أو إن كان ذهبا فباعه بفضّة ، أو فضّة فباعه بذهب ، كيف يجوز انفصالهما من مجلس البيع ، إلا بعد أن يتقابضا بالمبيع والثمن ، يقبض البائع الثمن والمشتري المثمن ، فإن هذا لا خلاف فيه بين طائفتنا ، بل لا خلاف فيه بين المسلمين.

وقوله : لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال.

قال محمد بن إدريس : إن كان البيع المشار إليه صحيحا ، لزم المدين تسليم ما عليه جميعه ، وهو المبيع إلى المشتري ، لأنّ هذا صار مالا من أمواله ، لأنّه اشتراه ، وقد يجوز أن يشتري الإنسان ما يساوي خمسين قنطارا ، بدينار واحد ، إذا كان البائع من أهل البصيرة والخبرة ، وانما هذه أخبار آحاد ، أوردها على ما وجدها إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان رزقه على السلطان ، قبل قبضه له ، لأنّ ذلك بيع

ص: 56


1- النهاية : باب بيع الديون والأرزاق.
2- ل : ظريف عجيب.

غرر ، وبيع ما ليس بملك له (1) ، لأنّه لا يملكه إلا بعد قبضه إيّاه ولا يتعين ملكه له الّا بعد قبضه إيّاه وكذلك بيع أهل مستحقي الزكوات ، والأخماس ، قبل قبضها ، لأنّه لا يتعيّن ملكها لهم ، إلا بعد قبضها ، فجميع ذلك غير مضمون ، وبيعه غير جائز ولا صحيح.

باب المملوك يقع عليه الدّين ما حكمه

باب المملوك يقع عليه الدّين ما حكمه (2)

المملوك إذا لم يكن مأذونا له في الاستدانة ، ولا في التجارة ، فكل دين يقع عليه ، لم يلزم مولاه شي ء منه ، ولا يستسعى المملوك أيضا في شي ء منه ، بغير خلاف ، بل يتبع به إذا لحقه العتاق.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : بل كان ضائعا يريد به ما دام مملوكا (3).

وقال في نهايته أيضا : وإن كان مأذونا له في التجارة ، ولم يكن مأذونا له في الاستدانة ، فما يحصل عليه من الدين استسعى فيه ، ولم يلزم مولاه من ذلك شي ء (4).

وقال في مبسوطة : إذا كان العبد مأذونا له في التجارة نظر ، فإن أقر بما يوجب حقا على بدنه ، قبل عندهم ، وعندنا لا يقبل ، فإن أقر بما يوجب مالا ، نظر ، فإن كان لا يتعلق بما اذن له فيه في التجارة ، مثل أن يقول : أتلفت مال فلان ، أو غصبت منه مالا ، أو استقرضت منه مالا ، فانّ الاستقراض لا يدخل في الإذن في التجارة ، لأنّه لا يقبل على ما بيناه ، ويكون في ذمّته ، يتبع به إذا أعتق ، وإن كان يتعلّق بالتجارة ، مثل ثمن المبيع ، وأروش العيب ، وما أشبه ذلك ، فإنّه يقبل إقراره ، لأنّ من ملك شيئا ملك الإقرار به ، إلا أنّه ينظر فيه ، فإن كان الإقرار بقدر ما في يده من مال التجارة ، قبل ، وقضى منه ، وإن كان أكثر ، كان الفاضل

ص: 57


1- ليس في نسخة ج ولا يتعين ملكه له إلا بعد قبصه إيّاه.
2- ل : الدين فما حكمه.
3- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك وأحكامه.
4- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك وأحكامه.

في ذمته ، يتبع به إذا أعتق (1).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب ، والذي اختاره وأعمل عليه ، وافتي به ، أنّ العبد المأذون له في التجارة ، لا يستسعى في قضاء الدين ، بل يتبع به إذا لحقه العتاق.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في نهايته ، في مبسوطة على ما أوردناه عنه وفي استبصاره في الجزء الثالث من كتاب العتق ، فإنّه أورد أخبارا ، ثمّ قال : والوجه في الخبرين أنّه انّما يكون ذلك على العبد إذا أعتق ، إذا لم يكن أذن له في الاستدانة ، وانّما أذن له في التجارة ، فلما استدان ، كان ذلك معلّقا بذمته إذا أعتق (2).

وما ذكره في نهايته خبر واحد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه.

وقال في نهايته : وإن كان مأذونا له في الاستدانة ، لزم مولاه ما عليه من الدين ، إن استبقاه مملوكا ، أو أراد بيعه ، فإن أعتقه ، لم يلزمه شي ء مما عليه ، وكان المال في ذمّة العبد (3).

والصحيح الواضح ، انّ المولى إذا أذن للعبد في الاستدانة ، فإنّه يلزمه قضاء الدين ، سواء باعه ، أو استبقاه ، أو أعتقه ، لأنّه وكله في أن يستدين له ، فالدين في ذمّة المولى ، لا يلزم العبد منه شي ء ، بحال من الأحوال ، ولم يزده العتق إلا خيرا.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في نهايته ، في كتاب الإستبصار في الجزء الثالث ، وما ذكره في نهايته خبر واحد ، وانه طريف الأكفانيّ ، وهو مجهول ، خامل الذكر ، وهو من أضعف الأخبار الآحاد ، أعني هذا الخبر ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ، وأنّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه ، أوردها في نهايته إيرادا ، على ما هي عليه ، ورجع عنها عند تحقيق الفتوى في كتبه الباقية

ص: 58


1- المبسوط : كتاب الإقرار ، في حكم أقارير العبد.
2- الاستبصار : كتاب العتق ، الباب 11 ، ذيل ح 2 (64).
3- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك يقع عليه الدين.

على ما قد أوردناه وحكيناه عنه في هذا الكتاب كثيرا.

وقال في الجزء الثاني من مبسوطة : وإذا أذن لعبده في التجارة ، فركبه دين ، فإن كان أذن له في الاستدانة ، فإن كان في يده مال ، قضى منه ، وإن لم يكن في يده مال ، كان على السيد القضاء عنه ، وإن لم يكن أذن له في الاستدانة ، كان ذلك في ذمّة العبد ، يطالب به إذا عتق ، وقد روي أنّه يستسعى العبد في ذلك (1) هذا آخر كلامه.

فعلى ما اخترناه ، من أنّ العبد إذا كان مأذونا له في الاستدانة ، يكون الدين في ذمّة مولاه على كلّ حال.

فإن مات المولى وعليه دين ، كان غرماء العبد وغرماؤه سواء ، يتحاصون ما يحصل من جهته من المال ، على ما تقضيه أصول أموالهم ، من غير تفضيل بعضهم على بعض ، لأنّ الدينين جميعا دين على المولى الذي هو السيّد ، وفي ذمته.

باب القرض وأحكامه

القرض فيه فضل كبير ، وثواب جزيل ، وقد روي (2) أنّه أفضل من الصدقة بمثله في الثواب ، فإن أقرض مطلقا ولم يشرط الزيادة في قضائه ، فقد فعل الخير ، وإن شرط الزيادة كان حراما ، ولم ينعقد العقد ، وكان فاسدا ، والملك باقيا على المقرض ، ولم ينتقل عنه إلى ملك المستقرض ، ولا يجوز حينئذ للمستفرض أن يتصرف فيه ، ولا فرق من أن يشرط زيادة في الصفة ، أو في القدر ، فإذا لم يشرط ، ورد عليه خيرا منه ، أو أكثر ، كان جائزا مباحا ، ولا فرق بين أن يكون ذلك عادة أو لم يكن ، وإذا شرط عليه أن يردّ خيرا منه ، أو أكثر منه ، كان حراما ، على ما قدّمناه ، وإن كان من الجنس الذي لا يجوز فيه الربا ، مثل أن يقرضه ثوبا

ص: 59


1- المبسوط : كتاب البيوع. فصل في العبيد.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الدين والقرض ، ح 1.

بثوبين فإنّه حرام لعموم الأخبار (1).

وقضاء القرض ، إن كان ممّا له مثل ، من المكيل والموزون ، فإنّه يقضيه مثله ، وإن كان ما لا مثل له مثل الثياب (2) والحيوان ، والخشب ، يجب عليه قيمته ، ولا يجب عليه رد العين المستقرضة ، لأنّها صارت بالقبض (3) والإقباض ، ملكا للمستقرض ، وخرجت من ملك القارض ، لأنّ المستقرض عندنا يملك القرض بالقبض ، بغير خلاف بيننا.

فعلى هذا التحرير ، لا يجوز للمقرض الرجوع في عين القرض ، بل له المطالبة بمثله ، إن كان له مثل ، أو بقيمته إن أعوز المثل يوم المطالبة ، لا يوم إقباض القرض.

وإن لم يكن له مثل ، وكان يضمن (4) بالقيمة ، رجع بقيمته يوم إقباض القرض ، لا يوم المطالبة بالرد.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في مسائل الخلاف : للمقرض الرجوع في عين القرض (5).

وليس على ما قال دليل ، ولا دلّ عليه بشي ء يرتضى.

وقال في مبسوطة : لا يجوز إقراض ما لا يضبط بالصفة (6).

والصحيح انّ ذلك يجوز ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، في جواز إقراض الخبز ، وان كان لا يضبط بالصفة ، لأنّهم أجمعوا أنّ السلم لا يجوز في الخبز ، لأنّ السلف لا يجوز فيما لا يمكن ضبطه بالصفة ، والخبز لا يضبط بالصفة.

وقال شيخنا رحمه اللّه أيضا في مبسوطة : يجوز استقراض الخبز إن شاء وزنا ، وإن شاء عددا ، لأنّ أحدا من المسلمين لم ينكره ، ومن أنكره من الفقهاء ، خالف الإجماع ، هذا آخر قول شيخنا في مبسوطة (7).

ص: 60


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الربا.
2- ج : ممّا لا مثل له من الثياب.
3- ج : بالقرض.
4- ج : مثل يضمن.
5- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 292 فإنه قال في ذيل المسألة : دليلنا أنّه عين ماله ( ملكه ) فكان له الرجوع فيه لأنّ الممتنع يحتاج إلى دليل
6- المبسوط : ج 2 ، فصل في حكم القرض ، ص 161.
7- المبسوط : ج 2 ، فصل في حكم القرض ، ص 161.

ويجوز إقراض الحيوان ، رقيقا كان أو غيره فإذا استقرض جارية تنعتق عليه بالملك ، فإنّه إذا قبضها عتقت عليه ، وليس له ردّها على المقرض ، ولا له المطالبة بها ، لأنّا قد بيّنا أنّه يملك بالقبض ، وإذا ملك انعتقت عليه.

وإذا كان لرجل على غيره مال حالا ، فأجّله فيه ، لم يصر مؤجّلا ، ويستحب له أن يفي به ، ويؤخر المطالبة إلى محلّه ، فإن لم يفعل ، وطالب به في الحال ، كان له ، سواء كان الدين ثمنا ، أو اجرة ، أو صداقا أو كان قرضا ، أو أرش جناية.

وكذلك إن اتفقا على الزيادة في الثمن ، لا يصحّ ، ولم يثبت ، وإن حط من الثمن شيئا ، أو حط جميعه ، يصح ، وكان إبراء ولا يلحق بالعقد ، وانّما هو إبراء في الوقت الذي أبرأه منه.

وإذا استقرض الإنسان شيئا ، كان عليه زكاته ، إذا كانت الشرائط فيه موجودة ، ويسقط زكاته عن القارض ، لأنه ليس بملك له.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إلا أن يشرط المستقرض عليه أن يزكيه عنه ، فحينئذ يجب الزكاة على القارض ، دون المستقرض (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه ، لأنّا قد بينا أن بالقبض يملك المستقرض المال ، ويخرج من ملك القارض ، فكيف يشترط أن يزكى مال الغير ، ولا خلاف أنّ الزكاة تجب على أرباب الأموال ، دون غيرهم ، وأيضا كل شرط يخالف الكتاب والسنة فهو باطل ، وهذا يخالف الكتاب والسنة ، ولم يرد به حديث في باب القرض ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه ما أورد في تهذيب الأحكام ، وهو أكبر كتاب له في الأحاديث ، في باب القرض حديثا بما ذكره في نهايته ، والأصل براءة الذمة ، ووجوب الزكاة على رب المال ، دون غيره.

وإذا أقرض الإنسان مالا ، فرد عليه أجود منه ، من غير شرط ، كان ذلك

ص: 61


1- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه.

جائزا ، وإن أقرض وزنا فرد عليه عددا ، أو أقرض عددا ، فرد عليه وزنا ، من غير شرط ، زاد أو نقص بطيب نفس منهما ، لم يكن بذلك بأس ، كل ذلك من غير شرط ، كان ذلك جائزا سائغا.

وإن أقرض شيئا على أن يعامله المستقرض في التجارات ، جاز ذلك.

وإن أعطاه قراضة الذهب ، أو مكسرة الفضّة (1) ورد عليه الصحاح من الجنسين ، لم يكن بذلك بأس ، إذا لم يشرط ، فأمّا إذا شرط أن يرد عليه الصحاح ، عوضا ممّا أخذ ، منه من المكسرة ، فإنّ ذلك حرام محظور.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن أعطاه الغلة ، يريد بذلك مكسرة الدراهم ، وأخذ منه الصحاح ، شرط ذلك ، أو لم يشرط ، لم يكن به بأس (2).

وهذا غير واضح ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، أنّه متى اشترط زيادة في العين والصفة ، كان باطلا ، والإجماع حاصل منعقد على هذا ، وقول الرسول عليه السلام شر القرض ما جر نفعا (3) والخبر الذي أورده شيخنا في كتابه تهذيب الأحكام ليس فيه ذكر الشرط ، ولا في الخبر أنّه شرط ، وهو محمّد بن احمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان ، عن يعقوب بن شعيب ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلة ، فيأخذ منه الدراهم الطازجية ، طيبة بها نفسه ، قال : لا بأس ، وذكر ذلك عن علي عليه السلام (4).

قال محمد بن إدريس : وليس في هذا الخبر للشرط ذكر ، والطازجية بالطاء غير المعجمة ، والزاء المعجمة ، والجيم : الدراهم البيض الجيدة ، وشيخنا أبو جعفر لم

ص: 62


1- ج : مكسرة.
2- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه ، مع تغيير في العبارة وهي هكذا : وإن أعطاه المكسر وأخذ منه الصحاح شرط ذلك أو لم يشرط لم يكن به بأس.
3- لم نعثر عليه في المجامع الروائية.
4- التهذيب : الباب 82 من كتاب القرض واحكامه ، ح 4 / 450.

يذكر الشرط في سائر كتبه ، سوى نهايته فحسب ، في الغلة التي هي مكسرة الدراهم ، بل قال في مبسوطة : لا يجوز أن يشترط في القرض ، زيادة العين ، ولا زيادة الصفة (1) وهو الحق اليقين.

وإن أقرض حنطة فرد عليه شعيرا أو أقرض شعيرا فرد عليه حنطة ، أو أقرض جلّة من تمر ، فرد عليه جلّتان ، أو قوصرة ، فرد عليه قوصرتان ، كل ذلك من غير شرط ، لم يكن به بأس.

وإن أقرض شيئا ، وارتهن عليه ، وسوغ له صاحب الرهن الانتفاع به ، من غير شرط جرى بينهما ، جاز له ذلك ، سواء كان ذلك متاعا ، أو آنية ، أو مملوكا أو جارية ، أو أيّ شي ء كان ، لم يكن به بأس.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إلا الجارية خاصّة ، فإنّه لا يجوز استباحة وطيها ، بإباحته إيّاها ، لمكان القرض (2).

والذي عندي في هذا أنّه إذا أباح المالك له وطئها من غير اشتراط في القرض ذلك ، فإنّه جائز حلال ، وانّما منع شيخنا من ذلك ، لأنّه في بعض كتبه يراعي في اللفظ من السيد ، لفظ التحليل ، وهو أن يقول له أحللت لك وطي جاريتي ، فمتى لم يقل ذلك ، وقال غيره من الألفاظ ، لم يجز له الوطي بذلك ، مثاله أن يقول له : أبحتك وطي جاريتي ، فلا يجوز عنده ، فلأجل هذا قال : فلا يجوز استباحة وطيها ، بإباحته إيّاها ، وقد رجع في مبسوطة وقال : يحل بالإباحة من المولى ، وقوله رحمه اللّه : لمكان القرض ، إن أراد بالتعليل أنّه اشترط في القرض ، فالجميع لا يجوز ، وليس الجارية بالتخصيص ، أولى من غيرها ، وإن أراد أنّه لم يشترط في القرض ، فالجميع أيضا متساو في الإباحة ، فلا وجه لقوله لمكان

ص: 63


1- المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في حكم القرض.
2- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه.

القرض ، حتّى تنفرد الجارية بذلك.

وإذا أهدى له هدايا ، فلا بأس بقبولها ، إذا لم يكن هناك شرط ، والأفضل تجنب ذلك أجمع ، والتنزّه عنه.

ولا بأس أن يقرض الإنسان الدراهم أو الدنانير ، ويشرط على صاحبه أن ينقدها له بأرض أخرى ، لأنّ هذا الشرط لا فيه زيادة عين ولا صفة.

ومتى كان له على إنسان دراهم ، أو دنانير أو غيرهما من السلع ، جاز له أن يأخذ مكان ماله ، من غير الجنس الذي له عليه ، بسعر الوقت فإن كانت دراهم ، وتعامل الناس بغيرها ، وأسقط الأوّل السلطان ، فليس له ، إلا مثل دراهمه الاولى ، ولا يلزمه غيرها ممّا يتعامل الآن به ، إلا بقيمتها من غير الجنس ، لأنّه لا يجوز بيع الجنس بالجنس متفاضلا.

باب الصّلح

الصّلح جائز بين الناس ، إلا ما حرّم حلالا ، أو حلّل حراما ، لقوله تعالى : ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (1) وقوله ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (2) وقوله ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) (3).

وروي عن الرسول صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا (4) وعليه إجماع المسلمين.

وهو أصل قائم بنفسه في الشرع ، لا فرع على غيره ، على ما يذهب إليه المخالف ، ولا خيار بعد انعقاده لأحدهما ، سواء افترقا من المجلس أو لم يفترقا ، لأنّه ليس ببيع ، وانّما هو عقد قائم بنفسه ، وقد قال تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5) والمخالف

ص: 64


1- النساء : 128.
2- النساء : 35.
3- الحجرات : 9.
4- الوسائل : الباب 2 من أحكام الصلح ، ح 2.
5- المائدة : 1.

لمذهب أهل البيت عليهم السلام يجعله فرع البيع ، ويراعى فيه شرائط البيع.

ولأجل ذلك ذكر شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مسائل الخلاف ، في الجزء الثاني في كتاب الصلح : مسألة ، إذا أتلف رجل على غيره ثوبا يساوي دينارا ، فأقر له به ، وصالحه على دينارين ، لم يصح ذلك ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك ، قال شيخنا : دليلنا ، أنّه إذا أتلف عليه الثوب ، وجبت في ذمته قيمته ، بدلالة أنّ له مطالبته بقيمته ، فالقيمة هاهنا دينار واحد ، فلو أجزنا أن يصالحه على أكثر من دينار ، كان بيعا للدينار بأكثر منه ، وذلك ربا لا يجوز (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب : هذا المسألة بناها شيخنا على مذهب الشافعي ، لأنّ الشافعي يقول أنّ الصلح فرع البيع ، فذهب إلى قول الشافعي في هذه المسألة ، والصحيح خلاف ذلك ، وأنّه يجوز الصلح على الثوب المذكور بالدينارين ، بغير خلاف ، بين أصحابنا الإمامية.

وشيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قال لما ذكر مقالة الشافعي : ويقوى في نفسي ، أن يكون (2) هذا الصلح أصلا قائما بنفسه ، ولا يكون فرع البيع ، ولا يحتاج إلى شرائط البيع ، واعتبار خيار المجلس على ما بيّناه فيما مضى (3).

ويجوز الصلح على الإنكار كما يجوز الصلح على الإقرار ، فأمّا صورة الصلح على الإنكار ، هو أن يدّعي على رجل عينا في يده ، أو دينا في ذمّته ، وأنكر المدّعي عليه ، ثمّ صالحه منه على مال اتفقا عليه ، يصحّ الصلح ، ويملك المدعى المال الذي يقبضه ، من المدّعى عليه ، ظاهرا وباطنا ، إن كان صادقا في دعواه وليس له أن يرجع فيطالبه به ، ولا يجب على المدّعي رده عليه ، ويسقط دعوى المدّعي فيما ادّعاه.

وإن كان قد صرّح بإبرائه فيما ادّعاه وإسقاط حقّه عنه كان صحيحا ، وغاية في المقصود.

وإن كان في دعواه كاذبا ، فانّ المدّعي يملك المال الذي يقبضه من المدّعى

ص: 65


1- الخلاف : كتاب الصلح ، مسألة 10
2- ل. ق : أنّه يكون
3- المبسوط : كتاب الصلح.

عليه ظاهرا ، ويجب على المدّعي ردّه عليه.

وإذا أخرج الإنسان من داره روشنا إلى طريق المسلمين النافذ ، فإن كان عاليا لا يضر بالمارة ، ترك ، ولم يقلع ، فان عارض فيه واحد من المسلمين ، قال قوم من المخالفين : يجب قلعه ، وقال آخرون منهم : لا يجب قلعه.

والقول الأوّل اختاره شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من المبسوط (1) ، والقول الأخير اختياره أيضا في الجزء الثالث من مسائل خلافه (2) ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ المسلمين من عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله إلى يومنا هذا - وهو سنة سبع وثمانين وخمسمائة - لم يتناكروا فيما بينهم ذلك ، وسقيفة بني ساعدة وبني النجار في المدينة معروفتان (3) ، ما أنكرهما أحد من المسلمين ، ونفس الطريق غير مملوكة ، وانّما يملك المسلمون منافعها ، دون رقبتها ، فهم مشتركون في المنافع ، لأنّ الشركة قد تكون في المنافع ، دون الأعيان ، وقد تكون في الأعيان والحقوق.

فأمّا الشركة في الأعيان فالميراث ، وأمّا الشركة في الحقوق دون الأعيان ، فمثل الاشتراك في حقّ القصاص ، وحدّ القذف ، وحقّ المرافق من المشي في الطرقات ، فهذا الضرب إذا عفا أحد الشركاء ، كان للباقي من شركائه ، المطالبة بجميعه ، من غبر إسقاط شي ء منه ، وكذلك لو عفا الجميع إلا واحدا منهم ، كان له جميع الحقّ.

وأمّا الاشتراك في المنافع ، كالاشتراك في منفعة الوقف ، ومنفعة العين المستأجرة ، فعلى هذا التحرير ، لا يجوز الاعتراض على أصحاب السقائف ، والرواشن ، والساباطات ، إذا لم تضر بالمارة ، ولم تمنعهم من حقوقهم ، وهي المنافع ، والاستطراق ، والاجتياز والمشي.

إذا تنازعا جدارا بين ملكيهما ، وهو غير متصل ببناء أحدهما ، وانّما هو مطلق

ص: 66


1- المبسوط : كتاب الصلح.
2- الخلاف : كتاب الصلح ، المسألة 2 ، ولا يخفى عدم اختلاف قول الشيخ في كتابيه فليراجع.
3- ج : معروفة.

ولأحدهما ، عليه جذوع ، فإنّه يحكم بالحائط لمن الجذوع له ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا نحكم بالحائط لصاحب الجذوع ، واختار قول الشافعي شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف (1) ، وما اخترناه أظهر ، لأنّ له عليه يدا وتصرفا ، ولا خلاف أن من كان بيده شي ء ، حكم له بالملك ، ولا يخرج من يده بمجرّد دعوى غيره عليه ، إلا بالبيّنة العدول.

إذا تنازع اثنان دابة ، أحدهما راكبها ، والآخر آخذ بلجامها ، ولم يكن لأحدهما بيّنة ، جعلت بينهما نصفين.

وكذلك إذا كان لرجل بيت ، وعليه غرفة لآخر ، وتنازعا في سقف البيت الذي عليه الغرفة ، ولم يكن لأحدهما بينة.

والأقوى عندي ، أنّ القول قول صاحب الغرفة مع يمينه ، لأنّ الغرفة لا تكون بلا أرض ، والبيت قد يكون بلا سقف ، وقد اتفقا ان هاهنا غرفة ، فإذا لم يكن لها أرض ، وهو سقف البيت ، فلا غرفة أذن ، فقد ترجحت دعواه بهذا الاعتبار.

وإذا كان بين رجلين حائط مشترك ، وانهدم ، وأراد أحدهما أن يبنيه ، وطالب الآخر بالإنفاق معه ، لا يجبر عليه ، وكذلك إن كان بينهما نهر ، أو بئر ، أو دولاب ، وكذلك إن كان السفل لواحد ، والعلو لآخر ، فانهدم ، فلا يجبر صاحب السفل ، على اعادة الحيطان التي تكون عليها الغرفة.

والدرب الذي لا ينفذ ، حكمه بخلاف الدرب الذي ينفذ ، لأنّ ملاكه معينون ، فلا يجوز لأحد منهم إخراج روشن ، إلا بإذن الباقين ، لأنّه إذا أخرج روشنا لاطيا ، يضر بأهل الزقاق الغير النافذ ، فرضوا به ، فإنّه يترك ، وهذا يدل على أنّ الحق لهم ، ولا يجري مجرى الطريق النافذ.

وإذا كان نفسان ، لكل واحد منهما شي ء عند صاحبه ، من سائر الأموال

ص: 67


1- الخلاف : كتاب الصلح ، المسألة 4.

سواء تعيّن لهما وتميّز أو لم يتعيّن ، إذا لم يعلمه من لم يقدر على تمييزه وتعيينه ، فإذا علمه ، فلا بدّ من اعلامه صاحبه به ، وإلا لم يصح الصلح ، فاصطلحا على أن يتتاركا. ويجعل كل منهما صاحبه في حل ، كان ذلك جائزا بينهما ، فإذا فعلا ، لم يكن لأحدهما الرجوع على صاحبه بعد ذلك ، إذا كان ذلك عن طيب نفس كل واحد منهما.

ومن كان له دين على غيره آجلا (1) ، فنقص منه شيئا ، قل ذلك النقصان أو كثر ، وسأله تعجيل الباقي ، كان ذلك جائزا حلالا ، سائغا.

والشريكان إذا أرادا أن يتقاسما ، وكان المال المشترك بينهما منه ناضّ ، ومنه سلع وأمتعة ، واصطلحا عل أن يكون الربح والخسران على واحد منهما ، ويرد على الآخر رأس ماله على الكمال ، كان ذلك جائزا ، وليس كذلك المسألة التي ذكرناها في كتاب الديون ، من أنّه إذا كان الشريكان لهما مال على الناس ، فتقاسما ، واحتال كل واحد منهما شيئا منه ، ثم قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما ، بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على الناس أيضا مثل ذلك ، لأنّ هاهنا ، المال الذي على الناس في ذممهم بعد مشترك ، لا يصح قسمته على ما قدّمناه ، والمسألة المتقدمة سلّم أحدهما إلى شريكه جميع ماله ، على الكمال ، وصالحه على الأمتعة بذلك ، فرضي عن نصيبه منها بما أعطاه.

وإذا كان بيد نفسين درهمان ، فذكر أحدهما أنّهما جميعا ملكي ، ولي ، وقال الآخر : بل هما بيني وبينك ، كان الحكم أن يعطى المدّعى لهما معا درهما ، لإقرار صاحبه بذلك ، ويقسم الدرهم الباقي بينهما نصفين ، لأنّ يدهما عليه.

وروي أنّه إذا استبضع إنسان آخر ، مثلا أعطاه عشرين درهما ، واستبضعه آخر ثلاثين درهما ، فاشترى بكلّ واحدة من البضاعتين ثوبا ، ثمّ اختلطا فلم

ص: 68


1- ج : على غيره مؤجّلا.

يتميزا له ، بيعا وقسم المال (1) على خمسة أجزاء ، فما أصاب الثلاثة ، اعطي صاحب الثلاثين ، وما أصاب الاثنين ، اعطى صاحب العشرين ، على ما روي في أخبارنا (2) ، بشرط أن لا يكون الاختلاط بتفريط من المستبضع ، فإن كان بتفريط منه ، وهلك الثوبان قبل البيع فهو ضامن ، والقرعة في ذلك ، إن استعملت ، فهي أولى ، لأنّ الإجماع منعقد على أن كل أمر ملتبس مشكل ، فيه القرعة ، وهذا من ذاك.

وقد روي أنّه إذا استودع رجل رجلا دينارين ، واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منهما ، اعطي صاحب الدينارين ممّا يبقى ، دينارا ، وقسم الدينار الآخر بينهما نصفين ، هذا إذا لم يفرط المستودع في خلط المال ، واختلط ، فأمّا إذا لم تختلط الدنانير ، وعرف الضّائع ، فالباقي كان من مال صاحبه ، فأمّا إن فرط الأمين في الخلط فإنّه ضامن لما ضاع من المال.

قال شيخنا في نهايته : وإذا كان نفسان ، لكلّ واحد عند صاحبه شي ء فلا بأس أن يصطلحا على أن يتتاركا ويتحللا (3).

قال محمّد بن إدريس : يقال تحللته واستحللته إذا سألته أن تجعل في حلّ من قبله ، ومنه الحديث من كانت عنده مظلمة من أخيه ، فليستحلله (4) ذكر ذلك صاحب غريبي القران والسنة الهروي.

باب الكفالات والضّمانات والحوالات

الضمان جائز ، للكتاب والسّنة والإجماع وهو عقد قائم بنفسه ، ومن شرطه ، رضا المضمون له ، ورضا الضّامن ، فأمّا رضا المضمون عنه ، فليس من شرط صحّة

ص: 69


1- ج : وقسما.
2- النهاية : باب الصلح ، باختلاف يسير.
3- الوسائل : الصلح الباب 11 ح 1.
4- صحيح البخاري ، كتاب المظالم ، الباب 10 ( الجزء 11 ، ص 21 ) وفيه : عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شي ء فليتحلّله منه اليوم.

انعقاده ، بل من شرط استقراره ولزومه ، لأنّ المضمون عنه إذا لم يرض بالضمان لم يصح على ما رواه (1) وأورده بعض أصحابنا.

والصحيح انّه يستقرّ ويلزم لأنّ بالضمان ينتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضّامن بلا خلاف بينهم ، وكذلك لو سلّمه إليه وقضاه إيّاه لزم واستقر بلا خلاف فبرئ المضمون عنه بالإجماع ولم يبق للمضمون له مطالبة المضمون عنه ، ويلزم من قال بالأول المصير إلى مذهب المخالفين ، من أنّ الضمان لا ينقل المال ، بل المضمون له مخير بين مطالبة المضمون عنه ، ومطالبة الضّامن والضمان عند أصحابنا بغير خلاف بينهم ينقل المال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ولا يكون. للمضمون له أن يطالب أحدا غير الضامن ، ولا يصحّ ضمان ما لم يجب في ذمة المضمون عنه.

ويصح ضمان المال الثابت في الذمة ، وإن كان مؤجلا ، وإذا ضمن الضامن المال مطلقا فله ان يطالب به أي وقت شاء المضمون له (2) ، وإن كان مؤجلا ، لم يكن له مطالبة الضامن إلا بعد حلول الأجل ، وإن كان المال حالا ، وضمّنه الضامن مؤجلا ، صحّ ذلك إذا كان الأجل محروسا من الزيادة والنقصان ، إمّا بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام.

وقد يوجد في بعض الكتب لأصحابنا (3) ولا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجل.

والمراد بذلك ، إذا اتفقا على التأخير والأجل ، فلا بد ، ولا يصحّ إلا بأجل محروس ، على ما قدمناه ، فأمّا إذا اتفقا على التعجيل ، فيصح الضمان من دون أجل ، وكذلك إذا أطلقا العقد.

وإلى هذا القول ذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (4) ، وهو الحقّ اليقين ،

ص: 70


1- الوسائل : كتاب الضمان ، الباب 2.
2- ج : مطلقا فللمضمون له ان يطالب الضامن أي وقت شاء.
3- وهو الشيخ الطوسي في النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
4- المبسوط : كتاب الضمان.

لأنّه لا يمنع منه مانع ، ومن ادّعى خلافه يحتاج إلى دليل ، ولن يجده.

ومتى أدّى الضامن الدين ، سقط عنه الضمان ، وهل يرجع على المضمون عنه أم لا؟ فيه أربع مسائل :

إحداها أن يكون قد ضمن بأمر من عليه الدين ، وادّى بأمره. والثانية أنّه لم يضمن بأمره ، ولم يؤدّ بأمره. الثالثة أن يكون ضمن بأمره ، وأدّى بغير أمره. الرابعة أن يكون ضمن بغير أمره ، وأدّى بأمره.

فإذا ضمن بأمره ، وقضى بأمره ، فإنّه يرجع عليه به بلا خلاف.

وأمّا إذا ضمن بغير إذنه ، وأدّى بغير إذنه ، وأمره ، فإنّه يكون متبرّعا بذلك ، فلا يرجع عليه بغير خلاف بين أصحابنا ، لأنّه يكون قد قضى دين غيره بغير إذنه ، فلا يرجع عليه به.

وأمّا إذا ضمن عنه بإذنه ، وأدّى بغير إذنه ، فإنّه يلزمه ، لأنا قد بيّنا أنّه بنفس الضمان انتقل الدين إلى ذمته ، فلا يحتاج في قضائه إلى إذنه ، بمقدار ما أدّى الضامن ، إن كان بمقدار الحقّ ، وإن كان ما أدّى أنقص من الحقّ ، فلا يلزمه إلا بمقدار المؤدى فحسب ، وبه وردت الأخبار (1) عن الأئمة الأطهار.

فمن ذلك ما أورده شيخنا أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام في باب الصلح ، محمد بن خالد ، عن ابن بكير ، عن عمر بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل ضمن ضمانا ، ثم صالح على بعض ما صالح عليه ، قال : ليس له إلا الذي صالح عليه (2).

وأيضا فشيخنا أبو جعفر قد حققه في مبسوطة ، وذهب إليه.

وأيضا فالمضمون عنه أمر الضامن بالضمان عنه ، فقد جعله كالوكيل له في قضاء دينه ، وإن لم يكن وكيلا بما له على الحقيقة ، فهو كالوكيل ، فيده نائبة عن يد

ص: 71


1- الوسائل : كتاب الضمان ، الباب 6 من أحكام الضمان.
2- التهذيب : كتاب الصلح ، الباب 83.

موكله ، ولا يرجع الوكيل على موكله ، إلا بما غرمه وصالح عليه فحسب ، فأمّا إذا كان زائدا على مقدار الدين ، فلا يلزمه بغير خلاف ، وإن كان على مذهبنا ، المال قد انتقل بالضمان من ذمة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فهو المطالب به بسبب المضمون عنه ، فما ادّى عنه رجع عليه به.

وأمّا إذا ضمن بغير إذنه ، وادّى بإذنه وأمره ، فإنّه لا يرجع عليه به ، لأنّه التزم وضمن بغير أمر منه متبرعا ، فانتقل المال إلى ذمته ، فلا تأثير لإذنه في القضاء عنه. لأن (1) قضاءه بعد الضمان انّما هو عن نفسه ، لا عن غيره ، لأنّه واجب عليه دونه.

فأمّا بيان الحقوق التي يصح فيها الضمان ، ولا يصحّ ، فجملة الأمر ، وعقد الباب ، ان كل حق لازم ثابت في الذمّة ، سواء كان مستقرا أو غير مستقر ، فإنّه يصح ضمانه ، وما لم يكن ثابتا في الذمّة ، لا يصحّ ضمانه ، فعلى هذا التحرير ، نفقة الزوجات إن كانت ماضية ، صح ضمانها ، لأنّها ثابتة لازمة في الذمة ، وإن كانت نفقة اليوم ، صح أيضا ، لأنّها تجب بأول اليوم ، وإن كانت نفقة مستقبلة (2) لم يصح ضمانها ، لأنها غير ثابتة في الذمة ، لأنّ النفقة تجب عندنا بالتمكين من الاستمتاع ، لا بمجرّد العقد ، وإذا لم تجب النفقة بعد ، فلا يصح الضمان ، وفي الموضع الذي يصح ضمانها ، فلا يصح ، إلّا أن تكون معلومة ، لأنّ ضمان المجهول على الصحيح من المذهب ، وعند المحصّلين من الأصحاب ، لا يصحّ.

وإلى هذا القول ، ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه وفي مبسوطة فإنّه قال : لا يصح ضمان المجهول ، سواء كان واجبا في حال الضمان ، أو غير واجب ، ولا يصح ضمان ما لم يجب ، سواء كان معلوما أو مجهولا (3).

فالمجهول الذي ليس بواجب ، مثل أن يقول : ضمنت لك ما تعامل فلانا ، أو ما تقرضه ، وتداينه ، فهذا لا يصح ، لأنّه مجهول ولأنّه غير واجب ، في الحال ،

ص: 72


1- ج : وان.
2- ج : كانت مستقبلة.
3- الخلاف : كتاب الضمان ، المسألة 13.

والمجهول ، الذي هو واجب ، مثل أن يقول : أنا ضامن لما يقضي لك به القاضي على فلان ، أو ما يشهد لك به البينة من المال عليه ، أو ما يكون مثبتا في دفترك ، فهذا لا يصح ، لأنّه مجهول وإن كان واجبا في الحال ، وقال قوم من أصحابنا : إنّه يصح أن يضمن ما تقوم به البيّنة ، دون ما يخرج به دفتر الحساب ولست أعرف به نصا (1) ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : فإن قال قائل : فإذا لم يعرف الشيخ أبو جعفر الطوسي بصحة ضمان ما قامت به البيّنة نصا ، فمن أين أورده في نهايته (2) وذهب إليه ، وأفتى به ، وعول عليه.

قلنا : هذا أدلّ دليل ، وأوضح قيل ، في اعتذارنا له فيما يورده في نهايته ، من أخبار الآحاد ، وانّه يوردها إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، بحيث لا يشد شي ء من الأخبار ، لا اعتقادا على ما قاله في عدته ، على ما أسلفنا القول في معناه ، وأنّه غير عامل بأخبار الآحاد ، وإلا إن كان عاملا بها ، فيلزمه العمل بما أورده في نهايته ، وهو قد دفع ، وقال : لست أعرف بذلك نصا ، فيكون مناقضا لأقواله.

وأمّا الأعيان المضمونة ، مثل العين المضمونة في يد الغاصب ، والعارية في يد المستعير ، إذا شرط ضمانها ، فهل يصح ضمانها عمّن هي في يده ، أم لا؟ الصحيح أنّها يصحّ ضمانها ، لأنّها مضمونة.

ومتى كان لرجل على رجلين الف درهم ، على كل واحد منهما خمسمائة ، وضمن كل واحد منهما صاحبه ، تحول الحقّ الذي على كل واحد منهما إلى صاحبه ، وهو خمسمائة ، إلا أن قبل الضمان كان له دين الأصل ، وبعد الضمان دين الضمان ، فان قضى أحدهما الألف عن نفسه ، وعن صاحبه برئا جميعا ، لأنه يكون قد قضى دين غيره ، وذلك صحيح ، وإن أبرأه عن الألف برئ

ص: 73


1- المبسوط : كتاب الضمان.
2- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

مما عليه ، ولا يبرأ الآخر ، لأنّه لم يبرئه ، ومتى قضى خمسمائة ، لم يقع ذلك إلا عن الخمسمائة التي تحولت إليه بالضمان ، لأنّ الخمسمائة التي عليه انتقلت عنه إلى ذمة صاحبه بالضمان ، علي ما قررناه ، هذا إذا ضمنا في حالة واحدة.

فأمّا إن ضمن أحدهما ما على الآخر ، بري ء المضمون عنه ، وصار الألف جميعا لازما للضامن ، خمسمائة ، دين الأصل ، وخمسمائة دين الضمان.

فإن عاد بعد ذلك المضمون عنه ، وضمن صاحبه الأول الذي هو الضامن ، فقد تحول ، وانتقل الألف جميعا من ذمة الأول إلى ذمّة الأخير ، وعلى هذا الاعتبار ، لأنّا قد بيّنا انّ بالضمان عند أصحابنا ، ينتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فليس له مطالبة المضمون عنه بحال.

وأصحابنا يعتبرون في صحّة الضمان ، أن يكون الضامن مليا بما ضمن وقت الضمان ، أو غير ملي مع علم المضمون له بذلك ، فمتى كان غير ملي وقت الضمان ، ولم يعلم المضمون له حاله ، فله الرجوع على المضمون عنه.

فعلى هذا التحرير قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : من كان عليه حق فسأل غيره ضمانه عنه لصاحبه ، فضمنه ، وقبل المضمون له ضمانه ، وكان الضامن مليا بما ضمّن فقد وجب عليه الخروج إلى صاحبه مما ضمن ، وبري ء المضمون عنه من مطالبة من كان له عليه ، غير أنّه يثبت له حقه على من كان ضمن عنه ، فإن أراد مطالبته بذلك ، كان له ذلك (1) ( لأنه بأمره وإذنه ضمن ، فمتى أدّى كان له الرجوع عليه ، وثبت حقّه قبله ) (2).

ومتى تبرع الضامن ، من غير مسألة المضمون عنه ذلك ، وقبل المضمون له ضمانه ، فقد بري ء عهدة المضمون عنه ، إلا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرع ، ويكون الحق على أصله ، لم ينتقل عنه بالضمان ، وليس للضامن على

ص: 74


1- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
2- وما وقع في القوسين زائد على المصدر.

المضمون عنه رجوع فيما ضمن ، إذا تبرع بالضمان عنه ورضى (1).

ومن ضمن حقا ، وهو غير ملي به ، لم يبرئ المضمون عنه بذلك ، إلا أن يكون المضمون له قد علم ذلك ، وقبل ضمانه مع ذلك ، فلا يجب له مع هذه الحال الرجوع على المضمون عنه.

وإذا كان الضامن مليا بما ضمن في الحال التي ضمن فيها ، وقبل المضمون له ضمانه ، ثمّ عجز بعد ذلك عما ضمن ، وافتقر ، لم يكن للمضمون له الرجوع على المضمون عنه ، وانّما يرجع عليه ، إذا لم يكن الضامن مليا في وقت الضمان.

وإن ظن (2) في حال ما ضمن ، أنّه ملي بذلك ، ثمّ انكشف بعد ذلك ، أنّه كان غير ملي في تلك الحال ، كان له الرجوع على المضمون عنه.

ومن ضمن لغيره نفس (3) إنسان ، إلى أجل معلوم ، بشرط ضمان النفوس ، ثم لم يأت به عند الأجل ، وحلوله ، كان للمضمون له حبسه ، حتى يحضر المضمون أو يخرج إليه مما عليه.

ومن ضمن غيره إلى أجل ، وقال : إن لم أحضره عند حلول الأجل كان عليّ كذا ، وحضر الأجل ، لم يلزمه إلا إحضار الرجل ، دون ما ذكره من المال.

فإن بدأ بضمان المال ، أولا فقال : عليّ المال المعين إلى كذا وضرب الأجل ، إن لم أحضره ، ثمّ لم يحضره ، وجب عليه ما ذكره من المال ، وكان ضامنا للمال ، بخلاف المسألة المتقدمة ، لأنّه في هذه بدأ بضمان المال أولا ، فقال عليّ كذا ، وفي الأولة بدأ بضمان النفس ، قبل المال ، فافترق الأمران.

روى ذلك أحمد بن محمد ، بن أبي نصر ، عن داود بن الحصين ، عن أبي العباس ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن الرجل ، تكفل بنفس الرجل ، إلى أجل ، فإن لم يأت به ، فعليه كذا وكذا درهما ، قال عليه السلام : إن

ص: 75


1- ج : بالضمان عنه.
2- ج : فان ظنّ.
3- ج : بنفس.

جاء به إلى أجل ، فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبدا ، إلا أن يبدأ بالدراهم ، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن ، إن لم يأت إلى الأجل الذي أجله (1).

محمد بن احمد بن زياد ، عن الحسن بن محمد الكندي ، عن أحمد بن الحسن الميثمي ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي العباس ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، رجل كفل لرجل بنفس رجل ، فقال : إن جئت به ، وإلا فعليّ خمسمائة درهم ، قال : عليه نفسه ، ولا شي ء عليه من الدراهم ، فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، فقال : يلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه (2).

فهذان الخبران أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام (3).

وفي نهايته (4) أورده عبارة ملتبسة في هذا المعنى ، وفقه ذلك ما ذكرناه.

ولا بدّ أن يكون الدراهم التي لزمته في الموضع المذكور ، ضمانا عما وجب له في ذمّة المضمون عنه ، ثابتة في ذمته ، حتى يصح ضمانها ، لأنّا قد بيّنا أنّ ضمان ما لم يجب ولا يثبت في الذمة لا يجوز.

ثمّ قال شيخنا في نهايته : وإن لم يكن عين المال ، وقال : أنا أضمن له ما يثبت (5) لك عليه ، إن لم آت به ، إلى وقت كذا ، ثمّ لم يحضره ، وجب عليه ما قامت به البيّنة ، للمضمون عنه (6) ولا يلزمه ما لم تقم به البينة ، مما يخرج به الحساب في دفتر ، أو كتاب ، وانّما يلزمه ما قامت له به البيّنة ، أو يحلف (7) خصمه عليه ، فإن حلف على ما يدعيه بعد رد اليمين عليه ، واختيار الضامن المذكور ذلك ، وجب عليه الخروج منه (8).

قال محمد بن إدريس : هذا على قول من قال من أصحابنا (9) بصحة ضمان

ص: 76


1- الوسائل : الباب 10 من أحكام الضمان ، ح 1 - 2.
2- الوسائل : الباب 10 من أحكام الضمان ، ح 1 - 2.
3- التهذيب : الباب 84 من باب الكفالات والضمانات ، ح 5 / 488 و 10 / 493.
4- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
5- ج : ثبت.
6- ج : للمضمون له.
7- ج : يحلّقه.
8- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
9- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

المجهول ، فأمّا على الصحيح من المذهب ، فلا يصح هذا كله ، والضمان من أصله باطل ، لأنّه ضمان مجهول ، وقد بيّنا فيما مضى قول شيخنا ، ورجوعه عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مبسوطة (1) ، ومسائل خلافه ، واستدل على فساده ، بأن قال : دليلنا ما روي عن النبيّ عليه السلام ، أنّه نهى عن الغرر ، وضمان المجهول غرر ، لأنّه لا يدري كم قدرا من المال عليه. ثمّ قال رحمه اللّه : وأيضا فلا دليل على صحة ذلك ، فمن ادّعى صحّته فعليه الدلالة ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (2).

ومن خلى غريما لرجل من يده قهرا ، أو إكراها ، كان ضامنا لما عليه فان خلاه بمسألة وشفاعة لم يلزمه شي ء ، إلّا أن يضمن عنه ما عليه ، حسب ما قدّمناه.

ومن خلّى قاتلا من يد ولي المقتول ، بالجبر والإكراه ، كان ضامنا لدية المقتول ، إلا أن يرد القاتل إلى الولي ويمكنه منه.

كفالة الأبدان عندنا تصح إلا أنّها لا تصحّ إلا بإذن من تكفل عنه. فإذا كفل بالبدن ، نظر ، فإن كان قد كفل حالا ، صحت الكفالة ، وإن كفل مؤجلا صحت ، كما نقول في كفالة المال ، وإن كفل مطلقا كانت صحيحة ، وكانت حالة ، وإلى هذا التحرير يذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (3).

وقال في نهايته : لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل (4).

وقد قدّمنا معنى ذلك ، وما المقصود به.

فإذا ثبت هذا ، وهو الصحيح الحقّ اليقين ، كان للمكفول له مطالبته بتسليمه في الحال ، فإن سلّمه ، بري ء ، وإن امتنع من تسليمه ، حبس حتى يسلم ، على ما قدّمناه.

وإن أحضره الكفيل ، وسأله أن يتسلمه ، فإن كان ممنوعا من تسليمه (5) بيد

ص: 77


1- المبسوط : كتاب الضمان.
2- الخلاف : كتاب الضمان ، المسألة 13.
3- المبسوط : كتاب الضمان ، أحكام الكفالة.
4- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
5- ج : من تسلّمه.

ظالمة مانعة لم يبرأ من كفالته ، ولا يصح تسليمه ، وإن لم يكن ممنوعا من تسليمه ، لزمه قبوله ، فإن لم يقبل ، أشهد عليه رجلين ، أنّه سلّمه إليه وبري ء.

فإن كانت الكفالة مؤجلة ، لم يكن له مطالبة الكفيل قبل المحلّ ، فإذا حل الأجل ، كان حكمه ما قدّمناه.

وإن كان غائبا وقت حلول الأجل ، كان له حبس الكفيل ، أو يخرج ممّا عليه فإن مات المكفول ، برئ الكفيل ، ولا يلزمه المال الذي كان في ذمته ، لأنّه لا دليل عليه.

إذا قال لرجل : فلان يلزم فلانا فاذهب ، وتكفّل به ، ففعل ذلك ، كانت الكفالة على من باشر عقدها ، دون الآمر ، لأنّ المأمور تكفل باختياره من غير إجباره.

إذا تكفّل بدين رجل ، ثم ادّعي الكفيل ، أنّ المكفول له ، قد أبرأ المكفول به من الدين ، وأنّه قد برئ من الكفالة ، وأنكر ذلك المكفول له ، كان القول قول المكفول (1) مع يمينه ، وعلى الكفيل البيّنة ، لأنّه مدّع ، والأصل بقاء الكفالة.

إذا قال الكفيل : تكفلت ببدنه ، ولا حقّ لك عليه ، وأنكر المكفول له (2) ، كان القول قوله مع يمينه ، لأنّ الظاهر أنّ الكفالة صحيحة ، والكفيل يدّعي ما يبطلها.

إذا تكفّل ببدن رجل إلى أجل مجهول ، لا يصح.

والحوالة عقد من العقود ، يجب الوفاء به ، لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) ووجوب الوفاء به يدل على جوازه ، وأجمعت الأمة على جواز الحوالة ، وهي مشتقة من تحويل الحقّ ، من ذمّة ، إلى ذمة ، يقال : أحاله بالحقّ عليه يحيله احالة واحتال الرجل إذا قبل الحوالة ، فالمحيل ، الذي عليه الحق (4) ، والمحتال الذي يقبل الحوالة ، والمحال عليه ، هو الذي عليه الحقّ للمحيل ، والمحال به هو الدين نفسه.

ص: 78


1- ج : القول قوله.
2- ج : المكفول.
3- المائدة : 1.
4- ج : له الحق.

فإذا ثبت ذلك ، فالحوالة متعلقة بثلاثة أشخاص ، محيل ، ومحتال ، ومحال عليه ، والثلاثة يعتبر رضاهم في صحة عقد الحوالة ، لأنّه إذا حصل رضا هؤلاء أجمع ، صحت الحوالة بلا خلاف ، وإذا لم يحصل ، فيه خلاف.

وإذا أحاله بدينه على من له عليه دين ، فلا خلاف في صحّة الحوالة ، فأمّا إذا أحاله على من ليس له عليه دين ، فانّ ذلك لا يصح عند المخالف ، ولا خلاف في صحّة ذلك عند أصحابنا معشر الإمامية ، فإذا ثبت ذلك ، تحوّل الحق من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، إجماعا الأزفر ، واشتقاق الحوالة يقتضي ذلك ، لأنّها مشتقة من التحويل ، والمعنى ، إذا حكم الشرع بصحته ، وجب أن نعطيه حقّه.

فإذا ثبت ذلك ، فانّ المحتال إذا أبرأ المحيل ، بعد الحوالة ، من الحقّ لم يسقط حقّه عن المحال عليه ، لأنّ المال قد انتقل ، وتحول عنه إلى غيره ، فإذا ثبت أنّ الحق قد انتقل من ذمّته ، فإنّه لا يعود إليه ، سواء بقي المحال عليه على غناه ، حتى أداه ، أو جحده حقّه ، وحلف عند الحاكم ، أو مات مفلسا ، أو أفلس وحجر عليه الحاكم ، إلا أنّ أصحابنا يعتبرون ملاءة المحال عليه ، وقت الإحالة ، الملاءة ، بفتح الميم ، والمد ، أو علم المحال له ، بإعساره ، كما اعتبروا ذلك في الضامن على ما قدّمناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وان كان له على غيره مال ، فأحال به على غيره ، وكان المحال عليه مليا به ، في الحال ، وقبل الحوالة ، وأبرأه منه ، لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه (1) ، أو لم يضمن ، بعد أن يكون قد قبل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة ، إلا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال ، انّ الذي (2) أحيل عليه به ، غير ملي بالمال ، بطلت الحوالة ، وكان له

ص: 79


1- ج : المحال عليه.
2- وفي المصدر : انّ الرجل الذي.

الرجوع على المديون بحقه عليه ، ومتى لم يبرأ المحال له بالمال المحيل في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرجوع عليه ، أيّ وقت شاء ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (1).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لقوله رضى اللّه عنه وجها في أوّل الكلام ، وهو « وقبل الحوالة ، وأبرأه منه لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه ، أو لم يضمن ، بعد أن يكون قد قبل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة ، إلا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمته بالحوالة » قلنا بعد (2) أن يقبل الحوالة ، فقد تحوّل الحقّ من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، سواء ضمن ذلك ، أو لم يضمن ، لأنّ الضمان به ، ينتقل المال من ذمة المضمون عنه ، إلى ذمة الضامن ، وكذلك الحوالة ، بها يتحول الحقّ ، من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، فلا فائدة في الضمان ، بعد عقد الحوالة ، وانتقال المال وتحويله.

وقوله رضى اللّه عنه في آخر الكلام والباب : ومتى لم يبرء المحال له ، بالمال المحيل ، في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرجوع عليه ، أيّ وقت شاء ، لا وجه له ، لأنّ الحوالة عقد قائم بنفسه ، عند أصحابنا ، وهي من العقود اللازمة للمتعاقدين ، وينتقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، مع رضا المحال له ، وهي مشتقة من تحويل الحق ، فإذا كان كذلك ، فقد انعقد العقد ، وتحول الحقّ ، فسواء أبرأه منه بعد الحوالة أو لم يبرئه (3) لأنّ الذمة قد برئت بتحويل الحقّ ، وعقد الحوالة ، فلا حاجة بنا إلى أن يبرأ بعد الحوالة ، لأنّ الذمة قد برئت بعد عقد الحوالة ، وانتقال المال ، وتحويل الحقّ ، فلا يحتاج بعد ذلك إلى براءة أخرى ، وهذه الألفاظ التي أوردها شيخنا في نهايته (4) ، ألفاظ أخبار الآحاد ، أوردها إيرادا لا اعتقادا ، على ما كررنا القول في معناه.

ص: 80


1- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
2- ج : فامّا بعد.
3- ج : أبرأه بعد أو لم يبرئه.
4- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

فأمّا اعتقاده وفتواه وعمله ، ما ذكره في مسائل خلافه ، وهو إن قال : مسألة ، إذا أحال رجلا على رجل بالحقّ ، وقبل الحوالة ، وصحت ، تحول الحقّ من ذمّة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، وبه قال جميع الفقهاء ، ثم قال : دليلنا ، انّ الحوالة مشتقة من التحويل ، فينبغي أن يعطي اللفظ حقّه من الاشتقاق والمعنى إذا حكم الشرع بصحّته فإذا أعطيناه حقّه ، وجب أن ينتقل الحق ، من المحيل إلى المحال عليه (1).

وقال بعض أصحابنا ، وأمّا الحوالة ، فعلى ضربين ، أحدهما أن يكون قد أخذ المحال بعضها ، والآخر أن يكون لم يأخذ ، فإن أخذ لم يجز له الرجوع ، وإن لم يأخذ فله الرجوع.

وهذا قول مرغوب عنه ، لأنّه لا دليل عليه ، ولما قد قدّمناه وحررناه.

باب الوكالة

الوكالة جائزة ، بغير خلاف بين الأمة ، فإذا ثبت جواز الوكالة ، فالكلام بعده ، في بيان ما يجوز التوكيل فيه ، وما لا يجوز.

أمّا الطهارة ، فلا يجوز التوكيل فيها ، وانّما يستعين بغيره ، في صبّ الماء عليه ، على كراهية فيه ، عند أصحابنا ، فأمّا غسل أعضائه ، فعندنا لا يجوز ذلك ، مع القدرة ، فأمّا مع العجز ، فإنّه يجوز ، وينوى عند هذه الحال هو بنفسه رفع الحدث ، وذلك ليس بتوكيل ، وانّما هو استعانة على فعل عبادة.

وأمّا الصلاة ، فلا يجوز التوكيل فيها ، ولا تدخلها النيابة ، سوى ركعتي الطواف ، تبعا للحج.

وأمّا الزكاة ، فيصح التوكيل في إخراجها عنه ، بغير خلاف ، وفي تسليمها إلى

ص: 81


1- الخلاف : كتاب الحوالة ، المسألة 4.

أهل السهمان (1) وقال بعض أصحابنا : ويجوز من أهل السهمان (2) التوكيل في قبضها ، وقال ابن البراج من أصحابنا : لا يجوز ذلك ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّه لا دليل عليه ، فمن ادّعاه ، فقد أثبت حكما شرعيا ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة له ، وأيضا فالذمّة مرتهنة بالزكاة ، ولا خلاف بين الأمة أنّ بتسليمها إلى مستحقها ، تبرأ الذمة بيقين ، وليس كذلك ، إذا سلمت إلى الوكيل ، لأنّ الوكيل ليس هو من الثمانية الأصناف ، بغير خلاف ، ولأنّ الزكاة والخمس ، لا يستحقها واحد بعينه ، ولا يملكها إلا بعد قبضه لها ، فيتعين له ملكها ، والوكيل لا يستحق إلا ما تعيّن ملكه للموكل ، واستحق المطالبة به ، وكلّ واحد من أهل الزكاة والخمس ، لا يستحق المطالبة بالمال ، لأنّ الإنسان مخيّر في وضعه فيه ، أو في غيره ، فلا يجبر على تسليمه إليه.

وأمّا الصيام فلا يصح التوكيل فيه ، ولا يدخله النيابة ، ما دام حيا ، فإذا مات وعليه صوم ، أطعم وعنه وليه ، أو صام عنه ، على ما حررناه في كتاب الصيام ، في الموضع الذي كان وجب عليه ، ففرّط فيه.

وأمّا الاعتكاف ، فلا يصحّ التوكيل فيه بحال ، لأنّه لا يدخله النيابة بوجه.

وأمّا الحجّ ، فلا يدخله النيابة مع القدرة عليه بنفسه ، فإذا عجز عنه بزمانه ، أو موت ، دخلته النيابة.

وأمّا البيع ، فيصح التوكيل فيه مطلقا ، في إيجابه وقبوله ، وتسليم المال فيه ، وتسلّمه.

وكذلك يصح التوكيل في عقد الرهن ، وفي قبضه.

وأمّا التفليس فلا يتصور فيه التوكيل.

وأمّا الحجر ، فللحاكم أن يحجر بنفسه ، وله أن يستنيب غيره في ذلك.

ص: 82


1- ج : أهل السهام.
2- ج : أهل السهام.

وأمّا الصلح فيصح التوكيل فيه ، وكذلك الحوالة ، وعقد الضمان ، وكذلك الشركة ، وكذلك في الوكالة ، ويصح أيضا في قبول الوكالة عنه.

والإقرار يصح التوكيل فيه ، إذا عيّن ما يقرّ به عنه.

وأمّا العارية فيصح التوكيل فيها ، لأنّها هبة منافع.

وأمّا الغصب فلا يصح التوكيل فيه.

وأمّا الشفعة فيصح التوكيل في المطالبة بها ، وكذلك يصح في القراض ، والمساقاة ، والإجارات ، وإحياء الموات ، وكذلك يصحّ التوكيل في العطايا ، والهبات ، والوقوف ، والصدقات.

ولا يصح التوكيل في الالتقاط ، فإذا وكل غيره في التقاط لقطة ، تعلّق الحكم بالملتقط ، لا بالآمر ، وكان الملتقط أحق بها.

والميراث لا يصح التوكيل فيه ، إلا في قبضه واستيفائه.

والوصايا يصح التوكيل في عقدها ، وقبولها.

وأمّا الوديعة فيصح التوكيل فيها أيضا.

وقسم ألفي ، فللإمام أن يتولى قسمته بنفسه ، وله إن يستنيب غيره فيه وكذلك قسمة الصدقات.

وامّا النكاح فيصح التوكيل فيه ، وكذلك التوكيل في الصدقات.

ويصح التوكيل في الخلع ، لأنّه عقد بعوض والأولى ان يقال انّه إيقاع بعوض.

ولا يصح التوكيل في القسم بين الزوجات ، لأنّه يدخله الوطء ولا تصح النيابة فيه.

وأمّا الطلاق فيصح التوكيل فيه ، فيطلق الوكيل مقدار ما أذن له ، إذا كان مأذونا له في المراجعة ، فعلى هذا يصح التوكيل في الرجعة.

والطلاق يصح التوكيل فيه كما قلناه ، سواء كان الموكل حاضرا ، أو غائبا ،

ص: 83

بغير خلاف بين المسلمين ، إلا رواية (1) شاذة رويت من جهة أصحابنا ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّه لا خلاف بينهم ، أنّه إذا خيف شقاق بينهما ، بعث الحاكم رجلا من أهل الزوج ، ورجلا من أهل المرأة ، يدبران الأمر في الإصلاح بينهما ، وليس لهما الفراق ، إلا أن يكون الزوج ، قد وكل فيه من بعثه ، فحينئذ يصح طلاقه ووكالته فيه ، مع حضور موكّله بغير خلاف.

وأمّا الظهار ، والإيلاء ، واللعان ، فلا يصح التوكيل فيها.

فأمّا عدد النساء فلا يدخلها النيابة ، فلا يصحّ التوكيل فيها.

والرضاع فلا يصح فيه التوكيل ، لأنّه يختص التحريم بالمرضع والمرضع (2).

وأمّا النفقات ، فيصح التوكيل في صرفها إلى من يجب.

وأمّا الجنايات ، فلا يصح التوكيل فيها ، وكل من باشر الجناية ، تعلّق به حكمها.

وأمّا القصاص ، فيصح التوكيل في إثباته ، ويصح في استيفائه.

وأمّا الديات ، فيصح التوكيل في تسليمها ، وتسلمها.

وامّا القسامة ، فلا يصحّ التوكيل فيها ، لأنّها أيمان ، والأيمان لا يدخلها النيابة.

وأمّا الكفارات ، فيصح التوكيل في تسليمها.

وأمّا الحدود فللإمام أن يستنيب فيها من يقيمها ، ولا يصح التوكيل في تثبيتها ، لأنّها لا تسمع الدعوى فيها.

وأمّا حدّ القذف فحقّ الآدميين ، فحكمه حكم القصاص ، يصحّ التوكيل فيه.

وأمّا الأشربة ، فلا يصح التوكيل فيها ، وكلّ من شرب الخمر ، فعليه الحد ، دون غيره.

ص: 84


1- الوسائل : كتاب الطلاق الباب 39 من أبواب مقدماته وشرائطه ، ح 5.
2- ل : التحريم بالمرتضع والمرضعة.

وأمّا الجهاد ، فلا يصح النيابة فيه بحال ، لمن حضر القتال ، لأنّ كل من حضر الصف ، توجه فرض القتال عليه ، وكيلا كان أو موكلا ، وأمّا لمن لم يحضر الصف ، ولا يعين الإمام عليه في الخروج ، فإنّه يجوز له أن يستنيب ، ويستأجر من يجاهد عنه ، على ما رواه أصحابنا (1).

وأمّا الجزية ، والاحتطاب ، والاحتشاش ، والاصطياد ، فلا يدخل ذلك النيابة والتوكيل ، وامّا (2) الذبح فيصح التوكيل فيه.

وأمّا الايمان ، والنذور ، فلا يصحّ التوكيل فيها.

وأمّا القضاء (3) ، فيصح الاستنابة فيه.

وأمّا الشهادات ، فتصحّ الاستنابة فيها ، على وجه مخصوص ، وتكون شهادة على شهادة ، وذلك عندنا ليس بتوكيل.

وأمّا الدعوى فيوكّل الإنسان فيها ، لأنّ كل أحد لا يكمل للمخاصمة والمطالبة.

وأمّا العتق ، والتدبير ، والكتابة ، فيصح التوكيل في ذلك.

فإذا ثبت ذلك فجملة الأمر ، من يحصل في يده مال الغير ، ويتلف فيها ، على ثلاثة أضرب ، ضرب لا ضمان عليهم ، بلا خلاف ، وضرب عليهم الضمان ، وضرب فيه خلاف.

فالذين لا ضمان عليهم ، فهم الوكيل ، والمرتهن ، والمودع ، والشريك ، والمضارب ، والوصي ، والحاكم ، وأمينه ، والمستأجر ، والمستعير ، عندنا ، فإذا تلف مال الغير في أيديهم ، من غير تفريط ، وتعدّ منهم ، فلا ضمان عليهم.

والذين عليهم الضمان ، فهم الغاصب ، والسارق ، والمستام والمبتاع بيعا فاسدا إذا قبض المبيع ، فهؤلاء إذا تلف المال في أيديهم ، كان عليهم الضمان ، سواء

ص: 85


1- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 8 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
2- ج : النيابة ، وأمّا.
3- ل : وأمّا القصاص.

تعدّوا فيه ، أو لم يتعدوا ، فرطوا في حفاظه ، أو لم يفرطوا ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1).

والذي تقتضيه أصولنا ، أنّ المستام لا ضمان عليه ، إذا لم يفرط ، لأنّه أخذه بإذن صاحبه ، وعن أمره ، ولأنّ الأصل ، براءة الذمة فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل ، قاهر ، فأمّا ان ادّعى الرد ، فيحتاج إلى بينة.

فأمّا ما أورده شيخنا في مبسوطة ، فهو مذهب المخالفين ، بناء منه أنّ المستعير ضامن ، بنفس العارية ، من غير شرط ، قاسوا المستام على المستعير ، والمستعير عندنا لا ضمان عليه ، إلا بالشرط ، ثم القياس عندنا باطل غير معمول عليه ، والمستام أخذ الشي ء بإذن صاحبه واختياره ، فهو أمين ، وسبيله سبيل الأمناء ، لا ضمان عليه إلا بالتفريط ، فليلحظ ذلك ، فأمّا في الردّ ، فإنّه يحتاج إلى بيّنة ، على ما قدّمناه.

وأمّا المختلف فيه فهو الصناع الذين يتقبلون الأعمال ، مثل القصّار ، والصباغ ، والحائك ، وغيرهم ، فإذا تلف المال الذي تسلموه للعمل في أيديهم ، فهل عليهم الضمان ، أم لا؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يلزمهم ، تعدوا فيه ، أو لم يتعدوا ، والثاني لا ضمان عليهم ، إلا أن يتعدوا.

وكلا الوجهين رواه أصحابنا (2) والأخير هو الأظهر بين الطائفة ، والأصح من القولين ، والمعمول عليه عند المحصّلين ، لأنّ هؤلاء سبيلهم سبيل الأمناء ، لأنّ الإنسان يستأمن الصانع ، ويسلم ماله إليه ، ولا خلاف أنّ الأمين لا ضمان عليه.

وجميع من يحصل بيده مال (3) من وكيل ، سواء كان بجعل ، أم غير جعل ، ومضارب ، ومستام ، وأجير ، مشتركا كان ، أو غير مشترك ، ومرتهن ، ومستعير ، وراع ، وأمين ، وملتقط ، إذا ادّعوا ردّ الشي ء الذي حصل بأيديهم ، إلى مالكه

ص: 86


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ص 363 ، وفيه : « والمساوم والمبتاع ».
2- الوسائل : كتاب الإجارة ، الباب 29 من أحكام الإجارة.
3- ج : مال الغير.

وصاحبه ، فلا يقبل قولهم في ذلك إلا ببيّنة ، وإن كان يقبل قولهم في التلف ، على ما قدّمناه ، إلا المودع فحسب ، فإنّه يقبل قوله في التلف ، وفي الردّ ، بلا خلاف ، للإجماع ، والباقون يحتاجون في الردّ إلى بينة ، ولا يقبل بمجرد دعواهم ، لقوله عليه السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدى (1) ولقوله عليه السلام : على المدّعي البيّنة (2) فليلحظ ذلك ، ويتأمّل.

فأمّا بيان من يجوز له التوكيل ، فكل من يصح تصرفه في شي ء ، تدخله النيابة ، صح التوكيل فيه ، سواء كان الموكل رجلا ، أو امرأة ، عدلا أو فاسقا ، مسلما أو كافرا ، حاضرا أو غائبا.

ولا يجوز للوكيل أن يوكل فيما جعل إليه ، إلا بإذن الموكل.

ولا يجوز أن تتوكّل المرأة لزوجها ، في طلاق نفسها ، على الصحيح من المذهب ، ولا بأس أن تتوكل في طلاق ضرتها ، لأنّه لا مانع يمنع منه ، لأنّ كل ما يصح أن يتصرف الإنسان فيه بنفسه صح ان يتوكل فيه لغيره (3) ، إذا كان مما يدخله النيابة ، فأمّا ما لا يملك التصرف فيه بنفسه ، فلا يصح أن يتوكل (4) فيه ، مثل أن يزوّج الكافر المسلمة ، فإنّه لا يصح أن يتوكّل (5) فيه ، لأنه لا يملك تزويجها (6).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه لا يمنع من وكالة الكافر مانع ، في التزويج المذكور ، لأنّا لا نعتبر العدالة في الوكيل ، بغير خلاف ، ولأنّه لا مانع منه من كتاب ، ولا إجماع ، ولا سنة متواترة ، وليس للوكيل الكافر على المسلمة هاهنا سبيل ، فيدخل تحت قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (7).

ص: 87


1- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب الباب 1 ، ح 4.
2- الوسائل : كتاب القضاء الباب 3 من أبواب كيفية الحكم ، ولفظ الحديث ، هكذا : « البيّنة على المدّعي ».
3- ج : « إن يوكّل فيه غيره » وهو الظاهر.
4- ج : ان يوكّل.
5- ج : ان يوكّل.
6- ج : تزوّجها.
7- النساء : 141.

وإذا ادّعى رجل على رجل ، واستحضره الحاكم لمخاصمة المدعي ، كان له أن يحضر (1) ، وكان له أن يقعد ، ويوكل غيره في الخصومة ، رضي خصمه بذلك ، أو لم يرض ، وكذلك إن حضر ، كان له أن يجيب بنفسه ، أو يوكل غيره في الجواب عنه ، ولا يجبر على الجواب بنفسه ، وكذلك للمدّعي ، التوكيل في الخصومة.

وإذا أوجب رجل لرجل عقد الوكالة ، كان بالخيار بين أن يقبل ذلك ، وبين أن يرده ، فلا يقبله ، فإذا أراد أن يقبل في الحال ، كان له ذلك ، وله أن يؤخّر ذلك ، فيقبله. أي وقت أراد ، ولهذا أجمع المسلمون ، على أنّ الغائب إذا وكل رجلا ، ثم بلغ الوكيل ذلك بعد مدّة ، فقبل الوكالة ، انعقدت ، فإذا ثبت هذا ، فله أن يقبل لفظا ، وله أن يقبل فعلا ، مثل أن يتصرف في الشي ء الذي وكله فيه.

وكذلك إذا أودعه مالا ، وأحضر المال بين يديه ، فلا فرق بين أن يقبل الوديعة لفظا ، وبين أن يقبلها فعلا ، بأن يأخذها ويحرزها (2) ، فإذا حصل القبول ، وانعقدت الوكالة ، كان لكل واحد منهما أن يثبت عليها ، وله أن يفسخها ، لأنّها عقد جائز من الطرفين ، لأنّ العقود على أربعة أضرب ، عقد جائز من الطرفين ، وعقد لازم من الطرفين ، وعقد لازم من طرف ، وجائز من طرف ، وعقد مختلف فيه. (3)

فالجائز من الطرفين ، فمثل الجعالة ، والوكالة ، والشركة ، والمضاربة ، والوديعة ، والعارية.

واللازم من الطرفين ، مثل البيع بعد التفرق من المجلس ، والإجارة ، والنكاح.

والجائز من طرف ، فهو الرهن ، فإنّه لازم من جهة الراهن ، جائز من جهة المرتهن ، وكذلك الكتابة المشروطة ، لازمة من جهة السيّد ، جائزة من جهة العبد.

والمختلف فيه ، عقد السبق والرماية ، فيلزمهما قولان ، أحدهما أنّه جعالة ، وهو الأقوى ، فعلى هذا يكون جائزا من الطرفين ، والثاني أنّه إجارة ، فهو لازم من

ص: 88


1- ج : ان يحضره.
2- ج : ويجوزها.
3- ج: من طرف لازم من طرف.

الطرفين ، والأول هو الصحيح ، على ما اختاره شيخنا في مبسوطة (1).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه لازم من الطرفين ، لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) وهذا عقد.

فأمّا ما به ينفسخ الوكالة ، فمثل الموت ، والجنون والإغماء ، فإذا مات أحدهما أو جن ، أو أغمي عليه ، بطلت الوكالة ، فأمّا النوم المعتاد ، فلا يبطل الوكالة ، لأنّه لا يسقط فرض الصلاة ، والإغماء والجنون يسقطان فرض الصلاة ، ويثبتان عليه الولاية ، والنوم لا يثبتها عليه.

من وكل غيره في الخصومة عنه ، والمطالبة والمحاكمة ، والبيع والشراء ، وجميع أنواع ما يتصرف فيه بنفسه ، فقبل الوكيل عنه ذلك ، فقد صار وكيله ، يجب له ما يجب لموكله ، ويجب عليه ما يجب على موكّله ، إلا ما يقتضيه الإقرار ، من الحدود ، والآداب ، والايمان ، وغير ذلك ، ممّا قدّمنا القول في معناه.

والوكالة يعتبر فيها شرط الموكل ، فإن شرط أن يكون في خاص من الأشياء ، لم تجز فيما عداه ، وإن شرط أن تكون عامة ، قام الوكيل مقام الموكل على العموم ، حسب ما قدّمناه ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وبذلك تواترت الأخبار (3) عن الأئمة الأطهار ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (4).

وقال في مبسوطة (5) ومسائل خلافه : مسألة ، إذا وكل رجل رجلا ، في كل قليل وكثير ، لم يصح ذلك ، ثم قال : دليلنا أنّ في ذلك غررا عظيما ، لأنّه ربما لزمه بالعقود ، ما لا يمكنه الوفاء به وما يؤدّي إلى ذهاب ماله ، مثل أن يزوجه بأربع حرائر ، ثم يطلقهن قبل. الدخول ، فيلزمه نصف مهورهّن ، ثم يتزوّج بأربع آخر (6)

ص: 89


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ، ص 367.
2- المائدة : 1.
3- الوسائل : كتاب الوكالة الباب 1 وما يدل على جواز الوكالة في باب البيع والإجارة وغيرهما.
4- النهاية : باب الوكالات.
5- المبسوط : كتاب الوكالة ، ج 2 ، ص 391.
6- ل : ثم يتزوج بأربعة أخرى ج : ثم يزوجه أربعا آخر.

ثم على هذا أبدا ويشتري له من الأرضين ، والعقارات ، وغيرها ، ما لا يحتاج إليه. وفي ذلك غرر عظيم ، فما يؤدي إليه فهو باطل ، ثم قال : وأيضا ، فلا دلالة على صحّة هذه الوكالة في الشرع هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا دلالة فيما أحتج به رحمه اللّه ، لأنّ الوكيل لا يصح فعله إلا فيما فيه صلاح لموكله ، وكل ما لا صلح فيه لموكله ، فلا يلزمه منه شي ء ، وأنّه باطل غير صحيح ، بغير خلاف ، فعلى هذا التحرير لا غرر فيما أورده.

وقوله رحمه اللّه : لا دليل على صحّة هذه الوكالة في الشرع ، باطل ، لأنّ الدليل حاصل ، وهو إجماع أصحابنا المنعقد على صحّة ذلك ، وهو أيضا قائل به في نهايته (2) ، والأخبار المتواترة أيضا دليل على صحة ذلك.

والوكالة تصح للحاضر كما تصحّ للغائب ، على ما قدّمناه ، ولا يجب الحكم بها على طريق التبرع ، دون أن يلتزم ذلك بإيثار الموكّل ، واختياره.

وللناظر في أمور المسلمين ، ولحكامهم ، أن يوكل على سفهائهم ، وأيتامهم ، ونواقصي عقولهم ، من يطالب بحقوقهم ، ويحتج عنهم ، ولهم.

وينبغي لذوي المروات من الناس ، أن يوكلوا لأنفسهم في الحقوق ، ولا يباشروا الخصومة بنفوسهم.

وللمسلم أن يتوكل للمسلم على أهل الإسلام والذمة ، ولأهل الذمة على أهل الذمة ، ويكره أن يتوكل للذمي على المسلم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وللمسلم أن يتوكل للمسلم على أهل الإسلام ، وأهل الذمة ، ولأهل الذمة على أهل الذمة خاصّة ، ولا يتوكل للذمي على المسلم (3).

وقال بكراهة ذلك في مبسوطة ، قال : يكره أن يتوكل المسلم لكافر على

ص: 90


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 14.
2- النهاية : باب الوكالات.
3- النهاية : كتاب الوكالة.

مسلم ، وليس بمفسد للوكالة ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

وكذلك قال في مسائل خلافه (2) ، وهو الأظهر ، لأنّه لا دليل على تحريمه.

فإن تمسك متمسّك بقوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (3).

قلنا : المسلم الذي هو الوكيل ليس بكافر.

وأيضا لا خلاف أنّ للذمي الذي هو الموكل ، المطالبة للمسلم ، بما له عليه من الحقّ ، فله عليه سبيل ، لأنّه الذي جعل له عليه سبيلا ، أعني المسلم الذي عليه الحقّ ، فللوكيل المسلم ، ما لموكله من المطالبة.

وانّما أورده شيخنا رحمه اللّه في نهايته ، من طريق خبر الآحاد ، دون الاعتقاد ، على ما كررنا القول فيه.

ويتوكل الذمي للمسلم على الذمي ، ولأهل الذمة ، على أمثالهم من الكفار ، ولا يجوز له أن يتوكّل على أحد من أهل الإسلام ، لا لذمي ، ولا لمسلم على حال ، لأنّ الآية المقدّم ذكرها ، تتناول تحريم ذلك ، والنهي عنه والمنع منه.

وينبغي أن يكون الوكيل عاقلا ، بصيرا بالحكم ، فيما أسند إليه الوكالة فيه ، عارفا باللغة التي يحتاج إلى المحاورة بها في وكالته ، لئلا يأتي بلفظ يقتضي إقرارا بشي ء ، وهو يريد غيره ، مثاله (4) أن يقر بعدد فيما دون الواحد إلى العشرة ، مذكر ، فيسقط الهاء منه ، أو يريد أن يقر بعدد مؤنث ، فيلحق الهاء فيه ، وهو لا يريد ذلك ، فيلزمه الحاكم بظاهر إقراره.

ولا يجوز لحاكم أن يسمع من وكيل لغيره ، إلا بعد أن تقوم له عنده البيّنة ، بثبوت وكالته.

ومن وكل وكيلا وأشهد على وكالته ، ثم أراد عزله ، فليشهد على عزله ، علانية

ص: 91


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ، ص 392.
2- الخلاف : كتاب الوكالة مسألة 15.
3- النساء : 141.
4- ج : مثاله يريد.

بمحضر من الوكيل ، أو يعلمه ذلك ، كما أشهد على وكالته ، فإذا أعلم عزله ، مع تمكنه من إعلامه ، أو أشهد على عزله ، مع تعذر إعلامه ، فقد انعزل الوكيل عن وكالته ، وكل أمر ينفذه بعد ذلك كان باطلا ، لا يلزم الموكل منه ، قليل ولا كثير.

وإن عزله ولم يشهد ، مع تعذر القدرة على إعلامه بعزله ، أو لم يعلمه عزله مع إمكان إعلامه ، لم ينعزل الوكيل ، وكل أمر ينفذه بعد ذلك كان ماضيا على موكله حينئذ إلى أن يعلم بعزله.

فإن اختلف الموكّل والوكيل في العزل ، فقال الموكّل : قد أعلمته العزل ، وأنكر ذلك الوكيل ، كان على الموكّل البيّنة بأنه أعلمه ذلك ، ولم يكفه إقامة البيّنة على أنّه قد عزله ، إذا كان قادرا على إعلامه ، غير متعذر عليه ذلك ، فإن لم يكن له بينة على إعلامه ، كان على الوكيل اليمين ، أنّه ما علم بعزله عن الوكالة ، فإن حلف ، كانت وكالته ثابتة ، حسب ما قدّمناه ، وإن امتنع من اليمين ، بطلت وكالته ، من وقت ما أقام الموكّل البيّنة على إعلامه بعزله ، فإن كان بحيث يتعذر عليه إعلامه ، أفادته إقامة البينة ، وكفته مئونة الإعلام ، وكل أمر ينفذه ، أو أنفذه بعد إقامة البينة حينئذ على عزله ، عند تعذر إعلامه ، فهو باطل ، غير نافذ على موكله.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه : إذا عزل الموكّل وكيله ، عن الوكالة ، في غيبة من الوكيل ، لأصحابنا فيه روايتان ، إحديهما أنّه ينعزل في الحال ، وإن لم يعلم الوكيل ، وكل تصرف يتصرف فيه الوكيل بعد ذلك ، يكون باطلا ، والأخرى أنّه لا ينعزل ، حتى يعلم الوكيل ذلك ، وكل ما يتصرف فيه يكون واقعا موقعه ، إلى أن يعلم ، ثم قال : دليلنا على ذلك ، أخبار الطائفة ، وهي مختلفة ، وقد ذكرناها في كتابينا المقدم ذكرهما ، قال : ومن راعى (1) العلم ، استدل على ذلك ، بأن قال انّ النهي لا يتعلق به حكم ، في حقّ المنهي ، إلا بعد

ص: 92


1- ل : ادعى.

حصول علمه به ، وهكذا أبواب نواهي الشرع كلها ، ولهذا لما بلغ أهل قبا ، أنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، وهم في الصلاة ، داروا وبنوا على صلاتهم ، ولم يؤمروا بالإعادة ، وكذلك نهي الموكل وكيله عن التصرف ، ينبغي أن لا يتعلق به حكم في حقّ الوكيل ، إلا بعد العلم ، قال : وهذا القول أقوى من الأول ، وقد رجحناه في الكتابين (1).

قال محمّد بن إدريس : الأقوى عندي ما ذكره رحمه اللّه في نهايته (2) ، فهو وجه الجمع بين الأحاديث ، وهو الذي حررناه واخترناه في كتابنا هذا ، وهو أنّه إذا قدر الموكّل ، على اعلام الوكيل بالعزل ، ولم يعلمه ، وأشهد على عزله ، وعزله ، لم ينعزل ، وكل أمر ينفذه فهو ماض على موكّله ، فأمّا إذا تعذر على الموكل إعلام وكيله بالعزل ، ولم يقدر على ذلك ، ولم يمكنه ، وأشهد حينئذ على عزله ، وعزله ، فقد انعزل ، وكلّ أمر ينفذه بعد ذلك فهو باطل ، غير ماض على موكّله ، فيحمل الأخبار على هذا الاعتبار ، وقد سلمت من التعارض ، وعمل بجميعها من غير إطراح لشي ء منها.

وقوله رحمه اللّه : وقد رجحناه في الكتابين ، يعني تهذيب الأحكام ، والاستبصار ، أمّا تهذيب الأحكام فما رجح فيه شيئا ، بل أورد الأخبار (3) ، وأطلق الإيراد ، من غير توسّط منه بينها ، وأمّا الإستبصار فما ذكر الباب جملة.

ومتى تعدّى الوكيل شيئا مما رسمه موكله ، كان ضامنا لما تعدى فيه ، فإن وكله في تزويجه امرأة بعينها ، فزوجه غيرها ، لم يثبت النكاح ، ولزم الوكيل نصف المهر المسمّى ، لأنّه غرّها ، هذا إذا قال الوكيل أنّه وكلني في العقد عليك ، ولم يقم له بينة بذلك.

فأمّا إذا صدقته المرأة على صحة قوله ووكالته ، فلا سبيل لها عليه ، لأنّها تقول ظلمني زوجي ، وليس لها أن تتزوج ، إلا بعد موته ، أو طلاقه ، أو فراقه.

ص: 93


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 3.
2- النهاية : كتاب الوكالة.
3- التهذيب : الباب 86 من باب الوكالات.

فأمّا إذا لم يدّع الوكالة ، ولا قال للمرأة انّه وكيل فلان ، بل عقد للرجل (1) عليها ، فالنكاح موقوف عندنا على الإجازة ، فإن رضي الذي عقد له على المرأة ، كان النكاح ماضيا ، ولزم المعقود له النكاح ، والمهر جميعا ، وإن لم يرض بالعقد ، كان النكاح مفسوخا ، ولم يلزم العاقد شي ء من المهر ، لأنّه ما غرّ المرأة ، ولا ادّعى الوكالة في العقد ، بخلاف المسألة الأوّلة ، التي قلنا فيها يلزمه نصف مهرها لانه غرّها بقوله (2) ، قد وكّلني فلان على العقد عليك ، ولم يكن له بينة بذلك فلزمه المهر ، لأنّه حينئذ غرّها ، على ما وردت الأخبار (3) بذلك ، فافترق الأمران.

فإن عقد له على التي أمره بالعقد عليها ، ثم أنكر الموكّل أن يكون أمره بذلك ، ولم يقم للوكيل بينة بوكالته بالعقد ، لزم الوكيل أيضا نصف المهر المسمّى ، ولم يلزم الموكّل شي ء ، وجاز للمرأة أن تتزوج بعد ذلك ، غير أنّه لا يحل للموكل ، إن كان وكله في العقد عليها فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إلا أن يطلقها ويغرم لها نصف المسمّى ، لأنّ العقد يكون قد ثبت عليه ، وهذا أمر راجع إليه ، ومنكر لا يعلمه غيره ، فيجب عليه إزالته ، وإنكاره.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : في جميع ذلك يلزم الوكيل المهر (4) وأطلق القول بذلك ، ولم يقل نصف المهر.

وفي مبسوطة يقول بنصف المهر (5) ، وكذلك في تهذيب الأحكام (6) على ما وردت الأخبار.

وقوله في نهايته : لزمه المهر ، فكأنّه أراد المستحق (7) عليه ، بعد تخلية المرأة ، وجواز العقد عليها لغيره ، فهو بمنزلة الطلاق قبل الدخول ، فأقام إنكاره التوكيل

ص: 94


1- ل : للزوج.
2- ج : يلزمه نصف مهرها بقوله.
3- الوسائل : كتاب النكاح ، الباب 26 من أبواب عقد النكاح.
4- النهاية : كتاب الوكالة.
5- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ، ص 386.
6- التهذيب : الباب 86 من باب الوكالات.
7- ج : يستحق.

على العقد ، ودفعه النكاح ، مقام الطلاق.

ولو قيل في ذلك أن الوكيل يلزمه المهر المسمّى كملا ، لأنّه يجب بالعقد جميعه ، ويسقط نصفه بالطلاق ، قبل الدخول ، بغير خلاف بين الأمة ، لكان قويا ظاهرا ، وهذا لم يطلق قبل دخوله ، فيسقط عنه نصفه ، وبهذا أفتي ، وعليه أعتمد ، لأنّه الذي يقتضيه أصولنا ، وتشهد به أخبارنا ، وأدلتنا.

ومن وكل غيره في أن يطلق عنه امرأته ، جاز طلاق الوكيل ، سواء كان الموكل حاضرا أو غائبا ، على الصحيح من المذهب ، لأنّه لا خلاف بين المسلمين في جواز الوكالة للحاضر والغائب ، في جميع ما يجوز الوكالة فيه ، فمن خصّص ذلك ، يحتاج إلى دليل.

وقال شيخنا في نهايته : ومن وكل غيره في أن يطلق عنه امرأته ، وكان غائبا جاز طلاق الوكيل ، وإن كان شاهدا ، لم يجز طلاق الوكيل (1).

وهذا خبر واحد ، أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كررنا القول في ذلك ، وهو من أضعف أخبار الآحاد راويه (2) جعفر بن سماعة وهو فطحي المذهب (3) لم يورد شيخنا في الاستبصار (4) غيره ، مخالفا لجميع الأخبار التي أوردها في الكتاب المذكور ، فان جميع الأخبار مطلقة عامة ، في جواز الوكالة في الطلاق ، متواترة بذلك ، وأورد بعدها هذا الخبر الشاذ ، ثم قال رحمه اللّه متوسّطا : فلا ينافي الأخبار الأوّلة ، قال : لأنّ هذا الخبر محمول على أنّه إذا كان الرجل حاضرا في البلد ، لم يصح توكيله في الطلاق ، والأخبار الأولة ، نحملها على جواز ذلك ، في حال الغيبة ، قال رحمه اللّه : لئلا تتناقض الأخبار.

قال محمد بن إدريس : الخبر الذي أورده عن ابن سماعة ، عن جعفر بن

ص: 95


1- النهاية : كتاب الوكالة.
2- الوسائل : كتاب الطلاق الباب 39 من أبواب مقدّمات وشرائط الطلاق ح 5.
3- ج : وهو فطحي.
4- الاستبصار : الباب 166 من الوكالة في الطلاق ، ح 6.

سماعة ، ليس فيه هذا التفصيل ، وانّما هو مطلق ، في أنّه لا يجوز الوكالة في الطلاق ، وظاهره مخالف لإجماع المسلمين قاطبة ، وما هذا حاله ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه وقوله رحمه اللّه : لئلا تتناقض الأخبار ، انّما يسوغ ذلك ، إذا كانت الأخبار متواترة متكافئة ، فهي حينئذ أدلة ، فيجوز ما ذكره لئلا تتناقض الأدلة ، وهذا الخبر الشاذ ليس هو مكافئا لما أورده من الأخبار المتواترة ، فكيف يجوز ما قاله رحمه اللّه ، من الوساطة ، مع إنّا قد بيّنا ، أن أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأصحابنا قديما وحديثا لا يعملون بها ، ويزرون ويعيبون أشدّ عيب على العاملين بها ، من أهل الخلاف.

وأيضا فلا خلاف بيننا معشر الشيعة الإماميّة ، أنّ حال الشقاق ، وبعث الحكمين ، انّ الرجل إذا وكل الحكم الذي هو من أهله في الطلاق ، وطلق ، مضى طلاقه ، وجاز ، وإن كان الموكل حاضرا في البلد ، بغير خلاف بين أصحابنا في ذلك.

وأيضا فشيخنا في مسائل خلافه (1) ومبسوطة (2) يذهب إلى أنّ الوكالة في جميع الأشياء التي يجوز الوكالة فيها تصح للحاضر والغائب ، ثم قال في مسائل الخلاف : دليلنا ان الأخبار الواردة في جواز التوكيل ، عامة في الحاضر والغائب ، فمن خصصها ، فعليه الدلالة ، وقال : وأيضا ، فالأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه. فقد أقرّ (3) أنّ الأخبار الواردة في جواز التوكيل ، عامة في الحاضر والغائب ، ثم قال : فمن خصصها ، فعليه الدلالة ، وقال : وأيضا فالأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، فما باله رحمه اللّه ، يرجع عن الأدلة بغير أدلة ، وتخصيص العموم عند المحصّلين لأصول الفقه ، لا يكون إلا بأدلة قاطعة للأعذار ، إمّا من كتاب ،

ص: 96


1- الخلاف : كتاب الوكالة المسألة 6.
2- المبسوط : كتاب الوكالة ، ج 2 ، ص 364.
3- ج : أورد.

أو سنة متواترة ، أو أدلة العقول ، أو إجماع ، وهذا بحمد اللّه تعالى مفقود هاهنا.

والرجل إذا قبض صداق ابنته ، وكانت صبية غير بالغ ، في حجره ، برئت ذمّة الزوج من المهر ، على كل حال ، لأنه القابض عنها ، والوالي عليها ، ولم تكن للبنت مطالبته بالمهر بعد البلوغ ، وإن كانت البنت بالغة ، فإن كانت وكلته في قبض صداقها ، فقد برأ أيضا ذمة الزوج ، وإن لم تكن وكلته على ذلك ، لم تبرأ ذمة الزوج ، وكان لها مطالبته بالمهر ، وللزوج الرجوع على الأب في مطالبته بالمهر ، فإن كان الأب قد مات ، كان له الرجوع على الورثة ، إن كان خلف في أيديهم شيئا ، ومطالبتهم بالمهر ، كما كان له مطالبته في حال حياته ، هذا إذا لم يصدقه الزوج على وكالته ، فأمّا إن ادّعى الأب الوكالة من البنت بقبض المهر ، وصدقه الزوج على ذلك ، فليس للزوج الرجوع عليه ، سواء كان حيا أو قد مات.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : البكر البالغة الرشيدة ، يجوز لأبيها أن يقبض مهرها ، بغير أمرها ، ما لم تنهه عن ذلك (1).

وهذا ليس بواضح ، لأنّ الزوج لا تبرأ ذمته بتسليمه ، ولا يجبر على ذلك ، لأنّه يكون قد سلّمه إلى غير من وكّلته في القبض ، ولا إلى من ولّته في قبض أموالها ، ولا له عليها ولاية في أموالها ، بغير خلاف بين أصحابنا في ذلك.

وإذا باع الوكيل على موكله ، ماله الذي وكله في بيعه ، أو الولي ، مثل الأب والجد والحاكم ، وأمينه ، والوصي ، ثم استحق المال على المشتري ، فانّ ضمان العهدة والدرك ، يجب على من بيع عليه ماله ، فإن كان حيا كان في ذمته ، وإن كان ميتا كانت العهدة في تركته ، ولا يلزم الوكيل والوصي والولي من ذلك ، قليل ولا كثير.

وجميع من يبيع مال الغير ستة أنفس ، الأب ، والجد ، ووصيهما ، والحاكم ، وأمينه ، والوكيل ، ولا يصح لأحد منهم ، أن يبيع المال الذي في يده ، من نفسه ، إلا

ص: 97


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 29.

لاثنين فحسب ، الأب ، والجد ، ولا يصح لغيرهما.

ولا يسمع الدعوى في الوكالة ، إلا أن يقيم بيّنة ، شاهدين عدلين ، على أنّه وكله فلان ، ولا يقبل في ذلك شاهد ويمين ، ولا شاهد وامرأتان ، لأنّ الولايات جميعها ، لا تقبل فيها شهادة النساء ، ولا شاهد ويمين.

وإذا كان لرجل على غيره دين ، فجاء آخر ، فادعى أنّه وكيله في المطالبة ، وأنكر ذلك الذي عليه الدين ، فإن كان مع الوكيل بينة ، أقامها ، وحكم له بها ، وإن لم يكن معه بينة ، وطالب من عليه الدين باليمين ، لا يجب عليه ، فإن ادّعى عليه علمه بذلك ، لزمته اليمين ، فإن نكل عنها ، ردّت على المدّعي ، فإذا حلف ثبت وكالته ، لأنّ عندنا اليمين مع النكول ، بمنزلة البيّنة.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : فإن ادعى علمه بذلك ، لم يلزمه أيضا اليمين (1).

وهذا قول الشافعي ، اختاره شيخنا ، وليس بواضح ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا.

ثم قال رحمه اللّه في مسائل خلافه : إذا صدقه من عليه الدين في توكيله ، لم يجبر على التسليم إليه (2).

وهو أيضا مقالة الشافعي ، اختاره شيخنا رضي اللّه عنه ، والذي يقتضيه مذهبنا ، خلاف ذلك ، وهو أنّه إذا صدقه من عليه الدين في دعواه الوكالة ، يجبره الحاكم على التسليم إليه ، لأنّه صار وكيلا عليه بتصديقه إيّاه ، فيما عليه ، لأنّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، بغير خلاف بيننا ، إلا ما خرج بالدليل ، من إقرار العبيد.

وليس للوكيل أن يبيع مع إطلاق الوكالة في البيع ، إلا بنقد البلد ، وبثمن المثل حالا ، فإن خالف ذلك ، كان البيع باطلا.

ولا يصح إبراء الوكيل من دون الموكّل من الثمن الذي على المشتري.

ص: 98


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 12.
2- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 13.

وإذا اشترى الوكيل السلعة بثمن مثلها ، فإن ملكها يقع للموكل ، من غير أن يدخل في ملك الوكيل ، بدليل أنّه لو وكله في شراء من ينعتق عليه ، لم يعتق على الوكيل ، فلو كان الملك ، قد انتقل إلى الوكيل ، لوجب أن يعتق عليه ، فلما أجمعنا على أنّه لا يعتق على الوكيل لو اشترى من ينعتق عليه. إذا اشتراه لنفسه ، دل على أنّه لا ينتقل الملك إلى الوكيل.

وإذا قال : إن جاء رأس الشهر ، فقد وكلتك في الشي ء الفلاني ، فإنّ الوكالة لا تنعقد ، وإن ذلك لا يصح ، فأمّا إن وكله في الحال ، بأن يبيع الشي ء إذا جاء رأس الشهر جاز ذلك ، وصح ، لأنّ الوكالة صحّت في الحال ، وانعقدت ، ثم أمره بتأخير البيع ، إلى رأس الشهر ، والمسألة الأوّلة ، ما انعقدت الوكالة في الحال ، بل يحتاج إذا جاء رأس الشهر إلى عقد الوكالة ، فافترق الأمران. وإذا وكله في السلم في الطعام ، فأسلف في حنطة ، جاز وإن أسلف في شعير ، لم يجز ، لأنّ إطلاق الطعام في العادة ، يرجع إلى الحنطة ، دون الشعير ، والاعتبار في الوكالة بالعادة.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته ، في مختصر كتاب ابتياع : وان يوليه من شاء ، من جري ، أو وكيل (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الجري ، بالجيم المفتوحة ، والراء غير المعجمة ، المكسورة ، والياء المشدّدة ، هو الوكيل ، وانّما اختلف اللفظ ، وإن كان المعنى واحدا ، ويسمى الوكيل جريا ، لأنه يجري مجرى موكله ، يقال ، جريّ بيّن الجراية ، والجراية ، والجمع أجراء (2).

باب اللقطة

الضالة من البهائم ما يضيع ، يقال ضال ، ومن العبيد يقال آبق ، ومن الأحرار

ص: 99


1- المقنعة : قريب من آخر الكتاب ، باب مختصر كتاب الابتياع ص 834 ، ط. مؤسسة النشر الإسلامي قم.
2- ج : أجرياء.

لقيط ، ومنبوذ ، وما يكون من غير الحيوان يقال لقطة ، قال الخليل بن أحمد : اللقطة الرجل الذي يلتقط ، يقال له لاقط ، ولقطة ، بتحريك القاف ، فأمّا الشي ء الملتقط ، يقال إنّه (1) لقطة بسكون القاف ، وقال أبو عبيدة : وما عليه عامة أهل العلم ، أنّ اللقطة بتحريك القاف ، هي الشي ء الذي يلتقط.

إذا ثبت هذا ، فاللقطة لا تخلو إمّا أن تكون حيوانا ، أو غير حيوان ، فإن كانت حيوانا ، فلا يخلو إمّا أن يكون وجدها في البرية أو في العمران ، فإن وجدها في البرية والصحاري ، فلا يخلو إمّا أن تكون حيوانا قويا ممتنعا من صغار السباع ، مثل الإبل ، والبقر ، والخيل ، والبغال ، فإنّها تمتنع من صغار السباع ، مثل الثعلب ، وابن أوى ، والذئب ، فإنّه لا يقدر عليه ، أو يكون ممّا يمتنع بسرعة مشيه ، مثل الظباء والغزلان ، أو مما يمتنع بطيرانه ، فيدفع بالطيران عن نفسه ، فما هذه صفته ، فليس لأحد أن يأخذها ، لنهيه عليه السلام لما سئل عن ضالة الإبل ، فقال : ما لك ولها ، وغضب حتى احمرت وجنتاه (2).

فإن أخذها ، لزمه الضمان ، ويكون عليه مضمونا ، لأنّه أخذ مال الغير بغير حق.

فإن سيّبها بعد ذلك ، لم يزل عنه الضمان ، فإن ردّها إلى صاحبها ، زال عنه. الضمان ، وبرئ.

وإن سلّمها إلى الإمام ، فهل يسقط عنه الضمان أم لا؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يزول الضمان ، وهو الأقوى (3) ، والآخر لا يزول.

فإذا ثبت أنّ للإمام أخذها ، فإن كان له حمى يدع فيه لترعى حتى يجي ء صاحبها.

وليس للاقط العامي إمساكها ، ولا له أن يفعل وإن يمسك ، لأنّه لا يقوم بمصالح المسلمين ، ولا يلي أمورهم ، وليس كذلك الإمام ، لأنّه منصوب لذلك ، هذا إذا كان حيوانا ممتنعا من صغار السباع.

ص: 100


1- ج : يقال له.
2- مستدرك الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 8 ، ح 6.
3- ل : وهو الأقوى والأحرى.

فأمّا إذا كان غير ممتنع ، مثل الشاة وغيرها من أولاد البقر ، فله أن يأخذها لقوله عليه السلام : خذها ، فإنّما هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب (1).

فإن أخذها فهو بالخيار بين أن يأكلها ، وتكون القيمة في ذمته ، إذا جاء صاحبها ردّها عليه ، وإن شاء أن ينفق عليها تطوعا ، وإن شاء يرفع إلى الحاكم ليأخذها الحاكم ، ويبيعها ، ويعرف ثمنها.

ومن أخذ لقطة ، ثم ردّها إلى موضعها ، لم يزل ضمانه.

واللقطة على ضربين ، ضرب منه يجوز أخذه ، ولا يكون على من أخذه ضمانه ، ولا تعريفه ، بل يجوز له التصرف فيه قبل التعريف ، ومتى أقام صاحبه بينة وجب ردّه عليه ، لأنّه ملك الغير ، وانّما أباح الشارع التصرف فيه ، قبل التعريف ، كما أباح الشارع التصرف بعد السنة ، فيما يجب تعريفه من اللقط ، وهو كلما كان دون الدرهم ، أو يكون ما يجده في موضع خرب قد باد أهله ، واستنكر رسمه.

والضرب الآخر ، هو الذي لا ينبغي له أخذه ، فإن أخذه لزمه حفظه وتعريفه ، فهو على ضربين ، ضرب منه ما يجده في الحرم ، والضرب الآخر ما يجده (2) في غير الحرم ، فما يجده في الحرم يلزمه تعريفه سنة ، في المواقف والمواسم ، وعلى أبواب الجوامع ، يوم الجمعات ، وأيّام الأعياد ، ومحافل الجماعات ، فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه ، وإن لم يجئ صاحبه بعد السنة ، تصدّق به عنه ، أو يحفظه عليه ، ويكون في يده أمانة ، إلى أن يجي ء صاحبه ، وهذا الضرب لا يجوز تملكه ، ولا يصير بعد السنة كسبيل ماله ، فإن تصدّق به ، ثم جاء صاحبه ، ولم يرض بصدقته ، كان ضامنا له.

وقال شيخنا في نهايته ، في باب اللقطة : تصدّق به عنه ، وليس عليه شي ء ،

ص: 101


1- الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 13 ، ح 1 - 5 - 7.
2- ج : يجده.

فإن جاء صاحبه بعد ذلك ، لم يلزمه شي ء ، فإن أراد أن يخيره بين أن يغرم له ، ويكون الأجر له ، واختار ذلك صاحب المال ، فعل ، وليس ذلك واجبا عليه (1).

إلا أنّ شيخنا يرجع عن هذا ، ويقول بما اخترناه ، في النهاية أيضا ، في باب آخر من فقه الحج ، قال : ومن وجد شيئا في الحرم ، فلا يجوز له أخذه ، فإن أخذه فليعرّفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا تصدّق به عنه ، وكان ضامنا إذا جاء صاحبه ، ولم يرض بفعله ، وإذا وجد في غير الحرم ، فليعرفه سنة ، ثم هو كسبيل ماله ، يعمل به ما شاء ، إلا أنّه ضامن ، إذا جاء صاحبه ، هذا آخر كلام شيخنا في الباب المشار إليه (2).

وهو الحق اليقين ، لأنّه مال الغير ، والرسول عليه السلام قال : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (3) ، وهذا ما طابت نفسه بالصدقة عنه.

وأمّا الذي يجده في غير الحرم ، فيلزمه أيضا تعريفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه ، وإن لم يجئ كان كسبيل ماله بعد السنة والتعريف فيها ، فيجوز له التصرف فيه بسائر أنواع التصرفات ، إلا أنّه يكون ضامنا له بقيمته بعد السنة ، متى جاء صاحبه ، وجب عليه ردّه عليه ، فإن تصدق به عنه ، لزمه أيضا ، أن يغرمه له ، متى جاء ، إلا أن يشاء صاحبه أن يكون له الأجر ، ويرضى بذلك ، فيحتسب له بذلك عند اللّه تعالى.

وجميع النماء المنفصل والمتصل بعد الحول في هذا الضرب يكون لمن وجدها ، دون صاحبها ، لأنّه بعد الحول صارت كسبيل ماله ، ولصاحبها قيمتها فحسب ، فهو في هذا الضرب بين خيرتين ، بين أن يتصدق بها بعد السنة وتعريفها ، ويكون ضامنا لقيمتها بعد الحول ، إذا جاء صاحبها ولم يرض بفعله ، وبين أن يجعلها كسبيل ماله ، ويضمن قيمتها لصاحبها بعد السنة والتعريف.

ص: 102


1- النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- النهاية : باب آخر من فقه الحج.
3- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 5

وإلى هذا يذهب شيخنا في نهايته (1) وهو مذهب أصحابنا أجمع ، وبه تواترت أخبارهم.

وذهب شيخنا في مسائل خلافه ، إلى أن لقطة غير الحرم ، يعرفها سنة ، ثم هو مخيّر بعد السنة ، بين ثلاثة أشياء ، بين أن يحفظها على صاحبها ، وبين أن يتصدّق بها عنه ، ويكون ضامنا إن لم يرض صاحبها بذلك ، وبين أن يتملّكها ويتصرف فيها ، وعليه ضمانها إذا جاء صاحبها (2).

فهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، اختاره هاهنا ، لأنّ بينهما خلافا في لقطة الفقير والغني ، والصحيح الحق اليقين ، إجماع أصحابنا ، على أنه بعد السنة يكون كسبيل ماله ، أو يتصدق بها بشرط الضمان ، ولم يقولوا هو بالخيار بعد السنة في حفظها على صاحبها.

وشيخنا أبو جعفر في الجزء الأوّل من مسائل خلافه ، ومبسوطة ، قال : مسألة ، إذا وجد نصابا من الأثمان ، أو غيرها من المواشي ، عرفها سنة ، ثم هو كسبيل ماله وملكه ، فإذا حال بعد ذلك حول ، وأحوال ، لزمته زكاته ، لأنّه مالك ، وإن كان ضامنا له ، وأمّا صاحبه فلا زكاة عليه ، لأنّ مال الغائب الذي لا يتمكن منه ، لا زكاة فيه ، وقال الشافعي ، إذا كان بعد سنة ، هل يدخل في ملكه بغير اختياره؟ على قولين ، أحدهما وهو المذهب ، أنّه لا يملكها إلا باختياره ، والثاني يدخل بغير اختياره ، فإذا قال لا يملكها إلا باختياره ، فإذا ملكها ، فإن كان من الأثمان ، يجب مثلها في ذمته ، وإن كان ماشية وجب قيمتها في ذمّته ، فأمّا الزكاة ، فإذا حال الحول من حين التقط ، فلا زكاة فيها ، لأنّه أمين ، وأمّا صاحب المال ، فله مال لا يعلم موضعه على قولين ، مثل الغصب ، وأمّا الحول الثاني ، فإن لم يملكها ، فهي أمانة أبدا في يده ، ورب المال على قولين ، مثل الضالة ، وإذا ملكها الملتقط ، وحال الحول ، فهو كرجل له ألف ، وعليه ألف ، فإن قال : الدين يمنع ، فهاهنا يمنع ، وإن قال : الدّين لا يمنع ، فهاهنا لا يمنع ، إذا لم يكن له

ص: 103


1- النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- الخلاف : كتاب اللقطة ، المسألة 1.

مال سواء ، فبقدره ، فإن كان له مال سواه لزمته زكاته ، ورب المال على قولين ، كالضالة والمغصوب ، قال : دليلنا ما روي عنهم عليهم السلام ، أنّهم قالوا لقطة غير الحرم يعرّفها سنة ، ثمّ هي كسبيل ماله ، وسبيل ما له أن يجب فيه الزكاة قال : فبهذا الظاهر يجب فيه الزكاة ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل الخلاف ، في الجزء الأول ، في كتاب الزكاة (1).

فلو كان بعد السنة لا يدخل في ملكه ، وهو مخيّر بين ثلاث ، خير على ما قاله في الجزء الثاني في كتاب اللقطة في مسائل الخلاف ، لما وجبت عليه الزكاة بعد السنة والتعريف وحئول الحول بعد ذلك ، واستدلاله رحمه اللّه بأن قال : دليلنا ما روي عنهم عليهم السلام ، أنّهم قالوا : لقطة غير الحرم يعرفها سنة ، ثم هي كسبيل ماله ، وما قالوا : يكون مخيرا بعد السّنة بين ثلاث خير على ما يذهب الشافعي إليه في أحد قوليه ، وأيضا من قال بهذا القول ، لا يوجب التعريف ، وانّما يوجب التعريف حتى يتملكها ، فأمّا إذا لم يرد أن يتملكها ، فلا يجب عليه التعريف ، ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب التعريف في مدة السنة ، فدل هذا أجمع ، على أنّ الذي اختاره شيخنا في الجزء الثاني ، مذهب الشافعي ، وأنّ مذهبنا ، وقول أصحابنا ورواياتهم ، بخلاف ذلك.

ولا يجوز التصرف في اللقط قبل مضي السنة ، فإن تصرّف كان مأثوما ضامنا إن هلكت ، بغير خلاف ، في أي موضع التقطها ، حرما كان أو غيره.

ومتى هلكت اللقطة في يده في مدّة (2) زمان التعريف ، من غير تفريط ، لم يكن على من وجدها شي ء ، فإن هلكت بتفريط من قبله ، أو يكون قد تصرّف فيها ، ضمنها ، ووجب عليه غرامتها ، بقيمتها يوم هلكت ، إن كانت تضمن بالقيمة ، أو مثلها إن كانت تضمن بالمثلية.

ص: 104


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، المسألة 129.
2- ج : اللقطة في مدّة.

ومتى اشترى بمال اللقطة جارية ، ثم جاء صاحبها ، فوجدها بنته ، لم يلزمه أخذها ، وكان له ان يطالبه بالمال الذي اشترى به ابنته ، لأنّه ما وكله في شرائها ، فلا تحصل هذه البنت في ملكه ، فتكون قد انعتقت عليه ، بل هي حاصلة في ملك الغير ، وهو ضامن لماله الذي وجده ، لأنّه إن كان اشتراها بالمال قبل السنة وتعريفه ، فانّ الشراء غير صحيح ، لأنّه بعين المال الذي لا يجوز له التصرف فيه ، فإن كان اشتراها في الذمة ، ونقده ، فالشراء صحيح ، ويقع ملك الجارية للمشتري ، دون صاحب المال ، فلا تنعتق على صاحب المال الذي هو أبوها ، لأنها ما دخلت في ملكه بحال ، وإن كان اشتراها بعد السنة ، وتعريف المال بعينه ، أو في الذمة ، فالشراء صحيح ، والملك يقع أيضا للمشتري ، دون الأب الذي هو صاحب المال ، فعلى جميع الأحوال ، ما دخلت في ملك الأب ، حتّى تنعتق عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أجاز شراه (1) ، انعتقت بعد ذلك ، ولم يجز له بيعها (2).

وهذا غير واضح ، ولا مستقيم ، لأنّ البيع على الصحيح من المذهب لا يقف عندنا على الإجازة ، وهذا مذهب شيخنا في مسائل الخلاف (3) ، وهو الحقّ اليقين ، وإن كان قد جوّزه في نهايته ، فقد رجع عنه في مسائل خلافه.

فإن أراد الأب عتقها وملكها (4) ، فيحتاج أن يشتريها منه بماله في ذمته ، فعند الشراء تنعتق على الأب بغير خلاف.

ومن وجد كنزا في دار انتقلت إليه بميراث عن أهله ، كان له ولشركائه في الميراث ، إن كان له شريك فيه ، فإن كانت الدار قد انتقلت إليه بابتياع من قوم ، عرف البائع ، فإن عرفه سلّمه إليه ، وإن لم يعرفه أخرج خمسه إلى مستحقه ، إن

ص: 105


1- ل : شرائها.
2- النهاية : باب اللقطة والضالة ، والعبارة في المصدر هكذا : « فإن أجاز شراءه لها »
3- الخلاف : كتاب البيع ، المسألة 275.
4- ج : وتملكها.

كان بمقدار ما تحب فيه الزكاة ، على ما شرحناه في كتاب الزكاة ، وباب الخمس ، وكان له الباقي.

وكذلك إن ابتاع بعيرا ، أو بقرة ، أو شاة ، وذبح شيئا من ذلك ، فوجد في جوفه شيئا قل عن مقدار الدرهم ، أو كثر ، عرفه من ابتاع ذلك الحيوان منه ، فإن عرفه ، أعطاه إياه ، وإن لم يعرفه ، أخرج منه الخمس ، بعد مئونته طول سنته ، لأنّه من جملة الغنائم والفوائد ، وكان له الباقي.

وكذلك حكم من ابتاع سمكة ، فوجد في جوفها درة ، أو سبيكة ، وما أشبه ذلك ، لأنّ البائع باع هذه الأشياء ، ولم يبع ما وجده المشتري ، فلذلك وجب عليه تعريف البائع.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي (1) ، لم يعرف البائع السمكة الدرة بل ملكها المشتري ، من دون تعريف البائع ، ولم يرد بهذا خبر عن أصحابنا ، ولا رواه عن الأئمة أحد منهم.

والفقيه سلار في رسالته (2) يذهب إلى ما اخترناه ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ومن وجد في داره شيئا ، فإن كانت الدار يدخلها غيره ، كان حكمه حكم اللقطة ، وإن لم يدخلها غيره ، كان له.

وإن وجد في صندوقه شيئا كان حكمه مثل ذلك.

ومن وجد طعاما في مفازة ، فليقومه على نفسه ، ويأكله ، فإذا جاء صاحبه ، ردّ عليه ثمنه.

فإن وجد شاة في برية ، فليأخذها ، وهو ضامن لقيمتها ، ولا يجب عليه الامتناع من التصرف في الطعام والشاة ، قبل التعريف سنة ، بل ينتفع بذلك

ص: 106


1- في كتابه النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- وهي المراسم : كتاب العتق والتدبير والمكاتبة في ذكر احكام الضمانات والكفالات و...

وقت وجوده ، ويضمن المثلية في الطعام ، والقيمة في الشاة ، فإن أعوزت المثلية ، فالقيمة يوم الوجدان ، أو يوم الإعواز؟ الصحيح أنّها يوم الإعواز.

ويترك البعير إذا وجده في المفازة ، إلا أن يكون صاحبه قد خلاه من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فليأخذه ، فإنّه بمنزلة الشي ء المباح ، وليس لصاحبه بعد ذلك المطالبة به ، فإن كان خلاه في كلاء وماء ، فليس له أخذه ، وكذلك الحكم في الدابة.

ويكره أخذ ما له قيمة يسيرة مثل العصا ، والشظاظ ، والوتد ، والحبل ، والعقال ، وأشباه ذلك ، وليس هو بمحظور.

ومن أودعه لص من اللصوص شيئا من المغصوب ، لم يجز له ردّه عليه ، فإن ردّه عليه مع قدرته على تركه ، كان ضامنا له ، فإن عرف صاحبه ردّه عليه ، وإن لم يعرف صاحبه تصدق به عنه بشرط الضمان.

والشاة إذا وجدها في الأمصار ، حبسها عنده ثلاثة أيّام ، يعرفها فيها ، فإن جاء صاحبها ردّها عليه ، وإلا تصدق بها بشرط الضمان ، أو تصرف فيها ، وكان ضامنا لقيمتها.

وإذا وجد المسلم لقيطا ، فهو حر غير مملوك ، وينبغي أن يرفع خبره إلى سلطان الإسلام ، ليطلق له النفقة عليه ، من بيت مال المسلمين ، فإن لم يوجد سلطان ينفق عليه ، استعان بالمسلمين في النفقة عليه ، فإن لم يجد من يعينه على ذلك ، أنفق عليه بعد ما يشهد ، أنّه يرجع عليه ، وكان له حينئذ الرجوع عليه بنفقته ، إذا بلغ ، وأيسر ، على ما روي في بعض الأخبار (1).

والأقوى عندي أنّه لا يرجع به عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى أدلة ظاهرة.

وإذا تبرع بما أنفقه عليه ، ولم يشهد بالرجوع ، أو إذا أنفق عليه ، وهو يجد من يعينه

ص: 107


1- الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 22 ، الحديث 2 - 3 - 4.

بالنفقة عليه تبرعا ، فلم يستعن به ، فليس له رجوع عليه بشي ء من النفقة.

وإذا بلغ اللقيط ، توالى من شاء من المسلمين ، ولم يكن للذي أنفق عليه والتقطه ولاؤه ، إلا أن يتوالاه ، فإن لم يتوال الى أحد حتى مات ، كان ولاؤه لإمام المسلمين ، لأنّه داخل في ميراث من لا وارث له.

وقال شيخنا في نهايته : كان ولاؤه للمسلمين (1).

وهذا غير (2) مستقيم على إطلاقه.

وقال أيضا : وإن ترك مالا ولم يترك ولدا ، ولا قرابة له من المسلمين ، كان ما تركه لبيت المال (3).

وهذا أيضا على إطلاقه غير واضح ، وانّما مقصوده هاهنا لبيت مال الإمام ، دون بيت مال المسلمين ، فإذا كان كذلك ، فالمراد أيضا بقوله : كان ولاؤه للمسلمين ، أي لإمام المسلمين ، لأنّا بغير خلاف بيننا مجمعون على أنّ ميراث من لا وارث له ، لإمام المسلمين ، وكذلك ولاؤه ، فإذا ورد (4) لفظ في مثل ذلك ، بأنّه للمسلمين ، أو لبيت المال ، فالمراد به ، لبيت مال الإمام ، وانّما أطلق القول بذلك ، لما فيه من التقية ، لأنّ بعض المخالفين لا يوافق عليه ، ويخالف. وهكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في آخر الجزء الأوّل من مبسوطة (5) ، وهو الحق اليقين.

ومن وجد شيئا من اللقط ، والضوال ، ثمّ ضاع من غير تفريط ، أو أبق العبد ، ( بفتح الباء ، يأبق بكسر الباء ، في المستقبل ، اباقا بكسر أوله ) ، من غير تعدّ منه عليه ، لم يكن عليه شي ء ، فإن كان هلاك ما هلك بتفريط من جهته ، كان ضامنا ، وإن كان إباق العبد بتعدّ منه عليه ، كان مثل ذلك ، وإن لم يعلم أنّه كان لتعد منه ، أو لغيره ، وجب عليه اليمين باللّه ، أنّه ما تعدّى فيه ، وبرئت عهدته.

ص: 108


1- النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- ل : غير واضح ولا مستقيم.
3- النهاية : باب اللقطة والضالة.
4- ج : فإذا أورد.
5- المبسوط : ج 3 كتاب اللقطة ، ص 347.

ولا بأس للإنسان أن يأخذ الجعل على ما يجده من الآبق والضوال ، واللقط ، إذا جعل ذلك صاحبه ، وسمّاه وقدره ، كان له ما قدره ، وبذله ، وجعله ، دون ما سواه ، فإن جعل جعلا على ردّه ، ولم يقدر الجعل بتقدير ، وأطلق ذلك ، عاد إطلاقه إلى عرف الشرع ، وتقييده يحمل عليه ، فإن كان عبدا أو بعيرا في المصر ، كان جعله دينارا ، يجعل صاحبه ، وإطلاقه ، وإن كان خارجا من المصر ، فأربعة دنانير ، قيمتها أربعون درهما فضة ، وفيما عدا العبد والبعير ، ليس فيه شي ء موظف ، ولا تقييد عرف الشرع يرجع في إطلاقه إليه ، بل يرجع فيه إلى عرف العادة والزمان ، حسب ما جرت في أمثاله ، فيعطي واجده إيّاه ، فإن لم يجعل صاحبه جعلا لمن ردّه ، لا مطلقا ولا مقيدا فلا يستحق واجده على صاحبه شيئا ، بحال من الأحوال ويجب عليه ردّه على صاحبه ، من غير استحقاق لشي ء ، لقوله عليه السلام : المسلم يردّ على المسلم (1) ، ولقوله عليه السلام : لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه (2).

فلا يظن ظان ، ويتوهم متوهم ، أنّ من رد شيئا من الضوال والآبق واللقط ، يستحق على صاحبه جعلا من غير أن يجعله له ، فانّ ذلك خطأ فاحش ، وقول فظيع ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فإنّه كان يؤدي إلى أنّ البعير يساوي مثلا دينارا ، فردّه وأخذه (3) من خارج المصر ، فإنّه كان يستحق على صاحبه أربعة دنانير ، يأخذها منه بغير اختياره ، وهذا أمر لا يقوله محصل.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه قال في مبسوطة ، في الجزء الثالث ، في كتاب اللقطة : من جاء بضالة إنسان ، أو بآبق ، أو بلقطة ، من غير جعل ، ولم يشرط فيه ، فإنّه لا يستحق شيئا ، سواء كان ضالة ، أو آبقا ، أو لقطة ، قليلا كان ثمنه ، أو كثيرا ، سواء كان معروفا برد الضوال ، أو لم يكن ، وسواء جاء به من

ص: 109


1- الوسائل : كتاب العتق. الباب 1. الحديث 1 إلا ان لفظ الحديث هكذا : « في جعل الآبق المسلم يرد على المسلم ».
2- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، الحديث 5.
3- ج : واجده.

طريق بعيدة ، تقصّر الصلاة اليه (1) أو جاء به من طريق دون ذلك ، ثمّ ذكر بعد هذا القول أقوال المخالفين ، ثم قال : وأول الأقوال أصحّ ، وأقرب إلى السداد ، ثم قال : وقد روى أصحابنا فيمن ردّ عبدا أربعين درهما قيمته أربعة دنانير ، ولم يفصلوا ، ولم يذكروه في غيره شيئا ، ثم قال رحمه اللّه : وهذا على جهة الأفضل ، لا الوجوب ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) وهو الحقّ اليقين.

ولا تدخل الأمة في العبد ، بل لو وجد إنسان أمة ، لم يكن حكمها حكم العبد ، لأنّ القياس عندنا باطل ، ولم ترد الأخبار إلا بالعبد ، والأنثى يقال لها عبدة وامة ، ولا تدخل الإناث في خطاب الذكران ، إلا على سبيل التغليب ، عند بعضهم ، وذلك مجاز ، والكلام في الحقائق ، وليس كذلك البعير ، لأنّ البعير يدخل فيه الذكر والأنثى ، لأنّه بمنزلة الإنسان من ابن آدم ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

ومن وجد شيئا يحتاج إلى النفقة عليه ، فسبيله أن يرفع خبره إلى السلطان ، لينفق عليه من بيت المال ، فإن لم يجده ، وأنفق عليه هو ، وأشهد على ما قلناه ، كان له الرجوع على صاحبه بما أنفقه عليه ، وإن كان ما أنفق عليه قد انتفع بشي ء من جهته ، إمّا بخدمته ، أو ركوبه أو لبنه ، وكان ذلك بإزاء ما أنفق عليه ، لم يكن له الرجوع على صاحبه بشي ء.

والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، أنّه إن كان انتفع بذلك قبل التعريف والحول ، فيجب عليه اجرة ذلك ، وإن كان انتفع بلبن ، فيجب عليه رد مثله ، والذي أنفقه عليه يذهب ضياعا ، لأنّه بغير إذن من صاحبه ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان بعد التعريف والحول ، فإنّه لا يجب عليه اجرة ، ولا ردّ شي ء من الألبان والأصواف ، لأنّه ماله ، بل هو ضامن للعين الموجودة فحسب.

ص: 110


1- ج : الصلاة فيها.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب اللقطة ، ص 333 ، والعبارة في المصدر هكذا : وقد روى أصحابنا فيمن رد أربعين درهما قيمته أربعة دنانير.

إذا وجد لقطة ، وجاء رجل فوصفها ، فإنّه لا يخلو أن يكون معه (1) بينة ، أو لم يكن معه بيّنة ، فإن وصفها ، ومعه بيّنة ، فإنّه يعطيه (2) ، فإن كان معه شاهد واحد ، حلف معه ، وإن لم يكن معه بيّنة ، فإنّه لا يعطيه ، فإن وصفها ولم يكن معه بينة ، ووصف عفاصها ( بالعين غير المعجمة المكسورة ، والفاء ، والصاد غير المعجمة ، وهي الجلدة التي فوق صمام القارورة ، ووكاها ، وهو شدادها ) وذكر وزنها ، وعددها ، وحليتها (3) ، ووقع في قلبه ، وغلب على ظنه أنّه صادق ، يجوز أن يعطيه ، فأمّا اللزوم ، فلا يلزمه الدفع إليه.

وقال قوم شذاذ من غير أصحابنا : يلزمه أن يعطيه ، إذا وصفها ، والأول أصح ، لأنّه لا دلالة على وجوب تسليمها إليه.

فإذا ثبت ذلك ، ووصفها إنسان ، وقلنا يجوز أن يسلّمها إليه ، فأعطاه ، ثم جاء آخر ، وأقام بينة بأنّها له ، انتزعت من الذي تسلّمها ، وأعطيت الذي أقام البيّنة ، لأنه أقام بيّنة ، وليس عليه أكثر من إقامتها ، فإن أقام آخر بينة بأنّها له ، فالذي يقتضيه مذهبنا ، أنّه يستعمل القرعة.

والأقوى عندي أنّه إذا لم يقم البيّنة ، لا يعطيه إيّاها ، سواء غلب في ظنّه صدقه ، أو لم يغلب ، لأنّه لا دليل عليه ، والذمّة اشتغلت بحفاظها وتعريفها ، وإن لا يسلمها إلا إلى صاحبها ، وهذا الواصف ليس بصاحبها ، على ظاهر الشرع والأدلة.

إذا قال : من جاء بعبدي الآبق فله دينار ، فجاء به واحد ، استحق الدينار. وكذلك إن جاء به اثنان ، أو ثلاثة ، وما زاد على ذلك ، ولو قال : من دخل داري فله دينار ، فدخلها اثنان فصاعدا ، استحق كل واحد دينارا ، والفرق بينهما أنّ من قال : من دخل داري فله كذا ، علّق الاستحقاق بالدخول ، وقد وجد من كل واحد منهم ذلك ، فاستحقّه ، وليس كذلك الرد ، لأنّه علّق الاستحقاق بردّه ، ولم

ص: 111


1- ج : يكون له.
2- ل : يعطيه إياه.
3- ج : وجنسها.

يرده كلّ واحد منهم بانفراده ، وانّما جاء به جميعهم ، فبجميعهم حصل المقصود ، فلهم كلهم الأجرة ، لأنّ السبب وجد من جميعهم ، ولم يوجد من كل واحد على الانفراد.

الذمّي إذا وجد لقطة في بلاد الإسلام ، كان حكمه فيها حكم المسلمين سواء.

ومن وجد لقطة ، فإذا عرفها سنة ، فقد أتى بما عليه ، وإن عرف ستة أشهر ، ثم ترك التعريف ، فهل يستأنف ، أو يبني؟ قيل : فيه وجهان ، أحدهما يستأنف ، والآخر يبني عليها ، وهو الأقوى ، لأنّه ليس في الخبر (1) ، أكثر من أن يعرّف سنة ، ولم يقل متوالية ولا متواترة.

فإذا ثبت ذلك ، فالكلام في ثلاثة أشياء ، أحدها وقت التعريف ، والثاني كيفيّة التعريف ، والثالث زمان (2) التعريف.

فأمّا وقت التعريف ، فإنّه يعرف بالغداة ، والعشيّ ، وقت بروز الناس ، ولا يعرف بالليل ، ولا عند الظهيرة ، والهاجرة التي يقبل فيها الناس.

فأمّا كيفية التعريف ، فإنّه يقول من ضاع له لقطة ، أو يقول : من ضاع له دينار ، أو درهم ، أو يقول مبهما ، ولا يفسره وهو الأحوط ، لأنّه ربما طرح عليه إنسان علامة.

فأمّا الزمان (3) ، فإنّه يعرف في الجماعات والجمعات ، ويقف على أبواب الجوامع ، ولا يعرفها داخلها ، فإنّه منهي عنه.

وأقل ما يعرف في الأسبوع ، دفعة واحدة ، ولا يجب عليه التعريف كل يوم ، ولا كل ساعة ، فإن كان ممن يعرف بنفسه ، فعل ، وإلا استعان بغيره ، أو يستأجر من يعرف من ماله ، ولا يرجع على صاحبها به ، لأنّ التعريف واجب عليه.

وأخذ اللقطة عند أصحابنا على الجملة مكروه ، لأنّه قد روي في الأخبار أنّه لا يأخذ الضالة إلا الضالون (4).

ص: 112


1- الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 2.
2- ج : زمان ، الزمان. وهو الظاهر.
3- ج : زمان ، الزمان. وهو الظاهر.
4- لا توجد بعينها في المصادر التي بأيدينا وفي الباب 1 من اللقطة من الوسائل : « لا يؤدي الضالة إلا

ص: 113

كتاب الشهادات

اشارة

قال اللّه تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (1) الآية.

ومعناه إذا تبايعتم بدين ، لأنّ المداينة لا يكون إلى أجل ، إلا في البيع ، وقوله فاكتبوه ، أي اشهدوا ، ثم ذكر الشهادة في ثلاثة مواضع ، فقال ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (2) ثم أمر بالإشهاد على التبايع ، فقال ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (3) ثم توعد على كتمانها ، فقال :

( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (4).

وفي هذا المعنى ، ما روي عنه عليه السلام أنّه قال : من سئل ، عن علم ، فكتمه ، ألجمه اللّه يوم القيمة بلجام من نار (5).

وقال ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (6) إلى قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (7).

ومعنى قوله « فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » يعنى قاربن البلوغ ، لأنّه لا رجعة بعد بلوغ الأجل.

وروي عن ابن عبّاس ، أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله سئل عن الشهادة ، فقال : ترى الشمس ، على مثلها فاشهد ، أودع (8).

فإذا ثبت ذلك ، وتقرر ، فالكلام في ذكر أقسام الحقوق منها ، وجملته أنّ

ص: 114


1- البقرة : 282
2- البقرة : 282
3- البقرة : 282
4- البقرة : 283.
5- سنن ابن ماجة ، الباب 24 ، الحديث 264 و 266.
6- الطلاق : 1 - 2.
7- الطلاق : 1 - 2.
8- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 20 الحديث 3.

الحقوق ضربان ، حق لله ، وحق الآدمي ، فأمّا حقّ الآدمي ، فإنّه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام ، أحدها لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ، وهو ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال ، وتطّلع عليه الرجال ، كالنكاح ، والخلع ، والطلاق والرجعة ، والتوكيل له ، والوصية إليه ، والجناية الموجبة للقود ، والعتق ، والنسب.

والثاني ما يثبت بشاهدين ، وشاهد وامرأتين ، وشاهد ويمين ، وهو كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، فالمال : القرض ، والغصب ، والمقصود منه المال : عقود المعاوضات ، البيع ، والصرف ، والسلم ، والصلح ، والإجارات ، والمساقات ، والضمانات ، والحوالات ، والقراض ، والرهن ، والوقف ، والوصية له لا إليه ، والجناية التي توجب المال ، عمدا كانت أو خطأ كالحائفة والمأمومة ، وقتل الحر عبدا عمدا ، ونحو ذلك.

والثالث ما يثبت بشاهدين ، وشاهد وامرأتين ، وأربع نسوة ، وهو الولادة ، والرضاع عند بعض أصحابنا ، وإن كان الأكثر منهم لا يقبل في الرضاع شهادة النساء ، والاستهلال ، والعيوب تحت الثياب.

فأمّا حقوق اللّه تعالى فجميعها لا مدخل لشهادة النساء ، ولا للشاهد مع اليمين فيها ، وهي على ثلاثة أضرب ، ما لا يثبت إلا بأربعة ، وهو الزنا ، واللواط ، والسحق ، وقد روى أصحابنا ، أنّ الزنا يثبت بثلاثة رجال وامرأتين ، وبرجلين وأربع نسوة (1) ، ونشرح ذلك عند المصير إليه ان شاء اللّه.

والثاني ما لا يثبت إلا بشاهدين ، وهو الردة ، والسرقة ، وحد الحر في شرب المسكر ، وكذا العبد فيه سواء عندنا.

والثالث ما اختلف فيه وهو الإقرار بالزنا ، فإنّه قال قوم : لا يثبت إلا بأربعة ، كالزنا ، وقال آخرون : يثبت بشاهدين ، كسائر الإقرارات ، وهو الأليق

ص: 115


1- الوسائل : كتاب الشهادات الباب 24 الحديث 3 - 4 - 5 - 7 - 10 - 11 - 25 - 28 - 32. والحديث 1 من الباب 30 من أبواب حد الزنا.

بمذهبنا ، والأصحّ من القولين.

وليس عندنا عقد من العقود ، من شرطه الشهادة ، وعند مخالفينا كذلك إلا النكاح وحده عندهم ، وعندنا ليس من شرطه الشهادة.

يحكم بالشاهد واليمين في الأموال عندنا ، سواء كان المال دينا أو عينا ، وكذلك يحكم بشهادة امرأتين ، مع يمين المدّعي ، في ذلك ، عند بعض أصحابنا.

والذي تقتضيه الأدلة ويحكم بصحته النظر الصحيح ، أنّه لا يقبل شهادة امرأتين مع يمين المدّعي ، وجعلهما بمنزلة الرجل في هذا الموضع ، يحتاج إلى دليل شرعي ، والأصل أن لا شرع ، وحملها على الرجل قياس ، وهو عندنا باطل ، والإجماع فغير منعقد ، والأخبار غير متواترة ، فإن وجدت فهي نوادر شواذ ، والأصل براءة الذمم ، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا ، فإنّه يحتاج إلى أدلة قاهرة ، أمّا إجماع ، أو تواتر أخبار ، أو قرآن وجميع ذلك خال منه ، فبقي دليل العقل ، وهو ما اخترناه وحققناه.

تقبل عندنا شهادة القاذف ، إذا تاب وأصلح ، وكيفية توبته من القذف ، هو أن يقول : القذف باطل حرام ، ولا أعود إلى ما قلت.

وقال بعضهم : التوبة ، إكذابه نفسه ، وحقيقة ذلك ، أن يقول : كذبت فيما قلت ، روي ذلك في بعض أخبارنا (1).

والذي قدّمناه هو الصحيح ، لأنّه إذا قال : كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز أن يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال : القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله ، لا أعود إلى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه (2) ويفتقر إلى صلاح العمل بعد ذلك ، وهو أن يعمل طاعة ، هذا الكلام في قذف السب.

وأمّا قذف الشهادة ، فهو أن يشهد بالزنا ، دون الأربعة ، فإنهم فسقة ، فالتوبة هاهنا ، أن يقول : قد ندمت على ما كان منى ، ولا أعود إلى ما أتهم فيه ، فإذا قال

ص: 116


1- الوسائل : كتاب الشهادات الباب 36.
2- ج : ما كان عليه.

هذا زال فسقه ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يراعى صلاح العمل.

ويجوز للحاكم عندنا أن يقول لإنسان : تب أقبل شهادتك ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله أمر بالتوبة ، وكذلك اللّه تعالى. هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (1) ولا أرى بذلك بأسا.

ولا يجوز للشاهد ، ان يشهد ، حتى يكون عالما بما يشهد به ، حين التحمل ، وحين الأداء ، لقوله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (2) وقال تعالى ( إِلّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) ولما قدّمناه من رواية ابن عباس ، عن الرسول عليه السلام قال : سئل عن الشهادة ، فقال للسائل : هل ترى الشمس؟ قال : نعم ، قال : على مثلها فاشهد ، أودع.

ولا يجوز للحاكم أن يقبل إلا شهادة العدل ، فأمّا من ليس بعدل فلا يقبل شهادته ، لقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (4) والعدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال ، متساويا. وأمّا في الشريعة ، فهو كلّ من كان عدلا في دينه ، عدلا في مروته ، عدلا في أحكامه ، فالعدل في الدين ، أن لا يخل بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، وقيل لا يعرف بشي ء من أسباب الفسق ، وهذا قريب أيضا ، وفي المروة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة ، مثل الأكل في الطرقات ، ولبس ثياب المصبغات للنساء ، وما أشبه ذلك. والعدل في الأحكام أن يكون بالغا عاقلا.

وقال شيخنا في مبسوطة : فأمّا إن كان مجتنبا للكبائر ، مواقعا للصغائر ، فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبة المعاصي ، واجتنابه لذلك نادرا ، لم تقبل شهادته ، وقال رحمه اللّه : وانّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر ، لأنّا لو قلنا أنّه لا تقبل شهادة من واقع اليسير من الصغائر أدّى ذلك إلى أن لا تقبل

ص: 117


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، ص 179 ، وفي المصدر : ويجوز للإمام عندنا.
2- الاسراء : 35.
3- الزخرف : 86.
4- الطلاق : 2.

شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي (1).

قال محمد بن إدريس ، رحمه اللّه : وهذا القول لم يذهب إليه رحمه اللّه ، إلا في هذا الكتاب ، أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي ، إلا بالإضافة إلى غيرها ، وما خرجه واستدلّ به ، من أنّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي ، فغير واضح ، لأنّه قادر على التوبة من ذلك الصغير فإذا تاب قبلت شهادته. وليست التوبة مما يتعذر على إنسان ، ولا شك أن هذا القول تخريج لبعض المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ، ونصره ، وأورده على جهته ، ولم يقل عليه شيئا ، لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب.

فأمّا شهادة أهل الصنائع الدنية ، كالحارس ، والحجّام ، والحائك ، والزبال ، وما أشبه ذلك ، فعندنا أنّ شهادتهم مقبولة ، إذا كانوا عدولا في أديانهم ، لقوله تعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ) (2).

كلّ من يجر بشهادته نفعا إلى نفسه ، أو يدفع ضررا عنها ، فانّ شهادته لا تقبل ، فالجار إلى نفسه هو أن يشهد الغرماء للمفلس المحجور عليه ، أو يشهد السيد لعبده المأذون له في التجارة ، والوصي بمال الموصي ، الذي له فيه تصرف ، والوكيل بمال الموكل ، كذلك والشريك لشريكه ، بحق هو شركة بينهما.

والدافع عن نفسه ، هو أن تقوم البيّنة على رجل بقتل الخطأ ، فشهد اثنان من عاقلة الجاني بجرح الشهود ، أو قامت البيّنة بمال على الموكّل ، وعلى الموصي ، فشهد الوكيل والوصي بجرح الشهود ، فلا تقبل الشهادة في هذه المواضع ، وما شاكلها ، لقوله عليه السلام : لا يجوز شهادة خصم ، ولا ظنين (3) ، وهو المتهم ،

ص: 118


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.
2- الحجرات : 13.
3- لا توجد بعينها في المصادر لكن أوردها الشيخ الطوسي « قدس سره » في مبسوطة : ج 8 في باب من لا تقبل شهادته ، ص 219 وفي الوسائل : الباب 30 من أبواب الشهادات : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عمّا يردّ من الشهود فقال : الظنين ، والمتهم ، والخصم » وفي الباب أخبار أخر فراجعه.

وهؤلاء متهمون.

لا تقبل شهادة عدو على عدوه ، والعداوة ضربان ، دينية ودنياوية ، فالدينية لا ترد بها الشهادة ، مثل عداوة المسلم للمشركين ، لا ترد بها شهادتهم ، لأنّها عداوة في الدين ، وهي طاعة وقربة ، فهي واجبة ، وهكذا عداوة الكفّار للمسلمين ، لا ترد شهادتهم بها ، لو كانت وحدها ، وانّما ترد لفسقهم وكفرهم ، لا للعداوة ، ألا ترى انّا نرد شهادتهم بعضهم على بعض ولبعض ، وإن لم يكن هناك عداوة ، وهكذا شهادة أهل الحق لأهل الأهواء الباطلة ، تقبل ، لأنّهم يعادونهم في الدين ، فأمّا العداوة الدنياوية ، فإنّه ترد بها الشهادة ، مثل أن يقذف رجل رجلا ، ثم يشهد المقذوف على القاذف ، ويدّعي أنّ فلانا قطع عليه وعلى رفيقه الطريق ، ثم يشهد عليه ، فان شهادته لا تقبل ، وهكذا إذا شهد الزوج على زوجته ، بعد قذفها بالزنا ، فإنّ شهادته لا تقبل ، وما أشبه ذلك ، من المواضع التي يعلم بحكم العادة ، أنّه يحصل فيها تهمة الشاهد ، فأمّا شهادة العدو لعدوّه ، فإنّها تقبل ، لأنّ التهمة معدومة.

من كان الغالب من حاله السلامة ، والغلط منه نادر ، قبلت شهادته ، وإن كان الغالب الغلط والغفلة ، والسلامة نادرة ، لم تقبل ، لأنّا لو قلنا (1) ذلك ، أدى إلى قبول شهادة المغفلين ، ولو لم تقبل إلا ممّن لا يغلط ، أدّى إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّ أحدا لا يخلو من ذلك ، فاعتبرنا الأغلب.

كلّ من خالف الحق لا تقبل شهادته على ما بيّناه ، فأمّا من يختلف من أصحابنا المعتقدين للحقّ ، في شي ء من الفروع التي لا دليل عليها موجبا للعلم ، فانا لا نرد شهادتهم ، بل نقبلها ، إلا أن يكون على ذلك دليل ظاهر قاطع ، من كتاب أو سنة متواترة ، أو إجماع ، ويخالف فيه ، ويعاند ، ويكابر ، فإنّه ترد شهادته ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) وهو الحق والصواب ، لأنّه فسق الظاهر ،

ص: 119


1- ج : لو قبلنا.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.

وخلاف الأدلة.

الغناء من الصوت ممدود ، ومن المال مقصور ، فإذا ثبت هذا ، فالغناء عندنا محرّم ، يفسق فاعله ، وترد شهادته ، فأمّا ثمن المغنيات ، فليس بحرام إجماعا ، لأنّها تصلح لغير الغناء.

إذا سمع الشاهد رجلا يقر بدين ، فيقول : لفلان علي ألف درهم ، صار السامع به شاهدا بالدين ، قال المقر اشهدوا عليّ بذلك أو لم يقل ، وكذلك إذا شاهد رجلين تعاقدا عقدا ، كالبيع ، والصلح ، والإجارة ، والنكاح ، وغير ذلك ، وسمع كلام العقد ، صار شاهدا بذلك ، وكذلك الأفعال ، كالغصب ، والقتل ، والإتلاف ، يصير به شاهدا ، وكذلك إذا كان بين رجلين خلف في حساب ، فحضرا بين يدي شاهدين ، وقالا لهما قد حضرنا لنتصادق ، فلا تحفظا علينا ما يقر به كل واحد منّا لصاحبه ، ثم حصل من كلّ واحد منهما إقرار لصاحبه بالدين ، صارا شاهدين ، ولا يلتفت إلى تلك المواعدة ، لأنّ الشاهد بالحق ، من علم به ، فمتى علم به ، صار شاهدا.

فأمّا شهادة المختبي فمقبولة عندنا ، وهو إذا كان على رجل دين ، يعترف به سرا ويجحده جهرا ، فاحتال صاحب الدين ، فخبا له شاهدين ، يسمعانه ، ولا يراهما ، ثم جاراه ، فاعترف به ، وسمعاه ، وشهدا به ، صحت الشهادة عندنا ، وخالف في ذلك شريح فقط.

ويعتبر في شهادة النساء الإيمان ، والستر ، والعفاف ، وطاعة الأزواج فيما أوجب اللّه تعالى عليهن طاعتهم ، وترك البذاء بالذال المعجمة ، وهو قول الفحش ، والتبرّج إلى أنديه الرجال ، إلا لحاجة ضروريّة.

ولا يجوز قبول شهادة الظنين ، والمتهم ، وقد قلنا أنّ الظنين هو المتهم ، وإن كان اللفظ مختلفا ، فالمعنى واحد ، وهذا في كلام العرب والقرآن كثير ، والظنين هو المتهم بالزور والخيانة.

ص: 120

ولا شهادة الخصم والخائن ، وقال شيخنا في نهايته : والأجير (1) ، وهذا خبر واحد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، بل شهادة الأجير مقبولة ، سواء كانت على من استأجره ، أوله ، وسواء فارقه ، أو لم يفارقه ، لأنّ أصول المذهب تقتضي قبول هذه الشهادة ، وهو قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (2) وقوله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (3) ولا مانع يمنع من قبول شهادته ، وهذا عدل ، فينبغي أن تقبل شهادته ، فلأنه لا يجرّ بشهادته إليه نفعا ، ولا يدفع عنه ضررا ، ولا يعرف بشي ء من أسباب الفسق ، ولا دليل على ردّ شهادته من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع.

ولا تقبل شهادة الفساق ، إلا على أنفسهم ، وهذا إقرار لا شهادة ، وانّما أوردته على ما وجدته في مصنفات أصحابنا.

ولا تقبل شهادة ماجن ، المجون أن لا يبالي الإنسان بما صنع ، وقد مجن بالفتح يمجن مجونا ، ومجانة ، فهو ماجن ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح (4).

ولا تقبل شهادة فحاش ، وترد شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، وغيرهما من أنواع القمار ، والأربعة عشر ، والشاهين ، بفتح الهاء ، لأنّ ذلك تثنية شاه ، لأنّه كذاب بقوله شاهك مات ، يعنى به أحد اقطاع الشطرنج ، ولغته بالفارسيّة الملك.

ولا بأس بشهادة أرباب الصنائع ، أيّ صنعة كانت ، إذا جمعوا الشرائط المقدّم ذكرها ، وكانت حلالا.

ولا يجوز شهادة من يبتغي على الأذان الأجر ، فأمّا أخذ الرزق عليه دون الإجارة فجائز ، ويكون ذلك من بيت المال ، وكذلك على القضاء. ولا يحل لأحد الأجرة عليهما بحال ، فأمّا الجهاد فيجوز عندنا أخذ الأجرة عليه ، لما رواه أصحابنا (5) فأمّا الصلوات فلا يجوز أخذ الأجرة ، ولا الرزق عليها بحال ، وكذلك الصيام.

ص: 121


1- النهاية ، كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.
2- البقرة : 282.
3- الطلاق : 2.
4- الصحاح.
5- الوسائل : الباب 8 من أبواب جهاد العدو.

ولا يجوز شهادة من يرتشي في الأحكام.

وقد روي (1) أنّه لا يجوز شهادة السائلين على أبواب الدور ، وفي الأسواق ، وان كانت شرائط العدالة فيهم حاصلة ، إلا أنّ ذلك يختص بمن يكون ذلك عادته وصناعته ، ويتخذ ذلك حرفة ، وصناعة ، وبضاعة ، فأمّا من أحوجته ضرورة مجحفة في بعض الأحوال ، فلا ترد شهادته بحال ، لأنّه لا دليل على ذلك ، وقد أعطينا الرواية الواردة بذلك حقّها.

ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة ، المتجملين (2) ، الساترين لأحوالهم ، إذا حصل فيهم شرائط العدالة.

ولا يجوز شهادة ولد الزنا ، لأنّه عند أصحابنا كافر ، بإجماعهم عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن عرفت منه عدالة ، قبلت شهادته في الشي ء الدون (3).

وهذا غير مستقيم ، لأنّه إن كان عدلا ، فتقبل شهادته في الدون وغير الدون ، وإن كان عنده كافرا ، فلا تقبل شهادته ، لا في الدون ولا غير الدون ، وانّما هذا خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز شهادة الشريك لشريكه ، فيما هو شريك فيه ، ولا بأس بشهادته له فيما ليس بشريك له فيه.

ومن قطع به الطريق ، فأخذ المأخوذون اللصوص ، فشهد بعض المأخوذين لبعض على اللصوص ، لم يقبل شهادتهم ، لأنّهم خصوم ، وكذلك إن شهد بعض اللصوص على بعض ، لأنّهم فسقة إلا أن يشهد غيرهم عليهم ، أو يقرّ اللصوص ، فيحكم بالإقرار على من أقر.

ولا بأس بشهادة الوصي على من هو وصيّ له ، إلا أنّه يحلف الخصم ، إذا كان مع الوصي غيره من أهل الشهادة ، أو لم يكن معه سواه ، لأنّها شهادة على

ص: 122


1- الوسائل : الباب 35 من أبواب الشهادات.
2- ج : المتحملين.
3- النهاية : كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.

ميّت ، وهو لا يعبر عن نفسه ، ولما رواه أصحابنا (1).

ولا بأس بشهادته فيما لا يكون له فيه (2) ولاية ولا تصرّف ، على ما قدّمنا القول فيه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا بأس بشهادة الوصيّ على من هو وصيّ له (3). غير أن ما يشهد به عليه ، يحتاج أن يكون معه غيره ، من أهل العدالة ، ثم يحلف الخصم على ما يدعيه به ، وما يشهد للورثة مع غيره من أهل العدالة ، لم يجب مع ذلك يمين ، وأطلق ذلك إطلاقا ، وتحريره ما ذكرناه.

ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات ، في الخلق ، بكسر الخاء وفتح اللام ، لأنّ ذلك جمع خلقه ، إذا كانوا من أهل العدالة.

ولا بأس بشهادة الأعمى ، إذا حقق ، ولم تكن شهادته فيما يعتبر الرؤية فيه ، إلا أن يكون قد شهد عليه في حال الصحة ، ثم عمى بعد ذلك ، فيجوز شهادته بذلك بعد العمى.

ولا بأس بشهادة الأصم ، وقد روي أنّه يؤخذ بأوّل قوله ، ولا يؤخذ بثانيه (4).

ولا بأس بشهادة الضيف ، إذا كان من أهلها.

وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، سواء كان مليا أو كافرا ، أو مطيعا كان أو عاصيا ، وعلى كلّ حال إلا أن يكون عبدا ، فإنّه لا يقبل إقراره على نفسه ، لا في مال ، ولا على بدن ، لأنّ إقراره على نفسه إقرار على الغير ، لأنّه لا يملك من نفسه شيئا ، ولا يقبل إقرار الغير على الغير ، فإن لحقه العتاق بعد الإقرار ، ألزم بما أقر ، لأنّ في الأوّل منع ، لأنّه إقرار على سيده ، والآن لا مانع منه ، لأنّ حق سيّده قد زال عنه.

والفاسق إذا شهد على غيره في أمر من الأمور ، ما خلا الطلاق ، ثم أقام الشهادة ، وهو عدل ، قبلت شهادته ، وكذلك الكافر ، واستثنينا الطلاق ، لأنّ

ص: 123


1- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 28 ح 1.
2- ج : له عليه.
3- ج : له وله.
4- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 42 ح 3.

جميع ما يشهد به الشاهد المراعى في العدالة ، والقبول للشهادة ، وقت الأداء ، دون وقت التحمل ، إلا الطلاق فإنّه يحتاج إلى العدالة وقت التحمّل ، ووقت الأداء.

ويقبل شهادة المتخذ للحمام ، غير اللاعب بها ، والمسابق ، والمراهن عليها ، إذا لم يعرف منه فسق.

وقول شيخنا في نهايته : وتقبل شهادة من يلعب بالحمام (1) غير وضح ، لأنّه سمّاه لاعبا ، واللعب بجميع الأشياء قبيح ، فقد صار فاسقا بلعبه ، فكيف تقبل شهادته؟ وانّما أورد لفظ الحديث إيرادا ، لا اعتقادا ، وإن كان المقصود باللعب ما ذكرناه ، وهو اتخاذها للأنس ، وحمل الكتب ، دون اللعب.

ولا بأس بشهادة المراهن في الخف ، لأنّ المسابقة عليه جائزة ، ويدخل في الخف الفيل أيضا.

ولا بأس بشهادة المراهن في الحافر ، لأنّه مأمور بذلك ، ومحلل ، ويدخل فيه الفرس والبغل والحمار ، وكذلك المراهن في الريش ، يعني النشاب ، لأنّه من النصال ، وكذلك النصل.

وقد يتوهم بعض من لا بصيرة له بهذا الشأن ، أنّ المراد بذلك الطيور ، في قوله : « المراهن في الريش لا بأس بقبول شهادته » وهذا خطأ فاحش ، لأنّ الرمي والمسابقة لم ترد ، إلا في الحافر ، والخف ، والنصل ، فالنصل يدخل فيه النشابة ، التي هي للعجم ، والسهم الذي هو للعرب ، والحراب ، والمزاريق ، وما عدا ذلك ، فهو قمار يفسق فاعله به.

فأمّا إنشاد الشعر فهو مباح ، لا ترد شهادة فاعله ، ما لم يكن فيه هجر ، ولا فحش ، ولا تشبيب بامرأة ، ولا هجاء من لا يستحق الهجاء.

روى جابر بن سمرة قال : كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أكثر من مائة مرة ، فكان أصحابه ينشدون الأشعار ويذكرون أخبار الجاهليّة قديما (2).

ص: 124


1- النهاية : كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.
2- المبسوط : ج 8 ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ص 225 - 226.

وروى عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : أردفني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فقال : هل معك من شعر أميّة بن أبي الصلت شي ء؟ قلت : نعم ، قال : هيه ، فأنشدته بيتا ، فقال : هيه ، فأنشدته ، حتّى بلغت مائة بيت (1).

هيه ، معناه الحث والاستزادة ، وأصله أية وإذا زجرت ، قلت ايها ، وإذا أغريت (2) قلت ويها ، وإذا تعجبت قلت واها.

وروي أنّه عليه السلام كان في وليمة ، فسمع عجوزا تنشد :

أهدى لها (3) اكبشا تبجبج في المريد *** زوجك ذا في الندى يعلم ما في غد

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أورد هذا جميعه شيخنا في مبسوطة (4) ، وتبجبج ، بالباء المنقطة ، من تحتها نقطة واحدة ، بالجيمين ، وبالباء بين الجيمين ، ومعناه تتفتق بالسمن ، يقال بجّها الكلاء ، إذا فتقها بالسمن ، فأوسع خواصرها ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح (5) فضبطت ذلك لئلا يجرى فيه تصحيف ، وقال صاحب كتاب البارع : تبحبح بحائين غير معجمتين ، أي تتسع من السمن.

باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها وما في ذلك من الأحكام

لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة ، إذا دعي إليها ليشهد ، إذا كان من أهلها ، إلا أن يكون حضوره مضرّا بشي ء من أمر الدين ، أو بأحد من المسلمين.

وأمّا الأداء فإنّه في الجملة أيضا من الفرائض ، لقوله تعالى ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (6) وقال ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (7).

وقد يستشهد بعض أصحابنا بهذه الآية الأخيرة على وجوب التحمل ، وعلى

ص: 125


1- 1المبسوط : ج 8 ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ، ص 225 - 226.
2- ل : اغربت.
3- ج : لنا.
4- 1المبسوط : ج 8 ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ، ص 225 - 226.
5- الصحاح :
6- البقرة : 283.
7- البقرة : 282.

وجوب الأداء ، والذي يقوى في نفسي ، أنّه لا يجب التحمل ، وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها ليتحملها ، إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه ، وما ورد في ذلك (1) فهو أخبار آحاد ، فأمّا الاستشهاد بالآية ، والاستدلال بها على وجوب التحمل ، فهو ضعيف جدا ، لأنّه تعالى سمّاهم شهداء ، ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها ، وانما يسمّى شاهدا بعد تحملها ، فالآية بالأداء أشبه.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (2).

فإن قيل : سمّاهم شهداء لما يؤولون إليه من الشهادة ، كما يقولون لمن يريد الحج : حاجي ، وإن لم يحج ، وكما قال تعالى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) (3) أي انّك ستموت.

قلنا : هذا مجاز ، والكلام في الحقيقة غير الكلام في المجاز ، فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز ، من غير ضرورة ، ولا دليل ، والكلمة إذا كانت مشتقة من الفعل ، فلا تسمّى به إلا بعد حصول ذلك الفعل ، لأنّ الضارب والقاتل ، لا يسمّيان بذلك ، إلا بعد حصول الحدث المخصوص منهما.

إذا كان هناك خلق قد تحملوا الشهادة ، فالأداء واجب عليهم. فكلّ من دعي منهم لإقامتها ، وجب عليه ذلك لقوله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (4).

فإذا حضر الشاهد ، فلا يجوز له أن يشهد إلا على من يعرفه ، فإن أراد أن يشهد على من لا يعرفه ، فليشهد بتعريف من يثق الى ديانته ، من رجلين عدلين عند أصحابنا ، فأمّا الواحد والنساء ، فلا يشهد بتعريفه ، ولا تعريفهن ، لأنّه لا دليل على ذلك ، فإذا أقام الشهادة ، أقامها كذلك ، وإذا اشهد على امرأة ، وكان يعرفها بعينها ، جاز له أن يشهد عليها ، وإن لم ير وجهها ، فإن شك في حالها ، لم يجز له أن يشهد عليها إلا بعد أن تسفر عن وجهها ، ويثبتها معرفة ، فإن عرفها من يثق

ص: 126


1- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 1.
2- المبسوط : ج 8 فصل فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة ، ص 186.
3- الزمر : 30.
4- البقرة : 282.

بديانته من العدلين ، جاز له الشهادة عليها ، وإن لم تسفر عن وجهها.

ويجوز أن يشهد الإنسان على الأخرس ، إذا كانت له كناية معقولة ، واشارة مفهومة ، فعرف من إشارته الإقرار ، ويقيم شهادته كذلك ، ولا يقيمها بمجرّد الإقرار بالكلام ، لأنّ ذلك كذب.

ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر ، غير أنّه ينبغي أن يشهد رجلان عدلان ، على شهادة رجل واحد ، ليقوما مقامه ، فأمّا واحد ، فلا يقوم مقام واحد ، وذلك لا يكون أيضا إلا في حقوق الآدميّين ، من الديون ، والأملاك ، والعقود ، فأمّا الحدود ، فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة.

ولا يجوز شهادة على شهادة على شهادة ، في شي ء من الأشياء.

ومن شهد على شهادة آخر ، وأنكر الشهادة الشاهد الأول الأصلي ، روي أنّه تقبل شهادة أعدلهما (1) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (2) فإن كانت عدالتهما سواء ، طرحت شهادة الشاهد الثاني.

وقال ابن بابويه من أصحابنا ، في رسالته : تقبل في هذه الحال شهادة الثاني ، وتطرح شهادة الأوّل.

وهذا غير مستقيم ولا واضح ، بل الخلاف والنظر في أنّه تقبل شهادة أعدلهما ، فكيف تقبل في الثاني ، وهو فرع الأوّل الأصلي ، فإذا رجع عن شهادته ، فالأولى أن تبطل شهادة الفرع ، ولأنّ الفرع يشهد على شي ء لا يحققه ، أعني نفس الحق المشهود به ، فكيف ينتزع الحاكم المال بهذه الشهادة ، وهو ما شهد عنده على نفس الحقّ من علمه ، ولا قطع عليه يقينا ، أعني الشاهد الذي هو الفرع ، ولا خلاف أنّ الفرع يثبت بشهادة الأصل بلا شبهة ، وهكذا إذا فسق الأصل ، بطلت شهادة الفرع.

ص: 127


1- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 46 من أبواب الشهادات.
2- النهاية : باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.

وذكر شيخنا في مبسوطة ، قال : فإن سمع الحاكم من الفرع ، في الموضع الذي يسوغ له أن يسمع ويحكم بشهادته ، ثمّ تغيرت حال الأصل ، كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل نفسه ، تغيرت حاله ، فإن عمى الأصل ، أو خرس ، حكم بشهادة الفزع ، لأنّ الأصل لو شهد ، ثم عمى ، أو خرس ، حكم بشهادته ، وإن فسق الأصل ، لم يحكم بشهادة الفرع ، لأنّه لو سمع من الأصل ، ثم فسق ، لم يحكم بشهادته ، لأنّ الفرع يثبت بشهادة الأصل ، فإذا فسق الأصل ، لم يبق هناك ما يثبته ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

وأيضا فإذا رجع الأصل ، وأنكر ، صار فاسقا ، كذابا ، عند الفرع ، فكيف يشهد على شهادة فاسق ، وكيف له ، ان يصدّقه ، ويشهد على شهادته ، وهو لا يأمن أن يكون في الأول كاذبا ، كما كان عند إنكاره لشهادة الفرع كاذبا.

وأيضا الحاكم إذا رجع الشاهد ، قبل الحكم بشهادته ، لم يحكم بها بغير خلاف.

وأيضا الأصل أن لا حكم ولا شهادة ، وبقاء الأموال على أربابها ، وهذا حكم شرعيّ ، فمن ادّعى إثباته ، يحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل على ذلك من كتاب اللّه تعالى ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل معنا ، وهو نفي الأحكام الغير المعلومة بأدلة العقول ، إلى أن يقوم دليل سمعي على إثباتها.

وأيضا قوله ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (2) يشيّد ذلك ، ويعضده.

وأيضا فالصحيح من أقوال أصحابنا المحصّلين ، أن شهادة الفرع ما يجوز ، إلا بعد تعذر حضور شاهد الأصل ، وفي هذه المواضع شاهد الأصل حاضر ، فلا يجوز قبول شهادة الفرع ، فليلحظ ذلك.

لا مدخل للنساء في الشهادة على الشهادة ، سواء كان الحق ممّا يشهد فيه

ص: 128


1- المبسوط : ج 8 ، فصل في الشهادة على الشهادة ، ص 233.
2- الاسراء : 35.

النساء ، أو لا يشهدن فيه.

إذا شهد شاهد الفرع على شهادة الأصل ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إما أن يسميا الأصل ويعدلاه ، أو يعدلاه ولا يسمياه ، أو يسمّياه ولا يعدّلاه.

فإن سمياه وعدّلاه ، ثبتت عدالته وشهادته ، لأنّهما عدلان.

وإن عدّلاه ولم يسمّياه ، لم يحكم بقولهما.

وإن سمّياه ولم يعدّلاه ، سمع الحاكم هذه الشهادة ، وبحث عن عدالة الأصل ، فإن ثبتت عدالته ، حكم ، وإلا وقف.

ويصير شاهد الفرع متحملا لشهادة شاهد الأصل بأحد أسباب ثلاثة :

أحدها : الاسترعاء ، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع : أشهد أن لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان درهما ، فاشهد على شهادتي ، فهذا هو الاسترعاء.

الثاني : أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل ، يشهد بالحق عند الحاكم ، فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم ، صار متحملا لشهادته.

الثالث : أن يشهد الأصل بالحقّ ويعزيه (1) إلى سبب وجوبه ، فيقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان ، ألف درهم ، من ثمن ثوب ، أو عبد ، أو دار ، أو ضمان ، ونحو هذا ، فإذا عزاه إلى سبب وجوبه ، صار متحملا للشهادة.

فأمّا إن لم يكن هناك استرعاء ، ولا سمعه يشهد عند حاكم (2) ، ولا عزاه إلى سبب وجوبه ، مثل أن سمعه يقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان ، درهما ، فإنّه لا يصير بهذا متحملا للشهادة على شهادته ، لأنّ قوله : اشهد بذلك ، ينقسم إلى الشهادة بالحق ، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به ، وهو أن يسمع الناس ، يقولون لفلان على فلان كذا وكذا ، وقف التحمل لهذا

ص: 129


1- ج : يعزوه.
2- ل : عند الحاكم به ج : عند الحاكم.

الاحتمال ، فإذا حقق ما قلنا زال الإشكال.

وهذا جميعه أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) فأوردناه على ما أورده ، ولم يرد في أخبارنا من هذا شي ء.

ولا بأس بالشهادة على الشهادة ، وإن كان الشاهد الأوّل حاضرا غير غائب ، إذا منعه من إقامة الشهادة مانع ، من مرض ، وغيره.

ومن رأى في يد غيره شيئا ورآه يتصرف فيه تصرف الملاك. جاز له أن يشهد بأنّه ملكه ، كما أنّه يجوز له أن يشتريه على أنّه ملكه ، وفقه ذلك ، أنّه كما يجوز أن يشتريه ، ثمّ يدّعيه بعد الشراء ملكا له ، فلو لا أنّه كان يجوز له أن يشهد له بالملك المطلق ، لما جاز له أن يدّعيه ملكا له ، بعد شرائه منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فأمّا الشهادة باليد فلا شبهة في جوازها ، وقال بعضهم : يشهد له بالملك ، وقال : لأنّه لمّا صحّ أن يشهد على بيعه ما في يديه ، صح أن يشهد له بالملك ، قال رحمه اللّه : وروى أصحابنا أنه يجوز له أن يشهد بالملك ، كما يجوز أن يشتريه ثمّ يدّعيه ملكا له ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (2).

ولا بأس أن يشهد الإنسان على مبيع ، وإن لم يعرفه ولا عرف حدوده ولا موضعه ، إذا عرف البائع والمشتري ذلك ، ويكون شاهدا على إقرارهما بوصف المبيع.

وقد روي أنّه يكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد ، لئلا تلزمه إقامتها ، فربما ردت شهادته ، فيكون قد أذلّ نفسه (3) وفقه هذا الرواية ، أنّه انّما يكره له أن يحتمل له شهادة ابتداء ، فأمّا إن تحملها ، فالواجب عليه أداؤها وإقامتها ، إذا دعي إلى ذلك ، عند من دعا إلى إقامتها عنده ، سواء ردّها أو لم يردّها ، قبلها أو لم يقبلها ، بغير خلاف ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (4).

ص: 130


1- المبسوط : ج 8 ، فصل في الشهادة على الشهادة ، ص 231.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في التحفظ في الشهادة ، ص 182.
3- الوسائل : الباب 53 من كتاب الشهادات.
4- البقرة : 283.

ومتى دعي الإنسان لإقامة شهادة ، لم يجز له الامتناع منها على حال ، إلا أن يعلم أنّه إن أقامها أضرّ ذلك بمؤمن ضررا غير مستحق بأن يكون عليه دين ، وهو معسر ، ويعلم (1) إن شهد عليه حبسه الحاكم ، فاستضر به هو وعياله ، لم يجز له إقامتها.

وإذا أراد إقامة شهادة ، لم يجز له أن يقيم (2) إلا على ما يعلمه ويتيقنه ، ويقطع عليه ، ولا يعول على ما يجد خطه به مكتوبا ، أو خاتمه مختوما ، لما قدّمناه من قوله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (3) وقول الرسول عليه السلام ، لما سئل عن الشهادة ، فقال للسائل : فهل ترى الشمس ، على مثلها فاشهد أودع (4) ، وما روي عن الأئمة الأطهار ، في مثل هذا المعنى أكثر من أن تحصى ، قد أورد بعضه شيخنا أبو جعفر في استبصاره (5).

وقال شيخنا في نهايته : وإذا أراد إقامة الشهادة ، لم يجز له أن يقيم إلا على ما يعلم ، ولا يعوّل على ما يجد خطه به مكتوبا ، فإن وجد خطه مكتوبا ، ولم يذكر الشهادة ، لم يجز له إقامتها ، فإن لم يذكر ، وشهد معه آخر ثقة ، جاز له حينئذ إقامة الشهادة (6).

وهذا غير صحيح ولا مستقيم ، لما قدّمناه من القران والأخبار والإجماع ، ولا يلتفت الى خبر ضعيف قد أورده إيرادا لا اعتقادا ، فإنّه رحمه اللّه رجع عن قوله في نهايته في استبصاره (7) ، وأورد الأخبار المتواترة ، في أنّ الإنسان لا يجوز له أن يقيم ، إلا بعد الذكر الشهادة ، ولا يجوز له أن يعوّل على خطه وخاتمه ، ثم أورد بعد ذلك في آخر الباب خبرا خبيئا ، ضعيفا شاذا مخالفا لأصول مذهب أهل البيت عليهم السلام ، موافقا لمذاهب أهل الغلو والإلحاد ، وهو عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يشهدني على الشهادة (8) ، فأعرف

ص: 131


1- ل : يعلم انه.
2- ل : يقيمها.
3- الاسراء : 36.
4- الوسائل : الباب 20 من كتاب الشهادات ، ح 3.
5- الاستبصار : الباب 16 من الشهادات.
6- النهاية : باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.
7- الاستبصار : الباب 16 من الشهادات.
8- ج : على الشي ء.

خطي وخاتمي ، ولا أذكر من الباقي قليلا ولا كثيرا ، قال : فقال لي إذا كان صاحبك ثقة ، ومعه رجل ثقة ، فاشهد له ، قال شيخنا أبو جعفر في استبصاره : فهذا الخبر ضعيف مخالف للأصول كلّها ، قال : لأنّا قد بيّنا أن الشهادة لا يجوز إقامتها ، إلا مع العلم ، ثم قال : وقد قدّمنا أيضا الأخبار التي تقدّمت ، من أنّه لا يجوز إقامة الشهادة مع وجود الخط والختم ، إذا لم يذكرها ثم تأوّله تأويلا نربأ به (1) عن مثله ، ثم قال بعد تأويله واعتذاره الذي يحتاج إلى اعتذار ، وإن كان الأحوط ما تضمنه الأخبار الأوّلة.

قال محمّد بن إدريس : ثم هذا يؤدّى إلى أن يشهد الإنسان ، لأخيه الثقة بقوله ، فيكون مصيرا إلى مذهب ابن أبي العزاقر الغالي ، الذي أودعه كتابه كتاب التكليف ، وهو معروف ، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في فهرست المصنفين (2) وقال : أروي الكتاب ، وذكر من رواه عنه ، واستثنى هذا الحديث ، فإنّه قال : أرويه إلا حديثا واحدا ، وهو أنّه يجوز أن يشهد الإنسان لأخيه بقوله ، نعوذ باللّه من سوء التوفيق ومن هذا القول ، ثم وأي علم يحصل له إذا شهد معه آخر ثقة ، ولم يذكر هو الشهادة ، فهذا يكون شاهدا على شهادته ، وهو حاضر ولا يجوز الشهادة على الشهادة ، إلا إذا تعذر على شاهد الأصل الحضور ، وهاهنا شاهد الأصل حاضر ، وأيضا فلا بد من أن يكونا اثنين ، حتى يقوما مقامه ، وهاهنا شاهد الفرع واحد ، فهذا القول فاسد ، بحمد اللّه تعالى من كلّ الأحوال ، وعلى سائر الأقوال.

ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثم دعي إلى أن يشهد ، فالواجب عليه الأداء ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (3) ولا يكون بالخيار في إقامتها.

ص: 132


1- ل : بريئا به ج : يربى به.
2- الفهرست : ص 146 ، الرقم 616.
3- البقرة : 283.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثم دعي إلى أن يشهد ، كان بالخيار في إقامتها ، وفي الامتناع منها ، اللّهم إلا أن يعلم أنّه إن لم يقمها بطل حقّ مؤمن ، فحينئذ يجب عليه إقامة الشهادة (1) ، ولا يجوز للشاهد ، أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة ، كما لا يجوز له كتمانها ، وقد دعي إلى إقامتها ، إلا أن يكون إقامتها تودي إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقه ، على ما قدّمناه ، فإنّه لا يجوز له حينئذ إقامة الشهادة ، وإن دعي إليها ، أو يكون فيما قلنا أنّه لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة ، ترك شهادته يبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، فيجوز له ، بل يجب عليه أن يشهد به ، قبل أن يسأل عن الشهادة.

وشيخنا في النهاية قد أورد المسألتين ، واستثنى استثناءين عقيبهما ، فيهما التباس وإيهام ، لأنّ استثناء المسألة الأولة عقيب المسألة الثانية ، واستثناء المسألة الثانية عقيب (2) المسألة الأوّلة ، فلا يفهم بأوّل خاطر ، بل يحتاج إلى تأمل ، ورد الاستثناء الأوّل إلى المسألة الأولة ، ورد الاستثناء الأخير إلى المسألة الثانية ، وقد زال الالتباس والإبهام ، فكم من معنى ضاع ، لقصور العبارة ، ولسوء الإشارة ، فاني شاهدت جماعة من أصحابنا يلتبس هذا عليهم كثيرا ، وهذا سهل على المتأمّل المحصل لمعاني الخطاب ، وكلام العرب فإنّهم يلقون الجملتين المختلفتين ، ثم يرمون بتفسيرهما جملة ، ثقة بأن يردّ السامع إلى كلّ جملة خبرها ، كقوله تعالى ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) (3) والسكون باللّيل ، وهو عقيب النهار.

ص: 133


1- النهاية : كتاب الشهادة ، باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.
2- ج : عقيب استثناء.
3- القصص : 73.

باب شهادة الولد لوالده وعليه والوالد لولده وعليه والمرأة لزوجها وعليه ، والزوج لزوجته وعليها

لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه ، مع غيره من أهل الشهادة ، ولا بأس بشهادة الولد لوالده ، ولا يجوز شهادته عليه.

وقال السيد المرتضى في انتصاره يجوز أيضا شهادته عليه (1) والأول هو المذهب ، وعليه العمل ، والإجماع منعقد عليه ، ولا اعتبار بخلاف من يعرف باسمه ونسبه.

ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه ، إذا كان معه غيره من أهل الشهادات.

ولا بأس بشهادة الرجل لامرأته وعليها ، إذا كان معه غيره من أهل العدالة.

ولا بأس بشهادتها له وعليه ، فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه ، إذا كان معها غيرها من أهل العدالة ، وقولنا في جميع ذلك إذا كان معه غيره من أهل العدالة ، على ما أورده بعض أصحابنا ، وإلا إذا لم يكن معه غيره ، يجوز أيضا شهادته له ، مع يمين المدّعي فيما يجوز قبول شهادة الشاهد الواحد مع اليمين.

ويجوز شهادات ذوي الأرحام والقرابات ، بعضهم لبعض ، إذا كانوا عدولا إلا ما استثنيناه ، والسيد المرتضى رحمه اللّه قال من غير استثناء لأحد ، على ما حكيناه عنه قبل هذا.

فإن قيل : وما بالكم استثنيتم.

قلنا : قد دللنا على أن الإجماع منعقد على ذلك.

فإن قيل : فأين أنتم من قوله تعالى ( وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ ) (2).

ص: 134


1- الانتصار : مسائل القضاء والشهادات .. المسألة 3.
2- النساء : 135.

قلنا : قد يخص العموم بالأدلة ، وإجماعنا من أعظم الأدلة ، وأقواها ، ويمكن أن يعطى الظاهر حقّه ، ونقول يجب على الولد أن يقيم الشهادة على والده ، ولا يجوز للحاكم أن يعمل بها ، كما أنّ الفاسق إذا دعي لإقامة شهادة يشهد بها ، فإنّه يجب عليه أن يقيمها ، ويجب على الحاكم أن لا يعمل بها.

باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبن والصبيان وأحكامهم

لا بأس بشهادة العبيد إذا كانوا عدولا ، لساداتهم ، ولغير ساداتهم ، وعلى غير ساداتهم ، ولا يجوز شهادتهم على ساداتهم.

وذهب أبو عليّ بن الجنيد من أصحابنا إلى المنع من شهادة العبيد على كلّ حال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره إلى أن العبد لا تقبل شهادته لسيده ولا عليه (1) ، وإن كان قائلا بما اختبرناه في نهايته (2) ، وهو الصحيح ، والإجماع منعقد من أصحابنا على ما قلناه أولا ، ولا اعتبار بخلاف ابن الجنيد لما قدّمناه.

وإذا شهد ، العبد على سيده بعد أن يعتق ، قبلت شهادته عليه.

وإذا أشهد رجل عبدين له على نفسه بالإقرار بوارث ، فردّت شهادتهما ، وحاز الميراث غير المقر له ، فأعتقهما ، أو لحقهما العتاق بعد ذلك ، ثم شهدا للمقر له ، قبلت شهادتهما له ، ورجع بالميراث على من كان أخذه وحازه ، ورجعا عبدين لمن شهدا له.

فإن قيل : أنتم قلتم لا يقبل شهادة العبيد على ساداتهم ، وهاهنا قد قبلتم شهادتهم على سيدهم.

قلنا : معاذ اللّه انّما شهدا في حال الحرية ، دون العبوديّة ، فوقت شهادتهما ، لم

ص: 135


1- الاستبصار : الباب 11 من الشهادات.
2- النهاية : باب شهادة العبيد والإماء ..

يكن لهما سيد يشهدان عليه ، وانّما تجدد الرق بعد شهادتهما ، بل إن قيل شهدا لسيدهما الحقيقي ، كان صحيحا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن ذكرا أنّ مولاهما كان أعتقهما في حال ما أشهدهما ، لم يجز للمقر له أن يردهما في الرق ، ويقبل شهادتهما في ذلك ، لأنّهما أحييا حقّه (1).

وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّ هذه الشهادة الأخيرة تكون شهادة (2) على سيدهما ، وقد بيّنا أنّه لا يجوز شهادة العبيد على ساداتهم ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن كان قد ذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره متأولا للأخبار ، إلى أنّ شهادة العبيد لا تقبل لساداتهم ، وهذا أيضا غير مستقيم ولا واضح ، بل الإجماع منعقد على جواز شهاداتهم لساداتهم ، وهو موافق لهذا القول في نهايته ، فلا يلتفت إلى قوله الذي يخالف فيه الإجماع.

ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبرين ، وتقبل شهادة المكاتبين المطلقين ، بمقدار ما عتقوا ، بفتح العين ، يقال عتق العبد في نفسه ، وأعتقه غيره على ساداتهم ، ولي فيه نظر.

فأمّا شهادة المدبرين ، فحكمهم حكم العبيد في الشهادات ، حرفا فحرفا.

وكل من ذكرنا من العبيد والمكاتبين والمدبرين ، تقبل شهاداتهم على أهل الإسلام ، إلا من استثنيناهم من ساداتهم ، ولأهل الإسلام ، ولمن خالف الإسلام ، من الأحرار والعبيد ، في سائر الحقوق والحدود ، وغير ذلك مما تراعى فيه الشهادة.

وتجوز شهادة الصبيان دون الصبايا ، إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا ، إلى أن يبلغوا في شيئين فحسب ، الشجاج والقصاص ، ويؤخذ بأوّل كلامهم ، ولا يؤخذ بآخره ، ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من جميع الأحكام.

ص: 136


1- النهاية : باب شهادة العبيد والإماء ..
2- ج : تكون شهادتهما.

وإذا أشهد الصبي على حق ثم بلغ وعدل ، وذكر ذلك ، جاز له أن يشهد بذلك ، وقبلت شهادته ، إذا كان من أهلها ، على ما قدّمناه.

باب شهادة النساء

شهادة النساء على ثلاثة أضرب : ضرب لا يجوز قبولها على وجه ، وضرب يجوز قبولها إذا انضم شهادة الرجال إليهن وضرب يجوز قبولها ، وإن لم ينضم شهادة الرجال إليهن.

فالأول رؤية الأهلّة ، والطلاق ، والرضاع ، على ما قدّمناه أولا ، وذكرناه ، فإنّه لا يجوز قبول شهادة النساء في ذلك ، وإن كثرن.

والثاني فكالرجم ، فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان ، على رجل بالزنا ، قبلت شهادتهم ، ووجب على المشهود عليه الرجم ، إن كان محصنا.

وإن شهد رجلان وأربع نسوة بذلك ، قبلت أيضا ، إلا أنّه لا يرجم المشهود عليه ، إن كان محصنا بل يحد حدّ الزاني غير المحصن.

فإن شهد رجل وست نساء أو أكثر منهن ، لم يجز قبول شهادتهم ، وجلدوا كلهم حد الفرية.

وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزنا ، وانّ الفعل كان في قبلها ، فادّعت انّها بكر ، أمر النساء بأن ينظرن إليها ، فإن كانت كما قالت ، درئ عنها الحد ، وجلد الأربعة حدّ الفرية ، وإن لم يكن كذلك ، رجمت ، أو حدّت على ما يوجبه حالها ، فأمّا أن يشهد الأربعة رجال ، بأنّ الفعل كان في دبرها ، فدعواها غير نافعة لها ، وإن شهد لها بما ادّعت.

وشيخنا أطلق ذلك في نهايته إطلاقا (1) والأولى تقييده على ما حررناه.

ويجوز شهادتهن منضمات إلى الرجال ، في القتل ، والقصاص ، إذا كان

ص: 137


1- النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة النساء.

معهن رجال ، فأمّا إن كان رجل واحد معهن ، بأن يشهد رجل وامرأتان ، على رجل بالقتل ، أو الجراح ، فقد ذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى قبولها (1).

والذي يقوى في نفسي خلاف ذلك ، وانّها غير مقبولة ، لأنّه لا دليل عليه من إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنة مقطوع بها.

فأمّا شهادتهن على ذلك على الانفراد ، فإنّها لا تقبل على حال.

فأمّا قول شيخنا في نهايته ، على ما أوردناه عنه إذا كان معهن رجال ، فلا وجه لانضمامهن إليهم في ذلك ، لأنّ الرجال يكفون ، ولا حاجة في تصحيح الشهادة وإتمامها بهن.

وتقبل شهادتهن في الديون مع الرجال ، بغير خلاف ، على ما نطق به القران (2) ، وعلى الانفراد عند بعض أصحابنا ، فإن شهد رجل وامرأتان بدين ، قبلت شهادتهم ، فإن شهد امرأتان ، قبلت شهادتهما ، ووجب على الذي يشهد ان له اليمين كما تجب اليمين ، إذا شهد له رجل واحد ، عند بعض أصحابنا على ما قدمناه.

فأمّا ما يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد ، فكل ما لا تستطيع الرجال النظر اليه ، مثل العذرة والأمور الباطنة بالنساء.

وتقبل شهادة القابلة وحدها ، إذا كانت بشرائط العدالة ، في استهلال الصبي ، في ربع ميراثه بغير يمين.

وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية ، وشهادة امرأتين ، في نصف ميراث المستهل ، ونصف الوصية ، ثم على هذا الحساب ، وذلك لا يجوز إلا عند عدم الرجال ، وعلى المسألتين إجماع أصحابنا ، فلأجله قلنا بذلك.

ولا يجوز شهادة النساء في شي ء من الحدود ، إلا ما قلناه ، من حدّ الزنا ، والدم خاصّة ، لئلا يبطل دم امرء مسلم ، غير أنّه لا يثبت بشهادتهن القود ،

ص: 138


1- النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة النساء.
2- البقرة : 282.

ويجب بها الدّية على الكمال ، عند من ذهب إليه على ما حكيناه.

ولا تقبل شهادة النساء في عقد النكاح ، واليه ذهب شيخنا المفيد في مقنعته (1).

وذهب شيخنا أبو جعفر في الاستبصار إلى قبول شهادتهن في عقود النكاح (2) ، والذي قلناه ، واخترناه ، هو الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، لأنّه أمر شرعيّ يحتاج إلى أدلّة شرعية على ثبوته.

باب شهادة من خالف الإسلام

لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام ، على المسلمين ، لا في حال الاختيار ، ولا حال الاضطرار ، إلا في الوصيّة بالمال ، في حال الاضطرار خاصّة ، دون سائر الأحكام ، لقوله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (3).

ويجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويجوز شهادة بعضهم على بعض ، ولهم ، وكل ملة على أهل ملته خاصّة ، ولهم ، ولا يقبل شهادة أهل ملة منهم لغيرهم ، ولا عليهم ، إلا المسلمين خاصة حسب ما قدّمناه ، فإنه يقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم ، من أصناف الكفار ، وتقبل لهم إذا كانوا أهل كتاب ، في أحكام المسلمين في الوصيّة بالمال خاصة ، حسب ما قدّمناه (4).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة خلاف ما ذهب إليه في نهايته ، وهو أن قال : لا خلاف أنّ شهادة أهل الذمة لا تقبل على المسلمين ، إلا ما ينفرد به أصحابنا في الوصيّة خاصّة ، في حال السفر عند عدم المسلم ، قال : فأمّا قبول شهادة بعضهم على بعض ، فقال قوم : لا تقبل بحال ، لا على مسلم ولا على مشرك ، اتفقت ملّتهم ، أو اختلفت ، وفيه خلاف ، قال رحمه اللّه : ويقوى في

ص: 139


1- المقنعة : باب البيّنات ص 727.
2- الاستبصار : كتاب الشهادات ، الباب 17 ، باب ما يجوز شهادة النساء فيه وما لا يجوز.
3- المائدة : 106.
4- النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة من خالف الإسلام.

نفسي أنّه لا تقبل بحال ، لأنّهم كفار فساق. ومن شرط الشاهد أن يكون عدلا (1) قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي يقوى أيضا في نفسي ، واعتقده مذهبا ، أدين اللّه تعالى به ، واعمل عليه ، وأفتي به ، لأنّ الإجماع من المسلمين منعقد عليه ، وهو قبول شهادة العدول ، وقد بيّنا أن العدل من لا يخلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2) وفيما عدا هذا خلاف ، ودليل الاحتياط يقتضيه ، فلو اقتصرنا عليه لكفى ، وأيضا فليس على خلاف ما اخترناه دليل من إجماع ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا كتاب ، وعلى ما اخترناه الإجماع ، والكتاب ، والسنّة ، فلا يرجع عن المعلوم الى المظنون ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، فإنّها لا توجب علما ولا عملا على ما ذكرنا القول في ذلك.

والذمي إذا اشهد على أمر من الأمور ، ثم أسلم ، جاز قبول شهادته ، على المسلمين والكافرين ، إذا كان بشرائط العدالة ، وكذلك جميع الكفار.

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين وحكم القسامة

يقبل (3) الشاهد الواحد ، مع يمين المدّعي في كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، وقال شيخنا في نهايته : إذا شهد لصاحب الدين شاهد واحد ، قبلت شهادته ، وحلف مع ذلك ، وقضي له به ، وذلك في الدين خاصة (4).

ورجع عن هذا القول في استبصاره (5) ، ومسائل خلافه (6) ، ومبسوطة (7) وهو الصحيح الحق اليقين ، لأنّه مذهب جميع أصحابنا.

ص: 140


1- المبسوط : كتاب الشهادات ، فصل فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة.
2- الطلاق : 2.
3- ل : تقبل شهادة الشاهد.
4- النهاية : باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة.
5- الاستبصار : الباب 18 فيما تجوز فيه شهادة الواحد مع يمين المدعي.
6- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 7.
7- المبسوط : ج 8 فصل في الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين ، ص 189.

ولا بدّ في ذلك من الترتيب ، وهو أن يشهد الشاهد أوّلا ، ثمّ يحلف المدّعي بعد ذلك ، فإن حلف قبل شهادة الشاهد لا يعتد بذلك.

فإن قال من أقام الشاهد : لست أختار اليمين مع الشاهد ، ولا أضم إليه شاهدا آخر ، واختار مطالبة المدّعي عليه باليمين ، كان له ذلك ، فإن اختار الاستحلاف ، نظرت ، فإن اختار أن يسترد ما بذله ، ويحلف هو ، لم يكن له ذلك ، لأنّ من بذل اليمين لخصمه ، لم يكن له أن يستردها إلى نفسه بغير رضاه وإن اختار أن يقيم على ذلك ، ويستحلف المدّعى عليه ، كان له ، فإذا فعل هذا ، لم يخل المدّعى عليه من أحد أمرين ، إما أن يحلف ، أو ينكل ، بضم الكاف ، فإن احلف أسقط (1) دعوى المدّعي ، وإن لم يحلف فقد نكل ، وحصل مع المدّعي نكول وشاهد ، وهل يقضي بنكوله مع شاهد المدّعي؟ فعندنا أنّه لا يحكم به عليه.

فإذا تقرر أنّه لا يحكم عليه بمجرّد النكول ، فهل تردّ اليمين على المدعي أم لا؟ قال بعض المخالفين لمذهبنا : لا ترد عليه ، لأنّها يمين بذلها لخصمه ، فإذا عفا عنها لم تعد إلى باذلها ، كيمين المدّعى عليه ، إذا بذلها للمدّعي ، ثم عفا عنها ، فإنّها لا تعود إلى باذلها.

وقال قوم : ترد إليه ، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ هذه غير تلك ، فانّ هذه يمين الرد ، يقضي بها في الأموال وغيرها ، وتلك يمينه مع الشاهد ، لا يقضي بها في غير الأموال ، وسببها غير سبب تلك ، فانّ سببها نكول المدّعى عليه.

إذا ادّعى على رجل أنّه سرق نصابا من حرز ، وأقام به شاهدا واحدا ، حلف مع شاهده ، ولزم الغرم ، دون القطع ، لأنّ السرقة توجب شيئين ، غرما

ص: 141


1- ج : أسقط.

وقطعا ، والغرم يثبت بالشاهد واليمين ، دون القطع.

وأمّا القتل ، فإن كان يوجب مالا ، فإنّه يثبت بالشاهد واليمين عمدا كان أو خطا وإن كان عمدا يوجب القود ، فإذا كان له شاهد واحد ، كان لوثا ، وكان له أن يحلف مع شاهده خمسين يمينا ، إذا لم يكن له من يحلف من قومه ، فإذا حلف ، ثبت القتل ، وعندنا يوجب القود.

ومن وقف وقفا على قوم ، انتقل ملكه عن الواقف وإلى من ينتقل ، قال قوم من المخالفين : إلى الموقوف عليه ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، وقال قوم منهم : ينتقل إلى اللّه لا إلى مالك.

فإذا ثبت ذلك فادّعى على رجل انّه وقف عليه هذه الدار وقفا مؤبدا ، وأقام به شاهدا واحدا ، فهل يثبت بالشاهد واليمين أم لا؟ فمن قال : ينتقل إلى الموقوف عليه ، قال : يثبت بالشاهد واليمين ، لأنّه نقل ملك من مالك إلى مالك ، ومن قال ينتقل إلى اللّه ، لا إلى مالك ، قال : لا يثبت إلا بشاهدين ، لأنّه إزالة ملك إلى اللّه تعالى ، كالعتق ، وانّما قلنا أنّه ينتقل إلى الموقوف عليه ، لأنّ جميع أحكام الملك باقية عليه بحالها ، بدليل أنّه يضمن باليد وبالقيمة ، وتتصرف فيه (1) وعند بعض أصحابنا يجوز بيعه على وجه.

ولا يجوز قبول شهادة واحد ، والحكم بها في الهلال ، والطلاق ، والحدود ، والقصاص ، وغير ذلك من الأحكام.

والقسامة لا تقبل إلا في الدماء خاصة.

والقسامة عند الفقهاء كثرة اليمين ، فالقسامة من القسم ، وسميت قسامة لتكثير اليمين فيها ، وقال أهل اللغة : القسامة عبارة عن أسماء الحالفين (2) من أولياء المقتول ، فعبر بالمصدر عنهم ، وأقيم المصدر مقامهم ، يقال أقسمت أقسم أقساما وقسامة ، فأيهما كان ، فاشتقاقه من القسم ، الذي هو اليمين.

ص: 142


1- ل : يضمن باليد ويتصرف فيه.
2- ج : المحالفين.

إذا ادّعى الرجل دما على قوم ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون معه أمارة تدل على صدق ما يدعيه ، أو لا تكون ، فإن لم يكن معه ذلك ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، فإن حلف بري ء ، وإن لم يحلف ، رددنا اليمين على المدّعي ، فيحلف ، ويستحق ما ادّعاه ، إن كان قتلا عمدا استحق القود عندنا ، وإن كان غير عمد استحق الدية ، ولا فصل بين هذا وبين سائر الدعاوي ، إلا في صفة اليمين ، فانّ الدعوى إذا كانت قتلا ودما ، فهل تغلظ الأيمان فيه أم لا؟ قال قوم : تغلظ ، وقال آخرون : لا تغلظ ، وهو الأظهر.

وإن كان معه أمارة تدل على دعواه ، ويشهد القلب بصدق ما يدعيه ، وهذا يسمى لوثا ، بفتح اللام ، وتسكين الواو ، والثاء المنقطة بثلاث نقط ، مثل أن يشهد معه شاهد واحد ، أو وجد القتيل في برية ، والقتيل طري ، والدم جار ، وبالقرب منه رجل معه سكين عليها دم ، والرجل ملوث بالدم ، أو وجد في قرية لا يدخلها غير أهلها ، وهكذا لو وجد في دار فيها قوم ، قد اجتمعوا على أمر من طعام أو غيره ، فوجد قتيل بينهم ، فهذا لوث ، فالظاهر أنّهم قتلوه.

فمتى كان مع المدّعي لوث ، فالقول قوله ، يبدأ به باليمين ، ويحلف خمسين يمينا ، إن كان القتل عمدا ، وخمسا وعشرين يمينا ، إن كان خطأ ، فإن حلف على قتل عمد محض ، عندنا يقاد المدّعى عليه به.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وصفة القسامة أنّه إذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان ، يشهدان بالقتل ، فأحضر ولي المقتول خمسين رجلا من قومه ، يقسمون (1) باللّه تعالى ، على أنّه قتل صاحبهم ، فإذا حلفوا ، قضي لهم بالدية ، فإذا حضر دون الخمسين ، حلف ولي الدم باللّه ، من الأيمان ما يتم بها الخمسين ، وكان له الدية ، فإذا لم يكن له أحد يشهد له ، حلف هو خمسين يمينا ، ووجبت له الدية (2).

ص: 143


1- ج : رجلا يقسمون.
2- النهاية : باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة.

والصحيح أن له القود.

وقد رجع شيخنا عن هذا القول ، إلى ما اخترناه ، في الجزء الثاني من كتاب النهاية (1) ، وقال بما قلناه ، وكذلك في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3).

ولا يكون القسامة إلا مع التهمة للمطالب بالدم ، والشبهة في ذلك ، على ما بيّناه وسمّيناه لوثا.

والقسامة فيما دون النفس تكون بحساب ذلك ، وسنبين أحكامها في كتاب الديات عند المصير اليه إن شاء اللّه تعالى.

باب شهادات الزور

لا يجوز لأحد أن يشهد بالزور ، وبما لا يعلم ، في أي شي ء كان ، قليلا كان أو كثيرا ، وعلى من كان موافقا ، محقا ، أو مخالفا مبطلا ، فمتى شهد بذلك أثم ، واستحقّ من اللّه تعالى اليم العقاب ، وكان ضامنا.

فإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، وكان محصنا ، فرجم ، ثم رجع أحدهم ، فقال : تعمدت ذلك ، قتل ، وأدّى الثلاثة الشهود ، إلى ورثة الشاهد المقتول ، الذي رجع عن شهادته ، وقال تعمدت ، ثلاثة أرباع الدية ، على ما روي في بعض أخبارنا (4) ، وقد أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (5).

والذي يقوى في نفسي ، انّ إقراره جائز على نفسه ، لا يتعداه إلى غيره ، ولا ينقض الحكم ، لأنه لا دليل عليه ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، وانّما ذلك ورد من طريق أخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا.

قال شيخنا في نهايته : فإن قال : أوهمت ، الزوم ربع الدية (6) وإن رجع

ص: 144


1- النهاية : باب البينات على القتل ، ولفظ النهاية هكذا : أو أقاموا القسامة وجب على المدعى عليه ان كان القتل عمدا اما القود أو الدية حسب ما يتراضيان عليه.
2- الخلاف : كتاب القسامة المسألة 2.
3- المبسوط : ج 7 ، كتاب القسامة ، ص 212.
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب الشهادات.
5- النهاية : باب شهادة الزور.
6- النهاية : باب شهادة الزور ، وما بعده الى قوله : « وإن اختار » زائد على كلام النهاية.

اثنان ، وقالا : أوهمنا ، ألزما نصف الدية ، وإن قالا : تعمدنا ، وأراد أولياء المقتول بالرجم ، أن يقتلهما جميعا قتلهما وأدّى إلى ورثتهما دية كاملة ، يتقاسمان بينهما على السواء ، ويؤدي الشاهدان الآخران ، على ورثتهما نصف الدية ، يعني نصف الف دينار ، التي هي دية كاملة للرجل الحر ، فتحصل مع ورثة كل واحد من الشاهدين المقتولين ، سبعمائة وخمسون دينارا لأنّه يسقط من دية كل واحد منهما ، بقدر نصيبه ، لو طالب ورثة المقتول الأول ، المشهود عليه الشهود الأربعة بالدية وكان يجب على كل واحد منهم مائتان وخمسون دينارا.

وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما ، كان لهم قتله ، وأدّى الآخر مع الباقين من الشهود ، على ورثة الشاهد المقتول الثاني ، ثلاثة أرباع ديته ، وسقط بمقدار حصته ، لو طولبوا بالدية على ما قررناه ، وحررناه.

وإن رجع الكل عن شهادتهم ، كان حكمهم حكم الاثنين سواء.

كل ذلك على ما أورده شيخنا في نهايته على ما حكيناه عنه (1) من طريق أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، من أن إقرار المقر جائز على نفسه ، لا يتعداه إلى غيره في سائر الأحكام الشرعيات.

وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته ، وكان قبل الدخول بها ، ثم رجعا ، وجب عليهما نصف المهر الذي شهدا عليه بالطلاق ، وإن كان بعد الدخول بها ، فلا شي ء عليهما من المهر ، لا نصفه ولا جميعه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن أوجب عليها شيئا ، فعليه الدلالة ، وليس خروج البضع عن ملك الزوج (2) له قيمة ، كما لو أتلفا عليه ما لا قيمة له ، فلا يلزمهما الضمان.

وأمّا قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ، فيجب أن يغرماه له ، لأنّهما غرماه إيّاه ، وأتلفاه بشهادتهما ، فليلحظ الفرق بين الموضعين.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مسائل خلافه (3).

ص: 145


1- النهاية : باب شهادة الزور.
2- ج : عن الزوج.
3- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 78.

وقال رحمه اللّه في نهايته : وإن شهد رجلان على رجل ، بطلاق امرأته ، فاعتدت وتزوّجت ، ودخل بها ، ثم رجعا ، وجب عليهما الحدّ ، وضمنا المهر للزوج الثاني ، وترجع المرأة إلى الأول بعد الاستبراء بعدة من الثاني (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : قوله ويضربان الحد ، يريد بذلك التعزير ، فسمّاه حدّا ، لأنه لا يجب على كل واحد منهما حدّ كامل ، لكنّهما شاهدا زور ، فيعزران بحسب ما يراه الإمام عليه السلام ، أو الحاكم من قبله.

وقوله : يرجع إلى الأوّل فيه نظر ، لأنّهما إذا شهدا بالطلاق عند الحاكم ، كانا عنده وقت شهادتهما بشرائط العدالة ، وحكم بشهادتهما ، وأمضى الحكم ، وتزوّجت المرأة بحكمه.

وقوله : فلا تأثير لرجوعهما ، ولا ينقض الحكم برجوعهما ، بل يغرمان ما أتلفا وضيعا ، بشهادتهما من الأموال ، ولا ينقض الحاكم ما حكم به ، ولا يرجع على المشهود له بشي ء ممّا شهدا له به.

هذا حكم سائر في جميع الأشياء ، مجمع عليه عند أصحابنا ، وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3).

قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا شهد شاهدان بحق ، وعرفت عدالتهما ، وحكم الحاكم ، واستوفى الحق ، ثم رجعا عن الشهادة ، لم ينقض حكمه ، وبه قال جميع الفقهاء ، وقال سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ينقضه ، قال : دليلنا انّ الذي حكم به مقطوع به بالشرع ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا ينقض به ما قد قطع عليه ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل الخلاف.

قال محمد بن إدريس : وطلاق هذه المرأة مقطوع عليه ، وتزويجها مأمور به ، محكوم بصحة العقد ، بغير خلاف ، فلا يرجع عن هذا المقطوع عليه ، المحكوم ، بصحته شرعا ، بأمر مظنون ، وهو رجوعهما إليه ، لأنّه يحتمل الصدق والكذب ، والحق

ص: 146


1- النهاية : باب شهادة الزور.
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 75.
3- المبسوط : ج 8 ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص 247.

والباطل ، فلا ينقض به ما قد قطع عليه وحكم بصحته شرعا.

وما أورده في نهايته رحمه اللّه ، خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، ذكره في استبصاره (1) ، وأورد خبرا آخر ، وتأوّله ، والخبر الذي أورده ليقضي به ، على ما اختلف عليه من الأخبار ، ليس فيه أنّهما رجعا جميعا ، أعني الشاهدين على ما أورده في نهايته ، بل فيه : وأكذب نفسه أحد الشاهدين ، فإذا كان هذا الاختلاف والتأويل في الخبر ، ولا إجماع معنا ، ولا كتاب اللّه سبحانه ، ولا أخبار متواترة ، ولا سنة مقطوع بها ، بل إجماعنا منعقد على ما قررناه ، من أن الحاكم لا ينقض حكمه إذا حكم برجوع الشهود ، فلا يعدل عن الدليل إلى غيره ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

فإن شهدا بسرقة ، فقطع المشهود عليه ثم رجعا ، ألزما دية يد المقطوع ، فإن رجع أحدهما ، الزم نصف دية يده ، هذا إذا قالا : وهمنا في الشهادة ، فإن قالا : تعمدنا ، قطع يد واحد منهما بيد المقطوع ، وأدّى الآخر نصف دية اليد على المقطوع الثاني ، وإن أراد المقطوع الأوّل المشهود عليه ، أن يقطعهما ، قطعهما ، وأدّى إليهما دية يد واحدة ، يتقاسمان بها بينهما على السواء.

وكذلك إن شهدا على رجل بدين ، ثمّ رجعا ، ألزما مقدار ما شهدا به ، فإن رجع أحدهما ، ألزم بمقدار ما يصيبه من الشهادة ، وهو النصف.

ومتى شهدا على رجل ، ثم رجعا قبل أن يحكم الحاكم ، طرحت شهادتهما ، ولم يلزما شيئا ، بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم ، وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم ، غرّما ما شهدا به ، سواء كان الشي ء قائما بعينه ، أو لم يكن كذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : غرما ما شهدا به ، إذا لم يكن الشي ء قائما بعينه ، فإن كان الشي ء قائما بعينه ، ردّ على صاحبه ، ولم يلزما شيئا (2).

ص: 147


1- الإستبصار : الباب 21 من كتاب القضايا والأحكام.
2- النهاية : باب شهادة الزور.

وقد دللنا على صحّة ما ذهبنا إليه قبل هذا بلا فصل ، حين قلنا انّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّه إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم (1) فلا يلتفت إلى رجوعهما ، فيما حكم به ، ولا ينقض حكمه ، لأنّ حكمه مقطوع من جهة الشرع على صحته ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا يرجع عن أمر مقطوع على صحّته ، بأمر مشكوك فيه محتمل.

وقد رجع شيخنا عما ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة ، فقال في مبسوطة : فصل ، في الرجوع عن الشهادة ، إذا شهد الشهود عند الحاكم بحق ، فعرف عدالتهم ، ثمّ رجعوا ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يرجعوا قبل الحكم أو بعده وقبل القبض ، أو بعد الحكم والقبض معا ، فإن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بلا خلاف إلا أبا ثور ، فإنّه قال : يحكم به ، والأول أصح ، وإن رجعوا بعد الحكم وقبل القبض ، نظرت ، فإن كان الحق حدّا لله ، كالزنا والسرقة ، وحدّ الخمر ، لم يحكم بها ، لأنّها حدود تدرأ بالشبهات ، ورجوعهم شبهة ، وإن كان حقا لآدمي ، سقط بالشبهة ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، لم يستوف لمثل ذلك ، وأمّا إن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء أيضا ، لم ينقض حكمه ، بلا خلاف ، إلا سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ، فإنّهما قالا : ينقض ، والأول أصح ، قال : فإذا ثبت أنّ الحكم لا ينقض ، فانّ المستوفي قد قبض الحق ، فلا اعتراض عليه.

وما الذي يجب على الشهود ، قال رحمه اللّه : لا يخلو المستوفى من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يكون إتلافا مشاهدة كالقتل ، والقطع ، أو حكما كالطلاق والعتق ، أو لا مشاهدة ولا حكما ، كنقل المال من رجل إلى آخر ، قال : وإن شئت قلت : لا يخلو أن يكون إتلافا أو في حكم الإتلاف ، أو خارجا عنهما ، ثم ذكر رحمه اللّه رجوعهما عن الشهادة ، بالقتل ، والقطع في السرقة ، وشرحه ، ثم

ص: 148


1- ج : بعد الحكم.
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 74.

ذكر رجوعهما عن الطلاق ، وإلزامهما المهر ، وشرحه ، وقال : إمّا أن يكون قبل الدخول ، أو بعده ، فإن كان بعد الدخول ، فلا مهر عليهما ، وإن كان قبل الدخول ثمّ رجعا ، فانّ الحاكم لا ينقض حكمه ، وعليهما الضمان لنصف المهر المسمّى ، ولم يتعرض لما ذكره في نهايته ، من رجوعهما إلى الزوج الأول ، بل قال :

فإنّ الحاكم لا ينقض حكمه ، فإذا حرّمها الحاكم على الثاني ، ورجّعها إلى الأول ، على ما قال في نهايته ، فقد نقض حكمه.

ثمّ قال بعد ذلك رحمه اللّه : فأمّا إذا لم يكن إتلافا مشاهدة ولا حكما ، وهو أن شهدا بدين ، وحكم بذلك عليه ، ثم رجعا ، فهل عليهما الضمان للمشهود عليه ، أم لا؟ قال قوم : لا ضمان عليهما ، وقال آخرون : عليهما الضمان ، وكذلك قالوا فيمن أعتق عبدا في يده ، أو وهبه وأقبضه ، ثمّ ذكر أنّه كان لزيد ، فهل عليهما قيمته (1) لزيد؟ على قولين ، لأنّه أقرّ به بعد ان فعل ما حال بينه وبينه بغير حق ، قال رحمه اللّه : والأقوى عندي أنّ عليهما الضمان للمشهود عليه ، وكذلك تلزم القيمة للمعتق لعبده ، لمن أقرّ له به هذا آخر ما ذكره شيخنا رحمة اللّه عليه في مبسوطة (2) فأوردته ، لأنّه كلام سديد في موضعه ، وجملة نافعة كثيرة الفقه.

وكل موضع رجع فيه الشهود ، نظرت ، فإن ذكروا أنّهم أخطأوا ، فلا تعزير على واحد منهم ، وإن قالوا تعمدنا ، كان عليهم التعزير.

إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ، ثم بان له أنّه حكم بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته ، نقض الحكم بلا خلاف ، فإن كان حكم بإتلاف ، كالقصاص والقتل والرجم ، فلا قود هاهنا ، لأنّه عن خطأ الحاكم ، وأمّا الدية ، فإنّها على الحاكم عند قوم ، وعند آخرين ، على المزكّين وروى أصحابنا أنّ ما أخطأت الحكام ، فعلى بيت المال (3).

ص: 149


1- ج : عليه قيمته.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص 246 - 248.
3- الوسائل : كتاب القضاء ، الباب 10 من أبواب آداب القاضي ، ولفظ الحديث هكذا : « ان ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو علی بيت مال المسلمين».

فأمّا إن حكم بالمال ، نظرت ، فإن كان عين المال باقية ، استردها ، وإن كانت تالفة ، فإن كان المشهود له هو القابض ، وكان موسرا ، غرم ذلك ، وإن كان معسرا ، ضمن الإمام ، حتى إذا يسر رجع الإمام عليه ، والفرق بين هذا وبين الدية ، انّ الحكم إذا كان بالمال ، حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد ، فلهذا كان الضمان عليه ، وليس كذلك القتل ، لأنّه ما حصل في يد المشهود له ، ما يضمن باليد ، لأنّ ضمان الإتلاف ليس بضمان اليد ، فلهذا كان الضمان على الإمام في بيت المال.

وإذا شهدا بسرقة على إنسان ، فقطع ، ثمّ جاءا بآخر ، وقالا هذا الذي سرق ، وانما وهمنا على ذلك ، غرما دية اليد ، ولم تقبل شهادتهما على الآخر وانما لم تقبل شهادتهما على الآخر ، وإن لم يحصل فيهما شي ء من أسباب الفسق ، لقلّة ضبطهما وتحقيقهما (1) وتغفلهما ، ولأجل هذا لا يقبل الحاكم شهادة المغفلين ، الذين ليس لهم شدّة عقول ، ولا وفور تحصيل ، وإن كانوا على ظاهر العدالة.

وليس رجوع الشاهدين عن الشهادة ، بموجب للفسق ، ولا لرد شهادتهما على الآخر ، وانّما ردّت لما قلناه.

وينبغي للإمام أن يعزّر شهود الزور ، على ما قدّمناه ، ويشهرهم في أهل محلّتهم وسوقهم ، لكي يرتدع غيرهم عن مثله ، في مستقبل الأوقات والإشهار هو أن ينادي في محلّتهم ومجتمعهم وسوقهم ، فلان وفلان شاهدا زور ، ولا يجوز أن يشهرا بأن يركبا حمارا ويحلق رءوسهما ، ولا أن ينادياهما (2) على أنفسهما ، ولا أن يمثل بهما.

ص: 150


1- ج : تحصيلهما.
2- ل : أن يتأذياهما.

كتاب القضايا والأحكام

اشارة

ص: 151

كتاب القضايا والأحكام

باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال

القضاء بين المسلمين جائز ، وربما كان واجبا ، فإن لم يكن واجبا ، ربما كان مستحبا ، قال اللّه تعالى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (1) وقال ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) وقال : ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) (3).

وقد ذم اللّه تعالى من دعي إلى الحكم (4) ، فأعرض عنه ، فقال ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (5) ومدح قوما دعوا إليه ، وأجابوا ، فقال ( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (6).

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : واللّه لأن أجلس يوما ، فأقضي بين الناس ، أحب اليّ من عبادة سنة (7).

وعليه إجماع الأمة ، إلا أبا قلابة فإنّه طلب للقضاء ، فلحق بالشام ، فأقام زمانا ، ثمّ جاء ، فلقيه أيّوب السختياني (8) ، وقال له : لو أنّك وليت القضاء ، وعدلت بين الناس ، رجوت لك في ذلك أجرا ، فقال : يا با أيوب ، السابح إذا

ص: 152


1- ص : 26.
2- النساء : 65.
3- الأنبياء : 78.
4- ج : حكم.
5- النور : 48.
6- النور : 51.
7- سنن البيهقي : كتاب آداب القاضي ، باب فضل من ابتلى بشي ء من الأعمال ( ج 10 ص 19 ) فيه : « كان ابن مسعود يقول : لئن أقضي يوما واوافق فيه الحق والعدل أحبّ إلى من غزو سنة » أو قال : « مائة »
8- ج : أبو أيّوب السجستاني.

وقع في البحر ، كم عسى أن يسبح ، إلا أنّ أبا قلابة رجل من التابعين ، لا يقدح خلافه في إجماع الصحابة ، وقد بيّنا أنّهم أجمعوا ، ولا يمتنع أن يكون امتناعه ، كان لأجل أنّه أحس من نفسه بالعجز ، لأنّه كان من أصحاب الحديث ، ولم يكن فقيها.

وهو من فروض الكفايات ، إذا قام به قوم سقط عن الباقين ، وقد روي عن النبيّ عليه السلام أنّه قال : إن اللّه لا يقدّس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه (1).

ولأنّه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد روي كراهة تولّي القضاء ، والامتناع ، روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين ، قيل : يا رسول اللّه وما الذبح؟ قال : نار جهنم (2) ، وروي عنه عليه السلام ، أنّه قال : يؤتى بالقاضي العدل. يوم القيامة ، فمن شدة ما يلقاه من الحساب ، يود إن لم يكن قاضيا بين اثنين في تمرة (3).

والوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، انّ من كان من أهل العلم بالقضاء (4) ، ويقضي بالحق ، فهو مثاب ، ومن كان من أهل العلم ، لكنّه لا يقضي بحق ، أو كان جاهلا ، لم يحلّ له أن يليه ، وكان مأثوما فيه.

والناس في القضاء على ثلاثة أضرب : من يجب عليه ، ومن يحرم عليه ، ومن يجوز له.

فأمّا من يجب عليه ، فكل من تعيّن ذلك فيه ، وهو إذا كان ثقة من أهل العلم ، لا يجد الإمام غيره.

فأمّا من يحرم عليه ، فأن كان جاهلا ، ثقة كان أو غير ثقة ، أو فاسقا من أهل العلم.

ومن يجوز له ولا يحرم عليه ، مثل أن يكون في المكان جماعة من أهل الفقه والعلم ، فللإمام أن يدعو واحدا عليه ، وقد بيّنا في كتاب الجهاد ، من له أن

ص: 153


1- مستدرك الوسائل : الباب 15 من أبواب آداب القاضي ، ص 8 - 9.
2- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، ح 4.
3- مستدرك الوسائل : الباب 15 من أبواب آداب القاضي ، ص 8 - 9.
4- ل : بالفتيا.

يتولى القضاء والأحكام بين الناس ، ومن ليس له ذلك.

والفرق بين الحكم والقضاء ، انّ الحكم ، هو إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولا ، والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا.

وينبغي أن لا يتعرض للقضاء أحد ، حتى يثق من نفسه بالقيام به ، وليس يثق أحد بذلك من نفسه ، حتى يكون عاقلا كاملا عالما بالكتاب ، وناسخه ومنسوخه ، وعامه وخاصه ، وندبه وإيجابه ، ومحكمه ومتشابهه ، عارفا بالسنّة المقطوع بها ، وناسخها ومنسوخها ، وعامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومبيّنها ، عالما باللغة ، مضطلعا أي قيّما بمعاني كلام العرب ، بصيرا بوجوه الإعراب ، لأنّه مبين (1) عن صاحب الشريعة عليه السلام ، فيجب أن يعرف لغته.

روي أنّ رقبة بن مصقلة ، قال لأبي حنيفة الفقيه : ما تقول في رجل ضرب طلته بمرقاق ، فقتلها؟ فقال أبو حنيفة : ما أدري ما تقول ، فقال له : أفتفتي ، ويحك في دين اللّه ، وأنت لا تعرف لغة نبيّه صلى اللّه عليه وآله ، الطلة الحمأة ، والمرقاق الذي يسمّى الشوبك.

وقال أبو عمرو بن العلاء : الفقيه يحتاج إلى اللغة حاجة شديدة ، إلا الرواية.

وقال الأصمعي : سمعت حماد بن سلمة يقول : من لحن في حديثي ، فليس يحدّث عني.

وقال أبو داود الشيخي (2) : سمعت الأصمعي يقول : إنّ أخوف ما أخاف على طالب العلم ، إذا لم يعرف النحو ، أن يدخل في جملة قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : من كذّب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار ، لأنّه لم يكن يلحن ، فمهما رويت عنه ، ولحنت فيه ، كذبت عليه.

وروي عن عمر بن الخطاب ، أنّه اجتاز بقوم يرمون ، فأساؤا الرمي ،

ص: 154


1- ل : أمين.
2- ل : السحي.

فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن قوم متعلمين ، فقال عمر : لإساءتكم في لحنكم ، شرّ من إساءتكم في رميكم ، رحم اللّه امرأ أصلح من لسانه ، وقال ، تعلموا العربية ، فإنّها تثبت العقل (1).

وقيل للحسن البصري : إنّ لنا إماما يلحن ، فقال : أخّروه.

وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن.

وروي عن الصادق عليه السلام ، أنّه قال : نحن قوم فصحاء ، فإذا رويتم الأخبار عنا فاعربوها (2).

ولأنّ الفقيه لو سأله سائل ، فقال له : ما تقول في ظبي رميته بسهمي ، فاحتمله ، ومضى به ، وغاب عن عيني ، ووجدته بعد ذلك ميتا ، فالجواب من الفقيه ، أن يقول له : لا تأكله فإنه منهي عنه ، لقول الرسول عليه السلام : كل ما أصميت ، ودع ما أنميت ، فقال له : ما معنى أصميت وأنميت ، فقال له الفقيه : لا أدري ، فقال له المستفتي : فتنهاني عن شي ء ، بقول لا تدري ما هو.

قال محمد بن إدريس : اصميت الرمية ، إذا قتلتها في مكانها ، من غير أن تحمل السهم ، وتعدو به ، وأنميت الرمية ، إذا احتملت بالسهم ، ومضت به.

قال امرء القيس ، مادحا للرامي :

هو لا ينمي رميته *** ما له لا عد من نفر

فلهذا احتاج إلى اللغة.

ويكون ورعا عن محارم اللّه تعالى ، زاهدا في الدنيا ، متوفرا على الأعمال الصالحات ، مجتنبا للكبائر والسيئات ، شديد الحذر من الهوى ، حريصا على التقوى.

فإذا كان بالصفات التي ذكرناها ، جاز له أن يتولى القضاء والفصل بين الناس.

ولا ينعقد له (3) القضاء. إلا بولاية إمام المسلمين وإذنه.

ص: 155


1- ج : تنبت العقل.
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 25 ، ولفظه : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أعربوا حديثا ، فانّا قوم فصحاء.
3- ج : ولا ينعقد.

وإذا أراد أن يجلس للقضاء ، ينبغي ويستحب له أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها ، ليتخلّى ويفرغ للحكم ، ولا يشتغل قلبه بغيره.

ثم يستحب له أن يتوضأ وضوء الصلاة ، ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها ، ويخرج إلى المسجد الأعظم الذي يصلّي الجمعة فيه ، في البلد الذي يحكم فيه ، فإذا دخله ، صلّى ركعتين ، ويجلس مستدبر القبلة ، ولا يجلس وهو غضبان ، ولا جائع ، ولا عطشان ، ولا مشغول القلب بتجارة ، ولا خوف ، ولا حزن ، ولا فكر في شي ء من الأشياء ، فإن خالف ذلك ، وجلس ، وقضى بالحق ، نفذ حكمه بغير خلاف.

وليجلس وعليه هدي (1) مفتوح الهاء ، مسكن الدال - وسكينة ووقار.

فإذا جلس ، حكم للأوّل فالأول ، فإن لم يعلم بالأول ، أو دخلوا عليه في دفعة واحدة ، روى أصحابنا أنّه يتقدّم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم اليه ، أن يكتب اسمه واسم أبيه ، وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه ، دون الألقاب المكروهة ، فإذا فعلوا ذلك ، وكتبوا أسماءهم ، وأسماء خصومهم في الرقاع ، قبض ذلك كله ، وخلط الرقاع ، وجعلها تحت شي ء يسترها به عن بصره ، ثم يأخذ منها رقعة فينظر فيها ، ويدعو باسم صاحبها وخصمه ، فينظر بينهما (2).

ويستحب أن يصل إليه في حكمه ، كل أحد ، ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه ، لما روى أبو مريم الأنصاري ، صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال : من ولي شيئا من أمور الناس ، فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم ، احتجب اللّه دون خلّته (3) ، بفتح الخاء ، وهي الحاجة - وفاقته وفقره.

وقد كره قوم القضاء في المساجد ، وأجازه آخرون ، وهو الأليق بمذهبنا ،

ص: 156


1- ج : على هدى.
2- لم نجده في مجاميعنا الروائية.
3- سنن أبي داود : كتاب الخراج والامارة ، الباب 13 ( الرقم 2948 ) وفيه : انّ أبا مريم الأزدي .. قال .. سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : « من ولاه اللّه عزوجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب اللّه عنه دون حاجته أو خلّته وفقره ».

لأنّه لا خلاف أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقضي في المسجد الجامع بالكوفة ، ودكة القضاء معروفة إلى اليوم ، وهي التي في وسط المسجد الجامع ، وهي تسمّى أيضا دكة الطست ، لا يظلها شي ء من الظلال.

فأمّا إقامة الحدود فيها فمكروهة.

فإن حكم بحكم ، فإن وافق الحق ، لم يكن لأحد أن يعارضه فيه ، وإن أخطأ ، وجب عليهم أن ينبهوه عليه.

وقال المخالف : ليس لأحد أن يرد عليه ، وإن حكم بالباطل عنده ، لأنّه إذا كان باجتهاده ، وجب عليه العمل به ، ولا يعترض عليه بما هو فرضه ، ولا اجتهاد عندنا ، ولا قياس ، وليس كل مجتهد مصيبا.

وإذا دخل الخصمان عليه ، وجلسا ، وأراد كل واحد منهما الكلام ، ينبغي له أن يأذن للذي سبق بالدعوى ، فإن ادّعيا جميعا في وقت واحد ، فالذي رواه أصحابنا أنّه يأمر من هو على يمين خصمه أن يتكلم ، ويأمر الآخر بالسكوت ، إلى أن يفرغ من دعواه.

وإذا دخل عليه الخصمان ، فلا يبدأ أحدهما بالكلام منفردا ، وذلك على طريق الكراهة ، فإن سلّما ، أو سلم أحدهما ، ردّ السّلام ، دون ما سواه.

ويستحب أن يكون نظره إليهما واحدا ، ومجلسهما بين يديه على السواء ، لا أن ذلك واجب ، على ما يتوهمه من لا بصيرة له بهذا الشأن.

ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين ، والمستحب له تركهما ، حتى يبدأ بالكلام ، فإن صمتا ولم يتكلما (1) ، فله أن يقول لهما حينئذ : إن كنتما حضرتما لشي ء فاذكراه فإن بدأ أحدهما بالدعوى ، سمعها ، ثم أقبل على الآخر ، فسأله عما عنده فيما ادّعاه خصمه.

فإن أقرّ به ، ولم يرتب بعقله واختياره ، ألزمه الخروج إليه منه ، بعد سؤال صاحب الحق ، فإن خرج ، وإلا إن كان له مال ظاهر من جنس الحق الذي

ص: 157


1- ج : فان صمتا

أقرّ به لخصمه ، سلّم الحاكم إلى الخصم من ذلك ماله ، وإن كان من غير جنس الحق ، باعه عليه ، وقضى دينه منه ، وإن لم يكن له مال ظاهر ، أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه ، فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقرّ به ، فإن عرف الحاكم أنّه معدم فقير ، خلّى سبيله ، فإن لم يعرف من حاله شيئا ، حبسه له (1) ، فإن ظهر له بعد أن حبسه ، أنّه معدم فقير لا يرجع إلى شي ء ، ولا يستطيع الخروج ممّا أقرّ به خلّى سبيله ، وأمره أن يتمحل يعنى يتكسب ويحتال قال الشاعر :

وقالت تمحل كي تحج فانّني *** أرى الناس يعتدّون للحج أرجلا

فقلت لها واللّه مالي حيلة *** فما ذا عسيت اليوم أن أتمحلا

حق خصمه ، ويسعى في الخروج ممّا عليه.

وإن ارتاب الحاكم بكلام المقر ، وشك في صحّة عقله أو اختياره للإقرار ، توقف عن الحكم عليه ، حتى يستبرئ حاله.

وإن أنكر المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي ، سأله ألك بيّنة على ذلك ، فإن قال نعم هي حاضرة ، نظر في بينته بعد سؤاله ، وإن قال : نعم غير أنّها ليست حاضرة ، فلا يقول له الحاكم أحضرها ، بل يتركه ، إلى أن يحضر بينته ويسأله سماعها.

وقال شيخنا في نهايته : قال له أحضرها (2) ، وقد رجع عن هذا القول ، في مبسوطة (3).

وإن قال المدّعي : لست أتمكن من إحضارها ، قال شيخنا في نهايته : جعل معه مدة من الزمان ، ليحضر فيه بينته ، وتكفل لخصمه (4).

ورجع عن هذا القول في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا ادّعى على غيره حقا ، فأنكر المدّعى عليه ، فقال المدّعي : لي بيّنة غير أنّها غائبة ، لم تجب (5) له ملازمة المدّعى عليه ، ولا مطالبته له بكفيل ، إلى أن يحضر البينة ، وبه قال

ص: 158


1- ج : حبسه.
2- النهاية : كتاب القضايا والأحكام.
3- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء ، ص 159.
4- النهاية : كتاب القضايا والأحكام.
5- ل : لم يجز.

الشافعي ، وقال أبو حنيفة : له المطالبة بذلك ، وملازمته ، وقال رحمه اللّه : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ومن أوجب ذلك فعليه الدلالة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل خلافه (1).

وهو الحق اليقين ، لأنّ فيه الدليل ، ولا دليل على ما خالف ذلك.

وإن قال : لا بيّنة لي ، قال له : فما تريد ، فإن قال : تأخذ لي بحقي من خصمي ، قال للمنكر : أتحلف له ، فإن قال نعم ، أقبل على صاحب الدعوى ، فقال له : قد سمعت ، أفتريد يمينه ، فإن قال : لا ، أقامهما ، ونظر في حكم غيرهما.

وإن قال : نعم أريد يمينه ، رجع إليه فوعظه ، وخوّفه باللّه ، فإن أقرّ الخصم بدعواه ، ألزمه الخروج إليه مما ادّعاه عليه بعد سؤاله.

فإن قال المنكر عند (2) توجه اليمين عليه : يحلف هذا المدّعي على صحة دعواه ، وأنا أدفع إليه ما ادّعاه ، قال الحاكم للمدّعي : أتحلف على صحة دعواك ، فإن حلف ، ألزم خصمه الخروج إليه ممّا حلف عليه بعد سؤاله ، وإن أبي اليمين ، بطلت دعواه.

وإن أقام المدّعي البينة ، فذكر المدّعى عليه أنّه قد خرج إليه من حقه ، كان عليه البينة بأنّه قد وفاه الحق ، فإن لم تكن له بيّنة وطالب صاحب البينة بأن يحلف بأنّه ما استوفى ذلك الحق منه ، كان له ذلك ، فإن امتنع من ذلك خصمه ، وأبي أن يحلف أنّه لم يأخذ حقه ، بطل حقه.

وإن قال المدّعي : ليس معى بينة ، وطلب من خصمه اليمين ، فحلفه الحاكم ، ثم أقام بعد ذلك البيّنة على صحة ما كان يدعيه ، لم يلتفت إلى بينته ، وأبطلت.

وإن اعترف المنكر بعد يمينه بدعوى خصمه عليه ، وندم على إنكاره ، لزمه الحق ، والخروج منه الى خصمه ، فإن لم يخرج إليه منه ، كان له حبسه ،

ص: 159


1- الخلاف : كتاب آداب القضاء ، المسألة 36.
2- ج : بعد.

فإن ذكر إعسارا ، كشف عن حاله ، فإن كان على ما قال ، انظر ولم يحبس ، وإن لم يكن كذلك ، الزم الخروج إلى خصمه من حقه.

ومتى بدأ الخصم باليمين ، من غير أن يحلفه الحاكم ، لم يبره ذلك من الدعوى ، وكان متكلفا.

وإن أقرّ المدّعي عليه بما ادعاه خصمه ، وقال : أريد أن تنظرني ، حتى أتمحله ، أي أكتسبه (1) ، قال الحاكم لخصمه : فما عندك فيما يقول ، فإن سكت ولم يجب بشي ء ، توقف عليه القاضي هنيهة ، ثم قال له : قل ما عندك ، فإن لم يقل شيئا ، إقامة ، ونظر في أمر غيره ، وإن قال أنظره فذلك له ، وإن أبى لم يكن للحاكم ، أن يشفع إليه فيه ، ولا يشير عليه بالإنظار.

وله أن يأمرهما بالصلح ، ويشير بذلك ، لقوله تعالى « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » (2) وما هو خير ، فللإنسان فعله بغير خلاف من محصّل.

وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من المتفقهة ، فيظن أنّه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح ، ولا يشير به ، وهذا خطأ من قائله ، وشيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قد أفصح عن ذلك ، وحقّقه ، وذهب إليه ، فقال : إذا ترافع إليه نفسان ، وكان الحكم بينهما واضحا ، لا إشكال فيه ، لزمه أن يقضي بينهما ويستحب أن يأمرهما بالمصالحة ، وإن كان حكمهما مشكلا أخره إلى البيان ، ولا حدّ له غير ظهور الحكم وبيان الحق ، وإن قدّمه لم يجز ، لأن الحكم قبل البيان ظلم ، والحبس بالحكم بعد البيان ظلم ، هذا آخر كلام شيخنا (3).

وإن قال : الدين عليّ ، وأنا معسر ، لا أقدر على قضائه ، نظر في سبب الدين ، فإن كان عن مال حصل في يديه ، كالقرض ، والشراء ، والصلح ، والغصب ، ونحو ذلك ، لم يقبل قوله أيضا في الإعسار ، لأنّ الأصل الغنى ،

ص: 160


1- ج : أتكسبه.
2- النساء : 128.
3- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء ، ص 170.

وحصول المال ، حتى يثبت زواله.

وإن كان سبب ثبوته من غير مال حصل في يديه ، كالمهر ، وأرش الجناية ، وإتلاف مال الغير ، ونحو ذلك ، نظرت ، فإن عرف له مال غير هذا ، كالميراث ، والغنيمة ، ونحو ذلك ، لم يقبل قوله أيضا في الإعسار ، لأنّ الأصل المال ، فإن أقام البينة بهلاك المال ، وأنّه معسر ، فالقول قوله بغير يمين ، لأنّ الظاهر ما قامت به البينة.

وأمّا إن كان سببه غير مال حصل في يديه ، ولم يعرف له مال أصلا ، فالقول قوله ، لأنّ الأصل أن لا مال له مع يمينه ، لجواز أن يكون له مال ، وقد قلنا أنّه ليس للحاكم أن يشفع إليه في الانظار ، ولكن يبثّ الحكم فيما بينهما بما ذكرناه ، وتقتضيه شرعة الإسلام.

وإن ظهر للحاكم أن المقرّ عبد ، أو محجور عليه لسفه ، أبطل إقراره ، وإن كان تبيّنه لذلك بعد دفعه ما أقرّ به إلى خصمه ، الزم الآخذ له ردّه ، ويقدّم بحفظه على المحجور عليه ، ويردّ ذلك على مولى العبد.

وإذا أقرّ الإنسان لغيره بمال عند حاكم ، فسأل المقرّ له الحاكم أن يثبت إقراره عنده ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له ذلك ، إلا أن يكون عارفا بالمقرّ ، بعينه واسمه ونسبه ، أو يأتي المقرّ له ببينة عادلة ، على أنّ الذي أقرّ ، هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه ، لأنّه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطئا على انتحال اسم إنسان غائب ، واسم أبيه ، والانتساب إلى آبائه ، ليقرّ أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل ، فإذا أثبت الحاكم ذلك على غير بصيرة ، كان مخطئا مغررا (1).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا حضر خصمان عند القاضي ، فادّعى أحدهما على الآخر مالا ، فأقرّ له بذلك ، فسأل المقرّ له القاضي ، أن يكتب له بذلك محضرا ، والقاضي لا يعرفهما ، ذكر بعض أصحابنا ، أنّه لا يجوز أن

ص: 161


1- النهاية : كتاب القضايا والأحكام.

يكتب ، لأنّه يجوز أن يكونا استعارا نسبا باطلا وتواطئا على ذلك ، وبه قال ابن جرير الطبري ، وقال جميع الفقهاء : إنّه يكتب ، ويحلّيهما بحلاهما التامة ، ويضبط ذلك ، قال رحمه اللّه : والذي عندي ، أنّه لا يمتنع ما قاله الفقهاء ، فإن الضبط بالحلية ، يمنع من استعارة النسب ، فإنّه لا يكاد يتفق (1) ذلك ، ثمّ قال رحمه اللّه : والذي قاله بعض أصحابنا ، يحمل على أنّه لا يجوز أن يكتب ، ويقتصر في ذكر نسبهما ، فانّ ذلك يمكن استعارته ، قال رحمه اللّه : وليس في ذلك نص مسند عن أصحابنا نرجع إليه ، هذا آخر كلام شيخنا في مسألة من مسائل الخلاف (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الذي ذكره وذهب إليه شيخنا في مسائل خلافه ، هو الذي أقول به ، وأعمل عليه ، ويقوى في نفسي ، وهو (3) يبيّن لك أيّها المسترشد ، أنّه يذكر (4) في نهايته شيئا لا يعمل عليه ، ولا يرجع فيه إلى خبر مسند ، فيعتمد عليه ، ويرجع إليه.

وأيضا هذا مصير ، إلى أنّ للإنسان ، أن يعمل ويشهد بما يجد به خطه مكتوبا ، من غير ذكر الشهادة ، وقطع على من شهد عليه ، وهذا عندنا لا يجوز ، أو رجوع إلى العمل بكتاب قاض إلى قاض ، وجميع ذلك باطل عندنا.

فإذا أتاه بكتابه ، ولم يعلم بالمقر بعينه ، ويتحققه (5) ويتقنه فلا يجوز له أن يقضي عليه ، فيأمن الغرر من هذا الوجه.

وكذلك ان أخذ كتابه الذي فيه تثبيت إقراره إلى غيره من الحكام ، لا يحلّ للحاكم الثاني ، أن يعمل به بغير خلاف بيننا.

وكذلك إن شهد عند الحاكم الأول الذي يثبت الإقرار ، شاهدان ، بأنّه حكم بينهما ، لا يجوز له أن يرجع إلى قولهما ، إذا لم يكن ذاكرا لهذه الحكومة ،

ص: 162


1- ج : ينقض.
2- الخلاف : كتاب آداب القضاء ، مسألة 16.
3- ل. ق : وهذا.
4- في نسخة ج وق : انّه يترك. والظاهر أنّه اشتباه.
5- ل : ولا يتحققه.

متيقنا لها ، عارفا بالمقرّ ، قاطعا عليه.

وإذا ادّعى إنسان على أخرس شيئا ، وكانت له إشارة معقولة ، وكناية مفهومة ، توصل الحاكم إلى إفهامه الدعوى ، ومعرفة ما عنده فيها من إقرار أو إنكار ، فإن أقرّ بالإشارة ، أو أنكر بالكناية ، حكم عليه بذلك.

وإن لم يكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه كتب نسخة اليمين في لوح ، ثم غسله وأمره أن يشربه ، فامتنع ، فألزمه الحق (1).

وإن كان يتساكت عن خصمه ، وهو صحيح قادر على الكلام ، وإنما يعاند بالسكوت ، قال شيخنا في نهايته : أمر بحبسه حتى يقرّ أو ينكر ، إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه. وكذلك إن أقرّ بشي ء ، ولم يبيّنه ، كأنّه يقول له عليّ شي ء ، ولا يذكر ما هو ، ألزمه الحاكم بيان ما أقرّ به ، فإن لم يفعل ، حبسه حتى يبين (2).

قال محمّد بن إدريس : والصحيح من مذهبنا ، وأقوال أصحابنا ، وما يقضيه المذهب ، أنّ في المسألتين معا يجعله الحاكم ناكلا ، ويرد اليمين على خصمه.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في فصل فيما على القاضي في الخصوم والشهود.

قال : فأمّا القسم الثالث ، وهو إذا سكت أو قال لا أقرّ ، ولا أنكر ، قال له الحاكم ثلاثا : إما أجبت عن الدعوى ، وإلّا جعلناك ناكلا ، ورددنا اليمين على خصمك.

وقال قوم : يحبسه ، حتى يجيبه بإقرار أو إنكار ، ولا يجعله ناكلا فيقضي بالنكول والسكوت ، وقوله : لا أقرّ ولا أنكر ، ليس بنكول.

قال شيخنا رحمه اللّه : والأول يقتضيه مذهبنا (3) ، والى هذا يذهب ابن البراج من أصحابنا في كتابه المهذب ، ويختاره (4).

وقال شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطة في الجزء الثاني في كتاب الإقرار :

ص: 163


1- الوسائل : الباب 33 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
2- النهاية : كتاب القضاء والاحكام ..
3- المبسوط : ج 8 ، في آداب القضاء ، ص 160.
4- المهذب لابن البراج : ج 2 ، ص 586.

إذا ادّعى عليه مالا بين يدي الحاكم ، وقال : لا أقرّ ولا أنكر ، قال له الحاكم : هذا ليس بجواب ، فأجب بجواب صحيح ، فإن أجبت ، وإلّا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمين على صاحبك ، وإن لم يجب بجواب صحيح ، فالمستحب أن يكرر عليه ذلك ثلاث مرات ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، جعله ناكلا ، ورد اليمين على صاحبه ، فإن ردّ اليمين بعد المرة الأولى جاز ، لأنّه هو القدر الواجب ، وانّما جعلناه ناكلا بذلك ، لأنّه لو أجاب بجواب صحيح ، ثم امتنع عن اليمين ، جعل ناكلا فإذا امتنع عن الجواب واليمين ، فأولى أن يكون ناكلا ، وهكذا إذا قال : لا أدري ما تقول ، لأنّ ذلك ليس بجواب صحيح مع علمه بما يقول ، هذا آخر كلام شيخنا في الموضع المشار إليه أولا حرفا فحرفا (1).

قال محمّد بن إدريس : يمكن أن يفرّق بين الحكم والقضاء ، بأن يقال : الحكم إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولا ، والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا ، فهذا الفرق بينهما عند أهل اللغة ، فأمّا من حيث عرف الشريعة فلا فرق بينهما.

باب سماع البيّنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة

إذا شهد عند الحاكم شاهدان ، وكانا عدلين ، وشهدا في مكان واحد ، على وجه واحد ، ووافقت شهادتهما دعوى المدّعي ، وجب على الحاكم الحكم بشهادتهما بعد سؤال صاحب الحق.

وإذا شهد عنده من لا يعرفهما بعدالة ولا خرج سمع شهادتهما ، وأثبتها عنده ، ثم استكشف أحوالهما ، وسأل عنهما أهل الخبرة الباطنة ، ودون أهل المعرفة الظاهرة ، فإن وجدهما مرضيين جائزي الشهادة ، حكم بشهادتهما ، وإن وجدهما على غير ذلك وبخلافه ، طرح شهادتهما ، فإن حكم بعد البحث عنهما ، فلا يحكم إلا بعد سؤال صاحب الحق.

ص: 164


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 31.

والحكم أن يقول له : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به ، أو يقول : اخرج إليه منه ، فمتى قال إحدى الثلاث ، كان حكما بالحق.

وأمّا إن أنكر ، فقال : لا حقّ لك قبلي ، فهذا موضع البينة ، فإن كان المدعي لا يعرف انه موضع البيّنة ، كان للحاكم أن يقول له ألك بينة؟ فإن كان عارفا بأنّه وقت البينة ، فالحاكم بالخيار بين أن (1) يسكت ، أو يقول ألك بينة؟

فإذا قال له : ألك بيّنة؟ لم يخل من أحد أمرين ، إما أن لا يكون له بينة ، أو له بينة ، فإن لم يكن له بينة ، عرّفه الحاكم أنّ لك يمينه ، فإذا عرف ذلك ، لم يكن للحاكم ، أن يستحلفه بغير مسألة المدّعي ، لأنّ اليمين حقّ له ، فليس له أن يستوفيه إلا بمطالبته ، كنفس الحق فإن لم يسأله ، واستحلفه من غير مسألة ، لم يعتد باليمين ، لأنّه أتى بها في غير وقتها ، فإذا لم يعتد بها ، أعادها عليه بمسألة المدّعي ، فإذا عرض اليمين عليه ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يحلف ، أو ينكل ، فإن حلف أسقط الدعوى ، وليس للمدّعي أن يستحلفه مرة أخرى ، في هذا المجلس ، أو في غيره ، فإن لم يحلف ونكل عن اليمين ، قال له الحاكم : إن حلفت ، وإلا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمين على خصمك ، فيحلف ، ويستحق عليك.

ولا يجوز أن يحكم عليه بالحقّ بمجرد النكول ، بل لا بدّ من يمين المدعي ، ليقوم النكول واليمين مقام البينة ، وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من أصحابنا ، فيظن أن بمجرّد النكول يثبت الحق ، وهذا خطأ محض.

فإن كانت له بينة ، امّا أن تكون حاضرة ، أو غائبة ، فإن كانت غائبة ، لم يقل له الحاكم أحضرها ، لأنّه لا حق له ، فله أن يفعل ما يرى ، فإذا حضرا لم يسألهما الحاكم عمّا عندهما ، حتى يسأله المدّعي ذلك ، لأنّه حقّ له ، فلا فإذا ثبت أنّه لا بدّ من سؤال المدّعي الاستماع منهما ، فإن الحاكم لا يقول يتصرف فيه بغير أمره.

ص: 165


1- ج : بالخيار أن.

لهما اشهدا ، لأنّه أمر ، وهو لا يأمرهما ، لكنه يقول تكلما إن شئتما ، من (1) كان عنده كلام فليذكره إن شاء.

ومتى بدأ أحد الخصمين بإذن أو بغير إذن ، وجعل يدّعي على صاحبه ، منع الحاكم صاحبه من مداخلته ، لأنّه يفسد (2) عليه نظام الدعوى.

وأقل ما على الحاكم ، أن يمنع كل واحد منهما أن ينال من عرض صاحبه ، لأنّه جلس للفصل بين الناس والانصاف ، وأقلّ ما عليه ، أن لا يمكن أحدهما (3) من الظلم والحيف.

ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه ، إمّا أن يضيفهما معا ، أو يدغهما معا ، لما روي أنّ رجلا نزل بعلي عليه السلام ، فأدلى بخصومة ، فقال له علي عليه السلام ، ألك خصم ، قال : نعم ، قال : تحوّل عنا ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : لا تضيفوا أحد الخصمين ، إلا ومعه خصمه (4).

والقاضي بين المسلمين ، والحاكم والعامل عليهم ، يحرم على كل واحد منهم الرشوة ، لما روي ، أنّ النبيّ عليه السلام قال : لعن اللّه الراشي والمرتشي في الحكم (5).

وهو حرام على المرتشي بكل حال ، وأمّا الراشي ، فإن كان قد رشاه على تغيّر حكم (6) ، أو إيقافه ، فهو حرام وإن كان على إجرائه على واجبه ، لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك ، لأنّه يستنقذ ماله ، فيحل ذلك له ، ويحرم على الحاكم أخذه (7).

والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّ الحاكم يجب أن يكون عالما بالكتابة ، والنبيّ عليه السلام عندنا ، كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، وإنّما لم يحسنها قبل البعثة.

وأمّا كيفية البحث فيقدّم أولا من الذي يبحث عنه ، ومتى يبحث عنه ، وجملته أنّ الشهود ضربان ، من له شدة عقول يعني وفور عقل ، وضبط ، وحزم ،

ص: 166


1- ل : أو من.
2- ج : لئلا يفسد.
3- ج : أحدا.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، ح 2
5- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء. ص 151.
6- ل : على تغيير الحكم ج : على تعيين حكم.
7- ج : على آخذه.

وجودة تحصيل ، ومن ليس لهم ذلك ، من شدة عقول ، يعني هو عاقل ، إلا أنّه ليس بكامل العقل ، جميع هذا ذكره شيخنا في مبسوطة (1) ، ولا أرى به بأسا.

وإذا شهد عنده من يتعتع في شهادته ، أو يتلعثم ، يعني يتعتع ، قال الجوهري صاحب كتاب الصحاح : التعتعة في الكلام : التردد فيه ، من حصر أو عيّ ، وقال أيضا قال أبو زيد (2) تلعثم الرجل في الأمر : إذا تمكّث فيه ، وتأنّى فلا يسدده (3). أولا يترك أحدا يلقنه ، بل يتمهل عليه ، حتى يفرغ من شهادته فإذا فرغ ، فإن كانت شهادته موافقة للدعوى ، قبلها ، وحكم بها ، وإلا طرحها.

ومتى أراد الاحتياط والأخذ بالحزم (4) في قبول الشهادة ، ينبغي له أن يفرّق بين الشهود ، ويستدعي واحدا واحدا ، ويسمع شهادته ، ويثبتها عنده ، ويقيمه ، ويحضر الآخر ، فيسمع شهادته ، ويثبتها ، ثم يقابل بين الشهادات فإن اتفقت ، قابلها مع دعوى المدّعي ، فإن وافقتها ، حكم بها بعد سؤال صاحب الحق ، على ما قدمناه ، وإن اختلفت ، طرحها ، ولم يلتفت إليها ، وكذلك إن اتفقت ، غير أنّها لم توافق الدعوى ، طرحها أيضا ، ولم يعمل بها ، وهذا حكم (5) سائر في جميع الأحكام والحقوق ، من الديون ، والأملاك ، والعقود ، والدماء ، والفروج ، والقصاص ، والشجاج ، فانّ الأحوط فيها أجمع ، أن يفرّق بين الشهود ، وإن جمع بينهم ، وسمع شهادتهم ، لم يكن ذلك مما يوجب رد شهادتهم ، ولا موجبا الحكم بخلافها ، غير أنّ الأحوط ما قدّمناه.

ومن شهد عنده شاهدان عدلان ، على أن حقا ما لزيد (6) وجاء آخران ، فشهدا أنّ ذلك الحق لعمرو ، فإن كانت أبديهما خارجتين (7) منه ، فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما شهودا ، فإن تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا ،

ص: 167


1- المبسوط : كتاب آداب القضاء ، في كيفية البحث عن حال الشهود.
2- ج : وقال أيضا أبو زيد.
3- ج : فلا يسدّه.
4- ج : بالجزم.
5- ج : وهذا أيضا حكم.
6- ل : ان الحق لزيد.
7- ج : خارجة

مع يمينه باللّه تعالى ، أنّ الحق له ، فإن تساويا في العدالة والعدد ، أقرع بينهما ، فمن خرج عليه ، حلف ، وكان الحكم له ، فإن امتنع من خرج اسمه في القرعة من اليمين (1) كان الحق بينهما نصفين.

ومتى كان مع واحد منهما يد متصرّفة ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كانت البينة تشهد بأنّ الحق ، ملك له فقط ( خفيفة الطاء ، ساكنه وهي بمعنى حسب ) وتشهد للآخر بالملك أيضا ، انتزع الحق من اليد المتصرفة ، وأعطي اليد الخارجة.

وإن شهدت البينة لليد المتصرفة ، بسبب الملك ، من بيع ، أوهبة ، أو معاوضة ، كانت أولى من اليد الخارجة (2).

قال محمّد بن إدريس : والذي يقوى في نفسي ، وأعمل عليه ، وأفتي به ، أنّ اليد الخارجة في المسألتين معا ، يسلم الشي ء إليها ، وهي أحق من اليد المتصرفة ، والبينة بينتها ، كيف ما دارت القصة ، هذا الذي يقتضيه أصول مذهب أصحابنا ، بغير خلاف بين المحققين منهم ، ولقوله عليه السلام : البينة على المدّعي ، وعلى الجاحد اليمين (3) ، فجعل عليه السلام البينة بينة المدّعي ، وفي جنبته ، فلا يجوز أن يسمع بينة الجاحد ، سواء كان معه سبب ملك ، أو غيره ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني ، في كتاب البيوع.

وجملة القول في ذلك ، وعقد الباب ، أن نقول : إذا تنازعا عينا ، وهي في يد أحدهما ، وأقام كل واحد منهما بينة ، بما يدّعيه من الملكية ، انتزعت العين من يد الداخل ، وأعطيت الخارج ، وكانت بينة الخارج أولى ، وهي المسموعة ، سواء شهدت بينة الداخل بالملك بالإطلاق ، أو بالأسباب ، بقديمه ، أو بحديثه ،

ص: 168


1- ج : من اليمين حلف الآخر وكان الحكم له ، فإن امتنعا جميعا من اليمين كان الحق بينهما نصفين.
2- النهاية ، كتاب القضايا والاحكام باب سماع البنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة.
3- الوسائل : بهذا المضمون وردت روايات في الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.

كيف ما دارت القصة ، فإنّ بينة الخارج أولى على الصحيح من المذهب ، وأقوال أصحابنا ، ولقوله عليه السلام المجمع عليه من الفريقين ، المخالف والمؤالف ، المتلقى عند الجميع بالقبول ، وهو : البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه ، فقد جعل عليه السلام ، البينة في جنبة المدّعى بغير خلاف.

فأمّا إن كانت العين المتنازع فيها خارجة من يدي المتنازعين (1) ، وهي في يد ثالث غيرهما ، ثم أقام كل واحد منهما بينة بها ، فإنّ أصحابنا يرجحون بكثرة الشهود ، فإن استويا في الكثرة ، رجحنا بالتفاضل في عدالة البينتين ، فيحكم في المال المتنازع فيه ، ويقدّم بينة صاحب الترجيح مع يمينه ، فإن استويا في جميع الوجوه ، فالحكم عند أصحابنا المحصّلين القرعة ، على أيّهما خرجت ، اعطي ، وحلف للآخر أنّه يستحقه ، وهو له ، فإن لم يكن ترجيح ، وهو في يد ثالث ، وأقام أحدهما بينة بقديم الملك ، والآخر بحديثه ، وكل منهما يدّعي أنّه ملكي الآن ، وبينة كل واحد منهما تشهد بأنّه ملكه الآن ، غير أن إحدى البينتين ، تشهد بالملكية الآن ، وبقديم الملك ، والأخرى تشهد بالملكية الآن ، وبحديث الملك (2) ، مثاله انّ إحدى البينتين تشهد بالملك منذ سنتين ، والأخرى منذ سنة ، فالبيّنة بينة قديم الملك ، وهي المسموعة ، والمحكوم بها ، دون بيّنة حديث الملك ، لأنّ حديث الملك ، لا يملكه ، إلا عن يد قديمة ، فهو مدّعي الملكية عنه ، ولا خلاف أنّا لا نحكم بأنّه ملك عنه ، لأنّه لو كان عنه ملك ، لوجب أن يكون الرجوع عليه بالدرك ، فإذا لم يحكم بأنّه عنه ملك ، بقي الملك على صاحبه ، حتى يعلم زواله عنه.

وكذلك تكون بينة صاحب السبب ، أولى في هذه المسألة ، إذا كانت العين المتنازع فيها في يد ثالث ، وخارجة من أيديهما ، عند بعض أصحابنا ، والأقوى عندي استعمال القرعة هاهنا ، وان لا يجعل لصاحب السبب هاهنا ترجيح ، لأنّ

ص: 169


1- ج : يد المتداعيين.
2- ج : بالملكية وبحديث الملك.

الترجيح عندنا ما ورد إلا بكثرة الشهود ، فإن تساووا في العدد ، فأعدلهما شهودا ، والمراد بأعدلهما في هذه المواضع ، أنّ البينتين جميعا شرائط العدالة فيهما ، إلا أن إحداهما أكثر مواظبة على الأعمال الصالحات المندوبات ، وإن كانت الأخرى غير مخلة بواجب ، ولا مرتكبة لقبيح. وليس المراد أنّ إحداهما فاسقة ، والأخرى عادلة ، لأنّ لفظة افعل في لسان العرب ، للمشاركة في الشي ء ، والزيادة عليه ، فمن ظنّ أنّ المراد بأعدلهما شهودا غير ما قلناه ، فقد أخطأ خطأ فاحشا.

وبقديم الملك (1) على ما دللنا عليه ، ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ، فلم يبق إلا استعمال القرعة ، لإجماعهم على أنّ كل أمر مشكل فيه القرعة ، إلا أن يكون مع ذلك الآخر مرجح ، من المرجحات المجمع عليها ، وهي المقدّم ذكرها ، من كثرة العدد ، أو أعدلهما شهودا ، أو بقديم الملك.

ولو قلنا : نرجّح بالسبب ، إذا كان في يد ثالث ، لكان قويا ، وبه أفتي ، لأنّ فيه جمعا بين الأحاديث والروايات ، وعليه الإجماع ، فإنّ المحصلين من الأصحاب ، مجمعون عليه ، قائلون به ، ولأنّ السبب أولى من قديم الملك ، وقد رجحنا بقديم الملك ، لأنّ من شهد بالنتاج والبيع والهبة ، نفى أن يكون ملكا قبله لأحد ، أعني النتاج ، وكان أقوى ، فليتأمّل ذلك.

فهذا تحقيق المسائل المختلفة ، الموضوعة في الجزء الثالث من مسائل الخلاف ، لشيخنا أبي جعفر (2) فإنّها مختلفة الألفاظ ، وتحريرها ما ذكرناه.

والذي اعتمده واعتقده وأعمل عليه ، بعد هذه التفاصيل جميعها أن لا ترجيح إلا بالعدد ، وبالتفاضل في عدالة البينتين فحسب ، دون الأسباب ، وقدم

ص: 170


1- هذه العبارة عطف على قوله : بكثرة الشهود.
2- الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسائل 13 و 14 و 15 و 2.

الأملاك ، لأنّ القياس عندنا باطل ، على ما قدّمناه ، وانّما فصلناه على وضع شيخنا في مسائل خلافه ، وهي من فروع المخالفين ، ومذاهبهم ، فحكاها ، واختارها ، دون أن يكون مذهبا لنا ، أو لبعض مشيختنا ، ولا وردت به أخبارنا ، ولم يذهب إليه أحد من أصحابنا ، سوى شيخنا أبي جعفر في كتابيه الفروع ، مبسوطة (1) ومسائل خلافه ، وعادته في هذين الكتابين ، وضع أقوال المخالفين ، واختيار بعضها ، فليلحظ.

فأمّا إن كانت يدهما معا عليها ، كالدار هما فيها ، والثوب يدهما جميعا عليه ، كان بينهما ، ولا بينة لواحد منهما ، حلف كل واحد منهما لصاحبه ، وكان الشي ء بينهما بنصفين.

وقد روى (2) أصحابنا ، أنّه إذا كانت جارية مع رجل وامرأة ، وادّعى الرجل أنّها مملوكته ، وادعت المرأة أنّها بنتها ، وهي حرّة ، وأنكرت الجارية الدعويين جميعا ، كان على الرجل البيّنة بأنّ هذه الجارية مملوكته ، لم يبعها ، ولم يعتقها ، فإن أقام بذلك ، سلّمت إليه ، وكذلك إن أقرّت الجارية أنّها مملوكته ، وكانت بالغة ، سلّمت إليه ، وإن لم يقم بينة ، ولا تكون هي بالغا ، أو تكون بالغا ، غير أنها لا تقرّ ، انتزعت من يده ، فإن أقامت المرأة البينة أنّها بنتها ، سلّمت إليها إذا كانت صغيرة وإن لم تكن لها بينة ، تركت الجارية ، تمضى حيث شاءت.

ومتى كانت جارية بين شركاء ، فوطأوها كلهم في طهر واحد ، وحملت ، وولدت ، فادّعى كل واحد منهم أنّ الولد له ، أقرع بينهم ، فمن خرج اسمه ، الحق الولد به ، وغرم الباقين قيمة الولد ، على قدر ما لهم من الجارية ، ورد مع ذلك أيضا ثمن الجارية على قدر حصصهم.

قال محمد بن إدريس : وهذا يكون على التقريب ، وأنّهم (3) في يوم واحد ، أو لا يعرف المتقدّم من المتأخر ، واشتبه الأمر وأشكل ، وإلا إذا كان الطهر مثلا

ص: 171


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الدعاوي والبينات ، ص 257 - 259.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب كيفية الحكم ، ح 9.
3- ج : ولأنّهم.

شهرا أو شهرين ، لأنّ الطهر لا حدّ لأكثره عندنا ، فوطئها واحد منهم في أول الشهر ، والثاني في آخره ، ثم وضعت الولد لستة أشهر ، منذ يوم وطئ الأول ، فهو للأوّل دون الباقين (1) ، بغير خلاف ، فليلحظ ذلك.

ومتى سقط بيت على قوم ، فماتوا ، وبقي منهم صبيان ، أحدهما مملوك ، والآخر حرّ والمملوك عبد لذلك الحر ، ولم يتميز أحدهما من الآخر ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه ، فهو الحر ، وكان الآخر مملوكا له.

وإذا قال إنسان : أول مملوك أملكه فهو حر ، وجعل ذلك نذرا ، ثم ملك جماعة في وقت واحد ، أقرع بينهم ، وأعتق من خرج اسمه ، على ما ورد في بعض الأخبار (2) وأورده شيخنا في نهايته (3).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا ملك جماعة لا ينعتق منهم أحد ، ولا يقرع على واحد منهم ، لأنّ شرط النذر ما وجد ، وهو قول الناذر أول مملوك أملكه ، وهذا ما ملك واحدا قبل الآخر والأصل بقاء الرقّ وحصول الملك فمن أخرجه من الملك يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، وأخبار الآحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعوّل عليها ، بقي معنا من الأدلّة الأصل ، وهو بقاء الملك وثبوته ، وشيخنا أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله في كتاب النهاية ، وإن كان قوله ، وعمله ، واعتقاده ، وفتواه ، بخلافه ، وقد رجع شيخنا عن هذا بعينه في الجزء الرابع (4) من المبسوط (5).

وإذا أوصى إنسان ، أن يعتق (6) ثلث عبيده ، ولم يعينهم ، أقرع بينهم ، وأعتق من خرج اسمه.

ص: 172


1- ج : كان الولد لا حقا بالأوّل دون الباقين.
2- الوسائل : الباب 57 من أبواب العتق ، والباب 13 من أبواب كيفية الحكم.
3- النهاية : باب سماع البينات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة.
4- ج : الثالث.
5- المبسوط ..
6- ل : بعتق.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة في آخر الجزء السادس : ومتى قلنا أنّه من الثلث ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه أعتق ، ورق الآخر ، هذا إذا كانت قيمة كل واحد منهما ثلث ماله ، فأمّا إذا اختلفت القيمتان ، وكانت قيمة أحدهما ثلث ماله ، وقيمة الآخر سدس ماله ، فإذا أقرعنا بينهما ، مع تساوى القيمة ، أقرعنا هاهنا ، فإن خرجت القرعة لمن قيمته الثلث ، عتق ، ورق الآخر كله وإن خرجت القرعة لمن قيمته السدس ، عتق كله ، وكملنا الثلث من الآخر ، فيعتق من الآخر نصفه (1).

فأمّا المسألة الأوّلة فأوردها في نهايته ، تحمل على ان ثلثهم يكون بمقدار ثلثه ، أو أقل منه ، وما ذكره في مبسوطة يحمل [ على ما ] إذا كان ثلث العبيد يزيد على ثلث الميت ، وهو ثلث التركة ، فتجزى العبيد بالقيمة ، لا بالرؤوس ، ويكون الحكم على ما قاله رحمه اللّه.

وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ، ولا ما للنساء ، أقرع عليه ، فإن خرج سهم الرجال الحق بهم ، وورث ميراثهم ، وإن خرج سهم النساء ، ألحق بهن ، وورث ميراثهن ، وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه ، فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ، لما روي عن الأئمة الأطهار عليهم السلام (2) ، وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية.

وقال شيخنا في مبسوطة : إذا قال لعبده : إن قتلت فأنت حر ، فهلك السيّد ، واختلف الوارث والعبد ، فأقام الوارث البينة أنّه مات حتف أنفه ، وأقام العبد البينة أنّه مات بالقتل ، قال قوم : يتعارضان ، ويسقطان ، ويسترق العبد ، وقال قوم : بينة العبد أولى ، لأنّ موته قتلا يزيد على موت حتف أنفه

ص: 173


1- المبسوط : كتاب الشهادات ، فصل الرجوع عن الشهادة ، ج 8 ، ص 250.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب كيفية الحكم.

لأنّ كل مقتول ميت ، وليس كل ميّت مقتولا ، فكان الزائد أولى ، ويعتق العبد ، وعندنا يستعمل فيه القرعة ، فمن خرج اسمه ، حكم ببيّنته (1).

قال محمّد بن إدريس : والأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّه ينعتق العبد ، لأنّ هذا ليس بأمر مشكل ، لأنّ بينة العبد شهدت بأمر زائد ، قد يخفى على بينة الوارث.

وهكذا قال رحمه اللّه في مبسوطة ، في رجل قال لعبد له : إن متّ في رمضان ، فأنت حر ، وقال لعبد له آخر : إن مت في شوال ، فأنت حر ، فمات السيد ، واختلف العبدان ، فأقام كل واحد منهما البينة على ما ادّعاه (2).

قال محمّد بن إدريس : الصحيح أنّه تقبل بيّنة رمضان ، لأنّ معها زيادة ، وهو أن يخفى على بينة شوال ، موته في رمضان ، ولا يخفى على بينة رمضان موته في شوال ، فكان صاحب رمضان أولى ، وليس هذا من الأمور المشكلة بقبيل.

وقد بيّنا في كتاب الشهادات ، ما يقبل فيه شهادة الصبيان ، وينبغي أن يفرّق بينهم في الشهادة ، ويؤخذ بأوّل قولهم ، ولا يؤخذ بثانيه ، ومتى اختلفوا لم يرجع إلى شي ء من أقوالهم ، ولا يعتد أيضا بشي ء من أقوالهم التي يرجعون إليها ، من الأقوال الأولة.

وإذا بحث الحاكم عن عدالة الشاهد ، فإن الجرح يقدم على التزكية ، ولا يقبل الجرح إلا مفسّرا وتقبل التزكية من غير تفسير ، وقال قوم : يقبل الأمران معا مطلقا.

والصحيح الأول ، لأنّ الناس يختلفون فيما هو جرح ، وما ليس بجرح ، فإنّ أصحاب الشافعي لا يفسّقون من شرب النبيذ ، ومالك يفسّقه ، ومن نكح المتعة في الناس من فسقه ، وعندنا أنّ ذلك لا يوجب التفسيق ، بل هو مباح طلق ، وربما كان مستحبا ، فإذا كان كذلك لم يقبل الجرح إلا مفسرا ، لئلا يجرحه بما هو جرح عنده ، وليس بجرح عند الحاكم ، ويفارق الجرح التزكية ، لأنّ التزكية إقرار صفة على الأصل ، فلهذا قبلت من غير تفسير ، والجرح اخبار عمّا حدث (3) من

ص: 174


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، ص 173.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، ص 173.
3- ج : وجدت.

عيوبه ، وتجدد من معاصيه ، فبان الفصل بينهما.

ولا يقبل الجرح ولا التزكية ، حتى يكون الشاهد بها من أهل الخبرة الباطنة ، والمعرفة المتقادمة هذا في التزكية خاصة ، والفصل بينهما ، أنّ الجرح يعرف لحظة واحدة (1) وهو أن يرتكب ما يفسق به ، فتسقط شهادته ، ولو كان قبل ذلك أعدل الناس ، فلهذا لم يفتقر إلى الخبرة المتقادمة ، وليس كذلك التزكية ، لأنّه لا يكون عدلا ، بأن يراه في يومه عدلا ، لأنّ العدل من تاب عن المعاصي ، وطالت مدته في الطاعات ، إلا أن يتوب على ما قدّمناه.

لا يجوز للحاكم أن يرتّب شهودا يسمع شهادتهم ، دون غيرهم ، بل يدع الناس ، فكل من شهد عنده ، فإن عرفه ، وإلا سأل عنه على ما قلناه.

وقيل : إنّ أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم ، إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي.

والصحيح ما قلناه ، لأنّ الحاكم إذا رتّب قوما ، فإنّما يفعل هذا بمن هو عدل عنده ، وغير من رتبه كذلك مثله ، أو أعدل منه ، فإذا كان الكل سواء ، لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول دون بعض ، ولأنّ فيه مشقة على الناس ، لحاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت ، من نكاح ، وغصب ، وقتل ، وغير ذلك ، فإذا لم يقبل إلا قوما ، دون قوم ، شق على الناس.

وينبغي للقاضي ، أن يتخذ كاتبا يكتب بين يديه ، وصفة الكاتب أن يكون عدلا عاقلا ، ولا يجوز له أن يتخذ كافرا بلا خلاف ، لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ) (2) وكاتب الرجل بطانته ، وقال تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ » (3) وكاتب الرجل وليه وصاحب سره ، وعليه إجماع الصحابة.

ص: 175


1- ج : في لحظة واحدة.
2- آل عمران : 118.
3- الممتحنة : 1.

ولا ينبغي لقاض ، ولا وال (1) من ولاة المسلمين ، أن يتخذ كاتبا ذميا ، ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلما ، وينبغي أن يعز المسلمين لئلا تكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم.

ولا يقبل عندنا كتاب قاض ، إلى قاض ، بغير خلاف بيننا ، وإجماعنا منعقد على ذلك ، وما يرويه المخالف في ذلك ، فكله أخبار آحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، ولا علم في ذلك ، ولا دلالة عليه.

وإذا كتب الكتاب ، فأدرجه ، وختمه ثم استدعى بهما ، فقال : هذا كتابي ، قد أشهدتكما على نفسي بما فيه ، لم يصح ، ولا يصح هذا التحمل ، ولا العمل عليه ، وكذلك ان قرأه عليهما ، عندنا لما قدمناه ، فهذا فرع يسقط عنا.

وفي الوصايا فإنه لو أوصى بوصية ، وأدرج الكتاب ، وأظهر (2) للشهود مكان الشهادة ، وقال : قد أوصيت بما أردته في هذا الكتاب ، ولست أختار أن يقف أحد على حالي ، وتركتي ، قد أشهدتكما عليّ بما فيه ، لم يصح هذا التحمل بلا خلاف.

الذي يقتضيه مذهبنا أنّ الإمام إذا مات ينعزل النائبون عنه ، إلا أن يقرّهم الإمام القائم مقامه.

المشتري للعقار إذا أشهد على البائع بالبيع ، وطالبه بكتاب الأصل ، لم يجب عليه أن يعطيه إيّاه ، لأنّه ملكه ، ولأنّه حجته عند الدرك.

وإذا كان لجماعة على رجل حقوق من جنس واحد ، أو أجناس ، فوكّلوا من ينوب عنهم في الخصومة ، فادّعى الوكيل عليه الحقوق ، فإن اعترف ، فلا كلام ، وإن أنكر ، وكانت هناك بينة ، حكم عليه بها ، فإن لم تكن بينة ، فالقول قوله مع يمينه ، فإن أراد كل واحد من الجماعة أن يستحلفه على الانفراد ، كان له ، لأنّ اليمين حق له ، فكان له أن ينفرد باستيفائه ، وإن قالت الجماعة قد رضينا

ص: 176


1- ج : ولا لوال.
2- ج : ولم يظهر.

منه بيمين واحدة عن الكل لكلنا ، قال قوم : يستحلفه ، لأنّه لمّا صح أن يثبت الحقوق عليه بالبينة الواحدة ، صح أن يسقط الدعوى باليمين الواحدة ، وقال آخرون : لا يجوز أن يقتصر الحاكم منه على يمين واحدة ، والأول هو الصحيح ، لأنّ اليمين حقّ لهم ، فإذا رضوا بيمين واحدة ، فينبغي أن يكتفي بها.

إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل ، فإن كان حاضرا ، أعدى عليه ، وأحضره ، سواء علم بينهما معاملة ، أو لم يعلم ، وليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات والمروّات ، فانّ عليا عليه السلام ، حضر مع يهودي عند شريح ، وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ، ليحكم بينهما في داره ، وحج أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء من العباسيين ، فحضر مع جمّالين مجلس الحكم ، عند حاكمه لخلف جرى بينهم.

فإذا ثبت هذا ، فمتى (1) حضر ، قيل له. ادّع الآن ، فإذا ادّعى عليه ، لم يسمع الدعوى إلا محررة ، فأمّا إن قال : لي عنده ثوب ، أو فرس ، أو حقّ ، لم يسمع دعواه ، لأنّ دعواه لها جواب ، فربما كان بنعم ، فلا يمكن الحاكم أن يقضي به عليه ، لأنّه مجهول ، قالوا : أليس الإقرار بالمجهول يصح ، فهلا قلتم إنّ الدعوى المجهولة تصح ، قلنا : الفصل بينهما ، أنّه إذا أقرّ بمجهول ، لو كلفناه تحرير الإقرار ربما رجع عن إقراره ، فلهذا ألزمنا المجهول به ، وليس كذلك مسألتنا ، لأنّه إذا ردّت الدعوى عليه ، ليحررها ، لم يرجع ، فلهذا لم تسمع إلا معلومة.

هذا كله ما لم تكن وصية ، فإن كانت الدعوى وصية ، سمع الدعوى فيها ، وإن كانت مجهولة ، والفصل بينهما وبين سائر الحقوق ، انّ تمليك المجهول بها يصح ، فصحّ أن يدّعى مجهولة ، وليس كذلك غيرها ، لأنّ تمليك المجهول به لا يصح ، فلهذا لم تقبل الدعوى به إلا معلومة.

فإذا ثبت ذلك ، فإن حرر الدعوى ، فلا كلام ، وإن لم يحررها ، ولم يحسن

ص: 177


1- ج : ثبت فمتى.

ذلك ، فلا يجوز للحاكم أن يلقنه تحريرها.

فإن كانت الدعوى أثمانا ، فلا بدّ من ذكر ثلاثة أشياء ، تكون معلومة ، وهو أن يذكر القدر ، والجنس ، والنوع ، قالوا : أليس لو باع ثوبا بألف مطلقا ، انصرف إلى نقد البلد ، هلا قلتم تسمع الدعوى مطلقا ، وتنصرف إلى نقد البلد ، قلنا : الفصل بينهما ، أنّ الدعوى ، إخبار عمّا كان واجبا عليه ، وذلك يختلف في وقت وجوبه ، باختلاف الأزمان والبلدان ، فلهذا لم تسمع منه إلا محررة ، وليس كذلك الشراء ، لأنّه إيجاب في الحال ، فلهذا انصرف إلى نقد البلد.

فأمّا إن كانت غير الأثمان ، لم تخل من أحد أمرين ، إمّا أن تكون عينا قائمة أو هالكة ، فان كانت عينا قائمة ، فإن كانت ما يمكن ضبطها بالصفات ، ضبطها ، وإن لم يمكن ضبط الصفات ، كالجواهر ، ونحوها ذكر قيمتها ، وإن كانت تالفة ، فإن كان لها مثل ، كالحبوب ، والأدهان ، وصفها ، وطالب بها ، لأنّها تضمن بالمثل ، وإن لم يكن لها مثل ، كالحيوان ، والثياب ، فلا بدّ من ذكر القيمة.

كل موضع تحررت الدعوى ، فليس للحاكم مطالبة المدّعي عليه بالجواب ، بغير مسألة المدّعي ، لأنّ الجواب حقّ المدّعي ، فليس للحاكم المطالبة به من غير مسألته ، كنفس الحق ، فإذا أقرّ بما ادّعاه خصمه ، لم يكن للحاكم أن يحكم عليه به ، إلا بمسألة المقرّ له به ، لأنّ الحكم عليه به حقّ له ، فلا يستوفيه إلا بأمره ، كنفس الحق. والحكم أن يقول له : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به ، أو يقول : أخرج له منه ، على ما قدّمناه أولا ، وشرحناه.

إذا أراد الإمام أن يولّي قاضيا ، فإن وجد متطوعا به ، ولاه ، ولا يولّي من يطلب عليه رزقا ، وإن لم يجد متطوعا ، كان له أن يولّي القضاء ، ويرزقه من بيت المال ، وروي أنّ عليا عليه السلام ولّى شريحا ، وجعل له في كل سنة خمسمائة درهم ، وكان عمر قبله ، جعل له كل شهر مائة درهم (1).

ص: 178


1- لم نعثر عليه.

عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء ، لأنّه لو لم يقض بعلمه ، أفضى إلى إيقاف الأحكام ، أو فسق الحكّام ، لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ، ثم جحد الطلاق ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن حكم بغير علمه ، وهو استحلاف الزوج ، وتسليمها إليه ، فسق ، وإن لم يحكم ، وقف الحكم ، وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ، ثم جحد ، وإذا غصب من رجل ماله ثم جحد ، يقضي إلى ما قلناه.

الحقوق ضربان ، حقّ للآدميين ، وحقّ لله ، فإن ادّعى حقا لآدمي ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، والمال ، فاعترف به ، أو قامت به البينة ، لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه ، والجحود ، لأنّه لا ينفعه ذلك ، لأنّه إذا ثبت باعترافه ، لم يسقط برجوعه ، وإن كان قد ثبت بالبينة ، لم يسقط عنه بجحوده ، وإن كان حقا لله كحدّ الزنا والشرب ، فإن كان ثبوته عند الحاكم بالبينة ، لم يعرض له بالرجوع ، لأنّ الرجوع لا ينفعه ، وإن كان ثبوته باعترافه ، جاز للحاكم أن يعرض له بالرجوع ، لكنه لا يصرّح بذلك ، لأنّ فيه تلقين الكذب ، وانّما قلنا بجوازه ، لأنّ ماعزا ، لمّا اعترف قال له النبي عليه السلام : لعلك قبلتها ، لعلك لمستها.

إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحق ، وكانا عدلين ، حين الشهادة ثم فسقا قبل الحكم بشهادتهما ، أو بعد الحاكم بشهادتهما ، فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما ، قال قوم من المخالفين : لا يحكم بشهادتهما ، وقال آخرون : يحكم ، وهذا الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ المعتبر في العدالة حين الأداء ، ولا يراعى ما قبل ذلك ، ولا ما بعده.

فإن فسقا بعد الحكم ، وقبل الاستيفاء ، فإن كان حقا لآدمي لا ينقض وأمضى ، وإن كان حقا لله ، فإنّه لا يمضي ، لقوله عليه السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات (1) وحدوث الفسق شبهة ، ويفارق المال ، لأنّ المال لا يسقط بالشبهة.

فأمّا إن قامت البينة ، بأنهما كانا فاسقين قبل الشهادة ، والإقامة لهما ،

ص: 179


1- الوسائل : الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

والحكم بها ، بأن قامت البينة عنده أنّهما شربا الخمر أو قذفا حرا ، قبل الحكم بشهادتهما بيوم ، قال قوم : ينقض الحكم ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا.

من ادعى مالا أو غيره ، ولا بينة له ، فتوجهت اليمين على المدّعى عليه ، فنكل عنهما ، فإنّه لا يحكم عليه بالنكول ، بل يلزم اليمين المدّعي ، فيحلف ، ويحكم له بما ادّعاه ، هذا هو مذهب أصحابنا.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإذا نكل ، لزمه الحق ، وأطلق ذلك (1) ورجع في مسائل الخلاف (2) ، والمبسوط (3) ، إلى ما اخترناه ، والمعنى فيما ذكره في نهايته ، من قوله لزمه الحق ، يعني أن بنكوله صارت اليمين على المدّعي ، بعد أن كانت عليه ، وكل من كانت عليه اليمين ، فهو أقوى جنبة من صاحبه ، والقول قوله مع يمينه ، لا أنّه أراد بمجرد النكول يقضي الحاكم عليه بالحق ، من دون يمين خصمه.

فامّا حقوق اللّه فعلى ضربين ، حقّ لا يتعلّق بالمال ، وحقّ يتعلّق بالمال ، فأمّا ما لا يتعلّق بالمال ، كحدّ الزنا ، وشرب الخمر ، وغير ذلك ، فلا يسمع فيه الدعوى ، ولا يلزم الجواب ، ولا يستحلف ، لأنّ ذلك مبني على الإسقاط.

إذا مات رجل ، وخلّف طفلا ، وأوصى إلى رجل بالنظر في أمره ، فادّعى الوصي دينا على رجل ، فأنكر ، فإن حلف ، سقطت الدعوى ، وإن لم يحلف ، فلا يمكن ردّ اليمين على الوصي ، لأنه لا يجوز أن يحلف عن غيره ، فتوقف إلى أن يبلغ الطفل ، ويحلف ، ويحكم له.

المستحب أن لا يكون الحاكم جبّارا ، متكبرا ، عسوفا ، لأنّه إذا عظمت هيبته ، لم يلحن ذو الحجّة بحجّته (4) ، هيبة له ولا يكون ضعيفا مهينا ، لأنّه

ص: 180


1- النهاية : كتاب القضاء والأحكام .. والعبارة هكذا : « فان نكل عن اليمين الزمه الخروج الى خصمه ».
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 38.
3- المبسوط : ج 8 ، فصل في النكول عن اليمين ، ص 212.
4- ج : لحجّته.

لا يهاب ، فربما خرق بمجلسه بالمشاتمة ويكون فيه شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف ، فإن ذلك أولى بالمقصود.

ومتى حدثت حادثة ، فأراد أن يحكم فيها ، فإن كان عليها دليل من نص كتاب ، أو سنة مقطوع بها ، أو إجماع ، عمل عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وعندنا ان جميع الحوادث هذا حكمها ، فلا يخرج عنها شي ء ، قال رحمه اللّه : فإن شذت ، كانت مبقاة على الأصل (1).

وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، الذي لا يجوز العدول عنه.

وقال شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من الإستبصار ، في باب البيّنتين إذا تقابلتا ، أورد أخبارا تتضمن أنّ قوما اختصموا في بغلة أو دابة ، وأنهم أنتجوها على مذودهم (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : المذود ، بالميم ، والذال المعجمة ، والواو ، والدال غير المعجمة : المعلف ، والمربط ، وهو مشتق من ذدت الشي ء ، إذا حمى عنه ، وطرد عنه ، فهو مفعل من ذاد يذود ، فكأنما البهيمة تحمى وتطرد عن مربطها. ومعلفها ، قال الجاحظ في كتاب الحيوان : أورد في معنى البراغيث ، ثلاثة أبيات وهي :

هنيئا لأهل الري طيب بلادهم *** وأنّ أمير الري يحيى بن خالد

بلاد إذا جنّ الظلام تقاقرت (3) *** براغيثها من بين مثنى وواحد

ديازجة سود الجلود كأنّها *** بغال بريد أرسلت من مذاود (4)

وقال المفضل بن سلمة في كتاب البارع : المرود بالراء ، موضع الذال ، الحبل الذي يرود فيه ، أي يذهب ويجي ء وأنشد بيتا يصف نشاط فرس :

قاظ بذي الآرى فالمنحنا *** يقتلع الارىّ بالمرود

ص: 181


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء ، ص 97.
2- الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام الباب 22 البينتان إذا تقابلتا ، ص 38.
3- ج : تقاتلت ، وفي المصدر تقافزت.
4- الحيوان : ج 5 ، ص 390.

قال يعني بالمرود مع المرود ، يعني قاظ (1) بهذين الموضعين ، والآري محبس الدابة.

باب كيفية الاستحلاف

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : قد بينا في كتاب الأيمان والنذور ما يجوز أن يحلف الإنسان به ، وما لا يجوز ، وما إذا حلف به كان حالفا ، وما لا يكون كذلك (2).

قال محمّد بن إدريس : كتاب الأيمان والنذور في الجزء الثاني من نهايته ، فكيف يقول قد بيّنا ، وبعد ما وصل إليه ، ولا صنّفه؟ ، ولقائل أن يعتذر ويقول : أشار إلى الجملة التي يريد أن يعملها ، ويصنّفها ، وذلك جائز ، وكثيرا ما قالت ذلك العلماء في تصانيفهم ، ولأبي العباس ثعلب في أول الفصيح مثل هذا ، على ما يعتذر له ويقال ، ويجوز أيضا أنّه كان قد صنّفه قبل هذا ، لأنّه لا يمنع من ذلك مانع.

وينبغي للحاكم إذا أراد أن يحلف الخصم ، أن يخوّفه باللّه تعالى ، ويذكره العقاب الذي يستحقه على اليمين الكاذبة ، والوعيد عليها ، فإن أنجع (3) ذلك ، وراجع الحق ، حكم بما يقتضيه الحال ، مما يوجبه الشرع ، وإن أقام على الإنكار واليمين ، استحلفه باللّه تعالى ، أو بشي ء من أسمائه ، مما تنعقد اليمين به.

ولا تنعقد اليمين عند أهل البيت عليهم السلام بشي ء من المحدثات من الكتب المنزلة ، ولا المواضع المشرفة ، ولا الرسل المعظمة ولا الأئمة المنتجبة ، فإنّ اليمين بجميع ذلك بدعة في شريعة الإسلام.

ولا يحلف بالبراءة من اللّه ، ولا من رسله ، ولا من أئمته ، ولا من الكتب ، ولا بالكفر ، ولا بالعتق ، ولا بالطلاق ، فانّ ذلك كله غير جائز ، وإن اقتصر على أن يقول له : قل ، واللّه ماله قبلي حقّ ، كان كافيا ، فإن أراد الزيادة في الردع والإرهاب ، قال له : قل واللّه الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضار ، النافع ، المدرك ، المهلك ، الذي يعلم من السر ما يعلمه من

ص: 182


1- ج : يعني بالمرود فاظ.
2- النهاية كتاب الشهادات ، باب كيفية الاستحلاف.
3- ج : نجع.

العلانية ، ما لهذا المدّعي على ما ادّعاه ، ولا له قبلي حقّ بدعواه ، فإذا حلف فقد برئت ذمته من ظاهر الحكم ، إن كان كاذبا ، وإن كان صادقا فقد برئت ذمته ظاهرا وباطنا ، وكان المعرّض له آثما.

واستحلاف أهل الكتاب يكون أيضا باللّه ، أو بشي ء من أسمائه ، وقد روي جواز أن يحلفوا بما يرون هم الاستحلاف به ، ويكون الأمر في ذلك إلى الحاكم ، وما يراه أنّه أردع لهم ، وأعظم عليهم (1).

ويستحب أن يكون الاستحلاف في المواضع المعظمة ، كالقبلة ، وعند المنبر ، والمواضع التي يرهب من الجرأة على اللّه تعالى.

وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس ، حلّفه بالإشارة والإيماء ، إلى أسماء اللّه سبحانه ، وتوضع يده على اسمه (2) سبحانه في المصحف ، ويعرف يمينه على الإنكار ، كما يعرف إقراره وإنكاره ، كما قدّمنا القول في ذلك وشرحناه ، وإن لم يحضر مصحف ، وكتب اسم اللّه تعالى ، ووضعت يده عليه أيضا جاز.

وينبغي أن يحضر يمينه ، من له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشارته ، وقد روي أنّه يكتب نسخة اليمين في لوح ، ثمّ يغسل ذلك اللوح ، ويجمع ذلك الماء ، ويؤمر بشربه ، فإن شرب ، كان حالفا ، وان امتنع من شربه ، ألزم الحق بعد ردّ اليمين على خصمه (3) ، على ما قررناه في النكول.

ويمكن حمل هذه الرواية ، والعمل بها على أخرس ، لا يكون له كناية معقولة ، ولا إشارة مفهومة ، والأول على من يكون له ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه.

وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا إلا في مجلس الحكم ، فإن كان هناك من توجهت عليه اليمين ، ومنعه من حضور المجلس مانع ، من مرض ، أو عجز ، أو غير ذلك ، جاز للحاكم أن يستحلف من ينوب عنه ، في المضي إليه ، واستحلافه

ص: 183


1- الوسائل : الباب 22 من أبواب الأيمان ، ح 4 و 7 و 8 و 9 و 10 و 12.
2- ج : على اسم اللّه.
3- الوسائل : الباب 33 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.

على ما تقتضيه شريعة الإسلام.

والمرأة إذا وجبت عليها اليمين ، استحلفها الحاكم في مجلس الحكم ، وعظّم عليها الأيمان ، فإن كانت المرآة لم تجر لها عادة بالخروج من منزلها ، إلى مجمع الرجال ، أو كانت مريضة ، أو بها علّة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء ، أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها وبين خصمها ، من ثقاته وعدوله ، وأهل العلم والفقه عنده ، فإن توجهت عليها اليمين ، استحلفها في منزلها ، ولم يكلّفها الخروج إلى مجمع الرجال ، وإن توجّه عليها الحق ، ألزمها الخروج منه على ما يقتضيه شرع الإسلام ، وعدله ، فإن امتنعت من ذلك ، كان حكمها حكم الرجال ، وجاز له حبسها في الموضع الذي يجوز له حبس الرجال.

باب النوادر في القضاء والأحكام

روى أبو شعيب المحاملي ، عن الرفاعي ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات ، بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ، ثم عجز ، قال : يقسم عشرة ، على خمسة وخمسين جزءا ، فما أصاب واحدا ، فهو للقامة الأولة ، والاثنين للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا الحساب إلى عشرة (1).

قال محمد بن إدريس : أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، وقال في مبسوطة ، في الجزء الثالث في كتاب الإجارات ، قال : يجوز الاستيجار لحفر البئر ، غير أنّه لا يجوز حتى يكون المعقود عليه معلوما ، ويصير معلوما بأحد أمرين ، بتقدير المدة ، أو تقدير نفس العمل ، فأمّا المدة فيكفي أن يقول : اكتريتك لتحفر لي بئرا ، يوما أو عشرة ، وما يقدره ، لأنّ المعقود عليه ، يصير معلوما محددا (3) بذلك المقدار ، وإن قدر العمل ، فلا بدّ من مشاهدة الأرض التي يريد

ص: 184


1- الوسائل : كتاب الإجارة ، الباب 35 ، ح 2 ، لكن في المصدر : عن أبي شعيب المحاملي الرفاعي.
2- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
3- ج : المحاملي.

أن يحفر فيها ، لأنّها تختلف في الرخاوة والصلابة ، ولا بدّ من تقدير العرض والعمق ، فيقول قدر عرضه كذا ذراعا ، وقدر عمقه كذا وكذا ذراعا ، وتقدير ذلك بالذراع الذي هو معتاد بين الناس ، كما يقول في المكيال ، فإذا استأجره على ذلك ، وأخذ يحفرها ، فانهار عليه الجرف ، فحصل تراب الجرف في البئر ، فانطم بعضها ، كان على المستأجر إخراجه ، ولا يجب على الأجير ، لأنّه ملك المستأجر ، حصل في تلك الحفرة ، فهو بمنزلة ما لو وقع فيها طعام له ، أو دابة له ، أو تراب من موضع آخر ، فإن وقع من تراب البئر فيها ، لزم الحفار إخراجه ، لأنّ ذلك ممّا تضمنه العقد ، لأنه استؤجر ليحفر ، ويخرج التراب ، فإن استقبله حجر نظرت ، فإن أمكن حفره ونقبه ، لزمه ، وإن كان عليه مشقة فيه ، لأنّه التزم الحفر بالعقد ، فيلزمه على اختلاف حاله ، وإن لم يمكن حفره ، ولا نقبه ، انفسخ العقد فيما بقي ، ولا ينفسخ فيما حفر ، على الصحيح من الأقوال ، قال رحمه اللّه : ويقسّط (1) على أجرة المثل ، لأنّ الحفر يختلف ، فحفر ما قرب من الأرض ، أسهل ، لأنّه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد ، أصعب ، قال رحمه اللّه : نظر ، فإن كان اجرة المثل على ما بقي ، عشرة ، وفيما حفر خمسة ، أخذ ثلث المسمّى ، قال رحمه اللّه وقد روى (2) أصحابنا في مثل هذا ، مقدار (3) ذكرناه في النهاية (4) قال رحمه اللّه : وعلى هذا إن نبع الماء قبل انتهاء الحد ، ولم يمكن الزيادة على الحفر ، فالحكم على ما ذكرناه ، في الحجر إذا استقبله ، ولم يمكن حفره ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (5) ، أوردناه حرفا فحرفا.

والذي يقوى في نفسي ، ما أورده في مبسوطة ، واختاره ، لأنّ الأدلة تقتضيه ، والأخبار ، والاعتبار والنظر السليم ، يقويه ، ولا يرجع في مثل هذا

ص: 185


1- ج : ويسقط.
2- الوسائل : الباب 35 من أبواب أحكام الإجارة.
3- ج : مقدارا.
4- النهاية : في آخر كتاب القضاء باب جامع في القضايا والأحكام.
5- المبسوط : ج 3 كتاب الإجارات ، ص 237.

الموضع ، إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وقد ضعّفه شيخنا ، ولم يلتفت إليه ، وجعله رواية ، ولذلك أورده في أبواب النوادر في نهايته ، ولم يورده غيره من أصحابنا المتقدمين عليه ، لا شيخنا المفيد ، ولا السيد المرتضى ، ولا أمثالهما رحمهم اللّه جميعا.

وروى حماد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ، أتى بعبد لذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا ، فبيعوه من المسلمين ، وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ، ولا تقرّوه عنده (1).

قال محمد بن إدريس : هذه رواية صحيحة ، تعضدها الأدلة ، وهو قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (2).

وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة والراء والزاء ) عن أبي عبيدة زياد بن عيسى الحذاء ، قال : قلت لأبي جعفر ، وأبي عبد اللّه عليهما السلام : رجل دفع إلى رجل الف درهم ، يخلطها بماله ، ويتّجر بها ، قال : فلمّا طلبها منه ، قال : ذهب المال ، وكان لغيره معه مثلها ، ومال كثير لغير واحد ، فقال : كيف صنع أولئك؟ قال : أخذوا أموالهم ، فقال أبو جعفر ، وأبو عبد اللّه عليهما السلام جميعا : يرجع عليه بماله ، ويرجع هو على أولئك بما أخذوا (3).

قال محمد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، ووجه الفقه والفتيا عندي على تسليم الخبر ، أنّ الأول دفع المال إليه ، فخلطه بغيره ، فلمّا خلطه يغيره ، فرّط فيه بالخلط ، فضمنه ، وأصحاب الأموال الباقية ، خلط أموالهم بإذنهم ، والأول خلط ماله في أموالهم بغير إذنه ، فيجب عليه الضمان ، للأول جميع ماله ، فلمّا أخذ أصحاب الأموال الذين أذنوا في الخلط ، ورضوا به ،

ص: 186


1- الوسائل : الباب 73 من أبواب العتق ، ح 1.
2- النساء : 141.
3- الكافي : كتاب القضاء ، باب النوادر ، الحديث 16 ، ج 7 ، ص 431. التهذيب : ج 3. باب الزيادات في القضاء الحديث 6 / 799 ، ص 288. الوسائل : الباب 6 من أبواب الحجر ، ح 2.
4- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.

أموالهم على التمام والكمال ، فقد أخذوا ما لم يكن لهم ، بل الواجب تسليم مال من لم يأذن بالخلط على الكمال ، ويدخل النقصان والخسران على الباقين ، فلمّا أخذوا المال ، رجع صاحب المال الذي لم يأذن بالخلط ، على المضارب المفرّط بالخلط ، بجميع ماله ورجع المضارب على من أخذ المال بقدر ما غرم.

وقوله في الخبر : يخلطها بماله ويتجربها ، المعنى فيه خلطها بماله ، واتجر بها ، وإن كان أتى به بلفظ الاستقبال ، فقد يأتي المستقبل بمعنى الماضيّ والماضي بمعنى المستقبل (1) وهذا كثير في كلام العرب والقرآن ، قال اللّه تعالى « وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ » (2) معناه وينادي ، وقال الشاعر :

وانضخ جوانب قبره بدمائها *** فلقد يكون اخادم وذبائح

معناه فلقد كان ، بغير شك ، هذا فقه الحديث.

محمد بن إسماعيل ، عن جعفر بن عيسى ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام ، جعلت فداك ، المرأة تموت ، فيدّعي أبوها ، أنّه أعارها بعض ما كان عندها من متاع ، وخدم ، أيقبل دعواه بلا بيّنة ، أم لا تقبل دعواه إلا ببيّنة؟ فكتب إليه يجوز بلا بينة (3).

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : أول ما أقول في هذا الحديث ، أنّه خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وفيه ما يضعفه ، وهو أنّ الكاتب الراوي للحديث ، ما سمع الإمام يقول هذا ، ولا شهد عنده شهود ، أنّه قاله ، وافتى به ، ولا يجوز أن يرجع إلى ما يوجد في الكتب ، فقد يزوّر على الخطوط ، ولا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي ، دون ما يجده بخطه ، بغير خلاف ، من محصل ضابط لأصول الفقه.

ولقد شاهدت جميعة من متفقهة أصحابنا ، المقلدين لسواد الكتب ،

ص: 187


1- ج : المستقبل بمعنى الماضي
2- الأعراف : 48.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.

يطلقون القول بذلك ، وأنّ أبا الميتة ، لو ادّعى كلّ المتاع ، وجميع المال ، كان قوله مقبولا بغير بينة ، وهذا خطأ عظيم ، في هذا الأمر الجسيم ، لأنّه إن كانوا عاملين بهذا الحديث ، فقد أخطأوا من وجوه ، أحدها أنه لا يجوز العمل عند محصّلي أصحابنا بأخبار الآحاد ، على ما كررنا القول فيه ، واطلناه (1).

والثاني ، من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يقول بذلك ، ولا يعمل به ، إلا إذا سمعه الراوي من الشارع.

والثالث أنّ الحديث ما فيه أنّه ادّعى أبوها جميع متاعها وخدمها ، وانما قال بعض ما كان عندها ، ولم يقل جميع ما كان عندها.

ثم إنّه مخالف لأصول المذهب ، ولما عليه إجماع المسلمين ، انّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه ، والأصل براءة الذمة ، وخروج المال من مستحقه ، يحتاج إلى دليل ، والزوج يستحق سهمه ، بعد موتها بنص القرآن ، فكيف يرجع عن ظاهر التنزيل ، بأخبار الآحاد ، وهذا من أضعفها ، ولا يعضده كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فإذا خلا من هذه الوجوه ، بقي في أيدينا من الأدلة ، أنّ الأصل براءة الذمة ، والعمل بكتاب اللّه ، وإجماع الأمة ، على أنّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه.

ثمّ لم يورد هذا الحديث إلا القليل من أصحابنا ، ومن أورده في كتابه ، لا يورده إلا في باب النوادر ، وشيخنا المفيد ، والسيد المرتضى ، لم يتعرضا له ، ولا أورداه في كتبهما ، وكذلك غيرهما من محقّقي أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ما أورده في جميع كتبه ، بل في كتابين منها فحسب ، إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله من غير اعتقاد لصحته ، على ما بيّناه ، وأوضحناه ، في كثير مما تقدّم ، في كتابنا هذا.

ثم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه رجع عنه وضعفه ، في جوابات المسائل الحائريات (2) المشهورة عنه ، المعروفة.

ص: 188


1- ج : وأطلقناه.
2- المسائل الحائريات : ص 287 ، الطبع الحديث ، وفي ذيل الصفحة نقلا عن النسختين زيادة « يتم الاستدلال معها ».

وقد ذكر شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، رحمه اللّه في الرد على أصحاب العدد ، الذاهبين إلى أنّ شهر رمضان لا ينقض ، قال : فأمّا ما تعلّق به أصحاب العدد ، في أنّ شهر رمضان لا يكون أقل من ثلاثين يوما ، فهي أحاديث شاذة ، قد طعن نقاد الآثار من الشيعة الإمامية في سندها ، وهي مثبتة في كتب الصيام ، في أبواب النوادر ، والنوادر هي التي لا عمل عليها ، هذا آخر كلام المفيد رحمه اللّه. وهذا الحديث من أورده في كتابه ، ما يثبته إلا في أبواب النوادر.

ثم يحتمل بعد تسليمه وجها صحيحا ، وهو يجوز بلا بينة ، المراد به الاستفهام ، وأسقط حرفه ، كما قال عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتراب

ويحتمل أيضا أنّه أراد بذلك ، التهجين والذم ، لمن يرى عطية ذلك بغير بيّنة ، بل بمجرد دعوى الأب ، كما قال تعالى ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) (1) عند قومك وأهلك ، فهذان وجهان صحيحان ، يحتملهما الكلام ، إذا سلّم تسليم جدل.

قال : وكتبت إليه ، إن ادّعى زوج المرأة الميتة ، وأبو زوجها ، أو أم زوجها ، من متاعها ، أو خدمها ، مثل الذي ادّعى أبوها ، من عارية بعض المتاع ، أو الخدم أيكونون بمنزلة الأب في الدعوى ، فكتب : لا.

وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن يزيد (2) بن إسحاق ، عن هارون بن حمزة ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل استأجر أجيرا ، فلم يأمن أحدهما صاحبه ، فوضع الأجر على يد رجل ، فهلك ذلك الرجل ، ولم يدع وفاء ، فاستهلك الأجر فقال : المستأجر ضامن لأجرة الأجير حتى يقضي ، إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك ، فرضي بالرجل ، فان فعل ، فحقّه حيث وضعه ورضى به (3)

ص: 189


1- الدخان : 49.
2- ج : زيد.
3- الوسائل : الباب 6 من كتاب الإجارة ، ح 1.

قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك : انّ المستأجر إذا لم يقبض الأجير الأجرة ، ولا وكيل الأجير ، فهو ضامن لها ، إلى أن يقبضها الأجير ، أو وكيله ، ومن وضعها على يده فهو وكيل للمستأجر ، دون الأجير ، فلأجل هذا كان ضامنا لها ، لأنّ الأجير لو طلبها ممّن سلّمت إليه ، لم يسلمها فأمّا إذا (1) تسلّمها الأجير ، أو أمر المستأجر أن يسلّمها إلى شخص ، رضيه ، وهلكت ، فإنّها تكون من مال الأجير تهلك ، دون مال المستأجر ، لأنّه لو طلبها ، لم يجز لمن هي عنده أن يسلّمها إليه.

وروى محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : قضى أمير المؤمنين عليه السلام ، برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث (2).

قال محمّد بن إدريس : سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي (3) المتكلّم الرازي ، رحمه اللّه ، عن معنى هذا الحديث ، وكيف القول فيه؟ فقلت : الحبيس معناه ، الملك المحبوس على بنى آدم ، من بعضنا على بعض ، مدة حياة الحابس ، دون حياة المحبوس عليه ، فإذا مات الحابس ، فإنّ الملك المحبوس ، يكون ميراثا لورثة الحابس ، وينحل حبسه على المحبوس عليه ، فقضى عليه السلام ، بردّه إلى ملك الورثة ، لأنّه ملك مورثهم ، وانّما جعل منافعه مدة حياته للمحبوس عليه ، دون رقبته ، فلمّا مات بطل ما كان جعله له ، وزال الحبس عنه ، فهو ملك من أملاكه ، فترثه ورثته عنه ، بعد موته ، كما ترث سائر أملاكه ، فأنفذ المواريث عليه السلام فيه ، على ما تقتضيه شريعة الإسلام.

فأمّا إذا كان الحبيس ، على مواضع قرب العبادات ، مثل الكعبة والمشاهد ، والمساجد ، فلا يعاد إلى الأملاك ، ولا ينفذ فيه المواريث ، لأنّه بحبسه على هذه المواضع ، خرج عن ملكه ، عند أصحابنا ، بغير خلاف بينهم فيه ، فلأجل هذا قلنا :

ص: 190


1- ج : فإذا.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب أحكام السكنى والحبيس ، ح 1.
3- قال الأردبيلي « رحمه اللّه » في جامع الرواة : علامة زمانه في الأصولين ، ورع ثقة ، له تصانيف إلخ.

« على بني آدم بعضنا على بعض » ، احترازا من الحبيس الذي على مواضع العبادات.

فأعجبه ذلك ، وقال : كنت أتطلّع (1) على المقصود فيه ، وحقيقة معرفته ، وكان منصفا ، غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ، ولا من صنعته ، وحقا ما أقول : لقد شاهدته على خلق قل ما يوجد في أمثاله ، من عوده إلى الحق ، وانقياده الى ربقته ، وترك المراء ونصرته ، كائنا من كان صاحب مقالته ، وفقه اللّه وإيّانا لمرضاته وطاعته.

وروى يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم ( بالحاء غير المعجمة ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : قلت عشرة كانوا جلوسا ، ووسطهم كيس ، فيه عشرة ألف (2) درهم ، فسأل بعضهم بعضا ، ألكم هذا الكيس ، فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو ، قال للذي ادّعاه (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فقه هذا الحديث صحيح ، وليس هذا ممّا أخذه لمجرد دعواه ، وانّما لم يثبت له صاحب سواه ، واليد على ضربين ، يد مشاهدة ، ويد حكمية ، فهذا يده عليه يد حكمية ، لأنّ كلّ واحد منهم نفى (4) يده عنه ، وبقي يد من ادّعاه عليه يد حكمية ، ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة ، أو متفرقا هو لي ، لكان الحكم فيه غير ذلك ، وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ، ثم ادّعاه غيره ، لم يقبل دعواه بغير بيّنة ، لأنّ اليد المشاهدة عليه ، لغير من ادّعاه ، والخبر الوارد في الجماعة ، أنّهم نفوه عن أنفسهم ، ولم يثبتوا لهم عليه يدا لا من طريق الحكم ، ولا من طريق المشاهدة ، ومن ادّعاه له عليه يد من طريق الحكم ، فقبلنا دعواه فيه ، من غير بيّنة ، ففقهه ما حرّرناه ، وأيضا إنّما قال ادّعاه ، من حيث اللغة ، لأنّ الدعوى الشرعية ، من ادّعى في يد غيره ، عينا أو دينا.

وروى محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها

ص: 191


1- ج : لم أطّلع.
2- ج : فيه ألف.
3- الوسائل : الباب 17 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
4- ج : كلّ واحد نفى.

متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء ، قسم (1) بينهما ، وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أن المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (2).

قال محمّد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا في نهايته (3) ، وليس بين المسألتين تناف ، ولا تضاد ، أمّا القول في صدر الخبر : وفي بيتها متاع : فلها ما يكون للنساء ، أي ما يصلح للنساء ولا يصلح للرجال ، فهو عند أصحابنا للمرأة ، من غير مشاركة الرجال فيه ، بل تعطاه بمجرد دعواها ، مع يمينها.

وقوله بعد ذلك : وما يكون للرجال وللنساء ، المراد به ما يصلح للرجال والنساء ، يكون بينهما نصفين ، لأنّ (4) يديهما عليه.

ولم يذكر فيه ما يصلح للرجال ، ويكون للرجال دون النساء ، بل ذكر قسمين فحسب : أحدهما (5) ما يكون للنساء ، لا يشركهن الرجال فيه ، والآخر ما يكون للرجال والنساء ، قسم بينهما.

ثم قال في آخر الكلام : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء ، لا يشرك كل واحد منهما الآخر ، فيما لا يصلح إلا له ، فذكر قسمين فحسب ، ولم يذكر الثالث ، وهو الذي يصلح للرجال والنساء معا ، بل ذكره في صدر الكلام ، فالثالث يكون بينهما نصفين ، على ما قدّمناه (6) وذكره أولا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي ، يذهب في كتاب الاستبصار (7) ، ويعمل بان المتاع جميعه للمرأة ، وأورد اخبارا في ذلك في صدر الباب ، ثم قال في آخر الباب : فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى ،

ص: 192


1- ج : فيقسم.
2- الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 4.
3- النهاية : باب جامع في القضايا والأحكام ، لكن في المصدر : الحسين بن مسكين.
4- ج : بينهما ، لأنّ.
5- ج : قسمين : أحدهما.
6- ل : ما قدمنا ذكره.
7- الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام ، باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت. وفي الوسائل أورد الخبر في الباب 9 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 4.

عن محمد بن الحسين ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما ، قال : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى الرجل أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (1) قال رحمه اللّه : فهذا الخبر يحتمل شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ما أفتى به عليه السلام ، في الأخبار الأوّلة ، يعني رحمه اللّه في الأخبار التي أوردها بأنّ المال جميعه للمرأة ، لا يوافق عليه أحد من العامة ، وما هذا حكمه ، يجوز أن يتقى فيه ، قال رحمه اللّه : والوجه الآخر أن نحمله على أن يكون ذلك على جهة الصلح ، والوساطة بينهما ، دون مرّ الحكم (2).

قال محمد بن إدريس : وخبر رفاعة هو مذهب شيخنا في نهايته (3) ، وفي مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، فإنّه قال : مسألة ، إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ، فقال كل واحد منهما كله لي ، ولم يكن مع واحد منهما بينة ، نظر فيه ، فما يصلح للرجال ، القول قوله ، مع يمينه ، وما يصلح للنساء ، فالقول قولها مع يمينها ، وما يصلح لهما ، كان بينهما ، وقد روي ، أنّ القول في جميع ذلك ، قول المرأة مع يمينها ، والأول أحوط ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد أوردناها في الكتابين المقدّم ذكرهما (4).

فجعل رحمه اللّه : ما أورده في الإستبصار ، في الأخبار الكثيرة ، وجعله مذهبا له ، واختاره رواية في مسائل خلافه ، وما اختاره في مسائل خلافه ، رواية في استبصاره ، ثم دلّ على صحّته بإجماع الفرقة ، وكذلك يذهب في مبسوطة ، إلى ما يذهب إليه في مسائل خلافه ، من مقالة أصحابنا ورواياتهم ، ويحكى الرواية الشاذة التي اختارها ، مذهبا في استبصاره.

ص: 193


1- راجع المصدر السابق.
2- ج : مرّ الحق.
3- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
4- الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة 27.

والذي يقوى عندي ، ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، لأنّ عليه الإجماع ، وتعضده الأدلة ، لأنّ ما يصلح للنساء ، الظاهر أنّه لهن ، وكذلك ما يصلح للرجال ، فأمّا ما يصلح للجميع ، فيداهما معا عليه ، فيقسم بينهما ، لأنّه ليس أحدهما أولى به من الآخر ، ولا يترجح أحدهما على الآخر ، ولا يقرع هاهنا ، لأنه ليس بخارج عن أيديهما ، وانّما لو كان في يد ثالث ، وأقام كل واحد منهما البينة ، وتساوت البينتان في جميع الوجوه ، كان الحكم فيه القرعة ، لأنّه ليس هو في (1) أيديهما.

وروى علي بن محمد القاساني ، عن القسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، بكسر الميم ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، منسوب إلى دارابجرد.

قال محمّد بن إدريس : هكذا ذكره ابن قتيبة ، والزجاج ، قالا : إنّهم (2) إذا نسبوا إلى دارابجرد ، قالوا : دراوردي ، وقال غيرهما : هو منسوب إلى دراورد ، قرية بخراسان ، وهو مولى بلّى ، وبلّى قبيلة من العرب ، والنسب إليها بلوي ) قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عمّن أخذ أرضا بغير حقها ، وبنى فيها ، قال : يرفع بناءه ، ويسلّم التربة إلى صاحبها ، ليس لعرق ظالم حق (3).

قال محمّد بن إدريس : يقال العرق بكسر العين ، وتسكين الراء ، ولا يجوز بفتح العين والراء ، لأنّ ذلك تصحيف ، وأنما يقال مضافا إلى ظالم ، ومنفصلا عنه ، بالتنوين ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة.

وروى عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، عن أبيه ، عن علي عليهم السلام ، أنّه قضى في رجلين ، اختصما في خصّ ، فقال : إنّ الخص ، للذي إليه القمط (4).

وقالوا : القمط ، هو الحبل ، والخص الطن ، الذي يكون في السواد ، بين

ص: 194


1- ج : ليس في.
2- ج : لأنّهم.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب الغصب ، ح 1.
4- الوسائل : الباب 14 من أبواب أحكام الصلح ، ح 2.

الدور ، فكان من إليه الحبل ، هو أولى من صاحبه ، وهذا هو الصحيح ، لأنّ عليه إجماع أصحابنا.

وروى الحسن (1) بن عليّ بن يقطين ، عن أميّة بن عمرو ، عن الشعيري ، قال : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام ، عن سفينة انكسرت في البحر ، فاخرج بعضه بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، فقال : أمّا ما أخرجه البحر ، فهو لأهله ، اللّه أخرجه ، وأمّا ما اخرج بالغوص ، فهو لهم ، وهم أحق به (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : وجه الفقه في هذا الحديث ، أنّ ما أخرجه البحر ، فهو لأصحابه وما تركه أصحابه ، آيسين منه ، فهو لمن وجده ، وغاص عليه ، لأنّه صار بمنزلة المباح ، ومثله من ترك بعيره من جهد ، في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنّه حلاه آيسا منه ورفع يده عنه ، فصار مباحا ، وليس هذا قياسا ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وانّما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الإجماع ، وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد ، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا منعقد.

وروى ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن جماعة من أصحابنا ، عنهما عليهما السلام ، قال : الغائب يقضى عليه ، إذا قامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ، ويقضى عنه دينه ، وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته ، إذا قدم ، قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة ، إلا بكفلاء (3).

وقد قدّمنا ذلك وشرحناه (4).

وروى محمّد بن يحيى الخزاز ، عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أن عليّا عليه السلام ، كان يفلس الرجل ، إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به فيقسم (5) ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى ، باعه فقسّمه بينهم ، يعني ماله (6).

ص: 195


1- ج : الحسين.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب اللقطة ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 26 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
4- كتاب الديون ، ص.
5- ج : التوى عن غرمائه : ثمّ يأمره فيقسم.
6- الوسائل : الباب 6 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : معنى التوى ، أي دافع ومطل ، قال الشاعر : « تديمين ليّاني وأنت ملية » أي تديمين مطلي.

عنه عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه السلام ، كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن إفلاس وحاجة ، خلّى سبيله ، حتى يستفيد مالا (1).

وروى السكوني ، بفتح السين ( قال محمّد بن إدريس ، منسوب إلى السكون ، قبيلة من اليمين ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، وهو عامي المذهب ، إلا أنّه يروي عن الأئمة عليهم السلام ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، عن أبيه ، عن علي عليه السلام ، أنّ امرأة استعدت على زوجها ، أنّه لا ينفق عليها ، وكان زوجها معسرا ، فأبى أن يحبسه ، وقال : إنّ مع العسر يسرا (2).

وعنه ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه السلام ، كان يحبس في الدين ، ثم ينظر ، إن كان له مال ، أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال ، دفعه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم فآجروه ، وإن شئتم استعملوه ، وذكر الحديث (3) ، قال محمد بن إدريس : هذا الخبر غير صحيح ، ولا مستقيم ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا ، ومضاد لتنزيل الكتاب ، قال تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (4) ولم يذكر استعملوه ، ولا فاجروه وانّما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (5) إيرادا ، لا اعتقادا.

وقد رجع في مسائل الخلاف ، فقال : مسألة ، إذا أفلس من عليه الدين ، وكان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه ، فإنّه لا يواجر ، ليكتسب ، ويدفع إلى الغرماء ، ثم قال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على وجوب إجارته ، وأيضا قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » ولم يأمر بالتكسب ،

ص: 196


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1 و 2 و 3.
2- الوسائل : الباب 7 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1 و 2 و 3.
3- الوسائل : الباب 7 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1 و 2 و 3.
4- البقرة : 280.
5- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.

هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني (1).

وروى أبو بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ، وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه ، إن شاء حاكم بينهم (2) ، وإن شاء تركهم (3).

هذا الخبر صحيح ، وعليه إجماع أصحابنا من عقد ، لأنّ الحاكم بالخيار في ذلك ، إن شاء حكم ، وإن شاء ترك ، ولا يجب عليه الحكم ، إلا أنّه إن حكم ، فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضيه شريعة الإسلام وعدله ، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق ، لقوله تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (4) وإن شاء أعرض عنهم لقوله تعالى ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (5) فقد خيره في ذلك.

وروى طلحة بن زيد ، والسكوني جميعا ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليه السلام ، أنّه كان لا يجير كتاب قاض إلى قاض ، في حدّ ، ولا غيره ، حتى وليت بنو أمية ، فأجازوا بالبينات (6).

قوله : فأجازوا بالبينات يريد بذلك ، أنّ هذا كتاب فلان القاضي ، لا أن (7) المقصود أجازوا الأحكام بالبيّنات ، وقد بيّنا ، أنّه لا خلاف بين أصحابنا ، سلفهم وخلفهم ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ، ولا يعمل به ، ولا يحكم ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وأيضا فلا يجوز للحاكم الثاني ، والقاضي الثاني ، أن يقلد القاضي الأول ، بل يجب عليه أن يحكم بالحق ، وإقامة البينة ، أو الإقرار ، وما ثبت من ذلك عنده ، دون ما ثبت عند غيره.

ص: 197


1- الخلاف : كتاب التفليس مسألة 15.
2- ج : حكم بينهم.
3- الوسائل : الباب 27 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
4- المائدة : 47.
5- المائدة : 42.
6- الوسائل : الباب 28 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
7- ج : لأن.

فأمّا ما يدّعي من كتب الرسول عليه السلام ، إلى البلدان ، فجميع ذلك أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وما عمل بالكتاب ، بل بالتواتر ، بما في الكتاب دونه ، إن كان عمل بشي ء من ذلك ، على ما بيّناه.

وروى هارون بن حمزة ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : قلت رجلان من أهل الكتاب نصرانيان ، أو يهوديان ، كان بينهما خصومة ، فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجوز ، فأبى الذي قضى عليه أن يقبل ، وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين ، قال : يرد إلى حكم المسلمين (1).

قال محمّد بن إدريس : إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح في مذهبهم ، فقد أمرنا أن نقرهم على أحكامهم ، فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم ، ولا نردّه عليهم ، ولا نجيبه إلى دفعه عن نفسه ، وإن كان قد قضى عليه بجوز على مذهبهم ، فنردّه ، ويسلّم ظاهر الحديث ، لأنّا ما أمرنا أن نقرهم ، إلا على أحكامهم ، وما يجوز عندهم ، دون ما لا يجوز ، ويعضد ما قلناه ، قوله في الحديث : قضى بينهما حاكم من حكامهما بجور ، وما يكون حقا عندهم ، ما يكون جورا على المحكوم عليه ، بل هو عنده حقّ وصواب.

وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة ، وآخر الاسم زاي ) عن محمد بن مسلم ، وزرارة ، عنهما جميعا قال : لا يحلف أحد عند قبر النبيّ عليه السلام على أقل ممّا يجب فيه القطع (2).

قال محمّد بن إدريس : هذا على جهة التغليظ ، فانّ الحاكم ، لا يلزمه أن يحلف هناك ، إلا إذا كانت الدعوى مقدار ربع دينار ، فإن كان أقل من ذلك ، فلا يلزمه أن يحلف هناك.

وروى عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه السلام ،

ص: 198


1- الوسائل : الباب 27 من أبواب كيفية الحكم ، ح 2 ثمّ ان جواب الإمام لم يذكر في نسخة الأصل.
2- الوسائل : الباب 29 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.

قال : قلت له جعلت فداك ، في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال : في ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة ، قلت : فإنّه لم يحتلم ، فيها ، قال : وإن لم يحتلم ، فإنّ الأحكام تجري عليه (1).

قال محمّد بن إدريس : قد ورد هذا الحديث ، وهو من أخبار الآحاد ، والاعتماد عند أصحابنا على البلوغ في الرجال ، وهو إما الاحتلام ، أو الإنبات في العانة ، أو خمس عشرة سنة ، وفي النساء الحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه ، أورد هذا الحديث في نهايته (2) إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّه أورده في باب النوادر ، ورجع عنه في سائر كتبه ، وذهب إلى أنّ حد بلوغ النساء المحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين.

وروى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل ، دبّر غلامه ، وعليه دين ، فرارا من الدين ، قال : لا تدبير له ، وإن كان دبّره في صحّة منه وسلامة ، فلا سبيل للديان عليه (3).

قال محمّد بن إدريس : قد أورد هذا الحديث شيخنا أبو جعفر في نهايته (4). والذي عندي أنّ التدبير الذي لا عن نذر ، عند أصحابنا بمنزلة الوصية ، لا خلاف بينهم في ذلك (5) ، فعلى هذا التقرير والتحرير ، سواء دبّره في حال صحة منه وسلامة ، أو غير ذلك ، فإنّه يباع في الدين ، ويبطل التدبير ، وهذا خبر واحد ، أورده شيخنا ، إيرادا ، لا اعتقادا.

وقال بعض أصحابنا ، وهو صاحب كتاب الفاخر قال : ومن دبّر عبدا لا مال

ص: 199


1- الوسائل : الباب 45 من أبواب أحكام الوصايا ، ح 3.
2- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
3- الوسائل : الباب 9 من أبواب التدبير ، ح 2.
4- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
5- ج : في ذلك ، وإجماعهم منعقد على ذلك.

له غيره ، وعليه دين ، فدبره في صحة منه ، ومات ، فلا سبيل للديان عليه ، فإن كان دبّره في مرضه ، بيع العبد في الدين ، فإن لم يحط الدين بثمن العبد ، استسعى في قضاء دين مواليه ، وهو حرّ إذا تممه ، هذا آخر كلامه ، وقد قلنا ما ما عندنا في ذلك ، وهو أنّه لا تدبير إلا بعد قضاء الدين ، سواء دبّره وعليه دين ، أو لم يكن عليه دين ، وسواء دبّره في حال مرضه ، أو صحّته.

وروى غياث بن كلوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أن عليا عليه السلام ، كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمام ، فيما ذهب (1) من الثياب ، لأنّه إنّما أخذ الجعل (2) على الحمام ، ولم يأخذ على الثياب (3).

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر صحيح ، لأنّ الإجماع منعقد من أصحابنا عليه ، هذا إذا لم يستحفظه الثياب ، فأمّا إن استحفظه ، وفرّط في الحفاظ ، فعليا الضمان ، لأنّه صار مودعا ، وكذلك إذا استأجره على حفظ الثياب ، ودخول الحمام ، فإنّه يجب عليه حفاظها ، فإذا فرط في ذلك ، فإنّه يجب عليه الضمان ، فأمّا إذا لم يستحفظه ، ولا استأجره على حفظها ، فلا ضمان عليه ، كما ورد في الحديث.

وروى عبد الرحمن بن سيابة ( بالسين غير المعجمة والياء بنقطتين من تحت ، والباء بنقطة واحدة من تحت ، مفتوحة السين ، والياء خفيفة ، وهي الخلالة ، فسمى الرجل باسمها ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، أنّه قال : على الإمام ، إن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ، ويوم العيد إلى العيد ، فيرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة والعيد ، ردّهم إلى السجن (4).

وروي هذا الحديث غير متواتر ، فإن كان عليه إجماع منعقد ، رجع اليه ، أو دليل سوى الإجماع ، عوّل عليه ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد في مثل هذا.

ص: 200


1- ل : يذهب.
2- ج : يأخذ الجعل.
3- الوسائل : الباب 30 من أبواب كيفية الحكم ، ح 2.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم ، ح 2.

كتاب المكاسب

اشارة

ص: 201

كتاب المكاسب

باب عمل السّلطان وأخذ جوائزهم

السلطان على ضربين ، أحدهما سلطان الحق العادل ، والآخر سلطان الجور الظالم المتقلب ، فأمّا الأول فمندوب إلى خدمته ومعاونته ، ومرغب فيها ، وربما وجب ذلك على المكلف ، بأن يدعوه فيجب امتثال أمره ، فإذا ولى هذا السلطان إنسانا ، أمارة ، أو حكما ، أو غير ذلك من ضروب الولايات ، وجب عليه طاعته في ذلك ، وترك الخلاف له فيه ، وجائز قبول جوائزه وصلاته ، وأرزاقه ، وسائغ التصرف في ذلك على كل حال.

وأمّا السلطان الجائر ، فلا يجوز لأحد أن يتولى شيئا من الأمور ، مختارا من قبله ، إلا من يعلم ، أو يغلب على ظنه ، أنّه إذا تولّى ولاية من جهته ، تمكّن من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقسمة الأخماس والصدقات الى مستحقيها ، وصلة الاخوان ، ولا يكون في شي ء من ذلك تاركا لواجب ، ولا مخلا به ، ولا فاعلا لقبيح ، فإنّه حينئذ مستحب له التعرض لتولي الأمر من جهته ، فإن علم أو ظن أنّه لا يتمكن من ذلك ، وأنّه لا بدّ له من الإخلال بواجب ، أو أن يفعل قبيحا ، لم يجز له تولّي ذلك ، فإن ألزمه السلطان الجائز بالولاية ، إلزاما لا يبلغ تركه الإجابة إلى ذلك ، الخوف على النفس ، وسلب المال ، وإن كان ربما لحقه بعض الضرر ، أو لحقته في ذلك مشقة ، فالأولى أن يتحمل تلك المشقة ، ويتكلّف مضرتها ، ولا يتعرّض للولاية من جهته ، فإن خاف على نفسه ، أو على أحد من أهله ، أو المؤمنين ، أو على ماله ، جاز له أن يتولّى ذلك ، وساغ له عند

ص: 202

هذا الخوف ، الدخول فيه ، بعد إلزامه له ، وخوفه المذكور منه ، ويجتهد ويحرص بعد هذا كلّه على وضع الأمور الشرعيّة مواضعها ، وإقرار الحق مقره ، فإن لم يتمكن من ذلك ، اجتهد فيما يتمكن منه ، فان لم يتمكّن من فعل شي ء ظاهرا فعله سرا ، لا سيّما فيما يتعلّق بحقوق الإخوان في الدين ، والتخفيف عنهم من ظلم السلاطين الجورة ، من خراج ، وغيره ، فإن لم يتمكن من القيام بحق من الحقوق ، والحال في التقية ، على ما ذكرناه ، جاز له أن يتقي في جميع الأشياء ، وسائر الأمور ، والأحكام التي لا تبلغ إلى قتل النفوس ، وسفك الدماء المحرمة ، لأنّ ذلك ليس فيه تقية عند أصحابنا ، لا خلاف بينهم ، أن لا تقية في قتل النفس ، وسفك الدماء ، فإذا كان الأمر في التقية ما ذكرناه ، جاز له قبول جوائزه ، وصلاته ، ما لم يعلم أنّ ذلك ظلم بعينه ، فإذا لم يعلم أنّه بعينه ظلم ، فلا بأس بقبوله ، وإن كان المجيز له ظالما ، وينبغي له أن يخرج الخمس من كل ما يحصل من ذلك ، ويوصله إلى أربابه ، ومستحقيه ، وينبغي له أن يصل إخوانه من الباقي بشي ء ، ويتصرف هو في منافعه بالبعض ، الذي يبقي من ذلك.

وإذا تمكن الإنسان من ترك معاملة الظالمين ، بالبيع والشراء ، وغير ذلك ، فالأولى به تركها ، ولا يتعرض لشي ء منها جملة ، وإن لم يتمكن من ترك معاملتهم ، كانت جائزة إلا أنه لا يشتري منهم شيئا يعلم أنّه مغصوب بعينه جميعه ، فإن كان يعلم أن فيه شيئا مغصوبا ، إلا أنّه غير مميز العين ، بل هو مخلوط في غيره من غلاته ، التي يأخذها على جهة الخراج ، وأمواله ، فلا بأس أيضا بشرائه منها ، وقبول صلته منها ، لأنّها صارت بمنزلة المستهلكة ، لأنه غير قادر على ردّها بعينها ، ولا يقبل منه ما هو محرم في شرع الإسلام ، فإن خاف من ردّ جوائزهم وصلاتهم ، التي يعلمها ظلما بأعيانها ، وغصبا ، على نفسه وماله ، جاز له قبولها عند هذه الحال ، ويجب عليه ردّها على أربابها ، إن عرفهم ، فإن لم يعرفهم ، عرّف ذلك المال ، واجتهد في طلبهم.

ص: 203

وقد روى أصحابنا أنه يتصدق به عنهم ، ويكون ضامنا إذا لم يرضوا بما فعل (1) والاحتياط حفظه ، والوصية به.

وقد روي أنّه يكون بمنزلة اللقطة (2).

وهذا بعيد من الصواب ، لأنّ إلحاق ذلك باللقطة يحتاج إلى دليل.

ويجوز للإنسان أن يبتاع ما يأخذه سلطان الجور ، من الزكوات ، الإبل ، والبقر ، والغنم ، والغلات ، والخراج ، وإن كان غير مستحق لأخذ شي ء من ذلك ، إلا أن يتعيّن له شي ء منه بانفراده أنه غصب ، فإنّه لا يجوز له أن يبتاعه ، وكذلك يجوز له أن يبتاع منهم ما أراد من الغلات ، على اختلافها ، وإن كان يعلم أنّهم يغصبون أموال الناس ، ويأخذون ما لا يستحقونه ، إلا أن يعلم أيضا ويتعيّن له شي ء منه بانفراده أنّه غصب ، فلا يجوز له أن يبتاعه منهم.

وإذا غصب ظالم إنسانا شيئا ، وتمكن المظلوم من أخذه ، أو أخذ عوضه ، كان ذلك جائزا له ، وروي أن تركه ، أفضل (3).

فإن أودعه الظالم وديعة ، جاز له أيضا أن يأخذ منها بقدر ماله ، وقال بعض أصحابنا : لا يجوز له أن يخون في الوديعة ، ويجوز له أن يأخذ ما عداها ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك فيما تقدّم ، من كتابنا هذا (4) ، فإنّ ما ورد في المنع من أخذ الوديعة ، أخبار آحاد ، وقد ورد ما يعارضها ، فإن صحت تلك الأخبار ، فهي محمولة على الكراهة ، دون الحظر.

فإن أودعه الظالم وديعة يعلم أنّها بعينها غصب ، وعرف صاحبها ، وأمن

ص: 204


1- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل : الباب 18 من أبواب اللقطة ، ح 1.
3- لعلّه إشارة إلى صحيح سليمان بن خالد المحمول على الأفضلية جمعا. فراجع الوسائل : الباب 83 من أبواب ما يكتسب به ، ح 7.
4- تقدّم في كتاب الديون ، باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميت ، ص 36.

بوائق الظالم ، فلا يجوز له أن يردّها على الظالم الغاصب لها ، بل الواجب عليه ، ردّها على صاحبها ، فإن ردّها على الغاصب ، والحال ما ذكرناه ، كان ضامنا لصاحبها ، فإن علم أنّها غصب ، ولم يعرف صاحبها بعينه ، بقاها عنده ، إلى أن يعرفه ، ويستعمل فيها ما ذكرناه أولا ، فإن خاف على نفسه من ترك ردّها على الظالم الغاصب ، جاز له ردّها عليه ، وكذلك إن كانت مختلطة بمال الغاصب ، خلطا لا يتميز ، فلا يجوز له إمساكها عليه ، ووجب عليه ردّها إليه سواء خاف بوائقه أو لم يخف.

وذكر شيخنا في الاستبصار ، في كتاب المكاسب ، باب العينة ( وهي بالعين غير المعجمة المكسورة ، والياء المسكنة ، والنون المفتوحة المخففة ، والهاء المنقلبة عن تاء ومعناها في الشريعة ، هو أنّ يشتري سلعة بثمن مؤجل ، ثم يبيعها بدون ذلك نقدا ، ليقضي دينا عليه ، لمن قد حلّ له عليه ، ويكون الدين الثاني وهو العينة من صاحب الدين الأول ، ليقضيه بها الدين الأول ) روى أبو بكر الحضرمي ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل تعيّن ، ثم حلّ دينه ، فلم يجد ما يقضي ، أيتعيّن من صاحبه الذي عيّنه ، ويقضيه ، قال : نعم (1).

مأخوذ ذلك من العين ، وهو النقد الحاضر ، قال الشاعر :

أندان أم نعتان أم ينبري لنا *** فتى مثل نصل السيف هزّت مضاربه

معنى أندان : نستدين ، مأخوذ من أدان الرجل ، بتشديد الدال ، بمعنى استدان ، وهو أن يأخذ الدين ، أو يشتري سلعة بدين ، ومنه حديث عمر في أسيفع جهينة : فأدّان معرضا ، ومعنى معرضا ، من عرض الناس ، كل من وجده استدان منه. ومعنى نعتان ، نشتري عينة ، وهو أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ،

ص: 205


1- الإستبصار : كتاب المكاسب : باب العينة ، ح 1 ، ص 79 ، ج 3 ، وفي الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 6 من أبواب أحكام العقود ، ح 2.

ثم يبيعها بدون ذلك نقدا ، مأخوذ ذلك من العين ، وهو النقد الحاضر ، على ما قدّمناه ، وحررناه ، وشرحناه.

باب ما يجوز للإنسان أن يأخذ من مال والده وما يجوز للرجل أن يأخذ من مال ولده ، وما للمرأة من مال زوجها ، ومن يجبر الإنسان على نفقته وأحكام ذلك

لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا ، قليلا كان أو كثيرا ، إلا بإذنه ، لا مختارا ولا مضطرا ، فإن اضطر ضرورة يخاف معها على تلف نفسه ، أخذ من ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم ، هذا إذا كان الوالد ينفق عليه ، ويقيم (1) بواجب حقه ، لأنّ نفقة الولد تجب عندنا على الوالد ، إذا كان الولد معسرا ، سواء كان بالغا ، أو غير بالغ ، ويجبر الوالد على ذلك ، فأمّا إذا كان الولد موسرا ، فلا تجب نفقته على والده ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، بالغا ، بلا خلاف بيننا.

فإذا تقرر ذلك فإن أنفق عليه ، وإلا رفعه إلى الحاكم ، وأجبره الحاكم على الإنفاق ، فإن لم يكن حاكم يجبره على ذلك ، فللولد عند هذه الحال ، الأخذ من مال والده ، مقدار ما ينفقه على الاقتصاد ، ويحرم عليه ما زاد على ذلك.

والوالد فما دام الولد ينفق عليه ، مقدار ما يقوم بأوده ، وسدّ خلته ، من الكسوة ، والطعام بالمعروف ، فليس لوالده أن يأخذ من ماله بعد ذلك شيئا ، لا لقضاء ديونه ، ولا ليتزوج به ، ولا ليحج ، ولا غير ذلك ، فإن لم يكن الوالد معسرا ، وكان مستغنيا عن مال ولده ، فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من ماله ، على حال ، لا بالمعروف ، ولا غيره ، لأنّ نفقة الوالد لا تجب على الولد عندنا ، إلا مع الإعسار ، فأمّا مع الاستغناء ، فلا تجب النفقة على ولده.

ص: 206


1- ج يقوم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان للولد مال ، ولم يكن لوالده ، جاز له أن يأخذ منه ما يحج به حجة الإسلام ، فأمّا حجة التطوع ، فلا يجوز له أن يأخذ نفقتها من ماله ، إلا بإذنه (1).

إلا أنه رجع عن هذا في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثالث ، فإنّه رحمه اللّه ، قال : قال محمد بن الحسن : هذه الأخبار كلّها دالة ، على أنّه انّما يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده ، إذا كان محتاجا فأمّا مع عدم الحاجة ، فلا يجوز له أن يتعرض له ، ومتى كان محتاجا وقام الولد به ، وبما يحتاج إليه ، فليس له أن يأخذ من ماله شيئا ، قال رحمه اللّه : فإن ورد في الأخبار ما يقتضي ، جواز تناوله من مال ولده مطلقا ، من غير تقييد ، فينبغي أن يحمل على ذلك التقييد.

قال رحمه اللّه : والذي يدلّ على ما ذكرناه ، من التقييد ، ما رواه محمّد بن يحيى ، عن عبد اللّه بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما يحل للرجل من مال ولده ، قال : قوته بغير سرف ، إذا اضطر إليه ، قال : قلت له : فقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله للرجل الذي أتاه فقدّم أباه : أنت ومالك لأبيك ، فقال : إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فقال له : يا رسول اللّه ، هذا أبي ، قد ظلمني ميراثي من أمي ، فأخبره الأب ، أنّه قد أنفقه عليه ، وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شي ء أفكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يحبس الأب للابن (2) ثم قال رحمه اللّه : فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أيحج الرجل من مال ابنه ، وهو صغير؟ قال : نعم ، قلت : يحج حجة الإسلام ، وينفق منه ،

ص: 207


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ من مال ولده.
2- الوسائل : الباب 78 من أبواب ما يكتسب به ، ح 8.

قال : نعم بالمعروف ، ثم قال : نعم يحج منه ، وينفق منه ، إنّ مال الولد للوالد ، وليس للولد أن ينفق من مال والده إلا بإذنه (1) ، قال رحمه اللّه : فما يتضمّن هذا الخبر من أنّ للوالد أن ينفق من مال ولده ، محمول على ما قلناه ، من الحاجة الداعية إليه ، وامتناع الولد من القيام به ، على ما دل عليه الأخبار المتقدّمة ، قال رحمه اللّه : وما يتضمن من أنّ له أن يأخذ ما يحج به حجة الإسلام ، محمول على أنّ له ، أن يأخذ على وجه القرض على نفسه ، إذا كان وجبت عليه حجة الإسلام ، فأمّا من لم تجب عليه ، فلا يلزمه أن يأخذ من مال ولده ، ويحج به ، وانّما يجب الحج عليه بشرط وجود المال ، على ما بيّناه ، ثم قال رحمه اللّه : وما تضمنته الأخبار الأوّلة ، من أنّ له أنّ يطأ جارية ابنه ، إذا قوّمها على نفسه ، ما لم يمسها الابن ، محمول إذا كان ولده صغارا (2) ويكون هو القيم بأمرهم ، والناظر في أموالهم. هذا آخر ما أوردته من كلام شيخنا أبي جعفر في أول الجزء الثالث من استبصاره (3).

وهو الذي يقوى عندي ، دون ما ذكره ، وأطلقه في نهايته (4) ، إلا ما قاله من جواز أخذ نفقة حجة الإسلام ، على جهة القرض ، فانّ هذا أيضا لا يجوز ، لأنّه لا يجب عليه الاستدانة ليحج بها ، إلا أنّه لو حج ، كانت الحجة مجزية عما وجب ، واستقر في ذمته ، غير أنّه ما ورد عند أصحابنا ، إلا أنّ للوالد أن يشتري من مال ابنه الصغير ، من نفسه بالقيمة العدل ، ولم يرد بأنّ له ، أن يستقرض المال.

وإذا كان للولد جارية ، لم يكن وطئها ، ولا مسّها بشهوة ، جاز للوالد أن

ص: 208


1- الوسائل : الباب 78 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
2- ج على ما إذا كان أولاده صغارا
3- الاستبصار : الباب الأوّل من كتاب المكاسب ، ص 49 - 51 ، ح 6 و 9.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.

يأخذها ، ويطؤها ، بعد أن يقومها على نفسه ، قيمة عادلة ، ويضمن قيمتها في ذمته ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1) ، وقد بيّنا أنّه رجع في استبصاره عن إطلاق هذا القول ، وقيّده بأن تكون للولد الصغير (2) ، وهذا هو الصحيح الذي عليه الإجماع ، فأمّا إذا كان الولد بالغا كبيرا ، فلا يجوز للوالد وطئ جاريته ، إلا بإذنه على كل حال.

ثم قال شيخنا في نهايته : ومن كان له ولد صغار ، فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم ، إلا قرضا على نفسه (3).

والوالدة لا يجوز لها أن تأخذ من مال ولدها شيئا ، لا على سبيل القرض ، ولا غيره ، إلا إذا كانت معسرة ، ولم ينفق عليها ، فلها أن ترفعه إلى الحاكم ، ويلزمه الحاكم النفقة عليها ، ويجبره على ذلك ، فإن لم يكن حاكم يجبره جاز لها أن تأخذ النفقة بالمعروف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : والوالدة لا يجوز لها أن تأخذ من مال ولدها شيئا ، إلا على سبيل القرض على نفسها (4).

وهذا غير واضح ، لأنّه لا دلالة على ذلك ، وقوله عليه السلام : لا يحل مال امرأة مسلم إلا عن طيب نفس منه (5) ، وأيضا التصرف في مال الغير بغير إذنه قبيح عقلا وسمعا ، فمن جوزه ، فقد أثبت حكما يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

ولا يجوز للمرأة أن تأخذ من بيت زوجها ، من غير أمره وإذنه ، شيئا ، قلّ ذلك أو كثر ، إلا المأدوم فقط ، على ما روى أصحابنا ، لشاهد الحال ، ما لم يؤد

ص: 209


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.
2- ج : يكون الولد صغيرا.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.
5- الوسائل : الباب 1 من أبواب القصاص في النفس ، ح 3 ، وعبارته هكذا : « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ».

ذلك إلى الإضرار به ، فإن أدّى ذلك إلى الإضرار به ، لم يجز لها أخذ شي ء منه ، على حال ، وكذلك إن نهاها عن ذلك ، وإن لم يؤد إلى الإضرار به ، فإنّه والحال ما وصفناه ، لا يحل لها أخذ شي ء منه بحال.

ويجبر الإنسان على نفقة ولده ، ووالديه ، وجده ، وجدته ، وزوجته ، ومملوكه ، وإن اختصرت القول في ذلك ، فقلت يجبر الإنسان على نفقة العمودين ، الآباء والأبناء ، صعد هؤلاء ، أو نزل هؤلاء ، والزوجة ، والمملوك ، كان جيدا حسنا.

ولا يجبر على نفقة أحد غير من سميناه بحال من الأحوال ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، وإن كانوا من ذوي أرحامه ، وقد روي أنّه يجبر على نفقة أقرب ذوي أرحامه إليه ، إذا كان من يرثه ، ولم يكن له وارث غيره (1) وذلك محمول على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

وإذا وهبت المرأة لزوجها شيئا ، كان ذلك ماضيا ، فإن أعطته شيئا ، وشرطت له الانتفاع به ، فإن كان ذهبا ، وقالت له : اتّجر به ، والربح لك ، فهذا يكون قرضا عليه ، لا قراضا ومضاربة ، وكان حلالا له التصرف فيه ، والربح له ، دونها.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، انّ هاهنا ثلاثة عقود ، عقد يقتضي أنّ الربح كله لمن أخذ المال ، وهو القرض ، وعقد يقتضي أنّ الربح كله لرب المال ، وهو البضاعة ، يقول له : خذ هذا المال ، فاتجر به ، والربح كله لي ، فإنّه يصح ، لأنّها استعانة منه على ذلك ، وعقد يقتضي أنّ الربح بينهما ، وهو القراض ، فإذا قال : خذه ، واتجر به ، صلح لهذه الثلاثة العقود قرض ، وقراض ، وبضاعة ، فإذا قرن به قرينة ، أخلصته إلى ما تدلّ القرينة عليه ، فإن قال : خذه واتّجر به ، والربح لك ، كان قرضا ، لأنّها قرينة تدلّ عليه ، وإن قال : خذه فاتّجر به ، على أنّ الربح لي ، كان بضاعة لمثل ذلك ، فإن قال : خذه واتجر به ، على أنّ الربح

ص: 210


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب النفقات ، ح 4.

بيننا ، كان قراضا ، لأنّ القرينة تدلّ عليه.

وقد روي أنّه يكره له أن يشتري بذلك المال الذي أعطته إيّاه زوجته ، جارية يطؤها ، لأنّها أرادت مسرته ، فلا يريد مساءتها ، فإن أذنت له في ذلك زالت الكراهة (1).

باب التصرف في أموال اليتامى

لا يجوز التصرف في أموال اليتامى ، إلا لمن كان وليا لهم ، أو وصيّا ، قد اذن له في ذلك ، والفرق بين الولي والوصي ، أنّ الولي يكون من غير ولاية ، مثل الحاكم ، والجد ، والأب ، والوصي لا يكون إلا بولاية غيره عليهم ، فمن كان وليا ، أو وصيا يقوم بأمرهم ، ويجمع أموالهم ، وسد خلاتهم ، وحفاظ غلاتهم ، ومراعاة مواشيهم ، جاز له أن يأخذ من أموالهم ، قدر كفايته وحاجته ، من غير إسراف.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان (2) ومسائل الخلاف (3) له أقلّ الأمرين ، إن كانت كفايته أقل من اجرة المثل ، فله قدر الكفاية ، دون اجرة المثل ، وإن كانت اجرة المثل أقل من كفايته ، فله الأجرة ، دون الكفاية.

والذي يقوى في نفسي ، أنّ له قدر كفايته ، كيف ما دارت القصة ، لقوله تعالى ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (4) فالتلزّم (5) بظاهر التنزيل ، هو الواجب ، دون ما سواه ، لأنّه المعلوم ، وما عداه ، إذا لم يقم عليه دليل مظنون ، هذا إذا كان القيم بأمورهم فقيرا ، فأمّا إن كان غنيا ، فلا يجوز له أخذ شي ء من أموالهم (6) لا قدر الكفاية ، ولا اجرة المثل.

ص: 211


1- الوسائل : الباب 81 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
2- التبيان : ج 3 ، ذيل الآية 6 من سورة النساء ، ولا يخفى ان ما في التبيان مخالف لما ذكره عنه هنا ، ولفظه هكذا : « والظاهر في أخبارنا أنّ له اجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن ».
3- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 295.
4- النساء : 6.
5- ج : بالالتزام.
6- وقع من هنا في نسخة الأصل سقط أوراق إلى أواسط باب ضروب المكاسب

ومتى اتّجر الإنسان المتولي لمال اليتيم ، نظرا لهم ، وشفقة عليهم ، فربح ، كان الربح لهم ، وإن خسر ، كان عليهم.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ويستحب أن يخرج من جملته الزكاة (1).

والذي يقوى عندي ، أنّه لا يخرج ذلك ، لأنّه لا دلالة عليه ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّه لا يجوز له التصرف ، إلا فيما فيه مصلحة لهم ، وهذا لا مصلحة لهم فيه ، من دفع عقاب ، ولا تحصيل ثواب ، لأنّ الأيتام لا يستحقون ثوابا ولا عقابا ، لكونهم غير مخاطبين بالشرعيات.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى اتجر به لنفسه ، وكان متمكنا في الحال ، من ضمان ذلك المال ، وغرامته ، إن حدث به حادث ، جاز ذلك ، وكان المال قرضا عليه ، فإن ربح كان له ، وإن خسر كان عليه ، ويلزمه في ماله وحصته الزكاة ، كما تلزمه لو كان المال له ، ندبا واستحبابا (2).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، ولا مستقيم ، ولا يجوز له أن يستقرض شيئا من ذلك ، سواء كان متمكنا في الحال من ضمانه ، وغرامته ، أو لم يكن ، لأنّه أمين ، والأمين لا يجوز أن يتصرف لنفسه في أمانته ، بغير خلاف بيننا معشر الإمامية ، ولا يجوز له أن يتجر فيه لنفسه ، على حال من الأحوال ، وانّما أورد شيخنا ذلك إيرادا ، لا اعتقادا ، من جهة أخبار الآحاد ، كما أورد أمثاله في هذا الكتاب ، وهو غير عامل عليه.

ثم قال في الكتاب المشار إليه : ومتى اتّجر لنفسه ، بما لهم ، وليس يتمكن في الحال من مثله وضمانه ، كان ضامنا لذلك المال ، فإن ربح كان للأيتام ، وإن خسر كان عليه ، دونهم (3).

ص: 212


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.

وقد قلنا إنّه لا يجوز أن يتّجر لنفسه في ذلك المال ، بحال من الأحوال.

ومتى كان لليتامى على إنسان مال ، جاز لوليّهم أن يصالحه على شي ء ، يراه صلاحا في الحال ، ويأخذ الباقي ، وتبرأ ذمة من كان عليه المال.

قال محمّد بن إدريس : أمّا الوليّ ، فجائز له مصالحة ذلك الغريم ، إذا رأى ذلك صلاحا للأيتام ، لأنّه ناظر في مصلحتهم ، وهذا من ذاك ، إذا كان لهم فيه صلاح ، فأمّا من عليه المال ، فإنّ ذمته لا تبرأ ، إن كان جاحدا مانعا ، وبذل دون الحق ، وأنكر الحق ، ثم صالحه الوليّ ، على ما أقرّ له به ، أو أقرّ بالجميع ، وصالحه على بعض فلا تبرأ ذمته من ذلك ، ولا يجوز للوليّ إسقاط شي ء منه بحال ، لأنّ الولي لا يجوز له إسقاط شي ء من مال اليتيم ، لأنّه نصب لمصالحه واستيفاء حقوقه ، لا لإسقاطها ، فيحمل ما ورد من الأخبار (1) ، وما ذكره بعض أصحابنا ، وأودعه كتابه على ما قلناه ، وحررناه أولا ، من أنّه إذا رأى الصلاح ، الوليّ في مصالحة الغريم ، فيما فيه لليتيم الحظ ، فجائز له ذلك ، ولا يجوز فيما عداه ، مما ليس له الحظ فيه ، والصلاح.

وإذا كان للإنسان على غيره مال ، ومات ، جاز لمن عليه الدين ، أن يوصله إلى ورثته ، وإن لم يذكر لهم ، أنّه كان عليه دينا ، ويجعل ذلك على جهة الصلة لهم ، والجائزة ، ويكون فيما بينه وبين اللّه تعالى ، غرضه فكاك رقبته ، مما عليه.

والمتولي للنفقة على اليتامى ينبغي أن يثبت على كل واحد منهم ما يلزمه عليه ، من كسوته بقدر ما يحتاج إليه فأمّا المأكول والمشروب ، فيجوز أن يسوي بينهم ، على ما رواه (2) أصحابنا ، لأنّ ذلك متقارب غير متفاوت.

ومتى أراد مخالطتهم بنفسه وأولاده ، جعله كواحد من أولاده ، وينفق من

ص: 213


1- الوسائل : الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، وكذلك الباب 75 من تلك الأبواب.
2- الوسائل الباب 73 من أبواب ما يكتسب به.

ماله ، بقدر ما ينفق من مال نفسه ، ولا يفضله في ذلك ، على نفسه ، وأولاده ، بل إن فضّل نفسه (1) عليه ، فهو الأولى والأفضل وقد قلنا إنّ المتولّي ، والقيّم بأموال اليتامى ، يأخذ من أموالهم ، قدر كفايته لنفسه فحسب ، من غير إسراف ، وحكينا عن شيخنا أبي جعفر ، ما قاله في مسائل خلافه ، وتبيانه.

وقال في نهايته ، في أول باب التصرّف في أموال اليتامى بما اخترناه ، وهو أنّ الوليّ والقيّم على أموالهم ، جاز له أن يأخذ من أموالهم ، قدر كفايته وحاجته ، من غير إسراف ولا تفريط (2).

وقال في آخر الباب : والمتولّي لأموال اليتامى ، والقيّم بأمورهم ، يستحق اجرة المثل ، فيما يقوم به من مالهم ، من غير زيادة ولا نقصان ، فإن نقص نفسه ، كان له في ذلك فضل وثواب ، وإن لم يفعل ، كان له المطالبة باستيفاء حقه ، من اجرة المثل ، فأمّا الزيادة فلا يجوز أخذها على حال (3).

وما ذكره رحمه اللّه في صدر الباب ، هو الحق اليقين ، لأنّه يعضده ظاهر التنزيل ، على ما حررنا القول فيه ، واستوفيناه.

باب ضروب المكاسب

المكاسب على ثلاثة أضرب : محظور على كل حال ، ومكروه ، ومباح على كل حال ، فأمّا المحظور على كلّ حال ، فهو كلّ محرم من المأكل والمشارب ، وسيرد (4) ذلك في موضعه ، وتراه في أبوابه من هذا الكتاب ، إن شاء اللّه تعالى.

والأجرة على خدمة السلطان الجائر ، ومعونته ، وتولي الأمر من جهته ، اتباعه في فعل القبيح ، ولمعونته ، وأمره ونهيه بذلك ، والرضا بشي ء منه ، مع

ص: 214


1- ل : بل يفضل نفسه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
4- ل : وسيرد وسنبين.

ارتفاع التقية ، والتمكّن من ترك ذلك ، والإلجاء إليه.

والتعرض لبيع الأحرار ، وابتياعهم ، وأكل أثمانهم ، وكذلك مملوك الغير بغير إذن مالكه.

وآلات جميع الملاهي ، على اختلاف ضروبها ، من الطبول ، والدفوف ، والزمر ، وما يجري مجراه ، والقضيب ، والسير ، والرقص ، وجميع ما يطرب من الأصوات والأغاني ، وما جرى مجرى ذلك ، والخبال على اختلاف وجوهه ، وضروبه ، وآلاته.

وسائر التماثيل ، والصور ذوات الأرواح ، مجسّمة كانت أو غير مجسمة.

والشطرنج ، والنرد ، وجميع ما خالف ذلك ، من سائر آلات القمار ، كاللعب بالخاتم ، والأربعة عشر ، وبيوت الرعاة ، واللّعب بالجوز ، والطيور ، وما جرى مجرى ذلك.

وأحاديث القصّاص ، والأسمار ، والنوح بالأباطيل ، والنميمة ، والكذب ، والسعاية بالمؤمنين ، والسعي في القبيح ، ومدح من يستحق الذم ، وذم من يستحق المدح.

وغيبة المؤمنين ، والتعرض لهجوهم ، والأمر بشي ء من ذلك ، والنهي عن مدح من يستحق المدح ، والأمر بمدح من يستحق الذم ، أو بشي ء من القبائح.

والحضور في مجالس المنكر ، ومواضعه ، إلا لإنكار ، أو ما جرى مجرى ذلك.

واقتناء الحيات ، وما خالف ذلك من المؤذيات ، واقتناء الكلاب ، إلا لصيد ، أو حفظ ماشية ، أو زرع ، أو حائط. وكذلك يحرم اقتناء السباع المؤذيات ، التي لا تصلح للصيد.

وذكر بعض أصحابنا ، وخصاء الحيوان ، والأولى عندي تجنب ذلك ، دون أن يكون محرّما محظورا ، لأنّ للإنسان أن يعمل في ملكه ما فيه الصلاح له ،

ص: 215

وما روي في ذلك (1) يحمل على الكراهة ، دون الحظر.

ويحرم بناء الكنائس ، والبيع ، والأجرة على ذلك ، وكل ما يكون معبدا لأهل الضلال ، والصلبان ، والعيدان ، والأوثان ، والأنصاب ، والأزلام ، والأصنام ، والتطفيف في الوزن والكيل ، والغش في جميع الأشياء.

وعمل المواشط بالتدليس ، بأن يشمن الخدود ، ويحمّرنها ، وينقشّن الأيدي والأرجل ، ويصلن شعر النساء بشعور غيرهن ، وما جرى مجرى ذلك ، ممّا يلبسن ، به على الرجال في ذلك.

وعمل السلاح ، مساعدة ومعونة لأعداء الدين ، وبيعه لهم ، إذا كانت الحرب قائمة بيننا وبينهم ، فإذا لم يكن ذلك ، وكان زمان هدنة ، فلا بأس بحمله إليهم ، وبيعه عليهم ، على ما روي في الأخبار عن الأئمة الأطهار (2).

وذكر شيخنا في نهايته ، أنّه لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السلاح ، لأهل الكفر ، مثل الدروع ، والخفاف (3) ( وقد نقط بخط الخاء بنقطة واحدة والفاء بنقطة واحدة ).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الخفاف ليس هي من السلاح ، فإن أراد التخفاف ، والجمع التخافيف ، فهي من آلة السلاح ، قال أبو علي النحوي الفارسي : التاء زائدة في التخفاف ، فعلى قول أبو علي مع سقوط التاء يصير الخفاف ، فيستقيم أن يكون من آلة الحرب ، وإن كان قد روي في أخبارنا ، أورده شيخنا في الاستبصار (4) ، وسئل أبو عبد اللّه عليه السلام ، عن

ص: 216


1- مستدرك الوسائل : الباب 29 من أبواب أحكام الدواب ..
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يكتسب به.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة .. والعبارة في المصدر ، هكذا : ولا بأس ببيع ما يكن من آلة السلاح لأهل الكفار مثل الدروع والتخافيف.
4- الاستبصار : كتاب المكاسب الباب 33 ، ح 3 و 188 ، وفي المصدر : محمد بن قيس قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الفئتين تلتقيان من أهل الباطل ، أبيعهما السلاح ، فقال : بعهما ، ما يكنهما ، من الدروع والخفين ، فشيخنا في نهايته ، ما أراد إلا الخفاف جمع خف ، على لفظ الخبر ، إلا أنّه ليس من آلة السلاح ، بل التخفاف ، من السلاح الذي يكن ، وأسقطت التاء الزائدة ، على ما قال أبو علي النحوي ، فصار الخفاف ، وهو الذي يقتضيه الكلام.

والجمع بين أهل الفسق للفجور ، والفتيا بالباطل ، والحكم به ، والتعرض للقول في ذلك ، من غير دليل مثمر لليقين ، والارتشاء على الأحكام ، والقضاء بين الناس ، وأخذ الأجرة على ذلك ، ولا بأس بأخذ الرزق على القضاء ، من جهة السلطان العادل ، ويكون ذلك من بيت المال ، دون الأجرة على كراهة فيه.

ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة ، ولا على الصلاة بالناس ، وتغسيل الأموات ، وتكفينهم ، وحملهم ، ودفنهم ، والصلاة عليهم ، والأجرة المحرّمة على حملهم هي إلى المواضع التي يجب على من حضرهم الحمل إليها ، وهي ظواهر البلدان ، والجبانة المعروفة بذلك ، فأمّا ما بعد عن ذلك ، من المواضع المعظمة ، والأمكنة الشريفة المقدسة ، فلا يجب حمل الموتى إليها ، على من حضرهم ، ولا تحرم الأجرة ، على من استؤجر للحمل إلى المواضع المذكورة النائية.

ولا يحرم ثم الماء الذي يغسل به الميت على بايعه ، ولا الكفن على بايعه ، بحال ، لأنّ المحرم هو الأجر على التغسيل ، والتكفين ، وهما مصدران ، دون الماء والكفن ، فمن حرم ثمن الماء ، يلزمه تحريم ثمن الكفن ، إذ لا فرق بينهما بحال.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في مبسوطة : وإذا وجد الماء ، لغسل الميت ، بالثمن ، وجب شراؤه من تركته ، فإن لم يخلّف شيئا ، لم يجب على أحد ذلك ، هذا آخر

ص: 217

كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

والكهانة ، والشعبذة ، والحيل المحرمة ، وما أشبه ذلك ، والقيافة ، والسحر ، وتعلمه ، وتعليمه ، ونسخ الضلال ، وحفظه ، والأجرة عليه ، وإيراد الشبه القادحة ، وتخليدها - بالخاء - الكتب من غير نقض لها ، والأجرة على تزويق المساجد ، وزخرفتها ، وفعل ذلك محرّم ، وجمع تراب الصياغة لبيعه ، وأخذه ، فإن جمعه إنسان ، فعليه أن يتصدق به ، عن أربابه.

واتخاذ العقارات ، والمساكن لعمل المناكير فيها ، مع القصد إلى ذلك ، واتخاذ السفن وغيرها ، ممّا يحمل عليه المحرمات ، مع العلم بذلك ، والقصد إليه أيضا.

واحتكار الغلات المنهي عن احتكارها ، عند عدم الناس لها ، وحاجتهم الشديدة إليها ، وإن لا يوجد في البلد سواها ، بعد ثلاثة أيام.

وبيع المصاحف ، إذا كان ذلك في المكتوب ، وبيع السرقة ، والخيانة ، وابتياعهما ، مع العلم بهما.

ونثار الأعراس ، إذا لم يعلم من صاحبه الإباحة ، لا قولا ولا شاهد حال ، فأمّا إذا علم من قصد مالكه بشاهد الحال ، أو الإذن بالقول ، الإباحة لأخذه ، فلا بأس بذلك ، غير أنّه يكره ما يؤخذ منه ، انتهابا.

وسلوك طريق يظهر فيه أمارة الخوف ، مع ترك التحرز ، والكشف عن ذلك.

والخمر ، والتصرف فيها حرام ، على جميع الوجوه ، من البيع ، والشراء ، والهبة ، والمعاوضة ، والحمل لها ، والصنعة ، وغير ذلك من أنواع التصرف ، ولا بأس بإمساكها ، ليخللها ، ويكون قصده ذلك ، دون غيره.

ولحم الخنزير ، وبيعه ، وهبته ، وأكله ، واتخاذه ، وكذلك كلّ ما كان من

ص: 218


1- المبسوط : ج 1 ، كتاب الطهارة فصل في ذكر التيمم وأحكامه ، ص 31.

الخنزير ، من شعر ، وجلد ، وشحم ، وعظم.

وكلّ شراب مسكر ، حكمه حكم الخمر ، على السواء ، قليلا كان أو كثيرا ، نيا كان أو مطبوخا ، وكذلك حكم الفقاع حكمه ، شربه ، وعمله ، والتجارة فيه ، والتكسب به حرام ، محظور ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، فإنّ إجماعهم منعقد على ذلك.

وكل طعام أو شراب ، حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة ، أو شي ء من المحرمات والنجاسات ، فإن شربه ، وعمله ، والتجارة فيه ، والتكسب به ، والتصرف فيه ، حرام محظور.

وجميع النجاسات ، محرّم التصرّف فيها والتكسب بها على اختلاف أجناسها ، من سائر أنواع العذرة ، وروث ما لا يؤكل لحمه ، وبوله ، ولا بأس بأبوال وأرواث ما يؤكل لحمه.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : والأبوال وغيرها ، إلا أبوال الإبل خاصة ، فإنّه لا بأس يشربه والاستشفاء به عند الضرورة (1).

والصحيح من المذهب ، أن بول الإبل ، وبول غيرها مما يؤكل لحمه ، سواء لا بأس بذلك ، لأنّه طاهر عندنا ، بلا خلاف بيننا ، سواء كان لضرورة ، أو غير ضرورة ، وإنما أورد شيخنا هذا الخبر ، إيرادا ، لا اعتقادا.

وبيع الميتة ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير اللّه به ، وبيع الخنافس ، والجعلان ، وبنات وردان ، والعقارب ، والحيّات ، وكلّ شي ء لا منفعة فيه ، حرام محظور ، وكذلك بيع سائر المسوخ ، وشراؤها ، مما يكون نجس العين ، نجس السؤر.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وبيع سائر المسوخ ، وشراؤها ، والتجارة فيها ، والتكسب (2) بها ، محظور ، مثل القردة ، والفيلة ، والدببة ، وغيرها من أنواع المسوخ (3).

ص: 219


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة ..
2- إلى هنا انتهى سقط نسخة الأصل.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة ..

قال محمد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : الفيلة والدببة فيه كلام ، وذلك انّ كلّ ما جعل الشارع ، وسوغ الانتفاع به ، فلا بأس ببيعه ، وابتياعه لتلك المنفعة ، والا يكون قد حلل ، وأباح ، وسوّغ شيئا غير مقدور عليه ، وعظام الفيل ، لا خلاف في جواز استعمالها ، مداهن ، وأمشاطا وغير ذلك ، والدب ليس بنجس السؤر ، بل هو من جملة السباع ، فعلى هذا ، جلده بعد ذكاته ، ودباغه ، طاهر.

والرشا في الأحكام سحت وكذلك ثمن الكلب ، إلا كلب الصيد ، سواء كان سلوقيا - منسوب إلى سلوق ، قرية باليمن. أو لم يكن ، وكلب الزرع ، وكلب الماشية ، وكلب الحائط ، فإنّه لا بأس ببيع الأربعة كلاب ، وشرائها ، وأكل ثمنها ، وما عداها محرّم محظور ثمنه ، وثمن جلده ، سواء ذكي ، أو لم يذك ، لأنّه لا تحله الذكاة ، سواء كان كلب بر ، أو بحر ، فقد ذكر العلماء ، أنّه ما من شي ء في البر ، إلا ومثله في الماء ، سواء نسب إلى اسم ، أو أضيف إليه ، لأنّ الكلب اسم جنس ، يتناول الوجوه كلّها والأحوال.

وقال شيخنا في نهايته : والرشا في الأحكام سحت ، وكذلك ثمن الكلب ، إلا ما كان سلوقيا للصيد (1).

فاستثنى السلوقي فحسب ، والأظهر ما ذكرناه ، لأنّه لا خلاف بيننا ، أنّ لهذه الكلاب الأربعة ، ديات ، وأنّه تجب على قاتلها ، وشيخنا فقد رجع في غير هذا الكتاب ، في مسائل خلافه (2) ، عمّا ذكره في نهايته.

ثم قال في نهايته : وبيع جميع السباع ، والتصرف فيها ، والتكسب بها ، محظور ، إلا بيع الفهود ، خاصة ، فإنّه لا بأس بالتكسب بها ، والتجارة فيها ، لأنّها تصلح للصيد (3).

ص: 220


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 302 - 305.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة.

وقد قلنا ما عندنا ، في السباع وجلودها ، وهو أنّه يجوز بيعها ، لأخذ جلدها ، لأنّ جلود السباع ، لا خلاف أنها مع الذكاة الشرعية ، يجوز بيعها ، وهي طاهرة ، وبمجرد الذكاة ، يجوز بيع الجلود ، بلا خلاف ، وبانضمام الدباغ ، يصح التصرف فيها ، في جميع الأشياء : من لبس ، وفرش ، ودثار ، وخزن المائعات ، لأنّها طاهرة ، إلا الصلاة ، فإنّها لا تجوز فيها ، فحسب ، ما عدا الصلاة ، فلا بأس بالتصرّف فيها وقال شيخنا في مبسوطة : وما لا يؤكل لحمه ، مثل الفهد ، والنمر ، والفيل ، وجوارح الطير ، مثل البزاة ، والصقور ، والشواهين ، والعقبان ، والأرنب ، والثعلب ، وما أشبه ذلك ، وقد ذكرناه في النهاية ، فهذا كله ، يجوز بيعه ، وإن كان مما لا ينتفع به ، فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف ، مثل الأسد ، والذئب ، وسائر الحشرات ، من الحيات ، والعقارب ، والفأر ، والخنافس ، والجعلان ، والحدأة ، والنسر ، والرحمة ، وبغاث الطير ، وكذلك الغربان ، سواء كان أبقع ، أو أسود. ثم قال رحمه اللّه : وأمّا غير الحيوان ، فعلى ضربين ، أحدهما نجس ، والآخر طاهر. فالنجس على ضربين ، نجس العين ، ونجس بالمجاورة. فأمّا نجس العين ، فلا يجوز بيعه ، كجلود الميتة قبل الدباغ ، وبعده ، والخمر ، والدم ، والبول ، والعذرة ، وسرجين ما لا يؤكل لحمه ، ولبن ما لا يؤكل لحمه ، من البهائم هذا أخر ما ذكره شيخنا في مبسوطة (1).

قال محمد بن إدريس : والذي ذكره رحمه اللّه في مبسوطة ، رجوع منه عمّا ذكره في نهايته ، لأنّ في النهاية ، حرّم بيع جميع السباع ، إلا الفهود ، والصحيح ما ذكره في مبسوطة ، إلا ما استثناه ، من الأسد والذئب ، لأنّه جعل ذلك ، في قسم ما لا ينتفع به ، وقد قلنا أنّه لا خلاف في الانتفاع بجلد ذلك ، بعد الذكاة في البيع ، وبانضمام الدباغ في التصرف فيه ، بأنواع التصرفات ، إلا الصلاة ،

ص: 221


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في حكم ما يصح بيعه وما لا يصح ، ص 167.

فلا فرق بين الذئب والأسد ، وبين الأرنب والثعلب.

فأمّا قوله : وبغاث الطير لا يجوز بيعه ، المراد بذلك هاهنا ، الطير المحرم اللحم ، الذي لا تحلّه الذكاة ، غير الجارح الذي يصلح للصيد ، لأن البغاث من الطير ، هو الذي لا يصطاد عند العرب ، سواء كان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، قال الشاعر :

بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مقلات نزور

المقالات هي التي لا يعيش لها ولد ، ونزور من النزر ، وهو القليل.

ولا بأس بشراء الهر ، وبيعه ، وأكل ثمنه.

وبيع الجري ، والمار ما هي ، والطافي ، وكل سمك لا يحل أكله ، مثل الجرّيث ، وهو الجري ( والجيم من الاسمين ، مكسورة ، وكذلك الراء مكسورة أيضا ، مشددة ) وكذلك الضفادع ، والسلاحف ، وجميع ما لا يحل أكله ، حرام بيعه ، إلا ما استثناه أصحابنا من بيع الدهن النجس ، لمن يستصبح به تحت السماء ، بهذا الشرط ، فإنّه يصح بيعه ، بهذا التقييد ، لإجماعهم على ذلك.

ومعونة الظالمين ، وأخذ الأجرة على ذلك ، محرم محظور ، فأما أخذ الأجرة منهم ، على غير معونة الظلم ، فلا بأس بذلك ، مثل رعي غنمهم ، وحفاظ أملاكهم ، وغسل ثيابهم ، وغير ذلك ، وإنما المحرم أخذ أجرة المعونة على الظلم.

ومعالجة الزينة للرجال ، بما حرمه اللّه تعالى عليهم ، حرام.

وكسب المغنيات ، وتعلم الغناء (1) ، حرام.

وكسب النوائح بالأباطيل حرام ، على ما قلناه ، ولا بأس بذلك على أهل الدين ، بالحق من الكلام.

وأمّا المباح على كلّ حال ، فهو كلّ مباح من المأكل ، والمشارب ، وكل ما لم يكن من جملة ما ذكرنا كونه محظورا ، ولا من جملة ما يكون مكروها على ما نذكره.

ص: 222


1- ج : تعلّم الغناء وتعليمه.

ومن المباح ، إذا أعطى الإنسان غيره شيئا ليضعه في الفقراء ، وكان هو محتاجا إلى شي ء من ذلك ، جاز له أن يأخذ منه ، إذا كان مستحقا ، ومن أهله ، مثل ما يعطي غيره ، ولا يفضل نفسه على أحد ، إلا أن يفصّله صاحب المال ، فإن عيّن له على أقوام بأعيانهم ، لم يجز له أن يتعدّى ما أمره به ، ولا يجوز له أخذ شي ء منه عند ذلك.

وكسب القابلة حلال ، وكسب الحجام حلال طلق ، إذا لم يشترط.

فأمّا المكروه ، فجميع ما كره ، من المآكل ، والمشارب ، وكسب الحجام ، إذا شارط ، والرزق على القضاء وتنفيذ الأحكام ، من قبل الإمام العادل ، والأجر على تعليم القرآن ، ونسخ المصاحف ، مع الشرط في ذلك ، ومع ارتفاعه فهو حلال طلق ، وهذا مذهب جميع أصحابنا ، وعليه إجماعهم منعقد ، ومذهب شيخنا أبي جعفر ، في نهايته (1) وفي جميع كتبه ، إلا في استبصاره (2) ، فإنّه ذهب إلى حظره مع الشرط ، وإلى كراهته مع ارتفاع الشرط ، معتمدا على خبر (3) روته رجال الزيدية ، فأراد أن يجمع بينه ، وبين ما رواه أصحابنا من الأخبار الواردة بالكراهة مع الشرط (4) وليس في أخبارنا التي أوردها رحمه اللّه في استبصاره ، ما يدلّ على الحظر والتحريم ، ولا يلتفت إلى خبر شاذ ، يرويه رجال الزيدية ، وأيضا أخبار الآحاد ، وإن كانت رجالها عدولا ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، بل المرجع في ذلك إلى الأدلة القاطعة للأعذار ، ولا خلاف بيننا في أنّ تعليم القرآن يجعل مهورا للنساء ، ويستباح به الفروج ، فكيف يصح أن يجعل الأجرة المحرمة مهرا ، وما قاله شيخنا في هذا الكتاب المشار إليه ، أعني الاستبصار ، فعلى طريق التأويل ، والوساطة ، والجمع ، دون الاعتقاد لكونه محرما محظورا ، لأنّ ما يقال

ص: 223


1- النهاية : باب المكاسب المحظورة.
2- الإستبصار : ج 3 ، باب الأجر على تعليم القرآن ، ص 65 - 66.
3- الوسائل : الباب 9 - 29 - 30 من أبواب ما يكتسب به.
4- الوسائل : الباب 9 - 29 - 30 من أبواب ما يكتسب به.

على طريق التأويل والمناظرة ، لا يكون مذهبا لقائله ، لأنّ المقصود فيه غير ذلك ، من دفع الخصم وتأويل الكلام ، وهذا يجري للسيد المرتضى في مناظرته الخصوم كثيرا ، وإن كان فتواه وعمله واعتقاده غير ذلك في المسألة ، فلا يظن ظان ، ولا يتوهم متوهم على شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه ، أنه يعتقد حظر ذلك.

وأجر المغنيات في الأعراس ، إذا لم يغنين بالأباطيل ، على ما روي (1).

والأظهر أنّ الغناء محرم ممن كان.

والصرف وبيع الطعام ، وعظام الفيل ، وعملها عند بعض أصحابنا ، وهو ابن البراج (2) ، والأظهر أنّ ذلك ليس بمكروه.

وبيع الأكفان ، والنساجة ، والحياكة ، على ما روي في الأخبار (3) ، والذباحة ، وركوب البحر للتجارة ، وكسب صاحب الفحل ، من الإبل ، والبقر والغنم ، إذا أقامه للنكاح (4) مكروه ، وليس بمحظور عند أصحابنا ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّ ذلك حلال.

ولا بأس بأخذ الأجر على تعليم الحكم - جمع حكمة - والآداب ، وعلى نسخها ، وتخليدها - بالخاء - الكتب.

وينبغي للمعلّم ، أن يسوّي بين الصبيان في التعليم ، والأخذ عليهم ، ولا يفضل بعضهم على بعض في ذلك ، إلا أن يؤجر نفسه لهذا على تعليم مخصوص ، وهذا يستأجره على تعليم مخصوص ، فأمّا إذا استؤجر على التعليم لجميعهم بالإطلاق ، فلا يجوز له ان يفضّل بعضهم على بعض في التعليم ، لأنّه استؤجر عليه ، سواء كانت اجرة بعضهم أكثر من اجرة بعض آخر.

ولا بأس بأخذ الأجرة على نسخ كتب العلوم الدينية والدنياوية ، ولا يجوز

ص: 224


1- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به.
2- المهذب : ج 1 ، كتاب المكاسب ، ص 346 ، باختلاف يسير.
3- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 21 - 23 من أبواب ما يكتسب به.
4- ل. ق : للنتاج.

نسخ كتب الكفر والضلال ، وتخليدها الكتب إلا لإثبات الحج بذلك على الخصم ، أو النقض له على ما قدّمناه.

ولا بأس بأخذ الأجرة على الخطب في الاملاكات ، وعقود النكاح ، ولا بأس بأخذ الأجرة على ختن الرجال ، وخفض الجواري.

وكل صنعة من الصنائع المباحة ، إذا أدّى فيها الأمانة ، إذا تمكن لم يكن بها بأس ، وإن لم يؤد فيها الأمانة ، أو لا يتمكن معها من القيام بالواجبات ، وترك المقبحات ، فلا يجوز التعرض بشي ء منها.

ومن جمع مالا من حلال وحرام ، ثم لم يتميز له بالمقدار ، ولا بالعين ، أخرج منه الخمس ، وحل له التصرف في الباقي ، فإن تميّز له الحرام منه ، وجب عليه ردّه على صاحبه ، لا يسوغ له سواه ، فإن لم يجده ، ردّه على ورثته ، فإن لم يجد وارثا ، أمسكه ، وحفظه ، وطلب الوارث ، فإن لم يخلف وارثا ، وقطع على ذلك ، فهو لإمام المسلمين ، لأنّ له ميراث من لا وارث له.

ولا بأس ببيع الخشب ، لمن يجعله صنما ، أو صليبا ، أو شيئا من الملاهي ، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك ، لا على الذي باع الآلة ، على ما رواه أصحابنا (1) والأولى عندي ، تجنب ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن وجد عنده سرقة ، كان ضامنا لها ، إلا أن يأتي على شرائها ببينة (2).

قال محمّد بن إدريس : هو ضامن ، سواء ، أتى على شرائها ببينة ، أو لم يأت بغير خلاف ، ومقصود شيخنا أنّه ضامن أي هل يرجع على من اشتراها منه بالغرامة ، أم لا؟ فإن كان اشتراها مع العلم ، بأنّها سرقة ، وقال له البائع لها هذه سرقة ، واشتراها كذلك ، فإذا غرم لا يرجع على من باعها بالغرامة ، لأنّه ما

ص: 225


1- الوسائل : الباب 41 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1.
2- النهاية : كتاب التجارة باب المكاسب المحظورة.

غرّه ، ولأنّه أعطاه ماله بغير عوض في مقابلته ، وأمّا إن لم يعلمه ، ولا علم أنّها سرقة ، وباعه إيّاها ، على أنّها ملكه ، فمتى غرم ، رجع عليه بما غرمه ، لأنّه غره.

ولا بأس بعمل الأشربة المباحة ، وأخذ الأجرة عليها.

ولا بأس بأخذ الأجرة في النيابة عن إنسان ، في وكالة بالبيع ، والشراء ، وغير ذلك.

ولا يجوز لأجير الإنسان الذي عقد عليه مدة معلومة ، أن يعمل لغيره في تلك المدّة عملا ، لأنّه استحق منافعه ، مدة تلك المدة والزمان ، فإن أذن له المستأجر في ذلك ، كان جائزا.

وإذا مرّ الإنسان بالثمرة ، جاز له أن يأكل منها قدر كفايته ، ولا يحمل شيئا منها على حال ، من غير قصد إلى المضي إلى الثمرة للأكل ، بل كان الإنسان مجتازا في حاجة ، ثمّ مرّ بالثمار ، سواء كان أكله منها لأجل الضرورة ، أو غير ذلك ، على ما رواه أصحابنا (1) ، وأجمعوا عليه ، لأنّ الأخبار في ذلك متواترة ، والإجماع منعقد منهم ، ولا يعتد بخبر شاذ ، أو خلاف من يعرف اسمه ونسبه ، لأنّ الحق مع غيره.

وقد روي أنّه يكره للإنسان ، أن ينزى الحمير على الخيل (2) ، وليس ذلك بمحظور ، على ما روي في بعض الأخبار (3).

ولا بأس أن يبذرق الإنسان القوافل ، ويأخذ على ذلك الأجر ، إذا كان باختيار من يخفره ، ومستأجرا معه.

قال شيخنا في نهايته : من آجر مملوكا له ، فأفسد المملوك ، لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، لكنه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده (4).

ص: 226


1- الوسائل : الباب 8 من أبواب بيع الثمار.
2- الوسائل : الباب 63 من أبواب ما يكتسب به.
3- الوسائل : الباب 63 من أبواب ما يكتسب به.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب للمكاسب المحظورة ..

وقال رحمه اللّه ، في الجزء الثاني من نهايته ، في باب الإجارات : ومن استأجر مملوك غيره من مولاه فأفسد المملوك شيئا ، أو أبق قبل أن يفرغ من عمله ، كان مولاه ضامنا لذلك (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ووجه الجمع بين قوليه رحمه اللّه ، وتحرير ذلك ، والفتوى به ، أنّ المسألة الأولى في التي ذكرها في آخر الجزء الأول من نهايته ، من قوله : لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، يريد بذلك ما عدا الأجرة ، لأنّ المملوك لا يضمن سيده جنايته التي على غير بني آدم ، ولا يستسعى فيها ، ولا يباع على الصحيح من أقوال أصحابنا ، ولأنّ بيعه يحتاج إلى دليل ، وانتقال ملكه إلى ملك غير سيده ، يحتاج إلى شرع ، وقوله رحمه اللّه : لكنه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده ، غير واضح ، لأنّه مخالف للإجماع ، وإنما ورد بعض أخبار الآحاد بذلك ، فأورده إيرادا ، لا اعتقادا ، فأمّا المسألة التي أوردها في الجزء الثاني ، في كتاب الإجارات ، من قوله : « ضامنا لذلك » يريد به ضامنا للأجرة الباقية ، وهذا صحيح ، يرجع على السيّد بها ، بغير خلاف. فأمّا ضمان ما أفسده ، فلا ضمان على السيد ، بغير خلاف ، لأنّ الإنسان بغير خلاف لا يضمن ما يجنيه عبده ، على ما عدا بني آدم ، وكذلك إن جنى على بني آدم ، لا يكون سيده عاقلة له ، ولا يؤدي إلا إذا تبرّع ، وشيخنا قال هناك : يستسعى ، ولم يقل يضمن سيّده ما أفسده ، وقال هاهنا ، أعني في الجزء الثاني : يضمن سيّده وهذا على ما تراه ، يدلك على ما نبّهنا عليه ، وصحّة ما حررناه.

ولا بأس ببيع جوارح الطير ، التي تصلح للصيد بها كلّها ، وأخذ ثمنها ، والتكسب بها ، بجميع الوجوه.

وقد حث وندب إلى طلب الكسب من الحلال ، ما لا يحصى كثيرة ، قال

ص: 227


1- النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات.

اللّه تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً ) (1) وقال سبحانه : ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) (2) الآية فأمر اللّه تعالى بالاكتساب من فضله ، وبيّن أنّه قد جعل لعباده من المعيشة ، ما يتمكنون من التصرف فيه ، بما يقوم بهم ، ويستعينون به على صلاح أحوالهم.

وروي عن النبي عليه السلام أنّه قال : إذا أعسر أحدكم ، فليخرج ، يضرب في الأرض ، يبتغي من فضل اللّه ، ولا يغم نفسه وأهله (3).

وروي عنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لأصحابه ، في حجة الوداع : انّي واللّه لا أعلم عملا يقربكم من الجنة ، إلا وقد نبأتكم به ، ولا أعلم عملا يقربكم من النّار ، إلا وقد نهيتكم عنه ، وانّ الروح الأمين نفث في روعي ، ( بضم الراء ، هو النفس والبال ) أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فأجملوا في الطلب (4).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّه قال ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه ، بأعظم من غدوته ، يطلب لولده وعياله ما يصلحهم (5).

ص: 228


1- الجمعة : 9 - 10.
2- الحجر : 19 - 20.
3- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 4 من أبواب مقدماتها ح 12 ، ولفظ الحديث هكذا ، عنه صلى اللّه عليه وآله : إذا عسر أحدكم فليخرج ولا يغم نفسه وأهله ، وكذا أورده في التهذيب ج 6 ، في الباب الأول من المكاسب في ضمن ح 30 / 909.
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة.
5- مستدرك الوسائل : الباب 20 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1.

كتاب المتاجر والبيوع

اشارة

ص: 229

كتاب المتاجر والبيوع

باب آداب التجارة

ينبغي للإنسان إذا أراد التجارة ، أن يبتدئ أوّلا ، فيتفقه في دينه ، ليعرف كيفية الاكتساب ، ويميز بين العقود الصحيحة والفاسدة ، لأنّ العقود الفاسدة ، لا ينتقل بها الملك ، بل هو باق على ملكية الأوّل ، ويسلم من الربا الموبق ، ولا يرتكب المأثم ، من حيث لا يعلم به ، فإنّه روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : من اتجر بغير علم ، ارتطم في الربا ، ثم ارتطم (1).

قال محمّد بن إدريس (2) معنى ارتطم ، يقلل رطمته في الوحل رطما ، فارتطم ، هو ، أي ارتبك فيه ، وارتطم عليه أمره ، إذا لم يقدر على الخروج منه.

وكان عليه السلام ، يقول : التاجر فاجر ، والفاجر في النّار ، إلا من أخذ الحق ، وأعطى الحق (3).

وكان عليه السلام يقول : معاشر الناس ، الفقه ثم المتجر ، الفقه ثم المتجر ، واللّه للربا في هذه الأمة ، أخفى من دبيب النمل على الصفا (4).

وكان عليه السلام بالكوفة ، يغتدي كلّ يوم بكرة ، من القصر ، يطوف في أسواق الكوفة ، سوقا سوقا ، ومعه الدرة على عاتقه ، فيقف على أهل كلّ سوق ، فينادي : يا معاشر (5) التجار ، اتقوا اللّه عزوجل فإذا سمعوا صوته ، ألقوا ما في أيديهم ، وأرعوا بقلوبهم ، وتسمّعوا بآذانهم ، فيقول : قدّموا الاستخارة ، وتبرّكوا بالسهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزينوا بالحلم ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن

ص: 230


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب التجارة ، ح 1 و 2.
2- هنا أيضا سقط صفحتين من نسخة الأصل ، إلى قوله : « على ما روى من » الآتي في السطر 1 من الصفحة الثالثة الآتية.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب التجارة ، ح 1 و 2.
4- الوسائل : الباب 1 من أبواب التجارة ، ح 1 و 2.
5- ل : معشر.

الظلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، و ( لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) ، فيطوف جميع الأسواق ، ثمّ يرجع ، فيقعد للناس (1).

قوله عليه السلام : قدّموا الاستخارة يعني الدعاء بالخيرة في الأمور.

وروي عن الصادق عليه السلام ، أنّه قال : من لم يتفقه في دينه ، ثم اتّجر ، تورّط في الشبهات (2).

قال محمّد بن إدريس : الورطة ، الهلاك ، قال أبو عبيد : أصل الورطة ، أرض مطمئنة ، لا طريق فيها ، وأورطه ، وورّطه ، توريطا ، أي أوقعه في الورطة ، فتورّط هو فيها.

وينبغي أن يتجنب الإنسان في تجارته ، خمسة أشياء ، مدح البائع ، وذمّ المشتري ، وكتمان العيوب ، واليمين على البيع ، والربا.

معنى مدح البائع ، أي مدح البائع لما يبيعه من الأمتعة ، وذم المشتري ، معناه وذمّ المشتري لما يشتريه ، وإن شئت ، جعلت البائع بمعنى المبيع ، فكأنّه أراد مدح المبيع ، لأنّه قد يأتي فاعل بمعنى مفعول ، قال اللّه تعالى ( لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) (3) أي لا معصوم ، فأمّا ذمّ المشتري ، إن شئت قلته بفتح الراء ، فيكون الشي ء المشتري ، وكلاهما حسن ، فأمّا كتمان العيوب مع العلم بها ، فحرام محظور بغير خلاف ، والربا فكذلك.

ولا يجوز لأحد أن يغش أحدا من الناس ، فيما يبيعه أو يشتريه ، ويجب عليه النصيحة فيما يفعله لكلّ أحد.

وإذا قال إنسان للتاجر : اشتر لي متاعا ، فلا يجوز له أن يعطيه من عنده ، وإن كان الذي عنده خيرا ممّا يجده ، إلا بعد أن يبيّن له أنّ ذلك من عنده ، ومن خاص ماله.

قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك ، إنّ التاجر صار وكيلا في الشراء ، ولا يجوز

ص: 231


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب آداب التجارة ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب آداب التجارة ، ح 4.
3- هود : 43.

للوكيل أن يشتري لموكّله من نفسه ، لأنّ العقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فكيف يكون هو القابل والموجب؟ فلأجل ذلك ما صحّ أن يشتريه له من عنده.

ويجتنب بيع الثياب في المواضع المظلمة ، التي يتستر فيها العيوب.

وينبغي أن يسوّي بين الناس في البيع والشراء ، فيكون الصبي عنده بمنزلة الكبير ، والساكت بمنزلة المماكس ، والمستحيي بمنزلة البصير المداق.

معناه المداقق في الأمور ، فأدغم أحد القافين في الآخر ، وشدد القاف ، وقوله : والصبي ، المراد به الذي قد بلغ وعقل ، فأمّا من لم يبلغ ، فلا ينعقد بيعه وشراؤه ، وقوله : البصير ، المراد به يكون من أهل البصيرة والخبرة ، لا من بصر العين.

وكلّ ذلك على طريق الاستحباب ، إذا كانوا عالمين بالأسعار ، وبما يباع ، فلا بأس أن يبيع كل واحد بغير السعر ، الذي باعه للآخر ، مع علمه ، فأمّا إذا كان المشتري من غير أهل البصيرة ، ثم ظهر له الغبن ، فله الخيار ، بين ردّ المبيع وإمساكه ، فأمّا إن كان من أهل البصيرة ، ويعلم بالأسعار ، فلا خيار له ، وسيجي ء الكلام على ذلك في موضعه ان شاء اللّه تعالى.

وإذا قال لغيره : هلمّ إلى ، أحسن إليك ، باعه من غير ربح ، وكذلك إذا عامله مؤمن ، فليجتهد أن لا يربح عليه إلا في حال الضرورة ، وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

ويستحب أن يقبل من استقاله ، لقوله عليه السلام : من أقال نادما بيعته ، أقاله اللّه نفسه يوم القيمة (1).

ويكره السوم ، والمقاولة في البيع ، والشراء ، والرياضة في ذلك ، فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لأنّ ذلك وقت التفرغ للعبادة ، والأدعية ، المستجابة ، واستدعاء الرزق من اللّه تعالى.

ص: 232


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب آداب التجارة ، رواياته قريبة من هذا المضمون.

فإذا غدا إلى سوقه ، فلا يكونن أول من يدخلها ، على ما روي من كراهة ذلك (1) فإذا دخلها سأل اللّه تعالى ، من خيرها ، وخير أهلها ، وتعوّذ به من شرها ، وشر أهلها.

ويستحب لمن اشترى شيئا ، أن يتشهد الشهادتين ، ويكبّر اللّه تعالى ، فإنّه أبرك له فيما يشتريه ، وسأل اللّه تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ، ويخير له فيما يبيعه.

وينبغي أن يتجنب مخالطة السفلة من الناس ، والأدنين منهم ، ولا يعامل إلا من نشأ في خير.

وقد روي اجتناب معاملة ذوي العاهات ، والمحارفين (2).

ولا ينبغي أن يخالط أحدا من الأكراد ، ويتجنب مبايعتهم ، ومشاراتهم ، ومناكحتهم.

قال محمد بن إدريس : وذلك راجع إلى كراهية معاملة من لا بصيرة له ، فيما يشتريه ، ولا فيما يبيعه ، لأنّ الغالب على هذا الجيل ، والقبيل ، قلة البصيرة ، لتركهم مخالطة الناس ، وأصحاب البصائر.

ويستحب لمن أخذ شيئا بالوزن أن لا يأخذه إلا ناقصا ، وإذا أعطى أن لا يعطيه إلا راجحا ، وإذا كان ، لا يكيل إلا وافيا ، فإن كان ممن لا يحسن الكيل والوزن ، فلا يتعرض له ، بل يوليه غيره.

ولا يجوز له أن يزين متاعه بأن يري خيره ، ويكتم رديه ، بل ينبغي أن يخلط جيّده برديه ، فيكون كلّه ظاهرا ، هذا إذا كان الردي والمعيب فيما يرى ، ويظهر بالخلط ، فأمّا إذا كان ممّا لا يرى ، ولا يظهر بالخلط ، فلا يجوز له ذلك ، ويحرم عليه فعاله ، وبيعه ، قبل أن يبيّن العيب فيه وذلك مثل أن يشوب اللبن بالماء لأنّ ذلك لا يتبين العيب فيه.

ويكره له أن يطلب الغاية ، فيما يبيع ويشتري من الربح ، ولا يطلب الاستقصاء في جميع أموره ، وأحواله ، ومعاملاته ، فقد روى العباس بن معروف ،

ص: 233


1- الوسائل : الباب 60 من أبواب آداب التجارة.
2- الوسائل : الباب 22 من أبواب آداب التجارة.

عن محمد بن يحيى الصيرفي ، عن حماد بن عثمان ، قال : دخل على أبي عبد اللّه عليه السلام ، رجل من أصحابه فشكى إليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث أن جاء المشكو ، انّي استقصيت حقي ، قال : فجلس مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقصيت حقّك ، لم تسئ ، أرأيتك ما حكاه اللّه تعالى ، فقال ( وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) (1) إنّما خافوا أن يجوز اللّه عليهم ، لا واللّه ، ما خافوا إلا الاستقصاء ، فسمّاه اللّه ، سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساء (2).

وإذا تعسّر على الإنسان نوع من التجارة ، فليتحوّل منه إلى غيره.

ويكره الاستحطاط من الثمن بعد الصفقة ، وعقد البيع بالإيجاب والقبول ، سواء كان قبل التفرق من المجلس ، أو بعده.

ومن باع لغيره شيئا ، فلا يجوز له أن يشتريه لنفسه ، وإن زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال ، إلا بعلم من صاحبه ، وإذن من جهته.

وفقه ذلك ، أنّ الوكيل لا يجوز له أن يشتري السلعة الموكل في بيعها من نفسه ، لأنّ البيع يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فكيف يكون موجبا قابلا! فأمّا الأب والجد من الولد الأصغر ، فقد خرج بدليل ، وهو إجماع أصحابنا على ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا نادى المنادي على المتاع ، فلا يزيد في المتاع ، فإذا سكت المنادي ، زاد حينئذ إن شاء (3).

وقال في مبسوطة : وأمّا السوم على سوم أخيه ، فهو حرام ، لقوله عليه السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه ، هذا إذا لم يكن المبيع في المزايدة ، فإن كان كذلك فلا تحرم المزايدة (4).

ص: 234


1- الرعد : 21.
2- تفسير البرهان : ج 2 ، ص 289 ، ح 22.
3- النهاية : كتاب المتاجر ، باب آداب التجارة.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ص 160.

وهذا هو الصحيح ، دون ما ذكره في نهايته ، لأنّ ذلك على ظاهره غير مستقيم ، لأنّ الزيادة في حال النداء غير محرمة ، ولا مكروهة ، فأمّا الزيادة المنهي عنها ، هي عند الانتهاء ، وسكون نفس كلّ واحد من البيعين على البيع ، بعد استقرار الثمن ، والأخذ ، والشروع في الإيجاب والقبول ، وقطع المزايدة ، فعند هذه الحال ، لا يجوز السوم على سوم أخيه ، لأنّ السوم في البيع ، هو الزيادة في الثمن ، بعد قطعه ، والرضا به ، بعد حال المزايدة ، وانتهائها ، وقبل الإيجاب والقبول ، لقوله عليه السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه.

فأمّا إذا باع إنسان من غيره شيئا ، وعقد العقد بالإيجاب والقبول ، وهما بعد في المجلس ، ولكلّ واحد منهما الخيار في الفسخ ، فجاء آخر يعرض على المشتري سلعة ، مثل سلعته ، بأقل منها ، أو خيرا ، ليفسخ ما اشتراه ، أو يشترى منه سلعة ، فهذا محرم ، غير أنّه متى فسخ الذي اشتراه ، انفسخ ، وإذا اشترى الثاني كان صحيحا ، وإنّما قلنا انّه حرام ، لقوله ونهيه عليه السلام : لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه (1).

وكذلك الشراء بعد البيع محرم ، وهو أن يعرض على البائع ، أكثر من الثمن الذي باعه به ، فإنّه حرام ، لأنّ أحدا لم يفرق بين المسألتين.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في تفسير القران ، في تفسير قوله تعالى ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) (2) أي ترعون ، يقال : اسمت الإبل ، إذا رعيتها ، وقد سامت ، تسوم ، فهي سائمة ، إذا رعت ، وأصل السوم الابعاد في المرعى ، والسوم (3) في البيع الارتفاع في الثمن (4).

وقال في موضع آخر من التبيان : أصل السوم ، مجاورة الحد ، فمنه السوم في

ص: 235


1- سنن النسائي : كتاب البيوع ، ج 7 ، ص 258 ، وفيه : لا يبيع أحدكم على بيع أخيه.
2- النحل : 10
3- ج : الابعاد ، والسوم.
4- التبيان : ج 6 ، ذيل الآية 10 ، من سورة النحل.

البيع ، وهو تجاوز الحدّ في السعر ، إلى الزيادة ، ومنه السائمة من الإبل الراعية ، لأنّها تجاوز حدّ الإثبات للرعي ، هذا آخر كلام شيخنا في التبيان في معنى السوم (1) فصح ما قلناه ، أنّه الزيادة والارتفاع في الثمن.

ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد ، ومعناه أن يكون سمسارا له ، بل يتركه أن يتولّى لنفسه ، ليرزق اللّه بعضهم من بعض ، فإن خالف أثم ، وكان بيعه صحيحا ، وينبغي أن يتركه في المستقبل ، هذا إذا كان ما معهم ، يحتاج أهل الحضر إليه ، وفي فقده إضرار بهم ، فأمّا إذا لم يكن بهم حاجة ماسة إليه ، فلا بأس أن يبيع لهم ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) وكذلك الفقيه ابن البراج في مهذبه (3).

وهذا هو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين العلماء ، من الخاص والعام ، وبين مصنّفي غريب الأحاديث ، من أهل اللغة ، كالمبرد ، وأبي عبيد ، وغيرهما ، فانّ المبرد ، ذكر ذلك في كاملة : فلا يتوهم متوهم ، أنّ المراد بقوله عليه السلام : ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد (4) معناه أنّه لا يبيع الحاضر البادي ، أو لا يبيع الحاضر على البادي ، وهذا لا يقوله من له أدنى تحصيل ، فانّي شاهدت بعض متفقهة أصحابنا ، وقد اشتبه عليه ذلك ، وقال : المراد به ، ما أوردته أخيرا ، من أنّه لا يبيع حاضر شيئا على باد ، وهذا غاية الخطأ ، ومن أفحشه ، وهل يمنع من أن يبيع حاضر على البادي ، أحد من المسلمين ، ولو أراد ذلك عليه السلام لما قال : ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد ، بل كان يقول : ولا يجوز أن يبيع حاضر على

ص: 236


1- التبيان : ج 6 ذيل الآية 10 ، من سورة النحل.
2- المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ج 2 ، ص 160.
3- المهذب : لم نجده في المطبوع طبع المؤسسة.
4- الوسائل : الباب 37 من أبواب آداب التجارة ، ح 1 - 3 ، ولفظ الحديث هكذا : لا يبيع حاضر لباد.

باد ، فلما قال : لباد ، دل عليه أنّه لا يكون سمسارا له.

ووجدت بعض المصنّفين ، قد ذكر في كتاب له ، قال : نهي أن يبيع حاضر لباد ، فمعنى هذا النهي ، واللّه أعلم ، معلوم في ظاهر الخبر ، وهو الحاضر للبادي ، يعني متحكما عليه في البيع ، بالكرة ، أو بالرأي الذي يغلب به عليه ، يريه أنّ ذلك نظر له ، أو يكون البادي يوليه عرض سلعته ، فيبيع دون رأيه ، أو ما أشبه ذلك. فأمّا إن دفع البادي سلعته إلى الحاضر ، ينشرها للبيع ، ويعرضها ، ويستقصي ثمنها ، ثم يعرفه مبلغ الثمن ، فيلي البادي البيع بنفسه ، أو يأمر من يلي ذلك له بوكالته ، فذلك جائز ، وليس في هذا من ظاهر النهي شي ء ، لأنّ ظاهر النهي ، انّما هو ان يبيع الحاضر للبادي ، فإذا باع البادي بنفسه ، فليس هذا من ذلك بسبيل ، كما يتوهمه من قصر فهمه ، هذا آخر الكلام. فأحببت إيراده هاهنا ، ليوقف عليه ، فإنّه كلام محصّل ، سديد في موضعه.

فأمّا المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد ، لبيعه السمسار ، ويستقصي في ثمنه ، ويتربص ، فإنّ ذلك جائز ، لأنّه لا مانع منه ، وليس كذلك في البادية.

ولا يجوز تلقي الجلب ، ليشتري منهم قبل دخولهم البلد ، لأنّ النبيّ عليه السلام قال : لا يبيع بعضكم على بيع بعض ، ولا تلقوا السلع ، حتى يهبط بها الأسواق (1).

وروي عنه عليه السلام أنّه نهى عن تلقي الجلب ، فان تلقى متلقّ فاشتراه ، فصاحب السلعة بالخيار ، إذا ورد السوق (2).

فإن تلقى واشتراه ، يكون الشراء صحيحا ، لأنّ النبي عليه السلام أثبت الخيار للبائع ، والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح ، وخياره يكون على الفور مع

ص: 237


1- أورده في المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، في فصل بيع الغرر ، ص 160 ، باختلاف يسير.
2- الرواية عامية أوردها في الخلاف في كتاب البيوع ذيل المسألة 282 ، سنن النسائي : كتاب البيوع ، التلقي ، ج 7 ، ص 257 ولفظه هكذا : « لا تلقّوا الجلب ، فمن تلقّاه فاشترى منه ، فإذا أتى سيّده السوق ، فهو بالخيار ».

الإمكان ، فأمّا إذا كان راجعا من ضيعة ، أو من سفر ، فتلقى جلبا ، جاز له أن يشتريه ، لأنّه لم يتلق الجلب ، للشراء منهم.

وحدّ التلقي روحة ، وحدّها أربعة فراسخ ، فإن زاد على ذلك كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقيا.

وقال شيخنا في نهايته : وأمّا التلقي ، فهو أن يستقبل الإنسان الأمتعة والمتاجر ، على اختلاف أجناسها ، خارج البلد ، فيشتريها من أربابها ، وهم لا يعلمون بسعر البلد ، فمن فعل ذلك ، فقد ارتكب مكروها ، لما في ذلك من المغالطات ، والمغابنات (1) ، وكذلك أيضا يكره أن يبيع حاضر لباد ، لقلة بصيرته ، بما يباع في البلاد ، وإن لم يكن شي ء من ذلك محظورا ، لكن ذلك من المسنونات (2).

وما ذكره في مبسوطة ، في المسألتين معا ، من أنّ ذلك محرّم (3) ، هو الصحيح ، لأنّه نهى عليه السلام عن ذلك ، والنهي عندنا بمجرده ، يقتضي التحريم ، في عرف الشريعة.

فإن قيل : لو كان ذلك على جهة التحريم ، لكان البيع فاسدا ، لأنّ النهي عندكم يقتضي فساد المنهي عنه ، وقد قلتم : إن البيع إذا تلقي صحيح.

قلنا : نهى عليه السلام ، عن التلقي ، وما نهى عن نفس العقد الذي هو البيع ، فلا يتعدّى أحدهما إلى الآخر ، ولو كان النهي عن نفس البيع ، لفسد ، وانّما النهي عن التلقي.

ونهى عن الاحتكار ، والاحتكار عند أصحابنا ، هو حبس الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والسمن ، من البيع ، ولا يكون الاحتكار المنهي عنه ، في شي ء من الأقوات ، سوى هذه الأجناس ، وإنّما يكون الاحتكار منهيا عنه ، إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شي ء منها ، ولا يوجد في البلد غيره ، فأمّا مع

ص: 238


1- ل : المعاتبات.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الاحتكار والتلقي.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع فصل في بيع الغرر ، ص 160.

وجود أمثاله ، وسعة ذلك على الناس ، وكثرته ، فلا بأس أن يحبسه صاحبه ، ويطلب بذلك الفضل.

ومتى ضاق على الناس الطعام ، ولم يوجد إلا عند من احتكره ، كان على السلطان ، والحكام من قبله ، أن يجبره على بيعه ، ويكرهه عليه ، ولا يجوز أن يجبره على سعر بعينه ، ولا أن يسعر عليه ، بل يبيعه بما يرزقه اللّه تعالى ، ولا يمكنه من حبسه ، أكثر من ذلك.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وللسلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلته ، وبيعها في أسواق المسلمين ، إذا كانت بالناس حاجة ظاهرة إليها ، وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ، ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها (1).

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ، ومسائل خلافه (3) ، ومبسوطة (4) ، وجميع كتبه ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ عليه الإجماع ، وبه تواترت الأخبار ، عن الأئمة الأطهار ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، من إلزام هذا المكلّف التسعير ، وأيضا إثبات ذلك ، حكم شرعي ، يحتاج فيه إلى دليل شرعي.

وروي عن النبي عليه السلام ، أنّ رجلا أتاه ، فقال : سعّر على أصحاب الطعام ، فقال : بل أدعو اللّه ، ثم جاء آخر فقال : يا رسول اللّه ، سعّر على أصحاب الطعام ، فقال : بل اللّه يرفع ويخفض ، واني لأرجو أن ألقى اللّه وليست لأحد عندي مظلمة (5).

فإذا ثبت ذلك ، فإذا خالف إنسان من أهل السوق ، بزيادة سعر ، أو نقصانه ، فلا اعتراض عليه لأحد.

ص: 239


1- المقنعة : باب تلقي السلع والاحتكار ص 616.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الاحتكار والتلقي
3- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 25.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل في حكم التسعير
5- أوردها الشيخ قدس سره في المبسوط : ج 2 في فصل حكم التسعير ص 195 ، أخرجه في كنز العمال ، في الباب الثالث من كتاب البيوع ، في الإكمال من التسعير : ج 4 ، ص 102 ، الرقم 9743 ، أخرجه عن أحمد في مستنده.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : لا يجوز للإمام ، ولا للنائب عنه ، أن يسعّر على أهل الأسواق ، متاعهم من الطعام وغيره ، سواء كان في حال الغلاء ، أو في حال الرخص ، بلا خلاف.

ونهى عليه السلام عن بيعتين في بيعة ، وقيل : إنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد ، أنّه إذا قال : بعتك هذا الشي ء ، بألف درهم ، نقدا ، وبألفين نسية ، بأيّهما شئت خذه ، فإنّ هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصح ، لأنّه لا يلزمه بيع داره.

ونهى عن النجش - بالنون والجيم والشين المعجمة - وحقيقته الاستثارة ، وهي أن يزيد رجل ، في ثمن سلعة ، زيادة لا تساوى بها ، وهو لا يريد شراها ، وإنّما يريد ليقتدي به المستام ، فهذا هو النجش الحرام.

ولا يجوز بيع حبل - الحبلة ، بالحاء غير المعجمة ، والباء المنقطة ، بنقطة واحدة من تحتها ، بفتحهما معا ، وكذلك الحبلة بفتح الحاء ، غير المعجمة ، والباء أيضا - وهو أن يبيع شيئا بثمن مؤجل إلى نتاج الناقة ، لأنّ ذلك أجل مجهول.

ونهي عن بيع المجر - بالميم المفتوحة ، والجيم المسكنة ، والراء - وهو بيع ما في الأرحام ، ذكره أبو عبيدة ، وقال ابن الأعرابي : المجر الذي في بطن الناقة ، وقال : المجر الربا ، والمجر القمار ، والمجرد المحاقلة والمزابنة.

باب حقيقة البيع وبيان أقسامه وعقوده وجمل من أحكامه

البيع هو انتقال عين مملوكة ، من شخص إلى غيره بعوض مقدر ، على وجه التراضي ، وهو على ثلاثة أضرب ، بيع عين مرئية مشاهدة ، وبيع خيار الرؤية ، وبيع موصوف في الذمة ، وإن شئت قلت : البيع على ضربين ، بيوع

ص: 240

الأعيان ، وبيوع الموصوف في الذمة. وبيع الأعيان على ضربين ، بيع عين مشاهدة مرئية ، وبيع خيار الرؤية. فأمّا بيع الأعيان المشاهدة المرئية ، فهو أن يبيع الإنسان عبدا حاضرا ، أو ثوبا مشاهدا ، أو عينا من الأعيان ، مشاهدة حاضرة مرئية ، فيشاهد البائع والمشتري ذلك ، فهذا بيع صحيح ، بلا خلاف ، ولا يفتقر إلى ضرب الأجل ، ولا وصف المبيع ، وليس من شرط صحته قبض الثمن ، قبل التفرق من مجلس العقد ، فإن هلك قبل قبض المشتري له ، أو قبل تمكينه من قبضه ، فقد بطل البيع ، ووجب على البائع ردّ الثمن إن كان تسلّمه ، وإن كان بعد قبض المشتري له ، أو بعد التمكين له من القبض ، فإنّه لا ينفسخ البيع ، ويهلك من مال مشتريه ، إلا أن يكون حيوانا فمتى مات في مدة الثلاثة أيّام ، قبل تصرف المشتري فيه ، فإنّه يهلك من مال بائعه ، فإن هلك بعدها ، فهو من مال مشتريه ، لأنّ الخيار في الحيوان ، للمشتري ثلاثة أيّام ، يثبت بمجرّد العقد ، إلا أن يشرط البائع ، أن لا خيار بيننا ، فمتى كان الخيار للمشتري ، وهلك الحيوان في مدة الخيار ، قبل التصرف فيه ، والحدث المؤذن بالرضا ، فإنّه يهلك من مال بايعه ، دون مشتريه ، ومتى كان الخيار في المدة لبائعه ، ولا خيار لمشتريه ، فإنّه يهلك من مال مشتريه ، دون مال بائعه ، لأنّه يهلك من مال من استقر العقد عليه ، ولزم من جهته.

فأمّا بيع العين الموصوفة ، غير المشاهدة بخيار الرؤية ، فهو بيع الأعيان الغائبة ، وهو أن يبتاع شيئا لم يره ، مثل أن يقول : بعتك هذا الثوب الذي في كمي ، أو الثوب الذي في صندوقي ، وما أشبه ذلك ، فيذكر جنس المبيع ، فيتميز من غير جنسه ، ويذكر الصفة ، لتقوم مقام المشاهدة في العين المرئية ، لأنّ العين المرئية ، لا يحتاج في بيعها إلى ذكر صفتها.

ومن شرط هذا البيع ، وصحته ، ذكر الجنس والصفة معا ، فإن أخلّ بأحدهما ، بطل البيع ، فإذا عقد البيع ، ثم رأى المشتري المبيع ، فوجده على ما

ص: 241

وصفه البائع له ، كان البيع ماضيا ، ولم يكن لأحدهما خيار ، وإن وجده على خلاف الصفة ، كان له ردّه ، وفسخ العقد ، أو أخذه ، وأخذ الأرش ، لا يجبر على واحد من الأمرين ، فإن هلك قبل قبضه ، انفسخ البيع ، ولا يلزم بايعه ببدله ، لأنّ البيع وقع على عين ، فإثباته ، وصحّته في غيرها يحتاج إلى دليل ، وليس هو في الذمة.

وليس من شرطه أيضا قبض الثمن قبل التفرق ، ولا ضرب الأجل المحروس من الزيادة والنقصان ، بل من شرطه ذكر الجنس والصفة ، بخلاف بيع العين المشاهدة المرئية.

فأمّا بيع الموصوف في الذمة ، فهو بيوع السلم ، بفتح السين واللام ، ويقال السلف ، فهو أن يسلم في شي ء موصوف ، إلى أجل معلوم ، محروس من الزيادة والنقصان ، امّا بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام. ويذكر الصفات المقصودة ، فهذا أيضا بيع صحيح ، بلا خلاف.

ومن شرط صحته ، قبض الثمن قبل التفرق من المجلس ، وذكر الجنس والصفة ، وضرب الأجل المحروس ، وإن لا ينسب إلى أصله ، لأنّه بيع في الذمة ، فإذا عيّن أن يكون من موضع معروف ، أو شجرة بعينها ، أو غزل امرأة معينة ، أو نتاج حيوان معين ، أو لبنه ، أو صوفه ، وشعره ووبره ، فقد خرج عن موضوعه المشروع ، وكان باطلا بغير خلاف.

ولا يصح أن يكون ثمنه دينا على المسلم إليه ، كان للمسلم فيه ، لأنّ ذلك يكون بيع دين بدين ، وقد نهى الرسول عليه السلام عن بيع الدين بالدين (1).

فافترق هذا البيع ، أعني بيع الموصوف في الذمة ، من بيوع الأعيان ، وهما البيعان اللذان قدّمنا ذكرهما ، وهما بيع العين المشاهدة المرئية ، وبيع العين الغائبة الموصوفة ، لأنّ هذا أعني بيع السّلم ، للمشتري مطالبة البائع به ، على كل

ص: 242


1- الوسائل : الباب 15 ، من أبواب الدين والقرض ، ح 1 ولفظ الحديث هكذا : لا يباع الدين بالدين.

حال ، لأنّه في ذمته ، بخلاف بيوع الأعيان ، لأنّهما إذا هلكا قبل قبضهما ، بطل البيع فتميّز ، وافترق كلّ بيع ، وعقد ، من البيوع الثلاثة ، بأمر ، ووجه ، غير موجود في الآخر.

فأمّا بيع النسيئة ، مهموزة الياء ، فهو تأخير الأثمان ، إلى أجل محروس ، وتقديم المثمنات ، بخلاف بيع السلم ، لأنّ بيع السلم هو تقديم الأثمان ، قبل الافتراق من مجلس البيع ، وتأخير المثمنات إلى الأجل المحروس ، المقدّم ذكره فيما مضى.

ويجوز بيع العين الحاضرة ، بالعين الحاضرة ، ويجوز بالدين في الذمة ، وبيع خيار الرؤية ، إن وحده على حالته ووصفه ، أخذه ، وإن وجده على غير وصفه ، كان له ردّه ، على ما قدّمناه.

فإن اختلفا فقال المبتاع : نقص ، وقال البائع : لم ينقص من صفاته التي وصفتها ، فالقول قول المبتاع ، لأنّه الذي ينتزع الثمن منه ، ولا يجب انتزاع الثمن منه إلا بإقراره ، أو بيّنة تقوم عليه.

فأمّا بيع الخيار ، وذكر العقود التي يدخلها الخيار ، ولا يدخلها ، فبيع الخيار على ثلاثة أضرب ، أحدها أن يعقد العقد بالإيجاب والقبول ، ويكون الإيجاب متقدّما على القبول ، فإن كان القبول متقدّما على الإيجاب ، فالبيع غير صحيح ، فإذا عقداه بالإيجاب والقبول بعده ، فيثبت لهما الخيار ، ما لم يفترقا بأبدانهما ، ويسمّى هذا خيار المجلس ، فإذا ثبت بينهما العقد ، وأراد استقراره ، ولزومه ، وإبطال الخيار بينهما ، جاز لهما أن يقولا ، أو يقول أحدهما ، ويرضى به الآخر : قد أوجبنا العقد ، وأبطلنا خيار المجلس ، فإنّه يلزم العقد ويستقر ، ويبطل خيار المجلس.

الثاني أن يشرطا حال العقد أن لا يثبت بينهما خيار المجلس ، ويكون هذا الشرط مقارنا للعقد معا معا ، فإنّ ذلك جائز أيضا.

الثالث أن يشرطا في حال العقد ، مدة معلومة ، قلّ ذلك أم كثر ، ثلاثا كان أو أكثر ، أو أقلّ ، هذا فيما عدا الحيوان.

فأمّا الحيوان ، فإنّه يثبت فيه الخيار ثلاثا ، بمجرد العقد ، شرطا أم لم يشرطا ،

ص: 243

على ما قدّمناه ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ومذهبهم.

وقال السيد المرتضى : يثبت للبائع والمشتري معا ، والأول مذهب شيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر ، وجلّة أصحابنا.

وأيضا فالعقد يثبت بالإيجاب والقبول ، وقال اللّه تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) فمن أثبت الخيار لأحدهما ، يحتاج إلى دليل شرعي ، قاطع للأعذار ، وإجماعنا منعقد على أن الخيار للمشتري ، فمن أثبته للبائع ، يحتاج إلى دليل.

وما زاد على الثلاث ، فعلى حسب ما يشترطانه من الخيار ، إمّا لهما أو لواحد منهما (2) ، فإن أوجبا البيع ، بعد أن شرطا مدة معلومة ، ثبت العقد ، ولزم ، وبطل الشرط المتقدم. فأمّا العقود التي يدخلها الخيار ، فنحن نذكرها ، وما يصح فيه الخيار وما لا يصح.

فأما عقد البيع ، فان كان بيع الأعيان المشاهدة ، دخلها خيار المجلس ، بإطلاق العقد ، وخيار المدة ، ثلاثا كان ، أو ما زاد عليه ، بحسب الشرط.

وان كان حيوانا ، دخله خيار المجلس ، وخيار الثلاث معا ، بإطلاق العقد ، ومجرّده ، وما زاد على الثلاث ، بحسب الشرط.

وإن كان بيع خيار الرؤية ، دخله الخيار ان معا ، خيار المجلس ، وخيار الرؤية ، إذا رآه ، ويكون خيار الرؤية على الفور ، دون خيار المجلس.

فأمّا الصرف ، فيدخله خيار المجلس ، لعموم الخبر ، فأمّا خيار الشرط ، فلا يدخله أصلا ، إجماعا ، لأنّ من شرط صحة هذا العقد ، القبض قبل التفرق.

فأمّا السلم ، فيدخله خيار المجلس ، للخبر ، وخيار الشرط ، لا يمنع منه مانع ، وعموم الخبر يقتضيه.

فأمّا الرهن ، فإنّه يلزم بالإيجاب والقبول ، دون الإقباض ، وبعض أصحابنا ، يذهب إلى أنّه لا يلزم ، ولا ينعقد إلا بالإقباض ، والأول هو الأظهر في المذهب ،

ص: 244


1- المائدة : 1.
2- كان هنا أيضا نقص أوراق اجبروه بخط آخر فاقد لمزايا نسخة الأصل ولذا نجعل الأصل من هنا إلى أوائل باب الصرف نسخة « ج ».

ويعضده قوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فأمّا قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) فهذا دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عندنا غير صحيح ، وقد يرجع عن ظاهره بدليل ، والآية المتقدّمة دليل عليه.

وعقد الصلح لا يدخله خيار المجلس ، لأنّ خيار المجلس يختص عقد البيع ، والصلح عندنا ليس ببيع ، ولا هو فرع البيع ، على ما يذهب إليه الشافعي.

وكذلك الحوالة ، لا يدخلها خيار المجلس ، ولا يمتنع دخول خيار الشرط فيهما ، لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (2).

وكذلك الضمان ، لا يدخله خيار المجلس ، ولا يمتنع من دخوله خيار الشرط.

وأمّا خيار الشفيع على الفور ، فإن اختار الأخذ ، فلا خيار للمشتري ، لأنّه ينتزع منه الشقص قهرا ، وأمّا الشفيع ، فقد ملك الشقص ، وليس له خيار المجلس ، لأنّه ليس بمشتر ، وانّما أخذه بالشفعة.

وأما المساقاة ، فلا يدخلها خيار المجلس ، لأنّها ليست بيعا ، ولا يمنع مانع من دخول خيار الشرط فيها ، لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم.

وأمّا الإجارة ، فلا يدخلها خيار المجلس ، لأنّها ليست بيعا ، ولا يمنع من دخول خيار الشرط فيها مانع.

وأمّا عقد الوقف ، فلا يدخله الخياران ، معا على الصحيح من المذهب ، لأنّه متى شرط فيه الرجوع ، والخيار له في الرجوع ، لم يصحّ الوقف ، وبطل.

وأمّا الهبة ، فله الخيار قبل القبض ، وبعد القبض ، ما لم يتعوض ، أو يتصرّف فيه الموهوب له ، أو تهلك عينها ، إلا أن تكون الهبة لولده الأصاغر ، فليس للوالد الذي هو الواهب ، الرجوع ، قبض أو لم يقبض ، لأنّه هو الوالي والقابض ، فإنّها تلزم بمجرد العقد ، فان كانت لولده البالغين ، فإنّها تلزم

ص: 245


1- البقرة : 283.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.

بالقبض ، ولا يحتاج إلى إضافة شي ء إلى القبض ، في لزومها ، على ما نبينه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا عقد النكاح ، فلا يدخله الخياران ، للإجماع على ذلك.

وأمّا السّبق والرّماية ، فقد اختلف فيه ، فقال قوم : إنّه عقد لازم ، وقال آخرون : هو جائز ، والأولى انّه لا يدخله خيار المجلس ، لأنّه ليس ببيع ، ولا يمنع مانع من دخول خيار الشرط فيه.

وأمّا الوكالة والعارية ، والوديعة ، والقرض ، والجعالة ، فلا يمنع من دخول الخيارين فيها مانع ، لأنّ هذه العقود جائزة من جهة المتعاقدين ، غير لازمة ، فمن أراد الفسخ فسخ.

وأمّا القسمة ، فعلى ضربين ، قسمة لا ردّ فيها ، وقسمة فيها ردّ ، وعلى الوجهين معا ، لا خيار فيها في المجلس ، لأنّها ليست ببيع ، ولا يمنع من دخول خيار الشرط فيها مانع ، للخبر.

وأمّا الكتابة ، فعلى ضربين ، عندنا ، مشروطة ، ومطلقة ، فالمشروطة ليس للمولى فيها خيار مجلس ، ولا مانع من دخول خيار الشرط فيها.

وأمّا العبد ، فله الخياران معا ، لأنّه إن عجّز نفسه ، كان الفسخ حاصلا ، وإن كانت مطلقة ، فلا خيار لواحد منهما.

وأمّا الطلاق ، فليس بعقد ، فلا يدخله الخياران معا.

وكذلك العتق ، لا يدخله الخياران معا ، بغير خلاف بيننا.

إذا ثبت خيار المجلس في البيع ، على ما بيّناه ، فإنما ينقطع بأحد أمرين ، تفرق ، وتخاير.

فأمّا التفرق الذي يلزم به البيع ، وينقطع به الخيار ، فحده مفارقة المجلس ، بخطوة ، فصاعدا ومتى ثبتا موضعهما ، أو بني بينهما حائط ، لم يبطل خيار المجلس ، ولو طال مقامهما في المكان شهرا ، أو أكثر من ذلك.

وأمّا التخاير ، فعلى ضربين تخاير بعد العقد ، وتخاير في نفس العقد ، فأيّهما

ص: 246

كان لزم العقد ، واستقر ، وبطل خيار المجلس ، فما كان بعد العقد ، مثل أن يعقداه ، ثم يقول أحدهما للآخر : اختر الإمضاء ، وإن لا يكون بيننا خيار المجلس ، وقد أبطلناه ، فمتى فعلا ذلك ، فقد بطل خيار المجلس.

وما كان منه في نفس العقد ، مثل أن يقول : بعتك ، بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس ، فإذا قال المشتري : قبلت ، ثبت العقد ، ولا خيار لهما بحال البيع ، إن كان مطلقا من غير شرط ، فإنّه يثبت بنفس العقد ، ويلزم بالتفرق بالأبدان ، على ما قدّمناه.

وإن كان مشروطا لزومه بنفس العقد ، لزم بنفس العقد ، وإن كان مقيّدا مشروطا ، لزم بانقضاء الشرط ، ويكون مدة خيار الشرط ، من حين التفرق ، لأنّ خيار الشرط يدخل إذا استقرّ العقد ، ولزم ، والعقد لم يلزم ، ولم يستقر قبل التفرق.

وأيضا فهما خياران ، خيار المجلس ، ثبت من غير شرط ، وخيار الشرط زائد عليه ، ولا يدخل أحدهما في الآخر إلا أن يشرطا ذلك بينهما ، لأنّه لا دليل عليه ، بل قد اشترط زائدا على ما كان له من خيار المجلس ، فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يتصرف المشتري فيه ، أو لا يتصرف ، فإن تصرّف ، فيه بالهبة ، أو التمليك ، أو العتق ، وغير ذلك ، لزم العقد ، واستقر من جهته ، وبطل خياره ، وكان خيار البائع باقيا ، فإن تصرّف فيه البائع بالهبة ، أو التمليك ، أو العتق ، وغير ذلك ، كان ذلك فسخا للعقد ، فالتصرف من المشتري لزوم العقد ، وإمضاء له ، ومن البائع إبطال له وفسخ.

فإن حدث بالمبيع هلاك في مدة الخيار ، وهو في يد البائع ، كان من ماله ، دون المشتري ، ما لم يتصرف فيه تصرفا يؤذن بالرضا.

فإن اختلفا في حدوث الحادثة ، فعلى المشتري البيّنة ، أنّه حدث في مدة الخيار ، دون البائع ، لأنّه المدّعي ، وكذلك الحكم في حدوث عيب به يوجب الرد.

ومتى وطأ المشتري في مدة الخيار لزمه البيع ، واستقر عليه ، وبظل خياره ،

ص: 247

ولم يجب عليه شي ء ، ويلحق به الولد ، ما لم يفسخ البائع ، فإن فسخ ، كان الولد لا حقا بأبيه ، ويلزمه للبائع قيمته ، إن لو كان عيدا ، وعشر قيمة الجارية ، إن كانت بكرا ، أو نصف العشر ، إن كانت ثيبا ، وإن لم يكن هناك ولد ، لزمه عشر قيمتها ، إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا ، نصف عشر قيمتها ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ، ومبسوطة (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ المشتري لا يلزمه قيمة الولد ، ولا عشر قيمة الجارية بحال ، سواء فسخ البائع البيع ، أو لم يفسخ ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، لأن الولد انعقد حرا ، ولا قيمة للحر ، فأمّا عشر القيمة لأجل وطئها ، فما ورد ، إلا فيمن اشترى جارية ، ووطأها ، فظهر بها حمل ، ردّها ، وردّ معها عشر القيمة ، إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا ، نصف العشر ، ولم يرد في هذا نص ، والقياس عندنا باطل.

وإنما ذكر ذلك شيخنا في مسائل خلافه على رأي بعض المخالفين ، في أنّ المبيع لا ينتقل إلى المشتري ، إلا بشرطين ، بالعقد ، وبانقضاء الشرط ، وعند أصحابنا انّه ينتقل إلى ملك المشتري ، بمجرد العقد.

فإذا تقرّر ذلك ، فقد تصرّف في ملكه تصرفا مباحا حسنا ، فدخل في قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (3) وما عدا ذلك فإنّا نخرجه بدليل ، فليلحظ ذلك.

وأمّا خيار البائع ، فإنّه لا يبطل بوطء المشتري ، لأنّه لا دليل عليه ، ومتى وطأ البائع في مدة الخيار ، كان ذلك فسخا للبيع ، إجماعا.

وجملة الأمر وعقد الباب ، إنّ كلّ تصرف لو وقع من البائع ، كان فسخا ،

ص: 248


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 32.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، احكام الخيارات ، ولا يخفى اختلاف يسير بين المنقول وما في الكتابين فراجع.
3- التوبة : 91.

متى وقع من المشتري كان إمضاء وإقرارا بالرضا بالبيع ولزومه ، ويستقر العقد بذلك من جهته.

فأمّا إذا اتفقا على التصرف فيه ، وتراضيا ، مثل ان أعتق المشتري ، أو باع في مدة الخيار ، بإذن البائع ، أو وكلّ المشتري البائع في عتق الجارية ، أو بيعها ، فانّ الخيار ينقطع في حقهما ، ويلزم البيع ، ويستقر ، وينقطع خيارهما معا ، وينفذ العتق والبيع ، لأنّ في تراضيهما بذلك ، رضا يقطع الخيار.

خيار المجلس ، والشرط ، موروث عندنا.

إذا كان المبيع شيئا بعينه ، فهلك بعد العقد ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون قبل القبض ، أو بعده ، فإن كان قبل القبض ، بطل البيع ، سواء كان التلف في مدة الخيار ، أو بعد انقضاء مدة الخيار ، فإذا تلف ، هلك على ملك البائع ، وبطل الثمن ، فإن كان الثمن مقبوضا ، ردّه وإن كان غير مقبوض ، سقط عن المشتري ، وإن كان الهلاك بعد القبض ، لم يبطل البيع ، سواء كان في يد المشتري ، أو يد البائع ، مثل ان قبضه المشتري ، ثمّ ردّه إلى البائع وديعة ، فإذا ثبت أنّه لا ينفسخ ، نظرت ، فإن كان الهلاك بعد انقضاء مدّة الخيار ، فلا كلام ، وإن كان في مدّة الخيار ، لم ينقطع الخيار ، ثم لا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن يجيز البيع ، أو يفسخاه ، فإن فسخاه ، أو أحدهما ، سقط الثمن ، ووجب القيمة على المشتري ، وإن اختارا إمضاء البيع ، أو سكتا حتى مضت مدة الخيار ، فإنّه يلزمه الثمن المسمّى ولا يلزمه القيمة ، لأنّه مسمّى ، ولا يسقط مع بقاء العقد.

وإذا اشترى شيئا ، فبان له الغبن ، بسكون الباء ، فإن كان من أهل الخبرة ، والبصيرة ، لم يكن له ردّه ، وإن لم يكن من أهل الخبرة ، نظر فإن كان مثله ، لم تجر العادة بمثله ، فسخ العقد إن شاء ، وإن كان جرت العادة بمثله ، لم يكن له الخيار.

إذا قال بعنيه أو أتبيعني هذا بألف ، أو بعني ، أو اشتريت منك هذا بألف ،

ص: 249

فقال صاحبه : بعتك ، لم يصح العقد والبيع ، حتى يقول المشتري بعد قول البائع بعتك : اشتريت ، أو قبلت.

وكذا إذا قال البائع : تشتري مني هذا بألف ، أو أبيعك هذا بألف ، أو اشتر هذا مني بألف ، فقال المشتري : اشتريت ، أو قبلت ، لم يصح البيع ، ولم ينعقد العقد ، إلا أن يأتي البائع بلفظ الإخبار والإيجاب ، دون لفظا الاستفهام والأمر ، وهو قوله : بعتك فيقول المشتري : اشتريت ، أو قبلت على ما قدّمناه ، فينعقد العقد بذلك ، دون ما سواه من الألفاظ.

إذا دفع قطعة إلى البقلي ، أو إلى الشارب ، فقال : أعطني بقلا ، أو ماء ، فإنّه لا يكون بيعا ، ولا عقدا ، لأنّ الإيجاب والقبول ما حصلا ، وكذلك سائر المحقرات ، وسائر الأشياء ، محقرا كان أو غير محقر ، من الثياب والحيوان ، وغير ذلك ، وإنّما يكون إباحة له ، فيتصرف كلّ واحد منهما فيما أخذه ، تصرفا مباحا ، من غير أن يكون ملكه ، أو دخل في ملكه ، ولكل واحد منهما ، أن يرجع فيما بذله ، لأنّ الملك لم يحصل لهما ، بشرط إن بقيا فإن لم يبق أحدهما ، بحاله كما كان أولا فلا خيار لأحدهما ، وليس هذا من العقود ، الفاسدة ، لأنّه لو كان عقدا فاسدا ، لم يصحّ التصرف فيما صار إلى كلّ واحد منهما ، وانما ذلك على جهة الإباحة.

باب الرّبا وأحكامه وما يصح فيه وما لا يصح

الربا محظور في شريعة الإسلام ، قال اللّه تعالى ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) وقال تعالى ( يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) وقال ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) (3) وروي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام ، أنّه قال : درهم ربا أعظم

ص: 250


1- البقرة : 275.
2- البقرة : 276.
3- البقرة : 275.

عند اللّه تعالى من سبعين زنية ، كلّها بذات محرم (1) ، فيجب على الإنسان معرفته ، ليتجنبه ويتنزه عنه.

فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أن ذلك محظور ، فليستغفر اللّه تعالى في المستقبل ، ويتوب إليه ، وقد تاب اللّه عليه فيما مضى ، ومن علم أن ذلك حرام ، ثم استعمله ، فكل ما يحصل له من ذلك ، محرّم عليه ، ويجب ردّه على صاحبه ، فإن لم يعرف صاحبه ، تصدّق به عنه ، على ما روي في الأخبار (2) ، وإن عرفه ولم يعرف مقدار ما أربى عليه ، فليصالحه ، وليستحلّه.

وإن علم أن في ماله ربا ولا يعرف مقداره ، لا بالوزن ولا بالعين ، ولا من أربى عليه ، ولا غلب على ظنه مقدار الربا ، فليخرج خمس ذلك المال ، ويضعه في أهله ، وحلّ له التصرف فيما يبقى بعد ذلك.

وقال شيخنا في نهايته : فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور فليستغفر اللّه تعالى ، وليس عليه فيما مضى شي ء ومتى علم أنه ذلك حرام ، ثم استعمله ، فكلّ ما يحصل له من ذلك محرم عليه ، ويجب عليه ردّه على صاحبه (3).

قال محمّد بن إدريس : قول شيخنا رحمه اللّه : « فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور ، فليستغفر اللّه تعالى في المستقبل ، وليس عليه فيما مضى شي ء » المراد بذلك ، ليس عليه شي ء من العقاب ، بعد استغفاره ، لا أنّ المراد بذلك ، أنّه ليس عليه شي ء من ردّ المال الحرام ، بل يجب عليه ردّه على صاحبه ، لقوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) (4) فأمّا قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) (5) المراد به واللّه أعلم ، فله ما سلف من الوزر ، وغفران الذنب ، وحقّ القديم سبحانه بعد انتهائه ، وتوبته ، لأنّ

ص: 251


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الربا ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب الربا ، والباب 47 من أبواب ما يكتسب به.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه ..
4- البقرة : 279.
5- البقرة : 275.

إسقاط الذنب عند التوبة ، تفضل عندنا ، بخلاف ما يذهب إليه المعتزلة ، وقيل في التفسير ذكره شيخنا في التبيان ، وغيره من المفسّرين ، أنّ المراد بذلك ما كان في الجاهليّة من الربا بينهم ، فقال تعالى « فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى ، فَلَهُ ما سَلَفَ » فأمّا ما يجري بين المسلمين ، فيجب ردّه على صاحبه ، سواء كان جاهلا بحاله ، غير عالم بأنّه محرم ، أو كان عالما بذلك ، فإنّه يجب ردّ الربا على من أربى عليه في المسألتين جميعا (1).

فلا يظن ظان ولا يتوهم متوهم على شيخنا فيما قال ، غير ما حررناه.

ولا ربا بين الولد ووالده ، ولا بين العبد وسيده ، لأنّ مال العبد لسيده ، ولا بين الرجل وأهله ، المراد بأهله هاهنا امرأته ، دون قراباته من الأهل ، والدليل على أنّ المراد بأهله امرأته هاهنا ، قوله تعالى في قصة موسى ( وَسارَ بِأَهْلِهِ ) (2) ولا خلاف أنّ المراد بذلك ، امرأته بنت شعيب ، لأنّه ما كان معه غيرها من قراباته.

ولا ربا أيضا بين المسلم وبين أهل الحرب ، لأنهم في الحقيقة في للمسلمين ، وانّما لا يتمكن منهم.

والربا يثبت بين المسلم وأهل الذمة ، كثبوته بينه وبين مسلم مثله ، وهذا هو الصحيح من أقوال أصحابنا ، وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في جميع كتبه.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ربا بين المسلم وأهل الذمة ، وجعلهم كالحربيين ، ذهب إلى ذلك شيخنا المفيد ، وابن بابويه ، وغيرهما.

والأول هو المعتمد ويعضده ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى « أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » فخرج من ذلك أهل الحرب ، بالإجماع المنعقد من أصحابنا ، وبقي من عداهم داخلا في عموم الآية ، فلا يجوز التخصيص للعموم ، إلا بأدلة موجبة للعلم ، قاطعة للأعذار ، فأمّا أهل الحرب ، فإنّا نأخذ منهم

ص: 252


1- التبيان : ج 2 في ذيل الآية 275 من سورة البقرة.
2- القصص : 29.

الزيادة ، ولا يجوز لنا أن نعطيهم ذلك ، مثاله أن نبيعه دينارا بدينارين ، ولا يجوز ان نبيعه دينارين بدينار.

فأمّا قول شيخنا في نهايته : ولا ربا بين الولد ووالده ، لأنّ مال الولد في حكم مال الوالد ، يبطل هذا التعليل ، في قوله : ولا بين الرجل وأهله ، فأمّا قولهم : ولا بين العبد وسيّده ، لأنّ مال العبد لسيده ، فلا فائدة فيه ، ولا لنا حاجة إلى هذا التعليل ، وأي مال للعبد ، وإنّما الربا بين اثنين مالكين.

وجميع ما (1) ذكرناه أنّه لا ربا بينه وبين غيره ، لكل واحد مهما أن يأخذ الفضل والزيادة ، ويعطي الفضل والزيادة ، إلا أهل الحرب على ما حررناه ، للإجماع على ذلك.

ولا يكون الربا المنهي عنه المحرم في شريعة الإسلام ، عند أهل البيت عليهم السلام ، إلا فيما يكال أو يوزن ، فأمّا ما عداهما من جميع المبيعات ، فلا ربا فيها بحال ، لأنّ حقيقة الربا في عرف الشرع ، هو بيع المثل من المكيل ، أو الموزون بالمثل متفاضلا ، نقدا ونسيئة إذا كان البيّعان غير والد وولد ، أو زوج وزوجة ، أو مسلم وحربي ، أو عبد وسيّده.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فإنّه يحرم التفاضل فيه ، والجنس واحد ، نقدا ونسيئة ، مثل بيع درهم بدرهم ، وزيادة عليه ، ودينار بدينار ، وزيادة عليه ، وقفيز حنطة بقفيز منها ، وزيادة عليه ، ومكوك (2) شعير بمكوك منه ، وزيادة عليه ، وكذلك حكم جميع المكيلات والموزونات.

وإذا اختلف الجنسان فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلا الدراهم والدنانير ، فلا يجوز النسيئة فيهما ، لا متماثلا ولا متفاضلا ، ويجوز ذلك نقدا متفاضلا ، ومتماثلا بغير خلاف بين أصحابنا ، لقوله عليه السلام المجمع عليه

ص: 253


1- ل. ق : وجميع من.
2- المكوك بالتشديد. مكيال يسع ساعا ونصفا. وقيل غير ذلك.

إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم (1) ولو لا الإجماع المنعقد على تحريم بيع الدنانير والدراهم نسيئة ، لجاز ذلك ، لأنّه داخل في عموم قوله عليه السلام ، فخصصناهما بالإجماع ، وبقي الباقي وما عداهما على أصل الإباحة ، وقوله تعالى : « ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) ، وقد قلنا أنّ حقيقة الربا في عرف الشريعة ، بيع المثل من المكيل أو الموزون بالمثل ، متفاضلا نقدا ونسيئة.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اختلف الجنسان ، فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلا الدراهم والدنانير ، والحنطة والشعير ، فإنّه لا يجوز بيع دينار بالدراهم نسيئة ويجوز ذلك نقدا ، بأيّ سعر كان ، وكذلك الحكم في الحنطة والشعير ، فإنّه لا يجوز التفاضل فيهما ، لا نقدا ولا نسيئة لأنّهما كالجنس الواحد ، هذا آخر كلام شيخنا رحمه اللّه (2).

قال محمد بن إدريس : لا خلاف بين المسلمين ، العامة والخاصة ، أنّ الحنطة والشعير جنسان مختلفان ، أحدهما غير الآخر ، حسا ونطقا ، ولا خلاف بين أهل اللغة واللسان العربي في ذلك ، فمن ادّعى أنهما جنس واحد ، أو كالجنس الواحد ، يحتاج إلى أدلة قاطعة للأعذار ، من إجماع منعقد ، أو كتاب ، أو سنة متواترة ، ولا إجماع على ذلك ، ولا نصّ في كتاب اللّه تعالى ، ولا سنّة مقطوعا بها متواترة ، وقد قلنا ان اخبار الآحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يخص بها الإجماع ، ولا الأدلة (3).

ثم لم يذهب إلى هذا القول ، غير شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه وشيخنا المفيد رحمه اللّه ، في مقنعته (4) ، ومن قلده في مقالته ، وتبعه في تصنيفه ، بل جلّة أصحابنا المتقدّمين ، ورؤساء مشايخنا المصنفين الماضين رحمهم اللّه ، لم يتعرضوا.

ص: 254


1- أورده الشيخ قدس سره في الخلاف كتاب البيوع ، ذيل المسألة 121 ، وفيه : إذا اختلف الجنسان
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.
3- هنا عثرنا على أوراق من نسخة الأصل
4- المقنعة : باب بيع الواحد بالاثنين ص 604.

لذلك ، بل أفتوا ، وصنفوا ، ووضعوا في كتبهم ، أنه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس بيع الواحد بالاثنين ، من المكيل والموزون ، على العموم والإطلاق ، من سائر المكيلات والموزونات ، ولم يستثنوا من ذلك إلا الدنانير والدراهم ، في بيع النسيئة فحسب ، مثل شيخنا ابن بابويه في كتاب من لا يحضره فقيه (1) ، فإن هذا مذهبه ومقالته في مقنعه (2) وسائر كتبه ، وكذلك السيّد المرتضى ، وعلي بن بابويه ، وغير هؤلاء من المشيخة الفقهاء. وأبو علي بن الجنيد ، من كبار فقهاء أصحابنا ، ذكر المسألة وحققها ، وأوضحها في كتابه الأحمدي للفقه المحمدي ، فإنّه قال : لا بأس بالتفاضل بين الحنطة والشعير ، لأنّهما جنسان مختلفان (3).

وكذلك ابن أبي عقيل ، من كبار مصنفي أصحابنا ، ذكر في كتابه ، فقال : وإن اختلف الجنسان ، فلا بأس ببيع الواحد بأكثر منه ، وقد قيل : لا يجوز الحنطة بالشعير ، إلا مثلا بمثل سواء ، لأنّهما من جنس واحد ، بذلك جاءت بعض الأخبار ، والقول والعمل على الأول ، هذا آخر كلامه (4).

وأيضا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » يعضد ذلك ، ويشيّده ، وأيضا قوله عليه السلام المجمع عليه : إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم ، وقد اختلف الجنس في الحنطة والشعير ، صورة وشكلا ، ولونا وطعما ، ونطقا وإدراكا وحسا ، فإذا كان لا إجماع على المسألة ، ولا كتاب اللّه تعالى ، ولا سنة متواترة ، بل الكتاب المنزل على الرسول عليه السلام يخالفها ، والإجماع من الفرقة المحقة يضادها ، ودليل العقل يأباها ، فما بقي إلا تقليد الواضع لها في كتابه ، ولا خلاف أنّه لا يجوز تقليد ما يوجد في سواد الكتب (5) إذا لم تقم على صحته الأدلة

ص: 255


1- من لا يحضره الفقيه : ج 3 ، كتاب المعيشة ، باب الربا ، ص 274 - 286 ، وفيه : روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : الحنطة والشعير رأس برأس ، لا يزاد واحد منهما على الآخر ، ص 281.
2- المقنع : باب المكاسب والتجارات ، باب الربا ، وعبارته هكذا : واعلم أنّه لا ربا الا فيما يكال أو يوزن ، .. فتأمّل
3- لا يوجد في المصادر التي بأيدينا.
4- رسالتان مجموعتان فتاوى ابن أبي عقيل ص 114.
5- ج : في سواد إذا

الواضحة ، والبراهين اللائحة.

ولا بأس ببيع قفيز من الذرة ، أو غيرها من الحبوب ، بقفيزين من الحنطة أو الشعير ، أو غيرهما من الحبوب ، يدا ونسيئة بغير خلاف على ما أصلناه ، وحررناه ، فيما تقدّم ، وقوله عليه السلام : « إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم » وإنّما روي كراهية بيع ذلك نسيئة دون أن يكون ذلك محرما محظورا ، وهذا مقالة جميع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ومذهب شيخنا أبي جعفر ، في نهايته (1) ، ومسائل خلافه (2) ومبسوطة (3) ، وغير ذلك من كتبه ، وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه والجنس واحد ، نقدا ونسيئة روي كراهة ذلك نسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه ، والجنس واحد نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، مثل ثوب بثوبين ، ودابة بدابتين ، ودار بدارين ، وعبد بعبدين ، وما أشبه ذلك ، ممّا لا يدخل تحت الكيل والوزن ، والأحوط في ذلك أن يقوّم ما يبتاعه بالدراهم والدنانير ، وغيرهما من السلع ، ويقوّم ما يبيعه بمثل ذلك ، وإن لم يفعل ، لم يكن به بأس (4).

قوله رحمه اللّه : « ولا يجوز ذلك نسيئة » محمول على تغليظ الكراهة ، دون الحظر ، لأنّا قلنا : إنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة ، قالوا : لا يجوز.

وأيضا فشيخنا أبو جعفر ، قد رجع عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثاني من مبسوطة في فصل ، في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، فإنّه قال : إذا تبايعا عينا بعين ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن لا يكون في واحدة منهما الربا أو في واحدة منهما الربا أو في كل واحدة منهما الربا ، فإن لم يكن في واحدة منهما الربا ، مثل الثياب والحيوان ، وغير ذلك ، ممّا لا ربا فيه ، جاز بيع بعضه ببعض ، متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ، ويكره ذلك نسيئة ، ويجوز إسلاف إحداهما في

ص: 256


1- النهاية : كتاب التجارة باب الربا وأحكامه ..
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 65.
3- المبسوط : ج 2 كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح.
4- النهاية : كتاب التجارة باب الربا وأحكامه ...

الأخرى هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

وأيضا فقد بيّنا أنّ حقيقة الربا في عرف الشرع بيع المثل بالمثل متفاضلا ، من المكيل والموزون ، وأنه لا ربا عندنا إلا في المكيل والموزون ، بغير خلاف بيننا ، وبيع البعير بالبعيرين ، والدّار بالدّارين ، وما أشبه ذلك ، ليس بمكيل ولا موزون ، فخرج ذلك من حقيقة الربا المنهي عنه في شريعة الإسلام ، ودخل ذلك في عموم قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بغير خلاف.

وقد بيّنا أيضا ، أنّ أخبار الآحاد ، لا يرجع إليها ، ولا يعوّل عليها ، فإن ورد خبر شاذ ، لا يلتفت إليه ، ولا تخص بمثله الأدلة والعموم.

ثم أخبارنا التي أوردها شيخنا في استبصاره (2) ، في الجزء الثالث كلّها ناطقة بما ذكرناه ، من قولهم عليهم السلام ، لما سئلوا عن بيع البعير بالبعيرين ، فقالوا : لا بأس ، جميعها كذلك ، أوردها ولم يقل فيها شيئا ، أعني شيخنا أبا جعفر ، ولا قال : إذا كان ذلك نسيئة لا يجوز ، ولو كان ذلك اعتقاده ، لقال : وتوسط بين الأخبار ، على ما جرت عادته وسجيّته.

وما يكال ويوزن ، فبيع المثل بالمثل ، جائز حسب ما قدّمناه ، يدا ولا يجوز ذلك نسيئة.

ولا بأس ببيع الأمتعة والعقارات ، والحبوب وغير ذلك ، بالدراهم والدنانير ، نقدا ونسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز بيع الغنم باللحم ، لا وزنا ولا جزافا (3) وقال في مبسوطة ، ومسائل خلافه : إذا كان اللحم من جنس الحيوان ، فلا يجوز ، وإن كان من غير جنسه ، فذلك جائز (4).

ص: 257


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، ص 89.
2- الاستبصار : كتاب البيوع ، باب بيع ما لا يكال ولا يوزن.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا واحكامه.
4- المبسوط : كتاب البيوع فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، والمسألة 126 من كتاب بيع الخلاف.

قال محمّد بن إدريس : أمّا قوله رحمه اللّه : « ولا يجوز بيع الغنم باللحم لا وزنا ولا جزافا » ، إن أراد الجزاف ، فلا يجوز ، لأنّ ما يباع بالوزن ، لا يجوز بيعه ولا شراؤه جزافا ، بلا خلاف بيننا ، وأمّا قوله : « لا وزنا » فهذا فيه كلام ، إن أراد بذلك أنّه ربا ، فقد قال في مبسوطة ما حكيناه عنه ، من أنّه إذا باع عينا بعين ، فإن كان في إحداهما الربا ، والأخرى لا ربا فيها ، فإنّ بيع ذلك جائز ، وهذا من ذاك.

وأيضا كان يفسد عليه إطلاق كلامه في نهايته ، من قوله : « ولا يجوز بيع الغنم باللحم » ولم يقل أي اللحمان هو ، لأنّه إذا كان لحم غير الغنم ، فلا بأس على ما ذكره في مسائل خلافه ومبسوطة ، لأنّه قد اختلف الجنس.

وأيضا الإجماع منعقد ، على أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن ، إذا بيع المثل بالمثل وزيادة ، وبيع الغنم باللحم ، خارج من ذلك.

وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، مع قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه يحتاج إلى دليل ، ولا إجماع منعقد على المسألة ، حتى يصار إليه.

فإن قيل : فعلى هذا التقرير والتحرير ، يجوز بيع الغنم باللحم ، يدا بيد ، فهل يجوز ذلك نسيئة.

قلنا : إن أسلف الغنم في اللحم ، لا يجوز بغير خلاف ، لأنّ السلم في اللحم عندنا لا يجوز ، لأنّه لا يكاد يضبط بالوصف ، فإنّه يتباين تباينا كثيرا ، وكذلك الخبز ، وروايا الماء ، وإن كان جعل اللحم الثمن ، والمسلم فيه الغنم ، ووصفها ، وضرب الأجل المحروس ، فذلك جائز ، لا مانع يمنع منه ، فليتأمّل ذلك ، ويفهم عنى ما سطرته ، فإن فقهه غامض ، إلا على المحصّل المحقق لأصول المذهب.

ثم قال شيخنا في نهايته : ولا يجوز أيضا بيع الرطب بالتمر ، مثلا بمثل ، لأنّه إذا جف نقص (1).

ص: 258


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه...

قال محمد بن إدريس : وهذا غير واضح ، بل يجوز ذلك ، ومذهبنا ترك التعليل والقياس ، لأنّه كان يلزم عليه ، ان يجوز بيع رطل من العنب ، برطل من الزبيب ، وهذا لا يقول به أحد من أصحابنا ، بغير خلاف.

وأيضا فلا خلاف أنّ بيع الجنس بالجنس مثلا بمثل ، جائز سائغ ، والمنع منه يحتاج إلى دليل ، وقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » يدل على جوازه ، وقد رجع شيخنا عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثالث من استبصاره ، فقال : الوجه في هذه الأخبار ، ضرب من الكراهة دون الحظر (1) ولا بأس ببيع الحنطة بالدقيق والسويق ، مثلا بمثل ، ولا يجوز التفاضل فيه ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، ولا بأس ببيع الحنطة والدقيق بالخبز ، مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، والتفاضل فيه لا يجوز ، لا نقدا ولا نسيئة.

ولا بأس ببيع اللبن والسمن والزبد ، كلّه إذا اتفقت أجناسه ، مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، ولا يجوز التفاضل فيه ، لا نقدا ولا نسيئة ، فعلى هذا التحرير والتقرير ، لا يجوز بيع رطل من لبن الغنم ، إلا برطل منه ، وكذلك إن أريد بيعه بسمن من سمن الغنم ، فلا يجوز إلا برطل سمن ، ولا يجوز بأقل منه ، لأنّ الجنس واحد ، فإنّه لا يجوز التفاضل بين اللبن والسمن ، إذا كان الجنس واحدا ، وكذلك الزبد واللبن ، والزبد والسمن.

واللحمان إذا اتفق أجناسها ، جاز بيع بعضها ببعض ، مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، ولا يجوز التفاضل فيها ، لا نقدا ولا نسيئة ، وإذا اختلف أجناسها ، جاز التفاضل فيها نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، مثل رطل من لحم الغنم ، برطلين من لحم البقر نقدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع الثوب بالغزل ، وإن كان الثوب أكثر وزنا منه ، وإن كان

ص: 259


1- الاستبصار : ج 3 ، كتاب البيوع ، باب بيع الرطب بالتمر ، ص 92 - 93.

الغزل من جنسه ، وكذلك إن كان الغزل أكثر وزنا من الثوب ، لأنّ الربا المحرم غير حاصل فيهما ، لأنّ أحدهما فيه الربا ، والآخر لا ربا فيه ، فبيع أحدهما بالآخر جائز ، سواء كان نقدا أو نسيئة ، متفاضلا أو متماثلا ، لأنّ أحدهما موزون ، والآخر غير موزون (1).

وهذا يعضد ما حررناه ، وشرحناه ، من بيع الغنم باللحم ، وجوازه على ما حقّقناه.

ويجوز بيع المثل بالمثل من الموزون والمكيل نقدا ، ولا يجوز نسيئة.

وكل ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا.

ويجوز أن يسلف في المكيل من الحبوب ، والأدهان وزنا ، وفي الموزون من الأشياء ، كيلا إذا كان يمكن كيله ، ولا يتجافى في المكيال ، ولا يجوز بيع الجنس الواحد فيما يجري فيه الربا ، بعضه ببعض وزنا ، إذا كان أصله الكيل ، ولا كيلا إذا كان أصله الوزن.

والفرق بينهما ، أنّ المقصود من السلم ، معرفة مقدار المسلم فيه ، حتى يزول عنه الجهالة ، وذلك يحصل بأيّهما قدره من كيل أو وزن ، وليس كذلك ما يجري فيه الربا ، فانّ الشارع أوجب علينا التساوي بالكيل في المكيلات وبالوزن في الموزونات ، فإذا باع المكيل بعضه من بعض وزنا ، فإذا ردّ إلى الكيل ، جاز أن يتفاضل ، لثقل أحدهما وخفة الآخر ، فلذلك افترقا.

ويجوز بيع المكيل بالوزن ، ولا يجوز بيع الموزون بالكيل ، لأنّه غرر وجزاف ، ولا يجوز بيع ما يباع عددا جزافا ، فإن كان ما يباع بالعدد ، يصعب عده ، فلا بأس أن يكال أو يوزن منه مقدار بعينه ، ثم يعد ، ويؤخذ الباقي بحسابه.

ولا بأس ببيع السمن بالزيت متفاضلا يدا بيد ونسيئة ، وروي كراهة ذلك نسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس ببيع السمن بالزيت متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز ذلك نسيئة (2)

ص: 260


1- إلى هنا انتهى الأوراق التي عثرنا عليها.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.

إلا أنّه رجع عن ذلك في استبصاره (1) ، وهو الحق اليقين ، لأنّا قد بيّنا ، أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا نقدا ، ونسيئة ، إلا ما خرج بدليل ، من الذهب والفضة ، فإنّه لا يجوز بيعهما نسيئة.

ولا يجوز التفاضل في الأدهان ، إذا كان الأصل يرجع إلى جنس واحد ، مثل أن يباع الشيرج بالشيرج ، الذي فيه البنفسج ، فإنّه يسمّى دهن البنفسج ، أو دهن الورد ، وما أشبه ذلك ، ممّا كان الأصل فيه دهن الشيرج.

ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج ، ولا بزر (2) الكتان بدهنه ، بل ينبغي أن يقوّم كل واحد منهما ، على انفراده.

ولا يجوز بيع البسر بالتمر ، متفاضلا ، ويجوز متماثلا ، لأنّهما جنس واحد ، بغير خلاف ، فلو كان التعليل في المنع ، من جواز بيع الرطب بالتمر صحيحا ، لما جاز بيع البسر بالتمر ، مثلا بمثل ، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، من أنّه لا يجوز بيع البسر بالتمر متفاضلا ، وإن اختلف جنسه ، ولا بيع نوع من تمر بأكثر منه ، من غير ذلك ، لأنّ ما يكون من النخل ، في حكم النوع الواحد ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وحكم الزبيب ، وتحريم التفاضل فيه ، وإن اختلف جنسه ، مثل التمر سواء ، لأنّ جميعه في حكم الجنس الواحد ، ولا يجوز بيع الدبس المعمول من التمر ، بالتمر متفاضلا ، ولا بأس ببيعه مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع التمر بالزبيب متفاضلا ، نقدا ونسيئة ، إلّا أنّه روى كراهة بيعه نسيئة وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز نسيئة.

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك ، من أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، لما دللنا عليه من قبل.

ص: 261


1- الاستبصار : ج 3 ، كتاب البيوع ، باب اسلاف السمن بالزيت ، فراجع كلامه قدس سره.
2- البزر - بالكسر - كل حب يبذر للثبات.

ولا بأس ببيع الزبيب ، بالدبس المعمول من التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، ولا يجوز بيعه بما يعمل من الزبيب من الدّبوس ، متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة ولا يجوز بيع العنب بالزبيب إلا مثلا بمثل.

والعصير والبحتج ، لا يجوز التفاضل فيهما ، ويجوز بيع ذلك مثلا بمثل ، يدا ولا يجوز نسيئة لأنّهما معا جنس واحد ، إلا أنّ أحدهما مسّته النار ، وهو البحتج ، والآخر ما مسته ، وهو العصير ، قال الجوهري ، في كتاب الصحاح : والطلاء ما طبخ من عصير العنب ، حتى ذهب ثلثاه ، ويسمّيه العجم الميبختج هكذا حكاه بالميم المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها بنقطة واحدة ، المضمومة ، والخاء المعجمة المسكنة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، المفتوحة ، والجيم ، هكذا ذكره ، وهو أعرف بهذا الشأن ، والأول روايتنا وسماعنا.

وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ، ويكره ذلك نسية ، وإن كان غير محرّم ، لأنه لا ربا فيهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الربا عندنا في المكيل والموزون مع التفاضل ، والجنس واحد ، والمعدود ليس كذلك.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ولا يجوز ذلك فيه نسيئة ، مثل البيضة بالبيضتين ، والجوزة بالجوزتين ، والحلّة - بالحاء غير المعجمة ، وهي جنس من الثياب - بالحلتين ، وما أشبه ذلك ، ممّا قدّمناه فيما مضى ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (1).

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وحكم ما يباع عددا ، حكم المكيل والموزون ، لا يجوز في الجنس منه التفاضل ، ولا في المختلف منه النسيئة (2).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : ما اخترناه أولا ، وهو أنّه يجوز

ص: 262


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.
2- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب بيع الواحد بالاثنين ص 605.

التفاضل في المعدود ، وإن كان الجنس واحدا يدا بيد ويكره ذلك نسيئة وزاد على قولنا ، أنّه لا كراهة في النسيئة ، وهو الذي يقوى عندي ، لأنّ الكراهة تحتاج إلى دليل ، قال رحمه اللّه في مسائل الخلاف : مسألة ، لا ربا في المعدودات ، ويجوز بيع بعضه ببعض متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ونسيئة ، وللشافعي فيه قولان ، ثم قال رحمه اللّه : دليلنا الآية ، وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وأيضا عليه إجماع الفرقة ، وأخبارهم تدل على ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (1).

وهو الحق اليقين ، فقد رجع عمّا ذكره في نهايته ، واستدل بالآية وإجماع الفرقة وبأخبارهم ، فليت شعري ، الذي ذكره في نهايته من اين قاله ، وكيف جاز له أن يرجع عنه ، لو كان عنده حجة ، وإنما أورده من طريق خبر الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، فلو كان الرجل عاملا بأخبار الآحاد ، لما جاز له أن يرجع عن ذلك ، فلا يتوهم على شيخنا خلاف ما يعتقده ، وإن وجد له في بعض كتبه كلام ، يدلّ على أنّه يعمل بأخبار الآحاد ، فقد يوجد له في معظم كتبه ، وتصنيفه ، كلام يدل على أنّه غير عامل بأخبار الآحاد ويوجد ذلك في استبصاره كثيرا ، فإنّه يقول : هذا خبر واحد وأخبار الآحاد عندنا غير معمول عليها ، فلو كان عاملا بأخبار الآحاد ، لما ساغ له أن يقول ذلك كذلك ، لأنّه يكون مناقضا في أقواله ، مضادا لأفعاله.

وإذا كان الشي ء يباع في مصر من الأمصار ، كيلا أو وزنا ، ويباع في مصر آخر جزافا ، فحكمه حكم المكيل والموزون ، إذا تساوت الأحوال في ذلك ، وإذا اختلفت ، كان الحكم فيه حكم الأغلب والأعم.

الماء لا ربا فيه ، لأنّه ليس بمكيل ولا موزون ، فيدخل تحت الأخبار ،

ص: 263


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 72 ، وفيه : بعضها ببعض.

والآيات ، وقد بيّنا أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن.

يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب ، مثلا بمثل ولا يجوز متفاضلا وبيع خل التمر بخل التمر ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل العنب ، مثلا بمثل ، ولا يجوز متفاضلا ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، ويجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما فصل ، بالقاف المفتوحة ، والصاد غير المعجمة المحرّكة ، واللام ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : القصل في الطعام مثل الزوان ، قال الشاعر : « قد غربلت وكربلت من الفصل » أبو عمرو كربلت الحنطة إذا هذبتها مثل غربلتها.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما قصل ، وهو عقد التبن ، أو زوان ، وهو حب أصغر منه ، دقيق الطرفين ، أو شيلم ، وهو معروف.

وقد قلنا أنّ الألبان أجناس مختلفة ، فلبن الغنم الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلف أنواعه ، ولبن الغنم الوحشي ، وهي الظباء جنس آخر ، وكذلك لبن البقر الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلفت أنواعه ، ولبن البقر الوحشي ، جنس آخر.

يجوز بيع اللبن بالزبد ، إذا كان من جنسه ، متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، لا نقدا ولا نسيئة ، على ما قدّمناه.

الجبن ، والأقط ، والسمن ، والمصل ، واللبن ، كل واحد منها ، بالآخر يجوز متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، إذا كانت من جنس واحد.

يجوز بيع مدّ من تمر ودرهم ، بمدّي تمر ، وبيع مدّ من حنطة ودرهم ، بمدّي حنطة ، ومدّ من شعير ودرهم بمدّي شعير ، وهكذا إذا كان بدل الدرهم ، في هذه المسائل ، ثوبا ، أو خشبة ، أو غير ذلك ممّا فيه الربا ، أو لا ربا فيه ، وهكذا يجوز بيع درهم وثوب ، بدرهمين ، وبيع دينار وثوب ، بدينارين.

وجملته أنّه يجوز بيع ما يجري فيه الربا بجنسه ، ومع أحدهما غيره ، ممّا فيه

ص: 264

الربا ، أو لا ربا فيه ، إذا كان العين (1) مع أقل العرضين اللذين هما المثمنان (2).

باب الصّرف وأحكامه

الصرف عبارة في عرف الشرع ، عن بيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة ، أو الذهب بالفضة ، أو الفضة بالذهب ، وقد بيّنا في باب الربا ، أنّه لا يجوز بيع درهم بدرهمين ، لا نقدا ولا نسيئة ولا بيع درهم بدرهم نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا وكذلك لا يجوز بيع دينار بدينارين (3) لا نقدا ولا نسيئة ، ولا بيع دينار بدينار ، نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا ، ولا بأس ببيع دينار بدراهم نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وإذا كان للإنسان على غيره دراهم ، جاز أن يأخذ بها دنانير ، وكذلك إن كان له دنانير ، فيأخذ بها دراهم ، لم يكن به بأس ، فإن كان له دنانير وأخذ الدراهم ، ثم تغيّرت الأسعار ، كان له سعر يوم قبض الدراهم ، من الذي كان له عليه الدنانير ، دون يوم المحاسبة ، على ما قدّمناه ، في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان لإنسان على صيرفي دراهم ، أو دنانير ، فيقول له : حول الدنانير إلى الدراهم ، أو الدراهم إلى الدنانير ، وساعره على ذلك ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه في الحال ، ولا يناقده ، لأن النقدين جميعا من عنده (4).

قال محمد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : إن أراد بذلك ، انّهما افترقا قبل التقابض من المجلس ، فلا يصح ذلك ، ولا يجوز بغير خلاف ، لأنّ الصرف لا يصح أن يفترقا من المجلس ، إلا بعد التقابض ، فإن افترقا قبل أن يتقابضا ، بطل البيع والصرف ، وإن أراد أنّهما تقاولا على السعر ، وعينا الدراهم المبتاعة ، أو الدنانير المبيعة ، وتعاقدا البيع ، ولم يوازنه ، ولا ناقده ، بل نطق البائع

ص: 265


1- ل : كان الغير.
2- ل : المتماثلان.
3- الى هنا ينتهى نقص نسخة الأصل.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

بمبلغ المبيع ، ثم تقابضا قبل التفرّق والانفصال من المجلس ، كان ذلك جائزا صحيحا ، وإن أراد الأوّل فذلك باطل ، بلا خلاف.

يدلك على ما قلناه ، ما قاله شيخنا رحمه اللّه في مبسوطة ، فإنّه قال : تصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، ان كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا يقبض بدله من جنس آخر مثل ان يأخذ دراهم بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير ، كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم بدل الدنانير ، وجب ان يقبضها في المجلس ، قبل ان يفارقه ، لان ذلك صرف وإن أخذ عرضا آخر ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين بثمن في الذمة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

وقال شيخنا أيضا في نهايته : وإذا أخذ إنسان من غيره دراهم ، فأعطاه الدنانير ، أكثر من قيمة الدراهم ، أو أخذ منه الدنانير ، وأعطاه الدراهم ، مثل ماله ، أو أكثر من ذلك ، وساعره على ثمنه ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد ، ولا يجوز ذلك إذا كان ما يعطيه أقل من ماله فإن أعطاه أقل من ماله ، وساعره ، مضى البيع في المقدار الذي أعطاه ، ولم يمض فيما هو أكثر منه ، والأحوط في ذلك أن يوازنه ويناقده في الحال ، أو يجدّد العقد في حال ما ينتقد ويتزن (2).

وهذا يبيّن لك ، انّ مراده رحمه اللّه ، في المسألة الأولة ، أنّه ما فارقه من المجلس ، إلا بعد أن تقابضا ، كما أنّ هاهنا ، قال : « وساعره على ثمنه كان ذلك جائزا وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد » يريد

ص: 266


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص 187.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف واحكامه.

أنّ الأخبار بمبلغ الموزون أو المكيل ، يقوم مقام الوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، لأنّهما لا يجوز أن يباعا جزافا ، من دون وزن ، أو اخبار بوزن ، أو كيل ، أو اخبار بكيل.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ألف درهم ودينارا ، بألفي درهم ، من ذلك الجنس ، أو من غيره من الأجناس والدراهم ، وإن كان الدينار لا يساوي ألف درهم في الحال ، وكذلك لا بأس أن يجعل بدل الدينار شيئا من الثياب ، أو جزء من المتاع ، على ما قدّمناه ، ليتخلص من الربا ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، وكذلك لا بأس أن يبيع ألف درهم صحاحا ، وألفا مكسرة ، وهي الغلّة « لأن مكسرة الدراهم ، تسمّى الغلّة ، مثل مكسرة الدنانير ، تسمّى قراضة » بألفين صحاحا ، أو بألفين غلة نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وقال شيخنا في نهايته : وكذلك لا بأس أن يبيع درهما بدرهم ويشرط معه صياغة خاتم ، أو غير ذلك من الأشياء (1).

ووجه الفتوى بذلك ، على ما قاله رحمه اللّه : إنّ الربا هو الزيادة في العين ، إذا كان الجنس واحدا ، وهاهنا لا زيادة في العين ، ويكون ذلك على جهة الصلح في العمل ، فهذا وجه الاعتذار له ، إذا سلم العمل به ، ويمكن أن يحتج بصحته ، بقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، والربا المنهي عنه غير موجود هاهنا ، لا حقيقة لغوية ولا حقيقة عرفية شرعية.

وإذا باع الإنسان دراهم بالدنانير ، لم يجز له أن يأخذ بالدنانير دراهم مثلها ، إلا بعد أن يقبض الدنانير ، ثم يشتري بها دراهم إن شاء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : إن لم يتفارقا من المجلس ، إلا بعد قبض الدراهم المبتاعة بالدنانير التي على المشتري الأول ، فلا بأس بذلك وإن لم يكن قبضه الدنانير التي هي ثمن الدراهم الأولة المبتاعة ، هذا إذا عيّنا الدراهم الأخيرة

ص: 267


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

المبتاعة ، فإن لم يعيّناها ، فلا يجوز ذلك ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، وإن عيّناها ، لم يصر بيع دين بدين ، بل يصير بيع دين بعين.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، من الدراهم والدنانير ، بدراهم معينة ودنانير معينة ، ويقبضها قبل التفرق من المجلس ، من الذي هي عليه ، على ما أسلفنا القول فيه ، وحررناه ، ولا يجوز له أن يبيعها إيّاه بدراهم ، أو دنانير غير معيّنة ، لأنّها إذا كانت غير معيّنة ، فإنها تكون في ذمته ، وإذا كانت في ذمته ، فهي دين عليه ، فيصير بيع دين بدين ، لأنّ الأثمان عندنا تتعيّن ، فإذا كانت معيّنة ، وهلكت قبل القبض ، بطل البيع ، فإذا لم تكن معينة ، وهلكت لم يبطل البيع الذي هي ثمن له لأنّها إذا لم تكن (1) معيّنة ، فإنّه دين في الذمة ، بغير خلاف ، فافترق الأمران ، وتباين القولان.

وقد حكينا عن شيخنا أبي جعفر ، ما قاله في مبسوطة ، قبيل هذا الكلام في هذا الباب وتصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، إن كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا بقبض بدله من جنس آخر ، مثل أن يأخذ دراهم ، بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا ، أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم ، بدل الدنانير ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأنّ ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين ، بثمن في الذمة (2).

فدلّ ذلك ، على أن الدراهم أو الدنانير المبتاعة بالثمن الذي في الذمة معيّنة ، بقوله : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : لأنّه بيع عرض

ص: 268


1- ج : هي فيه ثمن ، لأنها لم تكن.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص 187.

معين بثمن في الذمة » فجعل التعيين في المسألتين الأخذ ، لأنّه قال : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : « لأنّه بيع عرض معيّن بثمن في الذمة » وما جرى للتعيين ذكر إلا بقوله أخذ ، فلو لم يكن العرض معيّنا ما علله بقوله : لأنه بيع عرض معيّن ، وكذلك في الدنانير المبيعة بالثمن الذي في الذمة لا بد من تعيينها ، لئلا يكون بيع دين بدين ، على ما حرّرناه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض (1) على غير المحصّل لهذا الشأن.

وإذا اشترك نفسان في شراء دراهم بدنانير ، ونقد أحدهما الدنانير عن نفسه ، وعن صاحبه ، وجعل نقده عنه دينا عليه بأمره له وقوله : ثم أراد أن يشتري منه حصته بالدنانير التي له عليه من ثمنها ، أو أقل منها ، أو أكثر ، لم يكن به بأس ، إذا كانت الدراهم المبتاعة في يد المشتري ، وإن كانت في يد البائع ، فلا بدّ من أن يتقابضا بها قبل التفرق من المجلس ، فإن افترقا قبل أن يقبضها المشتري الذي هو صاحب الدين ، مع البائع الذي هو شريكه ، بطل البيع ، لأنّه صرف.

ولا يجوز إنفاق الدنانير والدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، إلا ان تكون معلومة الحال ، شايعة متعاملا بها ، غير مجهولة في بلدها ، وعند بائعها ، ومشتريها ، فيقوم ذلك مقام تبين حالها.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في نهايته : ولا يجوز إنفاق الدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، وأطلق ذلك ، وحرّر ذلك على ما حرّرناه ، وشرحناه ، في الجزء الثالث من استبصاره (2) ، وبه أورد الأخبار المتواترة الكثيرة ، ثم أورد الخبر الذي ذكره في نهايته ، فتأوله ، والخبر عن الفضل بن عمر الجعفي ، قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، فالقي بين يديه دراهم ، فألقى إليّ درهما

ص: 269


1- ج : عموم. والظاهر ان هذه النسخة « غموم ».
2- الاستبصار : كتاب البيوع ، باب إنفاق الدراهم المحمول عليها ، والخبر الخامس منه هو خبر مفضل وفي الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 10 من أبواب الصرف.

منها ، فقال : أيش هذا؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق؟ قلت : ثلاث طبقات طبقة فضة ، وطبقة نحاس (1) ، وطبقة فضة فقال : اكسرها (2) فإنّه لا يحل بيع هذا ، ولا إنفاقه.

قال شيخنا أبو جعفر : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، وكان قد أورد قبل هذا الخبر أخبارا كثيرة بأنّه لا بأس بإنفاقها ، إذا كان الغالب عليها الفضة (3) ، وبعضها ، قال : سألته عن الدراهم المحمول عليها ، فقال : لا بأس بإنفاقها (4) وفي بعضها قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن إنفاق الدراهم المحمول عليها ، فقال : إذا جازت الفضة الثلثين ، فلا بأس (5) ، قال رحمه اللّه : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار - أنّ الدراهم إذا كانت معروفة متداولة بين الناس ، فلا بأس بإنفاقها ، على ما جرت به عادة البلد ، فإذا كانت دراهم مجهولة ، فلا يجوز إنفاقها إلا بعد أن يبين عيارها ، حتى يعلم الآخذ لها قيمتها.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا التأويل والمذهب الذي حرّره في استبصاره ، هو الذي يقوى في نفسي ، لأنّه الحقّ اليقين ، وبه تشهد العادات والحالات ، فإنّه إذا كان المعنى معلوما بشاهد حال ، جرى مجرى المنطوق به.

قال محمّد بن إدريس : أمّا استفهام الإمام عليه السلام ما السّتوق ، فإنّها كلمة فارسيّة غير عربية ، وهي مفتوحة السين ، غير المعجمة ، مشدّدة التاء المنقّطة من فوقها ، بنقطتين ، المضمومة ، والواو ، والقاف ، ومعناها ثلاث طبقات ، لأنّ « سه » بالفارسيّة ثلاثة ، وتوق ، طبقات وهو الزائف الردي البهرج ، قال الصولي في كتاب الأوراق : اعترض مخلد الشاعر الموصلي ، الخليفة المعتمد باللّه ، لمّا دخل الموصل ، بمدح وحلّفه أن يسمعه ، فأحضره ، وسمع مدحه ، ثم قال له :

ص: 270


1- ق : طبقتين فضة وطبقة نحاس.
2- ل. ق : اكسر هذا.
3- هو خبر عمر بن يزيد ، وهو ثالث أخبار الباب المذكور.
4- هو رواية محمّد بن مسلم ، وهو أوّل خبر من الباب.
5- هو خبر آخر عن عمر بن يزيد وهو الرواية الثانية من الباب.

أنشدني هجاك لأهل الموصل ، فأنشده :

هم قعدوا فانتقوا لهم حسبا *** يجوز بعد العشاء في العجب

حتى إذا ما الصّباح لاح لهم *** بيّن ستوقهم من الذهب

والنّاس قد أصبحوا صيارفة *** اعلم شي ء ببهرج النسب

ولا يجوز بيع الفضة إذا كان فيها شي ء من المس أو الرصاص أو الذهب ، أو غير ذلك إلا بالدنانير ، إذا كان الغالب الفضة ، فإن كان الغالب الذهب ، والفضة الأقل ، فلا يجوز بيعه إلا بالفضة ، ولا يجوز بيعه بالذهب ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، لأنّه ما يتحصل مقدار ما في ذلك ، فيصير مجهول المقدار ، وليس كذلك إذا باع فضة معلومة ، معها جنس آخر بفضة أكثر منها ، لأن تلك معلومة ، فتكون الفضة بالمثل مثلا بمثل ، والزائد ثمن الجنس الآخر ، وما منعنا من ذلك ، إلا إذا لم يحصل العلم بمقدار كل واحد منهما على التحقيق ، فإن تحقق ذلك ، جاز بيع كل واحد منهما بجنسه ، مثلا بمثل ، من غير تفاضل.

وكذلك حكم الأواني المصوغة من الذهب والفضة ، والسيوف المحلاة بالذهب والفضة إن كان ممّا يمكن تخليص كل واحد منهما من صاحبه ، فلا يجوز (1) بيعها بالذهب والفضة ، فإن لم يمكن ذلك فيها ، فان كان الغالب فيها الذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، وإن كان الغالب فيها الفضة ، لم تبع إلا بالذهب ، لما قلناه من الجهل بما فيها ، وخوف الربا ، فان تساوى النقدان ، وعلما ، بيع بالذهب والفضة معا.

والسيوف المحلاة والمراكب المحلاة *** بالذهب والفضة ، فإن كانت محلاة

بالفضة ، وعلم مقدار ما فيها ، جاز بيعها بالذهب والفضة نقدا ، ولا يجوز نسيئة. فإن بيع بالفضة ، فيكون ثمن السيف أكثر مما فيه من الفضة ، جاز ، وإن كان أقل ممّا فيه أو مثل ما فيه لم يجز (2) بيع ذلك ، إلا أن يستوهب السيف والسير ، أو يشتريهما ،

ص: 271


1- ج : فإنّه يجوز.
2- أقلّ ممّا فيه لم يجز.

أعني السيف والسير نسيئة في ذمته ، ويعجل الفضة أو الذهب الذي هو مثل الخلية ، قبل مفارقه المجلس ، هذا إذا كان مثل ما فيه ، فأمّا إذا كان أقلّ ممّا فيه من الفضة ، فلا يجوز على حال ، لأنّ ذلك ربا محض ، وكذلك الحكم فيها إذا كانت محلاة بالذهب ، وعلم مقدار ما فيها ، بيع بمثلها وأكثر منها بالذهب ، ولا يجوز بيعها بأقل مما فيها من الذهب ، ويجوز بيعها بالفضة ، سواء كان أقل ممّا فيها من الذهب ، أو أكثر ، إذا كان نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة على حال.

ومتى لم يعلم مقدار ما فيها ، وكانت محلاة بالفضة ، فلا تباع إلا بالذهب ، وإن كانت محلاة بالذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، أو بجنس آخر سوى الجنسين من السلع والمتاع.

ومتى كانت محلاة بالفضة ، وأرادوا بيعها بالفضة ، وليس لهم طريق إلى معرفة مقدار ما فيها ، فيجعل معها شي ء آخر ، وبيع حينئذ بالفضة ، إذا كان أكثر مما فيه تقريبا ، ولم يكن به بأس ، وكذلك الحكم فيما كان من الذهب ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

ولي في ذلك نظر.

ولا بأس ببيع السيوف المحلاة بالفضة (2) ، نسيئة إذا نقد مثل ما فيها من الفضة ويكون ما يبقى ، ثمن السير والنصل ، على ما قدّمناه.

ولا يصح أن يشتري الإنسان سلعة بدينار غير درهم ، ولا بدراهم غير دينار ، لأنّ ذلك مجهول.

قال محمّد بن إدريس : قولنا « لا يصح » نريد به العقد لا يصح ، وقولنا (3) « لأنّه مجهول » المراد به الثمن مجهول ، وإذا كان الثمن مجهولا ، فالعقد والبيع لا يصح ، وهو غير صحيح ، ووجه كون الثمن في هذه الصورة مجهولا ، لأنّه لا يدرى كم حصة الدرهم من الدنانير ، ولا حصّة الدنانير من الدراهم ، إلا بالتقويم ،

ص: 272


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
2- ج : المحلاة بالفضة بالفضة.
3- ج : قوله لا يصح يريد به العقد لا يصح وقوله.

والرجوع إلى أهل الخبرة ، وذلك غير معلوم وقت العقد ، فهو مجهول.

فإن استثنى من جنسه ، فباع بمائة دينار إلا دينارا ، أو بمائة درهم ، إلا درهما ، صحّ البيع ، لأنّ الثمن معلوم ، وهو ما بقي بعد الاستثناء.

إذا اشترى خاتما من فضة مع فضة بفضة ، جاز إذا كان الثمن أكثر ممّا فيه من الفضة ، هذا إذا كانت فضة الخاتم معلومة المقدار.

ومن أقرض غيره دراهم ، ثمّ سقطت تلك الدراهم التي أقرضها إيّاه ، وجاءت غيرها ، لم يكن عليه إلا الدراهم التي أقرضها ، أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه.

ولا بأس أن يعطي الإنسان غيره دراهم أو دنانير ، ويشترط عليه أن ينقدها إيّاه ، بأرض أخرى مثلها ، في العدد أو الوزن ، من غير تفاضل فيه ، ويكون ذلك جائزا لأن ذلك (1) يكون على جهة القراض لا على جهة البيع ، بل هو محض القرض ، وهذا القرض ما جر نفعا حتى يكون حراما ، لأنّ المحرّم من القرض ، هو أن يشترط زيادة في العين أو الصفة ، وهاهنا لا زيادة في العين والمقدار ، ولا زيادة في الصفة ، ولأنّ البيع في المثلين ، لا يجوز إلا مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة وجوهر الفضة لا يجوز بيعه ، إلا بالذهب ، أو بجنس غير الفضة ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، ولأنّ ما فيه من الفضة غير معلوم ، ولا محقق.

وجوهر الذهب ، لا يجوز بيعه إلا بالفضة ، أو بجنس غير الذهب ، وجوهر الذهب والفضة معا يجوز بيعه بالذهب والفضة معا (2).

ولا يجوز بيع تراب الصاغة ، فإن بيع ، كان ثمنه للفقراء والمساكين ، يتصدّق به عليهم ، لأنّ ذلك لأربابه الذين لا يتميزون ، فإن تميزوا ، ردّ عليهم أموالهم ، واصطلحوا فيما بينهم ، على ما رواه أصحابنا ووجد في رواياتهم (3).

ص: 273


1- ج : ل : الا ان.
2- ج : يجوز بيعه بالفضة والذهب.
3- الوسائل ، كتاب التجارة ، الباب 16 من أبواب الصرف.

وجوهر الأسرب « مضموم الأوّل ، مسكّن السّين ، مضموم الراء ، مشدّد الباء وهو الرّصاص » وكذلك جوهر النحاس ، والصّفر « مضموم الصاد » لا بأس بالاسلاف فيه ، دراهم ودنانير ، إذا كان الغالب عليه ذلك ، وإن كان فيه فضة يسيرة ، أو ذهب قليل.

الدراهم والدنانير يتعيّنان بالعقد ، فإذا اشترى سلعة بدراهم أو دنانير بعينها ، لم يجز له أن يسلّم غيرها ، إذا ثبت أنّهما يتعيّنان.

متى باع دراهم بدنانير ، أو دنانير بدراهم ، ثم خرج أحدهما زائفا ، بأن يكون الدراهم رصاصا ، أو الدنانير نحاسا ، كان البيع باطلا ، لأنّ العقد وقع على شي ء بعينه ، فإذا لم يصح ، بطل ، وثبوته وانتقاله إلى غيره ، يحتاج إلى دليل ، فإن وجد بالدراهم عيبا من جنسه ، مثل أن يكون فضة خشنة ، أو ذهبا خشنا ، أو يكون سكة مضطربة ، مخالفة لسكة السلطان ، فهو بالخيار ، بين أن يردّه ، ويسترجع ثمنه ، وليس له بدله ، فإن كان العيب في الجميع ، كان بالخيار ، بين أن يرد الجميع ، وبين الرضا به ، فإن كان العيب في البعض ، كان له ردّ الجميع ، لوجود العيب في الصفقة ، وليس له أن يردّ البعض المعيب ، ويمسك الباقي.

وإذا باع دراهم بدراهم أو دنانير بدنانير بأعيانها ، فوجد ببعضها عيبا من جنسها ، كان ذلك عيبا ، له ردّه وفسخ العقد ، وله الرضا به ، وان كان العيب من غير جنسه ، كان البيع باطلا.

باب الشرط في العقود

لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، ويتعيّن عليه ملكه ، فإن باع مالا يملكه ، ولا يملك بيعه ، كان البيع باطلا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، فإن باع مالا يملكه ، كان البيع موقوفا على صاحبه ، فإن أمضاه ، مضى ،

ص: 274

وإن لم يمض ، كان باطلا (1).

إلا أنّه رحمه اللّه رجع عن هذا في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا باع إنسان ملك غيره بغير إذنه ، كان البيع باطلا ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ينعقد البيع ويقف على إجازة صاحبه ، وبه قال قوم من أصحابنا ، قال رحمه اللّه : دليلنا إجماع الفرقة ومن خالف منهم لا يعتد بقوله ، وأنّه لا خلاف أنّه ممنوع من التصرّف في ملك غيره ، والبيع تصرّف ، وأيضا روى حكيم عن النبي عليه السلام ، أنّه نهى عن بيع ما ليس عنده (2) ، وهذا نص ، وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي عليه السلام ، أنّه قال : لا طلاق إلا فيما يملك ، ولا عتق إلا فيما يملك ، ولا بيع إلا فيما يملك (3) ، فنفى عليه السلام البيع من غير الملك ، ولم يفرّق ، هذا أخر كلام شيخنا (4).

فانظر يرحمك اللّه ، إلى قوله رحمه اللّه : « دليلنا إجماع الفرقة ، ومن خالف منهم لا يعتد بقوله » فلو كان ما ذكره في نهايته جميعه حق وصواب كيف كان يقول لا يعتد بقوله ، وهو القائل به في نهايته ، وانّما يورد أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، فيتوهم المتوهم ، ويظن الظان ، أنّ ذلك اعتقاده وفتواه ، وأنّه يعمل بأخبار الآحاد ، ولو كان ما ذكره في نهايته حقا وصوابا ، وعليه أدلة ، ما رجع عنه ، ولا استدل على خلافه.

وإذا باع ما يملك وما لا يملك ، في صفقة واحدة ، وعقد واحد ، مضى البيع فيما يملك ، وكان فيما لا يملك باطلا ، حسب ما قدّمناه ، واخترناه ، وكذلك إذا باع ما يجوز بيعه ، من جملة ما يملك وما لا يجوز بيعه من المحرّمات ، مضى البيع فيما يصح بيعه ، وبطل فيما لا يصح البيع فيه.

ص: 275


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
2- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع وشرطه ، الحديث 3 - 4 باختلاف يسير.
3- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع وشرطه ، الحديث 3 - 4 باختلاف يسير.
4- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 275.

مثال الأول ، باع ملكه وملك غيره بثمن واحد ، في عقد واحد ، ومثال الثاني ، باع شاة مملوكة له ، وخنزيرا ، وهو مسلم ، في عقد واحد بثمن واحد ، فإن البيع في المملوك صحيح ، والبيع في غير المملوك ، وفي غير المحلل للمسلم تملكه باطل.

فإذا تقرر هذا ، فالمشتري بالخيار بين أن يردّ الصفقة جميعها ، أو يمسك ما يصح فيه البيع ، بما يخصّه من الثمن الذي يتقسط عليه ، مثاله باع شاة وخنزيرا بثلاثة دنانير ، فإنّ الثمن يتقسط على قدر قيمة الشاة ، وقيمة الخنزير عند مستحليه ، فيقال : كم قيمة الشاة؟ فيقال : قيراطان ، ويقال : كم قيمة الخنزير؟ فيقال : قيراط ، فيرجع بثلث الثمن ، وهو دينار ، وبالعكس من ذلك ، أن يقال : قيمة الشاة قيراط ، وقيمة الخنزير عند مستحليه قيراطان ، فيرجع المشتري بثلثي الثمن ، وهو ديناران.

وكذلك في ملكه وملك الغير ، إذا باعهما معا في عقد واحد ، بثمن واحد ، فبحساب ما صوّرناه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فالاعتبار بالقيم ، ويرجع في الأثمان بحسب القيمتين.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا باع فلا ينعقد البيع ، إلا بعد أن يفترق البيعان ، بالأبدان ، فإن لم يفترقا ، كان لكلّ واحد منهما فسخ البيع ، والخيار (1).

قال محمّد بن إدريس : هذه عبارة موهمة غير واضحة ، كيف يقال : فإذا باع فلا ينعقد البيع ، وهذا كالمتناقض ، فإنّه إذا باع انعقد البيع ، وإن كان ما باع فما انعقد البيع ، وإنما مراد شيخنا في هذا الموضع ، أنّ البيع ، إذا لم يفترقا بالأبدان ، لم يلزم كل واحد منهما ، بل لكلّ واحد منهما الخيار في فسخه وإمضائه ، فإذا بالأبدان ، لزم واستقرّ من كل واحد منهما ، وليس لكل واحد منهما الخيار ، إلا أن يظهر عيب في المبيع ، قبل عقدة البيع ، فيكون المشتري بالخيار ، بين الرد

ص: 276


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

والإمساك ، فإذا ردّ يرجع بجميع الثمن ، وإذا اختار الإمساك ، رجع بأرش العيب ، « بفتح ألف الأرش » على البائع ، لا يجبر المشتري على أحد الأمرين ، هذا ما لم يتصرّف فيه تصرفا يؤذن بالرضا ، في العادة ، أو ينقص قيمته بتصرّفه.

ومتى شرط المبتاع على البائع ، مدّة من الزمان ، كان ذلك جائزا ، كائنا ما كان ، على ما قدّمناه فيما مضى ، فإن هلك المتاع في تلك المدّة ، من غير تفريط من المبتاع ، ولا تصرفه فيه ، التصرّف المذكور ، كان من مال البائع ، فإن هلك بعد انقضاء المدة ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، على كل حال ، سواء تصرف فيه ، أو لم يتصرف ، لأنّ بعد المدة ، ما بقي له خيار.

فكل من كان له الخيار ، فالمتاع يهلك من مال من ليس له خيار ، لأنّه قد استقرّ العقد عليه ، ولزم ، والذي له الخيار ، ما استقر عليه العقد ، ولا لزمه ، فإن كان الخيار للبائع ، دون المشتري ، وكان المتاع قد قبضه المشتري ، وهلك في يديه ، كان هلاكه من مال المشتري ، دون البائع ، لأنّ العقد استقرّ عليه ، ولزم من جهته.

وإذا باع الإنسان شيئا ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ومضى المشتري ، ولم يشترطا خيارا لهما ، ولا لأحدهما ، ولا ضربا للثمن أجلا ، ولا قبض أحدهما شيئا من المعوضين ، لا الثمن ولا المثمن ، ففي هذه الصورة يكون العقد موقوفا ، عند أصحابنا إلى ثلاثة أيّام ، فإن جاء المبتاع في مدة الثلاثة الأيّام ، كان البيع له ، وإن مضى ثلاثة أيّام ، كان البائع أولى بالمتاع ، إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء لم يفسخه ، وطالب المشتري بالثمن ، لا يجبر على أحد الأمرين ، بل الخيرة له في ذلك.

فإن هلك المتاع في مدة هذه الثلاثة الأيام ، ولم يكن قبّضه إيّاه ، ولا قبض ثمنه ، ولا مكّنه من قبضه ، على ما حرّرناه ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فذهب شيخنا المفيد ، والسيّد المرتضى ، وغيرهما ، إلى أنّ هلاكه من مال المشتري ، وذهب شيخنا أبو جعفر ، وجماعة من أصحابنا ، إلى أن هلاكه من مال

ص: 277

البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع على كل حال عند الجميع ، وعلى الأقوال كلها بغير خلاف.

والذي يقوى في نفسي ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد في غير هذه الصورة ، أنّ المبيع إذا هلك قبل أن يقبضه بايعه ، للمشتري ، أو قبل تمكين البائع للمشتري (1) من قبضه فإنّه يهلك من مال بايعه وهذا من ذاك وأيضا فلا خلاف انّ بعد الثلاثة الأيام يهلك من مال بايعه ، والخيرة له ، ولا خيرة للمشتري ، بل العقد لزمه ، واستقر عليه ، ولا خيار له ، وانما هلك من ماله ، لأنّه ما مكن المشتري من قبضه ، ولا قبّضه إيّاه ، وفي قبل انقضاء المدّة التي هي الثلاثة الأيّام ، هذا حكمه ، والدليل قائم فيه ، ثابت ، لأنّ القبض ما حصل ، ولا التمكين (2) من القبض حصل.

وأيضا الأصل براءة ذمة المشتري ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّا قد قلنا أنّ أصحابنا مختلفون في المسألة ، فما بقي من الأدلة ، إلا دليل الأصل ، وهو براءة الذمة ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل.

واحتج شيخنا المفيد ، لمقالته في مقنعته ، بأن قال : ولو هلك المبيع في مدّة هذه الثلاثة الأيّام ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما عن تراض ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، لأنّه أحق به ، وأملك ، على ما بيّناه ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه (3).

فعلل رحمه اللّه ، واستدل ، بأن قال « كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما » وهذا التعليل والاستدلال يلزمه بعد الثلاثة الأيام ، لأنّ العقد ثابت بينهما بغير خلاف ، إذا لم يختر فسخه البائع ، وعنده رحمه اللّه ، أنّه إذا

ص: 278


1- المشتري ، أو يمكن البائع المشتري.
2- ج : ولا التمكّن.
3- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب عقود البيع ص 592.

هلك بعد الثلاثة الأيام ، فإنّه من مال بايعه ، وإن لم يفسخ البيع ، والثبوت الذي استدل به قبل مضي الثلاثة الأيام ، قائم بعد الثلاثة الأيام ، بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا اشترى إنسان عقارا ، أو أرضا ، وشرط البائع ، أن يرد على المبتاع ، بالثمن الذي ابتاعه به في وقت بعينه ، كان البيع صحيحا ، ولزمه ردّه عليه في ذلك الوقت ، وإن مضى الوقت ، ولم يجئ البائع ، كان بالخيار فيما بعد ، بين ردّه وإمساكه ، فإن هلك المبيع في مدة الأجل المضروبة ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، وكذلك إن استغل منه شيئا كان له ، وكان له أيضا الانتفاع به ، على كل حال (1).

قال محمّد بن إدريس : المقصود من هذه المسألة ، وحقيقة القول فيها ، أنّ البائع جعل عند عقدة البيع ، لنفسه الخيار ، دون المشتري ، في أجل محروس ، من الزيادة والنقصان ، بأن يردّ عليه الثمن ، مكملا في ذلك الوقت ، فلو حضر الوقت ، ولم يحضر الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، وكذلك إن أحضر بعض الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، لأنّه شرط في خياره أن يحضر الثمن ، ويرده في ذلك الوقت ، فإما إن باع العقار ، وجعل لنفسه خيار مدّة من الزمان ، وفسخ العقد في جميع المدة المضروبة ، انفسخ ، وإن لم يحضر الثمن ، ولا شيئا منه ، ولا سلّمه إلى المشتري ، لأنّ هذه المسألة ، غير تلك ، لأنّ تلك ، اشتراط أن يجي ء بالثمن ، في المدّة المضروبة ، وما جاء بالثمن ، فلم يحصل له شرطه وهذه المسألة ، جعل لنفسه الخيار بين الفسخ والإمضاء ، في هذه المدّة ، من غير إحضار الثمن ، فافترقتا.

والشرط في الحيوان كله ، الدواب ، والحمير والبغال ، وغيرها ، والأناسي من العبيد ، أيضا ثلاثة أيّام ، شرط ذلك في حال العقد ، أو لم يشرط ، يثبت

ص: 279


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

بمجرّد العقد ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من المذهب ، الخياران معا ، خيار المجلس وخيار الثلاث ، بمجرّد العقد وإطلاقه.

فإن اشترط المشتري أكثر من ذلك ، كان على ما شرط ، وإن اشترط البائع ، أن لا خيار بينهما ، في المجلس ، ولا مدة الثلاث ، كان أيضا جائزا.

وإن اشترط البائع أيضا لنفسه ، خيار مدة معلومة ، كان أيضا جائزا ، وثبت بحسب الشرط.

وقولنا : « ثبت الخيار للمشتري ، ثلاثة أيّام في الحيوان ، شرط ذلك أو لم يشرط » نريد به شرط المشتري ذلك ، أو لم يشرطه ، ولا يظن ظان ، أنّ المراد به شرط البائع ، أن لا يثبت بينهما خيار ، أو لم يشرط ، لأنّه إذا شرط البائع أن لا يثبت بينهما خيار في هذه المدة ، كان على ما شرط ، ويكون خيار مدة الثلاث ، مع ارتفاع الشروط ، وإطلاق العقد ، وتجرده ، للمشتري خاصة ، على ما أسلفنا القول فيه.

وقد قلنا فيما مضى أنّ السيد المرتضى رحمه اللّه ، جعل للاثنين معا الخيار ، مدّة هذه الثلاثة الأيام.

والأظهر من المذهب ، الأول ، وقد استدللنا فيما مضى ، على صحة ذلك ، بما لا فائدة في إعادته.

هذا ما لم يحدث المبتاع في هذه المدة ، حدثا يدل على الرضا ، أو يتصرف فيه تصرّفا ينقص قيمته ، أو يكون لمثل ذلك التصرّف ، اجرة تستحق في العرف والعادة ، بأن يركب الدابة ، أو يستعمل الحمار ، أو يقبّل الجارية ، أو يلامسها ، أو يعتقها ، أو يدبّرها تدبيرا ليس له الرجوع فيه ، وهو المنذور ، أو يكاتبها ، أو غير ذلك من أنواع التصرف ، فإنّه يلزمه البيع ، ويستقر عليه ، وإن كان قبل مضى الثلاثة الأيّام ، ولم يكن له بعد ذلك التصرّف والاحداث ردّ على صاحبه على حال ، وإن لم يحدث فيه حدثا إلى أن يمضي ثلاثة أيّام ، لم يكن له بعد مضيها خيار ، إلا أن يجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، فإن هلك الحيوان في مدّة

ص: 280

الثلاثة الأيام ، قبل أن يحدث المبتاع فيه حدثا يدل على الرضا بمجرى العادة ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد احداثه الحدث ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أنه متى كان الخيار في ابتياع الحيوان ، من جهة المبتاع ، باشتراط الزمان الذي لم يجعله الشارع ، بمجرّد العقد ، بل هو اشتراط على البائع ، وهلك الحيوان في ذلك الزمان ، قبل تصرّف المشتري فيه ، التصرّف المقدّم ذكره ، فإنّ هلاكه يكون من مال بايعه ، ويرجع المشتري بالثمن جميعه ، ومتى كان الخيار للمشتري ، خيار الثلاث التي جعلها الشارع له ، بمجرّد العقد ، ولم يحدث فيه حدثا ، وهلك ، فإنّه يهلك من مال بائعه أيضا ، فإن مات بعد الثلاث ، ولم يحدث المشتري فيه حدثا ، يكون موته وهلاكه من مال مشتريه ، دون بايعه ، فإن كان فيه عيب وقت البيع ، رجع المشتري على البائع ، بأرش ذلك العيب فحسب إلّا (1) الجارية المبتاعة ، التي يكون (2) عيبها من حمل بها ، فإن مشتريها يردّها ، وإن كان قد وطأها ، فإن هلكت قبل ردها ، وبعد وطئها ، فإنّها تهلك من مال مشتريها ، دون بائعها ، وله الأرش على بائعها فحسب.

وترد المضراة من الإبل ، والبقر ، والغنم ، فحسب ، مع التصرّف فيها ، بالحلب ، وإن جاز الثلاثة الأيام ، إذا لم يعلم المشتري بالتصرية ، إلا بعد الثلاث ، فإنّه يردّها ، وإن جازت الثلاث.

قال شيخنا في نهايته : ومتى اشترى الإنسان شيئا من المتاع ، بخيار مدّة من الزمان ، ثم أراد بيعه ، والتصرّف فيه ، قبل مضيّ ذلك الوقت ، فليوجب البيع على نفسه ، ثم يتصرّف فيه ، فإن أوجب البيع على نفسه ، ثمّ لم يتصرّف وأراد ردّه ، لم يكن له ذلك على حال (3).

ص: 281


1- ج : العيب الّا.
2- ل : التي يكون بها.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه « فليوجب البيع على نفسه ثمّ يتصرّف » لا حاجة فيه ، ولا وجه له ، بل بنفس ، تصرفه ، يبطل خياره ، لأنّا قد بينّا فيما مضى ، أنّ تصرّف المشتري في مدّة الخيار ، لزوم للعقد ، وإبطال لخيرته ، وتصرّف البائع في مدة خياره ، فسخ للعقد ، فعلى هذا ، متى تصرّف فيه ، بطل خياره.

وقال شيخنا في نهايته : ومن اشترى شاة ، وحبسها ثلاثة أيام ، ثم أراد ردّها ، فإن كان شرب لبنها في هذه الثلاثة الأيام ، لزمه أن يردّ معها ثلاثة أمداد من طعام ، وإن لم يكن لها لبن ، لم يكن عليه شي ء (1).

قال محمد بن إدريس : هذا لا يصحّ على إطلاقه في كلّ شاة تشترى ، بل في المصراة فحسب ، لأنّ غير المصراة ، متى حلب اللبن ، فقد تصرّف ، ومتى تصرف ، بطل خياره ، ولا يجوز له الرد ، فأمّا إن كانت مصراة ، وكان اللبن قائم العين ، ردّه بحاله ، وإن كان تالفا ، ردّ مثله ، لأنّه يضمن بالمثلية ، ولا يجب عليه ردّ ما قاله من الأمداد بحال ، وهذا مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه ، والذي تقضيه أصول المذهب.

وإذا باع الإنسان ما لا يصح عليه البقاء ، من الخضر ، وغيرها ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ولا كان بيع النسية ، كان الخيار فيه يوما فإن جاء المبتاع بالثمن في ذلك اليوم ، وإلا فصاحبه بالخيار ، بين أن يفسخ البيع ، وبين مطالبة مشتريه بالثمن ، فإن هلك في مدّة اليوم ، فهو من ضمان بايعه ، كما قدّمنا ذلك في غير الحضر.

وإذا اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع ، وكان الشي ء قائما بعينه ، كان القول قول البائع ، مع يمينه باللّه ، وإن لم يكن قائما بعينه ، كان القول قول المبتاع ، مع يمينه باللّه تعالى.

وقال بعض أصحابنا ، وهو أبو علي بن الجنيد ، وأبو صلاح ، صاحب

ص: 282


1- لم نعثر عليه في النهاية.

كتاب الكافي ، في كتابه ، وغيرهما من أصحابنا : إن كان الشي ء في يد بايعه فالقول قوله مع يمينه في ثمنه ، وإن كان في يد مشتريه ، فالقول قول المشتري ، واحتج لذلك ، بأنّه إذا كان في يد بايعه بعد ، فالمشتري يريد انتزاعه من يده ، فالقول قول من ينتزع الشي ء من يده ، وإن كان في يد مشتريه فصاحبه يعني بائعه ، يدّعي زيادة على ما أقرّ به المشتري ، فلا تقبل دعواه ، إلا ببينة.

والآخر من أصحابنا ، لم يفرّق بهذا الفرق ، بل قال : متى كانت العين قائمة باقية ، فالقول قول البائع في مقدار الثمن ، مع يمينه ، سواء كانت العين في يد بائعه ، أو مشتريه ، فأما إذا اختلف ورثة البائع والمشتري ، في قدر الثمن ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ القول قول ورثة المشتري ، في قدره ، سواء كانت العين قائمة ، أو تالفة ، لأنّ حمل هذا على ذاك قياس ، ولو لا ما بيّناه ، لما جاز ذلك ، وقول ابن الجنيد قوي ، لأنّ إجماع الأمة منعقد على أنّ على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين ، ولا خلاف أنّ البائع مدّع ، في الحالين ، فأمّا إذا كان الشي ء في يده ، فالمشتري يدّعي انتزاعه من يده ، فيكون القول قول البائع هاهنا ، لأنّه مدّعى عليه ، وإطلاق قول الآخر من أصحابنا ، يخص بالأدلة ، لأنّ العموم قد يخصّ بالدليل ، وشيخنا أورد في تفصيل ذلك ، خبر واحد مرسلا ، في تهذيب الأحكام (1) لم يورد غيره ، وأخبار الآحاد المسانيد ، لا توجب علما ولا عملا ، فكيف الآحاد المراسيل ، ويمكن حمله على ما قاله ابن الجنيد ، وغيره من أصحابنا ، وحررناه نحن ، واخترناه ، لما قدّمناه ، من قيام الأدلة بمقتضاه ، ولم يذهب إلى القول الأول ، سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، ومن اتبعه ، وقلده ، في تصنيفه.

ثمّ انّه استدل في مسائل خلافه ، بإجماع الفرقة والأخبار (2).

ص: 283


1- التهذيب : ج 7 ، باب عقود البيع ، الحديث 26 / 109.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 236.

ومن أجمع معه ، وأي أخبار وردت له ، وانّما هو خبر واحد مرسل.

ثم لما ضاق عليه الكلام مع الخصم ، تأوّل ، وخصّص ، وقال : لو خلينا ، لقلنا بذلك ، ولكن روي عن أئمتنا ، عليهم السلام ، أنّهم قالوا : القول قول البائع ، فحملناه على أنّه إذا كان مع بقاء السلعة ، فإذا ساغ له حمله ، ساغ لنا ما اخترناه.

وإذا اشترى الإنسان ضياعا أو عقارا ، بحدودها ووصفها ، من غير أن يعاينها ، كان البيع ماضيا ، إلا أنّ له شرط خيار الرؤية ، وقد قدّمنا أحكام ذلك فيما مضى وحرّرناه.

وإذا مات المشترط في السلعة ، ومن له الخيار ، قام ورثته مقامه ، في المطالبة بذلك الشرط.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ومن اشترى جارية ، وعدّلها عند (1) إنسان ليستبري رحمها ، كانت النفقة في مدة حال الاستبراء على بائعها ، دون المبتاع ، فإن هلكت في مدة الاستبراء ، كانت من مال البائع ، دون مال المبتاع ، ما لم يحدث فيها حدثا ، حسب ما قدّمناه ، فإن أحدث فيها حدثا ، ثم هلكت ، كانت من ماله ، دون مال البائع (2).

وقال رحمه اللّه في مبسوطة : الاستبراء في الجارية ، واجب على البائع والمشتري معا ، والاستبراء يكون بقرء واحد ، وهو الطهر ، ولا يجوز للمشتري وطؤها قبل الاستبراء ، في الفرج ، ولا في غيره ، ولا لمسها بشهوة ، ولا قبلتها ، ويلزم الاستبراء المشتري بعد قبضها ، ولا يعتد بما قبل ذلك ، ويكون زمان الاستبراء عنده ، سواء كانت حسناء ، أو قبيحة ، ولا يلزم أن تكون عند غيره ، فإن جعل ذلك عند من يثق به ، كان جائزا ، فإن اشتراها ، وهي حائض ، فطهرت ، جاز أن يعتد بذلك الحيض ، ويكفيها ذلك (3).

ومتى باعها بشرط المواضعة ، لم يبطل البيع ، وإن باعها مطلقا ، ثم اتفقا على

ص: 284


1- وفي المصدر : وعزلها عند إنسان.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أنّ الخراج بالضمان ، ص 140.

المواضعة ، جاز أيضا ، فإن هلكت ، أو عابت ، نظر ، فإن كان المشتري قبضها ثم جعلت عند عدل ، فالعدل وكيل المشتري ، ويده كيده ، إن هلكت ، فمن ضمان المشتري ، وإن عابت فلا خيار له ، وإن كان البائع سلمها إلى العدل ، قبل القبض ، فهلكت في يده ، بطل البيع ، وإن عابت ، كان المشتري بالخيار (1).

قال محمّد بن إدريس وهذا الذي ذكره في معنى المواضعة والهلاك ، وهل قبضها أو لم يقبضها ، هو الصحيح ، ومسألة النهاية ، لا تصح إلا على هذا التحرير ، وإلا إذا تسلمها المشتري ، واستبرأها في يده ، بعد قبضها ، فمتى هلكت قبل مضى الثلاثة الأيام ، وقبل التصرّف فيها ، فإنّها تهلك من مال بائعها ، دون مشتريها ، وإن هلكت بعد مضي الثلاثة الأيام ، التي هي شرط في الحيوان ، أو بعد التصرّف فيها ، فإنّها تهلك من مال المشتري ، بغير خلاف ، للإجماع المنعقد من أصحابنا ، أنّ الحيوان إذا هلك في مدة الثلاثة الأيّام ، قبل تصرّف المشتري فيه ، فإنه يهلك من مال بائعه ، فإن هلك بعد ذلك ، فمن مال المشتري ، فعلى هذا يجب أن يكون الفتوى والعمل.

وقال رحمه اللّه في نهايته : ومن اشترى شيئا بحكم نفسه ، ولم يذكر الثمن بعينه ، كان البيع باطلا فإن هلك الشي ء في يد المبتاع ، كان عليه قيمته يوم ابتاعه ، هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ الشي ء المبيع ، إن كان له مثل ، فعليه مثله ، لا قيمته ، وإن أعوز المثل ، فعليه ثمن المثل ، يوم الإعواز ، وإن كان المبيع ممّا لا مثل له ، فإنّه يجب عليه قيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، لأنّ هذا بيع فاسد ، والبيع الفاسد عند المحصّلين ، يجري مجرى الغصب ، في الضمان.

وان كان الشي ء قائما بعينه ، كان لصاحبه ، انتزاعه من يد المبتاع ، فإن

ص: 285


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أنّ الخراج بالضمان ، ص 140.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

أحدث المبتاع فيه حدثا ، نقص به ثمنه ، كان له انتزاعه منه ، وأرش ما أحدث فيه ، فإن كان الحدث يزيد في قيمته ، وأراد انتزاعه من يده ، كان عليه أن يرد على المبتاع ، قيمة الزيادة بحدثه فيه ، هكذا قال شيخنا في نهايته (1).

والأولى أن يقسم الحدث ، فتقول : إن كان آثار أفعال ، لا أعيان أموال ، فلا يرد على المبتاع شي ء ، وإن كان الحدث أعيان أموال ، فهو على ما قال رحمه اللّه.

فإن ابتاعه بحكم البائع في ثمنه ، فحكم بأقلّ من قيمته ، كان ذلك ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وإن حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع ، إلا أن يتبرّع المبتاع بالتزام ذلك على نفسه ، فإن لم يفعل ، لم يكن عليه شي ء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

والأولى أن يقال : البيع باطل ، لأنّ كل مبيع لم يذكر فيه الثمن ، يكون باطلا ، بلا خلاف بين المسلمين ، فإذا كان كذلك ، فإن كان باقيا بعينه ، فللبائع انتزاعه من يد المشتري ، وإن كان تالفا ، وتحاكما ، فلصاحبه مثله ، إن كان له مثل ، وإن كان لا مثل له ، فله قيمته أكثر القيم إلى يوم الهلاك ، لا قيمته في حال البيع ، فإن أقرّ البائع بشي ء ، لزمه إقراره على نفسه ، فيحكم عليه بإقراره على نفسه ، إلا أن يقرّ بأزيد من قيمته التي يوجبها الشارع ، وإنّما هذه أخبار آحاد ، أوردها في نهايته ، إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما تكرّرت الإشارة في ذلك.

ومن ابتاع شيئا بدراهم ، أو دنانير ، وذكر النقد بعينه ، كان له من النقد ما شرط ، فإن لم يذكر نقدا بعينه ، كان له ما يجوز بين الناس في الغالب ، فإن اختلفا في الشرط والذكر ، فالقول قول البائع ، مع بقاء السلعة ، لإجماع الطائفة ، لأنهما (3) إذا اختلفا في الثمن ، كان القول قول البائع ، مع بقاء السلعة والقول قول المشتري مع عدمها.

ص: 286


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
3- ج : أنهما.

باب البيع بالنقد والنسية والمرابحة

من باع شيئا بنقد ، كان الثمن عاجلا ، وإن باعه ، ولم يذكر لا نقدا ولا نسية ، كان الثمن أيضا عاجلا ، فإن ذكر أن يكون الثمن آجلا ، كان على ما ذكر ، بعد أن يكون الأجل معيّنا ، محروسا بالسنين ، والأعوام ، أو الشهور ، والأيّام ، ولا يجوز أن يكون مجهولا ، ولا آجلا غير محروس ، من الزيادة والنقصان ، مثل قدوم الحاج ، ودخول القوافل ، وإدراك الغلات ، وما أشبه ذلك ، فإن ذكر شيئا من هذه الأوقات ، كان البيع باطلا في نفسه ، فإن ذكر المتاع بأجلين ونقدين مختلفين ، بأن يقول : ثمن هذا المتاع كذا عاجلا ، وكذا آجلا ، ثم أمضى البيع ، كان له أقل الثمنين ، وأبعد الأجلين هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والصحيح من المذهب ، أنّ هذا البيع باطل ، لأنّ الثمن مجهول في حال العقد ، وكل بيع كان الثمن مجهولا في حال عقده ، فهو باطل بغير خلاف ، بين الأمة ، وسلّار من أصحابنا يذهب إلى ما اخترناه ، في رسالته (2).

وشيخنا أبو جعفر ، قد رجع في مبسوطة ، عمّا أورده في نهايته ، واستدل على فساده ، بأن قال : فإنّ هذا لا يجوز لأن الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع (3).

وما أورده في نهايته ، فهو خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، أورده إيرادا لا اعتقادا.

ومتى باع الشي ء بأجل ، ثم حضر الأجل ، ولم يكن مع المشتري ما يعطيه إيّاه ، جاز له أن يأخذ منه ، ما كان باعه إيّاه ، بيعا صحيحا بزيادة ممّا كان باعه إيّاه ، أو نقيصة منه ، لأنّه مال من أموال البائع بمهما شاء باعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أخذه بنقصان ممّا باع ، لم يكن ذلك

ص: 287


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- المراسم : كتاب المكاسب ، ذكر البيع بالنسيئة.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص 159.

صحيحا ، ولزمه ثمنه الذي كان أعطاه به ، ثمّ قال رحمه اللّه وإن أخذ من المبتاع متاعا آخر بقيمته في الحال ، لم يكن بذلك بأس (1).

والأول هو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ اللّه تعالى قال : « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه يحتاج إلى دليل ، ولن يجده ، ولا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، وما أورده وذكره شيخنا في نهايته ، خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

وإذا باع شيئا إلى أجل ، وأحضر المبتاع الثمن ، قبل حلول الأجل ، كان البائع بالخيار ، بين قبض الثمن ، وبين تركه (2) إلى حلول الأجل ، ويكون في ذمة المبتاع ، فإن حلّ الأجل ، وجاء المبتاع بالثمن ، ومكّنه منه ، ولم يقبض البائع ، ثم هلك الثمن ، كان من مال البائع ، دون المبتاع.

وكذلك إن اشترى شيئا إلى أجل ، وأحضر البائع المبيع قبل حلول الأجل ، كان المبتاع مخيّرا ، بين أخذه وتركه ، فإن هلك قبل حلول الأجل ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع ، فإن حلّ الأجل ، وأحضر البائع المتاع ، ومكّن المبتاع من قبضه ، فامتنع من قبضه ، ثمّ هلك المتاع ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (3).

والأولى في المسألتين معا ، أنّه إذا امتنع الممتنع من قبض دينه ، وحقه ، وماله ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، وتمكينه منه ، وأفراده ، أن يرفع أمره إلى الحاكم ، ويطالبه بقبضه ، أو إبرائه ممّا له عليه ، فإن لم يفعل ، ولم يجب إلى إحدى الخصلتين ، تسلّمه الحاكم ممن هو عليه ، وجعله في بيت المال ، ليحفظه على صاحبه ، ولا يجوز للحاكم أن يجبره على البراءة له ، ولا على قبضه ، لأنّ الحاكم منصوب للحق ، وإزالة الضرر غير المستحق ، ولا دليل على وجوب

ص: 288


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- ج : وتركه
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

اشتغال ذمة من عليه الحق بحفاظه ، أو بارتهانها (1) مشغولة بالدين ، يعني ذمة من عليه ، والرسول عليه السلام قال : لا ضرر ولا ضرار (2) وكل من تأبّى (3) من الحق ، فالحاكم يجبره عليه ، ويقوم مقامه في استيفاء ما عليه ، وأخذ ما كان يجب عليه أخذه ، وحفاظ ماله.

وإلى هذا وأمثاله يذهب شيخنا الطوسي أبو جعفر ، في مبسوطة ، وقال الحاكم يقبضه ، ويحفظه ، ويجعله في بيت المال ، لصاحبه ، محفوظا عنده ، محوطا عليه (4).

ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا حاضرا إلى أجل ، ثمّ يبتاعه منه في الحال ، ويزن الثمن بزيادة ممّا باعه ، أو نقصان ، وإن اشتراه منه نسية أيضا ، كان جائزا ، ولا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه بزيادة فيه (5) ، ولا بأس بتعجيله بنقصان شي ء منه ، بغير خلاف بين أصحابنا ، فإن اتفقا على تأجيل ما قد حلّ ، فإنه لا يصير مؤجلا ، ويجوز لمن أجله أن يطالب به في الحال ، سواء كان ذلك ثمنا ، أو أجرة ، أو صداقا ، أو كان قراضا (6) ، أو أرش جناية ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وشيخنا أبو جعفر ، قد ذكر ذلك في مسائل خلافه (7) ، وأشبع القول فيه ، واستدل بإجماع الفرقة على صحته.

ويكره الاستحطاط من الأثمان بعد انعقاد العقد ، سواء نقل المتاع ، أو لم ينقل ، افترقا من المجلس ، أو لم يفترقا ، وليس ذلك بمحظور.

وقال شيخنا في نهايته : وكل شي ء يصح بيعه قبل القبض ، صح أيضا الشركة فيه (8).

يريد بذلك أنّ بيع السلف قبل قبضه ، لا يجوز على غير من هو عليه ، ولا

ص: 289


1- ج : بأنها.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب إحياء الموات ، ح 3
3- ج : يأبى.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل في امتناع ذي الحق من أخذه .. ص 190 ، باختلاف يسير
5- ج : تأخير الثمن وقت وجوبه بزيادة.
6- ج : قرضا ، وهو الظاهر
7- الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة 230.
8- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

يجوز الشركة فيه ، ومراده بالشركة ، أن يبيعه نصفه مشاعا غير مقسوم.

وقال رحمه اللّه في نهايته : ولا بأس بابتياع جميع الأشياء حالا ، وإن لم يكن حاضرا في الحال ، إذا كان الشي ء موجودا في الوقت ، أو يمكن وجوده ، ولا يجوز أن يشتري حالا ، ما لا يمكن وجوده في الحال ، مثال ذلك ، أن يشتري الفواكه حالة ، في غير أوقاتها ، فإنّ ذلك لا يمكن تحصيله ، فأمّا ما يمكن تحصيله ، فلا بأس به ، مثل الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والثياب ، وغير ذلك ، وإن لم يكن عند بائعه في الحال (1).

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر واحد ، أورده شيخنا في تهذيب الأحكام (2) ، عن ابن سنان ، لا يجوز أن يعمل به ، ولا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ، لأنّا قد بيّنا انّ البيع على ضربين ، بيوع الأعيان ، وبيوع السلم ، وهو ما في الذمة ، ولا يصح إلا أن يكون مؤجلا ، موصوفا ، على ما تقدّم شرحنا له ، فأمّا بيوع الأعيان ، فتنقسم إلى قسمين ، أحدهما بيع عين مرئية مشاهدة ، والقسم الآخر بيع عين غير حاضرة موصوفة ، وهذا البيع ، هو المسمى بيع خيار الرؤية وما أورده ، خارج عن هذه البيوع ، لا مشاهد ، ولا موصوف بوصف يقوم مقام المشاهدة ، فدخل في بيع الغرر ، والنبي عليه السلام نهى عن بيع الغرر (3) ونهى عليه السلام ، عن بيع ما ليس عند الإنسان ولا في ملكه (4) إلا ما أخرجه الدليل من بيع السلم.

وأيضا البيع حكم شرعي ، يحتاج في إثباته ، إلى دليل شرعي ، ولا نرجع عن الأمور المعلومة بالدلالة القاهرة ، بالأمور المظنونة ، وأخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملاً.

ص: 290


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- التهذيب : كتاب التجارات باب بيع المضمون ، ح 78 وفي الوسائل : الباب 8 من أبواب أحكام العقود ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 40 من أبواب آداب التجارة ، ح 3.
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب عقد البيع ، ح 12.

ومن اشترى شيئا بنسية ، فلا يبيعه مرابحة ، فإن باعه كذلك ، كان للمبتاع من الأجل ، مثل ماله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والأولى عندي ، أن يكون المشتري بالخيار ، بين ردّه وإمساكه بالثمن ، من غير أن يكون له من الأجل مثل ماله ، لأنّه ليس عليه دليل فيرجع إليه ، وانّما هو خبر واحد ، وضعه في كتابه ، ورجع عنه في مبسوطة (2).

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز أن يبيع الإنسان ، متاعا مرابحة بالنسبة ، إلى أصل المال ، بأن يقول : أبيعك هذا المتاع ، بربح عشرة ، واحدا أو اثنين ، بل يقول بدلا من ذلك : هذا المتاع علي بكذا ، وأبيعك إيّاه بكذا ، بما أراد (3).

وقال في مسائل الخلاف : يكره بيع المرابحة ، بالنسبة إلى أصل المال ، وصورته أن يقول : بعتك برأس مال ، وربح درهم ، على كل عشرة ، وليس ذلك بمفسد للبيع (4).

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : ولا يجوز أن يبيع الإنسان شيئا مرابحة ، مذكورة بالنسبة إلى أصل المال ، كقولهم : أبيعك هذا المتاع بربح العشرة ، واحدا ، أو اثنين ، وما أشبه ذلك ، ولا بأس أن يقول ثمن هذا المتاع عليّ كذا ، وأبيعك إيّاه بكذا ، فيذكر أصل المال والربح ، ولا يجعل لكل عشرة منه شيئا (5).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى عندي ، وأفتي به ، أنّ بيع المرابحة ، مكروه غير محظور ، وأنّ البيع صحيح ، غير باطل ، وهو الذي ذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه ، ومبسوطة ، لأنّ بطلانه يحتاج إلى دليل ، واللّه تعالى قال « أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بغير خلاف ، فمن أبطله يحتاج إلى دليل ، وما ورد في ذلك من الأخبار فحمله على الكراهة هو الأولى.

إلا أنّ جملة الأمر ، وعقد الباب ، أن المكروه من بيع المرابحة ، أن يكون

ص: 291


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، بيع المرابحة وأحكامها ، ص 142.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
4- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 223.
5- المقنعة : أبواب المكاسب باب بيع المرابحة ص 605.

الربح محمولا على المال ، ولا بأس أن يكون الربح محمولا على المتاع ، مثال ذلك ، أن يقول : هذا المبيع ، اشتريته بمائة دينار ، ويذكر نقدها ، وبعتك إيّاه بمائة وعشرة دنانير ، فهذا لا مكروه ، ولا محظور على القولين معا ، لأنّ الربح هاهنا محمول على المتاع ، فأمّا المكروه على الصحيح من المذهب ، على ما اخترناه ، أو المحظور على القول الآخر ، فمثاله أن يقول : هذا المبيع اشتريته بمائة دينار ، ويذكر نقدها ، وبعتك إيّاه بمائة ، وبربح كل عشرة دينارا (1) فهذا هو المكروه أو المحظور ، لأنّ الربح هاهنا محمول على المال ، الذي هو الثمن ، فهذا معنى قول الفقهاء بالنسبة « بالنون والسين والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة » إلى أصل المال ، لأنّه حمل الربح على الثمن ، ونسبه إليه ، بقوله : كل عشرة من المائة دينار (2) ، فصار جميع الثمن مائة وعشرة دنانير ، لأنّ الربح منسوب إلى عقود المائة ، وهي عشرة عقود ، فصار الربح عشرة دنانير ، فليتأمّل ذلك ، ويلحظ ، فهو حقيقة القول في هذه المسألة ، أعني بيع المرابحة.

وإذا اشترى سلعتين بثمن واحد ، فإنّه لا يجوز أن يبيع إحداهما مرابحة ، ويقسّم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ، لأنّ تقويمه ، ليس هو الذي انعقد البيع عليه ، فلا يجوز أن يخبر بذلك الشّراء الذي قومه مع نفسه ، لأنّه كذب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة ، بثمن معلوم ، ثم قوّم كل ثوب منها على حدة مع نفسه ، لم يجز ان يخبر بذلك الشّراء ولا أن يبيعه مرابحة ، إلا بعد أن يبيّن له (3) انّما قوّم ذلك كذلك (4).

قال محمّد بن إدريس ، رحمه اللّه : هذا هو ليس بيع المرابحة ، لأنّ بيع المرابحة موضوعه في الشرع ، أن يخبر بالثمن الذي اشتراه به ، وهذا ليس كذلك.

وإذا اشترى الإنسان متاعا ، جاز أن يبيعه في الحال ، وإن لم يقبضه ، إذا

ص: 292


1- ج : بمائة دينار وبربح كل عشرة دينار.
2- ج : من المائة دينارا.
3- ل. ق : يبين أنّه.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

كان معيّنا ، ويكون قبض المبتاع الثاني قبضا عنه.

وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة ، فلا يجوز أن يبيع خيارها مرابحة ، لأنّ ذلك لا يتميز ، وهو مجهول.

وإذا باع الإنسان المتاع مرابحة ، فلا بدّ أن يذكر النقد الذي وزنه ، وكيفية الصرف في يوم وزن المال ، وليس عليه شي ء من ذلك إذا باعه مساومة.

ولا يجوز بيع المتاع في أعدال محزومة ، وجرب مشدودة ، إلا أن يكون له بارنامج ، يوقفه منه على صفة المتاع ، في ألوانه ، وأقداره ، وصفاته ، فإذا كان كذلك ، جاز بيعه ، فإذا نظر إليه المبتاع ، ورآه موافقا لما وصف له ، وذكر ، كان البيع ماضيا ، وإن كان بخلاف ذلك ، كان البيع مردودا إن اختار المشتري ، وإن رضي به فله ذلك ، لأنّ له الخيار ، وانّما لم يجز هذا البيع ، إلا أن يكون له بارنامج ، لأنّ هذا بيع خيار الرؤية ، وهذا البيع من شرط صحّته ذكر الجنس والصفة ، لأنّه غير مشاهد ، فتقوم الصفة في هذا البيع مقام المشاهدة.

والبارنامج كلمة فارسية معناها أنّ الفرس تسمّي المحمول « بار » قلّ أم كثر ، والنامج بالفارسيّة « نامه » وتفسيره الكتاب ، لمعرفة ما في المحمول ، من العدد ، والوزن ، فأعربوه بالجيم ، فأمّا قولهم : الرّوزنامج ، ومعنى الرّوز بالفارسيّة : اسم اليوم ، والنامج : نامه ، وهو الكتاب ، فكأنّهم عنوا به كتاب كلّ يوم ، فأعربوه بالجيم ، فهذا حقيقة هاتين الكلمتين بالفارسيّة ، ذكر ذلك أصحاب التواريخ ، مثل محمّد بن جرير الطبري ، وغيره.

ومن أمر غيره أن يبتاع له متاعا ، وينقد من عنده الثمن عنه ، فاشتراه ، ونقد عنه ثمنه ، ثمّ سرق المتاع ، أو هلك من غير تفريط ، من المأمور ، كان من مال الآمر ، دون المأمور.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا قوّم التاجر ، متاعا على الواسطة بشي ء معلوم ، وقال له : بعه ، فما زدت على رأس المال ، فهو لك ، والقيمة لي ،

ص: 293

كان ذلك جائزا ، وإن لم يواجبه البيع (1) فإن باع الواسطة المتاع ، بزيادة على ما قوم عليه ، كان له وإن باعه برأس المال ، لم يكن له على التاجر شي ء ، وإن باعه بأقل من ذلك ، كان ضامنا لتمام القيمة ، فإن ردّ المتاع ، ولم يبعه ، لم يكن للتاجر الامتناع من أخذه ، وقال رحمه اللّه : ومتى أخذ الواسطة ، المتاع على ما ذكرناه ، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشراء (2).

قال محمّد بن إدريس : ما أورده شيخنا ، غير واضح ، ولا مستقيم ، على أصول مذهبنا ، لأنّ هذا جميعه لا بيع المرابحة ، ولا إجارة ، ولا جعالة محققة ، فإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه ، لم يكن للواسطة في الزيادة شي ء ، لأنّها من جملة ثمن المتاع ، والمتاع للتاجر ، ما انتقل عن ملكه بحال ، وللواسطة أجرة المثل ، لأنّه لم يسلّم له العوض ، فيرجع الى المعوّض ، وكذلك إن باعه برأس المال ، وإن باعه بأقل ممّا أمره به ، كان المبيع باطلا فإن تلف المبيع ، كان الواسطة ضامنا.

وقوله رحمه اللّه : « ومتى أخذ الواسطة المتاع على ما ذكرناه ، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشراء » قال محمّد بن إدريس : وأيّ شراء جرى بين التاجر وبين الواسطة ، حتى يخبر بالثمن ، وليس هذا موضوع بيع المرابحة في الشريعة ، بغير خلاف ، وانّما أورده أخبار الآحاد ، في هذا الكتاب إيرادا ، لا اعتقادا على ما وردت عليه بألفاظها ، صحيحة ، كانت أو فاسدة ، على ما ذكره واعتذر به ، في خطبة مبسوطة ، على ما قدّمنا القول فيه ، في صدر كتابنا هذا.

يزيد ذلك بيانا ، ما أورده في نهايته ، بعد هذه المسألة ، بلا فصل ، قال رحمه اللّه : وإذا قال الواسطة للتاجر ، خبرني بثمن هذا المتاع ، واربح عليّ فيه كذا وكذا ، ففعل التاجر ذلك ، غير أنّه لم يواجبه البيع ، ولا ضمن هو الثمن ، ثمّ باع الواسطة بزيادة على رأس المال والثمن ، كان ذلك للتاجر ، وله اجرة المثل ،

ص: 294


1- ج : لم يواجبه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

لا أكثر من ذلك ، وإن كان قد ضمن الثمن ، كان له ما زاد على ذلك من الربح ، ولم يكن للتاجر أكثر من رأس المال الذي قرّره معه ، فهذا يوضح لك ما نبهنا عليه.

وإذا قال الإنسان لغيره : اشتر لي هذا المتاع ، وأزيدك شيئا ، فإن اشترى التاجر ذلك ، لم يلزم الآمر أخذه ، ويكون في ذلك بالخيار ، إن شاء اشتراه لنفسه ، وإن شاء لم يشتره ، لأنّه ما وكله في شرائه لنفسه ، بقوله : وأزيدك شيئا فدلّ ذلك على أنّ التاجر اشتراه لنفسه ، لا للآمر ، لأنّ الشراء لو وقع للآمر لم يلزمه أن يزيده على ثمنه شيئا ، فهذا تحرير الفتيا في ذلك.

ومتى أخذ الإنسان من تاجر مالا ، واشترى به متاعا ، يصلح له ، ثمّ جاء به إلى التاجر ، ثم اشتراه منه ، لم يكن بذلك بأس ، لأنّه وكيل للتاجر ، نائب عنه في الشراء ، ويكون التاجر مخيرا ، بين أن يبيعه ، وان لا يبيع ، فإن كان الإنسان الذي هو الوكيل ، شراه لنفسه في ذمّته ، لا بعين مال موكله ، ثم نقد المال على أنّه ضامن له ، لم يكن للتاجر عليه سبيل (1).

فإن اختلفا في ذلك ، فالقول قول الوكيل ، دون الموكّل ، فإن كان الوكيل شراه بعين مال موكله فإنّ الملك يقع للتاجر الذي هو الموكل ، دون الوكيل ، فهذا تحرير هذه الفتيا التي أوردها شيخنا في نهايته.

ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا ، بأكثر ممّا يساوي في الحال ، بنسية ، إذا كان المبتاع من أهل الخبرة والمعرفة ، فإن لم يكن كذلك ، كان البيع موقوفا ، للمشتري الخيار فيه.

باب العيوب الموجبة للرد

من اشترى شيئا على الإطلاق ، ولم يشترط الصحة ، أو اشتراه على شرط

ص: 295


1- هنا ينتهي كلام الشيخ في النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، باختلاف يسير ، وما بعده غير موجود فيها.

الصحة ، والسلامة ، ثمّ ظهر له فيه عيب ، سبق وجوده عقدة البيع ، ولم يكن قد تبرأ صاحبه إليه من العيوب كلّها ، كان المشتري بين خيرتين ، ردّ المتاع واسترجاع الثمن ، أو الإمساك والمطالبة بالأرش ، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

وكيفية ذلك ، وبيانه ، أن يعتبر قيمته ، ويوجب (1) بحصّة ذلك من ثمنه ، مثاله إذا اشترى عبدا ، فأصاب به عيبا ، فإن المشتري يرجع على البائع ، بأرش العيب ، وهو أن يقال : كم قيمته ولا عيب فيه ، قالوا : مائة ، قلنا : وكم قيمته وهذا العيب فيه ، قالوا : تسعون ، قلنا : فالعيب عشر قيمته ، فيجب على البائع أن يردّ عشر قيمته (2).

وانّما قلنا يرجع بالحصّة من الثمن ، لا بما بين القيمتين ، لأنّه قد يشتري بعشرة ما قيمته مائة ، فإذا قوّمناه ، كان النقص عشرة ، فإذا ردّ البائع هذا القدر ، بقي المبيع بغير ثمن ، وإذا كان الاعتبار بالحصّة من الثمن ، لم يعر المبيع من الثمن بحال ، وهذا ممّا يغلط فيه بعض الفقهاء ، فيوجبون الأرش ما بين القيمتين.

وهكذا الحكم ، إن أصاب به عيبا ، بعد ان حدث به عيب عنده ، فامتنع الرد بالعيب ، وكذا إذا وجد العيب فيه ، بعد ان تصرّف فيه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فليلحظ ما حرّرناه ويتأمّل.

وليس للبائع على المشتري في ذلك خيار.

ومتى كان البائع قد تبرأ إلى المبتاع ، من جميع العيوب ، لم يكن له الرجوع عليه ، بشي ء من ذلك ، وإن لم يفصّل له العيوب في الحال ، والأفضل أن يفصل العيوب كلّها ، ويظهرها ، في حال العيب (3) ، ليقع العقد عليه ، مع العلم بها أجمع ، وليس ذلك بواجب ، بل يكفي التبري من العيوب على الجملة.

وقال بعض أصحابنا : بل ذلك واجب ، ولا يكفي في إسقاط الرد التبري

ص: 296


1- ل : يرجع. والظاهر أنه أولى.
2- ل : عشر ثمنه.
3- ج : البيع.

من العيوب على الجملة. والأول هو الأظهر من الأقوال.

ولا يجوز لأحد أن يبيع شيئا معيبا ، إلا بعد إظهار العيب ، فإن فعل وباع معيبا مع علمه بذلك ، فعل محظورا ، وكان المشتري بالخيار على ما فصّلناه.

ومتى اختلف البائع والمشتري في العيب ، فذكر البائع أنّ هذا العيب حدث عندك ، ولم يكن في المتاع وقت بيعي إيّاه ، وقال المشتري : بل بعتني معيبا ، ولم يحدث عندي فيه عيب ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان على البائع اليمين باللّه ، أنّه باعه صحيحا ، لا عيب فيه ، فإن حلف برئ من العهدة ، وإن لم يحلف جعل ناكلا ، وردّت اليمين على خصمه ، فإذا حلف كان عليه الدرك فيه (1) وقال شيخنا في نهايته : إذا اختلف البائع والمشتري في حدوث العيب ، ولم يكن لأحدهما بينة على دعواه ، كان على البائع اليمين باللّه ، أنّه باعه صحيحا لا عيب فيه ، فان حلف برئ من العهدة (2) وإن لم يحلف ، كان عليه الدرك فيه (3). وهذا القول ، بإطلاقه غير واضح ، لأنّ بمجرد النكول عن اليمين ، لا يستحق المدّعي ما ادعاه ، إلا بعد يمينه.

وإذا قال البائع : بعت على البراءة من العيوب ، وأنكر المبتاع ذلك ، فعلى البائع البيّنة فيما ادّعاه ، فإن لم يكن معه بينة ، حلف المبتاع ، أنّه لم يبرأ إليه من العيوب ، وباعه مطلقا ، أو على الصحة ، فإذا حلف ، كان له الرد ، أو الأرش ، مخير في ذلك ، هذا بعد ثبوت العيب ، وموافقة البائع عليه ، بأنّه كان فيه قبل عقدة البيع ، أو قيام البيّنة على العيب.

ومتى اختلف أهل الخبرة في قيمته ، عمل على أوسط القيم فيما ذكروه ، وحكم الحاكم بذلك ، فإن كان المبيع جملة ، وظهر العيب في البعض ، كان للمبتاع أرش العيب ، في البعض الذي وجد فيه ، وإن شاء ردّ جميع المتاع ،

ص: 297


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
2- ج : برئ.
3- كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ مع زيادة يسيرة.

واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب ، دون ما سواه.

ومتى أحدث المشتري حدثا في المتاع ، لم يكن له بعد ذلك ردّه ، وكان له الأرش بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وسواء كان إحداثه ما أحدث فيه ، مع علمه بالعيب ، أو مع عدم العلم ، وليس علمه بالعيب ، ووقوفه عليه بموجب لرضاه في ترك الأرش ، بل في سقوط الرد.

إذا علم وتصرّف ، فإنّه يسقط الرد ، ولا يسقط الأرش.

ومتى حدث فيه حادث وعيب ، ينضاف إلى العيب الذي كان فيه ، كان له أرش العيب الذي كان فيه ، وقت ابتياعه إيّاه ، ولم يكن له أرش ما حدث عنده فيه على حال ، ولا ردّ المبيع بعد حدوث عيب عنده ، إلا أن يكون المبيع حيوانا ، فإنّه يردّه بالعيب الحادث في الثلاثة الأيّام ، لأنّ له فيها الخيار ، فإن أراد إمساكه ، فله أرش العيب المتقدّم ، الذي كان فيه وقت ابتياعه إيّاه ، وليس له أرش ما حدث فيه بعد عقدة البيع على حال.

وإذا حدث بالمبيع عيب في يد البائع بعد عقدة البيع ، ولم يكن به عيب قبل عقدة البيع ، كان للمشتري الرد والإمساك ، وليس له اجازة البيع مع الأرش ، ولا يجبر البائع على بذل الأرش ، بغير خلاف.

ومن ابتاع أمة ، فظهر له فيها عيب ، لم يكن علم به حال ابتياعه إيّاها ، كان له ردّها ، واسترجاع ثمنها ، أو أرش العيب دون الرد ، لا يجبر على واحد من الأمرين ، فإن وجد بها عيبا بعد أن وطأها ، لم يكن له ردّها ، وكان له أرش العيب خاصة ، اللّهم إلا أن يكون العيب من حبل ، فله ردّها على كلّ حال ، وطأها أو لم يطأها ، ويردّ معها إذا وطأها نصف عشر قيمتها ، إن كانت ثيبا ، وإن كانت بكرا فعشر قيمتها بلا خلاف بيننا.

ومتى وجد عيبا فيها بعد أن يعتقها ، لم يكن له ردّها ، وكان له أرش العيب فان وجد العيب بعد تدبيرها ، أو هبتها ، كان مخيرا بين الرد وأرش العيب ، أيّهما

ص: 298

اختار كان له ذلك ، لأنّ التدبير والهبة ، له أن يرجع فيهما ، وليس كذلك العتق ، لأنّه لا يجوز له الرجوع فيه ، على حال ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أن المشتري إذا تصرّف في المبيع ، فإنّه لا يجوز له ردّه بعد ذلك ، وله الأرش ، ولا خلاف أنّ التدبير والهبة تصرّف ، وقوله رحمه اللّه : « لأنّ التدبير والهبة له أن يرجع فيهما » ليس كلّ تدبير ولا كل هبة له الرجوع فيهما ، بل التدبير على ضربين ، تدبير عن نذر ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، على حال ، وهبة لولده الأصغر ، أو لولده الأكبر ، بعد قبضه إيّاها ، أو هبة الأجنبي بعد القبض ، والتصرّف فيها ، أو التعويض عنها ، فلا يجوز الرجوع فيها على حال ، بغير خلاف ، فإطلاق قوله رحمه اللّه ما يستقيم له.

وأيضا فالراهن ، لا يجوز له تدبير عبده المرهون ، لأنّه ممنوع من التصرف في الرهن ، وكان يلزم على ما اعتل به شيخنا أبو جعفر ، من أن للمدبر أن يرجع في التدبير ، وللواهب أن يرجع في الهبة ، وانّ المشتري إذا باع الجارية ، وجعل لنفسه الخيار شهرا مثلا ، أو أكثر من ذلك وقبضها المشتري ، وتسلمها ، وصارت عنده ، أن يردّها البائع الثاني ، على البائع الأوّل ، لأنّ له أن يرجع في هذا المبيع ، على قود الاعتلال الذي اعتل به شيخنا ، وهذا لا يقوله أحد منا بغير خلاف ، ولا يتجاسر عليه أحد من الأمة.

وأيضا فلم يرد بذلك نصّ عن الأئمة عليهم السلام ، لا متواترا ولا آحادا ، فبأيّ شي ء يتمسّك في ذلك ، وكتابه تهذيب الأحكام ، ما أودعه شيئا من ذلك ، ولا أورد فيه خبرا بذلك ، وليس له أكبر منه في الأخبار ، وانّما حكاه على ما وجده في المقنعة (2) وتردّ الشاة المصراة ، وهي التي جمع بائعها في ضرعها اللبن ، يومين وأكثر من ذلك ، ولم يحلبها ، ليدلسها به على المشتري ، فيظن إذا رأى

ص: 299


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ.
2- المقنعة : باب المتاجر ، باب العيوب الموجبة للرد ص 598.

ضرعها ، وحلب لبنها ، أنّه لبن يومها ، لعادة لها ، وكذلك حكم البقرة والناقة ، ولا تصرية عندنا في غير ذلك ، فإذا أراد ردّها ، ردّ اللبن الذي احتلبه ، إن كان موجودا ، وإن كان هالكا معدوما ، ردّ مثله ، لأنّ اللبن له مثل ، ويضمن بالمثلية ، فإن أعوز المثل ، ردّ قيمة ما احتلب من لبنها ، بعد إسقاط ما أنفق عليها ، إلى أن عرف حالها.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : عوض اللبن الذي يحلبه من المصراة ، إذا أراد ردّها ، صاع من تمر ، أو صاع من بر ، وإن أتى على قيمة الشاة ، واستدل على ذلك بإجماع الفرقة ، وأخبارهم (1).

قال محمّد بن إدريس : والأوّل هو الصحيح ، وإليه يذهب رحمه اللّه في نهايته (2) ، وهو أيضا قول شيخنا المفيد في مقنعته (3) وأصول المذهب دالة عليه ، فأمّا ما ذكره شيخنا في مسائل خلافه ، من دليله فعجيب ، من أجمع من أصحابنا على ذلك؟ وأيّ إجماع للفرقة على ما قاله؟ ولا لها خبر ورد بذلك ، وما وجدت لأصحابنا تصنيفا فيه ، ما ذهب إليه ولا قال من أصحابنا غيره رحمهم اللّه هذا القول ، وانّما هذا قول المخالفين ، نصره واختاره ، في كتابه مسائل خلافه.

وترد العبيد والإماء ، من أحداث السنة ، مثل الجذام ، والجنون ، والبرص ، ما بين وقت الشراء وبين السنة ، فإن ظهر بعد مضي السنة شي ء من ذلك لم يكن له الرد على حال ، هذا الحكم ما لم يتصرف فيه ، فإن تصرّف في الرقيق في مدة السنة ، سقط الرد ، وحكم له بالأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا المفيد ، محمّد بن محمد بن النعمان ، في مقنعته ، فإنّه قال : ويرد العبد والأمة من الجنون ، والجذام ، والبرص ، ما بين ابتياعهما وسنة واحدة ، ولا يردان بعد سنة ، وذلك أنّ أصل هذه الأمراض ،

ص: 300


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 169.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ.
3- المقنعة : باب المتاجر ، باب العيوب الموجبة للردّ ص 598.

يتقدّم ظهورها سنة ، ولا يتقدّمها بأكثر من ذلك ، فإن وطأ المبتاع الأمة في مدة هذه السنة ، لم يجز له ردّها ، وكان له ما بين قيمتها ، صحيحة وسقيمة ، هذا آخر كلام شيخنا رحمه اللّه في مقنعته (1).

فإن قيل : المذهب مستقر ، في أنّ الخيارين للمشتري في الحيوان بمجرّد العقد ، خيار المجلس ، وخيار الثلاث ، فما يقال في رجل اشترى مملوكا؟ فهل له ردّه على بايعه ، قبل أن يحدث فيه حدثا ، في مدة الثلاثة الأيّام؟ وكذلك له أن يردّه بكل عيب يظهر فيه ، في مدّة الثلاث؟ وهل له ردّه ، بعيب يظهر بعد الثلاث ، من قبل أن يحدث فيه حدثا ، أو يتصرّف فيه؟ وهل إن تصرّف فيه ، ووجد به عيبا بعد تصرفه ، له أن يردّه أم لا؟

قلنا : جميع ما يظهر بالرقيق ، من العيوب بعد الثلاث ، وقبل التصرّف ، لا يردّ منه إلا ثلاثة عيوب ، البرص ، والجذام ، والجنون ، فإنّه يردّ عند أصحابنا ، من هذه الثلاثة عيوب ، إذا وجدت فيه ، ما لم يمض سنة من وقت الشراء ، فأمّا إن تصرّف فيه ، فلا يجوز له الردّ ، ولم يبق فرق بين الثلاثة العيوب وغيرها من العيوب بعد التصرف ، بل له الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، ويسقط الرد.

فإن قيل : فما بقي فرق بين الثلاثة عيوب وغيرها ، وأصحابنا كلّهم يفرّقون بين ذلك ، ويردون من العيوب الثلاثة ، ما بين الشراء وسنة.

قلنا : الفرق بين العيوب الثلاثة وغيرها ظاهر ، وهو أنّ ما يظهر من العيوب بعد الثلاثة الأيام ، وقيل التصرّف لا يرد به الرقيق ، لأنّه ظهر بعد تقضي الثلاثة الأيّام ، التي له الخيار فيها ولم يدل دليل على انها كانت فيه وقت ابتياعه إيّاه ، ولا في مدة الخيار التي هي الثلاثة الأيام ، فأمّا العيوب الثلاثة ، فإنّها متى ظهرت بعد الثلاثة الأيّام ، إلى مدة السنة من وقت البيع ، وقبل التصرّف في

ص: 301


1- المقنعة : باب المتاجر ، باب ابتياع الحيوان ص 600.

الرقيق ، فإنّها ترد بها ، لأنّ الدليل ، وهو الإجماع ، قد دلّ على ذلك ، فقلنا به كما أنّ كلّ عيب يحدث بعد الشراء في مدة الثلاثة الأيّام ، يرد به الرقيق ، إذا لم يكن تصرّف فيه مشتريه ، في الثلاثة الأيّام.

وما بنا حاجة إلى ما قاله شيخنا في مقنعته « من أنّ أصول هذه الأمراض ، يتقدّم ظهورها سنة ، ولا يتقدّمها بأكثر من ذلك » لأنّ هذا يؤدي إلى بطلان البيع ، لأنّ البائع باع ما لا يملك ، لأنّ الرقيق ينعتق بالجذام ، من غير اختيار مالكه ، وانّما الشارع حكم بأنّ الرقيق يرد من هذه الثلاثة عيوب ، ما لم يتصرّف فيه ما بين شرائه وبين سنة ، كما أنه حكم بأنّه يردّ بكل عيب حدث في هذه الثلاثة الأيام ، من وقت ابتياعه ، ما لم يتصرف فيه ، وإن لم يكن وقت ابتياعه فيه ، فبان الفرق بين الثلاثة عيوب ، وبين غيرها من العيوب ، من الوجه الذي قدّمناه وشرحناه.

ولئن خطر بالبال ، وقيل : الفرق بينهما وبين غيرها من العيوب ، هو أنّ غيرها بعد التصرّف ، ليس للمشتري الرد ، والعيوب الثلاثة له الرد بعد التصرّف ، فافترقت العيوب من هذا الوجه لا من الوجه الذي ذكرتموه.

قلنا له : هذا خلاف إجماع أصحابنا ، ومناف لأصول المذهب ، لأنّ الإجماع حاصل ، على أن بعد التصرّف في المبيع ، يسقط الرد ، بغير خلاف بينهم ، والأصول مبنيّة ، مستقرة على هذا الحكم.

فان قيل : فما بقي لاستثنائهم العيوب الثلاثة ، وأنّها تردّ بها الرقيق ، ما بين الشراء وبين سنة معنى ، ولا فائدة.

قلنا : الفائدة والمعنى ، هو الوجه الذي قدّمناه ، ليسلم هذا الإجماع ، والأصول الممهدة المقرّرة ، لأنّ الكلام والأخبار ، في الرد إلى سنة من الثلاثة العيوب مطلق ، لم يذكر فيه تصرّف أو لم يتصرّف ، والشارع إذا خاطبنا بخطاب مطلق ، يجب علينا أن نحمله على إطلاقه وعمومه ، إلا أن يكون له تخصيص وتقييد ، لغويّ

ص: 302

أو عرفيّ ، أو شرعيّ فيرجع في إطلاقه إليه ، لأنّ المطلق يحمل على المقيّد ، إذا كان الجنس واحدا ، والعين واحدة ، والحكم واحدا كما قال تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) (1) فإذا سئلنا عن دم السمك ، هل هو نجس أم لا؟ فجوابنا بأجمعنا أنّه طاهر ، فإن استدل علينا بالآية المتقدّمة ، التي أطلق الدم فيها ، ودم السمك دم بغير خلاف ، قلنا : فقد قال تعالى في آية أخرى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (2) فقيّده بالسفح ، ودم السمك غير مسفوح ، فيجب أن يحمل المطلق على المقيد ، لأنّه حكم واحد ، وعين واحدة ، وجنس واحد ، فإن قيل : هذا قياس ، والقياس عندكم باطل ، قلنا : معاذ اللّه أن يكون ذلك قياسا ، بل أدلة مقرّرة في أصول الفقه ، ممهدة عند من الحكم أصول هذا الشأن ، وكذلك قد يخص العام بالأدلة ، ويحكم بالخاص على العام ، وأمثلة ذلك كثيرة مذكورة في مظانها.

وإذا أبق « بفتح الباء » المملوك عند المشتري ، وكان الإباق حادثا ، ثم وجده ، لم يكن له ردّه على بائعه ، إلا أن يعلم أنّه كان قد أبق أيضا عنده ، فإن علم ذلك ، كان له ردّه ، واسترجاع الثمن ، أو إمساكه ، وأرش العيب.

وما يحدث من العيوب في شي ء من الحيوان ، ما بين حال البيع وبين الثلاثة الأيّام ، كان للمبتاع ردّه ، ما لم يحدث فيه حدثا ، فإن أراد إمساكه ، لم يكن له أرش العيوب الحادثة في مدة الثلاثة الأيّام ، على ما قدّمنا القول فيه ، وحرّرناه ، وإذا حدث بعد انقضاء الثلاثة الأيام ، لم يكن له ردّه ، على حال ، إلا ما استثنيناه من أحداث السنة ، ومتى أحدث المشتري في مدّة الثلاثة الأيّام ، فيه حدثا ، ثمّ وجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، لم يكن له ردّه.

ومن اشترى جارية ، على أنّها بكر ، فوجدها ثيبا ، قال شيخنا أبو جعفر ، في

ص: 303


1- المائدة : 3.
2- الانعام : 145.

نهايته : لم يكن له ردّها ، ولا الرجوع على البائع بشي ء من الأرش ، لأنّ ذلك قد يذهب من العلّة والنزوة (1) ، ورجع في استبصاره (2) ، وقال : يرجع عليه بالأرش ، ما بين قيمتها بكرا وثيبا ، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، والذي أورده في نهايته ، خبر واحد ، راويه زرعة ، عن سماعة ، وهما فطحيان.

هذا على قول من يقول من أصحابنا ، أنّ ذلك ليس بعيب يوجب الرد ، وعلى قول الآخرين يجب بذلك الرد ، واسترجاع الثمن ، أو الإمساك ، وأخذ الأرش ، على ما قدّمناه.

والذي يقوى عندي ، أنّ ذلك ، تدليس يجب به الرد ، إن اختار المشتري ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد ، على أنّ التدليس يجب به الرّد ، ولا إجماع على أنّ من اشترى جارية ، على أنّها بكر ، فخرجت ثيبا ، لا يردّها ، وانّما أورد ذلك شيخنا في نهايته ، واختاره في باقي كتبه ، ولم يورد فيه غير خبرين ، أحدهما عن زرعة ، عن سماعة ، وقد قلنا : ما فيهما ، والآخر ، عن يونس بن عبد الرحمن ، وهذا الرجل عند المحققين لمعرفة الرواة والرجال ، غير موثوق بروايته ، لأنّ الرضا عليه السلام كثيرا يذمه ، وقد وردت أخبار عدة بذلك ، وبعد هذا ، فلو كان ثقة عدلا ، لا يجب العمل بروايته ، لأنّه واحد ، وأخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وشيخنا المفيد في مقنعته ما تعرض لذلك ولا عمل به ، ولا أفتى بما ذكره شيخنا في نهايته ، وكان المفيد رحمه اللّه عالما بالأخبار ، وبصحتها ، وبالرجال وثقتها.

وقد روي أنّ من اشترى جارية لا تحيض في مدّة ستّة أشهر (3) ، ومثلها تحيض ، كان له ردّها ، لأنّ ذلك عيب ، هذا إذا لم يتصرّف فيها ، أورد ذلك

ص: 304


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
2- الاستبصار : كتاب البيوع ، باب من اشترى جارية « إلخ » وفي الوسائل : الباب 6 من أبواب أحكام العيوب ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العيوب ، ح 1.

شيخنا في نهايته (1) ، من طريق خبر الواحد ، إيرادا لا اعتقادا.

ومن اشترى زيتا أو بزرا ووجد فيه درديا ، فإن كان يعلم أنّ ذلك يكون فيه ، لم يكن له ردّه ، لأنّه قد علم بالعيب قبل الشراء ، وإن كان غير عالم ، كان له ردّه.

وقال شيخنا في نهايته : ومن اشترى شيئا ، ولم يقبضه ، ثمّ حدث فيه عيب ، كان له ردّه ، وإن أراد أخذه وأخذ الأرش ، كان له ذلك (2).

إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فإنّه قال : كل عيب يحدث بعد عقدة البيع ، لا يجبر البائع على بذل الأرش ، وإنّما يستحق الأرش بالعيب الذي يكون بالمبيع قبل عقدة البيع ، لأنّه باعه معيبا ، فأمّا ما يحدث بعد البيع ، فلا يستحق به أرش ، لأنّه ما باعه معيبا ، بل له الرد فحسب ، أو الرضا بالإمساك بغير أرش ، إذا لم يتصرّف فيه ، أو لم يقبضه (3).

وإلى هذا القول ، يذهب شيخنا المفيد ، في مقنعته (4) ، وهو الصحيح من الأقوال ، وبه أفتي ، وعليه أعمل ، وقد حرّرنا ذلك فيما تقدّم ، وشرحناه.

ومتى هلك المبيع كلّه قبل القبض ، أو التمكّن من القبض ، بأن لا يمكن البائع المشتري منه كان من مال البائع ، دون مال المبتاع.

وإذا اختلف البائع والمشتري في شرط ، يلحق بالعقد ، ويختلف لأجله الثمن ، مثل ان قال : بعتك نقدا ، فقال المشتري : بل إلى سنة ، أو قال : إلى سنة ، فقال المشتري : إلى سنتين ، وهكذا ، الخيار ، إذا اختلفا في أصله ، أو قدره ، فالقول قول البائع مع يمينه ، وإذا اختلفا في شرط يفسد البيع فقال البائع : بعتك إلى أجل معلوم ، وقال المشتري : إلى أجل مجهول ، أو قال : بعتك بدراهم أو دنانير ، فقال : بل بخمر أو خنزير ، أو قال : بعتك معلوما ، فقال المشتري : بل

ص: 305


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
3- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 178 ، تكون بهذا المضمون ، الا ان المسألة بهذه العبارة ما وجدناها.
4- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب العيوب الموجبة للرد ص 596.

بعتني الشي ء مجهولا ، كان القول قول من يدعي الصحة ، وعلى من ادعى الفساد ، البيّنة ، لأنّ الأصل في العقد الصحة ، فقد اتفقا على العقد ، فمن ادّعى الفساد ، فعليه الدلالة.

قال شيخنا في مسائل خلافه : إذا باع شيئا بثمن في الذمة ، أو كان البيع عينا بعين ، فقال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن ، وقال المشتري : لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع ، فعلى الحاكم أن يجبر البائع على تسليم المبيع أولا ، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن ، بعد ذلك بعد أن يحضر المبيع والثمن ، ثمّ قال : دليلنا على ما قلنا ، أن الثمن انّما يستحق على المبيع ، فيجب أولا تسليم المبيع ، ليستحق الثمن ، فإذا سلّم المبيع ، استحق الثمن ، فوجب حينئذ إجباره على تسليمه ، فلا بدّ إذن ممّا قلناه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : لو عكس عاكس على شيخنا استدلاله ، في قوله : « إنّ الثمن انّما يستحق على المبيع » فيقول له : وكذلك انّ المبيع إنما يستحق على الثمن ، وفي مقابلته ، لأنّهما عوضان ، كل منهما يستحق في مقابلة صاحبه فلا فرق بينهما ، فلأيّ شي ء يجبر أحدهما على تسليم ما يستحق عليه في مقابلة ما يستحقه ، قبل صاحبه ، فإذا لم يكن على ذلك دليل ، من إجماع أصحابنا ، ولا وردت له بذلك أخبار ، لا آحادا ولا متواترا ، فيرجع في ذلك إلى الدليل ، وهو أن يجبر الحاكم كل واحد منهما على تسليم ما قبله في مقابلة ما يستحقه معا ، ولا يجبر أولا أحدهما قبل صاحبه ، أو يستعمل في ذلك القرعة ، لأنّه داخل في قولهم عليهم السلام : القرعة في كل أمر مشكل (2) والأول أقوى.

باب السّلف

وهو السّلم بفتح السين واللام ، في جميع المبيعات ، السّلم بيع موصوف في

ص: 306


1- الخلاف : كتاب البيوع المسألة 239 - 240.
2- الوسائل : أورد روايات بهذا المضمون في الباب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.

الذمّة ، إلى أجل محروس من الزيادة والنقصان ، إما بالشهور والأيّام ، أو السنين والأعوام.

ومن شرط صحته ، قبض الأثمان ، قبل التفرّق من المجلس ، بخلاف بيع الأعيان ، فالسّلف على هذا جائز ، في جميع المبيعات التي تضبط بالصفات ، إذا جمع شروطا ، أحدها تمييز الجنس من غيره من الأجناس ، وتحديده بالوصف ، وضبطه بالصفة ، التي يمتاز بها من جنسه ، وتبينه من غيره ، وذكر الأجل المحروس على ما قدّمناه ، وقبض الثمن قبل التفرق من المجلس ، وتقدير المبيع إن كان مكيلا أو موزونا بمكيال ، وصنجة ، بالصّاد معلومين عند العامة ، فإن قدّراه بمكتل أو صخرة ، لم يجز ، لأنّ ذلك مجهول في حال العقد ، فإن عينا مكيال رجل بعينه ، وهو مكيال معروف ، أو عيّنا صنجة رجل بعينه ، وهي صنجة معروفة ، جاز السّلم فيه ، ولا يتعيّن ذلك المكيال ، ولا تلك الصنجة ، لكن يتعلّق بجنس مثل ذلك المكيال ، أو مثل تلك الصنجة ، لأنّ الغرض في قدره ، لا عينه ، فإذا جمع الشروط المقدّم ذكرها جميعا ، صحّ البيع.

وكلّ شي ء لا يتحدّد بالوصف ، ولا يمكن ذلك فيه لا يصح السّلف فيه.

ولا يجوز أن يكون ذكر الأجل بما لا يتعيّن ، مثل قدوم الحاج ، ودخول القوافل ، وإدراك الغلات ، وهبوب الرياح ، وما يجري مجرى ذلك.

وإذا أسلف الإنسان في شي ء من الثياب ، ينبغي أن يعيّن جنسها ، ويذكر صفتها ، من طولها ، وعرضها ، وغلظها ، ودقتها ، ولونها ، فإن أخل بشي ء من ذلك ، كان العقد باطلا. ولا يجوز أن يذكر في الثوب نساجة إنسان بعينه ، أو غزل امرأة بعينها ، فإن اشتراه كذلك ، كان البيع باطلا.

وإذا أسلف في طعام ، أو شي ء من الغلات ، فليذكر جنسه ، ويعيّن صفته ، على ما قدّمناه ، فإن لم يذكر ذلك ، لم يصح البيع ، وكان باطلا ، ولا يذكر ان تكون الغلّة من أرض بعينها ، أو من قرية مخصوصة ، فإن اشتراه كذلك ، لم يصح الشراء ، وكان باطلا ، ولم يكن المبيع مضمونا ، لأنّه إذا اشترى الحنطة مثلا من

ص: 307

أرض بعينها ، ولم تخرج الأرض الحنطة ، لم يلزم البائع أكثر من ردّ الثمن ، ومتى اشتراه ولم ينسبه إلى أرض بعينها ، كان لازما في ذمّته إلى أن يخرج منه.

ولا بأس أن يسلف الإنسان في شي ء ، وإن لم يكن للمستسلف شي ء من ذلك ، غير أنّه إذا حضر الوقت ، اشتراه ، ووفّاه ، إيّاه ، بخلاف بيوع الأعيان ، لأنّ السلف في الذمة ، فيجوز بيعه ، وإن لم يكن مالكا له ، وأمّا بيوع الأعيان ، فلا يجوز بيعها إلا بعد ملكها ، لأنّها إذا هلكت قبل التسليم بطل العقد ، لأنّ العقد وقع على عين ، فانتقاله إلى عين اخرى يحتاج إلى دليل ، وأمّا بيوع الذمم فما وقع ، على عين ، بل على ما في ذمة البائع ، فافترق الأمران.

وقد قلنا : لا يجوز السلف فيما لا يتحدّد بالوصف ، مثل الخبز واللحم ، وروايا الماء ، فأمّا السلف في الماء نفسه أرطالا ، إذا ضبطه بالوصف ، فلا بأس به ، وإنّما منع أصحابنا من السلف في الخبز واللحم وروايا الماء ، لاختلافها في الكبر والصغر ، فإنها لا تضبط بالتحديد ، فإن حدّدها براوية معلومة ، لا يصح ذلك ، لأنّ السلف في الذمّة ، وربما هلكت تلك الراوية ، فيبطل السلف ، كما قلنا في المكيل والموزون ، لا يجوز أن يقدرا بمكتل ، والمكتل بالتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، الزّنبيل ، ولا صخرة بل بالمكائيل العامة ، والصّنج المعروفة عند العامة ، وليس كذلك روايا الماء ، ولأنّ الخبز واللحم ، لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه.

ولا بأس بالسلم في الحيوان كلّه ، إذا ذكر الجنس والأوصاف ، والأسنان من الإبل ، والبقر ، والغنم ، والخيل ، والبغال ، والحمير ، والرقيق ، وغير ذلك من أجناس الحيوان.

قال شيخنا في مبسوطة : وإذا أسلم في اللبن ، ووصفه بأوصاف السمن ، ويزيد فيه ذكر المراعى (1) ، فيقول : لبن عواد ، أو أوارك ، أو حمضية ، وذلك اسم للكلاء ، فالحمضية الإبل التي ترعى النبات ، الذي فيه الملوحة ، والعوادي ، فهي الإبل التي ترعى ماحلا من النبات ، وهو الخلّة فيقول العرب : الخلّة خبز الإبل ،

ص: 308


1- ج : المرعى.

والحمض تسمى فاكهتها ، فإذا كانت الإبل ترعى الخلّة ، سميت عوادي ، وإذا كانت ترعى في الحمض ، سميت أوارك ، وتسمى حمضيّة ، إلى هاهنا كلام شيخنا (1).

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : قال الجوهري في كتاب الصحاح : الأراك شجر من الحمض الواحدة أراكة. وأركت الإبل ، تأرك أروكا : إذا رعت الأراك ، وقال أركت أيضا ، إذا أقامت في الأراك ، وهو الحمض ، فهي آركة ، قال كثير :

فإنّ الذي ينوي من المال أهلها *** أوارك لمّا تأتلف وعوادي

يقول : إنّ أهل عزّة ينوون أن لا يجتمع هو وهي ، ويكونان كالأوارك من الإبل والعوادي ، في ترك الاجتماع في مكان ، هذا آخر قول الجوهري (2).

فمعنى قول شيخنا أوارك ، جمع آركة ، وهي التي ترعى الحمض ، وهو الأراك المقيمة فيه ، فاشتقاقها من ذلك ، والعوادي : الإبل التي تأكل الخلّة ، بضمّ الخاء ، وهو ما حلا من النبت ، وأحدها عادية ، وجمعها عوادي ، والشاهد على ذلك بيت كثير ، المقدّم ذكره ، يقول : لا تأتلف الإبل الأوارك والعوادي ، لاختلافها في المرعى.

فإذا أسلم الإنسان في شي ء ممّا ذكرناه ، ثم حل الأجل ، ولم يكن عند البائع ما يوفيه إيّاه ، جاز له أن يأخذ منه رأس المال ، من غير زيادة عليه ، فإن أعطاه البائع مالا ، وجعل إليه أن يشتري له ما كان باعه إيّاه ، ووكله في ذلك ، ثم بعد ذلك وكله في قبضه ، وأمره بقبضه لنفسه ، لم يكن به بأس ، والأفضل أن يتولى ذلك غيره.

وإن حضر الأجل ، وقال البائع : خذ مني قيمته الآن ، جاز له أن يأخذ منه في الحال ، ما لم يزد ثمنه على ما كان أعطاه إيّاه ، فإن زاد على ذلك ، لم يجز بيعه إيّاه ، هذا إذا باعه بمثل ما كان اشتراه من النقد ، فإن اختلف النقدان ، بأن

ص: 309


1- المبسوط : كتاب السلم ، ج 2 ، ص 180.
2- الصحاح : ج 4 ، ص 1572.

يكون قد اشتراه بالدراهم والدنانير ، وباعه إيّاه في الحال بشي ء من العروض ، والمتاع ، أو الغلات ، أو الرقيق ، والحيوان ، لم يكن بذلك بأس ، وإن كان لو قوم ما يعطيه في الحال ، زاد على ما كان أعطاه إيّاه ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وقال غيره من أصحابنا : يجوز أن يبيعه من الذي هو عليه ، إذا حضر الأجل وحلّ ، بمثل ما باعه إيّاه (2) ، وأكثر منه ، وأقل ، إذا عيّن الثمن وقبضه قبل (3) التفرق من المجلس ، لئلا يصير بيع دين بدين ، سواء كان من جنس الثمن الأوّل ، أو من غير جنسه.

وهذا هو الصحيح من الأقوال ، والذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّه باع حنطة مثلا ، أو شعيرا أو ثيابا ، أو حيوانا بدراهم ، أو دنانير ، ولم يبع دنانير بدنانير ، بأزيد منها وأكثر ، لأنّه بلا خلاف بيننا ، ما يستحق في ذمّة المسلم إليه ، إلا المسلم فيه ، دون الدنانير التي هي الأثمان ، فما يبيعه إلا المسلّم فيه ، دون الثمن الأول ، لأنّ الثمن الأول ما يستحقه ، بل الذي يستحقه هو السلعة المسلم فيها ، بغير خلاف ، فإذا كان كذلك فله أن يبيعها بما شاء من الأثمان ، ويلزم من ذهب إلى القول الأول من أصحابنا ، أنّه ما يستحق عليه إلا الثمن ، دون المثمن ، فيعقد معه ، ويبيعه ذهبا بذهب ، ولا خلاف أنّه لا يستحق عليه ذهبا.

وأيضا فإنّه يهرب من الربا ، والربا يكون في الجنس الواحد ، بعضه ببعض ، وزيادة وهذا بيع جنس وبغيره ، وهذا ليس هو ربا.

وأيضا فإن اللّه تعالى قال « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بلا خلاف ، فمن أبطله ، يحتاج إلى دليل. وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (4) وأيضا فلا يرجع في فساد هذا البيع إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا

ص: 310


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.
2- ج : ما أعطاه إياه.
3- ج : عيّن الثمن قبل.
4- المقنعة : باب البيع بالنقد والنسيئة من أبواب المكاسب ، ص 595.

عملا ، مع أنّه قد ورد أخبار بصحّة البيع ، معارضة لتلك الأخبار.

وكلام شيخنا في مقنعته ، هو أن قال : ومن ابتاع من إنسان متاعا غير حاضر إلى أجل ، ثم باعه منه ، قبل حلول الأجل بزيادة ، أو نقصان ، كان بيعه باطلا ، فإن جاء الأجل ، لم يكن بأس ببيعه إيّاه ، بأقلّ ممّا ابتاعه منه ، أو أكثر ، سواء حضر المتاع ، أو لم يحضر ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه (1).

وقال أيضا في جواب المسائل التي سأله عنها محمد بن محمّد بن الرّملي الحائري ، وهي مشهورة معروفة عند الأصحاب ، سؤال وعن رجل أسلف رجلا مالا على غلّة ، فلم يقدر عليها المستلف ، فرجع إلى رأس المال ، وقد تغيّر عيار المال إلى النقصان ، هل له أن يأخذ من العيار الوافي ، أو العيار الذي قد حضره ، وهو دون الأوّل؟ جواب لصاحب السلف أن يأخذ من المستلف غلة ، كما أسلفه على ذلك ، ويكلّفه ابتياع ذلك له ، فإن لم يوجد غلّة ، كان له بقيمة الغلّة في الوقت ، عين أو ورق ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه (2) وهو الصحيح.

وكذلك من باع طعاما ، قفيزا بعشرة دراهم ، مؤجلا ، فلمّا حلّ الأجل ، أخذ بها طعاما ، سواء زاد على طعامه الذي باعه إيّاه ، أو نقص ، لأنّ ذلك بيع طعام بدراهم لا بيع طعام بطعام ، فلا يحتاج إلى اعتبار المثلية.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة إذا باع طعاما ، قفيزا بعشرة دراهم مؤجلة ، فلمّا حلّ الأجل أخذ بها طعاما ، جاز ذلك ، إذا أخذ مثله ، فإن زاد عليه لم يجز ، وقال الشافعي : يجوز على القول المشهور ، ولم يفصل ، وبه قال بعض أصحابنا ، وقال مالك : لا يجوز ، ولم يفصل ، دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم ولأنّ ذلك يؤدّي إلى بيع طعام بطعام ، فالتفاضل فيه لا يجوز ، والقول الآخر الذي لأصحابنا قوي ، وذلك أنّه بيع طعام بدراهم ، في القفيزين معا ، لا

ص: 311


1- المقنعة باب البيع بالنقد والنسية من أبواب المكاسب ص 596
2- لا يوجد الكتاب بأيدينا.

بيع طعام بطعام ، فلا يحتاج إلى اعتبار المثلية ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر (1).

فانظر أرشدك اللّه ، إلى استدلال شيخنا ، فإنّه قال : واقر ، أنّ بعض أصحابنا يذهب في المسألة إلى خلاف ما اختاره رحمه اللّه ثم استدل بإجماع الفرقة ، إلا أنّه عاد في آخر الاستدلال إلى الحقّ ، ورجع عمّا صدّره ، ونقض ما بناه أولا ، ولم ينقض ما استدل به آخرا.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه الإستبصار (2) ، في الجزء الثالث ، في كتاب البيوع ، باب العينة ، وأورد أخبارا فيها ذكر العينة.

قال محمّد بن إدريس : « العينة بالعين غير المعجمة ، المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والنون المفتوحة ، والهاء ، وهي السلف عند أهل اللغة ، ذكر ذلك الجوهري في الصحاح ، وابن فارس في المجمل ، فأحببت إيضاحها ، لئلا يجري فيها تصحيف.

ولا يجوز السلم في جلود الغنم ، لأنّها لا يمكن ضبطها بالوصف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس بالسلم في مسوك الغنم ( وأراد بمسوك الغنم ، جلود الغنم ، لأنّ المسك ، بفتح الميم ، وسكون السين ، الجلد ) إذا عين الغنم ، وشوهد الجلود ، ولم يجز ذلك مجهولا (3).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، ولا مستقيم ، من وجوه ، أحدها انّه لا يمكن ضبطها بالوصف ، لاختلاف ذلك وتباينه ، والثاني قوله إذا شوهد الجلود ، وعيّن الغنم ، لأنّ السلم يكون في ذمة البائع ، بحيث يكون مضمونا عليه ، ولا يجوز أن يكون معينا في سلعة بعينها ، أو ينسب إلى شجرة بعينها ، أو غزل امرأة معيّنة ، أو الحنطة من أرض معيّنة ، وإذا عيّن الغنم ، وشوهد الجلود ، بطل السلف بغير خلاف ، لأنّ الغنم إذا هلكت بطل السلم ، ولهذا لا يجوز السلم في الدّور ،

ص: 312


1- الخلاف ، كتاب البيوع ، المسألة 166.
2- الإستبصار : ج 3 ، ص 79.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

لأنّ ذلك البيع لا بد له من الوصف ، الذي يتميز به من غيره ، فإذا عين الموضع ، ووصفها ، بطل السلف فيها ، لأنّها تصير بيع الأعيان ، والسلم بيع الذمم.

وقد رجع شيخنا عمّا ذكره في نهايته ، في مبسوطة ، فقال : ويجوز السلف في جلود الغنم إذا شاهدها ، وروي أنّه لا يجوز ، وهو الأحوط ، لأنّه مختلف الخلقة واللون ، ولا يمكن ضبطه بالصفة ، لاختلاف خلقته ، ولا يمكن ذرعه ، ولا يجوز وزنه ، لأنّه يكون ثقيلا ، وثمنه أقل من ثمن الخفيف ، قال رحمه اللّه : وعلى هذا لا يجوز السلف في الرق ( قال محمّد بن إدريس : الرق - بفتح الراء - جلود تعمل ، يكتب فيها ) ولا فيما يتخذ من الجلود ، من قلع ونعال مقدودة محذوّة ، وخفاف وغير ذلك ، لاختلاف خلقة الجلد ، ولا يمكن ضبطه بالصفة ، ويجوز السلف في القرطاس ، إذا ضبط بالصفة ، كما تضبط الثياب هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

وقال شيخنا أبو جعفر أيضا ، في مبسوطة : العلس ، صنف من الحنطة ، يكون فيه حبتان ، في كمام ، فيترك كذلك ، لأنّه أبقى له ، حتى يراد استعماله ، فيلقى في رحى ضعيفة ، فيلقى عنه كمامه ، ويصير حبا ، ( قال محمد بن إدريس : العلس بالعين غير المعجمة المفتوحة ، واللام المفتوحة ، والسين غير المعجمة ) ثم قال رحمه اللّه : القول فيه كالقول في الحنطة في كمامها ، لا يجوز السلف فيه ، إلا ملقى عنه كمامه ، لاختلاف الأكمام ، وكذلك القول في القطنية ، لا يجوز أن يسلف في شي ء منها ، إلا بعد طرح كمامها عنها ، حتى يرى ، ولا يجوز حتى تسمى حمصا ، أو عدسا ، أو جلبانا أو ماشا ، وكل صنف منها على حدّته ، وهكذا كل صنف من الحبوب يوصف ، كما توصف الحنطة ، يطرح كمامها ، دون قشوره ، لأنّه لا يجوز أن يباع بكمامه (2).

قال محمّد بن إدريس : القطنية بكسر القاف ، وسكون الطاء غير المعجمة ،

ص: 313


1- المبسوط : كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ج 2 ، ص 189.
2- المبسوط : كتاب السلم ، ج 2 ، ص 174.

وكسر النون ، وسميت قطنية ، لأنّها تقطن في البيوت ، وهي العدس ، والحمص وأمثال ذلك ، فأمّا الجلبان بالجيم المضمومة ، واللام المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، والألف والنون ، فهو شي ء يشبه الماش هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، فأمّا الجلجلان ، فهو السمسم بغير خلاف بين أهل اللغة ، وقال بعضهم : إنّه الكزبرة.

ولا بأس بالسلف في الفواكه ، كلّها ، إذا ذكر جنسها ، ولم ينسب إلى شجرة بعينها.

ولا بأس بالسلف في الشيرج ، والبذر ، إذا لم يذكر أن يكون من سمسم بعينه ، أو حب كتان بعينه ، فإن ذكر ذلك كان البيع باطلا.

ولا بأس بالسلف في الألبان والسمون ، إذا ذكر أجناسها.

ومتى أعطي الإنسان غيره قرضا دراهم أو دنانير ، أو كان له عليه دين من ثمن مبيع ، أو أرش جناية ، أو مهر ، أو اجرة ، وغير ذلك ، وأخذ منه شيئا من المتاع ، ولم يساعره في حال ما أعطاه المال ، كان عليه المتاع بسعر يوم قبضه ، دون يوم قبض المال.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، في أجل لم يكن قد حضر وقته ، وإنّما يجوز له بيعه إذا حلّ الأجل ، فإذا حضر ، جاز له أن يبيع على الذي عليه ، بزيادة من الثمن ، الذي اشتراه به ، أو نقصان وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) : أو على غيره من الناس ، وإن باع على غيره ، وأحال عليه المتاع ، كان ذلك جائزا ، وان لم يقبض هو المتاع ، ويكون قبض المبتاع الثاني قبضا عنه ، وذلك فيما لا يكال ولا يوزن ، ويكره ذلك فيما يدخله الكيل والوزن ، فإن وكل المبتاع منه بقبضه ويكون هو ضامنا لم يكن به بأس على كل حال (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : قد حرّرنا القول في بيع الدين ، وقلنا إنّه لا

ص: 314


1- مراده قدس سره ، أنّ الشيخ « رحمه اللّه » في نهايته زاد على قوله : « على الذي عليه » قوله : أو على غيره من الناس ، فراجع.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

يجوز الأعلى من هو عليه ، وشرحناه وأوضحناه في باب الديون ، بما لا طائل في إعادته.

ولا بأس أن يبتاع الإنسان ما اكتاله غيره من الناس ، ويصدقه في قوله ، لأنّ الاخبار من البائع بالوزن أو الكيل ، يقوم مقام الوزن والكيل ، في ارتفاع الجهالة بالمكيل والموزون ، ويكون القول في ذلك قول المشتري ، لأنّه جعله أمينه في كيله ووزنه ، فأمّا إذا كاله بحضوره ، ووزنه بحضوره ، ثم انفصلا ، ثم ادّعى بعد ذلك المشتري نقصانا ، فالقول قول البائع مع يمينه ، بخلاف الأوّل ، وقد روي أنّه إذا أخذه بقول البائع ثم أراد بيعه ، لم يبعه إلا بالكيل (1).

ولو قلنا إنّه إذا أخبره بما أخبر به البائع الأول ، لم يكن به بأس ، وجاز البيع ، ويكون القول قول المشتري في ذلك ، مثل المسألة الأولى ، لأنّ الغرر والجهالة ، قد زالت باخباره عن خبر البائع بكيله أو وزنه.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا ، وكذلك حكم ما يباع عددا فلا يجوز بيعه جزافا.

وإذا اشترى الإنسان شيئا بالكليل أو الوزن ، وغيره ، فزاد ، أو نقص منه شي ء يسير ، لا يكون مثله غلطا ، ولا تعدّيا ، لم يكن به بأس ، فإن زاد ذلك أو نقص شيئا كثيرا ، ولا يكون مثله إلا غلطا أو تعمدا أو تعديا ، وجب عليه رده على صاحبه ما زاد ، وكان فيما نقص بالخيار في محاكمة خصمه ، إن شاء طالبه به ، وإن شاء ترك محاكمته.

ومن أسلم في متاع موصوف ، ثم أخذ دون ما وصف برضى منه ، كان ذلك جائزا ، وكذلك إن أعطى فوق ما وصف ، برضى من الذي باعه ، لم يكن به بأس ، فإن طلب البائع على الجودة عوضا ، لا يجوز له أخذه ، لأنّ الجودة صفة لا يجوز إفرادها بالبيع.

ص: 315


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 4 و 8.

ولا بأس بالسلف في الصوف ، والشعر ، والوبر ، إذا ذكر الوزن فيه ، والجودة والصفات التي يمتاز بها من غيره.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أسلف في الغنم ، وشرط معه أصواف نعجات بعينها ، كائنا ما كان ، لم يكن به بأس (1).

قال محمّد بن إدريس : إن جعل في جملة السلف أصواف النعجات المعينة ، فلا يجوز السلف في المعيّن ، على ما مضى شرحنا له.

وبيع الصوف على ظهر الغنم أيضا لا يجوز ، سواء كان سلفا أو بيوع الأعيان ، وإنما هي رواية أوردها شيخنا في نهايته (2) إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يسلف السمسم بالشيرج ، ولا حبّ الكتان بدهنه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا الكتان بالبزر (3).

ومقصوده بذلك ، ما ذكرناه ، لأنّه حذف المضاف ، واقام المضاف إليه مقامه ، وذلك كثير في كلام العرب ، وإلا ان أراد الكتان الذي هو الشعر الذي يغزل ، فلا بأس بأن يسلفه بالبزر ، بغير خلاف.

ولا بأس بالسلف في جنسين مختلفين ، كالحنطة والشعير ، عند من جعلهما جنسين ، أو كالحنطة والأرز ، والتمر والزبيب ، والمروي ، والحرير.

قال محمّد بن إدريس : المروي ثياب منسوبة إلى مرو ، يقال لمن يعقل في النسبة إلى مرو : مروزيّ ، وفيما لا يعقل من الثياب وغيرها : مروي ، بإسقاط الزاي ، فهذا الفرق بينهما ، فلأجل ذلك قال الشارع : المروي والحرير ، وما أشبه ذلك من الأنواع المختلفة الأجناس ، بعد أن يذكر المبيع ويميّز بالوصف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب البيوع ، مسألة : إذا انقطع المسلم فيه ، لم ينفسخ البيع ، وبقي في الذمة ، وللشافعي فيه

ص: 316


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

قولان ، أحدهما أنّه ينفسخ ، والآخر له الخيار ، إن شاء رضي بتأخيره إلى قابل ، وإن شاء فسخه ، دليلنا ان هذا عقد ثابت ، وفسخه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه ، هذا آخر المسألة (1).

وقال رحمه اللّه أيضا ، في الجزء الثاني من كتاب السلم ، مسألة : إذا أسلم في رطب إلى أجل ، فلمّا حلّ الأجل لم يتمكن من مطالبته ، لغيبة المسلم إليه ، أو غيبته ، أو هرب منه ، أو توارى من سلطان ، وما أشبه ذلك ، ثم قدر عليه ، وقد انقطع الرطب ، كان المسلف بالخيار ، بين أن يفسخ العقد ، وبين أن يصبر إلى عام القابل (2).

قال محمد بن إدريس : والمسألة الأولى ، القول فيها هو الصحيح ، دون الأخيرة ، لأنّ الأخيرة اختار شيخنا رحمه اللّه فيها أحد قولي الشافعي ، دليلنا على أنّ العقد لا ينفسخ ، ولا يكون للمشتري الخيار في الفسخ ، ما دلّ عليه رحمه اللّه ، وهو أنّ العقد ثابت بالإجماع ، وقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وفسخه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

ويجوز السلف في المعدوم ، إذا كان مأمون الانقطاع ، في وقت المحل.

السلم لا يكون إلا مؤجلا على ما قدّمناه ، قصر الأجل ، أو طال ، ولا يصحّ أن يكون حالا.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا كان السلم مؤجلا ، فلا بدّ من ذكر موضع التسليم ، فإن كان في حمله مئونة لا بدّ من ذكره (3).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب إلى هذا أحد من أصحابنا ، ولا ورد به خبر عن أئمتنا عليهم السلام ، وانّما هذا أحد قولي الشافعي ، اختاره شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، ألا تراه في استدلاله لم يتعرض لإجماع الفرقة ، ولا أورد خبرا في ذلك ، لا من طريقنا ، ولا من طريقة المخالف ، وليس من شرط صحة السلم ، ذكر

ص: 317


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 165.
2- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 2 - 9.
3- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 2 - 9.

موضع التسليم ، بغير خلاف بين أصحابنا ، والأصل براءة الذمة ، وقوله تعالى : « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، وقوله « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد.

يجوز السلم في الأثمان ، من الدنانير والدراهم ، إذا كان رأس المال من غير جنسها ، مثل الثياب والحيوان وغيرهما.

الإقالة فسخ في عقد المتعاقدين ، وليست ببيع ، وإذا أقاله بأكثر من الثمن ، أو بأقل كانت الإقالة فاسدة ، دليلنا انّ كل من قال بأنّ الإقالة فسخ على كل حال ، قال بهذه المسألة ، فالفرق بين الأمرين خارج عن الإجماع.

ولا يجوز السلف في الجوز ، والبيض والرمان ، والبطيخ ، والبقول ، كلّها إلا وزنا.

إذا أسلم مائة درهم في كر طعام ، وشرط أن يعجل خمسين درهما ، في الحال ، وخمسين إلى أجل ، وعجّل خمسين ، وفارقه ، لم يصح السلم في الجميع ، وإن شرط خمسين نقدا ، وخمسين كانت دينا له في ذمّة المسلّم إليه ، فإنّه لا يصحّ في الدين ، ويصح في النقد ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، ونهى الرسول عليه السلام عن بيع الدين بالدين (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : يجوز السلف في الزاووق ، وهو الزئبق ، وقال : يجوز السلف في النقل ، وهو الأحجار الصغار ، وقال : يجوز السلف في القضة (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الزاووق بالزاء المعجمة ، المفتوحة ، بهمزة فوق الألف ، وواوين بعد الألف ، والقاف ، والنقل بالنون المفتوحة ، والقاف المفتوحة ، واللام ، والقضّة ، بالقاف المكسورة ، والضاد المعجمة المفتوحة المشدّدة ، ضبطت ذلك لئلا يقع فيه تصحيف (3).

إذا اختلفا في قدر المبيع ، أو قدر رأس المال ، وهو الثمن ، أو في الأجل أو في

ص: 318


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب الدين والقرض ، ح 1 ، ولفظه هكذا : عنه صلى اللّه عليه وآله : لا يباع الدين بالدين.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ص 184.
3- ل : قال في المبسوط : القضة هي الجصّ.

قدره ، كان القول قول البائع مع يمينه ، إلا في الثمن ، فانّ القول قول المشتري مع يمينه.

فإن قيل : فقد قلتم إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن ، كان القول قول البائع ، فكيف قلتم هاهنا القول قول المشتري.

قلنا : القول قول البائع في الثمن ، إذا كانت بيوع الأعيان ، وكانت العين قائمة غير تالفة ، فأمّا بيوع السلم ، فالأعيان في الذمم غير موجودة ، بل هي معدومة فافترق الأمران.

ولا يجوز السلف في العقار ، لأنّهما إذا أطلقا الوصف من غير تعيين ، لم يجز ، لأنّه يختلف باختلاف الأماكن ، والقرب من البلد ، والبعد منه ، وإن عيّن البقعة لم يجز ، لأنّه إن قيل من القرية الفلانية ، اختلف باختلاف أماكنه ، وإن عيّن أرضا بعينها ، لا يصحّ ، لأنّ بيع العين بصفة ، لا يجوز ولا يصحّ.

إذا أتى المسلم إليه ، بالمسلم فيه ، فإن كان على صفته بعد حلول الأجل ، لزم المشتري قبوله ، لأنّه أتى بما تناوله العقد ، فإن امتنع ، قيل له : إمّا أن تقبله ، وإمّا أن تبرئه منه ، لأنّ للإنسان غرضا في تبرئة ذمته من حق غيره ، وليس لك أن تبقيه في ذمته بغير اختياره وبراءته يحصل بقبض ما عليه ، أو إبرائه منه ، فأيّهما فعل جاز ، وإن امتنع قبضه الإمام ، أو النائب عنه ، عن المسلّم إليه ، وتركه في بيت المال ، إلى أن يختار قبضه ، ويبرأ المسلّم إليه منه ، ولم يجز للحاكم إبراؤه منه بالإسقاط عن ذمّته ، لأنّ الإبراء لا يملك بالولاية ، وقبض الحق يملك بالولاية.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : ويجوز السلف في القثاء ، والخيار ، والبطيخ ، والفجل ، والجزر ، والفواكه ، كلّها من الرمان ، والسفرجل ، والفرسك ( قال محمد بن إدريس : الفرسك بالفاء المكسورة ، والراء المسكنة ، غير المعجمة ، والسين غير المعجمة المكسورة ، والكاف ، وهو الخوخ ) وفي البقول كلّها ، ولا يجوز جميع ذلك الا وزنا ، ولا يجوز عددا ، لأنّ فيه صغيرا وكبيرا ، وكل ما

ص: 319

أنبتته الأرض ، لا يجوز السلف فيه إلا وزنا إلا ما خرج بالدليل من المكيل (1).

قال شيخنا في المبسوط : ويجوز السلف في الزاووق ، يعني الزئبق ، والزاووق بالزاء المعجمة ، والألف وواوين ، وقاف ، وذكر جواز السلم في السقمونيا ، وذكر شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطة الإهليلج والبليلج والسقمونيا ونحو ذلك من العقاقير ، فيه الربا ، لأنّه من الموزون (2).

قال محمّد بن إدريس : الإهليلج ، والبليلج ، من الأخلاط ، من عقاقير الأدوية ، والسقمونيا لبن شجرة يسيل منها سيلا.

وذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في كتاب السلم ، في صفات الإبل والسلم فيها : ويستحب أن يذكر بريئا من العيوب ، ويسمّى ذلك غير مودن (3).

قال محمّد بن إدريس : المودن ، بالميم المضمومة ، والواو الساكنة والدال المفتوحة غير المعجمة ، والنون ، هو الضاوي بالضاد المعجمة.

وذكر أيضا رحمه اللّه ، في آجال السلف : والمجهول أن يقول إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، ثمّ قال : ولا يجوز إلى فصح النصارى ، ولا إلى شي ء من أعياد أهل الذمة ، مثل السعانين والفطير (4).

قال محمّد بن إدريس : فصح النصارى ، بالفاء والصاد غير المعجمة ، والحاء غير المعجمة مكسورة الفاء ، مسكن الصاد ، وهذا العيد عند النصارى ، إذا أكلوا اللحم بعد صومهم ، وأفطروا ، وهذا العيد بعد عيد السعانين لثلاثة أيّام ، قال المبرد في كتاب الاشتقاق : سمعت التوزي ، وسئل عن فصح النصارى ، فقال قائل :

إنّما أخذ من قولهم ، أفصح اللبن ، إذا ذهبت رغوته ، وخلص ، فإنّما معناه ، أنّه قد ذهب عناؤهم وصومهم ، وحصلوا على حقيقة ما كانوا عليه ، فقال : هو هذا ،

ص: 320


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ص 188 ، والعبارة منقولة مقطوعة.
2- المبسوط : ج 2 كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، ص 90.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، ص 176 وص 172 مع تقطيع في العبارة.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، ص 176 وص 172 مع تقطيع في العبارة.

والفصح كلام عربي ، من ذلك : رجل فصيح ، وقد أفصح ، إذا بيّن ، وأفصح الصبح ، إذا تبيّن ، قال الشاعر ، وهو حسّان :

قد دنا الفصح فالولايد ينظمن *** سراعا اكلّة المرجان

يقول ذلك لآل الحرث بن أبي شمر (1) الغسّاني وهم نصارى.

باب بيع الغرر والمجازفة وما يجوز بيعه وما لا يجوز

قد بيّنا أن ما يباع كيلا أو وزنا ، فلا يجوز بيعه جزافا ، فإن بيع كذلك ، كان البيع باطلا ، وكذلك ما يباع كيلا ، فلا يجوز بيع الجنس منه بعضه ببعض وزنا ، لأنّا أخذ علينا التساوي فيما يباع كيلا بالمكيال ، فإذا بيع بالوزن ، ربما ردّ إلى الكيل ، فيزيد أحدهما على الآخر ، فيؤدي إلى الربا ، فإن بيع بغير جنسه ، جاز بيعه وزنا ، فأمّا ما يباع وزنا ، فلا يجوز بيعه كيلا ، سواء بيع بجنسه ، أو بغير جنسه ، بغير خلاف ، فإنّ كان ما يباع وزنا ، يتعذر وزنه ، جاز أن يكال ، ثمّ يعتبر مكيال منه ، ويؤخذ الباقي على ذلك الحساب.

وكذلك ما يباع بالعدد ، لا يجوز بيعه جزافا ، فإن تعذر العدد فيه ، وزّن منه مكيال ، وعدّ ، وأخذ الباقي على حسابه.

ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك ، حلب منه شيئا ، واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال ، أو مدة من الزمان ، على ما رواه أصحابنا (2) ، وإن جعل معه عرضا آخر ، كان أحوط.

وقد روي (3) أنّه لا بأس أن يعطي الإنسان الغنم ، والبقر ، بالضريبة ، مدّة من الزمان ، بشي ء من الدراهم ، والدنانير ، والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة ، أجود في الاحتياط ، ويمكن أن يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه ،

ص: 321


1- ج : لأبي الحرث بن أبي شمس.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب عقد البيع وشروطه.
3- الوسائل : الباب 9 من أبواب عقد البيع وشروطه.

وهو أن يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع ، مدة من الزمان ، على ما وردت بمثله الأخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ، ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأنّ الإجارة لا تصحّ هاهنا ، لأنّ الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة ، دون استحقاق أعيان منها.

والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لأنّه غرر ، وبيع مجهول ، والرسول عليه السلام ، نهى عن بيع الغرر ، فمن أثبت ذلك عقدا (1) يحتاج إلى دليل شرعي ، والذي ورد فيه ، أخبار آحاد شذاذ ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا ، لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى ، إلى الأدلة القاطعة.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان أصواف الغنم ، وشعرها على ظهورها ، فإن أراد بيعها ، جعل معها شيئا آخر.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : يجوز ذلك ، إذا كان مشاهدا (2).

والأوّل قول شيخنا أبي جعفر (3) والأظهر عندي قول شيخنا المفيد رحمه اللّه ، لأنّه غير موزون ، ما دام على ظهور الغنم ، وانما يصير موزونا إذا فارقها ، فلو حرّمنا بيعه قبل مفارقتها ، لحرمنا عليه (4) بيع ثمرة جميع الأشجار ، ما عدا النخل قبل مفارقتها للشجر.

وكذلك لا يجوز أن يبيع (5) ما في بطون الأنعام ، والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك ، جعل معه شيئا آخر ، ليسلم من الغرر ، فإن لم يكن ما في البطون حاصلا ، كان الثمن في الآخر ، على ما روي في الأخبار (6) ، من طريق الآحاد.

والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع ، لأنّه غرر وجزاف ، منهي عنهما.

ص: 322


1- ل. ق : عقدا شرعيا.
2- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب اشتراط البائع على المبتاع ، ص 609.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
4- ل. ق : علينا.
5- ج : لا يجوز بيع.
6- الوسائل : الباب 10 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 10.

وقد روي أنّ من اشترى أصواف الغنم ، مع ما في بطونها في عقد واحد ، كان البيع صحيحا ماضيا.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها زيادة غرر إلى غرر.

ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الصياد ما يضرب بشبكته لأنّ ذلك مجهول.

ولا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشي ء معلوم ، جزية رءوس أهل الذمّة ، وخراج الأرضين ، وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك ، إذا كان قد أدرك شي ء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ، لأنّه يؤمن من الغرر ، على ما رواه بعض أصحابنا (1) ولا يجوز ذلك ما لم يدرك شي ء من هذه الأجناس ، أورد ذلك شيخنا في نهايته ، في باب الغرر (2).

والأولى عندي ترك العمل بذلك ، لأنّ هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار آحاد.

وروي أنّه لا بأس أن يشتري الإنسان تبن البيدر ، لكلّ كر من الطعام تبنة ، يعني تبن الكر ، فالهاء ضمير الكر - بشي ء معلوم ، وإن لم يكل بعد الطعام (3).

أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الغرر (4).

والأولى ترك العمل بها ، لأنّه شراء مجهول ، ومبيع غير معلوم وقت العقد ، والبيع يحتاج في صحّته إلى أن يكون معلوم المقدار ، وقت العقد عليه ، وهذا غير معلوم ولا محصّل ، فالبيع باطل ، لأنّه لا فرق بين ذلك ، وبين من قال بعتك هذه الصبرة الطعام ، كل قفيز بدينار ، ولم يخبركم فيها وقت البيع والعقد ، ولا كالها ذلك الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها ، فإذا كالها ، صح البيع المتقدّم ، وهذا باطل بالإجماع.

ص: 323


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 3 - 4.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
4- الوسائل : الباب 13 من أبواب عقد البيع وشروطه.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا اشترى إنسان من غيره شيئا من القصب أطنانا معروفة ، ولم يتسلمها ، غير أنّه شاهدها ، فهلك القصب قبل أن يقبض ، كان من مال البائع ، دون المبتاع ، قال شيخنا : لأنّ الذي اشتري منه في ذمته (1).

قال محمّد بن إدريس : هذا البيع ما هو في الذمة ، بل بيع عين مرئية مشاهدة ، فكيف يكون في الذمة ، وأيضا لو كان في الذمة ، طالبه بعوضه وببدله ، فأمّا قوله رحمه اللّه : « كان من مال البائع دون المبتاع » فصحيح ، إذا لم يمكن البائع المبتاع من قبضه ، فامّا إذا مكّنه من قبضه ، ولم يقبضه ، وتركه عند بايعه ، بعد ان مكنه من قبضه ، فإنّه يهلك من مال المبتاع ، دون البائع ، فليلحظ ذلك ، فهذا تحرير الفتيا.

ولا يجوز بيع ما في الآجام من السمك ، لأنّ ذلك مجهول فإن كان فيها شي ء من القصب ، فاشتراه ، واشترى معه ما فيها من السموك ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن أخذ شيئا من السمك ، وباعه إيّاه مع ما في الأجمة ، كان البيع ماضيا ، لأنّه يؤمن مع ذلك الغرر ، على ما روي (2).

والاحتياط عندي ، ترك العمل بهذه الرواية لأنّها من شواذ الأخبار ، لأنّ المعلوم ، إذا أضيف إلى المجهول ، والمجهول إذا أضيف إلى المعلوم ، صيّر ذلك المعلوم مجهولا ، وهذه كلها أخبار آحاد ، يوردونها في أبواب الغرر ، وبيع المجازفة ، فلا تترك الأصول ، ويرجع إليها ، بل لا يعرج عليها.

وروي (3) أنّه لا بأس أن يندر لظروف السمن والزيت وغيرهما ، شي ء معلوم ، إذا كان ذلك معتادا بين التجار ، ويكون ممّا يزيد تارة ، وينقص اخرى ، ولا يكون ممّا يزيد ، ولا ينقص ، فإن كان مما يزيد ، ولا ينقص ، لم يجز

ص: 324


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 2 - 4 - 5 - 6.
3- الوسائل : الباب 20 من أبواب عقد البيع وشروطه.

ذلك على حال.

ومن وجد عنده سرقة ، كان غارما لها ، إن هلكت ، ويرجع على من باعه إيّاها ، إذا أتى ببينة أنّه اشتراها منه ، ومتى اشتراها مع العلم بأنّها سرقة ، كان لصاحب السرقة أخذها ، ولم يكن للمشتري الرجوع على البائع بالثمن ، لأنّه ما غره ، بل أعطاه الثمن بلا عوض ، لأنّه يعلم أنّ السرقة لا يملكها السارق ، فقد ضيّع الثمن بدفعه اليه ، وإن لم يعلم أنّها سرقة ، كان له الرجوع على بائعها ، إذا كان موجودا ، بالثمن ، وبما غرمه عليها وأنفقه ، إذا لم يحصل له في مقابلة ذلك نفع ، فإن كان قد مات رجع على ورثته بذلك ، إن كان قد خلف في أيديهم بقدر ذلك ، فإن لم يترك شيئا ، فلا سبيل له على الورثة بحال.

ولا يجوز أن يشتري من الظالم شيئا يعلم أنّه ظلم بعينه وانفراده ، ولم يكن مأخوذا على جهة الخراج والزكوات ، ولا بأس أن يشتري منه إذا لم يعلم الشي ء بعينه وانفراده ، ظلما وغصبا ، وإن علم أنّ بايعه ظالم ، وترك ذلك أفضل.

ولا بأس بشراء ما يأخذه السلطان الظالم ، من الغلات ، والثمرات ، والأنعام ، على جهة الخراج ، والزكاة ، على ما قدّمناه ، وان كان الآخذ له غير مستحق لذلك.

ومن غصب غيره متاعا ، وباعه من غيره ، ثم وجده صاحب المتاع عند المشتري ، كان له انتزاعه من يده ، فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، كان المغصوب منه مخيّرا ، في الرجوع على من شاء منهما ، فإن رجع على الغاصب ، رجع عليه بأكثر القيم إلى يوم الهلاك ، وإن رجع على المشتري ، رجع عليه بأكثر القيمة من وقت شرائه إلى وقت هلاكه ، ويرجع المشتري على الغاصب ، بما غرمه من المنافع ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، إلا أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب ، واشتراه ، فيلزمه القيمة وغيرها لصاحبه ، ولا درك له على الغاصب ، من رجوع بالثمن ، ولا غيره ، لأنّه ما غرّه ، بل دخل مع العلم.

ص: 325

فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول الغارم ، لأنّه الجاحد لزيادة القيمة المدّعاة ، وصاحب السلعة هو المدّعي.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه إيّاه (1). وهذا القول غير واضح ، والمعتمد على ما قلناه.

وقال أيضا رحمه اللّه : فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول صاحبه. وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

وقال أيضا رحمه اللّه : ومتى أمضى المغصوب منه البيع ، لم يكن له بعد ذلك ، درك على المبتاع ، وكان له الرجوع على الغاصب ، بما قبضه من الثمن فيه (2).

وهذا على مذهب من يقول من باع ملك غيره بغير إذنه يكون العقد موقوفا على اجازة صاحبه ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وسطرنا ، أنّ شيخنا أبا جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مسائل خلافه (3).

ومتى ابتاع بيعا فاسدا ، فهلك المبيع في يده ، أو حدث فيه فساد ، كان ضامنا لقيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم التلف والهلاك ، ولأرش ما نقص من قيمته بفساده ، لأنّه باق على ملك صاحبه ، ما انتقل عنه ، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي ء المغصوب ، إلا في ارتفاع الإثم بإمساكه.

ولا بأس أن يشترط الإنسان على البائع ، فيما يشتريه منه شيئا من أفعاله ، إذا كان مقدورا له ، فأمّا إذا لم تكن مقدورا له ، فلا يجوز اشتراطه فما هو في مقدوره ، مثل أن يشتري ثوبا على أن يقصره أو يخيطه ، وما أشبه ذلك ، وكان البيع ماضيا ، ويلزمه ما شرط له ، بغير خلاف في ذلك عند أصحابنا ، وإجماعهم الحجة على صحّة ذلك ، وأمّا ما ليس في مقدوره ، مثل أن يبيع الزرع على أن يجعله سنبلا ، والرطب على أن يجعله تمرا ، فإن باع ذلك ، بشرط أن يدعه في

ص: 326


1- النهاية : كتاب التجارة باب بيع الغرر والمجازفة.
2- النهاية : كتاب التجارة باب بيع الغرر والمجازفة.
3- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 275.

الأرض ، أو الشجر إلى وقت بلوغه ، وإدراكه ، أو ما يريد المبتاع ، كان البيع صحيحا ، والشرط لازما ، وإن باع ذلك مطلقا من الاشتراط يجب على البائع تبقيته إلى أوان الحصاد والصرام.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ثوبا منشورا ، ويستثني منه نصفه ، أو ثلثه ، أو ما أراد منه من الأذرع ، لأنّ ذلك استثناء معلوم من معلوم ، ولا بدّ من نشر الثوب عند البيع ، بحيث ينظر المشتري طوله وعرضه ، ولا يحتاج مع نشره إلى ذرعه ، فإن لم ينشره ، فلا بدّ من الاخبار بذرعه ، وذكر صفته ، لأنّه غير مرئي ، فيكون بيع خيار الرؤية. وقد قلنا فيما مضى ، أنّه لا يجوز أن يبيع متاعا بدينار غير درهم ، لأنّه مجهول ، وبيّنا أنّه من أين كان مجهولا ، فلا وجه لإعادته.

ولا بأس ببيع الجوارح التي تصلح للصيد ، من الطير ، والسباع من الوحش ، وكذلك لا بأس ببيع ما يحل بيع جلده ، من سائر السباع ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، من كتابنا هذا.

ولا بأس ببيع عظام الفيل ، واتخاذ الأمشاط منها ، وغيرها من الآلات ، ولا بأس باستعمال ما يعمل منها.

ولا يشتري الإنسان الجلود ، إلا ممّن يثق من جهته ، أنّه لا يبيع إلا ذكيا ، فإن اشتراها ممّن لا يثق به ، فلا بأس بذلك ، ما لم يعلم أنّها غير ذكية ، وكذلك لا بأس بابتياعها من أسواق بلدان المسلمين.

ولا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي ، وكذلك بيع العنب ممن يجعله خمرا ، فإنّه مكروه وليس بحرام ، ويكون الإثم على من يجعله كذلك ، لا على بايعه ، واجتناب ذلك أفضل ، فأمّا إن اشتراط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا ، وعقدا (1) على ذلك ، مشترطا ومقرونا بالعقد ، فهذا حرام (2).

ص: 327


1- ج : أو عقدا.
2- ل. ق : وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا بعضي اللّه به ، من قتل مؤمن أو قطع طريق وما أشبه ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : بيع العصير ممّن يجعله خمرا ، مطلقا مكروه ، وليس بفاسد ، وبيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام ، ولا يبطل البيع ، لما روي عن النبي عليه السلام أنّه لعن الخمر وبائعها (1). وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا يعص اللّه به ، من قتل مؤمن ، أو قطع طريق ، وما أشبه ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (2).

وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ العقد لا دليل على بطلانه ، لقوله عزوجل : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وليس انضمام هذا الشرط الفاسد الباطل إليه ، مما يفسده ، بل يبطل الشرط ، ويصح العقد.

ومن اشترى من إنسان ماله ، فإن كان ماله حلالا ، فالبيع حلال طلق - بكسر الطاء - وإن كان ماله حراما ، فالبيع باطل ، لأنّه يشتري مالا يملكه ، وإن كان مختلطا لا يتميز له ، فالبيع صحيح ، إلا أنّه مكروه.

ويكره استعمال الصور ، والتماثيل التي هي على صور الحيوان ، فأمّا صور الأشجار وغيرها ، ممّا لا يكون على صور الحيوان ، فلا بأس ، وقد روي أنّه لا كراهة في ذلك إذا استعمله مستعملة في الفرش ، وما يوطأ بالأرجل (3).

ولا بأس ببيع الحرير والديباج ، وأنواع الإبريسم ، والفرق بين الديباج ، والحرير ، هو أنّ الديباج ما كان من الحرير مدبجا ، منقوشا ، موشوا (4) ، والحرير بخلاف ذلك ، ولا يجوز لبسه إذا كان محضا منهما ، غير مختلط بالنسبة في شي ء ، يجوز الصلاة فيه للرجال خاصة ، ولا يجوز أيضا الصلاة فيه لهم ، إلا ما كان مختلطا حسب ما قدّمناه ، فيما مضى من كتاب الصلاة.

ص: 328


1- مستدرك الوسائل : ج 2 ، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2 ، ولفظه هكذا : لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الخمر ، وغارسها ، وعاصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليها ، وبائعها ..
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في ان الخراج بالضمان ، ص 138.
3- الوسائل : الباب 94 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
4- ل : موشيا.

وقال شيخنا في نهايته : ولا يجوز بيع شي ء من الكلاب ، إلا كلب الصيد خاصة ، فإنّه لا بأس ببيعه ، والانتفاع بثمنه (1).

وقد قلنا فيما تقدّم من كتابنا هذا ، أنّ بيع كلب الزرع ، وكلب الحائط ، وكلب الماشية أيضا جائز ، ودليلنا على موافقة شيخنا في غير كتاب النهاية ، وإنّما أورد في النهاية ألفاظ الأحاديث ، إيرادا ، آحادا ومتواترة ، ولم يحرر فيها شيئا ، كما اعتذر به لنفسه ، في خطبة مبسوطة.

وأهل الذمّة سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا ، إذا باعوا ما لا يجوز للمسلم بيعه ، من الخمر ، والخنزير ، وغير ذلك ، ثمّ أسلم كان له المطالبة بالثمن ، وكان حلالا له ، وإذا أسلم وفي ملكه شي ء من ذلك ، لم يجز له بيعه على حال.

وقد روي (2) أنّه إذا كان عليه دين ، جاز أن يتولّى بيع ذلك غيره ، ممن ليس بمسلم ، ويقضي بذلك دينه ، ولا يجوز له أن يتولاه بنفسه ، ولا أن يتولّى عنه غيره من المسلمين.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ترك العمل بهذه الرواية الضعيفة ، لأنّها مخالفة للأدلّة القاهرة ، وهو أنّ ثمن الخمر حرام على المسلمين ، ولأنّها عندنا غير مملوكة ، ولا يجوز قضاء الدين بمال حرام ، وأيضا فيد الوكيل يد موكله.

ومن غصب من غيره مالا ، ويشتري به جارية ، كان الفرج له حلالا ، وعليه وزر المال ، ولا يجوز له أن يحجّ به ، فإن حجّ به ، لم يجزه عن حجة الإسلام ، هكذا روي في بعض الأخبار (3) ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (4).

والذي أقوله في ذلك ، أنّه إن كان اشترى الجارية بعين المال المغصوب ، فالشراء باطل ، ولا يجوز له وطء هذه الجارية ، ولا يصحّ له التصرّف فيها بحال ،

ص: 329


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- الوسائل : الباب 57 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان ذلك صحيحا ، وحل له وطء الجارية ، لأنّ الشراء وقع في الذمة ، لا بالعين المغصوبة.

وشيخنا أبو جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، وأورده ، لأنّ ذلك خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، رواية السكوني وهو مخالف ، عامي المذهب ، فقال شيخنا في جواب مسألة سئل عنها ، من جملة المسائل الحائريات ، المنسوبة إلى أبي الفرج بن الرملي ، فقال السائل : وعن رجل اشترى ضيعة ، أو خادما بمال ، أخذه من قطع الطريق ، أو من سرقة ، هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له أن يطأ هذا الفرج الذي قد اشتراه بمال من سرقة ، أو قطع الطريق ، وهل يجوز لأحد أن يشتري من هذه الضيعة ، وهذا الخادم ، وقد علم أنّه اشتراه بمال حرام ، وهل يطيب لمشتري هذه الضيعة ، أو هذا الخادم ، أو هو حرام ، فعرّفنا ذلك.

فقال : الجواب : إن كان الشراء وقع بعين ذلك المال ، كان باطلا ، ولم يصح جميع ذلك ، وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان الشراء صحيحا ، وقبضه ذلك المال فاسدا ، وحل وطء الجارية ، وغلة الأرض ، والشجر ، لأنّ ثمن الأصل في ذمّته ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وآخر جوابه للسائل (1) وهو الحق الواضح.

فأمّا الحج بهذا المال ، فإن كانت حجة الإسلام ، لم يجب عليه قبل ذلك ، ولا استقرت في ذمته ، ثم حج بهذا المال الحرام ، ووجد بعد ذلك ، القدرة على الحج بالمال الحلال ، وحصلت له شرائط وجوب الحج ، فإنّ حجّته الاولى بالمال الحرام ، لم تجزه ، والواجب عليه الحج ثانيا ، فأمّا إن كان الحج وجب عليه ، واستقر في ذمّته ، قبل غصب المال ، ثم حج بذلك المال ، فالحجة مجزية

ص: 330


1- لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.

عنه ، لأنّه قد حصل بالمواضع ، وفعل أفعال الحج بنفسه ، إلا الهدي ، إن كان اشتراه بعين المال المغصوب ، فلا يجزيه عن هديه الواجب عليه ، ووجب عليه شراء هدي ، أو الصوم بدلا عنه ، عند تعذر القدرة عليه ، إلا أنّه لا يفسد عليه حجّه ، لأن الهدي ليس بركن.

وكلّ شي ء من المطعوم والمشروب ، يمكن للإنسان اختباره من غير إفساد له ، كالأدهان الطيبة المستخبرة بالشم ، وصنوف الطيب ، والحلاوات ، والحموضات ، فقد روي أنّه لا يجوز بيعه بغير اختباره (1) ، فإن بيع من غير اختبار له ، كان البيع غير صحيح ، والمتبايعان فيه بالخيار ، فإن تراضيا بذلك ، لم يكن به بأس.

وهذه الرواية ، يمكن العمل بها على بعض الوجوه ، وهو أنّ البائع لم يصفه ، فإذا لم يصفه يكون البيع غير صحيح ، لأنّه ما يعرف بمشاهدته إذا طعمه (2) ، فلا بدّ من وصفه ، فأمّا إذا وصفه ، وضبطه بالوصف ، فالبيع صحيح ، ويعتبر فيه ما اعتبرناه في بيع خيار الرؤية ، في المرئيات ، لأنّه لا يمكن معرفته بالرؤية ، بل بالطعم ، فإن وجد طعمه أو ريحه كما وصف البائع له ، فلا خيار له ، وإن وجده بخلاف وصف بايعه ، كان بالخيار ، ولا دليل على بطلان هذا العقد ، لأنّ اللّه تعالى ، قال « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقال تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع.

ويمكن أن يقال أنّ بيع العين ، المشاهدة المرئية لا يجوز أن تكون موصوفا ، لأنّه غير غائب ، فيباع بيع خيار الرؤية بالوصف ، فإذن لا بد من شمّه ، وذوقه ، لأنّه حاضر ، مشاهد ، غير غائب ، فيحتاج إلى الوصف ، فهذا وجه قويّ.

وما لا يمكن اختباره إلا بإفساده وإهلاكه ، كالبيض ، والبطيخ ، والقثاء ، والرمان ، وأشباه ذلك ، فابتياعه جائز مطلقا ، وبشرط الصحة ، أو البراءة من العيوب ، فإن اشتراه مطلقا ، أو بشرط الصحة ، ثمّ كسره المبتاع ، فإن وجد فيه

ص: 331


1- الوسائل : الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- ل. ق : بمشاهدته طعمه.

فاسدا ، كان للمبتاع ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وليس له رد الجميع ، واسترجاع الثمن ، فيما قد تصرّف فيه ، ولا له ردّ المعيب ، دون ما سواه ، وله ردّ الجميع ، إذا لم يتصرف في جميع المبيع ، وقامت له بذلك بيّنة ، فأمّا إذا تصرّف في ذلك ، فليس له رده ، وإجماع أصحابنا أنّ المشتري ، متى تصرّف في المبيع ، ثمّ وجد العيب ، فليس له الرد ، وله الأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وكيفية ذلك ، هو أن يقوّم ما بين قيمته صحيحا ، وقشره صحيح ، وبين كونه فاسدا وقشره صحيح ، فما يثبت ، يرجع بمقداره من الثمن ، ولا يقوّم مكسورا ، لأنّ الكسر نقص حدث في يد المشتري ، فلا يرجع بجنايته وحدثه على غيره.

هذا فيما كان لفاسده ومكسوره ، بعد كسره قيمة فأمّا إذا لم يكن لفاسده ومكسوره قيمة بعد كسره ، مثل بيض الدجاج ، إذا كان فاسدا ، فإن كان هكذا فالبيع باطل ، لأنّه لا يجوز بيع ما لا قيمة له.

وعلى هذا لا يجوز بيع الحشرات ، مثل الخنافس ، والجعلان ، وبنات وردان ، والذباب ، وغير ذلك ، ومتى أتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، لأنّه لا قيمة له.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإن وجد فيه فاسدا ، كان للمبتاع ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وإن شاء ردّ الجميع ، واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب دون ما سواه (1).

وأطلق الكلام في ذلك إطلاقا على لفظ الخبر الذي أورده.

والتحرير والفتيا على ما حررناه ، فإنّه رحمه اللّه ، رجع وحرّر ذلك في مبسوطة (2).

ولا بأس بابتياع الأعمى ، وشرائه ، وحكمه فيما ذكرناه ، حكم البصراء سواء ولا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره شيئا ، متاعا ، أو حيوانا ، أو غير ذلك ، بالنقد والنسيئة ويشترط ان يسلفه البائع شيئا في مبيع ، أو يستسلف منه في

ص: 332


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- المبسوط : كتاب البيوع ، حكم المبيع إذا وجد به عيب ، ص 135.

شي ء ، أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل ، أو يستقرض منه ، وإذا ابتاع على ذلك ، كان البيع صحيحا ، ووجب عليهما الوفاء بما اشترطا فيه ، لأنّه شرط لا يخالف الكتاب والسنة ، فلا مانع يمنع من ذلك ، لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (1) وقوله : الشرط جائز بين المسلمين (2).

وقد أبي ذلك ، كثير من مخالفي مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بغير حجّة ولا برهان.

وإذا ابتاع الإنسان أرضا ، فبنى فيها ، أو غرس ، وأنفق عليها ، فاستحقها عليه إنسان آخر ، كان للمستحق قلع البناء ، والغرس ، وأجرتها مدة ما كانت في يده ، ويرجع المبتاع على البائع ، إن كان غره بقيمة ما ذهب منه ، وغرّمه ، وأنفق عليها ، فإن كان ما غرسه قد أثمر ، وأينع ، فالثمرة والزرع ، لصاحب الغرس والبذر ، ولصاحب الأرض قلعه ، لقوله عليه السلام : الزرع لمن زرعه وإن كان غاصبا (3) المراد به ، نماؤه ، وقوله عليه السلام في قلعه : ليس لعرق ظالم حق (4).

وقد روي في بعض الأخبار ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أنّه إن كان ما غرسه ، قد أثمر ، كان ذلك لرب الأرض ، وعليه للغارس ما أنفقه ، واجرة مثله في عمله (5).

وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّه مناف لأصول المذهب ، ولما عليه كافة

ص: 333


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
2- عوالي اللئالى : ج 3 ، ص 225 ، ح 103.
3- لم نجد العبارة في الكتب الروائية إلا أن في الوسائل : الباب 33 من أبواب الإجارة ، الحديث 2 عن عقبة بن خالد قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال : زرعت بغير اذني فزرعك لي وعليّ ما أنفقت أله ذلك أم لا؟ فقال : للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه ، وأورده في الباب 2 من كتاب الغصب أيضا. وفي سنن أبي داود ، كتاب البيوع ، الباب 32 ( الرقم 3403 ) قال صلى اللّه عليه وآله : « من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شي ء وله نفقته ». ورواه أيضا ابن ماجة في سننه في الباب 13 من كتاب الرهون ( الرقم 2466 ) فراجع.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب الغصب ، ح 1.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

المسلمين ، لأنّ نفس الغراس ، ملك للغارس ، فكيف يستحقها رب الأرض ، ومن أي وجه صارت له ، وأيّ دليل دلّ على ذلك ، ولا يرجع في ذلك إلى سواد مسطور ، أو خبر واحد من أضعف أخبار الآحاد ، إن كان قد ورد ، ويترك الأدلة القاهرة ، والأصول الممهّدة ، من أدلة العقل ، وأدلة السمع ، ولقد شاهدت جماعة من أصحابنا الذين عاصرتهم ، يخبطون في ذلك ، خبط عشواء ، وكلّ منهم يقول قولا غير محصّل ، ليصححوا ما ليس بصحيح ، كأنهم وجدوه مسطورا في كتاب اللّه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، فالحمد لله على التوفيق لإصابة الحق.

فإن فسدت الأرض بالغرس ، كان لربها عليه أرش ما فسد ، ويرجع هو على البائع له بذلك.

ومن كان له على غيره مال ، أو متاع إلى أجل ، فدفعه إليه قبل حلول الأجل ، كان بالخيار بين قبضه ، وتركه إلى وقت حلول الأجل ، وكان ذلك في ضمان المديون عليه ، وليس لأحد أن يجبره على قبضه قبل أجله.

وإذا كان له على غيره مال بأجل ، فسأله تأخيره عنه إلى أجل ثان ، فأجابه إلى ذلك ، كان بالخيار ، إن شاء أمضى الأجل الثاني ، وإن شاء لم يمضه ، بغير خلاف بين أصحابنا فيه : لأنّه بمنزلة الهبة الغير مقبوضة ، فللإنسان أن يرجع فيها.

ومتى تقايل المتبايعان البيع ، انفسخ العقد ، فإن عقداه بعد الإقالة بأجل ، لم يكن للبائع الرجوع فيه ، ووجب عليه الوفاء به ، بخلاف تلك المسألة المتقدّمة.

والفرق بينهما ، أنّ تلك كانت بأجل ، وحلّ الأجل ، ثم سأل التأخير في الأجل ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، فأجيب إلى ذلك ، فللمجيب الرجوع في هبته ، والمسألة الأخيرة بعد فسخ البيع ، وعقده ثانيا إلى أجل ثان ، لا يجوز الرجوع فيه لأنّه ما حلّ ، ثم أجّله بعد ذلك ، لأنّ هذا الأجل ، أجل أول مستحق على البائع ، بالشرط المقابل للعوض الذي هو المبيع ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، لأنّه غير متبرّع به ، فافترق الأمران.

ص: 334

ولا يصح بيع بإكراه ، ولا يثبت إلا باختيار صاحبه وإيثاره.

وإذا باع الإنسان ملكا لغيره ، والمالك حاضر ، فسكت ، ولم يطالب ، ولا أنكر ذلك ، لم يكن ذلك دلالة على إجازته البيع ، ووكالته فيه ، ولا دليلا على أنّه ليس المبيع ملكا له ، وكذلك إن صالح عليه مصالح ، وهو ساكت ، لم يمض الصلح عليه ، وكان له المطالبة به وانتزاعه.

وبيع الأب على الابن ، إذا كان كبيرا مكلفا غير مولى عليه ، غير ماض ، ولا جائز ، بل باطل ، فإن كان صغيرا أو كبيرا غير مكلّف ، جاز بيعه عليه ، وصح ، لأنّه وليّه ، والناظر في أموره ، بخلاف العاقل المكلّف ، لأنّه ولي نفسه.

إذا باع مجهولا ومعلوما ، بطل البيع فيهما معا ، لأنّه لا يمكن التوصّل إلى الحصة في ثمن المعلوم بجهالة الآخر ، فلا يمكن التوصل إلى ما تسقط في مقابلته ، وقد بيّنا فيما مضى ، أنّه إذا باع ما يملك وما لا يملك ، في عقد واحد ، أو شاة وخنزيرا في عقد واحد ، صح البيع في أحدهما ، وبطل في الآخر ، لأنّه يسقط الثمن عليهما ، ويمكن التوصّل إلى الحصّة في ثمن المملوك منهما ، لأنّ الثمن يتقسط على القيمة ، كالعبدين ، والثوبين ، قسط عليهما ، وما يتقسط على الأجزاء ، كالحبوب ، والأدهان ، فإنّه يمسكه بحصّة من غير تقويم ، ولا تقسيط ، لأنّ ذلك متساوي الأجزاء ، فهو متساوي القيم.

وإذا قال : بعتك هذه الدار ، وآجرتك هذه الدار الأخرى ، بألف ، كان صحيحا ، لأنّه لا مانع منه ، فإذا قلنا البيع والإجارة صحيحان ، فإنّه يأخذ كل واحد حصّته ، من الثمن الذي هو العوض في مقابلتهما ، بقيمة المبيع ، واجرة مثل الدار ، وهكذا اعتبار التقسيط في جميع ما قدّمناه ، من بيع السلعتين ، فليلحظ ذلك.

إذا باع الإنسان بهيمة ، أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، كان جائزا ، فإن استثنى يدها ، أو رجلها ، أو عضوا منها ، كان استثناؤه باطلا.

ص: 335

وقال شيخنا في مبسوطة في باب الغرر ، وإن باع بهيمة أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، لم يجز ، لأنّ الحمل يجري مجرى عضو من أعضائها (1).

وقال رضي اللّه عنه أيضا : وإن باع جارية حبلى بولد حرّ ، لم يجز ، لأنّ الحمل يكون مستثنى ، وهذا يمنع صحة البيع (2).

وما قدّمناه من صحة استثناء الحمل للبائع ، هو الصحيح الذي لا خلاف فيه ، بين أصحابنا ، أنّ الحمل بمجرّد العقد من الحامل للبائع (3)(4) فكيف إذا اشترطه ، إلا أن يشترطه المشتري ، وهذا قول شيخنا في نهايته (5) ، وجميع كتبه ، إلا فيما أشرنا إليه ، لكون هذا الكتاب مجمع مذهب المخالف له ، وقد ذكر فيه مذهبنا ، ومذهب غيرنا ، وما ذكره فيه مذهب الشافعي ، لأنّ في أحد قوليه ، أنّ الحمل لا يتقسط الثمن عليه ، ويجريه مجرى عضو من أعضاء الحامل ، ومذهبنا بغير خلاف بيننا ، يخالف مذهب الشافعي في هذه المسألة ، وابن البراج من أصحابنا ، نظر في هذه المسألة في المبسوط ، ظنها اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، فنقلها إلى جواهر الفقه ، كتاب له ، وعمل بها ، واختارها ، تقليدا لما وجده من المسطور المذكور ، وما استجمل لهذا الشيخ الفقيه ، مع جلالة قدره ، مثل هذا الغلط والتقليد لما يجده في الكتب ، ويضمنه كتبه ، وهذا قلة تحصيل منه ، لما يقوله ويودعه تصانيفه ، وانّما ذكرت هذه المسألة عنه على غثاثتها ، لشهرتها عند من يقف على جواهر الفقه ، وأنّها عندهم كالصحيح من القول ، فذكرتها دالا على عوادها.

بذر دود القز ، يجوز بيعه ، ولا دليل على حظره ، وكذلك دوده ، لأنّه مرجوّ نفعه ، بخلاف غيره من الدود ، لأنّه لا نفع فيه ، فلا يجوز بيعه ، ويجوز أيضا بيع زنابير العسل ، وهو النحل ، إذا رآها ، وقد اجتمعت في بيتها ، وحبسها حتى لا

ص: 336


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص 156.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص 156.
3- ج : لأنّ الحمل يجرى مجرى العقد من الحامل.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

يمكنها أن تطير ، جاز بيعها حينئذ ، ولا يجوز بيعها وهي تطير في الهواء ، وكذلك لا يجوز بيع السمك في الماء ، والطير في الهواء.

وإذا استأجر أرضا ليزرعها ، أو كانت له أرض مملوكة ، فدخل الماء فيها ، والسمك ، كان المالك والمستأجر أحقّ به ، لأنّ غيره لا يجوز أن يتخطى في الأرض المستأجرة ، فإن تخطى فيها أجنبي ، وأخذه ، ملكه بالأخذ ، لأنّ الصيد لمن اصطاده.

وكذلك إن عشش في دار إنسان ، أو في أرضه طائر ، وفرّخ فيها ، أو دخل ضبي في أرضه ، كان صاحب الأرض والدار ، أحقّ به ، فإن خالف أجنبي ، وتخطّى ، فأخذه ، كان أحق به ، لأنّه ملكه بالأخذ والاصطياد.

إذا طفرت سمكة ، فوقعت في زورق إنسان ، فأخذها بعض الركاب ، كانت له ، دون صاحب الزورق ، لما قدّمناه.

وإذا نصب شبكة ، فوقع فيها طائر ، كان للناصب ، وإن أخذه غيره ، وجب عليه ردّه عليه ، لأنّه في حكم الآخذ له ونهي النبي عليه السلام عن بيعتين في بيعة ، قيل أنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد به ، إذا قال : بعتك هذا الشي ء بألف درهم نقدا ، وبألفين نسيئة بأيّهما شئت خذه ، فإن هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصحّ ، لأنّه لا يلزمه بيع داره ، ولا يجوز أن يثبت في ذمته ، لأنّ السلف في بيع الدار ، لا يصح على ما قدّمناه في باب السلم.

باب اجرة السّمسار والدلّال والناقد والمنادي

أجرة الكيّال ، ووزّان المتاع ، على البائع ، لأنّ عليه توفية المتاع ، وتسليمه إلى المشتري ، ولا يقدر إلا بالوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، فيجب عليه

ص: 337

ذلك ، لأنّ كلّ ما لا يتمّ الواجب إلا به ، فهو واجب مثله ، وقد قلنا أنّ التسليم واجب على البائع ، ولا يتم التسليم ، إلا بالوزن والكيل ، وإفراده من جنسه بهما ، واجرة الناقد للثمن ، ووزانه على المبتاع ، لأنّ عليه توفية المال على الكمال لما قدّمناه من الدلالة في اجرة وزن المتاع ، وكيله ، فلا وجه لإعادة ذلك.

ومن نصب نفسه لبيع الأمتعة ، كان له اجرة البيع ، على البائع الذي هو موكّله ، دون المبتاع ، ومن كان منتصبا للشراء ، كان اجره على المبتاع الذي هو موكّله ، دون البائع ، فإن كان ممن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة ما يبيع ، من جهة البائع ، إن كان وكيلا له ، واجرة على ما يشتري ، من جهة المبتاع ، لأنّه وكيله في عقد الشراء بالقبول.

ولا يجوز له أن يأخذ على سلعة واحدة أجرين ، من البائع والمشتري ، لأنّ العقد لا يكون إلا بين اثنين ، لأنّه يحتاج إلى إيجاب وقبول ، بل يأخذ الأجرة ممن يكون عاقدا له ، ووكيلا له ، إمّا في الإيجاب ، وإمّا في القبول ، فليلحظ ذلك.

ولا يظن ظانّ على شيخنا أبي جعفر ، فيما ذكره في نهايته ، في قوله : « فإن كان ممّن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة على ما يبيع ، من جهة البائع ، واجرة على ما يشتري من جهة المبتاع » (1) انّ المراد بذلك في سلعة واحدة يستحق أجرين ، وإنما المراد بذلك ، أن من كان ذلك صنعته ، يبيع تارة للناس ، ويشتري لهم تارة ، فيكون له اجرة على من يبيع له ، في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها ، كان له اجرة على من اشترى له تلك السلعة ، لا أنّه يشتري سلعة واحدة ، ويبيعها في عقد واحد ، لأنّ المشتري غير البائع ، والبائع غير المشتري ، وانّما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه ، فليتأمّل ذلك.

وإذا دفع الإنسان إلى السمسار متاعا ، ولم يأمره ببيعه ، فباعه ، كان البيع باطلا وقال شيخنا في نهايته : كان بالخيار بين إمضاء البيع ، وبين فسخه (2).

ص: 338


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال.

وهذا على مذهب من قال : إنّ من باع ملك غيره بغير إذنه ، يكون البيع موقوفا على اختيار صاحبه ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وحكينا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه (1) ، وهو الحق اليقين.

فإن أمره ببيعه ، ولم يذكر له لا نقدا ولا نسيئة كان (2) البيع باطلا.

ومن قال بالأوّل قال كان صاحب السلعة بالخيار ، والصحيح ما اخترناه ، لأنّه بيع غير مأمور به ، بل منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

وكذلك إن قال : بعها نقدا ، فباعها نسيئة ، كان الحكم في ذلك ما ذكرناه ، والخلاف ما صورناه.

فإن قال له : بعضها نسيئة بدراهم معلومة ، فباعها نقدا بدون ذلك ، كان على ما ذكرناه ، والخلاف فيه ما حكيناه.

وإذا اختلف الواسطة وصاحب المتاع ، فقال الواسطة قلت لي : بعه بكذا وكذا ، وقال صاحب المتاع : بل قلت بعه بكذا ، أكثر من الذي قال ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان القول في ذلك ، قول صاحب المتاع مع يمينه ، وله أن يأخذ المتاع إن وجده بعينه ، وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، كان صاحبه مخيرا ، بين أن يرجع على أيّهما شاء ، بقيمته أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، فإن رجع على الواسطة ، لم يكن للواسطة أن يرجع على المشتري ، لأنّه يقول : صاحب المتاع ظلمني ، فكيف يرجع بالظلم على غير الظالم؟ فأمّا إن رجع على المشتري ، فللمشتري أن يرجع على الواسطة ، بمنافعه التي ضمنها ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، فأمّا الثمن فلا يرجع عليه به ، لأنّ الإتلاف حصل في يده ، فإن اختلفا في القيمة ، كان القول قول الجاحد لزيادة ما اتفقا عليه ، وهو الواسطة ، أو المشتري ، وصاحبه يدّعي أكثر من ذلك ، فعليه

ص: 339


1- الخلاف : كتاب البيع المسألة 275.
2- ق : فباع نسيئة كان.

البيّنة ، لقوله عليه السلام المتفق عليه « على الجاحد اليمين وعلى المدّعي البيّنة » (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، ضمن الواسطة من الثمن (2) ، ما حلف عليه صاحب المتاع (3).

وهذا غير واضح ، لأنّ صاحب المتاع ، للزيادة والمدّعى عليه (4) البيّنة ، ولا يكون القول قوله في ذلك مع يمينه ، على ما دللنا عليه.

وإذا اختلفا في النقد ، كان القول قول صاحبه ، لأنّ الواسطة هو المدّعي هاهنا ، وصاحبه ، الجاحد المنكر ، فالقول قوله في ذلك مع يمينه.

ومتى هلك المتاع من عند الواسطة ، من غير تفريط من جهته ، كان من مال صاحبه ، ولم يلزم الواسطة شي ء ، لأنّه أمين ، فإن كان هلاكه بتفريط من جهة الواسطة ، كان ضامنا لقيمته يوم تفريطه فيه.

فإن اختلفا في التفريط ، كان على صاحب المتاع ، البيّنة ، أنّ الواسطة فرّط فيه ، فإن عدمها ، فعليه اليمين بأنّه لم يفرط في ذلك ، ولم يلزمه شي ء.

وإذا قال الإنسان لغيره : بع لي هذا المتاع ، ولم يسمّ له ثمنا ، فباعه بفضل من قيمته ، كان البيع ماضيا ، لأنّه زاده خيرا ، والثمن على تمامه وكماله لصاحب المتاع ، وإن باعه بأقل من ثمنه ، كان البيع غير صحيح.

وقال شيخنا في نهايته : كان ضامنا لتمام القيمة ، حتى يسلّمها إلى صاحب المتاع على الكمال ، ولا ضمان على الواسطة فيما بغلبة عليه ظالم ، والدرك في جودة المال على المشتري ، وفي جودة المتاع على بايعه ، دون الواسطة في الابتياع (5) ، لأنّه وكيل ، والوكيل لا درك عليه ، بل العهدة والدرك يرجع على

ص: 340


1- الوسائل : الباب 3 و 25 من أبواب كيفية الحكم ، ولفظه : ( اليمين على المدعى عليه ) أو « اليمين على من أنكر »
2- ج : الواسطة الثمن.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..
4- ج : لأن صاحب المتاع المدعي للزيادة عليه.
5- إلى هنا ينتهي كلام الشيخ « قدس سره » في النهاية ، كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..

موكله ، في جميع ما يعاد من الاستدراكات والاستحقاقات.

وهذا القول ، قول شيخنا أبي جعفر في نهايته ، إلا أنّه ذهب في الجزء الثاني ، من مسائل خلافه ، في كتاب الرهن ، فقال : مسألة ، إذا باع العدل الرهن بتوكيل الراهن ، وقبض الثمن ، وضاع في يده ، واستحق المبيع من يد المشتري ، فإنه يرجع على الوكيل ، والوكيل يرجع على الراهن ، وكذلك كلّ وكيل باع شيئا ، فاستحقّ ، وضاع الثمن في يد الوكيل ، فإنّ المشتري يرجع على الوكيل ، والوكيل على الموكّل ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي في جميع هذه المسائل ، يرجع على الموكّل ، دون الوكيل (1).

إلا أنّه رحمه اللّه ، رجع عن هذا القول ، وعاد إلى ما ذهب إليه في نهايته ، في كتاب التفليس ، من الجزء الثاني أيضا ، من مسائل خلافه ، فقال : مسألة : إذا باع الوكيل على رجل ماله ، أو الولي مثل الأب والجد ، والحاكم ، وأمينه ، والوصيّ ، ثمّ استحق المال على المشتري ، فانّ ضمان العهدة يجب على من بيع عليه ماله ، فإن كان حيا ، كان في ذمّته ، وإن كان ميتا ، كانت العهدة في تركته ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، يجب على الوكيل (2).

فاختار رحمه اللّه ، في تلك المسألة التي في كتاب الرهن ، قول أبي حنيفة ، ثم اختار في هذه المسألة التي ذكرها في كتاب التفليس ، قول الشافعي.

ثمّ دل عليه ، فقال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمّة ، ولا دليل على لزوم ذلك للوكيل ، وهو لا يملك ، فيجب أن يلزم الموكّل ، وإلّا لم يكن من استحق عليه (3).

هذا آخر كلامه رحمه اللّه ، وهو الذي اخترناه ، ونصرناه ، لأنّ يد الوكيل ، هي يد موكله ، وقائمة مقامها ، ونائبة منابها.

ص: 341


1- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 48.
2- الخلاف : كتاب التفليس ، المسألة 19.
3- الخلاف : كتاب التفليس ، المسألة 19. وفيه : للوكيل أو هؤلاء.

باب ابتياع الحيوان وأحكامه

قد بيّنا أن الشرط في الحيوان كلّه ثلاثة أيّام ، يثبت الخيار فيها للمشتري خاصة ، دون البائع ، على الصحيح من الأقوال ، فإن حدث في هذه الثلاثة الأيّام فيه حدث ، أو هلكت عينه ، كان من مال البائع ، دون المشتري ، ما لم يحدث فيه المشتري حدثا مؤذنا بالرضا ، فإن أحدث فيه حدثا ، كان ذلك مبطلا لخياره ، ولم يكن له بعد ذلك ردّه ، فإن لم يحدث فيه حدثا ، إلا أنّه وجد فيه عيبا قبل عقدة البيع ، فله ردّه وأخذ ثمنه ، أو إمساكه وأخذ الأرش ، سواء مضت الثلاثة الأيّام ، أو لم تمض ، فإن حدث في الثلاثة الأيّام حدث ، ينضاف إلى الحدث المتقدّم على عقدة البيع ، فله ردّه ما لم يتصرف فيه ، أو إمساكه وأخذ أرش العيب المتقدّم دون العيب الحادث في الثلاثة الأيام ، فإن حدث فيه بعد الثلاثة الأيام حدث ، ينضاف إلى الحدث الذي قبل عقدة البيع ، لم يكن له ردّه ، وله أرش العيب المتقدّم ، فحسب ، دون الرد.

فإن لم يكن فيه عيب متقدّم ، ولا حدث فيه عيب في الثلاثة الأيام ، إلا أنّ المشتري تصرّف فيه تصرّفا مؤذنا بالرضا ، قبل مضي الثلاثة الأيّام ، بطل الرد ، فإن لم يتصرّف فيه ، بل مضت الثلاثة الأيّام ، وتقضت ، بطل أيضا الرد ، إلا أن يجد فيه عيبا ، كان فيه قبل عقدة البيع ، ولم يكن قد تصرّف فيه ، لا في الثلاثة الأيّام ، ولا بعدها ، فله أيضا الرد ، إلا ان يحدث عيب بعد الثلاثة الأيّام ، ينضاف إلى العيب المتقدّم ، فليس له الرد ، بل له أرش العيب المتقدّم فحسب ، دون الرد.

ولا يصحّ أن يملك الإنسان أحد والديه ، ولا واحدا من أولاده ، ذكرا كان أو أنثى ، ولا واحدة من المحرّمات عليه من جهة النسب ، مثل الأخت ، وبناتها ، وبنات الأخ ، والعمة ، والخالة ، ويصح أن يملك من الرجال ، ما عدا الوالد والولد ، من الأخ ، والعم ، والخال ، ومتى حصل واحدة من المحرّمات اللاتي

ص: 342

ذكرناهن في ملكه ، فإنّهنّ ينعتقن في الحال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكلّ من ذكرناه ، ممّن لا يصحّ ملكه ، من جهة النسب ، فكذلك لا يصحّ ملكه من جهة الرضاع (1).

والصحيح من المذهب ، أنّه يصح أن يملكهن ، إذا كن أو كانوا من جهة الرضاع ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (2) ، وهو الحقّ اليقين ، لأنّ الإجماع على من اتفقنا على إعتاقه ، والأصل بقاء الرقّ وثبوته ، فمن ادّعى العتاق ، والخروج عن الأملاك ، يحتاج إلى دليل شرعيّ ، لأنّه حكم شرعيّ.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أن نقول : ذو والقربى من جهة النسب ، رجال ونساء ، فالرجال العمودان ، الآباء وإن علوا ، والأبناء وإن سلفوا ، متى حصلوا في الملك ، انعتقوا في الحال ، وخرجوا من الأملاك ، بغير اختيار المالك ، وما عداهم من الرجال ، لا ينعتقون ، بل يرقون ، فأمّا النساء فمن يحرم نكاحه على مالكها ، تنعتق على من ملكها ، من غير اختياره ورضاه ، وما عداهن من النساء ، لا ينعتقن إلا باختياره ورضاه ، فأمّا الأقارب من جهة السبب رضاع وغيره ، فالصحيح من المذهب ، أنّهم يملكون ، ولا ينعتق واحد منهم ، إلا برضا مالكه واختياره ، رجالا كانوا أو نساء.

ومتى ملك أحد الزوجين زوجه ، بطل العقد بينهما في الحال.

وكان من اشترى شيئا من الحيوان ، وكان حاملا ، من الأناسي وغيره ، ولم يشترط الحمل ، كان ما في بطنه للبائع ، دون المبتاع ، بمجرّد العقد ، فإن اشترط المبتاع ذلك كان له.

وقد ذكرنا أنّ شيخنا أبا جعفر قال في مبسوطة ، أنّ البائع لا يجوز له أن يشترط الحمل ، لأنّه كعضو من أعضاء الحامل (3) ، وكذلك قال ابن البراج في

ص: 343


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه
2- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب ابتياع الحيوانات ص 599.
3- تقدم نقل كلام المبسوط وابن البراج في الصفحة 336.

جواهر فقهه (1).

وبيّنا أنّ هذا مذهب الشافعي ، لا اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، لأنّه يذكر في كتابه المشار إليه ، مذهبنا ، ومذهب غيرنا ، فابن البراج ظن على أنّه اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، ومذهبه ، فقلّده ونقله ، وضمنه كتابه جواهر الفقه ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، منعقد على أن بمجرد العقد يكون الحمل للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر ، في جميع تصنيفاته ، وكتبه ، ما عدا ما ذكرناه ، واعتذرنا له به ، من ذكره مذهب المخالف لنا.

ولا يجوز أن يشتري الإنسان عبدا آبقا ، على الانفراد ، فإن اشتراه لم ينعقد البيع.

وقال السيد المرتضى : إذا كان بحيث يقدر عليه ، ويعلم موضعه ، جاز شراؤه منفردا ، ولا يمنع ممّا قاله رحمه اللّه مانع ، لأنّ الغرر زال ، وهو داخل في قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » ، فأمّا إذا كان بحيث لا يقدر عليه ، فلا خلاف أنّه لا يجوز بيعه منفردا ، إلا إذا اشتراه مع شي ء آخر ، من متاع أو غيره ، منضم إلى العقد ، فيكون العقد ماضيا والشراء صحيحا بغير خلاف أيضا ، لأنّه أمن الغرر في ذلك.

ومن ابتاع عبدا ، أو أمة ، وكان لهما مال ، كان مالهما للبائع ، دون المبتاع ، اللّهم إلا أن يشترط المبتاع ماله ، فيكون حينئذ له ، دون البائع ، سواء كان ما معه أكثر من ثمنه ، أو أقل منه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته مطلقا (2).

والأولى تحرير ذلك ، وتقييده ، وهو أن يقال : إن كان ما مع العبد من جنس الثمن ، فلا يخلو من ثلاثة أحوال : إمّا أن يكون أقلّ من الثمن ، أو مثله ، أو أكثر منه ، فإن كان ما معه أقلّ من الثمن ، كان البيع صحيحا ، وإن كان مثله ، أو أكثر ، فالبيع غير صحيح ، بغير خلاف ، لأنّه ربا ، مثلا إذا كان مع العبد

ص: 344


1- جواهر الفقه المطبوع مع الجوامع الفقهية ص 422.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان

عشرون دينارا ، وباعه بعشرين دينارا ، أو بتسعة عشر دينارا ، فالبيع باطل ، لأنّ هذا هو الربا المنهي عنه بغير خلاف ، فأمّا إذا كان الثمن من غير الجنس الذي مع العبد ، فالبيع صحيح ، لأنّه آمن فيه الربا ، لاختلاف الجنس ، فليلحظ ذلك.

فإنّ شيخنا أبا جعفر ، حرّره وقيّده (1) في مسائل خلافه ، فقال : مسألة إذا كان مع العبد مائة درهم ، فباعه بمائة درهم ، لم يصحّ البيع ، فإن باعه بمائة درهم ودرهم صحّ ، وبه قال أبو حنيفة ، وللشافعي فيه قولان ، دليلنا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ » والمنع منه يحتاج إلى دليل ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل الخلاف (2).

ويجوز ابتياع أبعاض الحيوان ، كما يصحّ ابتياع جميعه ، وكذلك تصح الشركة فيه.

وإذا ابتاع اثنان عبدا أو أمة ، ووجدا به عيبا ، وأراد أحدهما الأرش ، والآخر الرد ، لم يكن لهما إلا واحد منهما ، حسب ما يتراضيان عليه ، هكذا أورده ، وذهب إليه شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

وذهب في مسائل خلافه ، الى غير ذلك ، وقال لمن أراد الرد الرد ، ولمن أراد الإمساك الإمساك ، وأخذ أرش العيب ، فقال : مسألة إذا اشترى الشريكان عبدا بمال الشركة ، ثم أصابا به عيبا ، كان لهما أن يردّاه ، وكان لهما إمساكه ، فإن أراد أحدهما الرد ، والآخر الإمساك ، كان لهما ذلك ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا امتنع أحدهما من الرد ، لم يكن للآخر أن يرده ، دليلنا أنّ المنع من الرد بالعيب ، يحتاج إلى دليل ، والأصل جوازه ، وليس هاهنا ما يدل على المنع منه (4) ، وإلى هذا القول أيضا ذهب في مبسوطة (5).

قال محمّد بن إدريس : وإلى هذا أذهب ، وبه أفتي وأعمل ، لأنّ منع الرد

ص: 345


1- ج : فانّ شيخنا أبا جعفر جوزه ، وقد قيّده.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 208.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
4- الخلاف : كتاب الشركة ، المسألة 10.
5- المبسوط : ج 2 ، كتاب الشركة ، ص 351.

بالعيب يحتاج إلى دليل ، ومنع الرضا بالعقد ، وأخذ الأرش يحتاج إلى دليل ، ولأنّ الملك بالعقد وقع لاثنين ، فهو بمنزلة العقدين ، لأنّ البائع قد علم أنّه يبيعه من اثنين ، ومن منع من الرد ، قال : لأنّ القبول في العقد ، كان واحدا ، كما لو اشتراه لنفسه وحده ، وهذا ليس بشي ء ، لأنّا قد بيّنا أنّه لعاقدين ، لأنّه بمنزلة العقدين ، لأنّ شريكه وكله في الشراء له ، فاشترى هو لنفسه ، ولشريكه ، ولا يرجع عن الأدلة القاهرة ، بأخبار الآحاد ، إن كانت وردت.

ومن اشترى جارية ، لم يجز له وطؤها في القبل ، إلا بعد أن يستبرئها بحيضة ، إن كانت ممّن تحيض ، وإن كانت ممّن لا تحيض ، فخمسة وأربعون يوما ، وإن كانت آيسة من المحيض ، ومثلها لا تحيض ، لم يكن عليها استبراء.

ويجب على البائع أن يستبرئ الأمة ، قبل بيعها ، إذا كان يطؤها ، وإن كان لم يطأها ، لم يجب عليه استبراء ، ومتى استبرأها ، وكان عدلا مرضيا ، وأخبر بذلك ، جاز للمبتاع أن يعوّل على قوله ، ولا يستبرئها ، على ما روي في بعض الأخبار (1) والواجب على المشتري ، استبراؤها على كلّ حال.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه : إذا ملك امه بابتياع ، أو هبة ، أو إرث ، أو استغنام ، فلا يجوز له وطؤها ، إلا بعد الاستبراء ، إلا إذا كانت في سنّ من لا تحيض ، من صغر ، أو كبر ، فلا استبراء عليها (2).

قال محمّد بن إدريس : الذي رواه أصحابنا في تصانيفهم ، الخالية من فروع المخالفين وقياساتهم ، ونطقت به أخبار الأئمة عليهم السلام ، أنّ الاستبراء لا يجب إلا على البائع ، والمشتري ، ولم يذكروا غير البائع والمشتري ، فيجب عليهما الاستبراء فأمّا من عداهما لم يرووا فيه شيئا ، والأصل براءة الذمة من الأمور الشرعية بغير أدلة قاطعة للأعذار ، والتمسك بقوله تعالى : ( أَوْ ما مَلَكَتْ

ص: 346


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب بيع الحيوان ، ح 2.
2- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 41 ، باختلاف يسير.

أَيْمانُكُمْ ) (1) وهذه مما ملكت ايماننا « إلا ما أخرجه الدليل القاطع من الأمة المشتراة إذا أراد المشتري وطيها وأراد البائع بيعها. وكان يطؤها وبقي الباقي على حكم الآية والأصل » وانّما هذه (2) فروع أبي حنيفة والشافعي. وغيرهما يوردها شيخنا في هذا الكتاب ، أعني مسائل خلافه ، ويقوى عنده ما يقوى منها ويتحدّث عليه معهم ، ولأجل هذا كثيرا ما يرجع عن أقواله معهم في غير ذلك الموضع ، فالأولى التمسّك بأخبار أصحابنا المتواترة ، وتصانيفهم المجمع عليها ، الخالية من الفروع.

ومن اشترى من سوق المسلمين عبدا ، أو أمة ، فادّعيا الحرية لم يلتفت إلى دعواهما ، إلا ببيّنة.

ويكره التفرقة بين الأطفال وأمّهاتهم ، إذا ملكوا ، حتى يستغنوا عنهن ، وحد ذلك سبع سنين أو ثمان سنين (3) ، وليس ذلك بمحظور.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته ، في الجزء الثاني في باب ابتياع الحيوان ، ولا يجوز التفرقة بين الأطفال وأمّهاتهم ، إذا ملكوا حتى يستغنوا عنهن (4).

ورجع عن ذلك وقال بما اخترناه ، في كتاب العتق في نهايته ، أيضا ، في الجزء الثاني ، فإنّه قال : ويكره أن يفرّق بين الولد وبين امّه ، وينبغي أن يباعا معا ، وليس ذلك بمحظور (5).

وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأنّ الإنسان مسلّط على ملكه ، يعمل به ما شاء ، وما ورد في ذلك محمول على الكراهة ، دون الحظر.

ومتى اشترى جارية فأولدها ، ثم ظهر له أنّها كانت مغصوبة لم تكن لبائعها ، كان لمالكها انتزاعها من يد المبتاع ، وقيمة الولد ومهر أمثالها ، واجرة مثلها ، ما دامت في يده ، وللمبتاع الرجوع على البائع بما قبضه من ثمنها ، وغرمه عن

ص: 347


1- النساء : 3.
2- ج : ايماننا وانما هذه
3- ج : سبع سنين.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
5- النهاية : باب العتق وأحكامه.

قيمة ولدها ، وعن أجرتها ، إن كان لم يحصل له انتفاع ، واستخدام ، وليس له أن يرجع عليه بما غرمه ، عن وطئها ، لأنّه حصل له بدلا منه انتفاع ، ولذة ، واستمتاع.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، إن كل ما دخل على أنّه له بعوض ، وهو قيمة الرقبة ، فإنّه يرجع به على البائع ، وهو الثمن ، وكلّ ما دخل على أنّه له بغير عوض ، فإن لم يحصل له في مقابلته نفع ، وهو قيمة الولد ، رجع به على البائع ، وإن حصل له في مقابلته نفع ، وهو مثل المهر في مقابلة الاستمتاع ، لم يرجع به على البائع.

ولا بأس ببيع أمّهات الأولاد بعد موت أولادهن على كلّ حال ، ولا يجوز بيعهن مع وجود أولادهن ، إلا في ثمن أرقابهن ، بأن يكون دينا على مولاها ، بأن يشتريها بثمن في ذمّته أو بأن يستدين ثمنا ، ويشتريها بعينه.

وإذا مات السيد ، وخلّف أم ولد وولدها ، وأولادا جعلت في نصيب ولدها ، فإذا حصلت في نصيبه ، انعتفت في الحال ، وإن لم يخلف الميت غيرها ، انعتقت بنصيب ولدها ، واستسعيت فيما لباقي الورثة من غيرها.

ولا بأس أن يشتري الإنسان ما يسبيه الظالمون ، إذا كانوا مستحقين للسبي ، ولا بأس بوطء من هذه صفتها ، وإن كانت حقا للإمام ، لم يصل إليه ، لأنّ ذلك قد جعله لشيعته ، من ذلك في حل ، وسعة ، لإجماع أصحابنا على ذلك.

وفقه ذلك ، أنّ كلّ سرية ، غزت بغير إذن الإمام ، فما غنمت من أهل الحرب ، فهو في ء ، جميعه لإمام المسلمين ، فلأجل هذا ، قلنا وإن كانت حقا للإمام.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا بأس بوطء من هذه صفتها ، وإن كان فيه الخمس لمستحقيه ، لم يصل إليهم ، لأنّ ذلك قد جعلوه لشيعتهم من ذلك في حلّ وسعة (1).

وهذا ليس بواضح ، لأنّ هذا السبي ، جميعه لإمام المسلمين ، على ما

ص: 348


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

قررناه ، فمن أين فيه الخمس فحسب ، وهذا لفظ الحديث (1) أورده شيخنا إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما تكرر اعتذارنا له وعلى ما اعتذر هو لنفسه ، في خطبة مبسوطة.

ومن قال لغيره : اشتر حيوانا أو غيره بشركتي ، والربح بيني وبينك ، فاشتراه ، ثمّ هلك الحيوان ، كان الثمن بينهما ، كما لو زاد في ثمنه ، كان أيضا بينهما على ما اشترطا عليه ، فإن اشترط عليه أنه يكون له الربح إن ربح ، وليس عليه من الخسران شي ء ، كان على ما اشترطا عليه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : معنى أنّه « إذا قال لغيره : اشتر حيوانا بشركتي » المراد به انقد عني نصف الثمن ، أو ما يختاره ، ويجعله قرضا عليه ، وإلا فما تصح الشركة ، إلا هكذا ، فأمّا قول شيخنا رحمه اللّه « فإن اشترط عليه أن يكون له الربح إن ربح ، وليس عليه من الخسران شي ء كان على ما اشترطا عليه » فليس بواضح ولا مستقيم ، لأنّه مخالف لأصول المذهب ، لأنّ الخسران على رءوس الأموال ، بغير خلاف ، فإذا شرطه أنّه على واحد من الشريكين ، كان هذا شرطا يخالف الكتاب والسنة ، لأنّ السنة جعلت الخسران على قدر رءوس الأموال.

والوصي ، والمتولي للنظر في أموال اليتامى « لأنّه ليس كلّ متول على أموال اليتامى وصيا ، وكلّ وصي على أموالهم ، متولّ عليها ، فلأجل هذا قلنا الوصي والمتولي للنظر في أموال اليتامى » لا بأس أن يبيع من مالهم ، العبد والأمة ، إذا رأى ذلك صلاحا ، ولا بأس لمن يشتري الجارية منه ، أن يطأها ، ويستخدمها ، غير حرج في ذلك ، ولا اثم.

ولا بأس بشراء المماليك من الكفّار ، إذا أقروا لهم بالعبودية ، أو قامت لهم البيّنة بذلك ، أو كانت أيديهم عليهم.

ص: 349


1- الوسائل : الباب 50 من أبواب جهاد العدو ، ح 4 - 6 ، وفي النهاية : كتاب التجارة باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس بشراء المماليك من الكفار ، إذا أقروا لهم بالعبودية (1).

وهذا دليل الخطاب ، ولم ينف الشراء ، إذا قامت لهم بينة بالعبودية.

وإذا اشتريت مملوكا ، فإنّه يكره أن يريه ثمنه في الميزان ، لأنّه لا يفلح ، على ما جاء في الأخبار (2).

وروي في بعض الأخبار ، أنّ من اشترى من رجل عبدا ، وكان عند البائع عبدان ، فقال للمبتاع : اذهب بهما ، فاختر أيّهما شئت ، وردّ الآخر ، وقبض المال ، فذهب بهما المشتري ، فأبق أحدهما من عنده ، فليردّ الذي عنده منهما ، ويقبض نصف الثمن ممّا أعطى ، ويذهب في طلب الغلام ، فإن وجده ، اختار حينئذ أيّهما شاء ، وردّ النصف الذي أخذه ، وإن لم يجد ، كان العبد بينهما نصفين (3).

أورد ذلك شيخنا في نهايته (4) وهذا خبر واحد لا يصحّ ، ولا يجوز العمل به ، لأنّه مخالف لما (5) عليه الأمّة بأسرها ، مناف لأصول مذهب جميع أصحابنا ، وفتاويهم ، وتصانيفهم ، وإجماعهم ، لأنّ المبيع إذا كان مجهولا ، كان البيع باطلا ، بغير خلاف ، وقوله : « يقبض نصف الثمن ويكون العبد الآبق بينهما ويردّ الباقي من العبدين » فيه اضطراب كثير ، وخلل كبير ، إن كان الآبق الذي وقع عليه البيع ، فمن مال مشتريه ، والثمن بكماله لبائعه ، وإن كان الآبق غير من وقع عليه البيع ، والباقي الذي وقع عليه البيع ، فلأيّ شي ء يردّه.

وإنّما أورد شيخنا هذا الخبر ، على ما جاء بلفظه إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّه رجع عنه في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب السلم ، فلو كان عنده صحيحا لما رجع عنه ، فقال : مسألة ، إذا قال اشتريت

ص: 350


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1 و 2.
3- الوسائل : الباب 16 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
5- ج : مخالف لأصول المذهب ولما.

منك أحد هذين العبدين بكذا ، أو أحد هؤلاء العبيد الثلاثة بكذا ، لم يصحّ الشراء ، وبه قال الشافعي ، ثمّ قال : دليلنا أنّ هذا بيع مجهول ، فيجب أن لا يصحّ بيعه ، ولأنّه بيع غرر ، لاختلاف قيمتي العبدين ، ولأنّه لا دليل على صحة ذلك في الشرع ، وقد ذكرنا هذه المسألة في البيوع ، وقلنا : إنّ أصحابنا رووا جواز ذلك في العبدين ، فإن قلنا بذلك ، تبعنا فيه الرواية ، ولم نقس غيرها عليها ، هذا آخر المسألة وآخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه (1).

الا ترى إلى إيراده الأدلة الكثيرة على بطلان ذلك ، ثمّ جعله رواية ، وإن كان من جهة أصحابنا لأنّ أصحابنا قد رووا الآحاد والمتواترة ، فلا يظن ظان بشيخنا ، أنّه إذا وجد في كتبه أنّ هذا رواه أصحابنا ، أنّ جميعهم رووه ، أو كلّهم قائل به ، عامل عليه ، لأنّ ذلك يكون إجماعا أو تواترا ، وإنّما مقصوده ، أنّ هذا روي من جهة أصحابنا وطريقهم ، لا من جهة المخالفين وطرقهم. وإذا كانت الجارية بين شركاء ، فتركوها عند واحد منهم ، فوطأها ، فإنّه يدرأ عنه الحدّ ، لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، هذا إذا قال اشتبه عليّ الحال ، فظننت أنّه يحلّ لكلّ منا وطؤها ، فأمّا إذا لم يقل ذلك ، ولم يشتبه عليه ، ولا ادّعاه ، بل علم أنّه لا يجوز له ، وقال : أنا عالم بذلك ، فإنّه يدرأ عنه من الحدّ ، بقدر ماله منها من الثمن ، ويضرب بمقدار ما لغيره من القيمة ، وتقوّم الأمة قيمة عادلة ، ويلزمها ، فإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي اشتريت به ، الزم ثمنها الأول ، وإن كان قيمتها في ذلك اليوم الذي قوّمت فيه ، أكثر من ثمنها ، الزم ذلك الأكثر ، وإن أراد واحد من الشركاء الجارية ، كان له أخذها ، ولا يلزمه إلا ثمنها الذي تساوى في الحال.

هذا على ما روي في بعض الأخبار (2) أورده شيخنا في نهايته (3) إيرادا لا اعتقاداً.

ص: 351


1- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 38.
2- الوسائل : الباب 17 من أبواب بيع الحيوان.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

والأولى أن يقال : لا يلزم الواطئ لها شيئا ، سوى الحدّ الذي ذكرناه ، على ما صوّرناه ، إلا أن تكون بكرا ، فيأخذ عذرتها ، فيلزمه ما بين قيمتها بكرا ، أو غير بكر ، ويسقط عنه ما يخصّه من ذلك ، ويستحق الباقي باقي الشركاء ، فأمّا إن كانت غير بكر ، فلا يلزم ذلك ، هذا إذا لم يحبلها ، فأمّا إذا أحبلها بولد ، فإنّه يغرم ثمنها الذي تساوى يوم جنايته عليها ، وثمن ولدها يوم يسقط حيا ، إن لو كان عبدا ويسقط من ذلك بمقدار حصّته من الثمنين ، فإن كانت بكرا ، فعلى ما تقدّم القول فيها ، لا يختلف الحكم.

فهذا تحرير هذه الفتيا ، على ما تقتضيه أصول المذهب المقررة ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، ولا تترك لها الأدلة الظاهرة ، والبراهين الواضحة الزاهرة.

والمملوكان إذا كانا مأذونين لهما في التجارة ، فاشترى كلّ واحد منهما صاحبه من مولاه ، فكلّ من سبق منهما بالبيع ، كان له البيع ، وكان الآخر مملوكا له ، وإن اتفق ان يكون العقدان (1) في حالة واحدة ، كان العقد باطلا.

وقد روي أنّه يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه كان البيع له ، ويكون الآخر مملوكه (2).

وهذه الرواية لا يمكن المصير إليها ، لأنّ القرعة تستعمل في الأشياء التي يجوز وقوع الصحة فيها ، وصحة أحدهما ، وبطلان الحكم الآخر ، وهذا السؤال مبني على أنّه وقع العقد في حالة واحدة ، وتحقق وتيقن ذلك.

وقد روي أنّه يذرع الطريق (3).

والأول من الأقوال ، هو الصحيح الذي يقوى في نفسي.

وقد روي (4) أنّه إذا قال مملوك إنسان لغيره : اشترني ، فإنّك إذا اشتريتني ، كان لك عليّ دين شي ء معلوم ، فاشتراه ، فإن كان المملوك في حال ما قال

ص: 352


1- ج : اتفق العقدان.
2- الوسائل ، الباب 18 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1 و 2.
3- الوسائل ، الباب 18 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1 و 2.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

ذلك له مال ، لزمه أن يعطيه ما شرط له وإن لم يكن له مال في تلك الحال ، لم يكن عليه شي ء على حال.

وهذه رواية ، أوردها شيخنا في نهايته (1) إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ العبد عندنا لا يملك شيئا ، لقوله تعالى ( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (2) فنفى تعالى ، أن يقدر العبد على شي ء ، فلا يصح القول بذلك ، فأمّا على قول بعض أصحابنا ، أنّه يملك فضل الضريبة ، وأروش الجنايات ، يصحّ ذلك.

والصحيح من المذهب ، أنّه لا يملك ذلك أيضا للآية ، ولأنّ تملّكه ذلك يحتاج إلى دليل ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وإذا أراد الإنسان شراء أمة ، جاز له أن ينظر إلى وجهها ، ومحاسنها ، نظرا من غير شهوة ، بل نظرا للتقليب والرؤية بحالها ، ولا يجوز له ذلك ، وهو لا يريد شراءها على حال.

وإذا كان لإنسان جارية فجاءت بولد من الزنا ، جاز له بيعها ، وبيع الولد ، وتملكه ، فإنّه مملوك له ، ويجوز له أن يحجّ بذلك الثمن ، ويتصدّق به ، وينفقه على نفسه ، حسب ما أراد ، لأنّه حلال له.

ويجتنب وطء من ولد من الزنا ، مخافة العار ، لا أنّه حرام ، بل ذلك على جهة الكراهة ، بالعقد والملك معا ، فإن كان لا بدّ فاعلا فليطأهن بالملك ، دون العقد ، وليعزل عنهن ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (3).

والذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب ، إن وطء الكافرة حرام ، لقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (4) وقوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) (5) ولا خلاف بين أصحابنا ، أنّ ولد الزنا كافر ، وانّما أجمعنا على وطء اليهودية والنصرانية بالملك ، والاستدامة ، والباقيات من الكافرات على ما هن عليه من

ص: 353


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- النحل : 75.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
4- الممتحنة : 10.
5- البقرة : 221.

الآيات ، والتخصيص يحتاج إلى دليل ، وليس العموم إذا خصّ ، يصير مجازا ، بل الصحيح من قول محصلي أصول الفقه ، أنّه يصح التمسّك بالعموم ، إذا خصّ بعضه ، فليلحظ ذلك.

واللقيط لا يجوز بيعه ، ولا شراؤه ، لأنّه حرّ ، وحكمه حكم الأحرار ، حتى أنّ محصّلي أصحابنا قالوا أنّه إذا كبر ، وأقرّ على نفسه بالعبودية ، لا يقبل إقراره ، وقال بعضهم : إنّه يقبل إقراره ، لأنّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، إلا الأحرار المشهوري الأنساب إذا أقروا بالعبودية ، فلا يقبل إقرارهم ، وهذا ما هو مشهور بنسب.

والصحيح أنّه لا يقبل إقراره بالعبودية ، لأنّ الشارع حكم عليه بالحرية.

ولا يجوز للإنسان أن يشتري شيئا من الغنم ، أو غيره من الحيوان ، من جملة قطيع ، بشرط أن ينتفي خيارها ، لأنّ ذلك مجهول ، بل ينبغي أن يميّز ما يريد شراءه ، أو يعيّنه بالصفة.

وإذا اشترك نفسان في شراء إبل ، أو بقر ، أو غنم ، ووزنا المال ، وقال واحد منهما ، أنّ لي الرأس والجلد ، بمالي من الثمن ، كان ذلك باطلا ، ويقسّم ما اشترياه على أصل المال بالسوية.

ومتى اشترى الإنسان حيوانا ، فهلك في مدّة الثلاثة الأيام ، قبل التصرّف من المشتري فيه فإنّه يهلك من (1) مال بايعه ، كما قدّمناه ، وكان لبائعه أن يحلفه باللّه تعالى ، أنّه ما كان أحدث فيه حدثا ، فإن حلف ، بري ء من العهدة واسترجع الثمن ، وكان من مال البائع ، وإن امتنع من اليمين ، ونكل عنها ، ردّ الحاكم اليمين على البائع ، فإذا حلف أنّه أحدث فيه حدثا ، لزم المشتري البيع ، وكان هلاكه من ماله ، دون مال بايعه.

وقال شيخنا في نهايته : وإن امتنع المشتري من اليمين ، لزمه البيع ، ووجب

ص: 354


1- ج : فإنّه من.

عليه الثمن (1).

وهذا لا يجوز ، لأنّه قضاء بمجرّد النكول ، ولا يجوز عندنا القضاء بمجرّد النكول ، بل لا بدّ بعد النكول من انضمام اليمين إليه ، لأنّ النكول كالشاهد الواحد ، أو اليد المتصرّفة ، لأنّ الأموال لا تنتقل عن ملاكها إلى الغير ، إلا إما بإقرار أو شاهدين ، أو شاهد ويمين ، أو نكول ويمين ، وهذا مذهب شيخنا في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3) ، ومذهب جميع أصحابنا.

وإذا باع الإنسان بعيرا ، أو بقرا ، أو غنما ، واستثنى الرأس والجلد ، كان ذلك جائزا صحيحا ، لأنّه استثنى معلوما من معلوم ، وهو مذهب السيّد المرتضى ، يناظر فيه المخالفين لنا عليه ، في انتصاره (4) ، ولأنّه لا دليل على خلاف ذلك ، من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، وقال تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وفي سائر كتبه : إذا باع الإنسان بعيرا ، أو بقرا ، أو غنما ، واستثنى الرأس والجلد ، كان شريكا للمبتاع بمقدار الرأس والجلد (5) ، معتمدا على خبر ضعيف (6) ، رواه إسماعيل بن أبي زياد السكوني ، وهذا الراوي عامي المذهب ، وإن كان يروي عن الصّادق عليه السلام ، فكيف يترك الأدلة القاهرة لرواية هذا الرجل؟ وشيخنا المفيد رحمه اللّه لم يقبل به ، ولا يودعه كتابه.

وإذا اشترى الإنسان ثلاث جوار مثلا كلّ واحدة منهن بثمن معلوم ، ثمّ حملهن إلى البيع ، الذي هو النخّاس ، وقال له : بع هؤلاء الجواري ، ولك عليّ

ص: 355


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 38.
3- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في النكول عن اليمين.
4- الانتصار : كتاب البيع والصرف ، المسألة 11.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
6- الوسائل : الباب 22 من أبواب بيع الحيوان ، ح 2.

نصف الربح ، فباع ثنتين منهن بفضل ، وأحبل صاحبهن الثالثة ، لزمه أن يعطيه نصف الربح فيما باع ، وليس عليه فيما أحبل شي ء من الربح ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وقد تكلّمنا على مثل هذا ، في باب السّمسار والدلال ، وقلنا ان هذا لا يلزم ، بل يستحق اجرة المثل ، فيما باع فحسب ، ولو لا إيراد شيخنا لهذه المسألة في نهايته ، ما أوردتها في كتابي هذا ، لأنّها قليلة الفقه ، سهلة المأخذ ، وإنّما حداه رحمه اللّه على إيرادها ، لأنّ بعض أخبار الآحاد ورد بها (2) ، فأوردها على ما هي عليه ، إيرادا لا اعتقادا.

وقد روي أنّ من اشترى جارية ، كانت سرقت من أرض الصلح ، كان له ردّها على من اشتراها منه ، واسترجاع ثمنها ، وإن كان قد مات ، فعلى ورثته ، فإن لم يخلف وارثا ، استسعيت الجارية في ثمنها (3).

قال محمّد بن إدريس ، رحمه اللّه : كيف تستسعى هذه الجارية بغير إذن صاحبها؟ وكيف تعتق ، ولا على ذلك دليل ، وقد ثبت أنّها ملك الغير؟ والأولى أن تكون بمنزلة اللقطة ، بل يرفع خبرها إلى حاكم المسلمين ، ليجتهد في ردّها على من سرقت منه ، فهو الناظر في أمثال ذلك.

وقد روي (4) أنّ من اعطى مملوك غيره ، وكان المملوك مأذونا له في التجارة مالا ، ليعتق عنه نسمة ، ويحج عنه فاشترى المملوك أباه ، وأعتقه ، وأعطاه بقية المال ، ليحج عن صاحب المال ، ثمّ اختلف مولى المملوك ، وورثة الآمر ، ومولى الأب الذي اشتراه ، فكلّ واحد منهم قال : إنّ المملوك اشتري بمالي ، كان

ص: 356


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- الوسائل : الباب 24 من أبواب بيع الحيوان ، ح 6.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1.
4- الوسائل : الباب 25 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1.

الحكم أن يرد المعتق على مولاه الذي كان عنده يكون رقا له (1) كما كان ، ثم أيّ الفريقين الباقيين منهما ، أقام البيّنة ، بأنّه اشترى بماله ، سلّم إليه ، وإن كان المعتق قد حجّ ببقيّة المال ، لم يكن إلى ردّ الحجة سبيل ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا أرى لرد المعتق إلى مولاه ، وجها ، بل الأولى عندي ، أنّ القول قول سيد العبد المأذون له في التجارة ، والعبد المبتاع ، لسيّد العبد المباشر للعتق ، وإنّ عتقه غير صحيح ، لأنّ إجماع أصحابنا على أنّ جميع ما بيد العبد ، فهو من مال سيده ، وهذا الثمن في يد المأذون ، وأنّه اشتراه فإذا اشتراه فقد صار ملكا لسيد المأذون الذي هو المشتري ، فإذا أعتقه المأذون بعد ذلك ، فعتقه غير صحيح ، لأنّه لم يؤذن له في العتق ، بل اذن له في التجارة فحسب ، هذا إذا عدمت البينات ، فهذا تحرير القول والفتوى ، في ذلك فليلحظ ، وإنما هذا خبر واحد ، أورده شيخنا في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا لصحته ، فلا يرجع عن الأدلة ، بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

وأيضا فوكالة العبد المأذون له في التجارة ، غير صحيحة بغير إذن سيده.

إذا اشترى عبدا على أنّه كافر ، فخرج مسلما ، لم يكن ، للمشتري الخيار ، ولا الأرش ، دليلنا أن ثبوت الخيار في ذلك ، وإلحاقه بالعيوب الموجبة الرد ، يحتاج الى دليل ، وأيضا النبي عليه السلام قال : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (3) هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (4).

والذي يقوى عندي ، أنّ للمشتري الرد ، والخيار ، لأنّ هذا تدليس ، والأغراض في ذلك تختلف.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا بيّض وجه الجارية بالطلاء أو حمّر خدّيها

ص: 357


1- ج : رقّا كما.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، ح 11 :
4- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 185 ، وليس فيه : ولا أرش ، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

بالدّمام ، بكسر الدال ، وهو الكلكون ، وقال أيضا : إذا اشترى العبد ، أو الجارية فوجدهما ابخرين ، لم يثبت في جميع ذلك للمشتري الخيار (1).

وقال محمد بن إدريس : الذي يقتضيه مذهبنا ، إثبات الخيار للمشتري ، في جميع هذه المسائل ، لأنّ هذا تدليس وغرر ، والرسول عليه السلام نهى عن الغرر (2).

إذا اشترى الإنسان عبدا ، أو أمة فوجدهما زانيين ، لم يكن له الخيار.

وكذلك إذا بان العبد غير مختون ، فلا خيار لمشتريه ، في ردّه ، وإثبات ذلك عيبا يحتاج إلى دليل.

وكذلك إذا وجد الجارية تحسن الغناء ، فلا خيار له.

باب بيع الثمار

إذا باع الإنسان ثمرة منفردة عن الأصل ، مثل ثمرة النخل ، والكرم ، وسائر الفواكه ، فلا يخلو من أحد أمرين ، امّا أن يكون قبل بدو الصلاح ، أو بعده ، فإن كان قبل بدو الصلاح ، فلا يخلو البيع من أحد أمرين ، إمّا ان يكون سنتين فصاعدا ، أو سنة واحدة ، فإن كان سنتين فصاعدا ، فإنّه يجوز عندنا معشر الإمامية القائلين بمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وإن كان سنة واحدة ، فلا يخلو البيع من ثلاثة أقسام ، إمّا أن يبيع بشرط القطع ، أو مطلقا أو بشرط التبقية ، فإن باع بشرط القطع في الحال ، جاز إجماعا ، وإن باع بشرط التبقية أو باع مطلقا ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، لاختلاف أخبارهم وأحاديثهم عن أئمتهم عليهم السلام (3) ، فذهب قوم إلى أن البيع صحيح ، غير أنّه مكروه ، وذهب آخرون منهم إلى أنّ البيع غير صحيح ، وذهب آخرون منهم إلى أنّه مراعى ، وإن كان جائزا (4) ، إلا أنّه متى خاست الثمرة المبتاعة سنة واحدة قبل بدوّ

ص: 358


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 183.
2- عوالي اللئالى : ج 2 ، ص 248 ، ح 17.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب بيع الثمار.
4- ج : كان مكروها.

صلاحها ، فللبائع ما أغلت ، دون ما انعقد عليه البيع من الثمن.

والذي يقوى في نفسي الأوّل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره (1) وتهذيبه (2) ، ومذهب شيخنا المفيد في مقنعته (3) ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر في نهايته (4) ، إلا أنّه رجع عنه في استبصاره ، كما حكيناه عنه ، لمّا جمع بين الأخبار ، ونقدها ، وتوسط بينها ، والثالث مذهب سلار ، ومن قال بقوله.

والذي يدلّ على صحة ما اخترناه ، قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه ، يحتاج إلى دليل ، فإن قيل هذا غرر ، والرسول عليه السلام نهى عن الغرر ، قلنا : معاذ اللّه أن يكون غررا ، بل هذا بيع عين مرئية مملوكة ، يصح الانتفاع بها ، أو يؤول إلى الانتفاع ، وقوله تعالى ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (5) وهذه تجارة عن تراض ، والأخبار في ذلك كثيرة جدا (6) ، وربما بلغت حدّ التواتر ، وما روي بخلاف ذلك ، يحمل على الكراهة ، لئلا تتناقض الأدلة.

والذي يبطل اختيار سلار ومن اختار سلار قوله قول اللّه سبحانه « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فأمر اللّه تعالى بالوفاء بالعقود ، والأمر في عرف الشريعة يقتضي الوجوب ، ومن راعى ما راعى سلار ما وفي بالعقود ولا امتثل الأمر.

فأمّا بيع ثمرة النخل وغيره سنة واحدة ، من قبل أن يخلق فيها شي ء من الطّلع ، ولا ظهر ، فلا يجوز عندنا إجماعا ، وكذلك عند المخالف ، وكذلك لا يجوز بيعها قبل أن تطلع سنتين ، بغير خلاف بيننا وبين المخالفين ، وانّما يجوز عندنا خاصة ، بيعها إذا اطلعت قبل بدو الصلاح سنتين ، وعند المخالفين لمذهب أهل

ص: 359


1- الإستبصار : ج 3 ، باب متى يجوز بيع الثمار من كتاب البيوع ، ص 88.
2- التهذيب : ج 7 ، باب بيع الثمار ، ص 88.
3- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب بيع الثمار ص 602
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
5- النساء : 29.
6- الوسائل : الباب 1 من أبواب بيع الثمار ، الحديث 2 - 8 - 13 - 17 وغيرها ممّا يوجد في أبواب الثمار من كتاب التجارة.

البيت عليهم السلام لا يجوز.

وقد يشتبه على كثير من أصحابنا ذلك ، ويظنّون أنّه يجوز بيعها سنتين ، وإن كانت فارغة ولم تطلع بعد وقت العقد ، وهذا بخلاف ما يجدونه في تصانيف أصحابنا ، وخلاف إجماعهم ، وأخبار أئمتهم ، وفتاويهم ، لأنّهم أجمعوا على أنّ الثمرة إذا لم يبد صلاحها ، فلا بأس ببيعها سنتين من غير كراهة ، ولا انضمام إلى العقد غيره ، وهذا الذي تنطق به أخبارنا ، ويودعه مشايخنا تصانيفهم ، لأنّها إذا اطلعت قبل بدوّ الصلاح ، فلا يجوز بيعها عند بعضهم (1) سنة واحدة بانفرادها ، على ما حكيناه عنهم ، من غير انضمام إلى العقد غيرها ، فأمّا إذا باعها حينئذ سنتين ، من غير انضمام إلى العقد غيرها ، زال الخلاف ، وجاز عندنا جميعا ، من غير كراهة ولا حظر ، على جميع الأقوال ، وكذلك إذا باعها سنة واحدة بانضمام إلى العقد غيرها زال الخلاف حينئذ أيضا ، فقامت السنة الثانية ، مقام انضمام الشي ء إلى العقد عليها ، قبل بدوّ صلاحها وبعد خروجها وطلوعها ، سنة واحدة عند من منع من بيعها منفردة بعد طلوعها وقبل بدو صلاحها سنة واحدة.

ولا خلاف أنّه إذا باعها سنة واحدة قبل خروجها ، من غير انضمام إليها غيرها في العقد ، لا يصحّ هذا البيع ، لأنّه غرر ، وبيع الغرر لا يصحّ بغير خلاف ، وكذلك بيعها سنتين قبل خروجها ، فإنّه غرر بغير خلاف ، لأنّه بمنزلة السنة الواحدة قبل خروجها من غير انضمام ، إلى العقد غيره ، ولو لا إجماعنا على أنّه يجوز بيعها سنتين ، بعد خروجها وقبل بدوّ صلاحها ، لما جاز ذلك عند من قال من أصحابنا لا يجوز بيعها سنة واحدة بعد خروجها وقبل بدوّ صلاحها من غير انضمام شي ء إليها في العقد.

فأمّا إذا باعها ومعها شي ء آخر منضما إلى العقد سنة واحدة قبل خروجها ،

ص: 360


1- ج : عندهم.

فالأولى أن يقال لا بأس بذلك ، فإن قيل : هذا غرر ، قلنا الشي ء المنضم إلى العقد ، يخرجه من كونه غررا.

والذي اعتمده ، وأعمل عليه وأفتي به ، أنّه لا يصح بيعها قبل أن تطلع ومعها شي ء آخر ، لأنّ البيع حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، ولو لا الإجماع المنعقد على صحة بيعها إذا أطلعت سنتين ، لما جاز ذلك ، وإلحاق غيره به قياس ، لا نقول به ، ولو ساغ ذلك ، لساغ أن يباع ما تحمل الناقة ومعه شي ء آخر.

فأمّا إذا كان البيع بعد بدوّ الصلاح ، فإنّه جائز على سائر الأحوال ، وجميع الأقوال.

وبدو الصلاح يختلف بحسب اختلاف الثمار ، فان كانت ثمرة النخل وكانت مما تحمر ، أو تسود ، أو تصفر ، فبدو الصلاح فيها ذلك ، وان كانت بخلاف ذلك ، فحين يتموه فيها الماء الحلو ، ويصفو لونها ، ولا يعتبر التلون ، والتموّه ، والحلاوة ، عند أصحابنا ، إلّا في ثمرة النخل خاصة ، وإن كانت الثمرة ممّا يتورّد ، فبدو صلاحها ، أن ينتثر الورد وينعقد ، وفي الكرم أن ينعقد الحصرم ، وإن كانت غير ذلك ، فحين يخلق ويشاهد.

وقال بعض المخالفين إن كان مثل القثاء والخيار الذي لا يتغيّر طعمه ، ولا لونه ، فبدو صلاحه أن يتناهى عظم بعضه ، وقد قلنا أنّ أصحابنا لم يعتبروا بدو الصلاح ، إلا فيما اعتبروه من النخل ، والكرم ، وانتثار الورد في الذي يتورّد.

ولا اعتبار بطلوع الثريا في بدو الصلاح ، على ما روي في بعض الأخبار (1) ، وهو قول بعض المخالفين.

وإن كان في بستان واحد ثمار مختلفة ، وبدا صلاح بعضها ، جاز بيع الجميع ، سواء كان من جنسه ، أو من غير جنسه.

ص: 361


1- وهو المروي عن ابن عمر على ما أورده في كتاب الخلاف : كتاب البيوع ، ذيل المسألة 143.

ومتى باع الإنسان نخلا قد أبّر ، كانت ثمرته للبائع ، دون المبتاع ، إلا أن يشترطها المبتاع ، فإن شرطها في حال العقد ، كانت له على ما شرط ، فأمّا إن باعها قبل التأبير ، فهي للمبتاع ، إلا أن يشترطها البائع ، ولا اعتبار عند أصحابنا بالتأبير ، إلا في النخل ، فأمّا ما عداه ، فمتى باع الأصول وفيها ثمرة ، فهي للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع ، سواء لقّحت ، وأبّرت ، أو لم تلقّح ، لأنّ العقد ما وقع إلا على نفس الأصل ، دون الثمرة ، ولأنّ الأصل والثمرة جميعا ، ملك للبائع ، فبالعقد انتقل الأصل إلى ملك المبتاع ، ولا دليل على انتقال الثمرة ، فبقيت على ما كانت في ملك البائع ، وإلحاق ذلك واعتباره بالتأبير بالنخل ، قياس لا نقول به ، لأنّه عندنا باطل ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى باع الإنسان نخلا ، قد أبرّ ولقّح ، كانت ثمرته للبائع ، دون المبتاع ، إلا أن يشرط المبتاع الثمرة ، فإن شرّط ، كان له على ما شرط ، وكذلك الحكم فيما عدا النخل ، من شجر الفواكه (1).

قوله رحمه اللّه : وكذلك الحكم فيما عدا النخل من شجر الفواكه ، المراد به ومقصوده ، أنّ الثمرة للبائع ، كما قال ذلك في النخل ، لأنّه رحمه اللّه لم يذكر في النخل إلا أنّها أعني ثمرتها ، إذا أبرت ولقحت للبائع ، ولم يذكر المسألة الأخرى التي تكون الثمرة للمبتاع ، وهي إذا لم تؤبّر وتلقح تكون للمبتاع ، إلا من حيث دليل الخطاب ، ودليل الخطاب متروك ، غير معمول به ، عند المحققين (2) من أصحابنا إلا أن يقوم دليل غيره ، وبالإجماع عرفنا أنّها إذا لم تؤبر الثمرة وباع الأصول فإن الثمرة للمبتاع في النخل ، بقي المعطوف عليه في قوله رحمه اللّه : « وكذلك الحكم فيما عدا النخل من شجر الفواكه » في أن الثمرة للبائع ، لأنّه ما ذكر إلا ما يختص بالبائع ، وأنّها له ، ثم عطف ما عد النخل على النخل ، بعد

ص: 362


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
2- ج : المحصّلين.

التأبير ، بقي ما عدا النخل لا إجماع منّا عليه ، ودليل الخطاب باطل عندنا ، على ما قدّمناه ، وقد قلنا فيما مضى أنّ الأصل والفرع « أعني الثمرة » جميعا للبائع ، فبالعقد يخرج الأصل ، وينتقل إلى ملك المبتاع ، ولا دليل على انتقال الثمرة إلى ملكه ، إلا ما أجمعنا عليه ، من الطّلع الذي لم يؤبّر ، وما عداه من سائر الثمار ، مبقاة على الأصل المقرر ، والأدلة الممهّدة من أنّها ملك للبائع ، هي والأصل ، فينتقل الأصل إلى ملك المشتري بالعقد ، وتبقى الثمرة على ملك صاحبها ، لا دليل على انتقالها ، ولا استدراك على شيخنا أبي جعفر في نهايته ، على ما حرّرناه ، ولا اشتباه في قوله على ما قررناه ، وبيّناه.

فإن قيل : فقد قال في المبسوط بعد شرحه للنخل ، وتأبيره : « وحكم سائر الثمار حكم النخل وثمرتها ، لأنّ أحدا لا يفصل » (1).

قلنا : فقد قال في هذا الكتاب المشار إليه : « وأمّا ما عدا النخل من الأشجار الثابتة التي لها حمل في كل سنة ، خمسة أضرب :

أحدها مثل النخل والقطن وقد بيّنا حكمهما.

والثاني تخرج الثمرة بارزة ، لا تكون في كمام ولا ورد ، مثل العنب والتين ، وما أشبه ذلك ، فإذا باع أصل العنب والتين ، فإن كان قد خرجت الثمرة ، فهي للبائع ، إلا أن يشترط المشتري ، وإن لم يكن خرجت ، وانّما خرجت في ملك المشتري ، فهي للمشتري.

والثالث أن تخرج الثمرة في ورد ، فإذا باع الأصول وقد خرج وردها وتناثر ، وظهرت الثمرة ، فهي للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، وإن لم يتناثر وردها ، ولم تظهر الثمرة ، ولا بعضها ، فإنّ الثمرة للمشتري.

والضرب الرابع يخرج الثمرة في كمام ، مثل الجوز ، واللوز ، وغيرهما ، مما دونه

ص: 363


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أحكام العقود ، ص 101 - 102.

قشر يواريه ، إذا ظهر ثمرته ، فالثمرة للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع » هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

ألا ترى « أرشدك اللّه » إلى قوله رحمه اللّه : إنّ الثمرة في جميع الأربع مسائل ، جعلها للبائع ، وحكم له بها بنفس الظهور والبروز والخروج ، فلو كان حكمها حكم النخل ، ما جعلها للبائع ، لأنّ البائع لا تكون الثمرة له إذا باع الأصول ، عند أصحابنا ، إلا إذا كانت مؤبرة ، ملقحة ، فأمّا إذا كانت طالعة مخلوقة ، قد خرجت ووبّرت من نفس النخلة قبل تأثيرها ، فهي بإجماعهم للمبتاع ، إلا أن يشترطها (2) البائع ، وبالتأبير بعد الخروج تكون للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع ، وأيضا فأخبارنا عن أئمتنا عليهم السلام (3) ، لم ترد في التأبير واعتباره ، إلا في النخل خاصة ، وإلا فالسّبر (4) بيننا ، فلا يجوز لنا أن نتعداها إلى غيرها من الثمار.

وقال رحمه اللّه ، في مبسوطة : إذا باع نخلا قد أطلع ، فإن كان قد أبرّ ، فثمرته للبائع ، وإن لم يكن قد أبّر ، فثمرته للمشتري ، وكذلك إذا تزوج بامرأة على نخلة مطلعة ، أو تخالعه المرأة على نخلة مطلعة ، أو يصالح رجلا من شي ء على نخلة مطلعة ، أو يستأجر دارا مدة معلومة بنخلة مطلعة ، قال رحمه اللّه : فجميع ذلك ، إن كان قد أبّر ، فثمرته باقية على ملك المالك الأوّل ، وإن لم يكن أبّر ، فهو لمن انتقل إليه النخل بأحد هذه العقود ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (5).

قال محمد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي ذكره رحمه اللّه ، مذهب المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، لأنّ جميع هذه العقود ، الثمرة فيها للمالك الأول ، سواء أبرت ، أو لم تؤبّر ، بغير خلاف بين أصحابنا ، والمخالف حمل باقي العقود على عقد البيع ، وقاسها عليه ، ونحن القياس عندنا

ص: 364


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أحكام العقود ، ص 101 - 102.
2- ج : يشترط.
3- الوسائل : الباب 32 من أبواب أحكام العقود.
4- ج : ما السير.
5- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أحكام العقود ، ص 100.

باطل ، بغير خلاف بيننا ، فلا يظنّ ظانّ ، ويشتبه على من يقف على كتابه المبسوط ، أنّ جميع ما قاله فيه واختاره مذهب أصحابنا ، بل معظمه مذهب المخالفين وفروعهم ، اختار رحمه اللّه منها ما قوى عنده في الحال الحاضرة ، ولم يعاود النظر فيه ، فليلحظ ما قلناه ، بعين التدبّر والتدين ، دون التقليد لقديم الزمان ، وقول الأول ، فكان الفضل للمتقدّم ، بل الأولى أن نتبع الأدلة ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : أعرف الحق تعرف أهله (1) أولى من قول الشاعر من الرّعاع ، وهو عدي بن الرقاع.

وإذا باع نخلة مؤبّرة ، فقد قلنا أنّ الثمرة للبائع ، والأصل للمشتري ، فإذا ثبت هذا ، فلا يجب على البائع نقل هذه الثمرة ، حتى تبلغ أوان ، وقيل إبان ، بكسر الألف والباء المنقطة بنقطة واحدة من تحتها ، مشددة ، وهو وقت الجداد ، بالجيم المفتوحة ، والدالين الغير المعجمتين ، هذا هو الأظهر عند أهل اللغة ، وبعض أصحابنا يقول ذلك بالذّالين المعجمتين ، في العرف والعادة ، وكذلك إذا باع ثمرة منفردة بعد بدو الصلاح فيها ، وجب على البائع تركها ، حتّى تبلغ أوان الجداد في العرف والعادة.

ولا يجوز بيع الخضراوات ، بفتح الخاء ، قبل أن تظهر ، ويبدو صلاحها.

ولا يجوز بيع ما يخرج حملا بعد حمل قبل ظهوره ، كالبادنجان ، والقثّاء ، والخيار والبطيخ ، وأشباه ذلك ، وقد روي جوازه (2) ، والأحوط ما قلناه ، لأنّ ذلك غرر.

ولا بأس ببيع الزرع بشرط القصل ، والقصل هو القطع ، ويجب على المبتاع قطعه ، قبل أن يسنبل ، فإن لم يقطعه كان البائع بالخيار ، إن شاء قطعه ،

ص: 365


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب صفات القاضي الحديث 32. أمالي المفيد : المجلس الأوّل ، الحديث 3 ص 5، وقد روي مضمونه في نهج البلاغة في قسم الحكم عن كلامه عليه السلام ، الرقم (262) بهذه العبارة : « انك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه ».
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.

فإن لم يقطعه وبلغ كانت الزكاة إن بلغ النصاب على المشتري ، وعليه أيضا أجرة مثل تلك الأرض ، هذا إذا كانت الأرض عشريّة ، فإن كانت خراجيّة ، كان على المبتاع خراجه.

فأمّا إذا باع الزرع مطلقا عن شرط القطع والقصل ، أو مشروطا بالتبقية ، فلا يجوز للبائع قطعه ، ويجب عليه تبقيته إلى أوان الحصاد ، ولا اجرة له في تبقيته ، بخلاف ما قلناه في المسألة الأولى ، لأنّ هناك تركه غير مستحق ، لأنّه اشترط القطع ، وهذا تركه مستحق ، فوجبت التبقية.

وقال شيخنا في نهايته : ولا بأس بأن يبيع الزرع قصيلا ، وعلى المبتاع قطعه قبل أن يسنبل ، فإن لم يقطعه ، كان البائع بالخيار ، إن شاء قطعه ، وإن شاء تركه ، وكان على المبتاع خراجه (1).

والمراد بقوله رحمه اللّه : « ولا بأس بأن يبيع الزرع قصيلا » ما قلناه من أنّه يبيعه للقطع والقصل ، فلأجل هذا قال : وعلى المبتاع قطعه ، وقوله رحمه اللّه : « وكان على المبتاع خراجه » يريد به طسق الأرض الذي قد قبل به السلطان ، دون الزكاة ، لأنّ الأرض خراجية ، وهي المفتتحة عنوة ، دون أن تكون عشرية ، لأنّها إن كانت عشرية ، كانت عليه الزكاة فحسب ، والخراجيّة عليها الخراج ، الذي هو السهم الذي قد تقبلها به ، فإن فضل بعده ما فيه الزكاة ، تجب عليه الزكاة ، وإن لم يفضل ما يجب فيه ذلك ، لا زكاة عليه فيه.

وروي (2) أنّه إذا اشترى الإنسان نخلا ، على أن يقطعه أجذاعا فتركه حتى أثمر ، كانت الثمرة له ، دون صاحب الأرض ، فإن كان صاحب الأرض ممن قام بسقيه ومراعاته ، كان له اجرة المثل.

قال محمّد بن إدريس : أمّا الثمرة فإنّها لصاحب النخل ، دون صاحب الأرض ، بلا خلاف ، وأمّا صاحب الأرض ، فلا يستحق أجرة السقي ،

ص: 366


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب بيع الثمار ، ح 1 و 2.

والحفاظ ، والمراعاة ، لأنّه متبرّع بذلك ، إلا أن يأمره صاحب النخل ، فيكون له اجرة المثل ، فإن لم يأمره بذلك ، فليس له إلا اجرة الأرض ، على ما قلناه في أرض الزرع ، حرفا فحرفا.

ولا بأس أن يبيع الرطبة وهي القت ، الجزة أو الجزتين ، وكذلك ورق الشجر من التوت ، بتائين ، والأس ، والحناء ، وغير ذلك ، لا بأس ببيعها خرطة ، وخرطتين ، فإن باع أصل ذلك ، وفيه ورقه فالورق للبائع ، لأنّه بمنزلة الثمرة ، وليس كذلك ، إذا باع التوت ، وفيه ورقه ، لأنّه ليس بثمر ، لكنّه يجري مجرى الخوص من النخل ، فإنّه للمبتاع.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ما ابتاعه من الثمرة ، بزيادة ممّا اشتراه ، وإن كان قائما في الشجر.

ولا يجوز بيع الثمرة في رءوس النخل بالتمر ، كيلا ولا جزافا ، يدا بيد ، ولا نسيئة ، وهي المزابنة التي نهى النبي صلى اللّه عليه وآله عنها (1) وأصل الزبن في اللغة ، الدفع ، ومنه الحرب الزبون ، التي تدفع أبطالها إلى الموت.

وكذلك لا يجوز بيع الزرع بالحنطة ، لا كيلا ولا جزافا ، لا يدا ولا نسيئة وهي المحاقلة المنهي عنها (2) « وأصل الحقل ، الأقرحة » وسواء باعه بحنطة من غير تلك الأرض ، أو من تلك الأرض ، وكذلك التمر سواء باعه بتمر من تلك النخل ، أو بتمر من غير تلك النخل ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وهو الذي تقتضيه أصول مذهبنا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز بيع الثمرة في رءوس النخل ، بالتمر كيلا ولا جزافا ، وهي المزابنة التي نهى النبي صلى اللّه عليه وآله عنها وكذلك لا يجوز بيع الزرع بالحنطة من تلك الأرض ، لا كيلا ولا جزافا ، وهي المحاقلة ، فإن باعه بحنطة من غير تلك الأرض ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن باع

ص: 367


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب بيع الثمار ، ح 5 - 1 - 2.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب بيع الثمار ، ح 5 - 1 - 2.

الثمرة بثمرة من غير ذلك النخل ، لم يكن أيضا به بأس (1).

وإلى هذا القول يذهب في مسائل خلافه (2) ، إلا أنّه رجع عن ذلك كلّه وعاد إلى القول الصحيح الذي اخترناه ، في مبسوطة ، فقال : بيع المحاقلة والمزابنة محرّم بلا خلاف ، وإن اختلفوا في تأويله ، فعندنا أنّ المحاقلة بيع السنابل التي انعقد فيها الحبّ أو اشتد بحبّ من ذلك السنبل ، ويجوز بيعه بحب من جنسه ، على ما روي في بعض الأخبار (3) والأحوط أن لا يجوز بيعه بحب من جنسه على كل حال ، لأنّه لا يؤمن أن يؤدّي إلى الربا ، والمزابنة هي بيع التمر على رءوس النخل بتمر منه ، فأمّا بتمر موضوع على الأرض فلا بأس به ، والأحوط أن لا يجوز ذلك ، لمثل ما قلناه في بيع السنابل سواء ، هذا آخر كلامه في مبسوطة رحمه اللّه (4).

ألا تراه إن ما ذكره واختاره في نهايته جعله هاهنا رواية ضعيفة ، لأنّه قال : على ما روي في بعض الأخبار ، فلا يظنّ بالرّجل (5) أنّ جميع ما أورده في نهايته أخبار متواترة يعمل بها ويعتقد صحّتها ، معاذ اللّه ، فاني لا أستجمل لذوي البصائر والتحصيل أن يعتقدوا في شيخنا - مع جلالة قدره - هذا ، وما اخترناه أيضا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته وجماعة من أصحابنا ، لأنّ النهي عام ، ولا مخصّص له من كتاب ولا سنة ولا إجماع.

ويجوز بيع العرايا ، وهي جمع عريّة ، بفتح العين ، وكسر الراء ، وتشديد الياء ، وهو أن يكون لرجل في بستان غيره نخلة يشقّ عليه الدخول إليها أو في داره ، يجوز أن يبيعها منه بخرصها تمرا ، نقدا يدا بيد لا نسيئة ، لأنّ غير العرايا لا يجوز نقدا يدا بيد ولا نسيئة فامتازت العرايا من غيرها بأن رخّص فيها لمكان الضرورة بأن تباع بخرصها تمرا ، نقدا يدا بيد لا نسيئة وغيرها لا يجوز نقدا ولا

ص: 368


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة 152 - 153.
3- الوسائل : الباب 13 من أبواب بيع الثمار ، ح 5 ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
4- المبسوط : فصل بيع الثمار ، ج 2 ، ص 118.
5- ج : فلا يظنّ ظانّ.

نسيئة ولا يجوز في غير النخل ذلك ، وإن كان له نخل متفرق ، في كل بستان نخلة ، جاز له أن يبيع كلّ ذلك ، واحدة واحدة ، بخرصها تمرا ، بيع العرايا.

وإذا أراد الإنسان أن يشتري العرية وجب أن ينظر المتبايعان إلى التمرة التي على النخلة ويحزراها (1) ، فإذا عرفا مقدار الرطب وإذا جف صار كذا تمرا فيبيع بمثله من التمر وزنا ، حسب ما يقع الحزر عليه.

ومن شرط صحّة هذا البيع أن يتقابضا قبل التفرّق ، لأنّ ما فيه الربا لا يجوز التفرّق فيه قبل التقابض ، والقبض في التمر الموضوع على الأرض النقل ، وفي الرطب التخلية ، وجملته أنّه يراعي شرطان : أحدهما المماثلة ، من طريق الخرص ، والثاني التقابض قبل التفرّق بالبدن هكذا أورده شيخنا في مبسوطة (2).

والذي تقتضيه الأدلة أنّه يجوز التفرّق قبل القبض في التمر الذي هو ثمن العرية ، وانّما ذلك على ما يذهب إليه « رحمه اللّه » من أنّ ما يوزن ويكال إذا بيع بجنسه مثلا بمثل لا يجوز التفرّق قبل القبض ، وإنّما ذلك في الصرف خاصّة ، وما عداه فمكروه ، وليس بمحظور ، وإلى هذا يذهب رحمه اللّه في مبسوطة (3) وهو الصحيح.

والعريّة لا تكون إلا في النخل خاصة ، فأمّا في الكرم وشجر الفواكه فإنّه لا دليل عليه ، وقد قيل في تفسير العرايا أقوال كثيرة :

فقال قوم : العرايا النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته ، ولا يدخلها في البيع ولكنّه يبقيها لنفسه ، فتلك الثنيا لا تخرص عليه ، لأنّه قد عفي لهم عمّا يأكلون ، وسميت عرايا ، لأنّها اعريت من أن تباع أو تخرص (4) في الصدقة ، فرخص النبي صلى اللّه عليه وآله لأهل الحاجة والمسكنة ، الذين لا ورق لهم ولا ذهب وهم يقدرون على التمر أن يبتاعوا بتمرهم من أثمار هذه

ص: 369


1- الحزر : الحدس والتقدير.
2- المبسوط : فصل في بيع الثمار ، ج 2 ، ص 19 - 118.
3- المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه ، الربا وما لا يصح ، ج 2 ، ص 89.
4- ج : وتخرص.

العرايا بخرصها ، فعل ذلك بهم رفقا لأهل الحاجة ، الذين لا يقدرون على الرطب ، ولم يرخّص (1) لهم أن يبتاعوا منه ما يكون للتجارة والذخائر.

وقال آخرون : هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج ، ويعريها إيّاه ، فيأتي المعرا ، وهو الموهوب له ، إلى نخلته تلك ليجتنيها ، فيشق ذلك على المعرى وهو الواهب لمكان أهله في النخل ، فرخّص للبائع خاصة أن يشتري ثمرة تلك النخلة من الموهوب له بخرصها.

وقال آخرون : شكا رجال إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّهم محتاجون إلى الرطب ، يأتي ولا يكون بأيديهم ما يبتاعون به فيأكلونه مع الناس ، وعندهم التمر ، فرخّص لهم أن يبتاعوا العرايا ، بخرصها من التمر الذي في أيديهم.

وقال آخرون : الإعراء أن يهب له ثمرة نخلة أو نخلتين أو نخلات ، ومنه الحديث : أنّه رخّص عليه السلام في بيع العرايا بخرصها تمرا (2) ، وذلك أن يمنح الرجل النخلة فيبيع ثمرتها بالتمر ، وهذا لا يجوز في غير العرايا ، وإنما سميت عريّة ، لأنّ من جعلت له يعريها من حملها ، وأنشد الفراء :

ليست بسنهاء ولا رجبيّة *** ولكن عرايا في السّنين الحوائج

معنى سنهاء أي مرت عليها السّنون المجدبة ، وقوله : « رجبيّة » نخلة مرجّبة ، وهي التي يبنى حولها البناء لئلا تسقط ، وهو كالتكريم لها.

وقال الهروي صاحب الغريبين : « العرايا هي أنّ من لا نخل له من ذوي اللحمة والحاجة ، ويفضل له من قوته التمر ، ويدرك الرطب ، ولا نقد بيده ليشتري به الرطب لعياله ، ولا نخيل له ، فيجي ء إلى صاحب النخل فيقول : بعني ثمرة نخلة أو نخلتين بخرصها من التمر ، فيعطيه ذلك الفضل من التمر بثمر (3) تلك النخلات ، ليصيب من أرطابها مع الناس » فرخص النبي صلّى اللّه عليه

ص: 370


1- ج : لم يرض.
2- الوسائل : الباب 14 من أبواب بيع الثمار ، ح 1 و 2.
3- ج : بثمن.

وآله من جملة ما حرّم من المزابنة ، وواحدة العرايا عريّة فعيلة بمعنى مفعولة ، من عراه يعروه ، ويحتمل أن يكون عرى يعرى ، كأنّها عريت من جملة التحريم ، فعريت أي خلت وخرجت ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، ويقال : هو عرو من هذا الأمر أي خلو منه.

قال محمّد بن إدريس : فهذا جملة ما وقفت عليه في تفسير العرايا ، وأشدّه تحقيقا قول الهروي.

ويجوز للإنسان أن يبيع ثمرة بستان ، ويستثني منها أرطالا معلومة ، ولا مانع منه ، وإن استثنى ربعه أو ثلثه أو نخلات بأعيانها جاز بلا خلاف ، وهو أحوط ، وإن باع ثمرة بستانه إلا نخلة لم يعينها لم يصحّ : لأنّ ذلك مجهول.

إذا قال : بعتك هذه الثمرة بأربعة آلاف إلا ما يخصّ ألفا منها صحّ ، ويكون المبيع ثلاثة أرباعها ، لأنّه يخصّ ألفا منها ربعها ، وإن قال : بعتك هذه الثمرة بأربعة آلاف إلا ما يساوي ألفا منها بسعر اليوم لم يجز ، لأنّ ما يساوي ألف درهم من الثمرة لا يدري قدره ، فيكون مجهولا.

ومتى اشترى الثمرة فهلكت لم يكن للمبتاع رجوع على البائع ، فإن كان قد استثنى من ذلك شيئا كان له من ذلك بحسابه ، من غير زيادة ولا نقصان.

وإذا مرّ الإنسان بشي ء من الفواكه جاز له أن يأكل منها مقدار كفايته من غير إفساد ، ما لم يمنعه صاحبها من ذلك ، ولا يجوز له أن يحمل منها شيئا معه على حال إلا بإذن صاحبه ، وهذا يكون إذا لم يقصد من يأكل منها الممر إليها من أول مضيّه ، بل قصد المضي إلى غيرها ثمّ اجتاز بها فدخلها.

وقد روي أنّه إذا كان بين نفسين نخل أو شجر فاكهة ، فقال أحدهما لصاحبه : أعطني هذا النخل بكذا وكذا رطلا ، أوخذ مني أنت بذلك ، فأيّ الأمرين فعل كان جائزا ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

ص: 371


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.

إن أراد بذلك الثمرة فلا يجوز ، لأنّ ذلك داخل في المزابنة ، وإن أراد نفس ماله من النخل دون الثمرة ، فباع ماله من نفس النخل دون الثمرة بالأرطال المذكورة ، كان جائزا ، وإن كان ذلك صلحا جاز ، لأنّه ليس ببيع.

باب بيع المياه والمراعى وحريم الحقوق وأحكام الأرضين وغير ذلك

إذا كان لإنسان شرب في قناة ، فاستغنى عنه ، جاز أن يبيعه بذهب ، أو فضة ، أو حنطة ، أو شعير ، أو غير ذلك من الأعراض والسلع ، وكذلك إن أخذ الماء من نهر عظيم في ساقية يعملها ولزم عليها مئونة ثم استغنى عن الماء جاز له بيعه ، والمعنى في هذا وأمثاله أنّه إن أريد نفس الملك فلا خلاف ولا مسألة ، وانّما المقصود والمراد في ذلك منفعة الشرب ، والسناقية أياما معلومة فسماه بيعا ، وإن كان اجارة ، لا مانع يمنع من تسمية ذلك بيعا في هذا الموضع ، للإجماع عليه ، والأفضل في ذلك أن يعطيه لمن يحتاج إليه من غير بيع عليه ، وهذه هي النطاف والأربعاء التي نهى النبي صلى اللّه عليه وآله عنهما.

قال محمّد بن إدريس : النطاف ، جمع نطفة وهي الماء ، سواء كان كثيرا أو قليلا ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الخوارج : « واللّه ما يعبرون هذه النطفة » (1) يعني عليه السلام النهر ، والأربعاء ممدود ، جمع ربيع ، وهو النهر ، وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في سيل وادي مهزور.

بالزّاي أولا والرّاء ثانيا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : مهزور السيل ، الموضع الذي يجتمع فيه

ص: 372


1- لم نعثر على هذه العبارة منه عليه السلام إلا أنّ في نهج البلاغة - قسم الخطب ، الرقم 59 - أنه عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج وقيل له : إنّ القوم عبروا جسر نهروان قال عليه السلام : « مصارعهم دون النطفة ، واللّه لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة » وقال الشريف الرضي « قدس سره » يعني بالنطفة ماء النهر.

ماء السّيل (1) وفي غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام : سيل وادي مهزور ، وادي بني قريظة ، وكذا أورده ابن دريد في الجمهرة : مهزور بالميم المفتوحة (2) ، والهاء المسكنة ، والزّاء بعد هاء المضمومة ، والواو المسكنة ، والراء غير المعجمة وقال شيخنا محمد بن علي بن بابويه في كتابه (3) من لا يحضره فقيه : سمعت من أثق به من أهل المدينة أنّه وادي مهزور ، ومسموعي من شيخنا محمد بن الحسن رضي اللّه عنه أنّه وادي مهروز بتقديم الراء غير المعجمة ، ذكر أنّها كلمة فارسيّة ، وهو من هرز الماء ، والماء الهرز بالفارسيّة : الزائد على المقدار الذي يحتاج إليه (4) هذا آخر كلام ابن بابويه رحمه اللّه (5).

وأمّا من يقول : مهرور ، براءين غير معجمتين ، على ما كنا نسمع من أدركناه. من أصحابنا فذلك تصحيف بلا ريب.

ان يحبس الأعلى على الذي هو أسفل منه ، للنخل إلى الكعب ، وللزرع إلى الشراك ، ثم يرسل الماء إلى من هو دونه ، ثمّ كذلك يعمل من هو دونه مع من هو أدون منه قال ابن أبي عمير : المهزور موضع الوادي (6) ، هكذا حكى شيخنا في نهايته (7) وقال في مبسوطة : روى أصحابنا أن الأعلى يحبس إلى الساق للنخل ، وللشجر إلى القدم ، وللزرع إلى الشراك (8).

ولا بأس أن يحمي الإنسان الحمى من المرعى ، والكلا ، إذا كان في أرضه وسقاه بمائه ، فأمّا غير ذلك فلا يجوز بيعه ، لأنّ الناس كلهم فيه شرع - بفتح الرّاء - سواء.

ومن باع نخيلا ، واستثنى منها نخلة معيّنة في وسطها ، جاز له الممر إليها

ص: 373


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب احياء الموات ، فصل في تفريع القاطع والإرفاق ، ص 284.
2- ج : في الجمهرة ، بالميم المفتوحة.
3- ج : كتاب.
4- ج : يحتاج.
5- من لا يحضره الفقيه : ج 3 باب الحكم في سيل وادي مهزور ، ص 99.
6- الوسائل : الباب 8 من أبواب إحياء الموات ، ح 1 ، باختلاف يسير.
7- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعى ، وفيه وقال ابن أبي عمير.
8- المبسوط : ج 3 ، كتاب احياء الموات ، فصل في تفريع القاطع والإرفاق ، ص 284.

والمخرج منها ، وله مدى جرائدها من الأرض ، على ما روي (1).

وحدّ ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن ، أربعون ذراعا ، وحدّ ما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا ، وما بين

العين إلى العين خمسمائة ذراع ، إذا كانت الأرض صلبة ، فإن كانت رخوة - بكسر الرّاء - فألف ذراع.

قال محمّد بن إدريس : بئر المعطن هي البئر التي يستقى منها لسقي الإبل ، وأصل المعطن والعطن مباركها حول المياه لتشرب (2) ، قال الشاعر : « بين الحوض والعطن » فأراد أن يكون في الأرض المباح إذا حفر الإنسان فيها بئرا ليسقي إبله فحسب ، وأراد غيره أن يحفر إلى جنبه بئرا اخرى ليسقي أيضا إبله ، أن يكون بينه وبين بئره أربعون ذراعا ، لا أقل منها ، فأمّا إذا كانت البئر لسقي الزرع يستقى منها بالناضح الذي هو الجمل ، وأراد غيره أن يحفر إلى جنبها بئرا ليسقي زرعه بالناضح أيضا ، فيكون بينه وبينه ستون ذراعا ، لا أقل من ذلك.

والفرق بين هذه البئر وبين تلك أنّ تلك يستقى منها باليد ، ولا يحتاج إلى الناضح ، لقلّة ما يؤخذ منها ، وهذه يؤخذ منها ماء كثير يحتاج إليها للزرع فيستقى عليها بالناضح.

والطريق إذا تشاح عليه أهله في الأرض المباحة ، واختلفوا في سعته ، فجدّه سبعة أذرع.

وإذا كان لإنسان رحى بأمر حق واجب على نهر ، والنهر لغيره ، وأراد صاحب النهر أن يسوق الماء في نهر آخر إلى القرية ، لم يكن له ذلك إلا برضا صاحب الرحى وموافقته.

وقد ذكرنا أحكام الأرضين وأقسامها في كتاب الزكاة من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادته.

ومن أحيا أرضا كان أملك بالتصرّف فيها ، إذا كان ذلك بإذن الإمام

ص: 374


1- الوسائل : الباب 30 من أبواب أحكام العقود ، ح 2 ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ..
2- ج : المياه.

عليه السلام : لأنّ هذه الأرض له ، فإن كانت الأرض الميتة لها مالك معروف ، وهي مثل أرض خراسان ، وجميع الأراضي التي لم تؤخذ عنوة ، ولها مالك معروف ، ثمّ خربت ، فلا تخرج بخرابها عن ملك صاحبها ، ولا تدخل في جملة الأرض الميتة ، التي هي لإمام المسلمين ، فهذا معنى « لها مالك معروف » ، كان عليه أن يعطي صاحب الأرض طسق الأرض ، وليس للمالك انتزاعها من يده ما دام هو راغبا فيها ، وإن لم يكن لها مالك وكانت للإمام وجب على من أحياها أن يؤدي إلى الإمام طسقها ، ولا يجوز للإمام انتزاعها من يده ، إلى غيره ، إلا أن لا يقوم بعمارتها كما يقوم غيره ، أو لا يقبل عليها ما يقبله الغير ، على ما روي في بعض الأخبار (1).

أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) وهذه أخبار آحاد.

ثم قال : ومتى أراد المحيي الأرض من هذا الجنس الذي ذكرناه ، ان يبيع شيئا منها ، لم يكن له أن يبيع رقبة الأرض ، وجاز له أن يبيع ماله من التصرف فيها (3).

وكلّ هذه أخبار آحاد ، أوردها على ما وجدها في كتابه النهاية ، والأولى عرضها على الأدلة ، فما صححته منها كان صحيحا ، وما لم تصححه كان باطلا مردودا.

وروي أنّه إذا اشترى الإنسان من غيره جربانا معلومة من الأرض ، ووزن الثمن ، ثمّ مسح الأرض فنقص عن المقدار الذي اشتراه ، كان بالخيار بين أن يرد الأرض ويسترجع الثمن بالكليّة ، وبين أن يطالب برد ثمن ما نقص من الأرض (4) ، وإن كان للبائع أرض بجنب تلك الأرض ، وجب عليه أن يوفيه تمام ما باعه إيّاه.

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر فيه نظر ، أمّا قوله : « وإن كان للبائع أرض

ص: 375


1- الوسائل : الباب 2 و 3 من احياء الموات ، وربما يوجد في أبواب الأنفال ، والباب 72 من أبواب الجهاد ما يدل على المطلوب.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ، وفيه ، متى أراد المحيي الأرض.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ، وفيه ، متى أراد المحيي الأرض.
4- الوسائل : الباب 14 من أبواب الخيار.

بجنب تلك الأرض وجب عليه أن يوفيه تمام ما باعه إيّاه » فغير واضح ، لأنّ العقد قد وقع على شي ء معيّن ، فانتقاله إلى عين اخرى يحتاج إلى دليل ، وأمّا قوله : « كان بالخيار بين أن يردّ الأرض ويسترجع الثمن بالكلية ، وبين أن يطالب برد ثمن ما نقص » ، أمّا الخيار بين الرد والإمساك فله ذلك بغير خلاف ، بل يبقى بأيّ شي ء يرجع من الثمن إن لم يرد وأمسك الأرض ، فيه قول ذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قال : إذا قال : بعتك هذه الأرض على أنّها مائة ذراع فكانت تسعين ، فالمشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء أجازه بجميع الثمن ، لأنّ العقد وقع عليه ، وإن كانت أكثر من مائة ذراع قيل فيه وجهان : أحدهما يكون البائع بالخيار بين الفسخ وبين الإجازة بجميع الثمن ، وهو الأظهر والثاني أن البيع باطل ، لأنّه لا يجبر على ذلك ( وكذلك الثياب والخشب وجميع ما لا يتساوى قيمة أجزائه ، وهو الذي لا مثل له ، بل يضمن بالقيمة ، فحكمه حكم الأرض في البيع ، وهو ما مضى ذكره من الزيادة والنقصان ، فأمّا ما يتساوى قيمة أجزائه ، وهو الذي له مثل ويضمن بالمثلية ، فإنّه ) (1) إذا اشترى صبرة طعام على أنّها مائة كرّ فأصاب خمسين كرا ، كان المشتري بالخيار ، إن شاء أخذها بحصتها من الثمن ، وإن شاء فسخ البيع ، وإن وجدها أكثر من مائة كرّ أخذ المائة بالثمن ، وترك الزيادة ، ويخالف الأرض والثياب والخشب على ما تقدّم ، والفرق بين المسألتين أنّ الثمن ينقسم هاهنا ، أعني في ما يتساوى أجزاؤه على أجزاء الطعام لتساوي قيمتها ، وليس كذلك الأرض والثياب والخشب ، فإن أجزاءها مختلفة القيمة ، فلا يمكن قسمة الثمن على الأجزاء ، لأنّه لا يعلم أنّ الناقص من الذراع لو وجد كم كانت تكون قيمته ، فإذا كان كذلك خيّر البائع في الزيادة بجميع الثمن ، وخيّر المشتري في

ص: 376


1- وما وقع في القوسين ليس في المبسوط.

النقصان بجميع الثمن ، ولأجل هذا الاعتبار لو باع ذراعا من خشب أو من دار أو ثوب ويكون الذراع غير معيّن من الثوب أو الدار أو الخشبة لم يجز ، وكان البيع باطلا ، لأنّه مجهول ، ولأنّ قيمته مختلفة ، ولو باع قفيزا غير معيّن من صبرة معينة لكان البيع صحيحا بلا خلاف ، فهذا جملة ما أورده ومعانيه وتفاصيله وخلاصته (1).

قال محمّد بن إدريس : لا خلاف أن الخيار يثبت في هذه المسائل ، فيما وجده ناقصا ، ممّا لا مثل له ، أو ممّا له مثل ، للمشتري خاصة ، لأنّ له غرضا في جميعه ، وهو ان يكون مكملا ، فإذا وجده بخلاف ذلك ، فله الخيار ، فإن اختار الرد واسترجاع الثمن فلا كلام ، وله ذلك ، وإن اختار الإمساك ، فله ذلك أيضا ، إلا أنّه يمسك ماله مثل ، بما يخصّه (2) من الثمن المعقود عليه ، وما ليس له مثل ، يمسكه ويسقط من الثمن على قدر القيم بالحصّة من الثمن ، لئلا يجتمع الثمن والمثمن جميعا مع المشتري ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

وأمّا إن كان زائدا ، فإن كان له مثل ، أخذ ماله وردّ الباقي ، ولا خيار لواحد منهما ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وإن كان لا مثل له ، فالمبتاع بالخيار ، لأنّ له غرضا ، إلا أن يكون له في ذلك شريك ، فإن شاء ردّ ، واسترجع الثمن أجمع ، وإن شاء أمسك المبيع ، وكان شريكا للبائع ، وليس للبائع في فسخ البيع خيار على حال ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ».

ولي في هذه المسألة الأخيرة نظر وتأمّل.

وروي ، أنّه كتب محمّد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد العسكري عليه السلام ، رجل اشترى من رجل بيتا في دار له ، بجميع حقوقه ، وفوقه بيت آخر ، هل يدخل البيت الأعلى في حقوق البيت الأسفل أم لا؟ فوقّع عليه السلام : ليس له إلا ما اشتراه في سهمه وموضعه إن شاء اللّه (3).

ص: 377


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع فصل في بيع الصبرة وأحكامها ، ص 154 - 155 ، باختلاف يسير في العبارة.
2- ج : بحصّته.
3- الوسائل : الباب 31 من أبواب أحكام العقود ، ح 1.

وكتب أيضا إليه ، رجل اشترى حجرة أو مسكنا في دار بجميع حقوقها ، وفوقها بيوت ومسكن آخر ، يدخل البيوت الأعلى والمسكن الأعلى ، في حقوق هذه الحجرة والمسكن الأسفل الذي اشتراه أم لا؟ فوقّع : ليس له من ذلك ، إلا الحقّ الذي اشتراه إن شاء اللّه (1).

وكتب إليه أيضا في رجل قال لرجلين : اشهدا أنّ جميع الدار التي له في موضع كذا وكذا بجميع حدودها كلّها لفلان (2) بن فلان ، وجميع ماله في الدار من المتاع ، والبيّنة لا تعرف المتاع أيّ شي ء هو ، فوقّع عليه السلام يصلح إذا أحاط الشراء بجميع ذلك إن شاء اللّه (3).

وكتب أيضا إليه (4) رجل كانت له قطاع أرضين في قرية ، وأشهد الشهود أنّه قد باع هذه القرية بجميع حدودها ، فهل يصلح ذلك أم لا؟ فوقّع : لا يجوز بيع ما ليس يملك وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك (5).

قال محمّد بن إدريس : وقد قدّمنا فيما مضى ، أنّ من باع ملكه وملك غيره في صفقة واحدة ، مضى البيع في ملكه ، وبطل في ملك الغير ، ويأخذه بحصّته من الثمن ، وإن شاء المبتاع ، ردّ المبيع على البائع ، فهو بالخيار في ذلك.

وروي عن الرسول عليه السلام ، رواه السكوني بإسناده أنّه قال : من غرس شجرا أو حفر واديا (6) ، لم يسبقه إليه أحد ، أو أحيا أرضا ميتة فهي له ، قضاء من اللّه تعالى ورسوله (7).

وقد قدّمنا مثال ذلك ، وما يعمل عليه.

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، أنّه سئل عن النزول على أهل الخراج ،

ص: 378


1- الوسائل : الباب 31 من أبواب أحكام العقود ، ح 2.
2- ج حدودها لفلان.
3- الوسائل : الباب 48 من أبواب الشهادات.
4- ج : كتب إليه.
5- الوسائل : الباب 2 من أبواب عقد البيع ، والظاهر أنّه منقول بالمعنى في بعض ألفاظه.
6- ج : واديا بديّا.
7- الوسائل : الباب 2 من أبواب إحياء الموات.

فقال ثلاثة أيام روي ذلك عن النبي عليه السلام (1).

وروى إسماعيل بن الفضل ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن السخرة في القرى ، وما يؤخذ من العلوج والأكراد ، إذا نزلوا القرى ، قال تشرط عليهم ذلك ، فما اشترطت عليهم من الدراهم والسخرة ، وما سوى ذلك ، فيجوز لك ، وليس لك أن تأخذ منهم شيئا حتى تشارطه ، وإن كان كالمستيقن ، أنّ من نزل تلك الأرض أو القرية ، أخذ منه ذلك (2).

قال محمّد بن إدريس : هذا إذا كانت القرية ملكا للإنسان ، فإن نزلوها بغير إذنه ، فله عليهم اجرة المثل ، وإن نزلوها بإذنه وإباحته ، فلا شي ء له عليهم ، إلا أن يشارطهم ويؤجرهم ذلك بأجرة مسمّاة ، أو يجعل عليهم جعلا.

فأمّا السخرة بالسّين غير المعجمة المضمومة ، والخاء المعجمة المسكنة ، والراء غير المعجمة المفتوحة ، والهاء ، فهي من التسخير ، وهو تكليفه عملا بغير اجرة ، فلان سخرة ، يتسخر في العمل ، يقال : خادمة سخرة ، يعنى تكلّف العمل بلا اجرة.

قال : وسألته عن أرض الخراج ، اشترى الرجل منها أرضا فبني (3) فيها أو لم يبن ، غير أن أناسا من أهل الذمّة نزلوها ، إله أن يأخذ منهم اجرة البيوت إذا أدّوا جزية رءوسهم؟ فقال : يشارطهم ، فما أخذه منهم بعد الشرط فهو حلال (4).

وقد روي أنّه كتب محمد بن الحسن الصفار ، إلى أبي محمد العسكري عليه السلام ، في رجل اشترى من رجل أرضا بحدودها الأربعة ، فيها الزرع والنخل وغيرهما من الشجر ، ولم يذكر النخل ولا الزرع ولا الشجر في كتابه ، وذكر فيه أنه قد اشتراها بجميع حقوقها الداخلة فيها والخارجة منها ، أيدخل النخل والأشجار والزرع في حقوق الأرض أم لا؟ فوقّع عليه السلام : إذا ابتاع الأرض بحدودها ، وما أغلق عليها بابه فله جميع ما فيها إن شاء اللّه (5).

ص: 379


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب المزارعة ، ح 3.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المزارعة ، ح 3.
3- ج : فيبني.
4- الوسائل : الباب 20 من أبواب المزارعة ، ح 3.
5- الوسائل : الباب 29 من أبواب أحكام العقود.

قوله عليه السلام في الجواب : « وما أغلق عليها بابه » يريد بذلك جميع حقوقها ، فالجواب مطابق للسؤال.

ولا يجوز أن يأخذ الإنسان من طريق المسلمين شيئا ، ولو قدر شبر ، ولا يجوز له أيضا بيعه ولا شراء شي ء ، يعلم أنّ فيه شيئا من الطريق ، فإن اشترى دارا أو أرضا ، ثم علم بعد ذلك انّه كان صاحبه قد أخذ شيئا من الطريق فيها ، لم يكن عليه شي ء ، إذا لم يتميّز له الطريق ، فإذا تميّز ، وجب عليه ردّه إليها ، وكان له الرجوع على البائع بالدرك ، أو فسخ البيع.

وروي أنّه إذا كان للإنسان في يده دار أو أرض ورثها عن أبيه عن جدّه ، غير أنّه يعلم أنّها لم تكن ملكا لهم ، وانّما كانت ملكا للغير ، ولا يعرف المالك ، لم يجز له بيعها ، بل ينبغي أن يتركها بحالها ، فإن أراد بيعها ، فليبع تصرّفه فيها ، ولا يبيع أصلها على حال (1).

قال محمّد بن إدريس : يمكن أن يقال انّما كان الأمر على ما ذكر في هذا الحديث ، والوجه في ذلك ، وكيف يجوز له (2) تركها في يده ، وبيع ما جاز له بيعه ، وهو يعلم أنّه لم يكن لمورثه ، أنّ هذه الدار لم يحط علمه بأنّها غصب ، وانّما قال في الحديث لم يكن لمورثه ومن كان بيده شي ء ، ولم يعلم لمن هو ، فسبيله سبيل اللقطة ، فبعد التعريف المشروع ، يملك التصرّف ، فجاز أن يبيع ماله فيها ، وهو التصرّف الذي ذكره في الخبر ، دون رقبة الأرض إذا كانت في الأرض المفتتحة عنوة ، فهذا وجه في تأويل هذا الحديث.

وبعد هذا كلّه فهذه كلّها أخبار آحاد ، أوردها شيخنا في نهايته (3) ، لئلا يشذّ من الأخبار شي ء ، على ما اعتذر به رحمه اللّه في عدّته (4) ، فأوردناها نحن في

ص: 380


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 5.
2- ج : وكيفية جواز.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ..
4- العدة : الفصل الرابع من الكلام في الأخبار ، عند الجواب عن إشكالات حجية خبر الواحد ، وعبارتها هكذا : « ولا يمتنع أن يكون أنّ ما رواه ليعلم أنّه لم يشذّ عنه شي ء من الروايات لا لأنّه يعتقد ذلك ».

كتابنا هذا ، كما أوردها - واللّه أعلم - بكثير (1) من أصحاب الأخبار والحديث ، فإنّهم يوردون ما سمعوا ، ويروون ما روي لهم وحدّثوا.

والأرضون الموات التي لم يجر عليه ملك لأحد ، لإمام المسلمين خاصّة ، لا يملكها أحد بالإحياء ، إلا أن يأذن له الإمام ، وأمّا الذمي فلا يملك إذا أحيا أرضا في بلاد الإسلام ، وكذلك المستأمن.

والناس في الحمى ، على ثلاثة أضرب النبي عليه السلام ، والأئمة المعصومون من بعده عليهم السلام ، وآحاد المسلمين.

فأمّا النبي عليه السلام ، فكان له أن يحمي لنفسه ولعامة المسلمين ، لقوله عليه السلام : لا حمى إلا لله ولرسوله (2) وروي عنه عليه السلام ، أنّه حمى النقيع بالنون - لخيل المجاهدين ترعى فيه (3).

وأمّا آحاد المسلمين ، فليس لهم أن يحموا لأنفسهم ، ولا لعامة المسلمين ، لقوله عليه السلام : لا حمى إلا لله ولرسوله.

وأمّا الأئمة عليهم السلام ، فإن حموا كان لهم ذلك ، لأنّ أفعالهم حجة عندنا.

فأمّا الذي يحمى له ، فإنّه يحمى للخيل المعدة لسبيل اللّه ، وتعم الجزية والصدقة والضوال.

وأمّا قدر ما يحميه ، فهو ما لا يعود بضرر على المسلمين ، أو بضيق مراعيهم ، لأنّ الإمام عندنا لا يفعل إلا ما هو من مصالح المسلمين ، فإذا ثبت هذا ، فإنّه يحمي القدر الذي يفضل عنه ما فيه كفاية لمواشي المسلمين.

وإذا أذن واحد من الأئمة عليهم السلام ، لغيره في إحياء ميت ، فأحياه ، فإنّه

ص: 381


1- ج : الكثير.
2- سنن البيهقي ، كتاب احياء الموات ، باب ما جاء في الحمى ، ج 6 ص 146 والحاكم في كتاب البيوع ص 61 ج 2.
3- الوسائل : الباب 9 من أبواب إحياء الموات ، ح 3 ولفظه هكذا : حمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم النقيع لخيل المسلمين.

يملكه ، فأمّا من يحييه بغير إذنه ، فإنّه لا يملك به ، حسب ما قدّمناه.

وأمّا ما به يكون الإحياء ، فلم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء دون مالا يكون ، غير أنّه إذا قال النبي عليه السلام : من أحيا أرضا فهي له ، ولم يوجد في اللغة معنى ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة ، فما عرفه الناس إحياء في العادة ، كان إحياء وملك به الموات ، كما أنّه لمّا قال : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، رجع في ذلك إلى العادة ، هذا مذهبنا ، فأمّا المخالف لنا فله تفاصيل في الإحياء ، يطول شرحها.

فإذا أحياها وملكها (1) ، فإنّه يملك مرافقها التي لإصلاح للأرض إلا بها.

وإذا حفر بئرا أو شق نهرا ، أو ساقية ، فإنّه يملك حريمها.

وجملته أن ما لا بدّ منه في استقاء الماء ، ومطرح الطين ، إذا نضب الماء ، فكريت الساقية والنهر ، ويكون ذلك على حسب الحاجة ، قلّ أم كثر.

وأمّا إن أراد أن يحفر بئرا في داره ، أو ملكه ، وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر ، لم يمنع منه ، بلا خلاف في جميع ذلك ، وإن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم ، والفرق بين الملك والموات ، أنّ الموات يملك بالإحياء ، فمن سبق إلى حفر البئر ، ملك حريمه ، وصار أحقّ به ، وليس كذلك في الملك ، لأنّ ملك كلّ واحد منهما ، ثابت مستقر ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما شاء ، وكذلك إذا أحيا أرضا ليغرس فيها بجنب أرض فيها غراس لغيره ، بحيث يلتف أغصان الغراسين ، وبحيث تلتقي عروقهما (2) ، كان للأوّل منعه ، لما ذكرناه.

وإن حفر رجل بئرا في داره ، وأراد جاره أن يحفر بالوعة ، أو بئر كنيف ، بقرب هذه البئر ، لم يمنع منه ، وإن أدّى ذلك إلى تغيّر ماء البئر ، لأنه مسلّط على

ص: 382


1- ج : أحياها.
2- يلتفّ عروقها.

التصرّف في ملكه بلا خلاف.

وأمّا المعادن فعلى ضربين : ظاهرة وباطنة ، فالباطنة لها أحكام مذكورة في مواضعها ، وأمّا الظاهرة فهي الماء ، والقير ، والنفط ، والموميا ، والكبريت ، والملح ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا يملك بالإحياء ، ولا يصير أحد أولى به بالتحجّر من غيره ، وليس للسلطان أن يقطعه ، بل الناس كلّهم فيه سواء ، يأخذون منه قدر حاجتهم ، بل يجب عندنا فيه الخمس ، ما عدا الماء ، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يملك ، وليس للسلطان أن يقطع مشارع الماء بغير خلاف ، وكذلك المعادن الظاهرة.

فإذا ثبت أنّها لا تملك ، فمن سبق إليها أخذ قدر حاجته منها ، وانصرف ، فإن سبق إليه اثنان ، أقرع بينهما الإمام.

وليس للسلطان أن يقطع الشوارع ، ورحاب الجوامع.

وأمّا المعادن الباطنة مثل الذهب والفضة والنحاس ، والرصاص ، وحجارة البرام ، والفيروزج ، وغير ذلك ممّا يكون في بطون الأرض والجبال ، ولا يظهر إلا بالعمل فيها ، والمئونة عليها ، فهل تملك بالإحياء ، أم لا؟ قيل فيه قولان : أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني لا يملك ، وهو مذهب مخالفينا.

إذا أحيا أرضا من الموات ، فظهر فيها معدن ، ملكها بالإحياء ، وملك المعدن الذي ظهر فيها ، بلا خلاف ، لأنّ المعدن مخلوق ، خلقة الأرض ، فهو جزء من أجزائها.

وكذلك إذا اشترى دارا ، فظهر فيها معدن ، كان للمشتري ، دون البائع.

فأمّا إذا وجد فيها كنزا مدفونا ، كان له ويخرج منه الخمس ، إذا بلغ مقدار ما يجب فيه الزكاة ، سواء كان من دفن الجاهليّة ، أو دفن الإسلام ، وإن كان ذلك الكنز في أرض اشتراها ، فإنّ الكنز لا يدخل في البيع ، لأنّه مودع فيه ، ويجب عليه تعريف البائع ذلك ، فإن عرفه ، سلّمه إليه ، وإلا أخرج منه الخمس ، إذا بلغ مقدار عشرين دينارا ، على ما قدّمناه.

الآبار على ثلاثة أضرب : ضرب يحفره في ملكه ، وضرب يحفره في الموات

ص: 383

لتملكها ، وضرب يحفره في الموات لا للتملك ، فما يحفره في ملكه ، فإنّما هو نقل ملكه من ملكه ، لأنّه ملك المحلّ قبل الحفر ، والثاني إذا حفر في الموات ليتملكها ، فإنّه يملكها بالإحياء.

فإذا ثبّت هذا ، فالماء الذي يحصل في هذين الضربين ، هل يملك أم لا؟ قيل فيه وجهان : أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني أنّه لا يملكه ، لأنّه لو ملكه لم يستبح بالإجارة ، وانّما قلنا أنّه مملوك ، لأنّه نماء ملكه ، مثل ثمرة الشجرة ، وانّما يستباح بالإجارة ، بمجرى العادة ، ولأنّه لا ضرر على مالكه ، لأنّه يستحلف في الحال بالنبع ، وما لا ضرر عليه ، فليس له منعه ، مثل الاستظلال بحائطه.

فإذا أراد بيع شي ء منه ، وهو في البئر ، وشاهده المشتري ، جاز ذلك كيلا أو وزنا ، ولا يجوز بيع جميع ما في البئر ، لأنّه لا يمكن تسليمه ، لأنّه ينبع ويزيد ، كلما استقى منه شي ء ، فلا يمكن تميز المبيع من غيره.

وأمّا الضرب الثالث ، فهو إذا نزل قوم موضعا من الموات ، فحفروا فيه بئرا ليشربوا ، ويسقوا بهائمهم منها مدّة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ، فإنّهم لا يملكونها ، لأنّ المحيي إنّما يملك بالإحياء ، إذا قصد تملكه به ، فإذا لم يقصد تملكه ، فإنه يكون أحق به مدّة مقامه ، فإذا رحل ، فكل من سبق إليه فهو أحقّ به ، مثل المعادن الظاهرة.

والكلام في المياه في فصلين : أحدهما في ملكها ، والآخر في السقي منها فأمّا الكلام في ملكها ، فهو على ثلاثة أضرب : مباح ، ومملوك ، ومختلف فيه ، فالمباح مثل ماء البحر ، والنهر الكبير ، مثل دجلة ، والفرات ، والنيل ، وجيحون ، وسيحان ، فأمّا سيحان فنهر بلخ ، وأمّا جيحون ، وقيل جيحان ، فذكر في كتاب الكوفة ، أنّه دجلة ، وقال الجوهري اللغوي ، في كتاب الصحاح : سيحان نهر بالشام ، وساحين نهر بالبصرة ، وسيحون نهر بالهند ، وجيحون نهر بلخ ، وجيحان نهر بالشام ، وكلّ هذا مباح ، ولكل أحد أن يستعمل منه ما أراد ، ويأخذ كيف شاء.

ص: 384

وأمّا المملوك فكلّ ما حازه من الماء المباح في قرية أو حرّة ، أو بركة ، أو مصنع ، فهذا كلّه مملوك ، كسائر المائعات المملوكة ، الأدهان والألبان ، وغيرهما.

وأمّا المختلف فيه ، فكلّ ما نبع في ملكه ، وقد قلنا أنّه مملوك.

فأمّا السقي من الماء المباح ، كماء دجلة ، والفرات ، فانّ الناس فيه شرع سواء ، لا يحتاج فيه إلى ترتيب ، وتقديم وتأخير ، لكثرته.

والثاني ماء مباح في نهر غير مملوك ، صغير ، يأخذ من النهر الكبير ، ولا يسقي جميع الأراضي ، إذا سقيت في وقت واحد ، ويقع في التقديم والتأخير نزاع وخصومة ، فهذا يقدّم فيه الأقرب فالأقرب ، إلى أول النهر الصغير.

وروى أصحابنا ، أنّ الأعلى يحبس إلى الساق للنخل ، وللشجر إلى القدم ، وللزرع إلى الشراك (1).

فإذا ثبت هذا فالأقرب إلى الفوهة يسقى ويحبس الماء عن من دونه ، فإذا بلغ الماء إلى الحدّ المحدود ، لما يسقيه ، أرسله إلى جاره ، هكذا الأقرب فالأقرب ، فإن كان زرع الأسفل يهلك ، إلى أن ينتهي الماء إليه ، لم يجب على من فوقه إرساله إليه.

باب الشفعة وأحكامها

الشفعة في الشرع ، عبارة عن استحقاق الشريك المخصوص على المشتري ، تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه ، أو قيمته ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، لأنّ بعضهم يذهب ويقول : إذا كان الثمن مالا مثل له ، فلا يستحق الشفعة ، والأول هو الأظهر بينهم ، وهي مأخوذة من الزيادة ، لأنّ سهم الشريك يزيد بما ينضم إليه ، فكأنّه كان وترا ، فصار شفعا.

ويحتاج فيها إلى العلم بأمرين ، شروط استحقاقها ، وما يتعلّق بها من الأحكام فشروط استحقاقها ستّة ، وهي : أن يتقدّم عقد بيع ينتقل معه الملك إلى

ص: 385


1- الوسائل : الباب 8 من أبواب إحياء الموات ، الا أنّه لم نجد رواية على عنوان « الشجر » غير النخل.

المشتري. وأن يكون الشفيع شريكا بالاختلاط في المبيع ، أو في حقّه من شربه ، أو طريقه إذا بيع الملك والطريق معا لواحد. وأن يكون الشريك واحدا على الصحيح من المذهب سواء كان في البساتين ، أو في الدور. وأن يكون مسلما إذا كان المشتري كذلك. وأن لا يسقط حق المطالبة بعد عقد البيع ، ووجوبها له. وأن لا يعجز عن الثمن.

اشترطنا تقدّم عقد البيع ، لأنّ الشفعة لا تستحق قبله بلا خلاف ولا تستحق بما ليس ببيع ، من هبة ، أو صدقة ، أو مهر ، أو مصالحة ، أو ما أشبه ذلك ، بدليل إجماع أصحابنا عليه ، ولأنّ إثبات الشفعة في المهر ، والصلح ، والهبة ، وغير ذلك ، يفتقر إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

واعتبرنا أن ينتقل الملك معه إلى المشتري ، تحرّزا من البيع الذي فيه الخيار للبائع ، أولهما جميعا ، فإنّ الشفعة لا تستحق هاهنا ، لأنّ الملك لم تزل علقته عن البائع ، فأمّا ما لا خيار فيه أو فيه الخيار للمشتري وحده ، ففيه الشفعة ، لأنّ الملك قد زال عنه ، هذا على قول شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (1).

والذي يقتضيه المذهب ، وتشهد بصحته أصوله ، أنّ الشفعة يستحقها الشفيع على المشتري بانتقال الملك إليه ، والملك عند جميع أصحابنا ينتقل من البائع إلى المشتري بمجرد العقد ، لا بمضي الخيار ومدّته ، وتقضّي الشرط ، بل بمجرّد العقد ، وانّما ذلك مذهب الشافعي ، وفروعه ، فانّ له ثلاثة أقوال ، أحدها بمجرّد العقد ، والآخر بانقضاء مدة الخيار ، والآخر مشاعا (2) وشيخنا فقد رجع ، وقال : ينتقل الملك بمجرّد العقد ، فإذا قال ذلك ثبتت الشفعة.

واشترطنا أن يكون شريكا للبائع ، تحرّزا من القول باستحقاقها بالجوار ، فإنّها لا تستحق بذلك عندنا ، بدليل إجماعنا ، ونحتج على المخالف بما روي من

ص: 386


1- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 21.
2- ج : مراعى.

قوله عليه السلام : الشفعة في ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (1) ولا يعارض ذلك بما روي من قوله عليه السلام : الجار أحق بسقبه (2) لأنّ في ذلك إضمارا ، وإذا أضمروا أنّه أحق بالأخذ بالشفعة ، أضمرنا أنّه أحق بالعرض عليه ، ولأنّ المراد بالجار في الخبر ، الشريك ، لأنّه خرج على سبب يقتضي ذلك.

فروى عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : بعت حقا من أرض لي فيها شريك ، فقال شريكي : أنا أحق بها ، فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وآله ، فقال : الجار أحقّ بسقبه (3).

والزوجة تسمّى جارا ، لمشاركتها الزوج في العقد ، قال الأعشى : أيا جارتي بيني فإنّك طالقة وهي تسمّى بذلك عقيب العقد ، وتسمّى به وإن كانت بالشرق ، والزوج بالغرب ، فليس لأحد أن يقول : إنّما سمّيت بذلك لكونها قريبة مجاورة ، فقد صار اسم الجار يقع على الشريك لغة وشرعا.

واشترطنا أن يكون واحدا ، لأنّ الشي ء إذا كان مشتركا بين أكثر من اثنين ، فباع أحدهم ، لم يستحق شريكه الشفعة ، بدليل الإجماع من أصحابنا ، ولأنّ حقّ الشفعة حكم شرعي يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على ذلك هاهنا ، وعلى هذا إذا كان الشريك واحدا ووهب بعض السهم ، أو تصدّق به ، وباع الباقي من الموهوب له ، أو المتصدّق عليه ، لم يستحق فيه الشفعة.

واشترطنا أن يكون مسلما ، إذا كان المشتري كذلك ، تحرزا من الذمي ،

ص: 387


1- المستدرك : الباب 3 من أبواب الشفعة ، ح 7.
2- التاج : ج 2 ، كتاب البيوع .. ص 2. سنن النسائي : كتاب البيوع ، ذكر الشفعة وأحكامها ، ج 7 ، ص 320.
3- لم نقف عليه في صحاحهم. بل في سنن ابن ماجة : الباب 2 من كتاب الشفعة ، ( الرقم : 2496 ) عن عمرو بن شريد ، عن أبيه شريد بن سويد ، « قلت : يا رسول اللّه : أرض ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار ، قال : أحق بسقيه ». ورواه أحمد بن حنبل في مسنده في حديث شريد بن سويد ( ج 3. ص 389 ). وروى مثله النسائي في سننه في آخر كتاب البيوس. باب ذكر الشفعة وأحكامها.

لأنّه لا يستحق على مسلم شفعة ، بدليل إجماع أصحابنا ، وأيضا قوله تعالى : « وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (1) وبما روي عنه عليه السلام من قوله : لا شفعة لذمي على مسلم (2).

واشترطنا أن لا يسقط حق المطالبة ، لأنّ بعض أصحابنا يقول : حقّ الشفعة (3) على الفور ، ويسقط بتأخير الطلب مع القدرة عليه ، وبعضهم يذهب إلى أنّه لا يسقط مع القدرة والعلم وتأخير الطلب ، وهذا هو الأظهر بين الطائفة ، ويعضده أن الحقوق في أصول الشريعة ، وفي العقول أيضا ، لا تبطل بالإمساك عن طلبها ، فكيف خرج حق الشفعة عن أصول الأحكام العقلية والشرعية ، وهو اختيار المرتضى ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر.

واشترطنا عدم عجزه عن الثمن ، لأنّه إنّما يملك الأخذ إذا دفع إلى المشتري ما بذله للبائع ، فإذا تعذّر عليه ذلك ، سقط حقّه من الشفعة.

وإذا كان الثمن مؤجلا فهو على الشفيع كذلك.

ويلزمه إقامة كفيل به إذا لم يكن مليا ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (4).

وذهب في مسائل خلافه ، إلى انّ للشفيع المطالبة بالشفعة ، وهو مخيّر بين أن يأخذه في الحال ، ويعطي ثمنه حالا ، وبين أن يصبر إلى سنة ، ويطالب بالثمن الواجب عندها (5).

والذي يقوى عندي ، ما ذكره في نهايته.

ومتى طالب بالشفعة فيما له فيه المطالبة بها ، وجب عليه من الثمن مثل الذي انعقد عليه البيع ، من غير زيادة ولا نقصان ، فإن كان الشي ء بيع نقدا ، وجب

ص: 388


1- النساء : 141.
2- مستدرك الوسائل : كتاب الشفعة ، الباب 6 ح 1. وفيه : ليس للذمّي شفعة.
3- ج : حق الشفيع.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها ، مع اختلاف في العبارة.
5- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 9.

عليه الثمن نقدا ، فإذا دافع ومطل أو عجز عنه ، بطلت شفعته ، فإن ذكر غيبة المال عنه ، أجّل بمقدار ما يمكن وصول ذلك المال إليه ، ما لم يؤدّ إلى ضرر على البائع (1) المأخوذ منه ، فإن أدّى إلى ضرره ، بطلت الشفعة ، فإن بيع الشي ء نسية ، فقد ذكرناه.

وإذا حطّ البائع من الثمن الذي انعقد عليه الإيجاب والقبول ، فهو للمشتري ، خاصّة ، وسواء حطّ ذلك عنه قبل التفرق من المجلس ، أو بعده ، ولم يسقط عن الشفيع ، لأنّه إنّما يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد عليه البيع ، وما يحطّ بعد ذلك هبة مجددة ، لا دليل على لحوقها بالعقد.

وإذا تكاملت شروط استحقاق الشفعة ، استحقت في كل مبيع ، من الأرضين ، والحيوان ، والعروض ، سواء كان ذلك ممّا يحتمل القسمة ، أو لم يكن على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته في أوّل باب الشفعة (2) ، لأنّه قال : كلّ شي ء كان بين شريكين من ضباع ، أو عقار ، أو حيوان ، أو متاع ، ثم باع أحدهما نصيبه ، كان لشريكه المطالبة بالشفعة ، ثم عاد في أثناء الباب المذكور ، وقال : فلا شفعة فيما لا تصح قسمته ، مثل الحمام والأرحية ، وما أشبهما. وإلى هذا ذهب في مسائل خلافه (3) ، واستدل بأدلة ، فيها طعون واعتراضات كثيرة.

والدليل على صحّة ما اخترناه ، الإجماع من المسلمين ، على وجوب الشفعة لأحد الشريكين ، إذا باع شريكه ما هو بينهما ، وعموم الأخبار في ذلك ، والأقوال ، والمخصّص يحتاج إلى دليل.

وتمسّك من قال من أصحابنا بما رواه المخالف ، من قوله عليه السلام : الشفعة فيما لم يقسم.

ص: 389


1- ج : المشتري. وهو الظاهر.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها.
3- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 16.

دليل لنا لا علينا ، لأنّه قال عليه السلام : فيما لم يقسم ، والأشياء المخالف فيها لم تقسّم ، وقولهم : « أراد أنّ ما لم تتقدّر القسمة فيه لا شفعة فيه » قول بعيد من الصواب ، لأنّ ذلك دليل الخطاب ، وهو عندنا لا يجوز العمل به ، على أنّه يقال لهم : إذا كنتم تذهبون إلى أنّ الشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع ، وكان هذا المعنى حاصلا في سائر المبيعات ، لزمكم القول بوجوب الشفعة فيها ، وقولهم : « من صفة الضرر الذي تجب الشفعة لإزالته أن يكون حاصلا على جهة الدوام ، وهذا لا يكون إلا في الأرضين » ليس بشي ء ، لأنّ الضرر المنقطع ، يجب أيضا إزالته عقلا وشرعا ، كالدائم ، فكيف وجبت الشفعة لإزالة أحدهما دون الآخر.

على أنّ فيما عدا الأرضين ، ما يدوم كدوامها ، ويدوم الضرر بالشركة فيه كدوامه (1) ، كالجواهر وغيرها.

وفي أصحابنا من قال : لا يثبت حقّ الشفعة ، إلا فيما يحتمل القسمة شرعا ، من العقار والأرضين ، ولا يثبت فيما لا يحتمل القسمة من ذلك ، كالحمامات والأرحية ، على ما قدّمناه وحكيناه عنهم ، ولا فيما ينقل ويحوّل الا على وجه التبع للأرض ، كالشجر والبناء.

والصحيح أنّ الشفعة تجب في كلّ مبيع ، إذا تكاملت شروط الشفعة ، وهو مذهب السيد المرتضى ، وغيره من المشيخة.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ كلّ ما ينقل ويحوّل ، لا شفعة فيه (2) ، واحتج بخبر واحد يرويه مخالف لأهل البيت (3) عليهم السلام.

والشفعة مستحقة على المشتري دون البائع ، وعليه الدرك للشفيع ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك ، ولأنّه قد ملك العقد ، والشفيع يأخذ منه ملكه بحق

ص: 390


1- ج : كدوامها.
2- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 1.
3- ل. ق : مخالف أهل البيت.

الشفعة ، فيلزمه دركه.

وإذا كان الشريك غير كامل العقل ، فلوليه أو النّاظر في أمور المسلمين ، المطالبة بالشفعة إذا رأى ذلك صلاحا له ، ويحتج على المخالف ، بقوله عليه السلام : الشفعة فيما لم يقسم ، ولم يفصل ، وإذا ترك الولي ذلك ، فللصغير إذا بلغ ، والمجنون إذا عقل ، المطالبة ، لأنّ ذلك حقّ له ، لا للولي ، وترك الولي استيفاءه لا يؤثر في إسقاطه.

وإذا غرس المشتري ، وبنى ، ثم علم الشفيع بالشراء وطالب بالشفعة ، كان له إجباره على قلع الغرس والبناء ، إذا ردّ عليه ما نقص من ذلك بالقلع ، لأنّ المشتري فعل ذلك في ملكه ، فلم يكن متعديا ، فاستحق ما نقص بالقلع ، ولأنّه لا خلاف في أنّ له المطالبة بالقلع ، إذا ردّ ما ينقص به ، ولا دليل على وجوب المطالبة ، إذا لم يرد.

وإذا استهدم المبيع ، لا بفعل المشتري أو هدمه هو قبل علمه بالمطالبة بالشفعة ، فليس للشفيع إلا الأرض والآلات ، وإن هدمه بعد العلم بالمطالبة ، فعليه ردّه إلى ما كان.

وإذا عقد المشتري البيع على شرط البراءة من العيوب ، أو علم بالعيب ورضي به ، لم يلزم الشفيع ذلك ، بل متى علم بالعيب ، ردّ على المشتري إن شاء وإذا اختلف المتبايعان والشفيع في مبلغ الثمن ، وفقدت البينة ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، لأنّ الشي ء ينتزع من يده ، وهو مدّعى عليه ، فالقول قوله ، فإن شهد البائع للشفيع ، لا تقبل شهادته ، لأنّ في شهادته دفع ضرر عن نفسه ، لأنّه ربّما خرج المبيع مستحقا ، فيرجع بالدرك عليه بالثمن ، فيريد أن يقلله لذلك.

فإن أقام كل واحد من المشتري والشفيع بيّنة ، فالبيّنة المسموعة المحكوم بها ، بيّنة الخارج المدعي شرعا ، وهو الشفيع. وقال بعض أصحابنا : البيّنة المسموعة في ذلك بيّنة المشتري.

ص: 391

والأظهر الأول ، لأنّه الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الرسول عليه السلام ، قال : البيّنة على المدّعي ، فجعل البيّنة في جنبة المدّعى ، والشفيع هو المدّعي لتقليل الثمن ، والمشتري منكر لذلك.

وحقّ الشفعة موروث ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، لعموم آيات الميراث ، لأنّه إذا كان حقا للميّت ، يستحقه وارثه مثل سائر الحقوق ، لعموم الآيات ، ومن أخرج شيئا منها ، فعليه الدلالة ، وهو مذهب المرتضى ، وشيخنا المفيد في مقنعته (1) ، وجلّة أصحابنا وذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى أنّها لا تورث (2). وكذلك ذهب في مسائل خلافه ، في كتاب الشفعة (3) ، إلا أنّه رجع في مسائل خلافه في الجزء الثاني ، في كتاب البيوع ، إلى أنّها تورث ، كسائر الحقوق ، فقال : مسألة ، خيار الثلاث موروث ، كان لهما ، أو لأحدهما ، ويقوم الوارث مقامه ، ولا ينقطع الخيار بوفاته ، وكذلك إذا مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة ، قام وارثه مقامه ، هكذا في خيار الوصية ، إذا أوصى له بشي ء ، ثمّ مات الموصي ، كان الخيار في القبول إليه ، فإن مات ، قام وارثه مقامه ، ولم ينقطع الخيار بوفاته ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : كلّ هذا ينقطع بالموت ، فلا يقوم الوارث مقامه ، وقال في البيع : يلزم البيع بموته ، ولا خيار لوارثه فيه ، وبه قال الثوري وأحمد ، دليلنا : انّ هذا الخيار ، إذا كان حقا للميت ، يجب أن يرثه ، مثل سائر الحقوق ، لعموم الآية ، ومن أخرج شيئا منها فعليه الدلالة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة (4).

ومن ذهب من أصحابنا إلى أنّها لا تورث ، لا حجة له ، وانّما يتمسّك بأخبار آحاد ضعيفة ، لا توجب علما ولا عملا ، فكيف يترك لها الأدلة ، والإجماع.

ص: 392


1- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الشفعة ص 619.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها.
3- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 12.
4- الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة 36.

وقد قلنا أنّه إذا زاد الشركاء على اثنين ، بطلت الشفعة ، وكذلك إذا تميّزت الحقوق ، وتحيزت وتحدّدت بالقسمة.

ومتى شهد الشفيع عقد البيع ، لم يبطل شفعته ، إذا طالب بها بعد العقد على الفور ، كما قدّمناه.

ومتى عرض البائع الشي ء على صاحب الشفعة بثمن معلوم ، فلم يردّه ، فباعه من غيره بذلك الثمن ، أو زائدا عليه ، لم يكن لصاحب الشفعة المطالبة بها ، على ما روي (1) وإن باع بأقل من الذي عرض عليه ، كان له المطالبة بها.

والأولى أن يقال : إنّ على جميع الأحوال ، للشفيع المطالبة بها ، لأنّه انّما يستحقّها بعد البيع ، ولا حقّ له قبل البيع ، فإذا عفا قبله ، فما عفا عن شي ء يستحقه ، فله إذا باع شريكه أخذها ، لأنّه تجدّد له حق ، فلا دليل على إسقاطه ، وقبل البيع فما أسقط شيئا يستحقه ، حتى يسقط ، فليلحظ ذلك.

وكذلك إذا كانت الدار بين شريكين ، فقال الشفيع للمشتري : اشتر نصيب شريكي ، فقد نزلت عن شفعته ، وتركتها لك ، ثمّ اشترى المشتري ذلك على هذا ، لا تسقط شفعته بذلك ، وله المطالبة ، لأنّه انّما يستحق الشفعة بعد العقد ، فإذا عفا قبل ذلك ، لم يصحّ ، لأنّه يكون قد عفا عمّا لم يجب ، ولا يملكه ، فلا يسقط حقه حين وجوبه ، وكذلك الورثة إذا عفوا عمّا زاد على الثلث في الوصيّة ، قبل موت الموصي ، ثمّ مات بعد ذلك ، فلهم الرجوع ، لمثل ما قلناه.

ص: 393


1- سنن النسائي : كتاب البيوع ، الشركة في الرباع ، ج 7 ، ص 320 ، مستدرك الوسائل : الباب 11 من أبواب الشفعة ، ح 14 ، وفي الجواهر : ج 37 ، كتاب الشفعة ، ص 429 « بل في النبوي المروي في التذكرة ، عن جابر ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله : الشفعة في كل مشترك في أرض أو ربع أو حائط ، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو بدع ، وفي الدروس وغيرها من كتب الأصحاب ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، فإن باع ولم يأذن فهو أحق به ، وفي الإسناد لبعض الشافعية ، وفي رواية : لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ، هذا وأوردها في ذيل الصفحة عن سنن البيهقي : ج 6 ، ص 104 - 109.

وعلى الصحيح من المذهب ، إذا كانت الشفعة قد وجبت للشفيع ، ولم يعلم بها حتى تقايلا ، هل للشفيع إبطال الإقالة ، وردّ المبيع إلى المشتري ، وأخذ ذلك بالشفعة أم لا؟ للشفيع ذلك ، لأنّ حق الشفعة ثبت على وجه لا يمكن ، ولا يملك المتعاقدان إسقاطه.

إذا ادّعى البائع البيع ، وأنكر المشتري ، وحلف ، فإنّ الشفعة ثابتة ، وللشفيع أخذها من البائع ، لأنّه معترف بحقين ، الواحد منهما عليه ، وهو حق الشفعة ، والآخر على المشتري ، فلا يقبل قوله على المشتري ، لأنّ الحقّ له ، وقبلنا قوله للشفيع ، لأنّه حق عليه ، هكذا أورده شيخنا في مسائل خلافه (1) ، واختاره وقوّاه ، وهو قول المزني ، وتفريعه ، وقال ابن شريح أبو العباس : لا شفعة ، لأنّها انّما تثبت بعد ثبوت بيع المشتري.

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي تقتضيه أصول أصحابنا ، ومذهبهم ، لأنّ الشفعة لا تستحق إلا بعد ثبوت البيع ، ويستحقها ويأخذها الشفيع من المشتري دون البائع ، والبيع ما صح ولا وقع ظاهرا ، ولا يحل لحاكم أن يحكم بأنّ البيع حصل وانعقد ، فكيف يستحق الشفعة في بيع لم يثبت عند الحاكم؟ وكيف يأخذها من البائع؟ وأيضا الأصل أن لا شفعة ، فمن أثبتها يحتاج إلى دليل قاطع هاهنا في هذا الموضع ، وهذه مسألة حادثة نظرية ، لا يرجع فيها إلى قول بعض المخالفين ، بل تحتاج إلى تأمّل ، وأن ترد إلى أصل المذهب ، وما يقتضيه أصول أصحابنا ، فليلحظ ذلك.

وإذا كان الشفيع وكيلا في البيع للبائع ، أو وكيلا في الشراء للمشتري ، فإنّه يستحق الشفعة ، ولا تسقط بوكالته ، لأنّه لا مانع من وكالته لهما ، ولا دليل في الشرع يدل على سقوط حقّه من الشفعة بذلك.

ص: 394


1- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 34 ، مع اختلاف في العبارة.

إذا اشترى شقصا ، وقبض منه بالشفعة ، وظهر بعد ذلك أنّ الدنانير التي. دفعها المشتري إلى البائع ثمنا للشقص ، ليست للمشتري ، بل هي لغيره ، فإنّه لا يخلو الشراء من أن يكون بثمن معيّن ، أو بثمن في الذمّة ، فإن كان بثمن معيّن ، مثل أن يقول المشتري للبائع بعني بهذه الدنانير ، ( فالشراء لا يصح ، لأنّ الأثمان عندنا تتعين ، كالثياب فإذا كان الشراء لا يصحّ ، بطلت الشفعة ، لأنّ الشفيع انّما يملك من المشتري ، ما يملك ، ولم يملك هاهنا شيئا لأنّ البيع لم يصحّ.

وإن كان الشراء بثمن في ذمّة المشتري ، فهو والشفعة صحيحان ماضيان ، ويأخذ المستحق الثمن ، ويطالب البائع المشتري بالثمن ، لأنّ الثمن في ذمّته ، فإذا دفع إليه ما لا يملك ، لم تبرأ ذمّته ، وكان للبائع مطالبته بالثمن.

قد ذكرنا أنّه إذا أسقط البائع عن المشتري بعض الثمن ، وانحط ذلك عنه ، لا ينحط عن الشفيع ، سواء أسقطه قبل انقضاء مدّة خيار المجلس ، أو خيار الشرط ، أو بعد ذلك بغير تفصيل ، لأنّ الشفيع يأخذ الشفعة ، بما انعقد عليه العقد.

وقال بعض أصحابنا : لا يخلو من أن يكون قبل لزوم العقد ، أو بعده ، فإن كان قبل لزومه ، مثل ان حطّ عنه في مدّة خيار المجلس ، أو الشرط ، كان ذلك حطّا من حق المشتري والشفيع ، لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي يستقرّ عليه العقد ، وهذا هو الذي استقر العقد عليه ، وإن كان الحطّ بعد انقضاء الخيار ولزوم البيع وثبوته ، لم يلحق بالعقد ، ويكون هبة مجددة من البائع للمشتري.

والذي اخترناه هو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، واستدلال هذا المستدلّ ، بأنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي يستقرّ عليه العقد ، غير صحيح ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد عليه العقد ، لأنّ الحطّ هبة من البائع على كلّ حال.

إذا اختلف شريكان في دار ، ويدهما عليها ، فقال الواحد منهما للآخر : ملكي منها قديم ، وأنت مبتاع لما في يدك الآن منها ، وأنا استحقه عليك

ص: 395

بالشفعة ، فأنكر ذلك كان القول قول المنكر مع يمينه ، ولا يستحلف إلا على أنّه لا يستحق ذلك عليه بالشفعة ولا يستحلف على أنّه ما ابتاعه ، لأنّه يمكن أن يكون اشتراه ، ثمّ سقطت الشفعة بعد ذلك.

وإذا اشترى إنسان شقصا ، ووجد به عيبا ، وأراد ردّه على البائع ، فللشفيع منعه من ذلك ، لأنّ حق الشفيع أسبق ، لأنّه وجب بالعقد ، وحقّ الرد بالعيب بعده ، لأنّه وجب في وقت العلم بالعيب ، فإن لم يعلم الشفيع بذلك ، حتى ردّه المشتري بالعيب ، كان له إبطال الرد ، والمنع من الفسخ ، لأنّه تصرف فيما فيه إبطال الشفعة ، كما قدّمناه ، إذا تقايلا.

إذا اشترى إنسان من غيره شقصا من أرض ، أو دار بمملوك ، وقبض الشقص ، ولم يسلّم المملوك ، فللشفيع الأخذ بقيمة المملوك ، فإن قبضه ثمّ هلك المملوك قبل تسليمه إلى البائع ، بطل البيع ، ولم تبطل الشفعة في الشقص ، لأنّ الشفيع استحقها قبل موت المملوك وهلاكه ، وقبل بطلان العقد ، ولزمه للبائع قيمة الشقص وقت قبضه ، ووجب على الشفيع للمشتري قيمة المملوك في وقت البيع الذي كان فيه بيعه ، لأنّ ثمن الشقص إذا لم يكن له مثل ، وجبت القيمة فيه في وقت البيع ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، على ما قدّمناه.

وقد يوجد في أبواب الشفعة ، وفي الحديث وأيّ مال اقتسم وأرّف عليه ، فلا شفعة فيه (1) ، معنى أرّف بضم الألف ، وتشديد الراء الغير المعجمة ، أي أعلم عليه ، لأنّ الأرفة على وزن غرفة ، العلامة ، والحدّ ، وجمعها أرف ، مثل غرفة وغرف.

لا يأخذ الشفيع الشفعة من البائع ، أبدا ، لأنّه انّما يستحق الأخذ بعد تمام العقد ، ولزومه ، وإبرامه وثبوته ، بالملك حينئذ للمشتري ، فوجب أن يكون الأخذ من مالكه ، لا من غيره.

ص: 396


1- الوسائل : الباب 3 و 4 و 5 و 6 من أبواب الشفعة ، فيها أحاديث بهذا المضمون.

إذا أخذ الشفيع الشقص ، فلا خيار للمشتري خيار المجلس ، بلا خلاف ، ولا خيار أيضا للشفيع ، لأنّه أخذه بالشفعة لا بالبيع ، وإلحاق ذلك بالبيع قياس.

إذا وجبت الشفعة ، وصالحه المشتري على تركها بعوض ، صحّ وبطلت الشفعة ، لأنّ الصلح جائز بين المسلمين.

إذا بلغ الشفيع أنّ الثمن دنانير ، فعفا وكان دراهم ، أو حنطة فكان شعيرا ، لم تبطل شفعته.

ذهب بعض أصحابنا بأنّ لإمام المسلمين وخلفائه ، المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين ، أو على المساجد ، ومصالح المسلمين ، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصى ، وولّى ، له أن يطالب بشفعته ، وهو اختيار السيّد المرتضى ، وذهب الأكثرون من أصحابنا إلى خلاف ذلك.

والذي ينبغي تحصيله ، أنّ الوقف إذا كان على جماعة المسلمين ، أو على جماعة ، فمتى باع صاحب الطلق ، فليس لأصحاب الوقف الشفعة ، ولا لوليّه ذلك ، لأنّ الشركاء زادوا على اثنين ، فإن كان الوقف على واحد صحّ ذلك.

باب الشركة

الشركة جائزة لقوله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ » الآية (1) ، فجعل الغنيمة مشتركة بين الغانمين ، وبين أهل الخمس ، وجعل الخمس مشتركا بين أهله ، وقال تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » (2) فجعل التركة مشتركة بين الورثة ، وقال تعالى « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ » (3) فجعل الصدقات مشتركة بين أهلها ، لأنّ اللام للتمليك ، والواو للتشريك ، وعليه إجماع المسلمين ، لأنّه لا خلاف بينهم في جواز الشركة ، وإن اختلفوا في مسائل من تفصيلها وفروعها.

ص: 397


1- الأنفال : 41.
2- النساء : 11.
3- التوبة : 60.

فإذا ثبت هذا ، فالشركة على ثلاثة أضرب ، شركة في الأعيان ، وشركة في المنافع ، وشركة في الحقوق.

فأمّا الشركة في الأعيان ، فمن ثلاثة أوجه ، أحدها بالميراث ، والثاني بالعقد ، والثالث بالحيازة.

فأمّا الميراث فهو اشتراك الورثة في التركة.

وأمّا العقد ، فهو أن يملك جماعة عينا ببيع ، أو هبة ، أو صدقة ، أو وصية.

وأمّا الشركة بالحيازة ، فهو أن يشتركوا في الاحتطاب ، والاحتشاش ، والاصطياد ، والاستقاء بعد خلطه وحيازته ، فأمّا قبل خلطه فلا شركة عندنا بينهم ، لأنّ الشركة بالأعمال والأبدان باطلة عندنا ، لأنّها لا تصح إلا بالأموال المتجانسة المتفقة الصفات ، بعد خلطها خلطا لا يتميز.

وأمّا الاشتراك في المنافع ، فكالاشتراك في منفعة الوقف ، ومنفعة العين المستأجرة.

فأمّا الاشتراك في الحقوق ، فمثل الاشتراك في حق القصاص ، وحد القذف ، وحق خيار الرد بالعيب ، وخيار الشرط ، وحق المرافق من المشي في الطرقات ، وما أشبه ذلك ، فهذا الضرب إذا عفا أحد الشركاء كان للباقي من شركائه المطالبة بجميعه ، من غير إسقاط شي ء منه ، وكذلك لو عفا الجميع إلا واحدا والأموال ، في الشركة على ثلاثة أضرب أيضا ، مال يجوز للحاكم أن يقسّم ، ويجبر الممتنع ، وضرب يجوز أن يقسّم ، ولا يجوز أن يجبر عليه ، وضرب لا يجوز أن يقسّم ، ولا ان يجبر عليه.

فأمّا ما يجوز أن يقسّم ، ويجبر الممتنع ، فكل مشترك أجزاؤه ، متساوية القيم ، ولا ضرر في قسمته.

وأمّا ما يجوز أن يقسّم ولا يجبر عليه ، فمثل أن يريدا أن يقسّما دارين.

وأمّا ما لا يجوز للحاكم أن يقسّم ولا أن يجبر عليه ، فمثل جوهرة واحدة ، أو حجر واحد ، فهذا لا يجوز لهم قسمته ، لأنّه سفه وضرر ، ولا يجوز للحاكم إذا

ص: 398

رضي الشركاء به أن يفعله ، لأنّه لا يجوز له أن يشاركهم في السفه ، بل الواجب عليه المنع لهم منه.

وإذا كانت دار ، هي وقف على جماعة ، أو غير الدار ، وأرادوا قسمتها ، لم يجز لهم ، لأنّ الحقّ لهم ولمن بعدهم ، إذا كانت على الأعقاب ، فلا يجوز لهم تمييز حقوق غيرهم.

وإذا كانت نصفها طلقا ، ونصفها وقفا ، فطلب صاحب الطلق المقاسمة ، فعندنا يجوز ذلك ، لأنّ القسمة عندنا ليست ببيع ، ومن قال أنّها بيع ، وهو الشافعي ، فلا يجوّز قسمة ذلك ، لأنّ بيع الوقف لا يجوز.

وقد قلنا أنّ من شرط صحة الشركة أن تكون في مالين متجانسين ، متفقي الصفتين ، إذا خلطا ، اشتبه أحدهما بالآخر ، وأن يخلطا حتى يصيرا مالا واحدا ، وأن يحصل الإذن في التصرّف في ذلك ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك كلّه.

وأيضا فلا خلاف في انعقاد الشركة بتكامل ما ذكرناه ، وليس على انعقادها مع عدمه ، أو اختلال بعضه دليل.

وهذه الشركة التي تسميها الفقهاء شركة العنان بالعين المكسورة ، الغير المعجمة ، والنون المفتوحة ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : وشركة العنان ، أن يشتركا في شي ء خاص ، دون سائر أموالهما ، كأنّه عنّ لهما شي ء ، فاشترياه ، مشتركين فيه قال النابغة الجعدي :

وشاركنا قريشا في تقاها *** وفي أحسابها شرك العنان (1)

وعلى ما قلناه ، وأصّلناه ، لا يصح شركة المفاوضة ، وهي أن يشتركا في كل ما لهما وعليهما ، وما لا هما متميزان ، ولا شركة الأبدان ، وهي الاشتراك في اجرة العمل ، ولا شركة الوجوه ، وهي أن يشتركا على أن يتصرّف كل واحد منهما

ص: 399


1- الصحاح : ج 6 ، ص 2166 ، مادة ( عنن ).

بجاهه ، لا برأس مال ، على أن يكون ما يحصل من فائدة ، بينهما.

والذي يدلّ على فساد ذلك كلّه ، نهيه عليه السلام عن الغرر (1) وفي هذه غرر عظيم ، وهو حاصل وداخل فيها ، لأنّ كل واحد من الشريكين لا يعلم أيكسب الآخر شيئا أم لا؟ ولا يعلم مقدار ما يكسبه ، ويدخل في شركة المفاوضة ، على أن يشاركه فيما يلزمه بعدوان ، وغصب ، وضمان ، وذلك غرر عظيم ، وإجماعنا منعقد على فساد ذلك أجمع.

وإذا انعقدت الشركة الشرعيّة ، اقتضت أن يكون لكلّ واحد من الشريكين ، من الربح بمقدار رأس ماله ، وعليه من الوضيعة بحسب ذلك ، فإن شرطا تفاضلا في الربح ، أو الوضيعة ، مع التساوي في رأس المال ، أو تساويا في ذلك ، مع التفاضل في رأس المال ، لم يلزم الشرط على الصحيح من أقوال أصحابنا ، والأكثرين من المحصّلين ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر.

وقال المرتضى ، في انتصاره : الشرط جائز لازم ، والشركة صحيحة (2).

وما اخترناه هو الصحيح ، والذي يبطل ما خالفه ، أنّ هذا ليس بإجارة ، فيلزمه الأجرة ، ولا مضاربة ، فيلزمه إعطاء ما شرطه ، لأنّ حقيقة المضاربة.

من ربّ المال المال ، ومن العامل العمل ، وهذا ما عمل ، فلا وجه لاستحقاقه الفاضل على رأس ماله.

ص: 400


1- الدعائم : ج 2 ، ص 21 ، وفيه : « نهى عن بيع الغرر ». وفي سنن أبي داود : كتاب البيوع الباب 25 ( الرقم 3376 ) : « انّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله نهى عن بيع الغرر ». ومثله في سنن البيهقي : كتاب البيور. باب النهي عن بيع الغرر ، ج 5 ، ص 338 ، وفي مستدرك الوسائل : الباب 7 من أبواب نقد البيع وشروطه ، عن دعائم الإسلام ، عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام واللبن في الضرع والصوف في ظهور الغنم ، قال : هذا كلّه لا يجوز ، لأنّه مجهول غير معروف يقل ويكثر ، وهو غرر ». راجع ذيل ص 459.
2- الانتصار : كتاب في مسائل شتّى في الهبات والإجارة والوقوف والشركة ، المسألة 5 ، والعبارة منقولة بالمعنى.

فإذا كان كذلك ، بأن يعقد أشركه فاسدة ، إمّا بأن يتفاضل المالان ، ويتساوى الربح ، أو يتساوى المالان ويتفاضل الربح ، وتصرّفا ، وارتفع الربح ، ثم تفاضلا ، كان الربح بينهما على قدر المالين ، ويرجع كلّ واحد منهما على صاحبه ، بأجرة مثل ما عمله ، بعد إسقاط القدر الذي يقابل عمله في ماله ، لأنّ كل واحد منهما قد شرط في مقابلة عمله جزء من الربح ، ولم يسلم له ، لفساد العقد ، وقد تعذر عليه الرجوع إلى المبدل ، فكان له الرجوع إلى قيمته ، ويصحّ كلّ من ذلك بالتراضي ، ويحلّ تناول الزيادة بالإباحة ، دون الشرط وعقد الشركة ، ويجوز الرجوع بها لمبيحها مع بقاء عينها ، لأنّ الأصل جواز ذلك ، والمنع يفتقر إلى دليل.

فإن قال المخالف : اشتراط الفضل في الوضيعة ، بمنزلة أن يقول له : ما ضاع من مالك فهو عليّ ، وهذا فاسد.

قيل : ما أنكرت أن يكون بمنزلة أن يقول : ما ضاع فهو من مالي ومالك ، إلا انّي قد رضيت أن يكون من مالي خاصّة ، وتبرعت لك بذلك ، وهذا لا مانع منه.

ويلزم أبا حنيفة على ذلك أن لا يجيز اشتراط التفاضل في الربح ، لأنّه بمنزلة أن يقول : ما استفيده من مالي ، فهو لك ، مع انّا قد قدّمنا ، أنّه لا يلزم ، وانّما إن اختار ورضي بعد ارتفاع الربح ، أن يعطيه ذلك الفاضل تبرعا منه ، وهبة ، لم يكن بذلك بأس ، لا على طريق الاستحقاق ، باللزوم والوجوب.

والتصرّف في مال الشركة ، على حسب الشرط ، إن شرطا أن يكون لهما معا على الاجتماع ، لم يجز لأحدهما أن ينفرد به ، وإن شرطا أن يكون تصرّفهما على الاجتماع والانفراد ، فهو كذلك ، وإن شرطا التصرّف لأحدهما ، لم يجز للآخر إلا باذنه وكذا القول في صفة التصرّف في المال ، من السفر به ، والبيع بالنسيئة والتجارة في شي ء معيّن ، ومتى خالف أحدهما ما وقع عليه الشرط ، كان ضامنا.

والشركة عقد جائز من كلا الطرفين ، يجوز فسخه لكلّ واحد منهما متى شاء ، ولا يلزم شرط التأجيل فيها ، وينفسخ بالموت.

ص: 401

والشريك المأذون له في التصرّف ، مؤتمن على مال شريكه ، والقول قوله ، فإن ارتاب به شريكه ، وادّعى عليه خيانة مقدّرة ، حلف على قوله ، أعني الجاحد.

وإذا تقاسم الشريكان ، لم يقسما الدين ، بل يكون الحاصل منه بينهما ، والمنكسر عليهما ، وإن اقتسما ، فاستوفى أحدهما ولم يستوف الآخر ، لكان له أن يقاسم شريكه على ما استوفاه.

وإذا باع من له التصرّف في الشركة ، وأقرّ على شريكه الآخر بقبض الثمن ، مع دعوى المشتري ذلك ، وهو جاحد ، لم يبرء المشتري من شي ء منه ، أمّا ما يخصّ البائع ، فلأنّه ما اعترف بتسليمه إليه ، ولا إلى من وكّله على قبضه ، فلا يبرء منه ، وأمّا ما يخصّ الذي لم يبع ، فلأنّه منكر لقبضه ، وإقرار شريكه البائع عليه لا يقبل ، لأنّه وكيله ، وإقرار الوكيل على الموكّل بقبض الحقّ الذي وكله في استيفائه ، غير مقبول ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ولو أقرّ الذي لم يبع ولا أذن له في التصرف ، أن البائع قبض الثمن ، بري ء المشتري من نصيب المقرّ منه بلا خلاف.

ويكره شركة المسلم للكافر بلا خلاف ، إلا من الحسن البصري ، فإنّه قال : إذا كان المسلم ، هو المتفرد بالتصرّف ، لم يكره.

إذا كان بينهما شي ء ، فباعاه بثمن معلوم ، كان لكلّ واحد منهما أن يطالب المشتري بحقه ، فإذا أخذ حقّه ، شاركه فيه صاحبه ، على ما قدّمناه ، لأنّ المال الذي في ذمّة المشتري ، غير متميز ، فكلّ جزء يحصل من جهته ، فهو شركة يعد بينهما ، على ما ذكره شيخنا في نهايته (1) ، ومسائل خلافه (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ كلّ واحد من الشريكين ، يستحق على المدين ، قدرا مخصوصا ، وحقا غير حقّ شريكه ، وله هبة الغريم وإبراؤه منه ، فمتى أبرأه أحدهما من حقه ، بري ء منه وبقي حقّ الأخر الذي لم يبرء منه بلا خلاف ، فإذا استوفاه و

ص: 402


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة ، والعبارة منقولة عن الخلاف.
2- الخلاف : كتاب الشركة ، المسألة 15.

تقاضاه منه ، لم يشاركه شريكه الذي وهب ، وأبرأ ، أو صالح منه على شي ء ، بلا خلاف ، فإن كان شريكه بعد في المال الذي في ذمّة الغريم ، لكان في هذه الصور كلّها ، يشارك من لم يهب ، ولم يبرء فيما يستوفيه منه ، ويقبضه ، ثمّ عين المال الذي كان شركة بينهما ذهبت ، ولم يستحقا في ذمّة الغريم الذي هو المدين ، عينا لهما معيّنة ، بل دينا في ذمّته ، لكلّ واحد منهما مطالبته بنصيبه ، وإبراء ذمته وهبته ، وإذا أخذه منه ، وتقاضاه ، فما أخذ عينا من أعينان مال الشركة ، حتى يقاسمه شريكه فيها.

ولم يذهب إلى ذلك سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (1) ، ومن قلّده وتابعه بل شيخنا المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، لم يذكر ذلك في كتاب له ، ولا تصنيف ، وكذلك السيد المرتضى ، ولا تعرّضا للمسألة ، ولا وضعها أحد من أصحابنا المتقدمين ، في تصنيف له جملة ، ولا ذكرها أحد من القميّين ، وانّما ذكر ذلك شيخنا في نهايته ، من طريق أخبار الآحاد ، ورد بذلك ثلاثة أخبار (2) ، أحدها مرسل ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه ، ولو سلّم الخبران الآخران تسليم جدل ، لكان لهما وجه صحيح مستمر على أصول المذهب والاعتبار ، وهو أن المال الذي هو الدين ، كان على رجلين ، فأخذ أحد الشريكين وتقاضى جميع ما على أحد الغريمين ، فالواجب عليه هاهنا ، أن يقاسم شريكه على نصف ما أخذه منه ، لأنّه أخذ ما يستحقه عليه ، وما يستحقه شريكه أيضا عليه ، لأنّ جميع ما على أحد المدينين ، لا يستحقه أحد الشريكين بانفراده ، دون شريكه الآخر ، فهذا وجه صحيح ، فيحمل الخبران على ذلك ، إذا أحسنا الظن براويهما ، فليتأمّل ذلك ، وينظر بعين الفكر الصافي ، ففيه غموض.

وإذا كان مال بين شريكين ، فغصب غاصب أحدهما نصيبه ، وباع مع مال

ص: 403


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
2- الوسائل : الباب 6 من أحكام الشركة.

شريكه ، مضى العقد في مال الشريك ، ويبطل في مال الشريك الذي غصبه الغاصب.

وإذا أراد أن يتشاركا فيما لا مثل له ، ولا يتساوى أجزاؤه ، ولا يختلط خلطا لا يتميّز ، مثل أن يكون مع كلّ واحد منهما دابة ، أو ثوب ، أو غير ذلك ، فيشتري كلّ واحد منهما نصف سلعة صاحبه مشاعا ، غير مقسوم ، بنصف سلعته مشاعا غير مقسوم ، وقد صحّت الشركة بينهما.

إذا شارك اثنان سقاء ، على أن يكون من أحدهما جمل ، ومن الآخر راوية ، واستقى فيها ، على أنّ كلّ نفع يرتفع من الماء ، يكون بينهم ، لم تصح هذه الشركة ، لأنّ من شرط صحة الشركة اختلاط الأموال ، وهذا لم يختلط ، ولا يجوز أن يكون ذلك إجارة ، لأنّ الأجرة في ذلك غير معلومة ، فإذا ثبت أنّ هذه معاملة فاسدة ، فإذا استقى السقاء وباع الماء ، وحصل الكسب في يده ، فإنّه يكون للسقاء ، ويرجع الآخران عليه بأجرة المثل فيما لهما ، من جمل وراوية.

إذا عقد الشركة ، ثم أدن كلّ واحد منهما لصاحبه في التصرف ، فتصرّفا ، ثمّ أنّ أحدهما فسخ الشركة ، انفسخت ، وكان لصاحبه أن يتصرّف في نصيبه ، دون نصيب الآخر ، وكان للفاسخ أن يتصرّف في نصيبه ، ونصيب صاحبه ، لأنّ صاحبه ما رجع في إذنه ، وإنما كان كذلك ، لأنّ تصرف كلّ واحد منهما في نصيب صاحبه ، إنّما هو على سبيل التوكيل ، وللموكّل أن يمنع الوكيل من التصرف أيّ وقت شاء ، فإذا ثبت هذا فهذا الفسخ ، يفيد المنع من التصرّف على ما بيّناه ، وأمّا المال فهو بعد مشترك بينهما ، لأنّه مختلط غير متميّز ، ولا يتميّز بالفسخ ، فإذا ثبت هذا ، فإن كان المال قد نصّ ، كان لهما أن يتقاسماها ، وإن أرادا بيعها ، كان لهما ذلك.

وإذا مات أحد الشريكين ، انفسخت الشركة بموته ، ومعنى الانفساخ ، أنّ الباقي منهما لا يتصرّف في المال ، فإذا ثبت هذا ، فإن كان الوارث رشيدا ، فهو بالخيار بين أن يبقى على الشركة ، وبين أن يطالب بالقسمة ، فإن اختار البقاء على الشركة ، استأنف الإذن للشريك في التصرف ، فأمّا إن كان الوارث مولّى

ص: 404

عليه ، فإنّ الوصي أو الولي ينوب عنه ، وينظر ، فإن كان الحظ في البقاء على الشركة ، استأنف الإذن للشريك في التصرّف ، وإن كان الحظّ في المفاصلة ، قاسمه ، ولا يجوز له أن يترك ما فيه الحظ إلى غيره ، لأنّ النظر إليه في المال على وجه الصلاح والاحتياط.

إذا كان بين رجلين ألفا درهم ، لكل واحد منهما ألف درهم فأذن أحدهما للآخر في التصرف في ذلك المال ، على أن يكون الربح بينهما نصفين ، لم يكن ذلك شركة ، ولا قراضا ، لأنّه لم يشرط له جزء من الربح ، فلهذا امتنع أن يكون قراضا ، ولم يشرط على نفسه العمل ، فمن هذا امتنع أن يكون شركة ، فإذا ثبت هذا ، كان ذلك بضاعة سأله التصرّف فيها ، ويكون ربحها جميعا لصاحبها.

إذا باع أحد الشريكين عينا من أعيان الشركة ، وأطلق البيع ، ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع مالا مشتركا بينه وبين غيره ، ولم يأذن له شريكه في البيع ، لم يقبل قوله على المبتاع ، لأنّ الظاهر أنّ ما يبيعه ملك له ، ينفرد به دون غيره ، فإذا ادّعى خلاف الظاهر ، لم يسمع منه ، فان ادّعى شريكه وأقام البيّنة ، فإنّه يبطل البيع في ملك شريكه ، ولا يبطل في ملكه ، كما قلناه في تفريق الصفقة.

وإذا اشترى أحد الشريكين شيئا بمال الشركة ، فإن اشتراه بثمن في الذمة ، كان ذلك للمشتري ، دون شريكه ، لأنّ إذن شريكه لم يتناول هذا الشراء ، فهو بمنزلة أن يشتري له شيئا بغير إذنه ، فأمّا إذا اشتراه بثمن معيّن من مال الشركة ، وثبت أنّ الثمن المعيّن من مال الشركة ، بتصديق البائع ، أو ببيّنة أقامها الشريك ، بطل الشراء في نصف الثمن ، ولا يبطل في النصف الآخر ، هذا إذا كان بما لا يتغابن الناس بمثله ، كما قدّمناه في تفريق الصفقة ، ويصير الثمن مشتركا بين البائع وبين شريك المشتري ، وصار المبيع مشتركا بين البائع والمشتري.

وإذا اشترى أحد الشريكين شيئا ، فادّعى أنّه اشتراه لنفسه ، دون الشركة ، وأنكر شريكه ذلك ، وزعم أنّه اشتراه للشركة ، كان القول في ذلك قول المشتري ، فأمّا إذا كان بخلاف ذلك ، فادّعى المشتري أنّه اشتراه للشركة ،

ص: 405

وأنكر شريكه ذلك ، وزعم أنّه اشتراه لنفسه دون الشركة ، كان القول قول المشتري أيضا ، لأنّه اختلاف في نيّته ، وهو أعلم بها.

ومتى حصل بالمال المشترك ، المتاع ، ثمّ أراد أن يتقاسما ، لم يكن لأحدهما المطالبة بالمال ، بل له من المتاع بمقدار ماله من المال ، وكذلك إن حصل من أصل المال نسيئة ، لم يكن له المطالبة به نقدا ، فإن رضي أحدهما بأن يأخذ رأس ماله ، ويترك الربح والنقصان ، والنقد والنسية ، ورضي صاحبه بذلك ، واصطلحا عليه ، كان ذلك جائزا.

ومتى أعطي الإنسان غيره ثوبا أو متاعا ، وأمره بأن يبيع ، فإن ربح كان بينهما ، وإن نقص ثمنه عمّا اشتراه ، لم يلزمه شي ء ، ثمّ باع فخسر ، لم يكن عليه شي ء ، وكان له اجرة المثل ، وإن ربح ، كان صاحب المتاع بالخيار ، بين أن يعطيه ما وافقه عليه ، وبين أن يعطيه اجرة المثل ، لأنّ الشركة لم تحصل بينهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشركة لا تكون إلا في مالين من جنس واحد ، على صفة واحدة ، وهذا ليس كذلك.

وليس لأحد الشريكين ، مقاسمة شريكه على وجه يضرّ به ، مثل أن يكون بينهما متاع ، أو سلعة ، أو عقار ، إن قسمت ، هلكت ، مثل الحمامات ، والأرحية ، أو الحيوان ، أو السلع الثمينة ، مثل اللئالي ، والدّرر ، وما أشبه ذلك ، فمتى طالبه بذلك ، كان متعدّيا ، ولم يلزمه إجابته إلى ذلك ، بل ينبغي أن تباع السلعة بما يساوي ، وتتقاسم بالثمن ، أو تقوم ، ويأخذ أحدهما بما قوّمت به ، ويؤدّي إلى صاحبه ما يصيبه ، فإن امتنعا من ذلك أجمع ، كان النظر في ذلك إلى الحاكم ، يعمل فيه ما يكون أصلح لهما ، إمّا أن يؤجر الشي ء لهما ، أو غير ذلك ممّا فيه الصلاح لهما ، لأنّه الوالي على كلّ من لا يوافق على الحق.

ويكره مشاركة سائر الكفار.

ومتى عثر أحد الشريكين على صاحبه بخيانة ، فلا يدخل هو في مثلها اقتصاصا منه ، وذلك على طريق الكراهة ، دون الحظر ، لأنّه إذا تحقّق أخذ

ص: 406

ماله ، وعلم ذلك يقينا ، فله أخذ عوضه ، وإنّما النهي على طريق الكراهة والأولى والأفضل.

ومتى كان لإنسان على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله شركة ، أو مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ثمّ يعطيه إيّاه إن شاء.

باب المضاربة وهي القراض

القراض والمضاربة عبارتان عن معنى واحد ، وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا يتجر فيه ، على أن ما رزق اللّه من ربح ، كان بينهما على ما يشترطانه ، فالقراض لغة أهل الحجاز ، والمضاربة لغة أهل العراق ، ومواضعتهم.

وقيل في اشتقاقها أقوال ، وهو أنّ القراض من القرض ، وهو القطع ، ومنه قيل : قرض الفأر الثوب ، إذا قطعه ، ومعناه هاهنا ، أنّ ربّ المال قطع قطعة من ماله ، فسلّمها إلى العامل ، وقطع له قطعة من الربح.

والآخر ، أنّ اشتقاقه من المقارضة ، وهي المساواة ، ومعناه هاهنا ، أنّ من العامل العمل ، ومن ربّ المال المال.

واشتقاق المضاربة من الضرب بالمال في الأرض ، والتقليب له.

وعلى جواز ذلك ، إجماع الأمة ، والكتاب.

ومن شرط صحة ذلك ، أن يكون رأس المال ، دراهم أو دنانير معلومة ، مسلمة إلى العامل ، ولا يجوز القراض بغير الدنانير والدراهم ، من سائر العروض ، فعلى هذا لا يجوز القراض بالفلوس ، ولا بالورق المغشوش.

وتصرّف المضارب ، موقوف على إذن صاحب المال ، إن أذن له في السفر ، به أو في البيع نسية ، جاز له ذلك ، ولا ضمان عليه لما يهلك ، أو يحصل من خسران ، وإذا لم يأذن في البيع بالنسية ، أو في السفر ، أو أذن فيه إلى بلد معيّن ، أو شرط أن لا يتجر إلا في شي ء معيّن ، ولا يعامل إلا إنسانا معيّنا فخالف ، لزمه الضمان ، بدليل إجماع أصحابنا ، على جميع ذلك.

ص: 407

ويحتج على المخالف ، في صحّة القراض مع هذه الشروط ، بقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (1).

وإذا سافر بإذن ربّ المال ، كانت نفقة السفر من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمركوب ، من غير إسراف ، من مال القراض ، على الأظهر الصحيح بين أصحابنا المحصّلين ، ولا نفقة للمضارب منه في الحضر ، واختار شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، القول بأنّه لا نفقة له حضرا ولا سفرا (2) ، وبما اخترناه قال في نهايته (3) وجميع كتبه ، ما عدا ما ذكرناه عنه في مبسوطة ، وهو أحد أقوال الشافعي ، الثلاثة في المسألة ، اختاره هاهنا شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، وقال في مسائل خلافه بمقالته في نهايته ، ورجع إلى قول أهل نحلته ، وإجماع عصابته ، فقال : مسألة إذا سافر بإذن ربّ المال ، كان نفقة السفر ، من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، من مال القراض ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم. هذا آخر كلامه ، في مسائل خلافه (4) ، فهو في مبسوطة محجوج بقوله في مسائل خلافه.

وإذا اشترى العامل ، من يعتق على ربّ المال ، بإذنه ، صحّ الشراء ، وعتق عليه ، وانفسخ القراض ، إن كان الشراء بجميع المال ، لأنّه خرج عن كونه مالا للقراض ، وملكا ، وإن كان ببعض المال ، انفسخ من القراض بقدر قيمة العبد ، وإن كان الشراء بغير إذنه ، وكان بعين المال ، فالشراء باطل ، لأنّه اشترى ما يتلف ، ويخرج عن كونه مالا عقيب الشراء ، وإن اشترى بثمن في الذمة صح الشراء ووقع الملك للعامل ، ولا يجوز له أن يدفع الثمن من مال القراض ، فإن فعل لزمه الضمان ، لأنّه تعدّى بدفع مال غيره في ثمن ، لزمه في ذمّته.

وإذا اشترى المضارب ، من يعتق عليه ، قوّم ، فإن زاد ثمنه على ما اشتراه ، انعتق منه بحساب نصيبه من الربح ، واستسعى في الباقي لربّ المال ، وإن لم يزد

ص: 408


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور : ح 4.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 172.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
4- الخلاف : كتاب القراض ، المسألة 6.

ثمنه على ذلك ، أو نقص عنه ، فهو رقّ بدليل إجماع الطائفة على ذلك.

والمضاربة عقد جائز من الطرفين ، لكلّ واحد منهما فسخه متى شاء ، وإذا بد الصاحب المال من ذلك ، بعد ما اشترى المضارب المتاع ، لم يكن له غيره ، ويجب على المضارب بيعه ، فإن كان فيه ربح ، كان بينهما ، على ما شرطا ، وإن كان خسران ، فلا يلزمه شي ء بحال.

والمضارب مؤتمن ، لا ضمان عليه إلا بالتعدّي ، فإن شرط عليه ربّ المال ضمانه ، صار الربح كلّه له ، دون ربّ المال.

ويكره مضاربة سائر الكفار.

واختلف أقوال أصحابنا في تصانيفهم ، في معنى الشرط للعامل في الربح ، هل يلزم أم لا؟ فبعض ، يذكر أنّه يستحقّ ما وقع الشرط عليه من الربح ، وبعض يذكر أنّه لا يستحق ذلك ، بل يجب له اجرة المثل ، دون ما وقع عليه الشرط من الربح ، ويجعل القول الأوّل رواية (1) ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ، ورجع عنه في مبسوطة (3) ومسائل خلافه (4) ، واستبصاره (5) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وأعمل عليه وأفتي به.

والذي يدلّ على صحّة ذلك ، إجماع أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، وتواتر أخبارهم (6) ، في أنّ المضارب إذا اشترى أباه ، أو ولده بالمال ، وكان فيه ربح على ما قدّمناه ، فإنّه ينعتق عليه ، فلو لم يكن شريكا بحسب الشرط في الربح ، لما انعتق عليه ، لأنّه لو كان له اجرة المثل ، لما صحّ العتق ولا يقدّر ، لأنّ

ص: 409


1- الوسائل : الباب 3 من أحكام المضاربة ، ح 3.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
3- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 188 - 189.
4- الخلاف : كتاب القراض ، مسألة 12.
5- الإستبصار : ج 3 ، ص 126 و 127 ، باب أن المضارب يكون له الربح بحسب ما يشترط وليس عليه من الخسران شي ء.
6- الوسائل : الباب 8 من أحكام المضاربة.

الأجرة في ذمّة صاحب المال ، يوفيه إيّاها من أيّ أمواله أراد.

وأيضا قوله عليه السلام : الشرط جائز بين المسلمين (1) وهذا شرط جائز ، لا يمنع منه كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، لأنّ الإجماع غير حاصل على المنع منه ، وكتاب اللّه تعالى خال منه ، والسنة المتواترة.

وكذلك قوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (2) وهذا اخبار بمعنى الأمر ، ومعناه : يجب عليهم أن يوفوا بشروطهم.

والذي ذكره شيخنا في مبسوطة في الجزء الأوّل ، في كتاب الزكاة ، في فصل في مال التجارة ، قال : من أعطى غيره مالا مضاربة على أن يكون الربح بينهما ، فاشترى مثلا بألف سلعة فحال الحول ، وهي تساوي ألفين ، فانّ زكاة الألف على ربّ المال ، والربح إذا حال عليه الحول من حين الظهور ، كان فيه الزكاة ، على ربّ المال نصيبه ، وعلى العامل نصيبه ، إذا كان العامل مسلما ، فإن كان ذميا ، يلزم ربّ المال ما يصيبه ، ويسقط نصيب الذمي ، لأنّه ليس من أهل الزكاة ، هذا على قول من أوجب الرّبح (3) من أصحابنا وهو الصحيح ، فأمّا من أوجب له اجرة المثل ، فزكاة الأصل والربح ، على ربّ المال ، هذا آخر قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4) من غير زيادة ، ولا نقصان ، حكيته حرفا فحرفا.

وذكر رحمه اللّه في الجزء الثاني من كتاب القراض ، مواضع كثيرة ، أنّ للعامل من الربح ، ما وقع عليه الشرط.

ويحمل قول من قال وذكر في كتابه : أن له اجرة المثل ، على أنّه إذا كانت المضاربة فاسدة ، فإنّ شيخنا أبا جعفر ، قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان القراض فاسدا استحق العامل اجرة المثل على ما يعمله ، سواء كان في المال ربح أو لم يكن ، ثمّ قال : دليلنا انه عمل بإذن صاحب المال ، فإذا لم يصحّ له

ص: 410


1- عوالي اللئالئ : ج 3 ، ص 225 ، ح 103.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
3- ل. ق : له الربح.
4- المبسوط : ج 1 كتاب الزكاة ، ص 223.

ما قاوله عليه ، كان له اجرة المثل ، لأنّه دخل على أن يكون له المسمّى في مقابلة عمله هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة (1).

ومتى اختلف الشريكان ، أو المضارب وصاحب المال ، في شي ء من الأشياء ، كانت البيّنة على المدعي واليمين على المدّعى عليه ، مثل الدّعاوي في سائر الأحكام.

وإذا اشترى المضارب المتاع ، ونقد من عنده الثمن على من ضاربه ، لم يلزم صاحب المال ذلك ، وكان من مال المضارب ، فإن ربح كان له ، وإن خسر كان عليه.

وروي أنّه من أعطى مال يتيم إلى غيره ، مضاربة ، فان ربح كان بينهما على ما يتفقان عليه ، وإن خسر كان ضمانه على من أعطى المال (2).

فالأولى أن يقال : إن كان هذا المعطي ناظرا في مال اليتيم ، نظرا شرعيا ، إمّا أن يكون وصيا في ذلك ، أو وليا ، فله أن يفعل فيه ما لليتيم الحظ فيه ، والصلاح ، فعلى هذا لا يلزم الولي المعطي الخسران إن خسر المال ، وهذا هو الذي تقتضيه أصول المذهب.

وما أورده شيخنا في نهايته (3) ، خبر واحد أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كرّرنا ذلك.

ومن كان له على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد قبضه منه ، على ما قدّمناه.

وقد روي أنّ من كان عنده أموال الناس مضاربة ، فمات فان عيّن ما عنده أنّه لبعضهم ، كان على ما عيّن في وصيّته ، وان لم يعين كان بينهم بالسوية ، على ما يقتضيه رءوس الأموال (4) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (5).

وهذا إذا حقّق وقامت البيّنة برءوس الأموال ، أو تصادق أصحاب

ص: 411


1- الخلاف : كتاب القراض ، مسألة 4.
2- الوسائل : الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ، ح 8.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
4- الوسائل : الباب 13 من أحكام المضاربة.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة ، آخر الباب.

الأموال والورثة ، وكان في المال ربح ، وكانت الأموال مختلطة غير متميّز ، مال كل واحد من غيره ، فإن كان خسران ، وكان الخلط بغير إذن أرباب الأموال ، فإن الخسران على الخالط لها ، لأنّه فرّط في الخلط ، فهذا تحرير الرواية المذكورة.

إذا فسخ ربّ المال القراض ، وكان في المال نسأ - بفتح النّون ، وسكون السّين ، وهمز الالف وقصره ، باعه العامل بإذن ربّ المال نسية ، لزمه أن يحييه ، سواء كان فيه ربح أو لم يكن فيه ربح ، لأنّ على العامل ردّ المال ، كما أخذه ، وإذا أخذه ناضا ، وجب عليه أن يرد مثله.

إذا قال : خذ هذا المال قراضا على أن يكون الربح كلّه لي ، كان ذلك قراضا فاسدا ، فإن لفظ القراض يقتضي أن يكون الربح بينهما.

وإذا قال : خذ هذا المال ، وانتفع به واتجر ، والربح كلّه لك ، فهذا قرض لا قراض ، ويكون المال قرضا على المستقرض ، وجميع الربح له ، لأنّه ربح ماله.

وإن قال : خذ هذا المال ، واشتر لي السلعة الفلانية ، والربح كلّه لي ، فهذا بضاعة ، سأله أن يشتري له بها ما ذكره ، فالربح كلّه لصاحب المال دون المشتري ، وقد قدّمنا هذا الكلام فيما مضى من كتابنا هذا ، واعدناه ، لأنّه موضعه.

إذا كان العامل نصرانيا ، فاشترى بمال القراض خمرا أو خنزيرا ، كان جميع ذلك باطلا.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة فقال : إذا دفع إليه ألفا للقراض ، واشترى به عبدا للقراض ، فهلك الألف قبل أن يدفعه في ثمنه ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، اختار شيخنا منها ، انّ المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ولا شي ء على ربّ المال ، ثم قال : دليلنا أنّه لا يخلو أن يكون الألف تلف قبل الشراء ، أو بعده ، فإن كان التلف قبل الشراء ، وقع الشراء للعامل ، لأنّه اشتراه بعد زوال القراض ، وإن كان التلف بعد الشراء ، وقع لربّ المال ، وعليه أن يدفع الثمن ، من ماله الذي سلّمه إليه ، فإذا هلك المال ،

ص: 412

تحوّل الملك إلى العامل ، وكان الثمن عليه ، لأنّ ربّ المال إنّما فسح للعامل في التصرّف في ألف ، إمّا أن يشتريه به بعينه ، أو في الذمة ، وينقد ثمنه ، ولم يدخل على أن يكون له في القراض أكثر منه (1).

قال محمّد بن إدريس : الذي عندي في ذلك ، أنّه لا يخلو إمّا أن يكون اشترى المضارب العبد بثمن في الذمة ، لا معيّن ، أو ثمن معيّن ، فإن كان الأوّل ، فالعبد للمضارب دون ربّ مال المضاربة ، ويجب على العامل الذي هو المضارب ، أن يدفع من ماله وخاصّه ، ألفا ، ثمن العبد ، والبيع لا ينفسخ ، لأنّ الأثمان إذا كانت في الذمة ، لا ينفسخ البيع بهلاكها ، لأنّها غير معيّنة ، وإن كان الثاني ، فإنّ البيع ينفسخ ، ويكون العبد ملكا لبائعه ، على ما كان ، دون العامل ، ودون ربّ مال المضاربة ، لأنّ الثمن إذا كان معيّنا ، وهلك قبل القبض ، انفسخ البيع ، وكان الملك المبيع باقيا وعائدا إلى ملك بايعه ، بغير خلاف.

فهذا تحرير هذا المسألة وما ذكره شيخنا ، اختيار أبي العبّاس بن سريج ، من قول الشافعي ، اختاره شيخنا أيضا والذي حرّرناه واخترناه ، هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وبه يقول شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في مواضع كثيرة ، من كتبه وتصنيفاته ، مسائل (2) الخلاف (3) والمبسوط (4).

لا يصح القراض إذا كان المال جزافا ، لأنّه لا دلالة عليه.

إذا قارضه على أن يشتري أصلا ، له فائدة يستبقي الأصل ، ويطلب فائدته ، كالشجر والعقار والحيوان الذي يرجى نسله ودرّة ، فالكلّ قراض فاسد ، لأنّ موضوع القراض الصحيح في الشرع غير هذا ، وأيضا لا دليل على صحّة ذلك ، لأنّ القراض عقد شرعي ، يحتاج في ثبوته إلى أدلة شرعية.

إذا دفع إليه مالا قراضا ، فإن اتجر حضرا ، كان عليه من التصرّف فيه

ص: 413


1- الخلاف : كتاب القراض ، المسألة 15 ، مع تقطيع في العبارة.
2- ل : إلا مسائل.
3- الخلاف ، كتاب القراض ، المسألة 15.
4- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 194.

ما يليه ربّ المال في العادة ، من نشر الثوب ، وطيّه ، وتقليبه ، على من يشتريه ، وعقد البيع ، وقبض الثمن ، ونقده ، وإحرازه في كيسه ، وختمه ، ونقله إلى صندوقه ، وحفظه ، ونحو ذلك ، ممّا جرت العادة بمثله ، وإن كان ذلك شيئا لا يليه ربّ المال في العادة ، مثل النداء على المتاع في الأسواق ، ونقله إلى الخان ، ومن مكان إلى مكان ، فليس على العامل أن يعمل بنفسه ، بل يكتري من يتولاه فإن القراض متى وقع مطلقا من غير اشتراط شي ء من هذا ، وجب أن يحمل إطلاقه على ما جرت العادة ، كما نقول في صفة القبض (1) والتصرّف ، فإن خالف العامل ، فحمل على نفسه ، وتولّى من التصرّف ما لا يليه في العرف ، لم يستحق الأجرة على فعله ، لأنّه تطوّع بذلك ، فإن خالف واستأجر أجيرا يعمل فيه ما يعمله بنفسه ، كانت الأجرة من ضمانه ، لأنّه أنفق المال في غير حقّه.

إذا دفع إليه ألفين منفردين ، فقال له : خذهما قراضا ، على أن يكون الربح من هذا الألف لي ، وربح الآخر لك ، فالقراض فاسد ، لأنّ موضوع القراض على أن يكون الربح لكل جزء من المال بينهما.

إذا خلط الألفين ، وقال : ما رزق اللّه من فضل ، كان لي ربح ألف ولك ربح ألف ، كان جائزا ، لأنّ الألف الذي شرط ربحها ليست متميّزة ، وإنّما كانت تبطل لو كانت متميّزة ، مثل المسألة الاولى ، وذلك لا يجوز.

إذا غصب رجل مالا فاتّجر به ، فربح ، أو كان في يده مال أمانة ، أو وديعة ، أو نحوهما ، فتعدّى فيها ، واتجر ، وربح ، فلمن يكون الربح؟ قيل : فيه قولان.

أحدهما أنّ الربح كلّه لرب المال ، ولا شي ء للغاصب ، لأنّا لو جعلنا الربح للغاصب ، كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال ، والخيانة في الودائع ، فجعل الربح لرب المال ، صيانة للأموال.

ص: 414


1- ج : في القبض.

والقول الثاني ، أنّ الربح كلّه للغاصب ، لا حقّ لرب المال فيه ، لأنّه إن كان قد اشترى بعين المال ، فالشراء باطل بغير خلاف ، وإن كان الشراء في الذمة ، ملك المشتري المبيع ، وكان الثمن في ذمته بغير خلاف ، فإذا دفع مال غيره ، فقد قضى دين نفسه بمال غيره ، فكان عليه ضمان المال فقط ، والمبيع ملكه ، حلال له ، طلق ، فإذا اتّجر فيه ، وربح ، كان متصرّفا في مال نفسه ، فلهذا كان الربح له ، دون غيره ، ولا يكون ذريعة إلى أخذ الأموال ، لأنّ حسم ذلك بالخوف من اللّه تعالى ، والحذر ممّا يرتكبه من المعصية ويحذره من الإثم ، وهذا القول هو الصحيح الذي تقتضيه الأدلّة وأصول المذهب.

إذا قال : خذه قراضا ، والربح بيننا ، فالقراض صحيح ، لأنّ قوله بيننا ، معناه بيننا نصفين ، كرجل قال : هذه الدار بيننا ، أو بيني وبينك ، كان إقرارا بأنّها بينهما نصفين ، وجملته أنّ هاهنا ثلاثة عقود ، عقد يقتضي أنّ الربح كلّه لمن أخذ المال ، وهو القرض ، وعقد يقتضي أنّ الربح كلّه لربّ المال وهو البضاعة ، وهو أن يقول له : خذ هذا المال ، واتّجر به ، والربح كلّه لي ، وعقد يقتضي أنّ الربح بينهما ، وهو القراض ، فإذا قال : خذه واتّجر به ، صلح لهذه الثلاثة العقود ، قرض ، وقراض ، وبضاعة ، فإذا قرن به قرينة ، أخلصته إلى ما تدل القرينة عليه ، فإن قال : خذه ، واتّجر به ، والربح لك ، كان قرضا ، فان قال : خذه واتّجر به ، على أنّ الربح كلّه لي ، كان بضاعة ، فإن قال : خذه ، واتّجر به ، والربح بيننا ، كان قراضا ، لأنّ القرينة تدلّ عليه.

إذا اشترى العامل عبدا ، واختلف هو وربّ المال ، فقال العامل : اشتريته لنفسي ، وقال ربّ المال : بل اشتريته للقراض ، وبمال القراض ، فالقول قول العامل مع يمينه ، لأنّ العبد في يده ، وظاهر ما في يده أنّه ملكه ، فلا يقبل قول غيره في إزالة ملكه عنه.

فإن اختلفا فقال ربّ المال : اشتريته لنفسك ، وقال العامل : للقراض

ص: 415

اشتريته ، فالقول أيضا قول العامل ، لأنّه أمين.

وإذا تلف من المال شي ء بعد أن يقبضه العامل ، كان من الربح بكلّ حال ، سواء كان بعد أن دار في التجارة ، أو قبل ذلك ، فإذا ذهب بعض المال قبل أن يعمل ، ثمّ عمل ، فربح ، فأراد أن يجعل البقيّة رأس المال ، بعد الذي هلك ، فلا يقبل قوله ، ويوفى رأس المال من ربحه ، حتى إذا وفّاه ، اقتسما الربح على شرطهما ، لأنّ المال إنّما يصير قراضا في يد العامل بالقبض ، فلا فصل بين أن يهلك قبل التصرّف ، أو بعده وقبل الربح ، فالكلّ هالك من مال ربّ المال ، فوجب أن يكون الهالك ابدا من الربح ، لا من رأس المال.

إذا خلط العامل مال القراض بمال نفسه ، خلطا لا يتميز ، فعليه الضمان ، كالمودّع والوكيل ، لأنّه صيّره كالتالف ، بدلالة أنّه لا يقدر على ردّ المال إلى ربّه بعينه.

إذا دفع إليه ثوبا وقال بعه ، فإذا نضّ ثمنه ، فقد قارضتك عليه ، فالقراض فاسد.

باب الرهون وأحكامها

الرهن في اللغة هو الثياب ، والدوام ، تقول العرب : رهن الشي ء ، إذا ثبت ، والنعمة الراهنة ، هي الثابتة الدائمة ، ويقال : رهنت الشي ء ، فهو مرهون ، ولا يقال : أرهنت ، وقيل : إنّ ذلك لغة ، وتقول العرب : أرهن الشي ء ، إذا غالى في سعره ، وأرهن ابنه ، إذا خاطر به وجعله رهينة ، وأمّا الرهن في الشريعة ، فإنّه اسم لجعل المال وثيقة في دين ، إذا تعذّر استيفائه ممن عليه ، استوفى من ثمن الرهن ، وهو جائز بالإجماع ، وعقد لازم من جهة الراهن ، وجائز من جهة المرتهن.

وشروط صحّته ستة ، حصول الإيجاب والقبول من جائزي التصرّف.

وأن يكون المرهون عينا لا دينا ، لأنّا قد بيّنا أنّه وثيقة عين في دين.

وأن يكون ممّا يجوز بيعه ، لأنّ كونه بخلاف ذلك ، ينافي المقصود به.

وأن يكون المرهون به ، دينا لا عينا مضمونة ، كالمغصوب مثلا ، لأنّ الرهن

ص: 416

إن كان على قيمة العين إذا تلفت ، لم يصحّ ، لأنّ ذلك حقّ لم يثبت بعد ، وإن كان على نفس العين ، فكذلك ، لأنّ استيفاء نفس العين من الرهن لا يصح.

وأن يكون الدين ثابتا ، فلو قال : رهنتك كذا بعشرة دنانير تقرضنيها غدا ، لم يصحّ.

وأن يكون لازما ، كعوض القرض ، والثمن ، والأجرة وقيمة المتلف ، وأرش الجناية ، ولا يجوز أخذ الرهن على مال الكتابة المشروطة ، لأنّه عندنا غير لازم.

وإذا تكامل ما ذكرناه من هذه الشروط ، صحّ الرهن بلا خلاف ، وليس على صحّته مع اختلال بعضها دليل.

فأمّا القبض ، فقد اختلف قول أصحابنا ، هل هو شرط في لزومه أم لا؟

فقال بعضهم بأنّه شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن ، وقال الأكثرون المحصّلون منهم : يلزم بالإيجاب والقبول ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد يجب الوفاء به فأمّا قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) فهذا دليل الخطاب ، وهو متروك عند المحصّلين من أصحابنا ، وقد يرجع عن دليل الخطاب عند من يعمل به ، ويترك بدليل ، والآية الأولى دليل على ذلك فالأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (3) والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (4) ، فإنّه رجع عمّا ذهب إليه في نهايته.

واستدامة القبض في الرهن ليست شرطا في صحّته ولزومه.

ولا يجوز للراهن أن يتصرّف في الرهن بما يبطل ، أو ينقص حق المرتهن ، كالبيع والهبة والرهن عند آخر ، والعتق ، فإن تصرّف ، كان تصرّفه باطلا ، ولم ينفسخ الرهن ، لأنّ الأصل صحته ، والقول بفسخه يحتاج إلى دليل ، وإنّما ينفسخ الرهن إذا فعل ما يبطل به حقّ المرتهن منه بإذنه ، ويجوز له الانتفاع بما عدا ذلك ، من سكنى الدار ، وزراعة الأرض ، وخدمة العبد ، وركوب الدابة ،

ص: 417


1- البقرة : 283.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.
3- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الرهون ص 622.
4- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 5.

وما يحصل من صوف ، ولبن ونتاج ، إذا اتفق هو والمرتهن ، وتراضيا على ذلك.

وكذا يجوز للمرتهن الانتفاع بالسكنى ، والزراعة والخدمة والركوب ، والصوف ، واللبن ، إذا أذن له الراهن ، لأنّ الحقّ لهما ، لا يخرج عنهما ، ولا يستحقه سواهما ، فإن سكن المرتهن الدار ، أو زرع الأرض بغير إذن الراهن ، أثم ، ولزمه أجرة الأرض والدار ، وكان الزرع له ، لأنّه عين ماله ، والزيادة حادثة فيه ، وهي غير متميزة منه.

ولا يحلّ للراهن ولا للمرتهن وطء الجارية المرهونة ، فإن وطأها الراهن بغير إذن المرتهن ، أثم ، وعليه التعزير ، ولا حد عليه ، فإن حملت وأتت بولد ، كان حرا ، لا حقا بأبيه الراهن ، ولا تخرج من كونها رهنا ، وجاز بيعها في الدين الذي هي مرهونة عليه ، وقال بعض أصحابنا : فإن حبلت وأتت بولد ، فإن كان موسرا ، وجب عليه قيمتها ، تكون رهنا مكانها ، لحرمة الولد ، وإن كان معسرا ، بقيت رهنا بحالها ، وجاز بيعها في الدين ، وهذا غير صحيح ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا.

فإن وطأها بإذن المرتهن ، لم ينفسخ الرهن ، حملت أو لم تحمل ، لأنّ ملكه ثابت ، وإذا كان ثابتا ، كان الرهن على حاله ، وجاز بيعها في الدين أيضا ، لأنّه في الأوّل ما رهن أمّ ولده ، بل رهن رهنا يصح بيعه في حال ما رهنه على كلّ حال ، وبلا خلاف.

فإن وطأها المرتهن بغير إذن الراهن ، فهو زان ، وولده منها رقّ لسيدها ، ورهن معها ، ويجب عليه الحدّ.

فإن كان الوطء بإذن الراهن ، كان الولد حرّا لا حقا بأبيه المرتهن ، لا قيمة عليه للراهن فيه ، ولا يلزمه مهر ، لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ويصح بيعها بعد ذلك أيضا في الدين بغير خلاف.

ورهن المشاع جائز ، كرهن المقسوم.

ويجوز توكيل المرتهن في بيع الرهن.

ص: 418

وإذا كان الرهن ممّا يسرع إليه الفساد ، قبل حلول الأجل ، ولم يشرط بيعه ، إذا خيف فساده كان الرهن باطلا ، لأنّ المرتهن لا ينتفع به ، والحال هذه.

وإذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ، بشرط أن يكون ثمنه رهنا مكانه ، كان ذلك جائزا ، ولم يبطل الرهن ، لقوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وقول الرسول عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (2) والشرط جائز بين المسلمين (3).

وإن قال له : بع الرهن ، بشرط أن تجعل ثمنه من ديني ، قبل محلّه ، صحّ البيع ، وكان الثمن رهنا إلى وقت المحلّ ، ولم يلزم الوفاء بتقديم الحقّ قبل محلّه ، لأنّه لا دليل عليه.

والرهن أمانة في يد المرتهن ، إن هلك من غير تفريط ، فهو من مال الراهن ، ولم يسقط بهلاكه شي ء من الدين ، بدليل إجماعنا ، وقوله عليه السلام : « لا يغلق الرّهن الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه » (4) لأنّ المراد من الغنم (5) : الاستفادة والنماء ، والزيادة ، والغرم : النقصان والتلف ، والمراد بقوله : « الرّهن من صاحبه » المراد به من ضمان صاحبه.

ومعنى قوله : « لا يغلق الرهن ، بالغين المعجمة ، وفتح الياء ، واللام » أي لا يملكه المرتهن بالارتهان ، وإن شرط الراهن للمرتهن أنّه إذا لم يأت بالمال كان الرهن له بالدين ، لا يلزم ذلك ، ولا يملكه المرتهن بهذا الشرط ، لقوله عليه السلام : « لا يغلق الرهن » قال الهروي صاحب الغريبين في الحديث : لا يغلق الرهن ، أي لا يستحقه مرتهنه ، إذا لم يؤدّ الراهن ما رهنه فيه ، وكان هذا من فعال الجاهلية ، فأبطله الإسلام ، إلى هاهنا كلام الهروي ، وقال الجوهري في

ص: 419


1- البقرة : 275.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
3- عوالي اللئالي : ج 3 ، ح 103 ، ص 225.
4- مستدرك الوسائل : الباب 10 من أحكام الرهن ، ح 3 ، وفيه لا يغلق الراهن.
5- ل. ق : بالغنم.

كتاب الصحاح : غلق الرهن غلقا ، إذا استحقه المرتهن ، وذلك إذا لم يفتكّ (1) في الوقت المشروط ، وفي الحديث : لا يغلق الرهن ، قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له *** يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (2)

ويحتج على المخالف بقوله عليه السلام : « الخراج بالضمان » (3) وخراجه إذا كان للراهن بلا خلاف ، وجب أن يكون من ضمانه ، ولا يعارض ذلك ، بما رووه من أنّ رجلا رهن فرسه عند إنسان ، فنفق ، فسأل المرتهن النبي عليه السلام عن ذلك ، فقال : ذهب حقّك (4) ، لأنّ المراد بذلك ، ذهب حقّك من الوثيقة ، لا من الدين ، وقلنا ذلك لوجهين ، أحدهما أنّه وحّد الحقّ ، ولو أراد ذهاب الدين والوثيقة معا ، لقال : ذهب حقّاك ، والثاني أنّ الدين إنّما يسقط عند المخالف ، إذا كان مثل قيمة الرهن أو أقل ، ولا يسقط الزيادة منه ، إذا كان أكثر ، فلو أراد ذهاب حقه من الدين ، لاستفهم عن مبلغه وفصّل في الجواب.

وقولهم : « سقوط الحقّ من الوثيقة ، معلوم بالمشاهدة ، فلا فائدة في بيانه » غير صحيح ، لأنّ تلف الرهن لا يسقط حقّ المرتهن من الوثيقة على كل حال ، بل إذا أتلفه الراهن ، أو أتلفه أجنبيّ ، فإنّ القيمة تؤخذ وتجعل (5) رهنا مكانه ، فأراد عليه السلام ، أن يبيّن أنّ الرهن إذا تلف من غير جناية سقط حق الوثيقة.

وإذا ادّعى المرتهن هلاك الرهن ، كان القول قوله مع يمينه ، سواء ادّعى ذلك بأمر ظاهر ، أو خفي ، والدليل عليه إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، وأيضا فقد بيّنا أنّه أمانة في يده ، فإذا كان كذلك ، فالقول قوله في هلاكه.

وإذا اختلف الراهن والمرتهن في الاحتياط والتفريط ، وفقدت البيّنات ،

ص: 420


1- ج : لم يفكّ.
2- الصحاح : ج 4 ، ص 1538.
3- سنن النسائي : كتاب البيوع ، الخراج بالضمان ، ج 7 ، ص 255.
4- سنن البيهقي : كتاب الرهن ، الباب 6 ( من قال الرهن مضمون ) ، ج 6 ، ص 41 ، ح 3.
5- ج : فإنّ الذي يؤخذ يجعل.

فالقول قول المرتهن أيضا مع يمينه.

وإذا اختلفا في مبلغ الرهن ، أو في مقدار قيمته بعد الإقرار من المرتهن بالتفريط ، أو إقامة البيّنة عليه بذلك ، فالقول قول المرتهن أيضا في ذلك ، على الصحيح من المذهب ، لأنّه غارم ، ومدّعى عليه ، ولا خلاف أنّ القول قول الجاحد المنكر المدّعى عليه ، إذا عدم المدّعي البينة ، وقال بعض أصحابنا : القول قول الراهن في ذلك ، وهذا مخالف لما عليه الإجماع ، وضدّ لأصول الشريعة.

وإذا اختلفا في مبلغ الدين ، أخذ ما أقرّ به الراهن ، وحلف على ما أنكره ، لأنّ القول قوله في ذلك مع يمينه ، لأنّه مدّعى عليه.

وقد روي في شواذ الأخبار ، رواه السكوني العامي المذهب ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، أنّ القول قول المرتهن مع يمينه ، لأنّه أمينه ، والبيّنة على الراهن ، ما لم يستغرق الرهن ثمنه (1).

قال محمّد بن إدريس : معنى هذه الرواية أنّ القول قول المرتهن ، حتى يحيط قوله ودعواه بثمن الرهن جميعه ، فمتى أحاط بثمن الرهن واستغرقه ، فالقول قول الراهن أيضا ، على هذه الرواية ، وقد بيّنا أصل هذه الرواية ، فالواجب ترك العمل بها ، لمخالفتها لأصول المذهب.

ومتى اختلفا في متاع ، فقال الذي عنده : إنّه رهن ، وقال صاحب المتاع : أنّه وديعة ، كان القول قول صاحب المتاع مع يمينه ، وعلى المدّعي لكونه رهنا البيّنة بأنّه رهن عنده ، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وتقتضيه الأصول ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2).

وذهب في استبصاره إلى أن القول قول من يدّعي أنّه رهن ، وجعله مذهبا

ص: 421


1- الوسائل : الباب 17 من أحكام الرهن ، ح 4.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.

له ، وجمع بين الأخبار ، وتوسّطها على هذا القول (1).

قال محمّد بن إدريس : إنى لأربأ بشيخنا أبي جعفر ، مع جلالة قدره وتبحره ورئاسته ، من هذا القول المخالف لأصول المذهب ، وله رحمه اللّه في كتابه الاستبصار توسّطات عجيبة ، لا استجملها له ، والذي حمله على ذلك ، جمعه بين المتضاد ، وهذا لا حاجة فيه ، بل الواجب الأخذ بالأدلة القاطعة للأعذار ، وترك أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، فإنّه أسلم للديانة ، لأنّ اللّه تعالى ، ما كلّفنا إلا الأخذ بالأدلة ، وترك ما عداها.

ولا يجوز للمرتهن أن يبيع الرهن ، إلا بإذن صاحبه ، فإن غاب عنه ، فالأولى الصبر عليه إلى أن يجي ء ، أو يأذن له في بيعه ، فإن لم يصبر ورفع أمره إلى الحاكم ، وأقام بيّنة بالدين والرهن ، وسأله بيعه عليه ، فالواجب على الحاكم بيع ذلك ، وتسليم ثمنه إليه ، وحفاظ ما زاد على الدين ، إن زاد الثمن على الدين ، ورده على صاحبه إذا قدم ، وإن كان قد وكله في بيعه حال الرهن ، عند حلول الأجل ، وأخذ ماله من جملته كان ذلك جائزا ، وساغ له بيعه من غير أمر الحاكم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان شرط المرتهن على الراهن ، أنّه إذا حلّ أجل ماله عليه ، كان وكيلا له في بيع الرهن ، وأخذ ماله من جملته ، كان ذلك جائزا فإذا حلّ الأجل ، ولم يوفه المال ، باع الرهن ، فإن فضل منه شي ء ، ردّه على صاحبه ، وإن نقص طالبه به على الكمال ، وإن تساوى لم يكن له ولا عليه شي ء (2).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : « وإن كان شرط المرتهن على الراهن أنّه إذا حلّ أجل ماله عليه كان وكيلا له في بيع الرهن » غير واضح (3) ، لأنّا قد بيّنا في باب الوكالة ، أنّه إذا قال له : إذا جاء رأس الشهر ، فقد وكلتك في كذا

ص: 422


1- الاستبصار : ح 3 ، كتاب البيوع ، باب انّه إذا اختلف نفسان في متاع في يد واحد .. ، ص 122.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون ، وأحكامها.
3- ج : غير صحيح.

وكذا ، أنّ الوكالة غير صحيحة ، فأمّا إذا وكله في الحال ، وشرط عليه أنّه لا يبيع الشي ء الموكّل على بيعه ، إلا إذا جاء رأس الشهر ، كان ذلك صحيحا ماضيا.

فان قيل : فقد قلتم فيما مضى ، أنّه إذا لم يوكّله على بيع الرهن ، جاز للحاكم بيعه ، وقضاء الدين منه ، بعد ثبوت الحقّ عنده ، فلا فائدة حينئذ في الرهن ، ولا مزية له ، لأنّه إذا كان غير رهن ، بيع على صاحبه ، وإذا كان رهنا غير موكّل في بيعه ، بيع أيضا ، فلا فائدة في الرهن.

قلنا : الفائدة ظاهرة ، وهو أنّه إذا كان رهنا ، لا يشارك المرتهن في ثمنه أحد من الغرماء ، ولو كان على صاحبه أضعاف أضعاف دين المرتهن ، وإذا لم يكن الشي ء رهنا كان جميع الغرماء أسوة فيه على قدر ديونهم بالحصص ، فأيّ فائدة أعظم من هذا.

وإذا كان عند الإنسان رهن ، ولا يدري لمن هو ، صبر إلى أن يتبيّن صاحبه ، فإن لم يتبينه ، ولا علمه ، باعه وأخذ ماله ، فإن زاد على ماله ، استحفظ به له ، وقد روي انّه يتصدّق به عن صاحبه (1).

وإذا مات من عنده الرهن ، ولم يعلم الورثة الرهن ، كان ذلك كسبيل ماله ، فإن علموه بعينه ، وجب عليهم ردّه على صاحبه ، وأخذ ما عليه منه.

وإذا كان عند إنسان رهون جماعة ، فهلك بعضها ، وبقي البعض ، كان ماله فيما بقي ، إذا كانت لراهن واحد ، فإن هلك الكلّ ، كان هلاكها من مال صاحبها ، وكان دين المرتهن باقيا في ذمة الراهن ، على ما قدّمناه ، إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ، حسب ما بيناه.

ومن عنده الرهن ، جاز له أن يشتريه من الراهن.

ومتى رهن الإنسان حيوانا حاملا ، كان حمله خارجا عن الرهن ، إلا أن

ص: 423


1- لم نجد فيه رواية ، ولعل المراد بها بعض ما ورد في المال المجهول أو المفقود المالك ، فراجع الباب 7 من أبواب اللقطة ، والباب 6 من أبواب ميراث الخنثى.

يشترطه المرتهن ، فان حمل في حال الارتهان ، كان مع امّه رهنا ، كهيئتها.

وحكم الأرض إذا رهنت وهي مزروعة ، كذلك ، فانّ الزرع يكون خارجا عن الرهن ، فأمّا إذا زرعت بعد الرهن ، فيكون الزرع لصاحب البذر ، ولا يدخل في الرهن ، لأنّه غير حمل ، بخلاف الشجر والنخل وحملهما ، والحيوان وحمله.

وإنّما عطف شيخنا في نهايته الزرع في الأرض ، لأنّه لا يدخل في الرهن مع الأرض ، ولم يقل إذا زرعت بعد الرهن دخل الزرع في الرهن ، مثل ما يدخل الحمل.

وكذلك حكم الشجر والنخل إذا كان فيها الحمل ، فان ثمرتها وحملها يكون خارجا من الرهن ، فإن حملت النخيل والأشجار في حال الارتهان ، كان ذلك رهنا مثل الحامل ، وهذا مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وإجماعهم عليه ، وهو الذي ذكره شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في مقنعته (1) واختاره شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ثمّ اختار بعد ذلك ، مقالة المخالفين ، في مسائل خلافه (3) ، ومبسوطة (4) ، وذهب إلى أنّ الحمل يكون خارجا من الرهن ، وانّ حمل الحامل في حال الارتهان.

وإذا كان عند إنسان رهن بشي ء مخصوص ، فمات الراهن ، وعليه دين لغيره من الغرماء ، لم يكن لأحد منهم أن يطالبه بالرهن ، إلا بعد أن يستوفي المرتهن ماله على الراهن ، فإن فضل بعد ذلك شي ء ، كان لباقي الغرماء.

وقد روي في شواذ الأخبار الضعيفة ، أنّه يكون مع غيره من الديان سواء ، يتحاصون بالرهن (5).

والصحيح ما انعقد عليه الإجماع ، دون ما روي في شواذ الروايات

ص: 424


1- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الرهون ص 624.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.
3- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 58.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب الرهن ، ص 237 ، العبارة هكذا : النماء المنفصل .. يدفع إلى الراهن .. هذا ما كان حادثا في يد المرتهن ..
5- الوسائل : الباب 19 من أحكام الرهن.

وإذا كان له على الراهن مال على غير هذا الرهن ، لم يجز له أن يجعله على هذا الرهن.

ومتى مات الراهن ، كان المرتهن في غير ماله على الرهن مع غيره من الديان سواء.

وإذا كان عند إنسان دابة ، أو حيوان أو رقيق رهنا ، فإن نفقة ذلك على صاحبها الراهن ، دون المرتهن ، فإن أنفق المرتهن عليها متبرعا ، فلا شي ء له على الراهن ، وإن أنفق بشرط العود أو (1) أشهد على ذلك ، كان له الرجوع على الراهن بما أنفق.

وقد روي أنّ له ركوبها والانتفاع بها ، بما أنفق عليها أو الرجوع على الراهن (2).

والأولى عندي أنّه لا يجوز له التصرّف في الرهن على حال ، لأنّا قد أجمعنا بغير خلاف ، أنّ الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف في الرهن.

وإذا اختلف نفسان ، فقال أحدهما : لي عندك دراهم دين ، وقال الآخر. هي وديعة عندي ، كان القول قول صاحب المال ، مع يمينه بأنّها دين ، لأنّه قد أقرّ له أنّها له معه ، وبما ادّعاه عليه ، ثمّ ادّعى ما يبطل الإقرار من حصولها (3) في يده ، والرسول عليه السلام قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤديه » (4) إلا ما خرج بالدليل ، من الودائع والأمانات ، فقوله : وديعة يمكنه أن يبطلها ، بأن يقول : تلفت أو ضاعت ، فيكون القول قوله ، وهذا لا يجوز.

والذي ينبغي أن يحصل في ذلك ، ويعمل عليه ، ويسكن إليه ، أنّه إذا ادّعى أحدهما على الآخر ، فقال : لي عندك دراهم دين ، وقال الآخر : هي وديعة ، ولم يصدّقه على دعواه ، ولا وافقه على جميع قوله من أنّها دين ، فالقول قول المودع مع يمينه ، لأنّه ما أقرّ بما ادّعاه خصمه ، من كونها دينا ، بل أقرّ بأنّ له عنده وديعة ، ومن أقرّ بذلك ، فما أقرّ بما يلزمه في ذمّته ، لو ضاعت من غير تفريط منه ،

ص: 425


1- ل : واشهد.
2- الوسائل : الباب 12 من أحكام الرهن.
3- ل : حصولها وديعة.
4- مستدرك الوسائل : الباب 1 من كتاب الغصب ، ح 4.

بل قد ادّعى عليه الخصم ، أنّ له عنده وفي ذمّته دينا ، وجحد المدّعى عليه ذلك ، ولم يكن مع المدّعي بيّنة بصحّة دعواه ، فالقول قول المدّعى عليه مع يمينه ، فأمّا لو ادّعى عليه أنّ له عليه كذا ، ثمّ صدّقه على دعواه ، وقال بعد ذلك : إنّه وديعة ، لم يقبل دعواه بعد إقراره وتصديقه ، لأنّ حرف « على » حرف وجوب والتزام ، وحرف « عند » ليس بالتزام ، بل قد يكون له عنده وديعة ، فلا يلزم بالمحتمل ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وما أورده شيخنا في نهايته (1) ، يحتمل أنّ المدّعى عليه صدق المدّعي بأنّ الدراهم دين ، ووافقه على لفظ دعواه ، وجميع قوله ، فيلزمه حينئذ الخروج إليه منه.

ومن كان عنده رهن ، فمات صاحبه ، وخاف إن أقرّ به ، طولب بذلك ، ولم يقبل قوله في كونه رهنا ، ولم يعط ماله الذي عليه ، جاز له أن يأخذ منه بمقدار ما عليه (2) ، ويرد الباقي على ورثته ، فإن لم يفعل ، وأقرّ أنّه عنده رهن ، كان عليه البيّنة أنّه رهن ، فإن لم يكن معه بيّنة ، كان على الورثة اليمين ، أنّهم لا يعلمون أنّ له عليه شيئا ، ووجب عليه ردّ الشي ء الذي يدّعيه رهنا إلى الورثة.

لا يجوز أخذ الرهن من العاقلة على الدية ، إلا بعد حئول الحول ، فأمّا قبله فلا يجوز ، وعندنا تستأدى منهم في ثلاث سنين ، وأمّا بعد حئول الحول ، فإنّه يجوز ، لأنّه يثبت قسط منها في ذمتهم.

فأمّا الجعالة فلا يجوز أخذ الرهن فيها إلا بعد الرد.

وإذا استأجر رجلا إجارة متعلقة بعينه ، مثل أن يستأجره ليخدمه ، أو ليتولى له عملا من الأعمال بنفسه ، لم يجز أخذ الرهن عليه ، لأنّ الرهن انّما يجوز على حقّ ثابت في ذمّته ، فهذا غير ثابت في ذمة الأجير ، وانّما هو متعلّق بعينه ، ولا يقوم عمل غيره مقام فعله.

ص: 426


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.
2- ق : ما له عليه.

وإن استأجره على عمل في ذمّته ، وهو أن يجعل له (1) عملا ، مثل خياطة ، أو غير ذلك ، جاز أخذ الرهن به ، لأنّ ذلك ثابت في ذمّته ، لا يتعلق بعينه ، وله أن يحصله بنفسه ، أو بغيره ، فإذا هرب ، جاز بيع الرهن ، واستيجار غيره بذلك ، ليحصل ذلك العمل.

إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر ، على أنّه إن لم يقض إلى محلّه كان مبيعا ، منه بالدين الذي عليه ، لم يصحّ الرهن ، ولا البيع إجماعا ، لأنّ الرهن موقت ، والبيع متعلّق بزمان مستقبل ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (2).

وهو صحيح ، والأدلة على صحته ما قدّمناه نحن في هذا الباب ، من قوله عليه السلام المجمع عليه : « لا يغلق الرّهن » (3) وما أوردناه من تفاسيره ، وأقوال العلماء من الفقهاء ، وأصحاب الغريب من اللغويين ، وبيت زهير بن أبي سلمى المزني ، وأيضا بيت كثير الذي في قصيدته اللامية :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا *** غلقت لضحكته رقاب المال

يعني أنّه إذا ضحك ، وهب وأعطى الأموال ، وأخرجها عن يده ، وصارت لغيره ، فلا يقدر على ارتجاعها ، ولا فكاكها ، وهذا معنى قول الشاعر الآخر : فأمسى الرّهن قد غلقا معناه أنّه لا يقدر على فكاك قلبه من محبّة هذه المرأة ، فالرسول عليه السلام قد نهى أن يحصل الرهن ، بحيث لا يفك ، ولا يعود إلى ملك صاحبه الراهن ، ولا يتملك المرتهن بالشرط المخالف ، لقوله عليه السلام : « لا يغلق الرّهن ، الرّهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه » (4) على ما أوضحناه فيما سلف ، وحرّرناه.

أرض الخراج لا يصحّ رهنها ، وهي كلّ أرض فتحت عنوة ، لأنّها ملك للمسلمين قاطبة ، وكذلك أرض الوقف ، لا يصحّ رهنها ، فإن رهنها كان باطلا.

ص: 427


1- ل. ق : يحصل له.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب الرهن ص 244 ، العبارة منقولة بالمعنى.
3- مستدرك الوسائل ، الباب 10 من أبواب كتاب الرهن ، ح 3.
4- مستدرك الوسائل ، الباب 10 من أبواب كتاب الرهن ، ح 3.

وإذا دبر عبده ، ثمّ رهنه ، بطل التدبير ، لأنّ التدبير عندنا بمنزلة الوصية ، ورهنه رجوع فيها ، وإن قلنا أنّ الرهن صحيح ، والتدبير بحاله ، كان قويا ، لأنّه لا دليل على بطلانه.

إذا رهن عند إنسان شيئا ، وشرط أن يكون موضوعا على يد عدل ، صحّ شرطه ، فإذا ثبت هذا فإن شرطا أن يبيعه الموضوع على يده ، صحّ الشرط ، وكان ذلك توكيلا في البيع ، فإذا ثبت هذا ، فإن عزل الراهن العدل عن البيع ، الأقوى والأصحّ أنّه لا ينعزل عن الوكالة ، ويجوز له بيعه ، لأنّه لا دلالة على عزله ، وذهب بعض المخالفين إلى أنّه ينعزل ، لأنّ الوكالة من العقود الجائزة ، هذا إذا كانت الوكالة شرطا في عقد الرهن ، فلا ينعزل على ما اخترناه ، لأنّه شرط ذلك ، وعقد الرهن عليه ، وهو شرط لا يمنع منه كتاب ، ولا سنة ، وقد قال عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (1) وقال : « الصلح جائز بين المسلمين » (2) وهذا صلح ، لا يمنع منه كتاب ولا سنة ، فأمّا إذا شرطه بعد لزوم العقد ، فإنّ الوكالة تنفسخ بعزل الراهن للعدل الذي هو الوكيل ، بلا خلاف.

إذا سافر المرتهن بالرهن ، ضمن فإن رجع إلى بلده ، لم يزل الضمان ، لأنّ الاستيمان قد بطل ، فلا تعود الأمانة إلا بأن يرجع إلى صاحبه ، ثمّ يردّه إليه أو إلى وكيله ، أو يبرئه من ضمانه.

إذا انفك الرهن بإبراء أو قضاء ، كان في يد المرتهن أمانة ، ولا يجب ردّه على صاحبه ، حتى يطالبه به ، لأنّه حصل في يده أمانة ووثيقة ، فإذا زالت الوثيقة ، بقيت الأمانة.

إذا رهن عبد غيره بإذن مالكه ، كان ذلك جائزا ، فإذا رجع الآذن ، لم ينفسخ الرهن بذلك ، لأنّه عقد لازم ، لا يجوز لغير المرتهن فسخه ، لأنّه لا دليل عليه ، وللمعير أن يطالب المستعير بفكاكه ، وتخليص عبده في كلّ وقت ، سواء

ص: 428


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
2- الوسائل : الباب 3 من أحكام الصلح ، ح 2.

حلّ الدين ، أو لم يحلّ ، وانّما قلنا : ليس له فسخ عقد الرهن بعد لزومه : لأنّه لا دليل على ذلك.

إذا باع من غيره شيئا على أن يكون المبيع رهنا في يد البائع ، لم يصح البيع ، لأن شرطه أن يكون رهنا لا يصحّ ، لأنّه شرط أن يرهن ما لا يملك ، فان المبيع لا يملكه المشتري قبل تمام العقد ، فإذا بطل الرهن ، بطل البيع ، لأنّ البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير ثمن المبيع ، والرهن يقتضي إيفاء الثمن من ثمن المبيع ، وذلك متناقض ، وأيضا فإنّ الرهن يقتضي أن يكون أمانة في يد البائع ، والبيع يقتضي أن يكون المبيع مضمونا عليه ، وذلك متناقض أيضا.

فأمّا إذا شرط البائع أن يسلم المبيع إلى المشتري ، ثم يردّه ، إلى يده رهنا بالثمن ، فانّ الرهن والبيع فاسدان مثل الاولى ، وهذا معنى قول شيخنا المفيد في الجزء الثاني من مقنعته : « وإذا اقترن إلى البيع اشتراط في الرهن ، أفسده ، وإن تقدم أحدهما صاحبه ، حكم له به ، دون المتأخّر » (1).

وقد سئل شيخنا أبو جعفر الطوسي ، مسألة في المسائل الحائريات ، عن معنى قول الشيخ المفيد ، في الجزء الثاني من المقنعة : « وإذا اقترن إلى البيع اشتراط في الرهن ، أفسده ، وإن تقدم أحدهما على صاحبه ، حكم له به ، دون المتأخّر » ما الذي أراد؟

فأجاب ، بأن قال : معناه إذا باعه إلى مدّة ، مثل الرهن ، كان البيع فاسدا ، وإن باعه مطلقا بشرط أن يرد عليه إلى مدّة ، إن ردّ عليه الثمن ، كان ذلك صحيحا ، يلزمه الوفاء به ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (2).

قال محمّد بن إدريس : جواب شيخنا أبي جعفر الطوسي غير واضح ، لأنّه غير مطابق للسؤال ، وانّما الجواب ما قدّمناه نحن ، وأثبتناه ، وهو : إذا باع من

ص: 429


1- المقنعة : أبواب المكاسب آخر باب الرهون ص 624.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.

غيره شيئا على أن يكون المبيع رهنا في يد البائع ، لم يصحّ البيع ، وسقنا المسألة والكلام ، وأوردنا الأجوبة عليه ، وهو جواب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، واختياره وتحريره ، وهو الصحيح الذي يليق بظاهر اللفظ ، ويقتضيه ، وضع الكلام ، ومعناه ، وهذا أوضح من الجواب الذي أجاب به في المسائل الحائريات (1). فليلحظ هذا ويتأمل ، ففيه لبس عظيم ، على جماعة من أصحابنا الذين عاصرناهم.

وإذا رهن أرضا إلى مدّة ، على أنّه إن لم يقضه فيها ، فهي مبيعة بعد المدّة بالدين ، فانّ البيع فاسد ، لأنّه بيع معلّق بوقت مستقبل ، وهذا لا يجوز ، والرهن فاسد ، لأنّه رهن إلى مدّة ، ثم جعله بيعا ، فالرهن إذا كان موقتا لم يصح ، وكان فاسدا.

إذا أقرضه ألف درهم ، على أن يرهنه بالألف داره ، ويكون منفعة الدار للمرتهن ، لم يصحّ القرض ، لأنّه قرض يجرّ منفعة ، ولا يصحّ الرهن ، لأنّه تابع له ، ولا خلاف فيه أيضا.

باب العارية

بتشديد الياء

العارية على ضربين ، مضمونة وغير مضمونة ، فالمضمونة : العين والورق ، شرط الضمان أو لم يشرط ، تعدّى أو لم يتعدّ ، وما عداهما لا يضمن إلا بشرط الضمان ، أو التعدي. وغير المضمونة ما عدا ما ذكرناه.

وإذا اختلف المالك والمستعير في التضمين والتعدّي ، وفقدت البيّنة ، فعلى المستعير اليمين.

وإذا اختلفا في مبلغ العارية ، أو قيمتها ، أخذ ما أقربه المستعير ، وكان القول قول المالك مع يمينه ، فيما زاد على ذلك ، عند بعض أصحابنا ، وهو الذي أورده شيخنا في نهايته (2).

ص: 430


1- المسائل الحائريات : ص 314 ، الطبعة الحديثة.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب أن القول قول المدّعى عليه ، وهو المستعير مع يمينه باللّه تعالى ، لأنّ الأصل براءة ذمته ، ويعضد ذلك قول الرسول عليه السلام المجمع عليه ، وهو قوله : « على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين » ومالكها مدّع بغير خلاف ، والمستعير الجاحد ، فعليه اليمين ، ولا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، ولا بما يوجد في سواد الكتب مطلقا من الأدلة.

وإذا اختلف مالك الدابة وراكبها ، فقال المالك : آجرتكها أو غصبتنيها ، وقال الراكب : بل أعرتنيها ، فلا يقبل قول المالك في مقدار ما ادّعاه من الأجرة ، ولا يقبل قول الراكب فيما ادّعاه من العارية ، بل يوجب عليه اجرة المثل ، لأنّا قد تحققنا ركوب الدابة ، والراكب يدّعي العارية ، يحتاج إلى بيّنة ، والمالك يدّعى عقد إجارة واجرة معيّنة ، يحتاج أيضا إلى بينة ، فإذا عدمنا البيّنات على ذلك ، وقد تحققنا ركوب الدابة ، فالواجب في ذلك اجرة المثل ، عوضا عن منافع الدابة المتحققة ، فمن أسقطها يحتاج إلى دليل.

وكذلك الحكم إذا اختلف مالك الأرض وزارعها ، حرفا فحرفا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف ، في كتاب العارية : القول قول الراكب والزارع للأرض ، دون صاحب الدابة وصاحب الأرض (1).

إلا أنّه رحمه اللّه رجع في كتاب المزارعة من مسائل الخلاف عن ذلك ، وقال : مسألة : إذا زرع أرض غيره ، ثم اختلفا ، فقال الزارع : أعرتنيها ، وقال ربّ الأرض : بل أكريتكها ، وليس مع واحد منهما بيّنة ، حكم بالقرعة ، وللشافعي فيه قولان ، وعليه أكثر أصحابه ، أحدهما : أنّ القول قول الزارع ، وكذلك في الراكب إذا ادّعى أنّ صاحب الدابة أعاره إيّاها ، وهو الذي يقوى في نفسي. والقول الثاني : أنّ القول قول ربّ الأرض والدابة ، وحكى أبو علي

ص: 431


1- الخلاف : كتاب العارية ، المسألة 5.

الطبري أنّ في أصحابه من حمل المسألتين على ظاهرهما ، وفرّق بينهما بأنّ العادة جرت بإعارة الدواب ، وفي الأرض بالإجارة دون العارية. دليلنا على ما قلناه : أولا إجماع الفرقة على أنّ كلّ مجهول يشتبه ، ففيه القرعة ، وهذا من ذاك ، وأمّا ما قلناه ثانيا ، فهو أن الأصل براءة الذمة ، وصاحب الدابة والأرض مدّع للأجرة ، فعليه البيّنة ، فإذا عدمها ، كان على الراكب والزارع اليمين ، هذا آخر المسألة من كلام (1) شيخنا أبي جعفر (2) رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : أمّا رجوع شيخنا إلى القرعة في هذا ، ليس بواضح (3) ، لأنّ هذا أمر غير مجهول ، ولا مشكل ، بل هذا بيّن ، والشارع والإجماع بيّنه ، وهو مثل الدعاوي في سائر الأحكام ، من أنّ على المدّعي البينة وعلى الجاحد اليمين. وأمّا ما قاله ثانيا ، فهو الذي اختاره في كتاب العارية ، وهو خيرة المزني ، صاحب الشافعي ، وقد بيّنا ما عندنا في ذلك ، وهو إنّا لا نقبل قول مدّعي مقدار الأجرة ، ولا نقبل قول مدعي العارية ، ونأخذ عوض المنفعة المتحققة الذي هو الركوب والزرع ، لأنّا إذا لم يسلم لنا العوض المدّعى من الأجرة ، رجعنا إلى العوض (4) ، وهو اجرة المثل ، ولا نقبل قول الزارع والراكب في إبطال المنفعة كلّها ، وهي متحققة قد استوفاها ، وهو مدّعي لسقوط عوضها بالكلية ، فهذا تحرير هذه الفتيا ، فليلحظ ، فإنّها غير ملتبسة ولا غامضة على المتأمّل ، فإنّي لا أستجمل القول لشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه مع جلالة قدره ، ما قاله في المسألتين من القرعة ، والقول الثاني الذي قال فيه : إنّ الأصل براءة الذمّة.

وإذا استعار من غيره دابة ليحمل عليها وزنا معينا ، فحمل عليها أكثر منه ، أو ليركبها إلى موضع معيّن ، فتعدّاه ، كان متعدّيا ، ولزمه الضمان ، ولو ردّها إلى المكان المعيّن بلا خلاف.

ص: 432


1- ج : آخر كلام.
2- الخلاف ، كتاب المزارعة ، المسألة 11.
3- ج : بصحيح.
4- ج : المعوّض.

وإذا أذن صاحب الأرض للمستعير في الغراس أو البناء ، فزرع ، جاز له ، لأنّ ضرر الزرع أخف من ضرر ما أذن له فيه ، ولا يجوز له الغراس والبناء إذا أذن له في الزرع ، لأنّ ضرر ذلك أكثر ، والإذن في القليل لا يكون إذنا في الكثير ، وكذا لا يجوز له أن يزرع الدخن ، أو الذرة ، إذا أذن له في زرع الحنطة ، لأنّ ضرر ذلك أكثر. ويجوز له أن يزرع الشعير ، لأنّ ضرره أقل.

وإذا أراد مستعير الأرض للغراس والبناء قلعه ، كان له ذلك ، لأنّه عين ماله ، وإذا لم يقلعه ، وطالبه المعير بذلك بشرط أن يضمن له أرش النقص ، وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ، اجبر المستعير (1) ، على ذلك ، لأنّه لا ضرر عليه فيه ، وليس للمستعير أن يطالب بالتبقية ، بشرط أن يضمن أجرة الأرض ، فإن طالبه المعير بالقلع من غير أن يضمن أرش النقصان ، لم يجبر عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ويحتج على المخالف فيه بما رووه من قوله عليه السلام : « من بنى في رباع قوم بإذنهم فله قيمته » (2).

وإذا أعار شيئا بشرط الضمان ، فردّه المستعير إليه ، أو إلى وكيله ، بري ء من ضمانه ، ولا يبرء إذا ردّه إلى ملكه ، مثل أن يكون دابة ، فشدّها على إصطبل صاحبها ، لأنّ الأصل شغل ذمته هاهنا ، ومن ادّعى أنّ ذلك يبرئ ذمّته ، فعليه الدليل.

ومن استعار شيئا ورهنه ، كان لصاحبه أن يأخذه من عند المرتهن ، ولم يكن له منعه منه ، وكان له أن يرجع على الراهن بما له عليه من المال.

إذا استعار أرضا للزرع فزرع فيها ، ثمّ رجع المعير قبل أن يدرك الزرع ، وطالبه بالقلع ، فإنّه يجبر على التبقية ، لأنّ الزرع لا يتأبّد ، وله وقت ينتهي إليه ، فأجبرناه على التبقية ، ومنهم من قال : حكمه حكم الغراس ، سواء.

إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذوعه ، فوضعها عليه ، لم يكن له أن يطالبه

ص: 433


1- ج : المستعير ، إذا لم تكن المدّة معيّنة.
2- كنز العمال : ج 10 ، كتاب الغصب ، ص 643. أخرجه عن سنن البيهقي وغيره وعن أبي عدي في الكامل.

بقلعها على أن يضمن له أرش النقصان ، لأنّها موضوعة على حائط نفسه ، فأحد الطرفين على أحدهما ، والطرف الآخر على الآخر ، فلو أجبرناه على القلع على هذا الوجه ، كان ذلك إجبارا على قلع جذوعه من ملكه ، وليس كذلك الغراس ، لأنّها في ملك غيره.

إذا أذن له في غرس شجرة في أرضه ، فغرسها ثم قلعها ، فهل يعيد أخرى أم لا؟ الصحيح أنّه ليس له الإعادة إلا بإذن مجدّد ، وكذلك إذا أعاره حائطا ، فوضع عليه جذوعا ، ثم انكسر الجذع ، فليس له اعادة غيره ، إلا بإذن مجدّد (1).

إذا كان لإنسان حبوب ، فحملها السيل إلى أرض رجل ، فنبتت فيها ، كان ذلك الزرع لصاحب الحب ، لأنّه عين ماله ، كما نقول فيمن غصب حبا ، فزرعه ، أو بيضا فحضنها عنده ، وفرخت ، فانّ الزرع والفراخ للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله ، إذا ثبت هذا فليس عليه أجرة الأرض ، لأنّها حصلت فيها بغير صنع منه ، ولصاحب الأرض مطالبة صاحب الحبّ بقلعه من غير أرش ، لأنّه لم يأذن له في ذلك ، كما نقول في شجرة إذا تشعبت أغصانها ، ودخلت في ملك لغيره ، فانّ لصاحب الملك أن يجبره على قلعها ، إذا لم يمكن تحويلها من غير قلع.

ولا يجوز إجارة العارية لأنّه لا يملك منافعها بعقد الإجارة (2) وكذلك لا يجوز له إعارتها ، لأنّه أذن له في الانتفاع بها على وجه مخصوص ، وكذلك إذا قدم له طعام ليأكله ، فله أن يأكل ، ولا يجوز له أن يلقم غيره ، ولا أن يزل منه معه ، لأنّه لم يؤذن له في ذلك ، يقال : أزلّ فلان لفلان زلّة ، إذا جعل له نصيبا من طعامه.

باب الوديعة

الوديعة مشتقة من ودع يدع ، إذا استقرّ وسكن ، والوديعة عقد جائز من الطرفين ، من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل ، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل.

ص: 434


1- ج : مجدّد إذا لم تكن المدة معينة
2- ل : بعقد العارية.

والإنسان مخيّر في قبول الوديعة والامتناع من ذلك ، وهو أولى ما لم يكن فيه ضرر على المودع.

ويجب عليه حفظها بعد القبول لها كما يحفظ ماله.

وهي أمانة لا يلزم ضمانها إلا بالتعدّي ، فإن شرط صاحبها ضمانها كان الشرط باطلا ، لأنّه شرط يخالف الكتاب والسنة ، فإن تصرّف فيها ، أو في شي ء منها ، ضمنها ، وكذا إن فكّ ختمها ، أو فتح قفلها أو حلّ شدها ، أو نقلها من حرز إلى ما هو دونه ، كان متعدّيا ، ويلزمه الضمان ، وكذا إن لم يكن هناك ضرورة من خوف نهب ، أو غرق ، أو غيرهما ، فسافر بها ، أو أودعها أمينا آخر ، وصاحبها حاضر ، أو خالف مرسوم صاحبها في كيفيّة حفظها ، وكذا لو أقرّ بها لظالم يريد أخذها من دون أن يخاف الضرر من القتل أو الضرب ، أو سلّمها إليه بيده ، أو بأمره ، وإن خاف ذلك على قول بعض أصحابنا.

والأولى والأصح والأظهر ، أنّه متى خاف الضرر ، ونزوله به ، فلا يكون ضامنا بخروجها من يده ، وإعطائه الظالم إيّاها على سائر الأحوال ، فإن قنع الظالم منه بيمينه ، فله أن يحلف ويورّي في ذلك ، ولا يجوز له تسليم الوديعة إلى الظالم عند هذه الحال ، فإن سلّمها وترك اليمين ، كان ضامنا ، ولا ضمان عليه إن هجم الظالم فأخذها قهرا.

ولو تعدّى المودّع ، ثمّ أزال التعدّي ، مثل أن يردها إلى الحرز بعد إخراجها منه ، لم يزل الضمان ، لأنه كان لازما له قبل الرد ، ومن ادّعى سقوطه عنه ، فعليه الدلالة ، ولو أبرأه صاحبها من الضمان بعد التعدّي ، وقال : قد جعلتها وديعة عندك من الآن ، بري ء لأنّ ذلك حقّ له ، فله التصرف فيه بالإبراء والإسقاط ، ويزول الضمان بردها إلى صاحبها أو وكيله ، سواء أودعه إيّاها مرّة أخرى أم لا ، بلا خلاف.

وإذا علم المودع أنّ المودع لا يملك الوديعة لم يجز ردّها عليه مع الاختيار ،

ص: 435

بل يلزمه ردّ ذلك إلى مستحقه ، إن عرفه بعينه ، فإن لم يتعيّن له ، حملها إلى الإمام العادل ، فإن لم يتمكن ، لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق به في ذلك ، بعد وفاته ، إلى حين التمكّن من المستحق ، ومن أصحابنا من قال : تكون والحال هذه في الحكم كاللقطة ، على ما روي في بعض الروايات (1) والأول أحوط.

وإن كانت الوديعة من حلال وحرام لا يتميز أحدهما من الآخر ، لزم ردّ جميعها إلى المودع متى طلبها ، بدليل إجماع أصحابنا.

ومتى ادّعى صاحب الوديعة تفريطا ، فعليه البيّنة ، فإن فقدت فالقول قول المودع - لأنّه أمين - مع يمينه.

فإذا ثبت التفريط ، واختلفا في قيمة الوديعة ، ولا بيّنة فالقول قول المودع الأمين - لأنّه المدّعى عليه - مع يمينه.

ومن أصحابنا من قال : القول قول صاحبها مع يمينه (2) ، وهذا مخالف لأصول المذهب ، وما عليه الإجماع ، والمتواتر من الأخبار ، لأنّ القول بذلك ، يؤدّى إلى أنّ القول قول المدّعي ، وعلى الجاحد البيّنة ، وهذا خلاف ما عليه كافّة المسلمين ، وأيضا الأصل براءة ذمة الجاحد ، فمن شغلها بزيادة على ما يقول ويقرّ فعليه الدلالة ، ولأنّه أيضا غارم ، والغارم يكون القول قوله مع يمينه ، بلا خلاف ، وما ذكره شيخنا في نهايته (3) خبر واحد ، لا يرجع بمثله عن الأدلة القاهرة ، ولا يخصّ بمثله العموم.

وإذا طلبها صاحبها من المستودع ، وهو متمكن من ردّها ، وليس عليه في ذلك ولا على غيره ضرر ، لا يمكن تلافيه من الخوف على النفس وعلى المال ، وجب عليه ردّها ، سواء كان المودع كافرا ، أو مسلما ، أو مؤمنا ، أو فاسقا ، وعلى كلّ حال.

ص: 436


1- لم نجد رواية في خصوص هذا الموضوع. ولعلّ المراد بها بعض ما ورد في المال المجهول المالك أو المفقود المالك. فراجع الوسائل : الباب 7 من اللقطة ، والباب 6 من أبواب ميراث الخنثى.
2- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.
3- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

وإذا اختلف نفسان في مال ، فقال الذي عنده المال : إنّه وديعة ، وقال الآخر : إنّه دين عليك ، كان القول قول صاحب المال ، وعلى الذي عنده المال ، البيّنة أنّه وديعة ، فإن لم يكن له بيّنة ، وجب عليه ردّ المال فإن هلك كان ضامنا ، فإن طالب صاحب المال باليمين أنّه لم يودّعه ذلك المال ، كان له ذلك ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، وحرّرناه. هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الرهن (1) والوديعة (2).

والوجه في الموضعين معا عندي ، أن يكون المدّعى عليه قد وافق المدّعى على صيرورة المال إليه ، وكونه في يده ، ثمّ بعد ذلك ادّعى أنّه وديعة لك عندي ، فلا يقبل قوله ، ويكون القول قول من ادّعى أنّه دين ، لأنّه قد أقرّ بأنّ الشي ء في يده أولا ، وادّعى كونه وديعة ، والرسول عليه السلام قال : « على اليد ما أخذت حتى تردّه » (3) وهذا قد اعترف بالأخذ والقبض ، وادّعى الوديعة ، وهي تسقط الحق الذي أقرّ به لصاحب المال ، فلا يقبل قوله في ذلك ، فأمّا إذا لم يقر بقبض المال أولا ، بل ما صدّق المدّعي على دعواه ، بأنّ له عنده مالا دينا ، بل قال : لك وديعة عندي كذا وكذا ، فيكون حينئذ القول قوله مع يمينه ، لأنّه ما صدّقه على دعواه ، ولا أقرّ أولا بصيرورة المال إليه ، بل قال : لك عندي وديعة ، فليس الإقرار بالوديعة ، إقرارا بالتزام شي ء في الذمة ، فليلحظ ذلك ، ففيه غموض.

ومتى تصرّف المودع في الوديعة ، كان متعدّيا ، وضمن المال ، فإن ردّها ، أو ردّ مثلها إلى المكان من غير علم من صاحبها ، لم تبرأ بذلك ذمته ، وكان ضامنا كما كان ، إلا أن يردّها على صاحبها ، ويجعلها عنده وديعة من رأس ، على ما أسلفناه فيما مضى.

ص: 437


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.
3- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب الغصب ، ح 4 و 5.

ومتى مات المستودع ، وجب ردّ الوديعة إلى ورثته ، عند المطالبة منهم ، فإن كان واحدا سلّمها إليه ، وإن كانوا جماعة ، لم يسلّمها إلا إلى جماعتهم ، أو إلى واحد يتفقون عليه ، فإن لم يتفقوا على ذلك ، قال بعض أصحابنا : أو يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، والأولى رفعها إلى الحاكم ، لأنّ الودعيّ لا يجوز له قسمتها ، فإن سلّمها إلى واحد منهم بغير رضاء الباقين ، كان ضامنا لحصتهم على الكمال.

وليس المودع أن يسافر بالوديعة ، سواء كان الطريق مخوفا أو غير مخوف ، وسواء كانت المسافة قريبة أو بعيدة.

المودع متى أودع الوديعة عند غيره ، مع قدرته على صاحبها ، فإنّه يكون ضامنا ، سواء أودع زوجته ، أو غير زوجته ، ثقة أو غير ثقة ، فأمّا إذا لم يقدر عليه ، وأراد السفر ، فلا بأس بأن يودعها عند من يثق بديانته.

ولا يجوز له دفنها من غير وصيّة بها إلى غيره ، واستيمان منه عليها ، وإيداع الغير.

إذا أخرج الوديعة لمنفعة نفسه ، لا لمنفعة صاحبها ، مثل أن يكون ثوبا وأراد ان يلبسه ، أو دابة فأراد ركوبها ، فإنّه يضمن بنفس الإخراج ، فأمّا إذا نوى أن يتعدّى ، أو يخرجها ، ولم يفعل ذلك ، فإنّه لا يضمن بالنيّة ، حتى يتعدّى.

وإذا أودع غيره حيوانا ، ولم يأمره بأن يسقيه ولا يعلفه ، ولا نهاه ، لزمه الإنفاق عليه ، وسقيه ، وعلفه ، ويرجع على صاحبه بذلك إذا أشهد بأنّه يرجع عليه بذلك ، لأنّه إذا أطلق ، عرف بفحوى الخطاب أمره بالسقي والعلف ، لأنّ العادة جارية بأنّ الدابة تسقى وتعلف ، فوجب حمل ذلك على العرف ، وإن لم يتلفظ به ، لأنّه عرف من فحوى الخطاب.

وإذا أودع إنسان وديعة عند إنسان ، وقال له : ادفعها إلى فلان أمانة ووديعة ، فادّعى المودع أنّه دفعها إليه ، وأنكر المودع الثاني أن يكون دفعها إليه ، وقال المودع الأوّل لصاحبها : أنا امتثلت أمرك ، ودفعتها إليه ، فالقول قوله مع يمينه ، وتعود المحاكمة بين صاحبها وبين المودع الثاني ، فإن اعترف فذاك ، وإن

ص: 438

أنكر الإيداع ، فالقول قول المودع الثاني أيضا ، لأنّ المودع مؤتمن ، فوجب أن يكون القول قوله ، كما أنّه لو ادّعى أنّه ردّها على المودع الذي هو صاحبها ، فانّ القول قوله في ذلك.

إذا خلط الوديعة بماله خلطا لا يتميّز ، مثل أن يخلط دراهم بدراهم ، أو دنانير بدنانير ، أو طعاما بطعام ، فإنّه يضمن ، سواء خلطها بمثلها ، أو أرفع منها ، أو أدون منها ، وعلى كلّ حال ، لأنّه قد تعدّى فيها بالخلط ، بدلالة أنّه لا يمكنه أخذ ماله بعينه ، فوجب عليه الضمان.

وإذا كان عنده وديعة ، فادّعاها نفسان ، فقال المودع : هي لأحدهما ، ولا أعلم عين صاحبها ، وادّعى كلّ واحد منهما علمه بذلك ، لزمه يمين واحدة بأنّه لا يعلم لأيّهما هي ، فإذا حلف وبذل كلّ واحد من المتداعيين اليمين أنّه له ، استخرج واحد منهما بالقرعة ، فمن خرج اسمه ، خلف وسلّمت إليه ، لأنّه أمر مشكل.

إذا أودعه شيئا ليس بمحرز ، مثل الدراهم والدنانير ، في طبق أو صينيّة ، ونحو ذلك ، فأخذ منها درهما ، ضمن ذلك الدرهم والدينار ، لأنّه تعدّى بأخذه ، فعليه ضمانه ، ولا يضمن الباقي ، لأنّه ما تعدّى فيه ، فلا يتعلق به ضمان ، فإن ردّ المأخوذ ، فلا يخلو إمّا أن يردّ ما أخذه بعينه ، أو يرد بدله ، فإن ردّ ما أخذه بعينه ، فإنّه لا يضمن سواه ، سواء تميز من غيره أو لم يتميز ، فأمّا إن ردّ بدله ، فإن كان متميّزا ، فلا يضمن غيره فحسب ، وإن كان غير متميّز العين بعد الخلط والرد ، فإنّه يضمن الجميع ، لأنّه خلط ماله بمال غيره ، فكان متعديا بالخلط ، فهو كما لو كان مقارضا ، فخلط مال القراض بمال من عنده ، فإنّه يضمن مال القراض كلّه.

المودّع إذا حضرته الوفاة ، يلزمه أن يشهد على نفسه ، بأنّ عنده وديعة لفلان ، ويشهد حتى لا تختلط بماله ، ويأخذه ورثته ، ولا يقبل قول المودع إلا ببيّنة ، فإذا لم يكن معه بيّنة ، فالظاهر أنّ هذا مال الميّت ، فيؤدّي إلى هلاك ماله ، وكذلك الحكم إذا سافر ، فان الحكم فيه واحد حرفا فحرفا.

ص: 439

إذا أودع صندوقا ، وقال له : لا ترقد عليه ، فرقد عليه ، وزاده قفلا آخر حفاظا له ، فإنّه لا يضمن ، لأنّه زاده حرزا.

ولو قال له : اطرحها في بيتك ، واحفظها ، فإذا فزعت عليها ، لا تخرجها ، ففزع عليها فأخرجها ، وحفظها في حرز مثله ، لم يضمنها لأنّه زاده حرزا ، وبالغ في الحرز.

ولو أودعه خاتما ، فقال : دعه في إصبعك الخنصر ، فوضعه في البنصر ، لم يضمن ، لأنّ الخاتم في البنصر أوثق ، لأنّه يكون في الخنصر سريع القلق.

ولو قال : دعه في البنصر ، فوضعه في الخنصر ، فإنّه يضمن ، لأنّه وضعه فيما دون منه في الحرز.

إذا طالب المودع فقال : لم تودعني شيئا ، وأنكر ، فأقام المودع البيّنة ، أنّه كان أودعه ، فقال : صدقت البيّنة ، كنت أودعتني ، لكن تلفت منى قبل ذلك ، فإنّه لا يسمع هذا القول ، وعليه الضمان ، لأنّ البيّنة قد أكذبته ، وبان كذبه بالبيّنة.

إذا أودع وديعة ، فقال : اجعلها في كمّك ، فجعلها في يده ، قال قوم : لا يضمن ، لأنّ اليد أحرز من الكم ، وقال آخرون : إنّه يضمن ، لأنّه إذا أمسكها في يده ، فقد يسهو ، أو تسترخي يده منها ، وليس كذلك الكم ، لأنّه قد آمن من أن تسقط بالاسترخاء ، لأنّه يعلم خفّته (1) ، ويقوى في نفسي ، أنّه من حيث خالف صاحبها ، يضمن ، لأنّ ذلك يكون تعدّيا لأنّه لم يخالفه لفضل حفظ وحرز.

إذا دفع إليه شيئا فقال : اتركه في جيبك ، فطرحه في كمه ، فإنّه يضمن ، ولو قال : اربطها في كمّك ، فطرحها في جيبه ، لم يضمن ، لأنّ الجيب أحرز من الكم ، فإن قال : اتركها في جيبك ، فتركها في فيه ، ضمن ، لأنّه نقلها إلى ما هو دونه في الحرز ، لأنّه ربما بلعها ، وربما تسقط من فيه ، وليس كذلك الجيب ، لأنّ الجيب لا يقع منه إلا إذا بط.

إذا أودع صبيّ وديعة عند رجل ، يلزمه الضمان ، لأنّ دفع الصبيّ لا حكم

ص: 440


1- ج : حقنة.

له ، فلمّا لم يكن له حكم ، فقد أخذها ممّن ليس له الأخذ منه ، فإن أراد ردّها إلى الصبيّ ، لم يزل الضمان ، لأنّه بالأخذ قد لزمه الضمان ، فلا يسقط بهذا الرد ، لأنّه ردّ على من ليس له أن يردّ عليه ، إلا أن يردّها إلى ولي الصبيّ ، فإنّه يزول عنه بهذا الرد الضمان.

فأمّا إذا أودع عند صبيّ ، فإنّه لا يضمن ، لأنّ المودع ضيّع الوديعة ، وفرّط في ماله ، فأمّا إذا جنى الصبيّ على مال رجل ، فأتلفه من غير إيداع عنده ، فانّ الضمان يتعلّق في ماله دون مال عاقلته ، لأنّ في باب إتلاف الأموال ، الصبيّ والبالغ سواء ، فإن كانت الجناية على بدن آدميّ ، فعلى عاقلته ، سواء كانت الجناية على الآدمي ، عمدا أو خطأ.

باب المزارعة

المزارعة والمخابرة بالخاء المعجمة ، اسمان لعقد واحد ، وهو إعطاء الأرض إلى أجل ، محروس من الزيادة والنقصان ، ببعض ما يخرج منها مشاعا ، وسواء كان من أحدهما الأرض والبذر ، ومن الآخر العمل ، أو من أحدهما الأرض ، ومن الآخر العمل والبذر.

فإذا ثبت ذلك فالمزارعة مشتقة من الزرع ، والمخابرة من الخبار ، وهي الأرض الليّنة ، والأكّار ، يسمّى خابرا.

والمعاملة على الأرض ببعض ما يخرج من نمائها ، على ثلاثة أضرب مقارضة ، ومساقاة ، ومزارعة.

فأمّا المقارضة ، فإنّها تصحّ بلا خلاف على ما قدّمناه.

وأمّا المساقاة فجائزة عند جميع الفقهاء ، إلا عند أبي حنيفة وحده.

فإمّا المزارعة ، فهو أن يزارعه على سهم مشاع ، مثل أن يجعل له النصف ، أو الثلث ، أو أقلّ ، أو أكثر ، فإنّ ذلك عندنا جائز إذا ضربها بالأجل المحروس ،

ص: 441

وعيّن حقّ العامل.

وشرطه أن يكون جزء مشاعا من الخارج ، فلو عامله على وزن معيّن منه ، أو على غلّة مكان مخصوص من الأرض ، أو على تمر نخلات بعينها ، بطل العقد ، بلا خلاف بين من أجاز المزارعة والمساقاة ، ولأنّه قد لا يسلم إلا ما عيّنه ، فيبقى ربّ الأرض والنخل بلا شي ء ، وقد لا يعطب إلا غلّة ما عينه ، فيبقى العامل بغير شي ء ، وإذا تمّم المزارع أو المساقي عمله على هذا الشرط ، بطل المسمّى له ، واستحق أجرة المثل.

وتصرّف العامل بحسب ما يقع العقد عليه ، إن كان مطلقا ، جاز له أن يولي العمل لغيره ، ويزرع ما شاء ، وإن شرط عليه أن يتولّى العمل بنفسه ، أو يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له مخالفة ذلك ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (1).

ولو زارع ببعض الخارج من الأرض ، والبذر من مالكها ، والعمل والحفظ من المزارع ، جاز.

وكذا لو شرط على العامل في حال العقد ما يجب على ربّ المال ، أو بعضه ، أو شرط على ربّ المال ما يجب على العامل الذي هو الأكار ، المزارع أو بعضه ، كإنشاء الأنهار ، وإصلاح السواقي.

فأمّا الزكاة ، فإن بلغ نصيب كلّ واحد منهم ما يجب فيه الزكاة ، وجبت عليه ، لأنّه شريك مالك ، سواء كان البذر منه ، أو لم يكن ، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون البذر ، اجرة ولا كالأجرة.

وقال بعض أصحابنا المتأخّرين في تصنيف له : كلّ من كان البذر منه ، وجب عليه الزكاة ، ولا يجب الزكاة على من لا يكون البذر منه ، قال : لأنّ ما يأخذه كالأجرة.

ص: 442


1- الوسائل : الباب 20 من المهور ، ح 4.

والقائل بهذا ، هو السيد العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي رحمه اللّه (1) شاهدته ورأيته ، وكاتبته ، وكاتبني ، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذر رحمه اللّه بأعذار غير واضحة ، وأبان بها أنّه ثقل عليه الرد ، ولعمري أنّ الحقّ ثقيل كلّه ، ومن جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه ، أنّ المزارع مثل الغاصب للحب إذا زرعه ، فإنّ الزكاة تجب على ربّ الحب دون الغاصب ، وهذا من أقبح المعارضات ، وأعجب التشبيهات ، وإنّما كانت مشورتي عليه ، أن يطالع تصنيفه ، وينظر في المسألة ، ويغيرها قبل موته ، لئلا يستدرك عليه مستدرك بعد موته ، فيكون هو المستدرك على نفسه ، فعلت ذلك علم اللّه شفقة وسترة عليه ، ونصيحة له ، لأنّ هذا خلاف مذهب أهل البيت عليهم السلام.

وشيخنا أبو جعفر ، قد حقق المسألة في مواضع عدّة من كتبه ، وقال : الثمرة والزرع نما على ملكيهما ، فيجب على كلّ واحد منهما الزكاة ، إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه ذلك ، وإنّما السيد أبو المكارم رحمه اللّه نظر إلى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة ، في مبسوطة (2) ، فظنّ أنّه مذهبنا ، فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق ، وعرفته أنّ ذلك مذهب أبي حنيفة ، ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، لمّا شرح أحكام المزارعة ، ثمّ عقب بمذهبنا ، وأو مات له إلى المواضع التي حقّقها شيخنا أبو جعفر في كتاب القراض وغيره ، فما رجع ، ولا غيرها في كتابه ، ومات رحمه اللّه وهو على ما قاله ، تداركه اللّه بالغفران ، وحشره مع آبائه في الجنان وكذلك قوله في المساقاة.

وعقد المزارعة والمساقاة يشبه عقد الإجارة ، من حيث كان لازما ، فافتقر إلى تعيين المدّة ويشبه القراض ، من حيث كان سهم العامل مشاعا معلوما في المستفاد.

والمزارعة والمساقاة إذا كانت على أرض خراجية ، فخراجها على المالك

ص: 443


1- الغنية : فصل في المزارعة والمساقاة.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 183 ، وكتاب المساقاة : ص 220.

للأرض ، إلا أن شرّطه على العامل.

وإذا اختلف صاحب الأرض والبذر ، أو الشجر والعامل ، فقال : شرطت لك الثلث ، فقال العامل : لا بل النصف ، وعدمت البيّنة ، فالقول قول صاحب الشجر والأرض والبذر مع يمينه ، لأنّ جميع الثمرة لصاحب الشجرة ، لأنّها نماء أصله ، وانّما يثبت ويستحق العامل الحصّة بالشرط ، فإذا ادّعى شرطا بمقدار معيّن ، كان عليه البيّنة ، فإذا عدمها ، كان القول قول المالك مع يمينه ، فإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ، قدّمت ، وسمعت بينة العامل ، لأنّه المدّعي ، لقوله عليه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (1) وصاحب الشجر مدّعى عليه ، وأيضا فالبيّنة بيّنة الخارج ، والعامل الخارج.

وإذا ادّعى ربّ البذر أنّه قدر معلوم ، وقال العامل : هو بخلافه ، فالقول قول العامل ، لأنّه أمين ، ومدّعى عليه أيضا.

فإن شرطا أن يخرج البذر قبل المقاسمة وسطا ، كان على ما شرطا ، وإن لم يشرطا ذلك ، كان جميع الغلّة بينهما ، على ما اتفقا عليه ، دون إخراج البذر ، وشيخنا أبو جعفر لم يذكر في كتاب المزارعة في مسائل خلافه ، إلا المسألة الأولى فحسب ، وجميع الكتاب ، في الإجارة ، لأنّ جميع الكتاب ، أعني كتاب المزارعة إحدى عشرة مسألة ، قال في المسألة الأولى : المزارعة بالثلث والربع والنصف ، أو أقل ، أو أكثر ، بعد أن يكون سهما (2) مشاعا جائزة.

ثمّ قال في المسألة الثانية ، يجوز إجارة الأرضين للزراعة.

ثمّ قال : مسألة ، يجوز إجارة الأرض بكلّ ما يصحّ أن يكون ثمنا ، من ذهب أو فضة أو طعام.

ثمّ قال : مسألة ، إذا أكراه أرضا ليزرع فيها طعاما ، صحّ العقد.

ص: 444


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- ل. ق : سهمهما.

ثم قال : مسألة ، إذا أكرى أرضا للزراعة.

ثمّ قال : مسألة ، إذا أكرى أرضا للغراس.

ثمّ قال : مسألة إذا أكرى أرضا على أن يزرع فيها ويغرس.

ثمّ قال : مسألة ، إذا أكراه أرضا سنة للغراس ، ثمّ قال : مسألة ، إذا استأجر دارا أو أرضا.

ثمّ قال : مسألة ، إذا اختلف المكري والمكتري في قدر النفقة (1) أو قدر الأجرة.

ثمّ قال : مسألة ، إذا زرع أرض غيره ثمّ اختلفا ، فقال الزارع : أعرتنيها.

فهذه المسائل جميع ما ذكره في كتاب المزارعة ، ولعمري أنّ المزارعة عند الشرعيين غير الإجارة ، فكان الأولى والأحق أن يذكر جميع المسائل في كتاب الإجارة ، إلا مسألة واحدة ، وهي الأوّلة.

وقال في نهايته : لا بأس بالمزارعة بالثلث ، أو الربع ، أو أقل أو أكثر ، ثمّ قال : ويكره أن يزارع الإنسان بالحنطة والشعير ، والتمر والزبيب ، وليس ذلك بمحظور ، ثمّ قال رحمه اللّه : فإن زارع بشي ء من ذلك ، فليجعله من غير ما يخرج من تلك الأرض ، ممّا يزرعه في المستقبل ، بل يجعل ذلك في ذمّة المزارع ، ثمّ قال : ولا بأس أن يواجر الأرض الدراهم والدنانير (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : جميع ما ذكره شيخنا رحمه اللّه وحكيناه عنه في نهايته ، ليس ذلك بمزارعة ، إلا مسألة واحدة ، وهي الأوّلة ، وما عداها إجارة ، وليس بمزارعة ، فلا حاجة به إلى ذكر ذلك في كتاب المزارعة وبابها ، بل موضع ذلك باب الإجارة.

ثمّ قال : فإن زارع الأرض على أن يكون المزارع يتولّى زراعتها بنفسه ، لم يجز له أن يعطيها لغيره ، وكذلك إن شرط عليه أن يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له خلافه ،

ص: 445


1- ج : المنفعة.
2- النهاية : كتاب التجارة ، أول باب المزارعة والمساقاة.

ولا بأس أن يشارك المزارع غيره ، ولم يكن لصاحب الأرض خلافه ، وهذا جميعه حسن ، ذكره في باب المزارعة ، على ما قدّمناه.

ثمّ قال : ومن آجر غيره أرضا ، كان للمستأجر أن يقيم في الأرض من ينوب عنه ، ويقوم مقامه.

ثمّ قال : ومن استأجر أرضا بالنصف أو الثلث أو الربع ، جاز له أن يؤجرها غيره بأكثر من ذلك وأقلّ.

قال محمّد بن إدريس : هذا غير مستقيم ، والإجارة هاهنا باطلة ، لأنّ الأجرة تحتاج أن تكون مضمونة في ذمة المستأجر ، والثلث والربع المذكور غير مضمون ، وربما لم تخرج الأرض شيئا ، وهذا غرر عظيم منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

ثمّ قال : وإذا استأجرها بالدراهم والدنانير ، لم يجز له أن يوجرها بأكثر من ذلك ، إلا أن يحدث فيها حدثا ، من حفر نهر ، أو كرى ساقية ، وما أشبه ذلك (1).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه يجوز له أن يوجرها بأكثر من ذلك الجنس الذي استأجرها به ، وإن لم يحدث فيها حدثا ، لأنّ منافعها صارت مستحقة له ، يفعل فيها ما شاء ، ويوجرها لمن شاء بما شاء ، لا مانع يمنع منه من كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّ بينهم خلافا في ذلك ، وما روي في ذلك (2) أخبار آحاد تحمل على الكراهة ، دون الحظر ، فأمّا إذا اختلف الجنس فلا خلاف بينهم في جواز ذلك ، من غير حظر ولا كراهة ، بأكثر أو أقل ، سواء أحدث فيها حدثا ، أو لم يحدث ، مثال ذلك أن يستأجرها بدنانير ، فيؤجرها بدراهم ، أو يستأجرها بخبطه في ذمته ، لا ممّا تخرج الأرض ، ويؤجرها بدنانير أو دراهم وأشباه ذلك.

ثمّ قال : فإن كان شرط المزارع أن يأخذ بذره قبل القسمة ، كان له ذلك ، وإن

ص: 446


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المزارعة والمساقاة.
2- الوسائل : الباب 22 من أحكام الإجارة.

لم يكن شرط ذلك ، كان البذر عليه على ما شرط.

قال محمّد بن إدريس : إذا لم يكن شرط ، كيف يكون البذر عليه على ما شرط ، وهو قد نفى أن يكون شرط شيئا ، إلا أن يريد به أنّه شرط أن يأخذه بعد القسمة ، إذا لم يكن شرط أن يأخذه قبل القسمة ، وقد قلنا في ما مضى ، أنّه إذا لم يشرط إخراج البذر من وسطا ، لم يخرج ، بل يقسم الجميع (1) من غير إخراج بذر بين المزارع وبين ربّ الأرض.

ثمّ قال : وإن شرط عليه أيضا خراج الأرض ومئونة السلطان ، كان عليه ذلك ، دون صاحب الأرض ، فإن شرط ذلك وكان قدرا معلوما ، ثمّ زاد السلطان على الأرض المئونة ، كانت الزيادة على صاحب الأرض ، دون المزارع.

أمّا قوله « خراج الأرض » فما يتقدّر ذلك إلا في الأرض الخراجية ، على قدّمناه.

ومن استأجر أرضا مدة معلومة ، وجب عليه مال الإجارة ، وكانت له المدة المعلومة ، سواء زرع فيها ، أو لم يزرع ، فإن منعه صاحب الأرض من التصرّف فيها ، ثمّ انقضت المدّة ، لم يكن عليه شي ء من الأجرة ، ومتى منعه من التصرّف فيها ظالم غير صاحب الأرض ، لم يكن على صاحب الأرض شي ء.

فإن غرقت الأرض لا بجناية أحد من الناس ، غرقا لم يتمكن معه المستأجر من التصرّف فيها مدة الإجارة ، لم يلزمه شي ء من مال الإجارة ، إلا أن يكون تصرّف فيها بعض تلك المدة ، فيلزمه بمقدار ما تصرّف فيها ، وليس عليه أكثر من ذلك ، ويكون العقد صحيحا في المدة التي تصرف فيها ، وينفسخ في باقي المدة ، وتقسط الأجرة بمقدار اجرة المثل ، مثال ذلك أن ينظر ، فإن كانت أوقات المدّة كلّها متساوية في الأجرة ، حسب على ما مضى بقسطه من الأجرة المسمّاة ، وإن كانت مختلفة نظركم اجرة مثلها فيما مضى ، وفيما بقي ، فإن كانت اجرة المثل في

ص: 447


1- ل. ق : جميع الغلة.

المدّة التي مضت ، مثلي أجرة المدة التي بقيت ، فعليه ثلثا الأجرة المسمّاة ، وعلى هذا الترتيب ، إن كان الحال بخلاف ذلك.

ولا تصحّ المزارعة والإجارة إلا بأجل معلوم ، على ما قدّمناه ، فمتى لم يذكر فيهما الأجل ، كانت باطلة ، فإن كان قد تصرّف فيها المستأجر ، وأنفق فيها ، كان له ما أنفق ، ولصاحب الأرض ما يخرج منها ، وللزارع اجرة المثل ، إذا لم يكن ذكر الأجل ، ولم يكن له أكثر من ذلك.

ومن أخذ أرض إنسان غصبا ، فزرعها أو عمّرها ، وبنى فيها بغير إذن المالك ، كان لصاحب الأرض قلع ما زرع فيها وبنى ، وأخذ أرضه ، وله اجرة المثل على الغاصب مدّة ما كانت في يده ، فإن كان الغاصب زرع فيها وبلغت الغلّة ، كانت للغاصب ، لأنّها نماء بذره ، ويكون لصاحب الأرض طسق الأرض ، والطسق الوظيفة ، توضع على صنف من الأرض لكل جريب ، وهو بالفارسيّة تسك ، فأعرب ، وهو كالأجرة.

وإذا اكترى إنسان دارا ، ليسكنها وفيها بستان ، فزرع فيها زرعا ، وغرس شجرا ، فإن كان فعل ذلك بإذن صاحب الدار ، ثمّ أراد التحوّل عنها ، وأراد الزارع والغارس قلع ذلك ، فله قلعه ، فإن أراد تبقيته فيها ، وأراد صاحبها قلعه ، فإن جرى بينهما صلح ، حملا عليه ، وإن تشاحّا ، ولم يصطلحا على شي ء ، فلصاحبها قلعه ، بعد أن يغرم له ما بين قيمته مقلوعا ونابتا ، فإن أبي ذلك ، لم يكن له قلعه ، لأنّه زرعه باذنه ، وليس هو بعرق ظالم ، وإن لم يكن استأذن صاحب الدار في ذلك ، كان له قلعه ، وإعطاؤه إيّاه للزارع والغارس ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : « ليس لعرق ظالم حق » (1).

ومتى زارع أرضا أو استأجرها ، فباع صاحب الأرض أرضه ، لم تبطل بذلك

ص: 448


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب الغصب ، ح 1.

مزارعته ، ولا إجارته ، وإن كان البيع بحضرة المزارع والمستأجر ، ويكون البيع صحيحا ، غير أنّه يلزم المشتري أن يصبر إلى وقت انقضاء مدّة المزارعة والإجارة ، فإن مات المشتري لم تبطل أيضا بموته الإجارة والمزارعة ، ووجب على ورثته الصبر ، إلى أن ينقضي زمان المزارعة والإجارة.

ومتى مات المستأجر أو المؤجر ، بطلت الإجارة عند بعض أصحابنا ، وانقطعت في الحال ، وقال آخرون من أصحابنا : إنّها تبطل بموت المستأجر ، ولا تبطل بموت المؤجر ، وقال الأكثرون المحصّلون : لا تبطل الإجارة بموت المؤجر ، ولا بموت المستأجر.

وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، لأنّه الذي تقتضيه أصول المذهب ، والأدلة القاهرة ، عقلا وسمعا.

فالعقل ، أنّ المنفعة حقّ من حقوق المستأجر على المؤجر ، فلا تبطل بموته ، وإذا كانت حقا من حقوق الميّت فإنّه ، يرثه وارثه ، لعموم آيات المواريث ، ومن أخرج شيئا منها ، فعليه الدليل ، وهو تصرّف في مال الغير ، أعني المنفعة. ولا يجوز التصرّف في ذلك ، إلا بإذن صاحب المنفعة.

والسمع فقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد فيجب الوفاء به ، فمن فسخه وأبطله ، يحتاج إلى دليل ، ولن يجده ، فإن ادّعى إجماعا ، فقد بيّنا أنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، لا مجتمعون ، فإذا لم يكن إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا دليل عقل ، فبأيّ شي ء ينفسخ هذا العقد ، بل الكتاب قاض بصحّة هذا العقد ، ودليل العقل حاكم به ، وما اخترناه مذهب السيد المرتضى وخيرته في الناصريات في المسألة المأتين ، ومذهب أبي الصلاح الحلبي ، في كتابه كتاب الكافي (1) ، وهو كتاب حسن ، فيه تحقيق مواضع ، وكان هذا المصنّف من جملة أصحابنا الحلبيين ، من تلامذة المرتضى رضي اللّه عنهما.

ص: 449


1- الكافي : فصل في ضروب الإجارة ، ص 348.

والأوّل مذهب شيخنا رحمه اللّه (1) ، وخيرته ، مع قوله في مبسوطة : إنّ أكثر أصحابنا يذهبون إلى أنّ موت المؤجر لا يبطلها (2). واستدل على صحة ما اختاره في مسائل خلافه (3) بأشياء يرغب عن ذكرها ، ونقضها سترا على قائلها ، وما المعصوم إلا من عصمه اللّه سبحانه.

ومال الإجارة لازم ، وإن هلكت الغلّة بالآفات السماويّة.

ومن زارع أرضا أو ساقاها على ثلث ، أو ربع ، أو غير ذلك ، وبلغت الغلّة ، جاز لصاحب الأرض أن يخرص عليه الغلّة والثمرة ، فإن رضي المزارع أو المساقي بما خرص ، أخذها ، وكان عليه حصة صاحب الأرض ، سواء نقص الخرص ، أو زاد ، وكان له الباقي ، كما فعل عامل الرسول عليه السلام بأهل خيبر وهو عبد اللّه بن رواحة الأنصاري الخزرجيّ (4) ، فإن هلكت الغلّة والثمرة قبل جذاذها وحصادها ، بآفة سماوية ، لم يلزم العامل الذي هو الأكار شي ء لصاحب الأرض.

والذي ينبغي تحصيله في هذا الخبر والسؤال ، انه لا يخلو أن يكون قد باعه حصته من الغلّة والثمرة ، بمقدار في ذمّته من الغلّة والثمرة ، أو باعه الحصة بغلة من هذه الأرض ، فعلى الوجهين معا ، البيع باطل ، لأنّه داخل في المزابنة والمحاقلة ، وكلاهما باطلان ، وإن كان ذلك صلحا لا بيعا ، فإن كان ذلك بغلّة أو ثمرة في ذمة الأكار الذي هو المزارع ، فإنّه لازم له ، سواء هلكت الغلّة بالآفات السماوية ، أو الأرضية ، وإن كان ذلك الصلح بغلّة من تلك الأرض ، فهو صلح باطل ، لدخوله في باب الغرر ، لأنّه غير مضمون ، فإن كان ذلك ، فالغلّة بينهما سواء ، زاد الخرص أو نقص ، تلفت منهما ، أو سلمت لهما ، فليلحظ ذلك ، فهو

ص: 450


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 224 ، وفيه ، والأظهر عندهم أنّ موت المستأجر يبطلها ، وموت المؤجر لا يبطلها ، وفيه خلاف.
3- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 20.
4- الوسائل : الباب 10 من أبواب بيع الثمار ، ح 2 و 3 و 5.

الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وتشهد به الأدلة ، فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، وإن كررت في الكتب.

باب المساقاة

المساقاة مفاعلة ، مشتقة من السّقي ، وهو أن يدفع الإنسان نخلة أو شجره الذي يحمل ثمرا ، أيّ شجر كان ، قبل خروج (1) المدّة المضروبة بينهما ، لأنّها لا تصحّ إلا بأجل محروس.

ويشرط له حصّة معلومة مشاعة.

ولا تصحّ إلا على أصل ثابت ، على أن يلقحه ويصرف الجريد ، ويصلح الأجّاجين تحت النخل والأخواص ، ويسقيها ، ويحفظ الثمرة ، ويلقطها ، ويجذّها ، ويحفر السواقي والأنهار لجري الماء إليها ، وكذلك الكرم ، على أن يعمل فيه ، فيقطع الشّفش ، ويصلح مواضع الماء ، ويسقيه ، ويحفظه.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أنّه يجب عليه كلّ ما كان فيه زيادة في الثمرة وربع ونماء ، فعلى هذا يجب عليه الكش ، وآلات السقي ، وما يتوصّل به إليه من الدلاء ، والنواضح ، والبقر ، والحبال ، والمحالات ، وغير ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة : الكش (2) يلزم صاحب النخل (3) ، وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه ، ولا شكّ أنّه قول بعض المخالفين ، ووضعه في الكتاب المذكور ، لأنّه رحمه اللّه يذكر فيه مذهبنا ومقالتنا ، ومقالة غيرنا ، من غير تفصيل كثيرا ما يعمل كذلك ، فصار الشجر على ضربين ، ضرب له ثمر يؤكل ، سواء تعلّق به الزكاة ، أو لم تتعلّق ، فإنّه يتعلّق به المساقاة ، وشجر لا ثمرة له ، فلا يجوز المساقاة عليه.

ص: 451


1- ج : انقضاء.
2- الكش ، بالضم ، الذي يلقّح به النخل.
3- المبسوط : ج 3 ، كتاب المساقاة ، ص 210.

والمساقاة تحتاج إلى مدة معلومة ، كالإجارة على ما قدّمناه.

وهي من العقود اللازمة ، لأنّها كالإجارة ، وبهذا فارقت القراض ، لأنّه لا يحتاج إلى مدّة ، بل هو عقد جائز من الطرفين.

والمئونة جميعها في المساقاة على المساقي ، على ما قدّمناه ، دون صاحب الأصل.

ومتى ساقى صاحب النخل والشجر غيره ، ولم يذكر ماله من الحصّة والقسمة ، كانت المساقاة باطلة ، وكان لصاحب الأصل ما يخرج من نخله وشجره ، وعليه وللمساقي أجرة المثل من غير زيادة ولا نقصان.

ويكره لصاحب الأرض أن يشترط على المساقي مع المقاسمة شيئا من ذهب أو فضة ، فإن شرطه أو شرط له ، وجب عليهما الوفاء بما شرطا ، اللّهم إلا أن تهلك الثمرة بآفة سماوية ، فلا يلزمه حينئذ شي ء ممّا شرط عليه ، على حال.

وخراج الثمرة على ربّ الأرض ، إذا كانت الأرض خراجية ، دون المساقي ، إلا أن يشترط ذلك على المساقي ، فيلزمه حينئذ الخروج منه.

وقد قلنا وذكرنا أحكام من أخذ أرضا ميتة فلا وجه لا عادته.

وقال شيخنا في نهايته ، في ذكر أحكام المساقاة : ومن استأجر أرضا بشي ء معلوم ، جاز له أن يؤجر بعضها بأكثر ذلك المال ، ويتصرّف هو بما يبقى في الباقي ، وكذلك إن اشترى مراعى جاز له أن يبيع شيئا منها بأكثر ماله ، ويرعى هو بالباقي ما يبقى منها ، وليس له أن يبيع بمثل ما اشترى أو أكثر منه ، ويرعى معهم ، إلا أن يحدث فيه حدثا ، ويكون ذلك أيضا برضا صاحب الأرض ، فإن لم يرض ببيعه من سواه ، لم يجز له ذلك ، وإنّما يكون له أن يرعاه بنفسه ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته ، في آخر الباب (1).

قال محمد بن إدريس : أمّا المسألة الأولى ، فباب الإجارة أحق بذكرها فيها من باب المساقاة ، وأمّا المسألة الثانية ، فليس هي من قبيل المساقاة ، ولا قبيل

ص: 452


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المزارعة والمساقاة.

المزارعة ، ولا الإجارة.

والأولى عندي أنّ له أن يبيع ما شاء كيف شاء ، سواء رضي صاحب الأرض ، أو لم يرض ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم وأموالهم ، كيف شاءوا عملوا ، من سائر أنواع التصرّفات فعلوا ، بيعا ، أو هبة ، أو إجارة ، أو صدقة ، أو غير ذلك ، وإنّما هذه أخبار آحاد احتاج أن يوردها في غير مواضعها ، لئلا يشذّ منها شي ء على ما اعتذر به في كتابه العدة (1) ، وإن لم يكن عاملا بها ولا معتقدا لصحتها ، أوردها إيرادا على ما هي عليه من الألفاظ ، لا اعتقادا على ما كرّرنا الاعتذار له في ذلك.

وإذا شرط في حال عقد المساقاة العامل على ربّ الأرض ، بعض ما يجب على العامل عمله ، لم يمنع ذلك من صحة العقد ، إذا بقي للعامل عمل ، ولو كان قليلا ، لأنّ هذا شرط لا يمنع منه كتاب ولا سنّة ، وكذلك إذا ساقاه بعد ظهور الثمرة كان جائزا.

وإذا اختلف ربّ النخل والعامل ، فقال ربّ النخل : شرطت على أن يكون لك ثلث الثمرة ، وقال العامل : بل على أن يكون لي نصف الثمرة ، كان القول قول ربّ النخل مع يمينه ، فإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ، قدّمنا بيّنة العامل ، لأنّه المدّعي ، وهو الخارج ، دون بيّنة ربّ النخل ، على ما قدّمناه.

إذا ظهرت الثمرة ، وبلغت الأوساق التي تجب فيها الزكاة ، كانت الزكاة واجبة على ربّ النخل والعامل معا ، إذا بلغ نصيب كلّ واحد منهما ما تجب فيه الزكاة ، فإن لم يبلغ نصيب واحد منهما النصاب ، فلا تجب الزكاة على كلّ واحد منهما ، فإن بلغ نصيب أحدهما نصاب الزكاة ، وجب عليه دون من لم يبلغ حصّته ، لأنّ الثمرة ملك لهما ، وهذا مذهب أصحابنا بغير خلاف بينهم في ذلك ،

ص: 453


1- العدة : الفصل 4 من الكلام في الأخبار ، وقد نقلنا عبارتها في ذيل ص 791.

ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ، وناظر المخالفين على صحته ودلّ عليه.

وقد كنّا قلنا أنّ بعض أصحابنا المتأخّرين ذكر في تصنيف له (2) ، وقفنا عليه ، وعاودناه في مطالعته في حال حياة مصنّفه ، ونبّهناه على تجاوز نظره الحقّ في المسألة ، لأنّه قال : لا يجب الزكاة إلا على ربّ النخل دون المساقي ، وكذلك في المزارعة ، لا تجب إلا على من يكون منه البذر ، دون الأكّار ، لأنّ ما يأخذه كالأجرة ، والأجرة لا زكاة فيها ، وهذا منه رحمه اللّه تسامح عظيم ، والذي ذهب إليه أحد قولي الشافعي.

واستدلّ شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، على صحّة ما قلناه ، فقال : دليلنا انّه إذا كانت الثمرة ملكا لهما ، فوجبت الزكاة على كلّ واحد منهما ، فمن أوجب على أحدهما دون الآخر ، كان عليه الدليل (3) ، الودّي ، بالواو المفتوحة ، والدّال غير المعجمة المكسورة ، والياء المشددة ، هو صغار النخل قبل أن تحمل ، فإذا ساقاه على وديّ ، ففيها ثلاث مسائل.

إحداها ساقاه إلى مدّة يحمل مثلها غالبا ، فالمساقاة صحيحة ، لأنّه ليس فيه أكثر ، من أنّ عمل العامل يكثر ويقلّ نصيبه ، وهذا لا يمنع صحّتها ، كما لو جعل له سهم من ألف سهم ، فإذا عمل ، نظرت ، فإن حملت ، فله ما شرط ، وإن لم تحمل شيئا ، فلا شي ء له ، لأنّها مساقاة صحيحة ، ونصيبه من ثمارها معلوم ، فإذا لم تثمر لم يستحق شيئا ، كالقراض الصحيح إذا لم يربح شيئا.

الثانية ساقاه إلى مدّة لا يحمل الودي إليها ، فالمساقاة باطلة.

الثالثة ساقاه إلى وقت قد تحمل وقد لا تحمل ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فهذه أيضا مساقاة باطلة.

ص: 454


1- الخلاف : كتاب المساقاة ، المسألة 13.
2- هو السيد ابن زهرة رحمه اللّه في كتاب الغنية ، فإنه « رحمه اللّه » قال في كتاب التجارة ، في فصل في المزارعة والمساقاة ، ما هذا نصه : فأمّا الزكاة فإنّها تجب على مالك البذر والنخل إلخ.
3- الخلاف : كتاب المساقاة ، المسألة 13.

إذا ساقاه على ودّي ، على أنّه إذا كبر وحمل ، فله نصف الثمرة ، ونصف الوديّ ، فالعقد باطل ، لأنّ موضوع المساقاة على أن يشتركا في الفائدة ، دون الأصول ، فإذا اشترط الاشتراك في الأصول ، بطل ، كالقراض إذا اشترط له جزء من رأس المال ، مضافا إلى وجوب الربح.

وإذا كان الوديّ ، مقلوعا ، فساقاه على أن يغرس ، فإذا علق وحمل ، فله نصف الثمرة ، والمدّة يحمل في مثلها إن علق ، فالمساقاة باطلة ، لأنّها لا تصحّ إلا على أصل ثابت يشتركان في فوائده ، فإذا كانت الأصول مقلوعة ، لم تصحّ المساقاة.

إذا اختلف ربّ النخل والمساقي في مقدار ما شرط له من الحصّة عند المقاسمة ، فالقول قول ربّ النخل مع يمينه ، لأنّ ثمرة النخل كلّها لصاحبها ، وإنّما يستحقّ العامل بالشرط ، وربّ النخل اعرف بما قال ، فإن أقام العامل بيّنة ، سمعت ، وسلّم إليه ما شهدت به البيّنة ، فإن أقام كلّ واحد منهما بيّنة بما يقوله ، قدّمنا بيّنة العامل ، لأنّه المدّعي ، والرسول عليه السلام جعلها في جنبته ، دون جنبة الجاحد.

وقال شيخنا أبو جعفر في المزارعة هكذا (1) وهو الصحيح وقال في آخر كتاب المساقاة في مبسوطة : وإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة تعارضتا ، ورجعنا على مذهبنا إلى القرعة (2).

قال محمّد بن إدريس : وأي تعارض هاهنا ، بل هذه المسألة لا فرق بينها وبين اختلاف الأكار في المزارعة وربّ البذر والأرض ، في أنّ كلّ واحد منهما إذا أقام البيّنة ، سمعت بينة الأكار ، لأنّه المدّعي ، والبيّنة جعلها الرسول عليه السلام في جنبته ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في المزارعة ، ويخالف في المساقاة وهذا أمر طريف.

ص: 455


1- لم نعثر عليه.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب المساقاة ، ص 219.

باب الإجارات

كلّ ما يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الإجارة ، من إجارة الإنسان نفسه ، وعبيده ، وثيابه ، وداره وعقاره بلا خلاف ، بل الإجماع منعقد على ذلك ، والكتاب ناطق به.

والإجارة عقد معاوضة ، وهي من عقود المعاوضات اللازمة ، كالبيع.

وتفتقر صحّتها إلى شروط ، منها ثبوت ولاية المتعاقدين ، فلا يصحّ أن يواجر الإنسان ما لا يملك التصرّف فيه ، لعدم ملك ، أو إذن ، أو ثبوت حجر ، أو رهن ، أو إجارة متقدّمة ، أو غير ذلك.

ومنها أن يكون المعقود عليه من الجانبين معلوما ، فلو قال : آجرتك إحدى هاتين الدارين ، أو بمثل ما يوجر به فلان داره ، لم يصح.

ومنها أن يكون مقدورا على تسليمه ، حسا وشرعا ، فلو آجر عبدا آبقا ، أو جملا شاردا ، أو ما لا يملك التصرّف فيه ، لم يصحّ.

ومنها أن يكون منتفعا به ، فلو آجر أرضا للزراعة في وقت يفوت بخروجه ، والماء واقف عليها لا يزول في ذلك الوقت ، لم يصحّ.

ومنها أن يكون منتفعا به منفعة مباحة ، فلو آجر مسكنا أو دابة أو وعاء في محظور لم يجز ، وكانت الإجارة باطلة.

فإذا آجر الرجل داره أو دابته ، فإنّه يلزم العقد من الطرفين ، وليس لأحد منهما الخيار ، سواء افترقا من مجلس العقد ، أو لم يفترقا ، لأنّ خيار المجلس لا يثبت إلا في عقد البيع فحسب ، والإجارة ليست ببيع.

ويستحق الموجر الأجرة على المستأجر في الحال ، ولا يقف على تسليم الأعمال والفراغ منها ، بل بإطلاق العقد يستحق المؤجر الأجرة على المستأجر ، سواء كان عملا يمكن تسليمه ، أو لا يمكن تسليمه ، إلا أن يشترط المستأجر

ص: 456

التأخير في حال العقد ، فيكون على ما شرطا واتفقا عليه :

ويستحق المستأجر المنفعة على المؤجر ، حتّى أنّه صار أحقّ بها منه ، كما أنّ المؤجر أحقّ بالأجرة من المستأجر.

وليس لأحدهما فسخ عقد الإجارة بحال ، سواء كان لعذر أو لغير عذر ، فهي كالبيع في حال الفسخ ، لأنّ من اشترى شيئا ملك البائع الفسخ ، إذا كان الثمن معيّنا ووجد به عيبا ، وكذلك المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا ولا يملك الفسخ بغير العيب ، وكذلك المؤجر ، إنّما يملك الفسخ إذا تعذّر استيفاء الحقّ منه ، لفلس أو لغيره ، وكذلك المستأجر إنّما يملك الفسخ إذا وجد بالمنافع عيبا ، مثل أن ينهدم الدار أو بعضها ، أو تغرق الأرض على ما قدّمناه في باب المزارعة ، وإجارة الأرض ، وليس لهما الفسخ لغير عذر.

فإذا ثبت جواز الإجارة فإنّها على ضربين ، أحدهما ما تكون المدّة معلومة ، والعمل مجهولا ، والثاني أن تكون المدّة مجهولة ، والعمل معلوما ، فما تكون المدّة معلومة والعمل مجهولا ، مثل أن يقول : آجرتك نفسي شهرا لابني ، أو أخيط ، فهذه مدة معلومة ، والعمل مجهول ، وما تكون المدة مجهولة والعمل معلوما ، فهو أن يقول : آجرتك نفسي لأخيط ثوبا معلوما ، ولأبني هذا البناء المعلوم ، فالمدة مجهولة والعمل معلوم.

فأمّا إذا كانت المدّة معلومة والعمل معلوما ، فلا يصحّ ، لأنّه إذا قال : استأجرتك اليوم لتخيط قميصي هذا ، فإنّ الإجارة هذه باطلة ، لأنّه ربما يخيط قبل مضي النهار ، فيبقى بعض المدّة المستحقّة بلا عمل ، وربما لم يفرغ منه بيوم ، ويحتاج إلى مدّة أخرى ، فيحصل العمل بلا مدّة.

والمعقود عليه عقد الإجارة ، يجب أن يكون معلوما ، وقد بيّنا أنّه يصير معلوما تارة بتقدير المدّة ، وتارة بتقدير العمل ، فأمّا المنافع فيتقدر منافعها التي يعقد عليها تارة بتقدير المدّة ، وتارة بتقدير العمل ، والعقار لا يتقدّر منفعته إلا بتقدير المدّة ، لأنّه لا عمل لها ، فيقدّر في نفسه.

ص: 457

وليس من شرط صحّتها اتصال المدة (1) بالعقد ، ولا أن يذكر الاتصال بالعقد لفظا ، على ما يذهب إليه بعض المخالفين ، وقاله شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة (2) ، ولم يذكر هل هو قولنا أو قول غيرنا؟ فلا يظنّ ظان أنّ ذلك قول لأصحابنا.

إذا استأجر على قلع ضرسه ، ثمّ بدا له ، فلا يخلو من أحد أمرين : إمّا (3) أن يكون زال الوجع ، أو يكون الألم باقيا ، فإن كان بحاله ، فإنّه لا يملك فسخ الإجارة ، ولكن يقال له : قد استأجرته على استيفاء منفعة ، وأنت متمكّن من استيفائها ، فأمّا أن تستوفي منه ذلك ، وإلا إذا مضت مدّة يمكنه أن يقلع ذلك ، فإنّه قد استقر له الأجرة ، كمن استأجر دابة ليركبها إلى بلد ، وسلّمها إليه ، فلم يركبها ، فإنّه يقال له : أنت متمكن من استيفاء المنفعة بأن تركب وتمضي ، فأمّا أن تستوفي ، وإلا إذا مضت مدّة يمكنك أن تستوفيها ، فقد استقرّ عليك الأجرة ، وكذلك إذا استأجر دارا ، فسلمت إليه ، يقال له : إمّا أن تسكنها ، وإلا يستوفي منك الأجرة ، إذا مضت المدّة ، وأمّا إذا زال الوجع ، فقد تعذر استيفاء المنفعة من جهة اللّه تعالى شرعا ، لأنّه لو أراد أن يقلعها لم يجز ، ويمنع العقل والشرع معا من قلع السن الصحيح ، فانفسخت الإجارة بذلك ، كالدار إذا انهدمت ، فأمّا إذا استأجر عبدا فأبق ، فإنّه تنفسخ الإجارة لتعذّر استيفاء المنفعة (4) المعقود عليها ، كالدار إذا انهدمت.

والمستأجر يملك من المستأجر المنفعة التي في العبد والدار والدابة ، إلى المدّة التي اشترط ، حتى يكون أحق بها من مالكها ، والمؤجر يملك الأجرة بنفس العقد ، على ما قدّمناه ، ولا تخلو الأجرة من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يشترطا فيها التأجيل ، أو التعجيل ، أو يطلقا ذلك ، فإن شرطا التأجيل إلى سنة أو إلى شهر ، فإنّه لا يلزمه تسليم الأجرة إلى تلك المدّة بلا خلاف ، فإن اشترطا التعجيل أو أطلقا ، لزمه ذلك في الحال ، على خلاف فيه من المخالفين (5).

ص: 458


1- ج : اتصال المنفعة.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات.
3- ج : فلا يخلو إمّا.
4- ج : لتعذّر المنفعة.
5- ج : بلا خلاف فيه بين المخالفين.

ومتى عقدا الإجارة ، ثم أسقط المؤجر مال الإجارة ، وأبرأ صاحبه منها ، سقط بلا خلاف ، وإن أسقط المستأجر المنافع المعقود عليها ، لم تسقط بلا خلاف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : إذا باع شيئا بثمن جزاف ، جاز ، إذا كان معلوما مشاهدا ، وإن لم يعلم وزنه ، ولا يجوز أن يكون مال القراض جزافا ، والثمن في السلم أيضا يجوز أن يكون جزافا ، وقيل : لا يجوز كالقراض ، ومال الإجارة يصحّ أن يكون جزافا ، وفي الناس من قال : لا يجوز ، والأول أصحّ ، إلى هاهنا كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، في كتاب الإجارة (1).

قال محمّد بن إدريس : الأظهر من المذهب بلا خلاف فيه إلا من السيد المرتضى في الناصريات (2) ، أنّ البيع إذا كان الثمن جزافا بطل ، وكذلك القراض والسلم ، لأنّه بيع ، فأمّا مال الإجارة التي هي الأجرة ، فالأظهر من المذهب أنّه لا يجوز ، إلا أن يكون معلوما ، ولا تصح ولا تنعقد الإجارة إذا كان مجهولا جزافا ، لأنّه لا خلاف في أن ذلك عقد شرعيّ ، يحتاج في ثبوته إلى أدلّة شرعيّة ، والإجماع منعقد على صحته إذا كانت الأجرة معلومة غير مجهولة ، ولا جزاف ، وفي غير ذلك خلاف ، وأيضا نهى النبيّ عليه السلام عن الغرر والجزاف (3) ، وهذا غرر وجزاف.

وقال شيخنا في نهايته ، بما اخترناه ، فإنّه قال : الإجارة لا تنعقد إلا بأجل

ص: 459


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 223.
2- الناصريات : كتاب البيوع ، المسألة 172
3- قد مضى الإيعاز إلى ما يدل على نهيه عن الغرر في ذيل البحث عن شركة الأبدان ، ص 400 ولعلّ نهيه صلى اللّه عليه وآله عن الجزاف أيضا مستفاد من نفس النهى عن الغرر. وفي الوسائل : في الباب 4 من أبواب عقد البيس. بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ما كان من طعام سميت فيه كيلا فلا يصلح مجازفة ». وفي سنن النسائي : كتاب البيوع باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا ، عن ابن عمر أنّهم كانوا يبتاعون على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في أعلى السوق جزافا فنهاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه.

معلوم ، ومال معلوم ، فمتى لم يذكر الأجل ولا المال ، كانت الإجارة باطلة ، وإن ذكر الأجل ولم يذكر مال الإجارة ، لم تنعقد ، ومتى ذكرهما كانت الإجارة صحيحة ، ولزم المستأجر المال إلى المدّة المذكورة ، وكان المؤجر بالخيار ، إن شاء طالبه به أجمع في الحال ، وإن شاء أخرها عليه ، اللّهم إلا أن يشترط المستأجر أن يعطيه المال عند انقضاء الإجارة ، أو في نجوم مخصوصة ، فيلزم حينئذ بحسب ما شرط (1).

وقال رحمه اللّه : والموت يبطل الإجارة على ما بيّناه ، والبيع لا يبطلها على ما قدّمناه في الباب الأول (2).

يريد رحمه اللّه باب المزارعة والمساقاة ، لأنّها المتقدّمة على باب الإجارة ، وذكر هناك أنّ موت المؤجر يبطلها ، وموت المستأجر أيضا يبطلها ، وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، فلا وجه لإعادته ، إلا ما قاله ابن البراج في كتابه المهذّب ، وحكاه ، فقال : الموت يفسخ الإجارة ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الميّت هو المستأجر أو المؤجر ، وعمل الأكثر من أصحابنا على أنّ موت المستأجر هو الذي يفسخها ، لا موت المؤجر وقد كان شيخنا المرتضى رضي اللّه عنه سوّى بينهما في ذلك ، بأن بيّن أنّ الوجه فيهما واحد ، وليس هذا موضع ذكر ذلك ، فنذكره ، هذا آخر كلام ابن البراج (3).

قال محمّد بن إدريس : ليت شعري إن لم يكن هاهنا موضع ذكره ، فأين يكون ، ولكن حبّك للشي ء يعمى ويصم ، كما قاله النبي عليه السلام (4) ، والصحيح التسوية بينهما ، بأنّ موت أحدهما لا يبطلها على ما اختاره المرتضى ، إذ دليلهما واحد ، وانّهما حقّان لكلّ واحد منهما ، يرثه وارثه ، لعموم آيات المواريث ، فمن يخصّ ذلك يحتاج إلى دليل ، فموت أحدهما لا يبطل حقّ الآخر ،

ص: 460


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
3- المهذب : ج 1 ، كتاب الإجارات ، ص 501 - 502.
4- من لا يحضره الفقيه : باب النوادر ، ج 4 ، ص 380 ، الرقم 5814 من الألفاظ الموجزة عنه ( ص ).

كما أنّ مدّة خيار الثلاث ، أو ما زاد عليها في البيع موروثة ، بلا خلاف بيننا ، لأنّه حقّ للميّت ، فيجب أن يورث مثل سائر الحقوق ، ولعموم آيات المواريث ، فمن أخرج شيئا منها ، فعليه الدلالة ، وبهذا استدل شيخنا أبو جعفر (1) على أنّ مدّة خيار الثلاث في البيع موروثة ، فليلحظ.

وإجارة المشاع جائزة مثل إجارة المقسوم ، سواء.

وإذا قال : آجرتك هذه الدار كلّ شهر بكذا ، صحّ على قول بعض أصحابنا ، فإن سكن أكثر من شهر ، لزمه المسمّى ، لشهر واحد ، وفيما زاد على الشهر اجرة المثل.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ ذلك لا يجوز ، ولا يلزم المسمّى بل الجميع يستحق اجرة المثل ، لأنّه ما عيّن آخر المدّة ، والعقار يحتاج في صحّة العقد عليه أن يذكر أوّل المدّة وآخرها ، فمن شرط صحتها ذلك ، وإنّما روي في بعض الأخبار ما ذكرناه (2).

فأمّا إن قال : آجرتك هذه الدار من هذا الوقت شهرا بكذا وما زاد فبحسابه ، فإنّه يلزمه المسمّى للشهر ، وما زاد فاجرة المثل ، فأمّا إذا قال : آجرتك هذه الدار شهرا بدينار ، ولم يعيّن الشهر ، فإنّه لا يجوز ، والإجارة باطلة ، فأمّا إذا قال : آجرتك هذه الدار من هذا الوقت سنة ، كلّ شهر بكذا ، صحّ لأنّه عيّن المدّة.

ومن أصحابنا من قال : لا يجوز أن يؤجر مدّة قبل دخول ابتدائها ، لافتقار صحّة الإجارة إلى التسليم ، واتّصال المنفعة بالعقد ، ومنهم وهم الأكثرون المحصّلون اختاروا القول بجواز ذلك ، وهو الصحيح الذي اخترناه فيما مضى ، ويعضده قوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » وأمّا التسليم فهو مقدور عليه حين استحقاق المستأجر له ، وتعذره قبل

ص: 461


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 36.
2- ولعل المراد منه هو صحيح أبي حمزة ، الحديث 1 من الباب 8 من أحكام الإجارة من الوسائل.

ذلك لا ينافي عقد الإجارة.

وقال بعض أصحابنا : لا يجوز أن يؤجر ما استأجره بأكثر ممّا استاجره به من جنسه ، سواء كان المستأجر هو المؤجر ، أو غيره ، إلا أن يحدث فيما استأجره حدثا يصلحه به ، ومنهم من قال : ذلك (1) على الكراهة ، دون الحظر ، وهو الذي اخترناه ، وقد قلنا ما عندنا فيه قبل هذا المكان ، فليلحظ هناك ، فلا فائدة في إعادته ، ولأنّ الأصل في العقل والشرع جواز التصرّف فيما يملك الإنسان ، فإذا ملك المستأجر التصرّف بالعقد ، جاز أن يملكه لغيره ، على حسب ما يتفقان عليه ، من زيادة ونقصان ، اللّهم إلا أن يكون استأجر الدار على أن يكون هو الساكن ، والدابة على أن يكون هو الراكب ، فإنّه لا يجوز والحال هذه ، إجارة ذلك لغيره على حال.

وقد قلنا أنّ المستأجر يملك الفسخ بانهدام الدار أو بعضها ، أو غرق الأرض على وجه يمنع استيفاء المنفعة ، وتسقط عنه الأجرة إلى أن يعيد المالك المسكن إلى الحالة الأولى ، لأنّ المعقود عليه قد فات ، اللّهم إلا أن يكون ذلك بتعدي المستأجر ، فيلزمه الأجرة والضمان لإعادته إلى حالته الاولى.

ولا يملك المستأجر فسخ الإجارة بالسفر ، وإن كان ذلك بحكم حاكم ، ولا بغير ذلك من الأعذار المخالفة ، لما قدّمنا ذكره ، مثل أن يستأجر جملا للحج ، فيمرض ، أو يبدو له من الحج ، أو حانوتا لبيع البز فيه ، فيحترق أو يسرق بزه.

ولا تنفسخ الإجارة بالبيع ، وعلى المشتري إن كان عالما بالإجارة ، الإمساك عن التصرّف ، حتى تنقضي مدّتها ، وإن لم يكن عالما بذلك ، فله الخيار في الرد.

ومتى تعدّى المستأجر ما اتفقا عليه ، من المدّة أو المسافة ، أو الطريق ، أو مقدار المحمول ، أو عينه ، إلى ما هو أشق في الحمل ، أو المعهود في السير ، أو في

ص: 462


1- ج : لا يجوز ذلك.

وقته ، أو في ضرب الدابة ، ضمن الهلاك أو النقص ، ويلزمه أجرة الزائد على الشرط ، بدليل الإجماع من أهل البيت عليهم السلام على ذلك ، ولأنّه لا خلاف في براءة ذمّته ، إذا أدّى ذلك ، وليس على براءتها إذا لم يؤدّه دليل ، ولو ردّ الدابة إلى المكان الذي اتفقا عليه بعد التعدّي بتجاوزه ، لم يزل الضمان ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وأيضا فقد ثبت الضمان بلا خلاف ، فمن ادّعى زواله بالرد إلى ذلك المكان ، فعليه الدلالة.

والأجير ضامن لتلف ما استؤجر فيه أو نقصانه ، إذا كان ذلك بتفريطه أو نقصان من صنعته.

وكلّ من أعطى شيئا واستؤجر على إصلاحه ، فأفسده ، كان ضامنا ، سواء كان ختانا ، أو حجّاما ، أو بيطارا ، أو نجّارا ، أو غير ذلك ، وسواء كان مشتركا ، وهو المستأجر على عمل في الذمة ، أو منفردا ، وهو المستأجر للعمل مدّة معلومة ، لأنه يختص عمله فيها لمن استأجره ، لقوله عليه السلام : « على اليد ما أخذت حتّى تؤديه » (1) لأنّه يقتضي ضمان الصنّاع على كلّ حال ، إلا ما خصّه الدليل ممّا ثبت أنّهم غلبوا عليه ، ولم يكن بخيانتهم.

وأجر الكيّال ، ووزّان الأمتعة ، على البائع ، لأنّ عليه تسليم ما باعه معلوم المقدار ، واجرة وزان الأثمان ، وناقدها ، على المشتري ، لأنّه عليه تسليم الثمن معلوم الوزن والجودة ، على ما قدّمناه فيما مضى وحررناه.

وأجر رد الضالة على حسب ما يبذله ، مالكها ، فإن لم يعيّن شيئا ، بل قال : من ردّ ضالتي فله جعالتها ، كان أجر ردّ العبد أو الأمة أو البعير في المصر ، عشرة دراهم فضة ، وخارج المصر أربعين درهما ، وما عدا ذلك يرجع فيه إلى عادة القوم وعرفهم ، على ما أسلفنا القول فيه.

ص: 463


1- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب العصب ، ح 4 و 5.

ومن آجر غيره أرضا ليزرع فيها شيئا مخصوصا لم يجز له أن يزرع فيها غيره ، لقوله عليه السلام. « المؤمنون عند شروطهم » وإذا آجرها للزراعة من غير تعيين لما يزرع ، كان له أن يزرع ما شاء ، وإذا آجرها على أن يزرع ويغرس ، ولم يعيّن مقدار كلّ واحد منهما ، لم تصحّ الإجارة ، لأنّ ذلك مجهول ، والضرر فيه مختلف.

وإذا اختلف المؤجر والمستأجر في قدر الأجرة ، فالقول قول المستأجر ، لأنّه المدّعى عليه ، زيادة غير متفق عليها ، والمؤجر المدّعي ، فعليه البيّنة ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : « على المدّعي البيّنة وعلى المدّعى عليه اليمين ».

وقال شيخنا في مسائل الخلاف ، في كتاب المزارعة : إذا اختلف المكري والمكتري في قدر المنفعة ، أو قدر الأجرة ، فالذي يليق بمذهبنا ، أن يستعمل فيه القرعة ، فمن خرج اسمه حلف ، وحكم له به ، لإجماع الفرقة على أنّ كلّ مشتبه يردّ إلى القرعة (1).

قال محمّد بن إدريس : وأي اشتباه في هذا ، انّما هو مدّعي ومدّعى عليه ، وهذا فقه سهل ، وليس هو من القرعة بسبيل.

والملك إذا كان بين اثنين مشتركا وما زاد عليهما ، لم يكن لأحدهما ان ينفرد بالأجرة والإجارة ، دون صاحبه ، بل يتفقان على الإجارة ، فإن تشاحا تناوبا بمقدار من الزمان.

وإذا استأجر ملكا وسكن بعضه ، جاز أن يسكن الباقي غيره بأكثر مال الإجارة ، ولا يؤجر بمثل ما قد استأجر ، اللّهم إلا أن يكون أحدث فيه ، حدثا ، فإن فعل ذلك جاز له أن يؤجرها بما شاء هكذا ذكره شيخنا في نهايته (2).

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب ، أنّه لا بأس أن يسكن البعض ويكري البعض بما شاء ، سواء أكراه بمثل ما استأجره ، أو أقل ، أو أكثر ، مع اختلاف الجنس ، أو مع اتفاقه ، أحدث فيها ، أو لم يحدث ، لأنّ المنافع مستحقة ، ومال من أمواله ، فله أن يستوفيها بنفسه وبغيره ، لأنّ الإنسان مسلّط على

ص: 464


1- الخلاف : كتاب المزارعة : المسألة 10 ، إلا أنّ العبارة متقطعة.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.

التصرّف في ملكه ، بسائر أنواع التصرّفات ، عقلا وسمعا ، إذ لا مانع يمنع منه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فلا يرجع ويترك الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، على ما كرّرنا القول فيه.

وقد ذكرنا أنّ من اكترى دابة على أن يسلك بها في طريق مخصوص ، أو يحملها قدرا معلوما ، فخالف في شي ء ممّا قلناه ، كان ضامنا لها ، ولكلّ ما يحدث فيها ، ولزمه إن سار عليها أكثر ممّا شرط ، أو حملها أكثر ممّا ذكر ، أجرة الزيادة من غير نقصان.

ومتى هلكت الدابة والحال ما وصفناه ، كان ضامنا لها ، ولزمه قيمتها يوم تعدّي فيها ، فإن اختلفا في الثمن ، كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم تكن له بيّنة ، كان القول قول الغارم الذي هو الضامن ، لأنّه المدّعى عليه الزيادة فيما اتّفقا عليه ، وهذا حكم سائر فيما سوى الدابة ، ممّا يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، كانت البيّنة على المدّعى ، واليمين على المدّعى عليه.

وقال شيخنا في نهايته : فإن اختلفا في شي ء ، كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم يكن له بيّنة ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المستأجر منه ، لزمه اليمين ، أو يصطلحا على شي ء ، والحكم فيما سوى الدابة ، ممّا يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، إن كانت البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه (1).

والصحيح أنّه لا فرق بين الدابة وغيرها في ذلك ، فالمفرّق يحتاج إلى دليل.

ومتى استأجر دابة ففرط في حفظها ، أو علفها ، أو سقيها ، فهلكت ، أو عابت ، كان ضامنا لها ، ولما يحدث فيها من العيب.

والصانع إذا تقبّل عملا بشي ء معلوم ، جاز له أن يقبله لغيره بأكثر من ذلك ، إذا كان قد أحدث فيه حدثا ، وإن لم يكن أحدث فيه حدثا لم يجز له ذلك ، وإن قبل غيره بإذن صاحب العمل ، ثمّ هلك ، لم يكن عليه شي ء ، فإن

ص: 465


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات ، وفيه : فان اختلفا في الثمن إلخ.

قبله من غير إذن ثمّ هلك كان المتقبّل الأوّل ضامنا له ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته بهذه العبارة ، وهي قوله : والصانع إذا تقبّل عملا بشي ء معلوم ، جاز له أن يقبله لغيره بأكثر من ذلك ، إذا كان قد أحدث فيه حدثا (1).

قال محمّد بن إدريس : الذي يتبادر إلى الخاطر ، أنّ قوله رحمه اللّه : « بأكثر من ذلك » غلط لا وجه له ، لأنّ الإنسان إذا تقبل خياطة ثوب مثلا بدينار ، ثمّ قبله لغيره بأكثر من الدينار ، فيحتاج أن يغرم من عنده شيئا آخر على الأجرة ، ومقصوده أن يستفضل من الأجرة المتقبل بها ، فهذا الذي يسبق إلى الأوهام ، من عبارته رحمه اللّه في هذا الموضع ، ومقصوده رحمه اللّه خلاف هذا ، وهو أنّ الصانع الأول يستفضل من الأجرة الأولة لنفسه ، ويعطي الصانع الثاني بعضها.

والدليل على ذلك ، ما أورده رحمه اللّه من الأخبار ، في كتاب تهذيب الأحكام ، عنه عن عليّ بن الحكم ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن الرجل يتقبّل العمل ، فلا يعمل فيه ، ويدفعه إلى آخر يربح فيه ، قال : لا بأس (2).

الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن الرجل الخياط ، يتقبّل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ، ويستفضل ، فقال : لا بأس ، قد عمل فيه (3).

عنه عن صفوان ، عن الحكم الخياط قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أتقبّل الثوب بدرهم ، وأسلّمه بأقلّ من ذلك ، لا أزيد على أن أشقّه ، قال : لا بأس بذلك ، ثمّ قال : لا بأس فيما تقبّلت من عمل ، ثمّ استفضلت (4).

ص: 466


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
2- التهذيب : ج 7 ص 210 باب الإجارات ح 5 و 6 و 7 ولكن الموجود في ح 5 « لا » راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.
3- التهذيب : ج 7 ص 210 باب الإجارات ح 5 و 6 و 7 ولكن الموجود في ح 5 « لا » راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.
4- التهذيب : ج 7 ص 210 باب الإجارات ح 5 و 6 و 7 ولكن الموجود في ح 5 « لا » راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.

عنه عن صفوان ، عن أبي محمّد الخيّاط ، عن مجمع ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أتقبّل الثياب ، أخيطها ، ثمّ أعطيها الغلمان بالثلثين ، فقال : أليس تعمل فيها؟ قلت : أقطعها ، وأشتري لها الخيوط ، قال : لا بأس (1).

عنه عن عليّ بن النعمان ، عن ابن مسكان ، عن علي الصائغ قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أتقبّل العمل ، ثمّ أقبله من غلمان يعملون معى بالثلثين ، فقال : لا يصلح ذلك ، إلا أن تعالج معهم فيه ، قلت : فإنّي أذيبه لهم ، قال : فقال : ذاك عمل ، فلا بأس (2).

فهذا يوضح ما قلناه ، ويؤيد ما حرّرناه ، والاعتذار لشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه فيما أورده من عبارته في قوله : « بأكثر من ذلك » أن يجعل « من » زائدة ، أو نجعلها لا زائدة ، بل المراد بأكثر من بعض ذلك ونجعلها للتبعيض ، ولا يحتاج إلى الحذف ، فيحمل الكلام على حقيقته ، فإذا قلنا أنّها زائدة ، كان الكلام مجازا ، والكلام في الحقائق ، دون المجاز ، لأنّه لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا لضرورة ، أو دليل يضطر إليه ، فإذا جعلناها مبعضة ، كانت حقيقة في معناها ، ولو استعمل شيخنا رحمه اللّه غير هذه العبارة ، وأتى بالعبارة التي في الأخبار ، من قول السائل للإمام عليه السلام : « وأسلّمه بأقل من ذلك » استراح وأراح من يعتذر له من الاعتذار.

والذي ينبغي تحصيله وتحريره في هذا جميعه ، أنّه لا يخلو الإجارة امّا أن تكون معيّنة بعمله ، أو في ذمته ، فإن كانت معيّنة بعمله ، فلا يجوز له أن يعطيه لغيره يعمله ، وإن كانت الإجارة على تحصيل العمل لا بنفسه ، فله أن يحصل العمل له بنفسه أو بغيره ، إلا أنّه في المسألتين معا يكون ضامنا إذا سلّمه لغيره وهلك ، لأنّ صاحبه لم يرض بأمانة غيره.

ص: 467


1- التهذيب : ج 7 ص 211 باب الإجارات ح 8 و 9 ، راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.
2- التهذيب : ج 7 ص 211 باب الإجارات ح 8 و 9 ، راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.

والملّاح ضامن لما يحمله إذا غرق بتفريط من جهته ، فإن غرقت السفينة بالريح أو غير ذلك من غير تفريط منه ، لم يكن عليه شي ء.

والمكاري مثل الملّاح ، يضمن ما يفرّط فيه ، وما لا تفريط فيه ، لم يكن عليه شي ء في هلاكه.

ومتى اختلف المكتري والمكاري في هلاك شي ء ، وهل وقع فيه تفريط أم لا؟ كانت البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه.

وإذا اختلف صاحب المتاع والصانع في التفريط ، كان على صاحب المتاع البيّنة ، فإن لم يكن له بيّنة ، فعلى الصانع اليمين.

وروي أنّ من استأجر أجيرا لينفذه في حوائجه ، كان ما يلزم الأجير من النفقة على المستأجر دون الأجير ، فإن شرط عليه أن تكون نفقته عليه ، كان ذلك جائزا (1) ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) على ما روي.

والذي يقوى في نفسي ، أنّ النفقة لا تلزم إلا الأجير ، دون المستأجر على كلّ حال ، لأنّه إنّما يستحقّ الأجرة ، وعليه العمل ، والأصل براءة ذمّة المستأجر ، فمن أوجب النفقة له ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد على ما بيّناه.

وينبغي أن لا يستعمل الإنسان أحدا إلا بعد أن يقاطعه على أجرته ، فإن لم يفعل ترك الاحتياط ، ووجبت اجرة المثل.

وإذا فرغ الأجير من عمله وطالب بأجرته ، فلا يجوز تأخيرها ، بل يجب أن يوفّي في حال مطالبته بها ، وإن كان مستحقا لها حال العقد قبل العمل والفراغ : لأنّه بنفس العقد يستحقها على ما قدّمناه ، إلا أن يشترط ذلك على ما بيّناه.

فإن كان قد أعطاه طعاما أو متاعا ، لم يعين (3) سعره ، كان عليه بسعر وقت

ص: 468


1- الوسائل : الباب 10 في أحكام الإجارة ج 13 ص 250.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
3- ج : ثمّ تغيّر.

إعطاء المال الذي هو المتاع دون وقت المحاسبة.

ومن استأجر مملوك غيره من مولاه ، كان ذلك جائزا ، وتكون الأجرة للمولى دون العبد ، فإن شرط المستأجر للعبد أن يعطيه شيئا من غير علم مولاه ، لم يلزمه الوفاء به ، ولا يحل للمملوك أيضا أخذه ، فإن أخذه وجب عليه ردّه على مولاه ، على ما ذكره شيخنا في نهايته (1).

والأولى عندي أنّه إن أخذه هبة ، فإن كان ذلك القبول منه بإذن مولاه (2) ، كان للمولى ، وإن كان قبوله للهبة بغير إذن مولاه ، كانت الهبة باطلة ، والملك باق على الواهب ، فهذا الذي تقتضيه أصول المذهب والأدلة.

ومن استأجر غيره مدّة معلومة ، وأوقاتا معيّنة ، إجارة معينة ، ليتصرف له في حوائجه ، لم يجز له أن يتصرّف لغيره في شي ء ، إلا بإذن من استأجره ، فإن أذن له في ذلك ، كان جائزا ، لأنّه صارت منافعه في جميع المدّة مستحقّة للمستأجر ، دون نفسه ، ودون غيره.

ومن استأجر مملوك غيره من مولاه ، فأفسد المملوك شيئا ، أو أبق قبل أن يفرغ من عمله ، كان مولاه ضامنا لبقية الأجرة ، دون أرش ما أفسده.

ومن اكترى من غيره دابة على أن تحمل له متاعا إلى موضع بعينه في مدّة من الزمان ، فإن لم يفعل ذلك ، نقص من أجرته ، كان ذلك جائزا ما لم يحط بجميع الأجرة ، فإن أحاط الشرط بجميع الأجرة ، كان الشرط باطلا ، ولزمه اجرة المثل ، هذا على ما روي في بعض الأخبار (3) ، ذكره شيخنا في نهايته (4).

والأولى عندي أنّ العقد صحيح ، والشرط باطل ، لأنّ اللّه تعالى قال : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد ، فيحتاج في فسخه إلى دليل ، وإلا فالشرط إذا انضمّ

ص: 469


1- النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات ، والعبارة في 4 منقولة بالمعنى.
2- ج : أنه أخذه هبة فإن كان القبول من مولاه.
3- الوسائل : الباب 13 من أحكام الإجارة.
4- النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات ، والعبارة في 4 منقولة بالمعنى.

إلى عقد شرعي ، صحّ العقد ، وبطل الشرط ، إذا كان غير شرعي ، وأيضا فلا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع منعقد ، ولم يورد أحد من أصحابنا هذه المسألة ، إلا هاهنا أعني في النهاية ، لكونه رحمه اللّه جمع فيها ألفاظ الأحاديث المتواترة وغير المتواترة.

واختلف أصحابنا في تضمين الصناع والملاحين والمكارين بتخفيف الياء.

فقال بعضهم : هم ضامنون لجميع الأمتعة ، وعليهم البيّنة ، إلا أن يظهر هلاكه ، ويشتهر بما لا يمكن دفاعه ، مثل الحريق العام ، والغرق والنهب كذلك ، فأمّا ما تجنيه أيديهم على السلع ، فلا خلاف بين أصحابنا انّهم ضامنون له.

وقال الفريق الآخر من أصحابنا وهم الأكثرون المحصّلون : أنّ الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم على الأمتعة ، أو فرّطوا في حفاظه ، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة ، وهو الأظهر من المذهب ، والعمل عليه ، لأنّهم أمناء ، سواء كان الصانع منفردا ، أو مشتركا.

فالأجير المنفرد هو الذي يستأجر مدّة معلومة ، لخياطة أو بناء أو غيرهما من الأعمال ، ويسمّى أيضا الأجير الخاص ، من حيث المعنى ، وهو إذا آجر نفسه رجلا مدّة مقدّرة ، استحق المستأجر منافعه ، وعمله في المدّة المضروبة ، فيلزمه له العمل فيها ، ولا يجوز له أن يعمل فيها لغيره ، ولا أن يعقد على منافعه وعمله في مقدارها.

والمشترك هو الذي يكري نفسه في عمل مقدّر في نفسه ، لا بالزمان ، مثل أن يستأجره ليخيط ثوبا بعينه ، أو يصبغ له ثوبا بعينه ، وما أشبه ذلك ، ولقب مشتركا ، لأنّ له أن يتقبّل الأعمال ، لكلّ أحد في كلّ مدة ، ولا يستحق عليه أحد من المستأجرين منفعة زمان بعينه.

وصاحب الحمّام إذا ضاع من عنده شي ء من الثياب وغيرها ، لم يكن عليه ضمان ، إلا أن يستحفظه صاحبها ، أو يستأجره على حفاظها ، وعلى دخول حمامه ، فيلزمه حفاظها ، ويجب عليه ضمانها إذا فرط في الحفاظ ، فأمّا إذا لم

ص: 470

يستحفظه إيّاها ، ولم يستأجره على ذلك ، وضاعت ، فلا شي ء عليه ، سواء فرّط أو لم يفرّط ، راعاها أو لم يراعها.

ومن حمل متاعا على رأسه فصدم إنسانا ، فقتله أو كسر المتاع ، كان ضامنا لدية المقتول ، ولما انكسر من المتاع.

وإذا استقل البعير أو الدابة بحملهما ، فصاحبهما ضامن لما عليهما من المتاع ، إذا فرّط في مراعاتهما ، وفي حفاظهما ، فأمّا إذا راعاهما ، ولم يفرّط في المراعاة لهما ، فلا شي ء عليه من الضمان.

إذا استأجر مرضعة مدّة من الزمان ، بنفقتها وكسوتها ، ولم يعيّن المقدار ، لم يصح العقد.

إذا استأجر امرأة لترضع ولده ، فمات واحد من الثلاثة ، بطلت الإجارة على المذهبين والقولين اللذين لأصحابنا معا ، لأنّ الصبي إذا مات ، بطلت الإجارة ، وكذلك الامرأة المرضعة ، إذا كانت الإجارة معيّنة بنفسها ، وكذلك موت الأب ، لأنّه المستأجر ، ولا خلاف أنّ موت المستأجر يبطل الإجارة ، هذا إذا كان الصبي معسرا لا مال له.

إذا آجرت المرأة نفسها للرضاع أو لغيره بإذن زوجها ، صحّت الإجارة بلا خلاف ، وإن كان ذلك بغير إذن الزوج ، لم تصحّ الإجارة ، وكانت باطلة ، لأنّ المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح ، فلا يجوز لها أن تعقد لغيره على منافعها ، فيخل ذلك بحقوق زوجها ، لأنّ له وطؤها في كلّ وقت ، فإذا ثبت أنّ الاستيجار في الرضاع صحيح ، فإن كان المرضع موسرا ، كانت الأجرة من ماله ، لأنّ ذلك من نفقته ، ونفقة الموسر من ماله ، وإن كان معسرا ، كانت من مال أبيه ، لأنّ نفقة المعسر على أبيه.

إذا رزق الرجل من امرأته ولدا ، لم يكن له أن يجبرها على إرضاعه ، لأنّ ذلك من نفقه الابن ، ونفقته على الأب ، وله أن يجبر الأمة ، وأم الولد ، والمدبّرة ، بلا خلاف في ذلك.

ص: 471

فإذا تطوعت الزوجة بإرضاع الولد ، لم يجبر الزوج على ذلك ، وكان له أن يمنعها منه ، لأنّ الاستمتاع الذي هو حقّ له ، يخلّ باشتغالها بالرضاع ، فكان له منعها من ذلك.

وإن تعاقدا عقد الإجارة على رضاع الولد ، لم يصحّ ، لأنّها أخذت منه عوضا في مقابلة الاستمتاع ، وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، فأمّا إذا بانت منه ، صحّ أن يستأجرها للرضاع ، لأنّها قد خرجت عن حبسه ، وصارت أجنبية.

والأقوى عندي أنّه يصحّ استيجارها على الرضاع ، سواء كانت بائنا ، أو في حباله ، وما ذكرناه ، أوّلا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، في مبسوطة (1) ، ولا مانع يمنع من العقد عليها على كلّ حال ، وهذا رأي السيد المرتضى ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

فإذا بذلت الرضاع متطوّعة بذلك ، كانت أحقّ بالولد من غيرها ، وإن طلبت أكثر من اجرة المثل في الرضاع ، والأب يجد من يتطوع له ، أو من يرضى بأجرة المثل ، لم تكن الأم أولى بالولد من الأب ، وللأب أن يسلّم الولد إلى غيرها ، فإن رضيت بأجرة المثل ، وهو لا يجد إلا بأجرة المثل ، كانت هي أولى ، فإن كان يجد غيرها بدون اجرة المثل ، أو متطوّعة ، كان له أن ينزعه من يدها.

إذا آجر عبده مدّة معلومة ، ثمّ إنّه أعتقه ، نفذ عتقه فيه ، لأنّه مالك الرقبة ، كما لو أعتقه قبل الإجارة ، فإذا ثبت ذلك ، فالإجارة بحالها ، وهي لازمة للعبد ، وهل له أن يرجع على السيد بأجرة المثل لما يلزمه بعد الحرية؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك المدّة ، والآخر لا يلزمه (2) ، وهو الصحيح ، لأنّه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمّة.

إذا آجر الأب أو الوصيّ أو الوليّ الصبي أو شيئا من أمواله ، صحّ ذلك ، كما يصحّ بيع ماله (3) ، فإذا بلغ وقد بقي من مدّة الإجارة بعضها ، لم يكن له فسخها فيما بقي.

ص: 472


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 239.
2- ج : يلزمه.
3- ج : أمواله.

إذا آجر عبده سنة معلومة ، فمات العبد بعد استيفاء منافعه ستة أشهر ، فلا خلاف أنّ العقد فيما بقي بطل ، وفيما مضى لا يبطل عندنا ، وفي المخالفين من قال يبطل ، مبنيا على تفريق الصفقة.

فإذا ثبت ما قلناه ، من أنّ الإجارة صحيحة فيما مضى ، وباطلة فيما بقي ، فهو بالخيار بين أن يطالب بأجرة المثل ، وبين ترك المطالبة ، فإن طالب ، فإن كان اجرة ما بقي مثل اجرة ما مضى ، فإنّه يأخذه ، وإن كان فيما بقي من المدة أجرته أكثر ممّا مضى ، فإنّه يستحق تلك الزيادة ، وذلك مثل أن تكون أجرة المدّة التي مضت ، مائة درهم ، ومدّة ما بقي (1) مائتين ، فإنّه يستحق عليه مائتين ، وبعكس هذا إن كان اجرة المدّة التي مضت مائتين ، ومدّة الباقي (2) مائة ، فإنّه يستحقّ مائة. وهكذا في اجرة الدار ، إذا آجر دارا ثمّ انهدمت حرفا فحرفا.

الإجارة على ضربين ، معيّنة وفي الذّمة ، فالمعيّنة أن يستأجر دارا ، أو عبدا ، شهرا أو سنة ، وفي الذمة أن يستأجر من يبني له حائطا ، أو يخيط له ثوبا ، وكلاهما لا يمنع من دخول خيار الشرط مانع ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم ».

إذا اكترى دابة ، نظرت ، فإن كان اكتراها ليحمل عليها الأمتعة ، فالسوق على المكاري ، وإن كان ليركب عليها ، فالسوق عليه ، دون المكاري ، فإن اختلفا في النزول ، فقال المكاري : ينزل في طرف البلد موضعا يكون قريبا إلى الماء والكلاء ، وقال المكتري : لا ، بل ننزل في وسط البلد ، حتى يكون متاعي محفوظا ، فإنّه لا يلتفت إلى قول واحد منهما ، ويرجع فيه إلى العادة والعرف.

وإذا اكترى بهيمة وذكر أنّها تتعبه ، وتكدّه ، فإن كان ذلك من جهة أنّه لا بصر له بعادة الركوب ، لم يلزم المكاري شي ء ، وإن كان من جهة البهيمة ، نظر ، فإن كان اكتراها بعينها ، كان له ردّها ، وليس له أن يستبدل بها غيرها ،

ص: 473


1- ل : واجرة ما بقي.
2- ل : واجرة الباقي.

ويكون ذلك عيبا يردّها به ، وإن كان اكتراها في الذمة ، ردّها وأخذ بدلها.

وعلى الجمّال ان يبرك البعير لركوب المرأة ، لأنّها ضعيفة الخلقة ، فلا تتمكّن من الصعود للركوب ، ولا من النزول ، ولأنّها عورة ربما تكشفت ، والرجل إذا كان مريضا فكذلك ، وإن كان صحيحا لم يلزم الجمّال أن يبركه لركوبه ونزوله ، وأمّا صلاة الفريضة فإنّه يلزمه أن يبركه لفعلها ، لأنّها لا يجوز عليها إلا لضرورة شديدة ، فأمّا صلاة النافلة ، وأكل المكتري ، وشربه ، فلا يلزمه أن يبركه لأجله ، لأنّه يتمكّن من ذلك ، وهو راكب.

وليس للمصلّي الفريضة إذا نزل ، أن يطوّل صلاته ، بل يصلّي صلاة المسافر صلاة الوقت فحسب ، غير انه يتم الأفعال ، ويختصر الأذكار ، لأنّ حقّ الغير تعلّق به.

إذا اختلف الراكب والمكاري في قيد المحمل ، فقال الراكب : ضيّق القيد المقدّم ، ووسع المؤخر ، لأنه أخفّ على الراكب ، وأثقل على الجمل ، وقال المكاري : خلاف ذلك ، لا يقبل قول أحدهما ، ولكنه يجعل مستويا ، فلا يكون مكبوبا ولا مستلقيا.

وإن اختلفا في السير ، فقال الراكب : نسير نهارا ، فإنّه أصون للمتاع ، وقال المكاري : نسير ليلا ، لأنّه أخفّ للبهيمة ، فإن كانا شرطا السير في وقت معلوم ، إمّا ليلا أو نهارا ، حملا عليه ، وإن كانا أطلقا ذلك ، فإن كان للسير في تلك المسافة عادة ، حملا على العادة ، لأنّ الإطلاق يرجع إلى العادة.

إذا ضرب الراكب البهيمة في السوق ، فتلفت ، فإن كان ضرب العادة ، فلا شي ء عليه من الغرم ، وإن كان خارجا عن العادة ، ضمنها ، وكذلك الرائض.

الراعي مؤتمن ، فلا يضمن إلا ما يفرّط في حفاظة ، فأمّا ضربه للبهيمة فعلى ما قلناه في الراكب ، يحمل على العادة ، فإن كان الضرب خارجا عن العادة ، ضمن.

المعلّم إذا ضرب للتأديب ضربا معتادا ، فتلف الصبي ، وجبت الدية في ماله ، وكذلك الكفارة ، ولا قود عليه في ذلك ، فإن كان خارجا عن العادة ، وجب عليه القود.

إذا سلم رجل إلى الخياط ثوبا ، فقطعه الخياط قباء ثمّ اختلفا ، فقال

ص: 474

صاحبه : أذنت لك في قطعه قميصا ، فقطعته قباء ، وقال الخياط : بل أذنت في قطعه قباء ، فالقول في ذلك قول ربّ الثوب ، دون الخياط ، لأنّ الثوب له ، والخياط مدّع للإذن في قطع القباء ، فعليه البيّنة.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف في كتاب الوكالة : القول قول الخياط (1) ، إلا أنّه رجع عن ذلك أيضا ، في مسائل الخلاف ، في كتاب الإجارات ، وقال : القول في ذلك ، قول صاحب الثوب (2) ، وهذا هو الصحيح.

يجوز إجارة الدراهم والدنانير ، لأنّه لا مانع منه ، ولأنّه يصحّ الانتفاع بها ، من غير استهلاك عينها ، مثل الجمال ، والنظر ، والزينة ، وكذلك يجوز إجارة الحلي من الذهب والفضة ، لما قدّمناه ، فإذا ثبت ذلك ، فيحتاج أن يعيّن جهة الانتفاع بها ، فإن عيّن ، صحّ ، وإن أطلق ، لم تصحّ الإجارة ، ويكون قرضا ، هكذا قال شيخنا في مبسوطة (3).

ولو قلنا إنّه تصح الإجارة ، سواء عيّن جهة الانتفاع أو لم يعيّن ، كان قويا ، إذ لا مانع منه ، ولا يكون قرضا ، لأنّه استأجرها منه ، ومن المعلوم أنّ العين المستأجرة ، لا يجوز التصرّف في ذهاب عينها ، بل في منافعها ، فيحمل الإطلاق على المعهود في الشرع والعرف.

والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه ، أنّ الدنانير والدراهم لا يجوز إجارتها ، لأنّه في العرف المعهود لا منفعة لها إلا بإذهاب أعيانها ، وأيضا فلا خلاف أنّه لا يصحّ وفقهما ، فلو صحّ إجارتهما ، صحّ وقفهما ، فأمّا المصاغ منهما ، فإنّه يصحّ إجارته ، لأنّ له منفعة يصحّ استيفاؤها مع بقاء عينه ، وربما حققنا القول في ذلك ، وأشبعناه في آخر الباب ، إن شاء اللّه تعالى.

يجوز إجارة كلب الصيد والماشية ، والحائط ، والزرع ، لأنّه لا مانع منه ،

ص: 475


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 11.
2- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 34.
3- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 250.

ولأنّ بيع هذه الكلاب عندنا يصحّ ، وما يصحّ بيعه يصحّ إجارته.

ويجوز إجارة السنّور ، لاصطياد الفار ، لأنّه لا مانع منه.

إذا استأجره ليطحن حنطة معلومة بمكوك دقيق منها ، كان صحيحا ، والأولى أن يكون المكوك مشاعا غير مقسوم ، فيكون جزء منها ، عشرا أو أكثر ، أو أقلّ ، فإذا عقد العقد استحقّ المكوك ، وصار شريكا قبل الطحن ، فأمّا إذا قال بمكوك دقيق منها بعد طحنها ، فهذا ليس بمضمون ، والأجرة ينبغي أن تكون مضمونة في الذمة ، أو معلومة مشاهدة مسلّمة مستحقّة.

إذا استأجر راعيا ليرعى له غنما بأعيانها ، جاز العقد ، ويتعيّن في تلك الغنم بأعيانها ، وليس له أن يسترعيه أكثر من ذلك ، وإن هلكت لم يبدلها ، وانفسخ العقد بينهما فيها ، وإن هلك بعضها ، لم يبدله ، وانفسخ العقد فيه ، وإن نتجت ، لم يلزمه أن يرعى نتاجها ، لأنّ العقد يتناول العين ، واختص بها ، دون غيرها ، فأمّا إذا أطلق ذلك ، واستأجره ليرعى له غنما مدة معلومة ، فإنّه يسترعيه القدر الذي يرعاه الواحد في العادة من العدد ، فإذا كانت العادة مائة ، استرعاه مائة ، ومتى هلك شي ء منها أو هلكت كلّها ، كان له إبدالها ، وإن ولدت كان عليه أن يرعى سخالها معها ، لأنّ العادة في السخال أن لا تنفصل عن الأمهات في الرعي.

إذا اكترى بهيمة ليقطع بها مسافة معلومة ، فأمسكها قدر قطع تلك المسافة ، ولم يسيّرها فيها ، استقرّت عليه الأجرة فإذا انقضت المدّة في الإجارة ، استوفى المكتري حقّه ، أو لم يستوف.

وهل يصير ضامنا بعد مضى المدة وقبل تسليمها إلى صاحبها من غير أن يطلبها صاحبها ، أم لا؟ قال قوم : يصير ضامنا ويجب عليه الرد ، وقال آخرون : لا يصير ضامنا ولا يجب عليه الرد ، إلا بعد مطالبة صاحبها بالرد ، لأنّ هذه أمانة ، فلا يجب ردّها إلا بعد المطالبة ، مثل الوديعة ، وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء ، يحتاج إلى دليل.

ص: 476

واختار شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة ، القول الأوّل ، واحتج بأن قال : وإنّما قلنا ذلك ، لأنّ ما بعد المدّة غير مأذون له في إمساكها. ومن أمسك شيئا بغير إذن صاحبه ، وأمكنه الرد ، فلم يردّ ، ضمن ، ثمّ قال : وفي الناس من قال لا يضمن ، ولا يجب عليه الرد ، وأكثر ما يلزمه أن يرفع يده عن البهيمة ، إذا أراد صاحبها أن يسترجعها ، لأنّها أمانة في يده ، فلم يجب عليه ردّها مثل الوديعة (1).

وهذا الذي اخترناه ، وهو الصحيح ، فأمّا ما تمسك به شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نصرة ما ذهب إليه واختاره ، بما ذكره فبعيد ، ويعارض بالرهن ، إذا قضى الراهن الدين ، ولم يطالب بردّ الرهن ، وهلك ، فلا خلاف أنّ المرتهن لا يكون ضامنا ، وإن كان قال للمرتهن : أمسك هذا الرهن إلى أن أسلّم إليك حقّك ، فقد أذن له في إمساكه هذه المدة ، ولم يأذن فيما بعدها نطقا ، بل بقي على أمانته على ما كان أولا فكذلك في مسألتنا.

ولا يجوز إجارة الأرض للزراعة ببعض ما يخرج منها ، لأنّ ذلك غرر.

قد قلنا : إنّه إذا اختلف المكتري والمكري في قدر الأجرة ، فالقول قول المكتري مع يمينه ، فأمّا قدر الانتفاع والمدة فالقول قول المكري مع يمينه ، لأنّه المدّعي عليه ، بخلاف الأجرة ، لأن في الأجرة يكون مدعيا ، فيحتاج الى بيّنة ، والمكتري يكون مدّعى عليه ، فالقول قوله مع يمينه.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة فقال : إذا استأجره ليخيط له ثوبا بعينه ، فقال : إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم ، صحّ العقد فيهما ، فإن خاطه في اليوم الأوّل ، كان له الدرهم ، وإن خاطه في الغد كان له نصف درهم (2) ، وقال أيضا رحمه اللّه مسألة : إذا استأجره لخياطة ثوب ، وقال : إن خطته روميا - وهو الذي يكون بدر زين - فلك درهم ،

ص: 477


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 249.
2- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 39 و 40.

وإن خطته فارسيا - وهو الذي يكون بدرز واحد - فلك نصف درهم ، صحّ العقد (1).

قال محمد بن إدريس : ما ذكره شيخنا في المسألتين غير واضح ، والذي تقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الإجارة باطلة ، لأنّ الأجرة غير معيّنة ، ولا مقطوع عليها وقت العقد ، ولأنّ المؤجر لم يستحق على المستأجر في الحال (2) عملا بعينه ، فهو بالخيار في ذلك ، ومن شرط صحة الإجارة استحقاق عمل مخصوص على المستأجر للمستأجر ، وعقد الإجارة على هذا التحرير باطل ، فإن عمل كان له اجرة المثل ، ولأنّ عقد الإجارة حكم شرعيّ ، يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي ، فمن أثبته يحتاج إلى دليل ، والأصل براءة الذمة ، وإن قلنا : هذه جعالة كان قويا ، فإذا فعل الفعل المجعول عليه ، استحق الجعل ، كرجل قال : من حج عنّي فله دينار ، فهذه جعالة بلا خلاف.

فأمّا تمسّك شيخنا أبي جعفر في صحّة المسألتين ، فإنّه قال : دليلنا أنّ الأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة ، وهي أن يستأجر منه دابة على أن يوافي بها يوما بعينه ، فإن لم يواف بها ذلك اليوم ، كان أجرتها أقلّ من ذلك ، وإن هذا جائز ، وهذه مثلها بعينها سواء ، هذا آخر استدلال شيخنا (3).

وما ذكره رحمه اللّه ليس فيه دليل يدفع به خصمه.

أمّا قوله : « الأصل جواز ذلك » بل الأصل براءة الذمم ، فمن شغلها بأمور شرعيّات وعقود لازمات ، والعقد حكم شرعيّ لا عقلي ، يحتاج مثبتة إلى دليل شرعيّ ، والأصل أن لا عقد.

فأمّا قوله : « المؤمنون عند شروطهم » فهو إذا كان الشرط شرعيا ، لا يمنع منه كتاب ولا سنة ، والسنة منعت من الشروط التي تفضي إلى الغرر.

ص: 478


1- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 39 و 40.
2- ل : ولأنّ المستأجر لم يستحق على المؤجر في الحال.
3- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 39.

فأمّا قوله : « وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة » فمذهبنا ترك القياس ، هذا لو كانت المسألة المنصوصة مجمعا عليها ، فكيف وهذا خبر من أخبار الآحاد ، وقد قلنا ما عندنا فيه فيما مضى ، فلا وجه لا عادته.

إذا استؤجر على الكتابة والنسخ ، فانّ المداد والأقلام على الناسخ ، لأنّه استؤجر على تحصيل هذا العمل ، ولا يصحّ له هذا العمل إلا بالقلم والمداد ، وكذلك من استؤجر على خياطة ثوب ، فانّ الخيوط تجب على الخياط ، لأنّ هذا العمل لا يمكن تحصيله إلا بالخيوط والإبرة ، وكذلك من استؤجر على نساجة ثوب ، فانّ الحشو على الحائك ، لمثل ما قدّمناه ، وكذلك الغسال عليه الصابون والأشنان ، أو ما يزيل الوسخ ، ويبيض الثوب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز إجارة الدراهم والدنانير (1).

قال محمّد بن إدريس : وهذا غير واضح ، لأنّه بلا خلاف بيننا لا يجوز وقف الدراهم والدنانير ، لأنّ الوقف لا يصح إلا في الأعيان التي يصحّ الانتفاع بها ، مع بقاء أعيانها ، على ما نبيّنه في كتاب الوقوف إن شاء اللّه ، فإذا جاز عنده رضي اللّه عنه إجارتها جاز وقفها ، وهو لا يجوّزه ، وأيضا كان يلزم من هذا أنّ من غصب رجلا مائة دينار ، وبقيت في يد الغاصب سنة ، ثمّ ردّها على المغصوب منه ، أن يلزمه الحاكم باجرتها مدّة السنة ، لأنّ المنافع عندنا تضمن بالغصب ، وهذا لا يقوله أحد منّا ، ولا من الأمة.

وقال رضي اللّه عنه في مسائل خلافه ، أيضا : لا يجوز إجارة حائط مزوّق ، أو محكم للنظر إليه ، والتفرّج به ، والتعلّم منه (2).

قال محمّد بن إدريس : وينبغي أن يقال : إذا كان فيه غرض ، وهو التعلم من البناء المحكم ، تجوز الإجارة كما يجوز إجارة كتاب فيه خط جيد ، للتعلّم منه ، لأنّ فيه غرضا صحيحا ، ولأنّه لا مانع يمنع منه.

ص: 479


1- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 41.
2- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 24.

باب الغصب

تحريم الغصب معلوم بأدلة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع.

فإذا ثبت ذلك ، فالأموال على ضربين ، ماله مثل ، وما ليس له مثل ، فما له مثل ، هو الذي يتساوى قيمة أجزائه ، مثل الحبوب ، والأدهان ، والتمور ، وغير ذلك ، والذي لا مثل له ، معناه ما لا يتساوى أجزاؤه ، أي لا يتساوى قيمة أجزائه.

فمن غصب شيئا له مثل ، وجب عليه ردّه بعينه ، فإن تلف ، فعليه مثله ، بدليل قوله تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (1) لأنّ المثل يعرف مشاهدة ، والقيمة يرجع فيها إلى الاجتهاد ، والمعلوم مقدّم على المجتهد فيه ، فإن أعوز المثل ، أخذت القيمة ، فإن لم يقبض القيمة بعد الإعواز حتى مضت مدة اختلفت القيمة فيها ، كان له المطالبة بالقيمة وقت الإقباض وحينه ، لا حين الإعواز ، وإن كان قد حكم بها الحاكم حين الإعواز ، لأنّ الذي ثبت في ذمّته المثل ، بدليل أنّه متى زال الإعواز قبل القبض طولب بالمثل ، وحكم الحاكم بالقيمة لا ينقل المثل إليها ، وإذا كان الواجب المثل ، اعتبر بدل مثله حين قبض المبدل ، ولم ينظر إلى اختلاف القيمة بعد الإعواز ولا قبله.

وإذا غصب مالا مثل له ، ومعناه ما قدّمناه ، كالثياب والرقيق ، والأخشاب ، والحديد ، والرصاص ، وغير ذلك ، وجب أيضا ردّه بعينه ، فإن تعذر ذلك بتلفه وهلاكه وجبت قيمته ، لأنّه لا يمكن الرجوع فيه إلى المثل ، لأنّه إن ساواه في القدر ، خالفه في الثقل ، وإن ساواه فيهما ، خالفه من وجه آخر ، فإذا تعذرت المثلية ، كان الاعتبار بالقيمة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام : « من أعتق شقصا من عبد ، قوّم عليه » (2) فأوجب عليه السلام القيمة دون المثل.

ص: 480


1- البقرة : 194.
2- مستدرك الوسائل : الباب 48 من كتاب العتق ، ح 3. لكن لفظه هكذا : عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال : من أعتق شقصا من عبد عتق عليه كلّه.

ويضمن الغاصب ما يفوت من زيادة قيمة المغصوب بفوات الزيادة الحادثة فيه ، لا بفعله كالسمن والولد ، وتعلّم الصنعة والقرآن ، سواء ردّ المغصوب أو مات في يده ، لأنّ ذلك حادث في ملك المغصوب منه ، لأنّه لم يزل بالغصب ، وإذا كان كذلك فهو مضمون على الغاصب ، لأنّه حال بينه وبينه ، فإمّا زيادة القيمة لارتفاع السوق فغير مضمونة ، مع الردّ للعين المغصوبة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل شرعي ، فإن لم يردّها حتى هلكت العين ، لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ، لأنّه إذا أدّى ذلك ، برئت ذمته بيقين ، وليس كذلك إذا لم يؤدّه.

وإذا صبغ الصباغ الغاصب الثوب بصبغ يملكه ، فزادت لذلك قيمته ، كان شريكا فيه بمقدار الزيادة ، وله قلع الصبغ ، لأنّه عين ماله بشرط أن يضمن ما ينقص من قيمة الثوب ، لأنّ ذلك يحصل بجنايته.

ولو ضرب النقرة دراهم ، والتراب لبنا ونسج الغزل ثوبا ، وطحن الحنطة ، وخبز الدقيق ، فزادت القيمة بذلك ، لم يكن له شي ء ، ولا يستحقّ الغاصب بفعله لجميع ذلك على المغصوب منه شيئا لا اجرة ، ولا غيرها ، لأنّ هذه آثار أفعال ، وليست أعيان أموال ، ولا تدخل العين المغصوبة بشي ء من هذه الأفعال في ملك الغاصب ، ولا يجبر صاحبه على أخذ قيمته ، لأنّ الأصل ثبوت ملك المغصوب منه ، ولا دليل على زواله بعد التغيير ، ويحتج على المخالف بقوله عليه السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (1) وقوله : « لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفس منه » (2).

ص: 481


1- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب الغصب ، ح 4 و 5.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب القصاص ، ح 3 وفيه : لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ، وفي مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب الغصب ح 6. والحديث هكذا : المسلم أخو المسلم لا يحل ماله إلا عن طيب نفس منه.

ومن غصب زيتا فخلطه بأجود منه ، فالغاصب بالخيار بين أن يعطيه من ذلك ، ويلزم المغصوب منه قبوله ، لانه تطوع له بخير من زيته ، وبين أن يعطيه مثله من غيره ، لأنّه صار بالخلط كالمستهلك ، وإن خلطه بأردأ منه ، لزمه أن يعطي من غير ذلك ، مثل الزيت الذي غصبه ، ولا يجوز أن يعطيه منه ، وإن خلطه بمثله ، فهو مثل المسألة الاولى ، إن شاء أعطاه من الزيت المخلوط ، وإن شاء الغاصب أعطاه من غيره ، مثل زيته ، لأنّه كالمستهلك ، وقال بعض أصحابنا : إنّه يكون شريكه ، والأوّل هو الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ عين الزيت المغصوب قد استهلكت ، لأنّه لو طالبه بردّه بعينه ، لما قدر على ذلك.

ومن غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فاحتضنها ، فالزرع والفرخ لصاحبهما ، دون الغاصب ، لأنّا قد بيّنا أنّ المغصوب لا يدخل في ملك الغاصب بتغيّره ، خلافا لأبي حنيفة ، لأنّه لا يخرج بالغصب عن ملك المغصوب منه ، وإذا كان باقيا على ملك صاحبه ، فنماؤه المنفصل والمتصل جميعا لصاحبه ، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا ، لأنّه الذي تقتضيه أصولهم ، ويحكم به عدل أهل البيت عليهم السلام.

واختار شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، مذهب أبي حنيفة ، وقوّاه ، فقال : مسألة : إذا غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فاحتضنتها الدجاجة ، فالزرع والفروج للغاصب ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي هما معا للمغصوب منه ، وقال المزني : الفروج للمغصوب منه ، والزرع للغاصب ، دليلنا أن عين الغصب قد تلفت ، وإذا تلفت فلا يلزم غير القيمة ، ومن يقول في الفروج هو عين البيض ، وانّ الزرع هو عين الحبّ ، مكابر ، بل المعلوم خلافه ، هذا آخر كلام شيخنا في نصرة خيرته (1).

قال محمّد بن إدريس : إلا تراه رحمه اللّه لم يستدلّ بإجماع الفرقة ، ولا بالأخبار على عادته ، بل تمسك بشي ء لا فرج لمعتمده ، ولو سلّمنا له أنّ الزرع

ص: 482


1- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 308.

غير الحب ، فبأيّ شي ء ملك الجميع ، أو المتولد عن العين المغصوبة ، الغاصب؟ بإقرار ، أو بهبة ، أو ببيع ، أو بإرث؟ بل هذا نفس مذهب أبي حنيفة الذي يردّه عليه ويناظره شيخنا أبو جعفر على فساده ، انّ بالتغيير لا يملك الغاصب المغصوب ، بل الملك باق على ربّه ، وتولّد عنه ما تولّد ، ونما ما نما على ملك صاحبه ، حصلت جواهر النماء ، فلا يستحقها أحد سوى صاحبه.

ثمّ إنّ شيخنا أبا جعفر ، ذكر في كتاب العارية في مبسوطة ، ما ينقض قوله ، ويردّ به على نفسه ، وهو أن قال : إذا كان له حبوب فحملها السيل إلى أرض رجل ، فنبتت فيها ، كان ذلك الزرع لصاحب الحب ، لأنّه عين ماله ، كما قلناه فيمن غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فحضنها عنده ، وفرّخت ، فإن الزرع والفراخ ، للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

فقد دخل رحمه اللّه في جملة من يكابر ، لأنّه قال هناك : من قال أنّ الفروج عين البيض ، والزرع هو عين الحب ، مكابر ، بل المعلوم خلافه ، وقال هاهنا الزرع والفراخ للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله.

ورجع شيخنا رحمه اللّه عمّا اختاره من مذهب أبي حنيفة ، في موضع آخر ، في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، في كتاب الدعاوي والبينات ، فقال : مسألة : إذا غصب رجل من رجل دجاجة ، فباضت بيضتين ، فاحتضنتهما هي ، أو غيرها بنفسها ، أو بفعل الغاصب ، فخرج منهما فروجان ، فالكلّ للمغصوب منه ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة إن باضت عنده بيضتين ، فاحتضنت الدجاجة واحدة منهما ، ولم يتعرض الغاصب لها ، كان للمغصوب منه ما يخرج منها ، وإن أخذ الأخرى فوضعها تحتها أو تحت غيرها ، وخرج منها فروج ، كان الفروج للغاصب ، وعليه قيمته ، دليلنا أنّ ما يحدث عند الغاصب عن العين المغصوبة ، فهو للمغصوب منه ، لأنّ الغاصب لا يملك بفعله شيئا ومن ادّعى

ص: 483


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب العارية ، ص 56.

أنّه إذا تعدّى ملكه ، فعليه الدلالة ، لأنّ الأصل بقاء الملك للمغصوب منه ، هذا آخر كلامه في المسألة رحمه اللّه (1).

وقال السيد المرتضى ، في المسائل الناصريات ، ويعرف أيضا بالطبريات ، في المسألة الثانية والثمانين والمائة : من اغتصب بيضة فحضّنها ، فأفرخت فرخا أو حنطة ، فزرعها فنبتت ، فالفرخ والزرع لصاحبهما ، دون الغاصب ، هذا صحيح ، وإليه يذهب أصحابنا ، والدليل عليه الإجماع المتكرر ، وأيضا فإنّ منافع الشي ء المغصوب لمالكه ، دون الغاصب ، لأنّه بالغصب لم يملكه ، فما تولّد من الشي ء المغصوب ، فهو للمالك دون الغاصب ، وهذا واضح (2) ، هذا آخر المسألة من كلام السيد المرتضى رضي اللّه عنه.

ألا ترى أرشدك اللّه إلى قوله : وإليه يذهب أصحابنا ، ثم قال : والإجماع المتكرر ، فما خالف فيه سوى شيخنا أبي جعفر في بعض أقواله ، وهو محجوج بقوله الذي حكيناه عنه ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه ، فإذا لم يكن على خلاف ما ذهبنا إليه إجماع ، ولا دليل عقل ، ولا كتاب ، ولا سنة ، بل دليل العقل قاض بما اخترناه ، وكذلك الكتاب والسنة والإجماع ، فلا يجوز خلافه.

ومن غصب ساجة فأدخلها في بنائه ، لزمه ردّها ، وإن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه ، لمثل ما قدّمناه من الأدلة من قوله عليه السلام : « لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه » (3) وقوله عليه السلام أيضا : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (4) وكذا لو غصب لوحا فأدخله في سفينة ، ولم يكن في ردّه هلاك ماله حرمة ، وعلى الغاصب اجرة مثل ذلك ، من حين الغصب إلى حين الردّ ، لأنّ الخشب يستأجر للانتفاع به ، وكل منفعة تملك بعقد الإجارة ، كمنافع الدار والدابة والعبد ، وغير ذلك ، فإنّها تضمن بالغصب ، بدليل قوله

ص: 484


1- الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة 17.
2- الجوامع الفقهية ، ص 254.
3- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 6 و 4 و 5.
4- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 6 و 4 و 5.

تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (1) والمثل قد يكون من حيث الصورة ، ومن حيث القيمة ، وإذا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة ، وجبت القيمة.

وإذا غصب أرضا فزرعها ببذر من عنده وماله ، وغرسها كذلك ، فالزرع والشجر له ، لأنّه عين ماله ، وإنّما تغيّرت صفته بالزيادة والنماء ، على ما قدّمناه وحرّرناه ، وعليه أجرة الأرض ، لأنّه قد انتفع بها بغير حقّ ، فصار غاصبا للمنفعة ، فلزمه ضمانها ، وعليه أرش نقصانها ، إن حصل بها نقص ، لأنّ ذلك حصل بفعله ، ومتى قلع الشجر فعليه تسوية الأرض.

وكذا لو حفر بئرا ، أجبر على طمّها ، وللغاصب ذلك ، وإن كره مالك الأرض لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردّى فيها ، هكذا ذكره بعض أصحابنا.

والأولى عندي أنّ صاحب الأرض إذا رضي بعد حفره بالحفر ، ومنعه من الطم ، فله المنع ، ولا يكون الحافر ضامنا لما يقع فيها ، لأنّ صاحب الأرض قد رضي ، فكأنّما أمره بحفرها ابتداء.

ومن حل دابة ، فشردت ، أو فتح قفصا ، فذهب ما فيه ، لزمه الضمان ، سواء كان ذلك عقيب الحلّ والفتح ، أو بعد ان وقفا ، لأنّ ذلك كالسبب في الذهاب ، ولولاه لما أمكن ، ولم يحدث سبب آخر من غيره ، فوجب عليه الضمان.

ولا خلاف أنّه لو حلّ رأس الزق ، فخرج ما فيه ، وهو مطروح ، لا يمسك ما فيه من غير الشدّ ، لزمه الضمان ، وقال بعض أصحابنا : ولو كان الزق قائما مستندا ، وبقي محلولا ، حتى حدث به ما أسقطه من ريح ، أو زلزلة ، أو غيرهما ، فاندفق ما فيه ، لم يلزمه الضمان ، لأنّه قد حصل هاهنا مباشرة ، وسبب من غيره (2).

ص: 485


1- البقرة : 194.
2- وهو المستفاد من كلام الشيخ قدس سره في المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 90.

ومن غصب عبدا فأبق ، أو بعيرا فشرد ، فعليه قيمة ذلك ، فإذا أخذها صاحب العبد أو البعير ملكها بلا خلاف ، ولا يملك الغاصب العبد ، فإن عاد انفسخ الملك عن القيمة ، ووجب ردّها ، وأخذ العبد ، لأنّ أخذ القيمة إنّما كان لتعذّر العبد والحيلولة بين مالكه وبينه ، ولم تكن عوضا عنه على وجه البيع ، لأنّا قد بيّنا أنّ ملك القيمة يتعجل هاهنا ، وملك القيمة بدلا عن العين الفائتة بالإباق لا يصحّ على وجه البيع ، لأنّ ذلك يكون فاسدا عندنا على ما قدّمناه ، وعند المخالف أيضا ، وعند بعض المخالفين ، يكون البيع موقوفا فإن عاد العبد تسلّمه المشتري ، وإن لم يعد ردّ البائع الثمن ، ولما ملكت القيمة هاهنا ، والعبد أبق ، ولم يجز الرجوع بها مع تعذر الوصول إلى العبد ، ثبت أنّ ذلك ليس على وجه البيع.

إذا غصب طعاما أو تمرا ، فسوّس ، كان عليه أرش ما نقص ، ولا يجب عليه المثل ، لأنّه لا مثل لما نقص ، فكان الضمان بالأرش.

إذا غصب ما لا مثل له فلا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن يكون من جنس الأثمان ، أو من غير جنسها.

فإن كان من غير جنسها كالثياب والخشب والعقار ، ونحو ذلك ، من الأواني ، فكل هذا وما في معناه مضمون بالقيمة ، فإذا ثبت أنّه مضمون بالقيمة ، فإذا تلف كان عليه قيمته ، فإن تراخى وقت القبض ، لم يكن له إلا القيمة التي ثبتت في ذمته حين التلف ، وإن جنى على هذا جناية ، فأتلف البعض ، مثل خرق الثوب ، أو كسر الآنية على وجه ينتفع بهما فيما بعد ، فعليه ما نقص ، فهو أرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، لا شي ء له غيره.

فإن كان من جنس الأثمان ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون فيه صنعة ، أو لا صنعة فيه ، فإن كان ممّا لا صنعة فيه ، فله مثله وأرش النقص ، سواء كان من جنسه أو لا من جنسه ، لأنّ هذا ليس ببيع حتى يقال انّه ربا ، فإن كان فيها صنعة ، فامّا أن يكون استعمالها مباحا ، أو محظورا.

ص: 486

فإن كان استعمالها مباحا كحلي النساء ، وحلي الرجال ، مثل الخواتيم ، والمنطقة ، وكان وزنها مائة ، وقيمتها لأجل الصنعة مائة وعشرين ، فإذا كان غالب نقد البلد من غير جنسها ، قوّمت به ، لأنّه لا ربا فيه ، وإن كان غالب نقد البلد من جنسها ، مثل أن كانت ذهبا وغالب نقده ذهب ، قيل : فيه قولان ، أحدهما تقوّم بغير جنسها ، ليسلم من الربا ، والقول الآخر ، وهو الصحيح ، أنّه لا يجوز (1) ، لأنّ الوزن بحذاء الوزن ، والفضل في مقابلة الصنعة ، لأنّ للصنعة قيمة غير أصل العين ، بدليل أنّه يصحّ الاستيجار على تحصيلها ، ولأنّه لو كسره إنسان ، فعادت قيمته إلى مائة ، كان عليه أرش النقص فثبت بذلك أنّ الصنعة لها قيمة في المتلفات ، وإن لم يكن لها قيمة في المعاوضات.

وإن كان استعمالها حراما ، وهي آنية الذهب والفضة ، قيل : فيه قولان ، أحدهما اتّخاذها مباح ، والمحرم الاستعمال ، والثاني محظور ، لأنّها إنّما تتخذ للاستعمال ، فمن قال اتّخاذها حرام ، وهو الصحيح ، قال : تسقط الصنعة ، وكانت كالتي لا صنعة فيها ، وقد مضى حكمها.

فأمّا الحيوان فهو على ضربين ، آدمي وغير آدمي فأمّا غير الآدمي فهو كالثياب والخشب (2) وما لا مثل له ، فإن أتلفها فكمال القيمة ، وإن جنى عليها فقيمة ما نقص تقوّم بعد الاندمال ، فيكون عليه ما بين قيمته صحيحا قبل الاندمال ، وجريحا بعد الاندمال ، فهو كالثياب سواء ، وإنّما يختلفان من وجه واحد ، وهو أنّ الجناية على الثياب لا تسري إلى باقية والجناية على البهيمة تسري إلى نفسها ، ولا تختلف باختلاف المالكين ، ولا باختلاف المملوك أو المالك ، فعلى هذا التحرير سواء كانت البهيمة للقاضي ، أو لغير القاضي.

وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّ إلحاق أحكام البهائم في الجنايات

ص: 487


1- ج : يجوز. وهو الظاهر كما يشهد به التعليل.
2- ج : كالثياب.

والأروش والديات والمقدرات ببني آدم ، يحتاج إلى دليل قاطع للعذر ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد ، لأنّه قد روي في بعض الأخبار ، أنّ في عين البهيمة ربع قيمتها (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : نصف قيمتها (2) ، وربع قيمتها ذكره في نهايته (3) ، واختار في مبسوطة (4) ما ذهبنا إليه ، ورجع عمّا ذكره في الكتابين المشار إليهما ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّه جنى على مال ، فنقص بجنايته ، فيجب عليه أرش ما نقص ، من غير زيادة ولا نقصان.

إذا غصب عبدا قيمته ألف ، فخصاه ، فبلغ ألفين ، ردّه وقيمة الخصيتين ، لأنّه ضمان مقدّر ، وقيمتهما قيمة العبد.

المقبوض عن بيع فاسد : لا يملك بالبيع الفاسد شي ء ، ولا ينتقل به الملك بالعقد ، فإذا وقع القبض لم يملك به أيضا ، لأنّه لا دليل عليه ، وإذا لم يملك به كان مضمونا ، فإن كان المبيع قائما ردّه ، وإن كان تالفا ردّ بدله ، إن كان له مثل ، وإلا قيمته ، لأنّ البائع دخل على أن يسلّم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلّم له المسمّى ، اقتضى الرجوع إلى عين ماله ، فإذا ثبت هذا كلّه فالكلام في الأجرة والزيادة في العين.

فأمّا الأجرة ، فإن كان لها منافع تستباح بالإجارة ، كالعقار والثياب والحيوان ، فعليه اجرة المثل مدة بقائها عنده ، فأمّا الكلام في الزيادة كالسمن ، وتعليم القرآن ، والصنعة ، فهل يضمن ذلك أم لا؟ فالصحيح أنّه يضمنها.

ومن غصب جارية حاملا ضمنها وجملها.

إذا غصب جارية فوطأها الغاصب ، فإنّ جملة الأمر وعقد الباب أنّه ، إذا زنى الرجل بامرأة فلا يخلو إمّا أن تكون جارية لغيره ، أو حرّة ، فإن كانت جارية

ص: 488


1- الوسائل : الباب 47 من أبواب ديات الأعضاء.
2- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 4.
3- النهاية : كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان ، والعبارة هكذا : وفي عين البهيمة إذا فقئت ربع قيمتها على ما جاءت به الآثار.
4- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 62.

للغير ، فلا يخلو أن تكون ثيبا أو بكرا ، فإن كانت ثيبا فلا يخلو إمّا أن تكون مكرهة أو مطاوعة.

فإن كانت مطاوعة فلا شي ء لسيّدها على الزاني ، لأنّ الرسول عليه السلام نهى عن مهر البغي (1).

وإن كانت مكرهة فيجب على الزاني لسيّدها مهر أمثالها ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عليه نصف عشر ثمنها ، والأول هو الصحيح ، لأنّ ذلك ورد في من اشترى جارية ووطأها وكانت حاملا ، وأراد ردّها على بائعها ، فإنّه يردّ نصف عشر ثمنها (2) ، ولا يقاس غير ذلك عليه.

فأمّا إن كانت بكرا ، فلا يخلو إمّا أن تطاوع ، أو تغصب وتكره على الفعال ، فإن كانت مكرهة فعليه مهر أمثالها ، وعليه ما نقص من قيمتها قبل افتضاضها ، يجمع ما بين الشيئين بين المهر وما نقص من القيمة من الأرش ، لأنها غير بغي.

وإن كانت مطاوعة فلا يلزم المهر ، بل يجب عليه ما نقص من قيمتها من الأرش ، والمهر لا يلزم لأنّها هاهنا بغي ، والرسول عليه السلام نهى عن مهر البغي.

فأمّا إن كانت المزني بها حرة ، فإن كانت ثيبا ، وكانت مطاوعة عاقلة ، فلا شي ء لها على الزاني بها ، وإن كانت مكرهة ، فيجب عليه مهر أمثالها ، لأنّها غير بغي.

وإن كانت بكرا وكانت مطاوعة فلا شي ء لها ، وإن كانت مكرهة فلها مهر نسائها فحسب.

إذا غصب خفين قيمتهما عشرة ، فتلف أحدهما ، وكانت قيمة الباقي ثلاثة ، ردّه ، وقيمة التالف خمسة ، وما نقص بالتفرقة وهو درهمان ، فيرد الباقي ومعه سبعة ، لأنّ التفرقة جناية منه ، فيلزمه ما نقص بها.

إذا غصب دارا أو دابة ، سكنها أو لم يسكنها ، ركبها أو لم يركبها ، ومضت

ص: 489


1- من لا يحضره الفقيه : ج 4 ، الباب 1 ذكر جمل من مناهي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب أحكام العيوب ، ح 7 و 8 و 9.

مدة يستحق لمثلها اجرة ، لزمته الأجرة ، لأنّ المنافع تضمن بالغصب عندنا.

فإن غصب عصيرا فصار خمرا ، ثم صار خلّا ، ردّ الخل بحاله ، وليس عليه بدل العصير ، لأنّ هذا عين ماله ، فإن كان قيمة الخل قيمة العصير ، أو أكثر ، ردّه ولا شي ء عليه ، وإن كان أقلّ من ذلك ردّه وما نقص من قيمة العصير.

إذا غصب جارية فهلكت ، فعليه أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين الهلاك والتلف.

فإن اختلفا في مقدار القيمة ، فالقول قول الغاصب مع يمينه ، لأنّ الأصل براءة ذمته ، ولقوله عليه السلام : « البينة على المدّعى واليمين على المدعى عليه » (1) والغاصب منكر.

وإن اختلفا فقال الغاصب : كانت معيبة برصاء ، أو جذماء ، وغير ذلك ، فالقول قول المالك ، لأنّ الأصل السلامة ، والغاصب يدّعي خلاف الظاهر ، فإن كان بالعكس من هذا ، فقال السيد : كانت صانعة ، أو تقرأ القرآن ، فأنكر الغاصب ذلك ، فالقول قول الغاصب ، لأنّ الأصل انّ لا صنعة ولا قراءة.

إذا غصب منه مالا مثلا بمصر ، فلقيه بمكة ، فطالبه به ، فإن كان المال له مثل ، فله مطالبته ، سواء اختلفت القيمة في البلدين ، أو اتفقت ، وإن كان لا مثل له ، فله مطالبته بقيمته يوم الغصب ، دون يوم المطالبة ، إذا أهلكه وأتلفه في يوم غصبه ، فإن بقي في يده ، فعليه أكثر القيم إلى يوم الهلاك.

فأمّا ماله مثل ، فعليه مثله يوم المطالبة ، تغيّرت الأسعار أو لم تتغيّر ، فإن أعوز المثل ، فله قيمته يوم إقباضها ، هذا تحقيق القول ، والذي تقتضيه أصول مذهبنا.

وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) ، تفاصيل مذهب المخالفين ، ونقله

ص: 490


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 76.

ابن البراج في تصنيفه على غير بصيرة (1).

ولأنّ المغصوب منه ، لا يجب عليه الصبر إلى حين العود إلى مصر ، بل يجب على الغاصب ردّ مثل الغصب إن كان له مثل ، أو قيمته إن لم يكن له مثل ، فانّ هذا الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلة ولا يعرج إلى خلافه بالآراء والاستحسان.

والكلام في القرض ، كالكلام في الغصب سواء ، لا يفترقان.

وكذلك الكلام إن كان الحق وجب له عن سلم.

وقال بعض أصحابنا : لم يكن له مطالبته به بمكة ، لأنّ عليه أن يوفيه إيّاه في مكان العقد ، والذي ذكره بعض أصحابنا حكاية قول المخالفين ، دون أن يكون ذلك قولا تقتضيه أصول مذهبنا ، أو وردت به أخبارنا.

إذا غصب شيئا ، لم يملكه ، غيره عن صفته التي هو عليها أو لم يغيره ، مثل إن كان حنطة فطحنها ، فإنّه لا يملك الدقيق ، وإن أخذ من غيره عصيرا ، فاستحال خلا أو خمرا ، ثمّ استحال خلا في يده ، ردّه عليه ، لأنّه عين ماله ، ولا يملكه بتغيّره واستحالته في يده ، على ما قدّمناه.

ما يتسلم على طريق السوم ، فإنّه مضمون على الآخذ له ، أو على أنّه بيع صحيح ، فكان فاسدا ، أو عارية بشرط الضمان ، أو بلا شرط الضمان ، وتكون العارية فضة أو ذهبا.

وإذا غصب خبزا فأطعمه مالكه من غير إعلام له أنّه خبزه ، وجب عليه الضمان ، فإن كان الآكل غير مالكه ، ولم يعلمه بأنّه غصب ، كان المغصوب منه بالخيار بين أن يرجع على الغاصب ، أو على الآكل ، فإن رجع على الغاصب ، فلا يرجع الغاصب على الآكل ، وإن رجع على الآكل ، فللآكل الرجوع على الغاصب ، لأنّه غرّه.

ص: 491


1- وهو المهذب ، في ج 1 ، كتاب الغصب والتعدّي ، ص 243.

وكذلك إذا غصب حطبا ، فاستدعى مالكه ، فقال له : اسجر به التنور ، أو غير صاحبه ، مثل الخبز ، حرفا فحرفا ، « اسجر به التنور » بالسّين غير المعجمة ، يقال : سجرت التنور ، اسجره سجرا ، إذا أحميته ، وسجرت البحر ملأته ، ومنه البحر المسجور.

إذا غصب شاة فأنزى عليها فحل نفسه فأتت بولد ، كان لصاحب الشاة ، لا حق لصاحب الفحل في الولد ، لأنّ الولد يتبع الام وجزء منها ونماؤها ، فإن كان غصب فحلا فأنزاه على شاة نفسه ، فالولد لصاحب الشاة ، وعليه اجرة الفحل عندنا ، وإن كان الفحل قد نقص بالضراب ، فعلى الغاصب أرش النقصان بتعديه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فأمّا أجرة الفحل فلا تجب على الغاصب : لأنّ النبيّ عليه السلام نهى عن كسب الفحل (1).

وما ذهبنا إليه هو مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وما قاله وذكره شيخنا في مبسوطة ، حكاية مذهب المخالفين ، فلا يتوهم متوهم عليه أنّه اعتقاده.

إذا غصب عبدا ومات في يده ، أو قتله هو أو غيره ، فللمغصوب منه أكثر ما كانت قيمته إلى يوم الهلاك ، وإن تجاوزت قيمته دية الحر ، فأمّا إذا لم يغصبه وقتله ، فلا يتجاوز بقيمته دية الحر ، فليلحظ الفرق بين المسألتين.

إذا كان في يد مسلم خمر أو خنزير فأتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، مسلما كان المتلف أو مشركا ، فإن كان ذلك في يد ذمي وقد أخرجه وأظهره في دروب المسلمين ، فلا ضمان على المتلف أيضا ، وإن أتلفه في بيته أو في بيعته وكنيسته ، فالضمان عليه عندنا ، مسلما كان المتلف أو مشركا ، والضمان هو قيمة الخمر والخنزير عند مستحليه ، ولا يضمن بالمثلية على حال.

إذا غصب من رجل دارا وباعها ثم ملكها الغاصب بميراث أو هبة أو شراء صحيح ، ثم ادّعى الغاصب على الذي باعها منه ، فقال : اشتريت مني غير

ص: 492


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 96.

ملكي ، فالبيع باطل وعليك ردّ الدار ، وأقام البائع الغاصب شاهدين بذلك ، فهل يقبل هذه الشهادة أم لا؟ نظرت ، فإن كان البائع قال حين البيع : بعتك ملكي ، سقطت الشهادة ، لأنّه مكذب لها ، لأنّه قال حين البيع : هي ملكي ، وأقام البيّنة أنّها غير ملكه ، فهو مكذب لها ، وإن كان أطلق البيع ، ولم يقل ملكي ، قبلت هذه الشهادة ، لأنّه قد يبيع ملكه وغير ملكه ، فإذا قامت البينة أنّها لم تكن ملكا له ، لم يكن مكذبا لها ، فقبلت هذه الشهادة ، إلا أن يكون في ضمن البيع ما يدل على أنّها ملكه ، مثل ان قال : قبضت ثمن ملكي ، أو ملكت الثمن في مقابلة ملكي ، فتسقط الشهادة حينئذ أيضا.

إذا ادّعى في يد رجل دارا ، وقال : غصبتها مني ، فأنكر ، فأقام المدّعي شاهدين ، نظرت ، فإن شهد أحدهما أنّه غصبها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنّه غصبها يوم الجمعة ، لم تكمل الشهادة ، لأنّها شهادة بغصبين ، لأنّ غصبه يوم الجمعة غير غصبه يوم الخميس ، وهكذا لو شهد أحدهما أنه غصبها ، وشهد الآخر على إقراره بغصبها ، لأنّ الغصب غير الإقرار ، فإن شهد أحدهما على إقراره بذلك يوم الخميس ، وشهد الآخر على إقراره به يوم الجمعة ، كانت الشهادة صحيحة ، لأنّ المقرّبة واحد ، لكن وقع الإقرار به في وقتين.

إذا غصب أمة فباعها ، فأحبلها المشتري ، فانّ السيد يرجع على المشتري ، وهل يرجع المشتري على البائع أم لا؟ نظرت فكل ما دخل على أنّه له بعوض ، وهو قيمة الرقبة ، لم يرجع به على أحد (1) ، وكلّ ما دخل على أنّه له بغير عوض ، فإن لم يحصل له في مقابلته نفع وهو قيمة الولد ، رجع به على البائع ، قولا واحدا ، وإن حصل له في مقابلته نفع ، وهو مهر المثل في مقابلة الاستمتاع ، فلا يرجع به على البائع.

وإن رجع على البائع ، فكلّما لو رجع به على المشتري ، رجع المشتري على البائع ، فالبائع لا يرجع به عليه ، وكلّما لو رجع به على المشتري ، لم يرجع به على

ص: 493


1- ج : وهو الرقبة يرجع به على البائع.

البائع ، فإذا رجع به على البائع ، رجع البائع به على المشتري.

إذا أرسل في ملكه ماء فسال إلى ملك غيره ، فأفسده عليه ، أو أجج في ملكه نارا ، فتعدت إلى ملك غيره فأحرقته ، فالماء والنار سواء ، ينظر فيه ، فإن أرسل الماء في ملكه بقدر حاجته ، فسال إلى ملك غيره ، نظرت ، فإن كان غير مفرّط ، مثل ان ثقب الفار أو غيره ، أو كان هناك ثقب لم يعلم به ، فلا ضمان عليه ، لأنّها سراية عن فعل مباح ، فذهب هدرا ، وهكذا النار إذا أججها في ملكه ، فحملها الريح إلى ملك غيره فأتلفته ، فلا ضمان عليه ، لأنّه سراية عن مباح.

وأمّا إن أرسل الماء إلى ملكه ، وفرّط في حفاظه بأن توانى ، وهو يعلم أنّه يطفح إلى ملك غيره فأتلفه ، كان عليه الضمان ، لأنّها سراية عن فعل محظور ، وهكذا إن أجج نارا عظيمة في زرعه ، أو حطبه على سطحه ، وهو يعلم أنّه في العادة تصل إلى ملك غيره ، كان عليه الضمان.

فأمّا إن أرسل الماء في ملكه بقدر حاجته إليه ، وهو يعلم أنّ الماء ينزل إلى ملك غيره ، وأن للماء طريقا إليه ، فعليه الضمان ، لأنّه إذا علم أنّه يجري إلى ملك غيره ، وأنّه لا حاجز يحجزه عنه ، فهو المرسل له ، وهكذا النار إذا طرحها في زرعه أو حطبه ، وهو يعلم أنّ زرعه أو حطبه متصل بزرع غيره وحطب غيره ، وانّ النار تأتي على ملكه وتتصل بملك غيره ، فعليه الضمان ، لأنّها سراية حصلت بفعله.

فإن ادّعى دارا في يد رجل ، فاعترف له بدار مبهمة ، ثمّ مات المقر المعترف ، قيل للوارث : بين ، فإن لم يبيّن ، قيل للمدّعي : بيّن أنت ، فإن عيّن دارا ، وقال : هذه التي ادّعيتها ، وقد أقرّ لي بها ، قيل للوارث : ما تقول؟ فإن قال : صدق ، تسلّم الدار المدّعي ، وإن قال الوارث : ليست هذه له ، فالقول قوله مع يمينه ، فإذا حلف سقط تعيين المدّعي ، وقيل للوارث : نحبسك حتى تبين الدار التي أقر له أبوك بها ، وتحلف ، أو نجعلك ناكلا عن اليمين ، ويعيّن المدّعي الدار ، ويردّ اليمين عليه ، ويستحق ما حلف عليه ، وإلا أدّى إلى إبطال حقّ الآدميّين ووقوف الأحكام.

ص: 494

فإن غصب عبدا فردّه وهو أعور ، واختلفا ، فقال سيده : عور عندك ، وقال الغاصب : بل عندك ، فالقول قول الغاصب ، لأنّه غارم ومدّعى عليه.

وقال بعض أصحابنا : فإن اختلفا في هذا والعبد قد مات ودفن ، فالقول قول سيّده أنّه ما كان أعور.

والفصل بينهما أنّه إذا مات ودفن ، فالأصل السلامة ، حتى يعرف عيب ، فكان القول قول السيّد ، وليس كذلك إذا كان حيا ، لأنّ العور موجود مشاهد ، فالظاهر أنّه لم يزل حتى يعلم حدوثه عند الغاصب.

والذي يقوى عندي أنّ القول قول الغاصب ، لأنّه غارم في المسألتين معا ، ومدّعى عليه ، والأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء أو علق عليها حكما ، يحتاج في إثباته إلى دليل ، وهذا الذي ذكره بعض أصحابنا ، تخريج من تخريجات المخالفين ومقاييسهم واستحساناتهم.

والذي تقتضيه أصول مذهب أهل البيت عليهم السلام ما ذكرناه واخترناه ، فليلحظ بالعين الصحيحة.

فإن غصب عبدا ومات العبد واختلفا ، فقال الغاصب : رددته حيا فمات في يدك أيها المالك ، وقال المالك : بل مات في يدك أيها الغاصب من قبل أن تردّه إليّ ، وما رددته إليّ إلا ميتا ، وقال الغاصب : رددته حيا. فالذي عندي ويقوى في نفسي ، أنّ القول قول المالك مع يمينه ، وعلى الغاصب البينة ، لأنّه المدّعي لرد الملك بعد إقراره بغصبه ، وكونه في يده حيا ، والمالك منكر للرد وجاحد له ، ومدّعى عليه ، فالقول قوله ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين ، وهذا داخل تحت ذلك ، فإن أقام كلّ واحد منهما بينة ، سمعت بينة المدّعي للموت ، لأنّ الرسول عليه السلام جعلها في جنبته ، ولأنّ بينته تشهد بشي ء ربما خفي على بيّنة الغاصب ، وهو الموت ، فهذا تحرير الفتيا في هذا السؤال.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فإن غصب عبدا ومات العبد فاختلفا ،

ص: 495

فقال : رددته حيا ومات في يدك ، وقال المالك : بل مات في يدك أيّها الغاصب ، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة بما ادّعاه ، عمل على ما نذكره في تقابل البيّنتين ، فإن قلنا ان البيّنتين إذا تقابلتا سقطتا ، عدنا إلى الأصل وهو بقاء العبد عنده حتى يعلم ردّه ، كان قويا هذا آخر كلامه رحمه اللّه (1) ، لم يذكر في المسألة غير ما ذكره وحكيناه عنه.

والذي قوّاه وقال : كان قويا ، مذهب الشافعي في تقابل البينتين لا مذهب أصحابنا ، وإنّما مذهب أصحابنا بغير خلاف بينهم ، الرجوع إلى القرعة لأنّه أمر مشكل ، وهذا ليس من ذلك بقبيل ، ولا هو منه بسبيل ، ولا في هذا إشكال ، فنرجع فيه إلى القرعة.

بل مثاله رجل غصب رجلا مالا ، فقال الغاصب : رددته ، وقال المغصوب منه : ما رددته إليّ ، فكان القول قول المغصوب منه مع يمينه ، فإن أقام كلّ واحد منهما بينة ، سمعت بينة الغاصب ، لأنّ لبينته مزية على بينة المغصوب منه ، لأنّها تشهد بأمر خفي على بيّنة المالك.

وكذلك من كان له على رجل دين ، فقال له : قضيته وخرجت إليك منه ، وأنكر من له الدين ذلك ، فالقول قوله مع يمينه ، فإن أقام كلّ واحد منهما بيّنته ، كانت المسموعة بينة القاضي ، لأنّها تشهد بشي ء قد يخفى على بينة من له الدين ، ولا يقول أحد من العلماء انّ مما هنا تستعمل القرعة ، ولا يعاد إلى الأصل وتقابل البيّنتين وأنّهما تسقطان.

فهذا تحرير هذه الفتيا واللّه الموفّق للصواب ، ومرضي الجواب.

الذي تقتضيه أخبارنا وأصول مذهبنا ، أنّه إذا جنى على عبد جناية تحيط بقيمة العبد ، كان بالخيار بين أن يسلّمه إلى الجاني ، ويأخذ قيمته ، وبين أن

ص: 496


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 105.

يمسكه ولا شي ء له ، وما عدا ذلك فله الأرش ، إمّا مقدّرا ، إن كان له في الحرّ مقدّر ، أو حكومة ، إن لم يكن له في الحرّ مقدّر ، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

وما عدا الرقيق من بنى آدم ، من سائر الحيوانات المملوكات ، ما عدا بني أدم المملوكين ، إذا جنى عليه جان ، فليس لصاحبه إلا أرش الجناية.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر وتحريره في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب الغصب ، في المسألة التاسعة ، فإنّه رجع عمّا قاله في المسألة الرابعة ، ورجوعه هو الصحيح الذي تقتضيه الأدلة ، على ما قاله رحمه اللّه ، فإنّه قال في المسألة التاسعة ، والذي تقتضيه أخبارنا ومذهبنا ، أنّه إذا حنى على عبد جناية تحيط بقيمة العبد ، كان بالخيار بين أن يسلمه ويأخذ قيمته ، وبين أن يمسكه ولا شي ء له ، وما عدا ذلك فله الأرش ، إما مقدرا أو حكومة ، على ما مضى القول فيه ، وما عدا المملوك من الأملاك إذا جنى عليه ، فليس لصاحبه إلا أرش الجناية ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وقد ذكرناها في الكتاب المقدّم ذكره ، هذا آخر كلام شيخنا في المسألة.

ثمّ قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا قلع عين دابة ، كان عليه نصف قيمتها ، وفي العينين جميع القيمة ، وكذلك كل ما كان في البدن منه اثنان ، ففي الاثنين جميع القيمة ، وفي الواحد نصفها ، وقال أبو حنيفة : في العين الواحد ربع القيمة ، وفي العينين نصف القيمة ، وكذلك في كلّ ما ينتفع بظهره ولحمه ، وقال الشافعي ومالك : عليه الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وروي عن عمر ، أنّه قضى في عين الدابة ربع قيمتها ، ورووا ذلك عن علي عليه السلام ، وهذا يدلّ على بطلان قول من يدّعي الأرش ، فإمّا قولنا ، فدليله إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

ص: 497


1- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 4.

قال محمّد بن إدريس : ما ذكره رحمه اللّه من قوله : « كل ما في البدن منه اثنان ففي الاثنين جميع القيمة ، وفي الواحد نصفها » انّما ورد في الرقيق المماليك من بني آدم فحسب ، دون البهائم ، والصحيح ما ذكره في المسألة التاسعة ، وهو الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، لأنّ القياس عندنا باطل ، فمن حمل البهائم على بنى آدم المملوكين ، كان قايسا.

وأيضا فقد قال رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة ، إذا جنى على حمار القاضي ، كان مثل جنايته على حمار الشوكي سواء ، في أنّ الجناية إذا لم تسر إلى نفسه ، يلزم أرش العيب ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : إن كان حمار القاضي ، فقطع ذنبه ، ففيه كمال قيمته (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إن كان الطريقة التي ذهب شيخنا إليها في عين الدابة مرضية صحيحة ، فقول مالك صحيح مرضيّ ، لأنّ في الدابة ذنبا واحدة ، وقد دلّ على فساد قول مالك ، ويدخل فيه فساد قوله رحمه اللّه وهذا متناقض ، وذكر في نهايته أنّ عليه ربع قيمتها (2) والصحيح ما حرّرناه.

باب الإقرار

إقرار الحر البالغ الثابت العقل غير المولّى عليه جائز على نفسه ، للكتاب والسنّة والإجماع.

فإذا ثبت ذلك فلا يصح الإقرار على كلّ حال إلا من مكلّف غير محجور عليه لسفه ، أورق.

فلو أقرّ المحجور عليه لسفه بما يوجب حقا في ماله ، لم يصح ، ويقبل إقراره بما يوجب حقا على بدنه ، كالقصاص والقطع والجلد.

فأمّا إن كان محجورا عليه لجنون أو صغر ، فلا يصح إقراره على ماله ، على بدنه.

ص: 498


1- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 4.
2- النهاية : تقدم في ص 879.

وإن كان محجورا عليه لفلس ، يصح إقراره في ماله ، وعلى بدنه عند بعض أصحابنا.

والأولى عندي أنّه لا يقبل (1) إقراره في أعيان أمواله بعد الحجر عليه ، فأمّا إن أقرّ بشي ء في ذمته لا في أعيان أمواله ، فإنّ إقراره يصح. ولا يقاسم المقر له الغرماء في أعيان الأموال ، لأنّا إن قبلنا إقراره بعد الحجر في أعيان أمواله ، فلا فائدة في حجر الحاكم ، ولا تأثير لذلك ، لأنّ ذلك يكون إقرارا بشي ء ، قد تعلّق به حقّ الغير ، فلا يقبل منه ، فأمّا إن أقرّ بدين في ذمته ، فإنّه يقبل إقراره.

فأمّا إقراره على بدنه فمقبول على كلّ حال ، فأمّا إن كان محجورا عليه لرق ، فإنّه لا يقبل إقراره عند أصحابنا ، لا في مال في يديه ولا على بدنه ، سواء أقرّ بقتل العمد ، أو بقتل الخطإ ، لأنّ ذلك إقرار على الغير ، لكنه يتبع به إذا لحقه العتاق ، ومتى صدقه السيد ، قبل إقراره في جميع ذلك بلا خلاف.

ويصحّ إقرار المريض الثابت العقل ، للوارث وغيره ، سواء كان بالثلث أو أكثر منه ، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، وأيضا قوله تعالى « كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » (2) والشهادة على النفس هي الإقرار ، ولم يفصل ، وعلى من ادّعى التخصيص الدليل.

ويصح الإقرار المبهم ، مثل أن يقول لفلان عليّ شي ء ، ويرجع في تفسيره إليه ، فمهما فسّره به قبل ، إذا كان ممّا يتموّل ويملكه المسلمون ، قليلا كان أو كثيرا ، ولا تصح الدعوى المبهمة ، لأنّا إذا رددنا الدعوى المبهمة ، كان للمدّعي ما يدعوه إلى تصحيحها ، وليس كذلك الإقرار ، لأنّا إذا رددناه ، لا نأمن أن لا يقرّ ثانيا.

والمرجع في تفسير المبهم إلى المقر ، على ما قدّمناه ، ويقبل تفسيره بأقل ما يتمول في العادة ، فإن لم يقر جعلناه ناكلا ، ورددنا اليمين على المقر له ، فيحلف على ما يقول ، ويأخذه ، فإن لم يحلف فلا حقّ له.

ص: 499


1- ج : لا يصحّ.
2- النساء : 135.

وإذا قال له عليّ مال عظيم أو جليل ، أو نفيس ، أو خطير ، لم يقدر ذلك بشي ء ، ويرجع في تفسيره إلى المقر ، ويقبل تفسيره بالقليل والكثير ، لأنّه لا دليل على مقدر معيّن ، والأصل براءة الذمة ، وما يقر به مقطوع عليه ، فوجب الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون أراد ، عظيم عند اللّه تعالى من جهة المظلمة ، وأنّه جليل نفيس عند الضرورة إليه ، وإن كان قليل المقدار ، وإذا احتمل ذلك وجب أن يرجع إلى تفسيره ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا نعلّق عليها شيئا محتملا. ويحتج على المخالف بما روي من قوله عليه السلام : « لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفس منه » (1) لأنّه يقتضي أن لا يؤخذ منه أكثر ممّا أقرّ به.

وإذا قال له عليّ مال كثير ، كان إقرارا بثمانين ، لما رواه أصحابنا (2) وأجمعوا عليه. وروي في تفسير قوله تعالى « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ » (3) أنّها كانت ثمانين موطنا (4).

والأولى عندي أنّه يرجع في التفسير إليه ، لأنّ هذا قول مبهم محتمل ، ولا تعلّق على الذمم شيئا بأمر محتمل ، وانّما ورد في أخبار أصحابنا ، وأجمعوا عليه في النذر فحسب ، ولم يذهب أحد منهم إلى تعديته إلى الإقرار والوصية ، سوى شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه في فروع المخالفين في المبسوط (5) ، ومسائل خلافه (6) ، والقياس عندنا باطل ، فمن عدّاه إلى غير النذر الذي ورد فيه ، يحتاج إلى دليل.

ثم لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين ، أنّه إذا باع دارا بمال كثير ، يكون البيع باطلا ، لأنّ الثمن مجهول المقدار ، فلو كان الشارع قد جعل حدّ الكثير ثمانين في كلّ شي ء ، لما كان البيع باطلا ، وكذلك إذا باع الدار بجزء من ماله ،

ص: 500


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب القصاص ، ح 3 ، وفيه : لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه وفي المستدرك : الباب 1 من أبواب الغصب ح 6 : المسلم أخو المسلم لا يحل ماله الا بطيب نفس منه.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب النذر والعهد.
3- التوبة : 25.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب النذر والعهد.
5- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 6.
6- الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة 1.

وكان ماله معلوم المقدار ، يكون البيع باطلا بلا خلاف ، وإن كان الجزء هو السبع في الوصية فحسب ، ولا نعديه إلى غيرها بغير خلاف.

وإذا قال : له عليّ ألف ودرهم ، لزمه درهم ، ويرجع في تفسير الألف إليه ، لأنّها مبهمة ، والأصل براءة الذمة ، وقوله : « ودرهم » ، زيادة معطوفة على الألف ، وليست بتفسير لها ، لأنّ المفسّر لا يكون بواو العطف ، وكذا الحكم لو قال : ألف ودرهمان ، فأمّا إذا قال : ألف وثلاثة دراهم ، أو ألف وخمسون درهما ، وما أشبه ذلك ، فالظاهر أنّ الكل دراهم ، لأنّ ما بعده تفسير له.

وإذا قال : له عليّ عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة ، فإن قال : إلا درهم ، بالرفع كان إقرارا بعشرة ، لأنّ المعنى غير درهم.

وإن قال : ماله عليّ عشرة إلا درهما ، لم يكن مقرا بشي ء ، لأنّ المعنى ماله على تسعة.

ولو قال : ماله عليّ عشرة إلا درهم ، كان إقرارا بدرهم ، لأنّ رفعه بالبدل من العشرة ، فكأنه قال : ماله عليّ إلا درهم.

وإذا قال : له عليّ عشرة إلا ثلاثة ، إلا درهما ، كان إقرارا بثمانية ، لأنّ المراد إلا ثلاثة لا يجب ، إلا درهما من الثلاثة يجب ، لأنّ الاستثناء من الإيجاب نفي ، ومن النفي إيجاب ، واستثناء الدرهم يرجع إلى ما يليه فقط ، إذا لم يكن بواو العطف ، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع ما تقدّم لسقوط الفائدة.

إذا قال : ماله عندي عشرون إلا خمسة ، فأنت تريد مالك إلا خمسة.

وتقول ، لك عليّ عشرة إلا خمسة ما خلا درهما ، فالذي له ستة.

وكل استثناء ممّا يليه فالأوّل حطّ ، والثاني زيادة ، وكذلك جميع العدد ، فالدرهم مستثنى من الخمسة ، فصار المستثنى أربعة ، هذه المسائل ذكرها ابن البراج في أصوله (1).

ص: 501


1- .. أصوله لو كان موجودا فهو من المخطوطات.

إذا قال : عليّ عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين ، كان ذلك استثناء الخمسة من العشرة ، وأمّا إذا لم يعطف الثاني على الأول ، مثل أن يقول : له عليّ عشرة إلا خمسة إلا اثنين ، فيكون قد استثنى الاثنين من الخمسة ، فيبقى ثلاثة ، فيكون قد استثنى من العشرة ثلاثة فيلزمه سبعة ، ولا يجوز أن يعود هاهنا إلى الجملتين معا ، بل إلى الجملة التي تليه ، لأنّه كان يكون لا فائدة فيه ، لأنّ الكلام موضوع للإفادة ، كما إذا قال له عليّ درهم ودرهم إلا درهما ، فقد أسقط الاستثناء من الدرهمين درهما ، فلو رجع إلى الجملتين معا من الكلام صار عبثا ولغوا ، كما لو قال : له عليّ درهم إلا درهما ، فلا يقبل استثناؤه ذلك ، لأنّ الاستثناء يخرج من الجمل ، ما لولاه لصح دخوله تحته ، أو لوجب دخوله تحته على العبارتين واختلاف المقالتين بين من تكلّم في أصول الفقه ، وإذا كان الاستثناء الثاني معطوفا على الأول ، كانا جميعا راجعين إلى الجملة الاولى ، فلو قال : عليّ عشرة إلا ثلاثة وإلا درهما ، كان إقرارا بستة ، وإذا استثنى بما لا يبقى معه من المستثنى منه شي ء ، كان باطلا على ما قدّمناه ، لأنّه يكون بمنزلة الرجوع عن الإقرار ، فلا يقبل.

وإن استثنى بمجهول القيمة ، كقوله : عليّ عشرة إلا ثوبا ، فإن فسّر قيمته بما يبقى معه من العشرة شي ء ، وإلا كان باطلا.

ويجوز استثناء الأكثر من الأقل بلا خلاف ، إلا من ابن درستويه النحوي ، وابن حنبل ، ويدلّ على صحته قوله تعالى ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) (1) وقال حكاية عن إبليس ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (2) فاستثنى من عباده ، الغاوين مرّة ، والمخلصين اخرى ، فلا بدّ أن يكون أحد الفريقين أكثر من الآخر.

وإذا قال : عليّ كذا درهم ، بالرفع ، لزمه درهم واحد ، لأنّ التقدير هو درهم ،

ص: 502


1- الحجر : 42.
2- ص : 82 - 83.

أي الذي أقررت به درهم.

وإن قال : كذا درهم بالخفض ، لزمه مائة درهم ، لأنّ ذلك أقل عدد يخفض ما بعده ، ولا يلزم أن يكون إقرارا بدون الدرهم ، لأنّه أقل ما يضاف إلى الدرهم ، لأنّ ذلك ليس بعدد صحيح ، وإنّما هو كسور.

وإن قال : كذا درهما لزمه عشرون درهما ، لأنّه أقل عدد واحد ينتصب ما بعده.

وإن قال : كذا كذا درهما ، لزمه أحد عشر درهما ، لأنّ ذلك أقل عددين ركبا ، وانتصب ما بعدهما.

وإن قال : كذا وكذا ، وأدخل بينهما الواو ، كان إقرارا بأحد وعشرين درهما ، لأنّ ذلك أقل عددين عطف أحدهما على الآخر ، وانتصب الدرهم بعدهما.

والأولى عندي في هذه المسائل جميعها ، أن يرجع في التفسير إلى المقرّ ، لأنّ كذا لفظ مبهم محتمل ، ولا نعلّق على الذمم شيئا بأمر يحتمل ، والأصل براءة الذمة ، ولم يذكر هذه المسائل أحد من أصحابنا ، إلا شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) ، ومسائل خلافه (2) وهذان الكتابان بعضهما (3) فروع المخالفين ، وتخريجاتهم ، وأخبارنا خالية من ذلك ، وكذلك مصنفات أصحابنا ، إلا من اتبع تصنيف شيخنا أبي جعفر ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا قال : عليّ دراهم ، فإنّه يلزمه ثلاثة دراهم.

وإذا أقرّ بشي ء وأضرب عنه ، واستدرك غيره ، فإن كان مشتملا ، على الأول ، بأن يكون من جنسه وزائدا عليه ، وغير متعيّن ، لزمه دون الأول ، بل يدخل الأول فيه ، كقوله عليّ درهم ، لا بل درهمان ، ولا يلزمه ثلاثة دراهم ، لأنّ الأول دخل في الثاني ، لأنّه إذا قال : عليّ درهم ، فقد أخبر بدرهم عليه ، وقوله بعد هذا : لا بل درهمان ، إخبار بالدرهم الذي أقرّ به أولا ، ثانيا ، لأنّه يصح

ص: 503


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 13.
2- الخلاف : كتاب الإقرار ، المسائل 6 و 7 و 8 و 9 و 10 و 11.
3- ج : معظمهما.

أن يخبر عنه ثمّ يخبر عنه ، فكأنّه نفى الاقتصار عليه ، فأخبر به ، وبغيره مرة أخرى.

وإن كان ناقصا عنه ، لزمه الأول دون الثاني ، كقوله : عليّ عشرة دراهم ، لا بل تسعة دراهم ، لأنّه أقرّ بالعشرة ، ثمّ رجع عن بعضها ، فلم يصح رجوعه ، ويفارق ذلك إذا قال : له عليّ عشرة دراهم إلا درهما ، لأنّ للتسعة عبارتين ، إحداهما لفظ التسعة ، والأخرى لفظ العشرة مع استثناء الواحد ، فبأيّهما أتى فقد عبّر عن التسعة.

إذا قال : لفلان عليّ درهم ودرهم إلا درهما ، فعلي ما يذهب إليه أنّ الاستثناء إذا تعقّب جملا معطوفة بعضها على بعض بالواو ، فإنّه يرجع إلى الجميع يجب أن نقول أنّه يصح ، ويكون إقرارا بدرهم ، ومن قال : يرجع إلى ما يليه ، فإنّه يبطل الاستثناء ، ويكون إقرارا بدرهمين ، لأنّه إذا رجع إلى ما يليه وهو درهم ، لا يجوز أن يستثني درهما من درهم ، لأنّ ذلك استثناء الجميع ، وذلك فاسد ، فيبطل الاستثناء ، ويبقى ما أقرّ به وهو درهم ودرهم الذي عطف عليه.

وإن كان ما استدركه من غير جنس الأوّل ، كقوله : عليّ درهم ، لا بل دينار ، أو قفيز حنطة ، لا بل قفيز شعير ، لزمه الإقرار ان معا ، لأنّ ما استدركه لا يشتمل على الأول ، فلا يسقط برجوعه عنه ، لأنّه غير داخل فيه.

وإن كان ما أقرّ به أولا وما استدركه متعينين بالإشارة إليهما ، أو بغيرها ممّا يقتضي التعريف ، لزمه أيضا الأمران ، سواء كانا من جنس واحد ، أو من جنسين ، أو متساويين في المقدار ، أو مختلفين ، لأنّ أحدهما والحال هذه ، لا يدخل في الآخر ، ولا يقبل رجوعه عما أقرّ به أولا ، كقوله : هذه الدراهم لفلان ، لا بل هذا الدينار ، أو هذه الجملة من الدراهم ، لا بل هذه الأخرى.

وإذا قال : له عليّ ثوب في منديل ، لم يدخل المنديل في الإقرار ، لأنّه يحتمل أن يريد في منديل لي ، فلا يلزم من الإقرار إلا المتيقن ، دون المشكوك فيه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وكذا القول في كلّ ما جرى هذا المجرى ، مثل أن يقول : غصبته سمنا في ظرف ، أو حنطة في غرارة ، وما أشبه ذلك.

ص: 504

وإذا قال : له عليّ ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأنّ لفظة عليّ للإيجاب ، وكما يكون الحقّ في ذمته ، فيجب عليه تسليمه بإقراره ، كذلك يكون في يده ، فيجب عليه ردّه وتسليمه إلى المقرّ له بإقراره.

ولو ادّعى التلف بعد الإقرار قبل ، لأنّه لم يكذب إقراره ، وانّما ادّعى تلف ما أقرّ به بعد ثبوته بإقراره ، بخلاف ما إذا ادّعى التلف وقت الإقرار ، بأن يقول : كان عندي أنّها باقية ، فأقررت لك بها ، وكانت تالفة في ذلك الوقت ، فانّ ذلك لا يقبل منه ، لأنّه يكذب إقراره المتقدّم من حيث كان تلف الوديعة من غير تعد يسقط حق المودع.

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا قال : له عليّ ألف درهم وديعة ، لا يقبل منه ، لأنّ لفظة « عليّ » للإيجاب والالتزام ، والوديعة غير لازمة له ولا واجبة في ذمته ، ولا في يده ، فلا يجب تسليمها إلا بعد مطالبة المودع ، فحينئذ يجب ، وقبل ذلك لا يجب ، فإذن التمسّك الأوّل غير معتمد ، بل لو قال : له عندي ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأنّ عندي لفظة غير موجبة ولا لازمة ، وإن كان قد ذكر الأول بعض أصحابنا (1) ، وسطّره في كتابه ، فإنّه من تخاريج المخالفين ، واستحساناتهم ، فأمّا كلام العرب الذي نزل القرآن بلغتهم ، يقتضي ما ذكرناه ، إذ لا نص على خلاف ما ذهبنا إليه ، ولا إجماع.

وإذا قال : له عليّ ألف درهم إن شئت ، لم يكن لكلامه حكم ، لأنّ الإقرار إخبار عن حقّ واجب سابق له ، وما كان كذلك لم يصحّ تعلقه بشرط مستقبل.

وإذا قال : له من ميراثي من أبي ألف درهم ، لم يكن أيضا إقرارا ، لأنّه أضاف الميراث إلى نفسه ، ثمّ جعل له منه جزء ولا يكون له جزء من ماله إلا على وجه الهبة أو الصدقة.

ص: 505


1- وهو الشيخ قدس سره في الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة 19.

ولو قال : له من ميراث أبي ألف درهم ، كان ذلك إقرارا بدين في تركته.

وهكذا لو قال : داري هذه لفلان ، لم يكن ذلك إقرارا ، لمثل ما قدّمناه ، لأنّ هذا مناقضة ، كيف يكون داره لفلان في حال ما هي له.

ولو قال : هذه الدار ، ولم يضفها إليه ، بل قال : هذه الدار التي هي في يدي ، أو هذه الدار لفلان من غير إضافة إليه ، كان إقرارا ، لأنّها قد تكون في يده بإجارة ، أو عارية ، أو غصب.

فأمّا إذا قال : هذه داري ، أو داري لفلان بأمر حقّ ثابت ، كان إقرارا أيضا صحيحا ، لأنّ قوله : بأمر حق ثابت ، يجوز أن يكون له حق ، وجعل داره في مقابلة ذلك الحق ، وإن كان قد أضافها إلى نفسه.

ويصح الإقرار المطلق للحمل ، لأنّه يحتمل أن يكون من جهة صحيحة ، مثل ميراث أو وصية ، لأنّ الميراث يوقف له ، وتصح الوصية عندنا للحمل ، فالظاهر من الإقرار الصحة ، فوجب حمله عليه.

ومن أقرّ بدين في حال صحته ، ثمّ مرض ، فأقر بدين آخر في حال مرضه صحّ ، ولا يقدّم دين الصحة على دين المرض ، بل هما سواء ، ولا يكلّف من أقرّ له في حال المرض ، إقامة بيّنة على أنّ إقراره له عن حقّ كان له عليه ، سواء كان مرضيا موثوقا بعدالته ، أو غير موثوق بعدالته ، متهما على الورثة ، أو غير متّهم ، ويعطى من أصل المال ، دون الثلث ، مثل الدين الذي أقرّ به في حال صحته ، لا فرق بينهما ، إذا كان عقله ثابتا عليه ، لأنّا قد بينا أنّ إقرار العقلاء الغير المولى عليهم ، جائز على نفوسهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1) من غير فصل ، لأنّ الأصل تساويهما في الاستيفاء من حيث تساويا في الاستحقاق ، فعلى من ادّعى تقديم أحدهما على الآخر الدليل.

ص: 506


1- النساء : 11 و 12.

ولا يلتفت إلى ما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فإنّه قال : إقرار المريض جائز على نفسه للأجنبي ، وللوارث على كلّ حال ، إذا كان مرضيا موثوقا بعدالته ، ويكون عقله ثابتا في حال الإقرار ، ويكون ما أقرّ به من أصل المال ، فإن كان غير موثوق به ، وكان متّهما ، طولب المقر له بالبيّنة ، فإن كانت معه بينة ، اعطى من أصل المال ، وإن لم يكن معه بيّنة ، اعطي من الثلث إن بلغ ذلك ، فإن لم يبلغ فليس له أكثر منه (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في نهايته.

إلا أنّه رجع عنه في مسائل خلافه ، وفي مبسوطة (2).

فقال في مسائل خلافه في الجزء الثاني من كتاب الإقرار : مسألة ، إذا أقرّ بدين في حال صحته ، ثمّ مرض ، فأقرّ بدين آخر في حال مرضه ، نظر ، فإن اتسع المال لهما ، استوفيا معا ، وإن عجز المال قسّم الموجود منه على قدر الدينين ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا ضاق المال ، قدّم دين الصحة على دين المرض ، فإن فضل شي ء صرف إلى دين المرض ، دليلنا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (3) ولم يفضل أحد الدينين على الآخر ، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء ، وأيضا فإنّهما دينان ثبتا في الذمة ، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء ، لأنّ تقديم أحدهما على الآخر يحتاج إلى دليل (4) هذا آخر المسألة من كلام شيخنا رحمه اللّه.

إذا قال : له عندي عبد عليه عمامة ، دخلت العمامة في الإقرار.

وإذا قال : له عندي دابة عليها سرج ، لم يدخل السرج في الإقرار.

والفرق بينهما أنّ العبد ثبتت يده على ما هي عليه ، فيكون لمولاه المقرّ له ، والدابة لا تثبت لها يد على ما عليها ، فلا يكون ما عليها لصاحبها إلا بالإقرار ،

ص: 507


1- النهاية : كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 13.
3- النساء : 11 و 12.
4- الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة 12.

وقوله : عليها سرج ، ليس بإقرار بالسرج ، فافترقا.

إذا قال : هذه الدار لفلان ، لا بل لفلان ، أو قال غصبتها من زيد ، لا بل من عمرو ، فإنّ إقراره الأول لازم ، ويكون الدار للأول ، ويغرم قيمتها للثاني ، لأنّه حال بينه وبين ما أقرّ له به ، فهو كما لو ذبح شاة له ، وأكلها ، ثمّ أقرّ له بها ، أو أتلف مالا ، ثمّ أقرّ به لفلان ، فإنّه يلزمه غرامته ، فكذلك هذا ، وهذا كما نقول في الشاهدين : إذا شهدا على رجل بإعتاق عبده ، أو طلاق امرأته غير المدخول بها ، وحكم الحاكم بذلك ، ثمّ رجعا عن الشهادة ، كان عليهما غرامة قيمة العبد ، وغرامة المهر ، لأنّهما حالا بينه وبين ملكه ، فلا ينقض حكم الحاكم بغير خلاف.

وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في المبسوط ، في كتاب الإقرار (1) ، وكتاب الشهادات (2).

وإذا باع شيئا ، ثمّ أقرّ البائع أن ذلك المبيع لفلان ، فإنّ الغرامة تلزمه ، ولا ينفذ إقراره في حقّ المشتري.

إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم ، فجاء بألف ، وقال : هذه التي أقررت لك بها ، كانت لك عندي وديعة ، كان القول في ذلك قوله ، عند بعض الناس ، والأظهر أنّه لا يقبل قوله في ذلك ، ويلزمه ما أقرّ به ، لأنّا قد بيّنا من قبل أن لفظة « عليّ » لفظة إيجاب وإلزام ، والوديعة غير لازمة له ، إلا أن يعقّب. قوله : وديعة فرطت فيها.

وإذا قال : له عندي ألف درهم وديعة شرط عليّ أني ضامن لها ، كان ذلك إقرارا بالوديعة ، ولم يلزمه الضمان الذي شرطه عليه ، لأنّ ما كان أصله أمانة لا يصير مضمونا بالشرط ، وما يكون مضمونا لا يصير أمانة بشرط ، لأنّه لو شرط على المستام أن يكون مال السوم أمانة ، لم يصر أمانة بالشرط.

ص: 508


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 17.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص 247.

إذا شهد شاهدان على رجل بأنّه أعتق عبده الذي في يده فإن كانا عدلين ، حكم بعتق العبد ، وإن لم يكونا عدلين ، فردّت شهادتهما ، ثم اشتريا ذلك العبد من المشهود (1) ، صحّ الشراء ، وعتق عليهما ، ويفارق ذلك ، إذا قال رجل لامرأة : أنت أختي ، فأنكرت المرأة ، ثمّ أنّه تزوّج بها ، في أنّه لا يصحّ العقد ، لأنّه قد أقر أن فرجها حرام عليه ، فإذا تزوّج بها ، لم يقصد إلا المقام على الفرج الحرام ، فلذلك لم يصح ، وليس كذلك إذا اشتريا العبد ، لأنّهما يقصد ان غرضا صحيحا ، وهو استنقاذه من الرق ، فافترقا.

إذا قال : له عليّ ألف دينار من ضرب كذا ، أو سكة كذا وكذلك إذا قال له على درهم من ضرب كذا وسكة كذا (2) ونقد كذا قبل منه تفسيره ، إذا انطلق عليها اسم الذهب المتعامل به ، وكذلك الدراهم المتعامل بها ، وإن كانت ردية ، فإن كانت دراهم لا فضة فيها بحال ، لا يقبل منه ، وكذلك حكم الدّنانير ، هذا إذا كان تفسيره بالصفة متصلا بالإقرار ، فأمّا إن كان منفصلا ، لا يقبل منه ذلك التفسير ، بل يرجع في إطلاق إقراره إلى نقد البلد الذي هو فيه وغالبه.

إذا قال يوم السبت : لفلان عليّ درهم ، ثمّ قال يوم الأحد : له عليّ درهم ، لم يلزمه إلا درهم واحد ، ويرجع إليه في التفسير ، فأمّا إذا قام يوم السبت : لفلان عليّ درهم من ثمن عبد ، ثم قال يوم الأحد : له عليّ درهم من ثمن ثوب ، لزمه درهمان ، لأنّ ثمن العبد غير ثمن الثوب. ويفارق ذلك إذا قال مطلقا من غير اضافة إلى سبب ، لأنّه يحتمل التكرار ، وكذلك إذا أضاف كلّ واحد من الإقرارين إلى سبب غير السبب الذي أضاف إليه الآخر.

إذا قال : له عليّ ما بين الدرهم إلى العشرة ، لزمه ثمانية ، لأنّه أقرّ بما بين الواحد والعاشر ، والذي بينهما ثمانية ، وكذلك إذا قال : له عليّ من درهم إلى

ص: 509


1- ج : من المشهود عليه.
2- نسخة « ج » خالية عن الإقرار بالدرهم.

عشرة ، وقال بعض الناس : يلزمه تسعة ، والأول هو الصحيح ، لأنّه اليقين ، وهذا محتمل ، فلا نعلّق على الذمة شيئا بأمر محتمل.

إذا ادّعى عليه رجل مالا بين يدي الحاكم ، وقال : لا أقرّ ولا أنكر ، قال له الحاكم : هذا ليس بجواب ، فأجب بجواب صحيح ، فإن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمن على خصمك ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، فالمستحب أن يكرر ذلك عليه ثلاث مرات ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، جعله ناكلا وردّ اليمن على صاحبه ، وإن ردّ اليمين بعد المرة الأولى جاز ، لأنّه هو القدر الواجب ، وإنّما جعلناه ناكلا بذلك ، لأنّه لو أجاب بجواب صحيح ، ثمّ امتنع عن اليمين ، جعل ناكلا ، فإذا امتنع عن الجواب واليمين ، فأولى أن يكون ناكلا بذلك.

فأمّا إذا قال : لي عليك ألف درهم ، فقال : نعم ، أو قال : أجل ، كان ذلك إقرارا.

إذا قال لامرأته : قد طلقتك بألف ، وقبلت ذلك ، وبذلته لي ، لأجل أنّك كرهت المقام معي ، فأنكرت ، كان القول قولها مع يمينها ، فإذا حلفت ، سقطت الدعوى ، ولزمه الطلاق البائن بإقراره ، ولم يثبت له الرجعة.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا أقرّ ببنوّة صبي ، لم يكن ذلك إقرارا بزوجية امه ، ثمّ قال : دليلنا أنّه يحتمل أن يكون الولد من نكاح صحيح ، ويحتمل أن يكون من نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ، وإذا احتمل الوجوه ، لم يحمل على الصحيح دون غيره ، وقوله باطل ببنوّة أخيه (1) هذا آخر كلام شيخنا.

قال محمّد بن إدريس : معنى قوله رحمه اللّه : « وقوله » يريد قول الخصم « باطل ببنوة أخيه » يريد بذلك أنّ رجلا آخر أقرّ بولد آخر ، أخ لهذا المقرّ به من امّه ، فإنّه يلزم على قول من ذهب من المخالفين ، أنّ ذلك يكون إقرارا بزوجيّة امه أن تكون المرأة أم الولدين اللذين قد أقرّ رجل ببنوّة أحدهما ، وأقرّ آخر

ص: 510


1- الخلاف : كتاب الإقرار ، مسألة 31. مع تقطيع في العبارة.

ببنوّة الآخر ، زوجة للمقربين معا ، في حال ما أقرّا بالولدين ، وهذا لا يقوله أحد ، ان امرأة واحدة يكون زوجة لرجلين في حال واحدة ، فليتأمّل ذلك ، فقول شيخنا فيه غموض وإجمال ، يحتاج إلى بيان.

إذا قال لفلان عليّ ألف درهم ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : من ثمن مبيع لم أقبضه ، لزمه الألف ، ولم يقبل منه ما ادّعاه من البيع ، لأنّه أقرّ بالألف ، ثمّ فسره بما يسقطه ، وكذلك لو قال : لفلان عليّ ألف درهم ، ثمّ سكت ، ثمّ قال وقد قبضها ، وكذلك إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ سكت ، ثم قال : لم أقبضه (1) ، لا فرق بين الموضعين ، سواء وصل قوله بثمن مبيع ، ثمّ قال : لم أقبضه ، أو فصله ، لا فرق بين الموضعين ، لأنّه أقرّ بمال الآدمي ، ولفظ الإقرار ، لفظ التزام وإيجاب متقدّم ، وإذا ثبت حقّ الآدمي ، فلا دلالة على إسقاطه ، وتعقيبه بما وصله ، لا يسقطه ، لأنّه على غير وجه الاستثناء ، لأنّ الاستثناء هو المسقط لبعض ما اشتمل عليه ، لأنّه يخرج من الجمل ، ما لولاه لوجب دخوله تحته ، أو لصلح دخوله تحته ، على أحد القولين ، وليس لنا ما يسقط من الجمل والكلام إذا تعقبه ، إلا الاستثناء فحسب ، لأنّه ثبت من اللسان والعرف الشرعي واللغوي ، فقلنا به. مع أنّه لا يجوز أن يسقط جميع الجملة ، ومتى استثنى جميع الجملة ، كان الاستثناء باطلا.

ومن ذهب إلى خلاف ما نحن عليه يسقطه (2) جملة ، لأنّ الشافعي يذهب إلى أنّه إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ سكت ، ثمّ قال لم أقبضه قبل منه ، لأنّ قوله بعد السكوت لم أقبضه ، لا ينافي إقراره الأول ، لأنّه قد يكون عليه ألف درهم ثمنا ، ولا يجب عليه تسليمها حتى يقبض المبيع ، ولأنّ الأصل عدم القبض ، فإذا قال (3) : له عليّ ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه ، لم

ص: 511


1- هنا ينتهى كلام الشيخ قدس سره في المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 34.
2- ج : يسقط جمله
3- هذا أول المسألة 24 من كتاب الإقرار ، من كتاب الخلاف ، باختلاف يسير.

يلزمه ، ولا فرق بين أن يعيّن المبيع أو يطلقه ، هذا قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا عيّنه ، قبل منه وصل أو فصل ، وإن أطلقه لم يقبل منه ، ولزمه الألف ، واستدلّ الشافعي أنّه أقرّ بحقّ في مقابلة حقّ لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فإذا لم يسلم ماله ، لم يلزمه ما عليه ، واختار شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، وفي مبسوطة ، قول الشافعي ، وزاد على استدلال الشافعي ، بأن قال : إن الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على أنّه يلزمه ، هذا آخر كلامه واستدلاله ، ولم يتمسك بإجماع الفرقة ، ولا بالأخبار ، ولا بكتاب اللّه تعالى ، لأنّ ذلك لا إجماع عليه ، ولا سنّة متواترة ، ولا كتاب اللّه سبحانه.

فأمّا قوله رضي اللّه عنه : الأصل براءة الذمة ، فصحيح من قبل أن يقرّ المقرّ بحق الآدمي ، فأمّا بعد الإقرار فقد انتقل من ذلك الأصل ، وعاد الأصل ثبوت حق الآدمي ، فمن أسقطه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، بل هذا من تخريجات المخالفين ، واستحساناتهم ، ومقاييسهم ، واجتهاداتهم ، وآرائهم ، ولقد كفينا بحمد اللّه جميع ذلك من لزوم الأصول ، وانّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، بما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، وأنّه لا يجوز له الرجوع عنه ، ولا إسقاطه ، ولا إسقاط شي ء منه ، إلا بما قد أجمعنا عليه من إسقاط بعضه بالاستثناء فحسب ، لما دللنا عليه.

ولم يذهب أحد من أصحابنا إلى هذا المقال ، ولا أودعه في كتاب ، سوى شيخنا أبي جعفر في هذين الكتابين المشار إليهما ، وهما المبسوط ومسائل الخلاف ، لأنّهما فروع المخالفين ، وما عداهما من سائر كتبه ، لم يتعرّض لذلك بقول.

وقلّده ونقل من مسطورة ابن البراج ، (1) كما قلّده في غير ذلك ممّا أجمعنا على خلافه ، من أنّ الإنسان إذا باع جارية حاملا ، لا يجوز له أن يستثنى الحمل ،

ص: 512


1- في المهذب : كتاب الإقرار ، ص 413.

لأنّه يجري مجرى بعض أعضائها (1).

وقد دللنا على فساد ذلك فيما مضى.

ولا فرق بين أن يقول ذلك ، ويقبل منه ، وبين أن يقول له عليّ ألف درهم قضيتها ، أو ألف درهم من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو من ثمن مبيع لم أقبضه ، أو تلف قبل القبض ، فانّ شيخنا أبا جعفر في مبسوطة ، قال : فمتى أقرّ بكفالة بشرط الخيار ، أو بضمان بشرط الخيار ، مثل أن يقول : تكفلت لك ببدن فلان ، أو ضمنت لك مالك على فلان ، على أني بالخيار ثلاثة أيام ، فقد أقرّ بالكفالة ، ووصل إقراره بما يسقطها ، فلا يقبل إلا ببيّنة ، وكذلك إذا قال : له عليّ ألف درهم قضيتها ، أو ألف درهم من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو من ثمن مبيع تلف قبل القبض (2).

فهذا جميعه أورده شيخنا مستدلا على أنّه إذا أقرّ بشي ء ، ووصل إقراره بما يسقطه ، فلا يقبل قوله إلا ببيّنة ، فيلزمه مثل ذلك فيما اختاره من أنّه يقبل قوله ، إذا وصل إقراره بقوله له عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ قال : لم أقبضه ، إذ لا فرق بينهما ، وهو قائل في أحدهما بغير ما قال في الآخر ، واستدلاله فاض عليه ، وهو محجوج بقوله الذي قال فيه : إذا أقرّ بشي ء ، ووصل إقراره بما يسقطه ، فلا يقبل قوله إلا ببيّنة.

وإذا قال : لفلان عليّ ألف درهم مؤجلا إلى وقت كذا ، لزمه الألف ، ولا يثبت التأجيل ، ولشيخنا في ذلك قولان ، أحدهما أنّه يثبت التأجيل ، ويقول في موضع آخر : لا يثبت التأجيل ، وهذا الذي يقوى في نفسي لما دللنا عليه أولا.

الإقرار بالعجمية يصح ، كما يصح بالعربية ، لأنّها لغة ، ولأنّها تنبئ عمّا في النفس من الضمير كالعربية ، فإذا أقرّ بالعجمية عربي ، أو أقرّ بالعربية عجمي ، فإن كان عالما بمعنى ما يقوله ، لزمه إقراره ، وإن قال : قلت ذلك ولا أعرف

ص: 513


1- جواهر الفقه : مسائل البيع.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 35 ، مع تقطيع في العبارة.

معناه ، فان صدّقه المقرّ له ، لم يلزمه شي ء فإن كذّبه فالقول قول المقرّ مع يمينه أنّه لم يدر معناه ، لأنّ الظاهر من حال العربي أنّه لا يعرف العجمية ، ومن حال العجمي أنّه لا يعرف العربية ، فقدّم قوله لهذا الظاهر.

إذا شهد عليه شهود بإقراره ، ولم يقولوا : « وهو صحيح العقل » صحّت الشهادة بذلك الإقرار ، لأنّ الظاهر صحة إقراره ، ولأنّ الظاهر أنّهم لا يتحملون الشهادة على من ليس بعاقل ، فإذا ادّعى المقرّ المشهود عليه أنّه أقرّ وهو مجنون ، وأنكر المقرّ له ذلك ، كان القول قوله مع يمينه ، لأنّ الأصل عدم الجنون ، فأمّا إذا شهد عليه الشهود بالإقرار ، فادّعى أنّه كان مكرها على ذلك ، لم يقبل منه ، لأنّ الأصل عدم الإكراه ، فإن أقام البيّنة على أنّه كان محبوسا أو مقيّدا وادّعى الإكراه ، قبل منه ذلك ، وكان القول قوله مع يمينه لأنّ الظاهر من حال المحبوس والمقيّد ، انّه مكره على تصرفه وإقراره.

إذا أقرّ الصبي على نفسه بالبلوغ ، نظر ، فإن لم يبلغ بعد القدر الذي يجوز أن يبلغ فيه ، لم يقبل إقراره ، وإن كان بلغ القدر الذي يبلغ فيه ، صحّ إقراره ، وحكم ببلوغه ، لأنّه أقرّ بما يمكن صدقه فيه.

الإقرار بالنسب لا يخلو من أحد أمرين.

إمّا أن يكون المقرّ بالنسب ، مقرا على نفسه بنسب ، أو غيره ، فان كان على نفسه ، مثل أن يقر بأنه ابنه ، نظر ، فان كان المقر به صغيرا اعتبر فيه ثلاثة شروط.

أحدها أن يمكن أن يكون ولدا له ، وإن لم يمكن أن يكون ولدا له ، فلا يثبت ، مثل أن يقرّ به ، وللمقرّ ستة عشر سنة ، وللمقرّ به عشر سنين ، والثاني أن يكون مجهول النسب ، لأنّه إذا كان معروف النسب فلا يثبت ، والثالث لا ينازعه فيه غيره لأنّه إذا نازعه فيه غيره ، لم يثبت ما يقول الّا ببيّنة ، فإذا حصّلت هذه الشروط الثلاثة ثبت النسب.

ص: 514

إذا أذن الرجل لعبده في النكاح ، فتزوّج بامرأة بمهر ، وضمن السيد ذلك المهر ، ثمّ انّه باع العبد منها بقدر المهر الذي لزمه ، لم يصح البيع ، لأنّ إثباته يؤدي إلى إسقاطه ، والمسألة مفروضة ، إذا اشترته زوجته قبل الدخول بها ، لأنّا إذا صححنا ذلك البيع ، ملكت المرأة زوجها ، وإذا ملكته انفسخ النكاح ، وإذا انفسخ النكاح ، سقط المهر ، لأنّه فسخ جاء من قبلها قبل الدخول ، وكل فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول أسقط جميع المهر ، فإذا سقط المهر ، عري البيع عن الثمن ، والبيع لا يصحّ إلا بالثمن ، فلما كان إثباته يؤدّي إلى إسقاطه ، لم يثبت.

إذا تسلّم المقرّ له ما حصل الإقرار به ، واستحق ببعض وجوه الاستحقاقات ، نزع من يده ، وسلم إلى مستحقه ، ولا درك للمقرّ له على المقرّ ، لاختصاص فائدة الإقرار بإسقاط حقّ المقرّ فحسب ، فإن اقترن بإقراره ضمان الدرك ، فمنع مانع من التسليم ، أو استحق بعده ، فعليه دركه من حيث كان ضمان المقرّ للدرك دلالة للحاكم ، على أنّ الإقرار حصل عن استحقاق يقتضي ضمان الدرك.

وإن كان الإقرار بعد تقدّم دعوى لقائم العين كالدار والفرس ، أو بمعيّن في الذمة ، كالدين وثمن المبيع ، والأجرة ، والأرش ، وما أشبه ذلك ، فعلى الحاكم إلزامه بالخروج إلى المقرّ له ، ممّا تعلّق بذمته ، وتسليم ما في يده من الأعيان القائمة ، فإن قامت بيّنة بعد التسليم باستحقاق عين المقرّ به ، فعلى الحاكم نزعه من يد المقرّ له به ، ولا ضمان عليه ، إلا أن يقترن الإقرار بالضمان ، أو يكون من حقوق الذمم ، كالديون وغيرها ، فيضمن على كلّ حال ، فلتلحظ هذه الجملة ، وتتأمل.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة في كتاب الإقرار : إذا أعتق رجل عبدين في حال صحّته ، فادّعى عليه رجل أنّه غصبهما منه ، وأنّهما مملوكان له ، فأنكر ذلك المعتق ، فشهد له المعتقان بذلك ، لم تقبل شهادتهما ، لأنّ إثبات شهادتهما يؤدّي إلى إسقاطها ، لأنّه إذا حكم بشهادتهما ، لم ينفد العتق ، وإذا لم ينفذ العتق ، بقيا على رقهما ، وإذا بقيا على رقهما ، لم تصح شهادتهما ، فلمّا كان إثباتها

ص: 515

يؤدّي إلى إسقاطها ، لم يحكم بها ، قال رحمه اللّه ، وهذا على مذهبنا أيضا ، لا تقبل شهادتهما ، لأنّا لو قبلناها ، لرجعا رقين ، وتكون شهادتهما على المولى ، وشهادة العبد لا تقبل على مولاه ، فلذلك بطل ، لا لما قالوا (1) هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة.

قال محمّد بن إدريس : ما ذهب إليه شيخنا رحمه اللّه في ذلك ، غير واضح ، بل هو ضد لما عليه إجماعنا وتواتر أخبارنا (2) بغير خلاف ، وقد أورد ذلك في نهايته (3) ، إنّ شهادتهما مقبولة.

وما اعتل به غير مستقيم ، لأنّهما في حال شهادتهما وإقامتها وسماع الحاكم لها لم يكونا عبدين ، بل كانا حرين على ظاهر الحال ، بغير خلاف ، فما شهدا في حال ما شهدا وأقاما ، إلا على غير سيدهما ، فلا يؤثر بعد ذلك ما يتعقب الشهادة ، لأنّ المؤثرات في وجوه الأحكام ، لا يكون لها حكم ، إلا أن تكون مقارنة غير متأخرة ، بل إن قيل : إنّ شهادتهما لسيدهما الحقيقي لا عليه ، كان صحيحا ، ومثل هذه المسألة بل هي بعينها من الحكم منصوصة لأصحابنا ، الرواية بها متواترة ، لا يتعاجم في ذلك اثنان من أصحابنا.

وأيضا فالشاهد إذا شهد عند الحاكم ، وكان وقت شهادته مقبول الشهادة ، لا يؤثّر بعد ذلك ما يطرأ عليه من تجدد فسق ، بل يجب على الحاكم الحكم بشهادته ، فلو شرب بعد إقامة شهادته بلا فصل خمرا ، وقبل الحكم بها ، فإنّ الحاكم يحكم بها ، ولا يطرحها بغير خلاف بيننا ، إلا أن يرجع الشاهد عنها قبل الحكم بها ، فيطرحها الحاكم إذا كان رجوعه قبل الحكم بها ، فأمّا إذا كان رجوعه عنها بعد الحكم بها ، فلا يرجع الحاكم عن الحكم بها ، ولا ينقض حكمه.

ص: 516


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 42.
2- الوسائل : الباب 23 ، ح 7 ، والباب 29 ، ح 1 ، من أبواب الشهادات.
3- النهاية : كتاب الشهادة ، باب شهادة العبيد والإماء ، والعبارة هكذا : وإذا شهد العبد على سيّده بعد أن يعتق قبلت شهادته عليه.

كتاب النكاح

اشارة

ص: 517

كتاب النّكاح

قال اللّه تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (1) فندب تعالى إلى التزويج ، وقال عزّ اسمه ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) (2) فندب إلى التزويج ، وقال تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (3) فمدح تعالى من حفظ فرجه إلا على زوجه أو ملك يمينه ، وروى ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : معاشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة ، فليتزوج ، ومن لا يستطيع فعليه بالصوم ، فإن له وجاء (4) فجعله كالموجوء ، وهو الذي رضّت خصيتاه ، ومعناه أنّ الصوم يقطع الشهوة.

قال محمّد بن إدريس : الباءة النكاح بعينه ، ونظيرها من الفعل فعلة بفتح الفاء والعين ، وفيها لغة أخرى باءه بهاء أصلية ، ونظير ذلك من الفعل فاعل ، كقولك عالم ، وخاتم ، وفيها لغة أخرى الباه ، مثل الجاه.

وروي عنه عليه السلام أنّه قال : « من أحبّ فطرتي فليستن بسنّتي ، ألا وهي النكاح » (5) وقال عليه السلام : « تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط » (6).

وأجمع المسلمون على أنّ التزويج مندوب إليه ، وإن اختلفوا في وجوبه.

ص: 518


1- النساء : 3.
2- النور : 32.
3- المؤمنون : 5 و 6 والمعارج : 29 و 30.
4- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 21 ، 17 لكن الزيادة في العبارة في الأوّل والنقيصة في الثاني.
5- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 6 باختلاف يسير.
6- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 21 ، 17 لكن الزيادة في العبارة في الأوّل والنقيصة في الثاني.

فإذا ثبت ذلك ، فيحتاج أولا أن نبيّن من يحرم نكاحه ، ثم نبيّن أقسام النكاح المباح ، وشروطه ، والأسباب الموجبة لتحريم الوطء بعد صحة العقد ، وما يتعلّق بذلك كلّه من الأحكام.

فنقول : من يحرم عليه العقد عليهن على ضربين ، أحدهما يحرم على كل حال ، والثاني يحرم في حال دون حال.

فالضرب الأول المحرّمات بالنسب ، أوهن ست ، الأم وإن علت ، والبنت وإن نزلت ، والأخت ، وبنت الأخ ، والأخت ، وإن نزلتا ، والعمّة ، والخالة وإن علتا ، بلا خلاف.

والمحرّمات بالرضاع وهن ست أيضا كالمحرّمات بالنسب ، إلا أنّ الراضع من لبن المرأة يحرم عليه كلّ من ينتسب إلى بعلها بالولادة والرضاع ، ولا يحرم عليه من ينتسب إلى المرأة إلا بالولادة دون الرضاع.

ولا يقتضي التحريم الرضاع إلا بشروط.

منها أن يكون سنّ الراضع دون سنّ المرتضع من لبنه دون الحولين ، وقد ذهب بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له إلى أن قال : منها أن يكون سن الراضع والمرتضع من لبنه دون الحولين ، وهذا خطأ من قائله ، لأنّ الاعتبار بسن الراضع ، لأنّ المرأة إذا كان بها لبن ولادة حلال ، ومضى لها أكثر من حولين ، ثمّ أرضعت من له أقلّ من حولين الرضاع المحرم ، انتشرت الحرمة ، ويتعلّق عليه وعليها أحكام الرضاع بغير خلاف من محصّل.

واعتبارنا الحولين في المرتضع لدليل إجماع الطائفة ، وأيضا قوله تعالى : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (1) لأنّ المراد إثبات الرضاع الشرعي الذي تتعلّق به الحرمة ، بدليل أنّه تعالى

ص: 519


1- البقرة : 233.

لا يجوز أن يريد الرضاع اللغوي ، لأنّه ينطلق على ما يحصل بعد الحولين وقبل تمامها ، ولا يريد نفي جوازه دونهما أو بعدهما ، لأنّ ذلك جائز. بلا خلاف ، ولا نفي الكفاية بدونهما أو بعدهما ، لأنّ الكفاية قبل تمامها قد تحصل بلا شبهة ، فلم يبق إلا ما قلناه.

ومن شرط تحريم الرضاع أن يكون لبن ولادة من عقد أو شبهة عقد ، لا لبن در أو لبن نكاح حرام ، بدليل إجماعنا.

ومنها أن يكون ما ينبت اللحم ويشد العظم ، فإن لم يحصل ذلك فيوما وليلة ، أو عشر رضعات متواليات ، على الصحيح من المذهب ، وذهب بعض أصحابنا إلى خمس عشرة رضعة ، معتمدا على خبر واحد ، رواية عمار بن موسى الساباطي (1) وهو فطحي المذهب ، مخالف للحق ، مع انّا قدّمنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل بها ، ولو رواها العدل ، فالأول مذهب السيد المرتضى وخيرته (2) ، وشيخنا المفيد (3) ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر الطوسي (4) ، والأوّل هو الأظهر الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الرضاع يتناول القليل والكثير ، فالإجماع حاصل على العشرة ، وتخصّصها ، ولأنّ بعض أصحابنا يحرم بالقليل من الرضاع والكثير ، ويتعلّق بالعموم ، فالأظهر ما اخترناه ففيه الاحتياط.

وكلّ رضعة من العشر رضعات تروي الصبي.

ولا يفصل بينها برضاع امرأة أخرى ، فأمّا إن فصل بين العشر رضعات بشرب لبن من غير رضاع ، فلا تأثير له في الفصل ، بل حكم التوالي باق بلا خلاف بين أصحابنا في جميع ذلك.

ص: 520


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، ح 1.
2- لم نعثر عليه.
3- في المقنعة : أبواب النكاح ، باب ما يحرم النكاح من الرضاع ، وما لا يحرم منه ص 503.
4- في النهاية : كتاب النكاح ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه ، وفي الخلاف : كتاب الرضاع ، المسألة 3.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّه لا يحرم من الرضاع عندنا إلا ما وصل إلى الجوف من الثدي ، من المجرى المعتاد الذي هو الفم ، فأمّا ما يوجر به ، أو يسعط ، أو ينشق ، أو يحقن به ، أو يحلب في عينه ، فلا يحرم بحال.

ولبن الميتة فلا حرمة له في التحريم.

ولا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين.

ولا يثبت الرضاع بشهادة النساء لا المرضعة ولا غيرها ، كثرن أو قللن ، على الظاهر من أقوال أصحابنا ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الشهادة.

والعمل بها حكم شرعي يحتاج إلى أدلة شرعيّة ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع.

ومن هذا الضرب من المحرمات أم المعقود عليها ، سواء دخل بالبنت أو يدخل ، لأنّ اللّه تعالى قال ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) (1) وهذه من جملة أمهات النساء ، ولم يشترط الدخول.

ومن هذا الضرب أيضا بنت المدخول بها ، سواء كانت في حجر الزوج أو لم تكن ، بلا خلاف إلا من داود ، فإنّه قال : إن كانت في حجره حرمت ، وإلا فلا ، ظنا منه أنّ قوله تعالى ( اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (2) شرط في التحريم ، وليس ذلك شرطا ، وانّما هو وصف لهن ، لأنّ الغالب في العادات أنّ الربيبة تكون في حجره.

ويحرم تحريم جمع ، أربع : وهما الأختان ، والمرأة وعمتها ، إلا برضاها عندنا ، فأمّا بين الأختين ، فلا يعتبر الرضا ، والمحرّم من الجمع بين المرأة وعمتها ، انّ التحريم ، إذا ارتفع الرضا ، وكانت الداخلة بنت الأخ ، أو بنت الأخت ، فأمّا إن كانت الداخلة العمة والخالة فلا تحريم ، عند أصحابنا ، سواء رضيت المدخول عليها ، أو لم ترض ، ومن تحريم الجمع المرأة وخالتها ، وجميع ما قلناه من

ص: 521


1- النساء : 23.
2- النساء : 23.

الأحكام بين المرأة وعمتها ، هو بعينه ثابت بين المرأة وخالتها ، حرفا فحرفا ، والمرأة وبنتها قبل الدخول ، فمتى طلّق الأم قبل الدخول حلّ له نكاح البنت ، إلا أن يدخل بالأم ، فتحرم الربيبة على التأبيد.

وكل من حرمت عينا ، تحرم جمعا ، وكلّ من حرمت جمعا ، لا تحرم عينا إلا الربيبة ، فإنها تحرم عينا تارة وجمعا أخرى ، لأنّه إذا عقد على المرأة حرم عليه نكاح بنتها قبل الدخول من حيث الجمع ، فإن طلّقها حلّ له نكاح الربيبة ، فإن دخل بها حرمت الربيبة على التأبيد ، وهكذا الحكم في الرضاع حرفا فحرفا.

وقد بيّنا أنّ الجمع بين الأختين في النكاح لا يجوز بلا خلاف ، لقوله تعالى ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (1).

فإذا ثبت أنّ الجمع محرم ، فله أن ينكح كلّ واحدة منهما على الانفراد. فان جمع بينهما ، فالجمع جمعان ، جمع مقارنة ، وجمع متابعة.

فالمتابعة أن يتزوج امرأة ، ثمّ يتزوج عليها أختها أو عمتها ، أو خالتها ، أو بنت أخيها ، أو بنت أختها ، فنكاح الثانية باطل ، ونكاح الاولى صحيح.

فأمّا جمع المقارنة ، فان يعقد عليهما معا في دفعة واحدة ، فإذا فعل هذا كان العقد باطلا على الصحيح من المذهب ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

وقال شيخنا رحمه اللّه في نهايته : يمسك أيّتهما شاء (2) ، والأظهر الأول.

وكذلك الحكم فيمن عنده ثلاث نسوة ، وعقد على اثنتين في عقد واحد ، فانّ العقد باطل ، لأنّه عقد منهي عنه.

وروي أنّه يمسك أيّتهما شاء منهما (3) ، والصحيح ما قدّمناه ، وقال بعض أصحابنا : تحرم أم المزني بها وابنتها.

ص: 522


1- النساء : 23.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
3- الوسائل : الباب 25 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، وكذلك ورد فيمن تزوج خمسا في عقد واحد في الباب 4 من أبواب ما يحرم باستيفاء العدد.

والأظهر والأصح من المذهب ، أنّ المزني بها لا تحرم أمها ولا ابنتها ، للأدلّة القاهرة من الكتاب والسنّة والإجماع ، وهذا المذهب الأخير ، مذهب شيخنا المفيد ، محمّد بن محمد بن النعمان (1) ، والسيد المرتضى (2) ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (3) ومسائل خلافه (4) ، وإن كان قد رجع عنه في التبيان ، في تفسير قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (5) الآية فقال : وأمّا المرأة التي وطأها بلا تزويج ، ولا ملك يمين ، فليس في الآية ما يدل على أنّه يحرم وطء أمها وبنتها : لأنّ قوله ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) وقوله ( مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) (6) يتضمن اضافة الملك ، إمّا بالعقد أو بملك اليمين ، فلا يدخل فيه من لا يملك وطيها ، غير أنّ قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد والملك ، بالسنة والأخبار المروية في ذلك (7) ، وفيه خلاف بين الفقهاء (8) هذا آخر كلامه في التبيان.

والذي يدل على صحة ما اخترناه ، أنّ الأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل ، وقوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (9) وهما داخلتان في عموم الآية ، وقول الرسول عليه السلام : « لا يحرّم الحرام الحلال » (10) ولا إجماع على ما ذهب إليه من خالف في هذه المسألة ، فلا يرجع عن هذه الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ويحرم على الأب زوجة الابن ، سواء دخل بها الابن أو لم يدخل. ويحرم

ص: 523


1- في المقنعة : أبواب النكاح ، باب الرجل يفجر بالمرأة ص 504.
2- في الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 7.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 79.
5- النساء : 23.
6- النساء : 23.
7- الوسائل : الباب 6 و 7 و 8 ، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
8- التبيان في تفسير القرآن : ج 5 ، ص 160.
9- النساء : 3.
10- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث 12.

على الابن زوجة الأب أيضا ، سواء دخل بها أو لم يدخل ، بمجرد العقد ، تحرم المرأتان تحريم أبد.

وقال بعض أصحابنا : يحرم على كلّ واحد منهما العقد على من زنى بها الآخر ، وتمسك في التحريم على الابن ، بقوله تعالى ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (1) وقال : لأنّ لفظ النكاح يقع على العقد والوطء معا.

قال محمّد بن إدريس : وهذا تمسك ببيت العنكبوت ، لأنّه لا خلاف أنّه إذا كان في الكلمة عرفان ، عرف اللغة وعرف الشرع ، كان الحكم لعرف الشرع ، دون عرف اللغة ، ولا خلاف أنّ النكاح في عرف الشرع هو العقد حقيقة ، وهو الطاري على عرف اللغة ، وكان ناسخا له ، والوطء الحرام لا ينطلق عليه في عرف الشرع اسم النكاح ، بغير خلاف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في كتاب العدة : إنّ النكاح اسم للوطء حقيقة ، ومجاز في العقد ، لأنّه موصل إليه ، وإن كان بعرف الشرع قد اختص بالعقد ، كلفظ الصلاة وغيرها (2) هذا آخر كلامه في عدته.

فقد اعترف أنّه قد اختص بعرف الشرع بالعقد ، وأيضا قوله تعالى « إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) (3) فقد سمى اللّه تعالى العقد نكاحا ، بمجرده ، وذهب الباقون من أصحابنا إلى أنّ ذلك لا يحرم على كلّ واحد منهما ما فعله الآخر.

وهذا مذهب شيخنا المفيد (4) ، والسيد المرتضى (5) ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأصل الإباحة ، ويعضده قوله تعالى « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » وهذه قد طابت ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في

ص: 524


1- النساء : 22.
2- عدة الأصول : ج 1 ، ص 169 - 170.
3- الأحزاب : 49.
4- في المقنعة : كتاب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن ص 500.
5- في الانتصار : كتاب النكاح ، مسألة 7.

بعض كتبه (1) وقول الرسول عليه السلام : « لا يحرّم الحرام الحلال » دليل على صحة ما قلناه واخترناه.

ويحرم العقد على الزانية ، وهي ذات بعل ، أو في عدة رجعية ، ممن زنى بها سواء علم في حال زناه بها أنّها ذات بعل ، أو لم يعلم تحريم أبد.

ومن أوقب غلاما أو رجلا حرم على اللائط الموقب بنت المفعول به ، وامه ، وأخته تحريم أبد ، ويدخل في تحريم الام تحريم الجدة ، وإن علت ، لأنّها أمّ عندنا حقيقة ، وكذلك بنت البنت ، وكذلك بنت ابن بنته ، وإن سفلن (2) لأنّهن بناته حقيقة ، وأمّا بنت أخته ، فإنّها لا تحرم ، لأنّ بنت الأخت ليست أختا.

وحدّ الإيقاب المحرّم لذلك ، إدخال بعض الحشفة ولو قليلا ، وإن لم يجب عليه الغسل ، لأنّ الغسل لا يجب إلا بغيبوبة الحشفة جميعها ، والتحريم لهؤلاء المذكورات ، يتعلّق بإدخال بعضها ، لأنّ الإيقاب هو الدخول.

فأمّا المفعول به فلا يحرم عليه من جهة الفاعل شي ء.

ويحرم أيضا على التأبيد ، المعقود عليها في عدة معلومة ، أيّ عدة كانت ، أو إحرام معلوم ، والمدخول بها فيهما على كلّ حال ، سواء كان عن علم أو جهل بها والمطلّقة تسع تطليقات للعدة ، ينكحها بينها رجلان ، تحرم تحريم أبدا على مطلّقها هذا الطلاق.

وتحرم أيضا تحريم أبد الملاعنة.

ومن قذف زوجته ، وهي صماء أو خرساء ، تحرم عليه تحريم أبد.

ويدلّ على تحريم ذلك أجمع ، إجماع أصحابنا عليه ، فهو الدليل القاطع على ذلك ، واستدلال المخالف علينا في تحليل هؤلاء بأنّ الأصل الإباحة ، وبظواهر القرآن ، كقوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3) وقوله : ( وَأُحِلَّ

ص: 525


1- في النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- ج : سفل.
3- النساء : 3.

لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) غير لازم ، لأنّا نعدل عن ذلك بالدليل الذي هو إجماعنا ، كما عدلوا عنه في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها بغير خلاف بينهم ، فإذا ساغ لهم العدول ، ساغ لغيرهم العدول عن العموم بالدليل ، لأنّه لا خلاف أنّ العموم قد يخص بالأدلة.

وحكم الإماء في التحريم بالنسب والرضاع وغيره من الأسباب ، حكم الحرائر.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة إذا زنى بامرأة ، فأتت ببنت ، يمكن أن تكون منه ، لم تلحق به ، بلا خلاف ، ولا يجوز له أن يتزوجها ، وبه قال أبو حنيفة. ثمّ حكى عن الشافعي جواز أن يتزوجها ، ثم استدل شيخنا على ما اختاره ، فقال : دليلنا ما دللنا عليه ، من أنّه إذا زنى بامرأة ، حرمت عليه بنتها ، وانتشرت الحرمة ، وهذه بنتها ، ثم قال : وأيضا قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ) (2) وهذه بنته لغة ، وإن لم تكن شرعا (3).

قال محمّد بن إدريس : لم تحرم عليه هذه البنت ، من حيث ذهب شيخنا إليه ، لأنّ عند المحصّلين من أصحابنا إذا زنى بامرأة لم تحرم عليه بنتها ، وقد دللنا على ذلك ، وقوله : هي بنته لغة ، فعرف الشرع ، هو الطارئ على عرف اللغة ، وإنّما تحرم عليه إذا كان الزاني مؤمنا ، لأنّ البنت المذكورة كافرة على ما يذهب إليه أصحابنا من أنّ ولد الزنا كافر ، ولا يجوز للمؤمن أن يتزوج بكافرة ، فمن هذا الوجه تحرم ، لا من الوجهين المقدّم ذكرهما.

وأمّا من يحرم العقد عليه في حال دون حال ، فأخت المعقود عليها بلا خلاف ، أو الموطوءة بالملك بلا خلاف ، إلا من داود بن علي الأصفهاني ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (4) لأنّه لم يفصّل.

والخامسة حتى تبين إحدى الأربع ، بما يوجب البينونة.

ص: 526


1- النساء : 24.
2- النساء : 23.
3- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 83.
4- النساء : 23.

والمطلقة ثلاثا سواء كان ذلك طلاق العدّة ، أو طلاق السنّة ، على ما تبينه ، حتى تنكح زوجا غيره مخصوصا ، نكاحا مخصوصا ، ويدخل بها دخولا مخصوصا ، وتبين منه ، وتنقضي العدة.

والمطلّقة التي تلزمها العدّة حتى تخرج من عدّتها.

ومن عليها عدّة وإن لم تكن مطلّقة ، حتى تخرج من العدّة ، كلّ هذا بدليل إجماعنا.

وبنت الأخ على عمتها ، وبنت الأخت على خالتها ، بغير إذن ورضاء منهما عندنا.

والأمة على الحرة بغير إذنها ورضاها.

والزانية حتى تتوب على الزاني بها ، إذا لم تكن ذات بعل عند بعض أصحابنا ، وهو الذي ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال : ذلك على الاستحباب دون الوجوب (2) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، لأنّ الأصل الإباحة ، وقوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3).

ويحرم عقد الدوام على الكافرة ، وإن اختلفت جهات كفرها ، حتى تتوب من الكفر ، إلا على وجه نذكره بدليل إجماع الطائفة ، ولقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (4) وقوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (5) وقوله ( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (6) لأنّه نفى بالظاهر للتساوي في جميع الأحكام التي من جملتها المناكحة ، فأمّا قوله تعالى ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (7) نخصّه بالنكاح المؤجل ، فإنّه جائز عند بعض أصحابنا على الكتابيات اليهود والنصارى ، دون المجوسيات ، أو نحمله عليهن ، إذا كنّ مسلمات ، بدليل ما قدّمناه ، ولا يمتنع أن يكون من جهة

ص: 527


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 71.
3- النساء : 3.
4- الممتحنة : 10.
5- البقرة : 221.
6- الحشر : 20.
7- المائدة : 5.

الشرع قبل ورود هذا البيان فرق بين من آمنت بعد كفر ، وبين من لم تكفر أصلا ، فيكون في البيان لإباحة نكاح الجميع فائدة.

فإن قالوا : لستم بتخصيص هذه الآية بما ذكرتموه ، ليسلم لكم ظواهر آياتكم بأولى منا ، إذا خصصنا ظواهركم بالمرتدات ، والحربيات ليسلم لنا ظواهر الآيات التي نستدل بها.

قلنا : غير مسلّم لكم التساوي في ذلك ، نحن أولى بالتخصيص منكم ، لأنّكم تعدلون عن ظواهر كثيرة ، ونحن نعدل عن ظاهر واحد ، وإذا كان العدول عن الحقيقة إلى المجاز انّما يفعل للضرورة ، فقليله أولى من كثيره بغير شبهة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويحرم وطء جارية قد ملكها الأب أو الابن ، إذا جامعاها ، أو نظرا منها إلى ما يحرم على غير مالكها النظر إليه ، أو قبلاها بشهوة (1).

قال محمّد بن إدريس : امّا إذا جامعاها ، فلا خلاف في ذلك من جهة الإجماع ، ولو لا الإجماع لما كان على حظر ذلك دليل من جهة الكتاب أو السنّة المتواترة ، فأمّا إذا قبلاها ، أو نظرا إليها على ما قال رحمه اللّه ، فلا إجماع على حظر ذلك ، بل الأصل الإباحة ، مع قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) وقوله ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (3) وهذا مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (4) ، والفقيه أبي يعلى سلّار رحمهما اللّه (5) ، وبه افتي.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا ملك الرجل جارية ، فوطأها ابنه قبل أن يطأها ، حرم على الأب وطؤها ، فإن وطأها بعد وطء الأب لم يحرم ذلك على الأب وطؤها (6).

ص: 528


1- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- النساء : 3.
3- النساء : 3.
4- في المقنعة : أبواب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن ، آخر الباب ص 502.
5- في المراسم : كتاب النكاح ، والعبارة هكذا : وقد روي أنّ الأب إذا نظر من أمته إلى ما يحرم على غيره النظر إليه بشهوة لا تحلّ لابنه أبدا.
6- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

قال محمّد بن إدريس : لا فرق بين الأمرين في أنّ ذلك لا يحرّمها على الأب ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : لا يحرّم الحرام الحلال (1) وقال تعالى :

( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) وهذه قد طابت ، وقال تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (3) وهذه ملك يمين ، والأصل الإباحة أيضا ، فلا يرجع عن هذه الأدلة القاهرة بأخبار الآحاد ، إذ لا إجماع منعقد على تحريم هذه الجارية على الأب ، ولا نص كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ودليل العقل غير مانع من وطيها ، وإلى هذا ذهب شيخنا ، أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه ، في كتابه ، كتاب من لا يحضره فقيه ، قال : وإن زنى رجل بامرأة ابنه أو امرأة أبيه ، أو بجارية ابنه ، أو بجارية أبيه ، فإنّ ذلك لا يحرّمها على زوجها ، ولا يحرم الجارية على سيّدها ، وانّما يحرّم ذلك إذا كان ذلك منه بالجارية وهي حلال ، فلا تحل تلك الجارية أبدا لابنه ، ولا لأبيه (4) هذا آخر كلام ابن بابويه.

ونعم ما قال ، فإنّه كان ثقة جليل القدر ، بصيرا بالأخبار ، ناقدا للآثار ، عالما بالرجال ، حفظة ، وهو أستاذ شيخنا المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان.

وقد روى أنّ من فجر بعمته أو خالته لم تحل له ابنتاهما أبدا (5) ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (6) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (7) ، والسيد المرتضى في انتصاره (8) ، فإن كان على المسألة إجماع ، فهو الدليل عليها ، ونحن قائلون وعاملون بذلك ، وإن لم يكن إجماعا ، فلا دليل على تحريم البنتين المذكورتين ، من كتاب ولا سنّة ، ولا دليل عقل ، وليس دليل الإجماع في قول رجلين ، ولا

ص: 529


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 12.
2- النساء : 3.
3- النساء : 3.
4- من لا يحضره الفقيه : باب ما أحلّ اللّه عزوجل من النكاح وما حرّم منه ، ج 3 ، ص 293 ، ذيل الحديث 41.
5- الوسائل : الباب 10 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
7- المقنعة : أبواب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن ص 501.
8- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 7.

ثلاثة ، ولا من عرف اسمه ونسبه ، لأنّ وجه كون الإجماع حجة عندنا ، دخول قول معصوم من الخطأ في جملة القائلين بذلك ، فإذا علمنا في جماعة قائلين بقول أنّ المعصوم ليس هو في جملتهم ، لا نقطع على صحة قولهم إلا بدليل غير قولهم ، وإذا تعيّن المخالف من أصحابنا باسمه ونسبه ، لم يؤثر خلافه في دلالة الإجماع ، لأنّه انّما كان حجة لدخول قول المعصوم فيه ، لا لأجل الإجماع ، ولما ذكرناه يستدل المحصّل من أصحابنا على المسألة بالإجماع ، وإن كان فيها خلاف من بعض أصحابنا المعروفين بالأسامي والأنساب ، فليلحظ ذلك وليحقق.

وإذا تزوج الرجل بصبية لم تبلغ تسع سنين ، فوطأها قبل التسع ، لم يحل له وطؤها أبدا ، وهو بالخيار بين أن يطلّقها ، أو يمسكها ، ولا يحلّ له وطؤها أبدا ، وليس بمجرد الوطء تبين منه ، وينفسخ عقدها كما يظن ذلك من لا يحصل شيئا من هذا الفن ، ولا يفهم معنى ما يقف عليه من سواد الكتب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا تزوج الرجل بصبيّة لم تبلغ تسع سنين ، فوطأها ، فرّق بينهما ، ولم تحل له أبدا (1).

معنى قوله رحمه اللّه « فرق بينهما » المراد بذلك في الوطء ، دون بينونة العقد وانفساخه ، لأنّ الإجماع منعقد منه رحمه اللّه ومن أصحابنا بأجمعهم ، أنّ من دخل بامرأة (2) ووطأها ولها دون تسع سنين ، وأراد طلاقها ، طلّقها على كلّ حال ، ولا عدّة عليها منه بعد الطلاق ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، فإذا كانت قد بانت بوطئه لها قبل بلوغها التسع ، فلا حاجة إلى طلاقها ، ولا يتقدر ذلك بحال.

وقد كنّا أملينا مسألة قبل تصنيفنا لهذا الكتاب بسنين عدة ، في هذا المعنى ، فأحببنا إيرادها هاهنا ، وها هي.

إن سأل سائل فقال : أرى في معظم كتبكم مسألة ظاهرها متضاد متناف ،

ص: 530


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- ل. ق : بامرأته.

وهي من وطأ زوجته ولها دون تسع سنين ، حرّمت عليه أبدا ، وفرّق بينهما بغير خلاف بينكم في ذلك ، هذا في أبواب النكاح من تصانيف أصحابكم ، ثمّ في أبواب الطلاق وأقسامه يذكر هؤلاء أصحاب الكتب والتصانيف من أصحابكم بغير خلاف بينهم ، أقسام الطلاق ، ومن تجب عليها عدّة ، ومن لا تجب ، فيقولون : من دخل بامرأته (1) ولها دون تسع سنين ، وأراد طلاقها ، فليطلّقها على كلّ حال ، وليس له عليها بعد طلاقه لها عدة ، وإن كانت مدخولا بها على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقد قلتم انّ من دخل بزوجته ولها دون تسع سنين ، لا تحل له أبدا ، وحرّمت عليه أبدا ، ويفرّق بينهما ، فإذا كان قد حرّمت عليه أبدا ولا تحلّ له ابدا ، فلا تحتاج حينئذ إلى طلاق ، لأن من يحرم أبدا وطؤها على زوجها ، ولا تحلّ له أبدا ، كيف تقولون إذا أراد طلاقها فليطلقها ، وهذا ظاهره متناقض متناف كما ترى.

قلنا : ليس بين القول بصحة طلاق من ذكر في السؤال ، وبين تحريم وطئها على زوجها أبدا وأنّها لا تحلّ له أبدا ، تناف ولا تضاد ، ولا تناقض ، على ما ظنه السائل ، واعتقده ، وأي تضاد بين تحريم وطئها على زوجها وصحة طلاقها ، لأنّ صحة الطلاق مبنيّ على صحة العقد ، ولا خلاف في صحة عقدها أولا وأنّها زوجته ، فطريان التحريم ، وإن وطئها لا يحل له أبدا ، لا يخرجها من كونها زوجة له ، وإن عقدها الأول غير صحيح ، أو قد انفسخ ، إذ لا تنافي بين الحكمين ، لأنّ الأصل صحة العقد واستدامته ، فمن ادّعى بطلانه بوطئه لها قبل بلوغها تسع سنين يحتاج إلى دليل.

فإن قيل : كيف يكون عقدها ثابتا على ما كان عليه أولا ، وهو. لا يحل له وطؤها أبدا؟

قلنا : هذا غير مستبعد من الأحكام الشرعية والمصالح الدينية ، لأنّا نثبتها

ص: 531


1- ج : بامرأة.

بحسب الأدلة ، إذ لا تنافي بينهما على ما مضى ذكره ألا ترى أنّ من ظاهر من امرأته أو آلى منها ولم يكفر عن ظهاره ولا عن إيلائه ، ولا رافعته إلى الحاكم ، واستمر ذلك منها مائة سنة ، فإنّ نكاحها محرّم عليه ، ولا يحل له وطؤها بغير خلاف ، وهي زوجته وعقدها باق ، ويصح طلاقها بغير خلاف ، إذ لا تنافي بينهما ، وكذلك من كان في فرجها قرح أو ألم يضرها الوطء ، ويخشى على نفسها من الوطء في الموضع ، واستمر ذلك تقديرا مائة سنة ، فانّ وطئها لا يحل لزوجها ، وعقدها باق ، ويصح طلاقها بغير خلاف ، إذ لا تضاد بين الحكمين ، أعني تحريم الوطء ، وبقاء العقد على ما كان ، وصحة الطلاق.

وأيضا فقد وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، بصحة ما ذكرناه ، فمن ذلك ما أورده شيخنا الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، في كتابه كتاب من لا يحضره فقيه (1) ، قال : روى الحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن حمران ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : سئل عن رجل تزوّج جارية بكرا لم تدرك ، فلمّا دخل بها افتضها فأفضاها ، قال : إن كان دخل (2) بها ولها تسع سنين ، فلا شي ء عليه ، وإن كانت لم تبلغ تسع سنين ، أو كان لها أقل من ذلك بقليل حين دخل بها ، فافتضّها ، فإنّه قد أفسدها وعطلها على الأزواج ، فعلى الإمام أن يغرمه ديتها ، وإن أمسكها ولم يطلّقها حتى تموت ، فلا شي ء عليه (3).

ألا تراه عليه السلام قد أثبت له الخيرة بين إمساكها وطلاقها ، بقوله : « فإن أمسكها ولم يطلقها » فلو كانت بنفس الوطء قبل بلوغ تسع سنين تبين منه ، وينفسخ عقدها ، لما قال عليه السلام : « فإن أمسكها ولم يطلقها حتى تموت فلا شي ء عليه ».

ص: 532


1- من لا يحضره الفقيه : باب ما أصل اللّه عزوجل من النكاح وما حرّم منه ، ج 3 ، ص 272 ، ح 79 ، وفي الوسائل : الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 1.
2- ج : دخل حين دخل.
3- الوسائل : الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 9.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي يصرّح بهذا ، وأورد في كتابه الاستبصار ، من الأخبار ما يؤذن ببقاء العقد والتخيير بين الطلاق والإمساك ، لمن ذكرنا حاله ، ويتأول بعض الأخبار ، وجمع بين معانيها ، ولائم بين ألفاظها ، في أنّه يحرم عليه وطؤها ، ولا تحلّ له أبدا ، ويصح طلاقها بعد ذلك ، أورده في الجزء الثالث ، في باب من وطأ جارية فأفضاها ، قال الحسن بن محبوب ، عن الحارث بن محمّد بن النعمان ، صاحب الطاق ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليه السلام ، في رجل افتضّ جارية ، يعني امرأته فأفضاها ، قال : عليه ديتها إن كان دخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين ، قال : فإن أمسكها فلم (1) يطلّقها فلا شي ء عليه ، وإن كان دخل بها ولها تسع سنين ، فلا شي ء عليه ، إن شاء أمسك ، وإن شاء طلّق (2).

فأمّا ما رواه ابن أبي عمير عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : سألته عن رجل تزوج جارية ، فوقع بها فأفضاها ، قال : عليه الاجراء عليها ما دامت حيّة (3).

فلا ينافي الخبر الأول ، لأنّا نحمل هذا الخبر على من وطأها بعد التسع السنين ، فإنّه لا تكون عليه الدية ، وانّما يلزمه الاجراء عليها ما دامت حيّة ، لأنّها لا تصلح للرجال ، ولا ينافي هذا التأويل قوله في الخبر الأول : « إن شاء طلّق وإن شاء أمسك ، إذا كان الدخول بعد تسع سنين » لأنّه قد ثبت له الخيار بين إمساكها وبين طلاقها ، ولا يجب عليه واحد منهما ، وإن كان يلزمه النفقة عليها علىّ كلّ حال ، لما قدّمناه.

وأمّا الخبر الذي رواه محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن يعقوب ، عن بريد ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : إذا خطب الرجل المرأة فدخل بها ، قبل أن تبلغ تسع سنين ،

ص: 533


1- ج : ولم.
2- الاستبصار : باب من وطء جارية فأفضاها ، ج 4 ، ص 294 ، وفي الوسائل : الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 3.
3- الوسائل : الباب 44 من أبواب ديات الأعضاء ، ح 3.

فرّق بينهما ، ولم تحل له أبدا (1).

فلا ينافي ما تضمنه خبر بريد من قوله : « فإن أمسكها ولم يطلّقها ، فلا شي ء عليه » لأنّ الوجه أن نحمله على أنّ المرأة إذا اختارت المقام معه ، واختار هو أيضا ذلك ، ورضيت بذلك عن الدية ، كان ذلك جائزا ، ولا يجوز له وطؤها على حال ، على ما تضمنه الخبر الأول ، حتى نعمل بالأخبار كلّها.

فهذه الأخبار جميعها ، والتأويلات ، والألفاظ ، إيراد شيخنا أبي جعفر ، وقوله وتأويله ، من غير زيادة ولا نقصان ، ألا تراه قد جمع في آخر تأويله الأخبار ، بين انّها لا تحلّ له أبدا ، وبين إمساكها زوجة ، مع اختيار الزوج ، وفي ألفاظ الأخبار التي أوردها التخيير بين إمساكها وطلاقها.

وأورد في نهايته (2) الخبر المرسل الذي أورده في استبصاره ، أورده وتأوله ، الذي رواه محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن يعقوب ، عن بريد ، عن بعض أصحابنا.

وهذا كما تراه خبر واحد مرسل ، والمراسيل لا يعمل بها من يعمل بأخبار الآحاد ، فكيف من لا يعمل بأخبار الآحاد جملة ، ولو أورد غيره في نهايته من جملة ما أورده من الأخبار في استبصاره ، كان أوضح في البيان.

وقد قدّمنا أنّ من عقد على امرأة في عدّتها ، ودخل بها ، فرّق بينهما ، ولم تحل له أبدا ، سواء كان عالما أو جاهلا ، وكان لها المهر بما استحل من فرجها ، إذا لم تكن عالمة بأنّ ذلك لا يجوز ، فأمّا إن كانت عالمة بتحريم ذلك ، فلا مهر لها ، وكان عليها عدّتان ، تمام العدّة الاولى من الزوج الأول ، وعدّة اخرى من الزوج الثاني ، فإن كانت العدّة التي عقد فيها الثاني رجعية ، فالنفقة على زوجها

ص: 534


1- الاستبصار : باب من وطء جارية فأفضاها ، ج 4 ، ص 294 ، وفي الوسائل : الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 2 وفي المصدر : يعقوب بن يزيد.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما يستحب فعله لمن أراد العقد والزفاف.

الأول ، وإن أراد مراجعتها ، فانّ له ذلك.

فإن قيل : كيف يكون عليه النفقة ، والنفقة لا تجب إلا بتمكين الاستمتاع بها والوطء ، وهذا ممنوع من ذلك؟

قلنا : المرأة غير مانعة له ، وانّما المنع من جهة الشارع دونها ، لأنّ المنع لو كان منها سقطت نفقتها ، وهذا ليس هو منعا منها ، كما انّها لو كانت مريضة فإنّه ممنوع من وطئها ، ويجب عليه النفقة عليها ، وأيضا فهي زوجة ، والنفقة تجب على الزوجات من الأزواج بغير خلاف.

فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ، كان لا حقا بالأول ، فإن كان لستة أشهر فصاعدا كان لا حقا بالثاني.

ومتى قذفها زوجها أو غيره بما فعلته من الفعل ، فإن كانت عالمة بذلك ، لم يكن عليه شي ء ، وإن كانت جاهلة ، وجب عليه حد القاذف.

الوطء المباح بعقد غير عقد الشبهة ، والوطء بملك اليمين ، ينشر تحريم المصاهرة ، ويثبت به حرمة المحرم ، فأمّا الوطء الحرام ، فعلى الصحيح من المذهب لا ينشر تحريم المصاهرة ، ولا خلاف أنّه لا يثبت به حرمة المحرم.

ومعنى حرمة المحرم ، ان أمهات الموطوءة وبناتها يحل النظر إليهن ، مثلا حمأة الرجل يحل له النظر إليها ، كما يحلّ له النظر إلى امه ، وبنته ، وكذلك بنت امرأته من غيره ، هذا في العقد الصحيح ، والوطء المباح ، فهذا معنى حرمة المحرّم.

فأمّا معنى تحريم المصاهرة فإنّ الإنسان لا يحلّ له أن يتزوج بأمّ امرأته ، ولا بنتها ، إذا كان قد دخل بالأم تحريم أبد ، ولا بأختها تحريم جمع ، فهذا معنى تحريم المصاهرة.

فأمّا عقد الشبهة ووطء الشبهة ، فعندنا لا ينشر الحرمة ، ولا يثبت به تحريم المصاهرة بحال ، وانّما أصحابنا رووا أنّه يلحق به الولد ، ولا يحدّ فاعله ، لقوله عليه السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات (1) ، وما سوى هذين الحكمين ، فحكمه

ص: 535


1- الوسائل : الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

حكم الوطء الحرام ، وعند الشافعي ينشر تحريم المصاهرة ، ولا يثبت به حرمة المحرم ، وإن كان شيخنا قد أورد ذلك في مبسوطة (1) ، فهو رأي الشافعي ، لا رأي الإمامي.

وقد قلنا أنّه لا يجوز أن يجمع بين الأختين في نكاح الدوام ولا النكاح المؤجل.

فإن عقد عليهما في حالة واحدة ، كان مخيّرا في أن يمسك أيتهما شاء ، على ما روي في بعض الأخبار (2) ، أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ العقد باطل ، يحتاج أن يستأنف عقدا على أيّهما شاء ، على ما قدّمناه ، لأنّه منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، بلا خلاف بين محققي أصحاب أصول الفقه ، ومحصّلي هذا الشأن.

وشيخنا فقد رجع في مبسوطة (4) عما أورده في نهايته ، وهو محجوج بقوله : فان عقد على امرأة ، ثمّ عقد على أختها ، كان العقد على الثانية باطلا ، فإن وطأ الثانية ، فرّق بينهما ، وروي (5) أنّه لا يرجع إلى نكاح الأوّلة حتى تخرج التي وطأها من عدتها (6) ، ولا دليل على صحة هذه الرواية.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّه لا يمتنع من وطء امرأته الأولى ، لأنّه غير جامع بين الأختين ، لأنّ عدّة الثانية لغيره ، وهي عدة بائنة ، لا رجعة له عليها فيها ، فإذا لم يكن مانع من كتاب اللّه ، ولا إجماع ، ولا سنّة ، ولا دليل عقل ، بل الكتاب والعقل والسنّة يحكم بما ذكرناه ، لأنّ الأصل الإباحة وقوله تعالى : ( إِلّا

ص: 536


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 203 ، والعبارة هكذا : والوطي شبهة ينشر تحريم المصاهرة
2- الوسائل : الباب 25 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 206.
5- الوسائل : الباب 26 ، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 1.
6- إلى هنا ينتهي كلام الشيخ قدس سره في النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (1) فنفى اللوم عن وطء زوجته.

ومتى عقد على امرأة ثمّ عقد على أمها أو أختها أو بنتها بجهالة ، فرّق بينهما ، فإن وطأها وجاءت بولد ، كان لا حقا به ، وروي أنّه لا يقرب الزوجة الاولى حتى تنقضي عدّتها (2).

وقد قلنا ما عندنا في مثل ذلك ، فلا وجه لا عادته.

ومتى طلّق الرجل امرأته طلاقا يملك فيه الرجعة ، لم يجز له العقد على أختها ، حتى تنقضي عدّتها ، فإن كانت التطليقة لا رجعة له عليها في تلك العدّة ، فبعد تلك التطليقة ، جاز له العقد على أختها في الحال ، وكذلك كل عدّة لا رجعة للزوج على الزوجة فيها ، يجوز له العقد على أخت المعتدة في الحال ، متمتعة كانت أو مفسوخا نكاحها ، أو مطلقة مبارية أو مختلعة.

وقد روي في المتمتعة ، إذا انقضى أجلها أنّه لا يجوز العقد على أختها ، حتى تنقضي عدتها (3) وهذه رواية شاذة ، مخالفة لأصول المذهب ، لا يلتفت إليها ، ولا يجوز التعريج عليها.

فإن قيل : لا يجوز العقد على أختها ، لأنّه يجوز له أن يعقد عليها قبل خروجها من عدّتها ، وغيره لا يجوز له أن يعقد عليها ، ولا أن يطأها إلا بعد خروجها من عدّتها ، والعقد عليها ، فقد صارت كأنّها في عدّته.

قلنا : هذا قول بعيد من الصواب ، لأنّ المختلعة يجوز له العقد على أختها في الحال ، بغير خلاف ، وإن كان يجوز له العقد عليها قبل الخروج من عدّتها ، إذا تراضيا بذلك ، وإن غيره لا يجوز له ذلك بحال ، فلا فرق بينهما من هذا الوجه ، وأيضا هذه عدّة لا رجعة للزوج على الزوجة فيها بغير خلاف ، فخرجت من أن تكون زوجة له ، فلم يكن جامعا في حباله بين الأختين بحال.

ص: 537


1- المؤمنون : 6.
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 6.
3- الوسائل : الباب 27 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 1.

وإذا ماتت إحدى الأختين ، جاز له أن يعقد على أختها في الحال.

ولا بأس أن يجمع الرجل بين الأختين في الملك ، لكنّه لا يجمع بينهما في الوطء ، لأنّ حكم الجمع بينهما في الوطء حكم الجمع بينهما في العقد ، فمتى ملك الأختين ، فوطأ واحدة منهما ، لم يجز له وطء الأخرى ، حتى يخرج تلك من ملكه بالهبة ، أو البيع ، أو غيرهما.

وقد روي (1) أنّه إن وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى ، وكان عالما بتحريم ذلك عليه ، حرمت عليه الاولى حتى تموت الثانية ، فإن أخرج الثانية عن ملكه ، ليرجع إلى الأولى ، لم يجز له الرجوع إليها ، وإن أخرجها من ملكه لا لذلك ، جاز له الرجوع إلى الاولى ، وإن لم يعلم تحريم ذلك عليه ، جاز له الرجوع إلى الأولى على كل حال ، إذا أخرج الثانية من ملكه.

والرواية بهذا الذي سطرناه قليلة لم يوردها في كتابه وتصنيفاته إلا القليل من أصحابنا.

والذي تقتضيه أصول المذهب ويقوى في نفسي ، أنّه إذا أخرج إحداهما من ملكه ، حلّت الأخرى ، سواء أخرجها ليعود إلى من هي باقية في ملكه ، أو لا ليعود ، عالما كان بالتحريم ، أو غير عالم ، لأنّه إذا أخرج إحداهما ، لم يبق جامعا بين الأختين بلا خلاف ، فأمّا تحريم الأولى إذا وطأ الثانية ، ففيه نظر ، فإن كان على ذلك إجماع منعقد ، أو كتاب أو سنّة متواترة ، رجع إليه وإلا فلا يعرج عليه ، لأنّ الأصل الإباحة للأولى ، وانّما التحريم تعلّق بوطء الثانية بعد وطئه للأولى ، لأنّه بوطئه للثانية يكون جامعا بين الأختين ، فكيف تحرم الاولى ، وهي المباحة الوطء ، وتحلّ المحرمة الوطء؟ وقد قلنا أنّها رواية أوردها شيخنا في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا ، مثل ما أورد كثيرا من الأخبار في كتابه المشار إليه ، إيرادا لا اعتقادا.

ص: 538


1- الوسائل : الباب 29 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 7 و 9 و 10.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

ولا يجوز للرجل الحر أن يعقد على أكثر من أربع من الحرائر ، أو أمتين.

ولا بأس أن يجمع بين حرة وأمتين ، أو حرتين وأمتين بالعقد ، فأمّا بملك اليمين ، فليجمع ما شاء منهن ، مع العقد على أربع حرائر.

فإن كان الرجل عنده ثلاث نسوة ، وعقد على اثنتين ، في عقد واحد أمسك أيّتهما شاء ويخلّي سبيل الأخرى ، على ما روي في بعض الأخبار (1) ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وأنّ العقد باطل ، لأنّه منهي عنه بغير خلاف.

فإن كان قد عقد عليهما بلفظتين ، ثم دخل بالتي بدأ باسمها ، كان عقدها صحيحا ، فإن دخل بالتي ذكرها ثانيا ، كان نكاحها باطلا ، وتلزمها العدة لأجل الدخول ، ويلزمه المهر ، فإن حملت لحق به الولد.

والذمي إذا كان عنده أكثر من أربع نساء ، ثمّ أسلم فليمسك منهن أربعا ، وليخلّ سبيل الأخر ، ويكون خيرته على الفور ، لئلا يكون جامعا بين أكثر من أربع.

وإذا طلّق الرجل واحدة من الأربع طلاقا يملك فيه الرجعة ، فلا يجوز له العقد على اخرى ، حتى تخرج تلك من العدة ، فإن كان طلاقا لا يملك فيه الرجعة جاز له العقد على أخرى في الحال ، وكذلك إن كان فسخا لا طلاقا ، جاز له العقد على أخرى في الحال.

والمملوك لا يجمع بين أكثر من حرتين ، أو أربع إماء بالعقد.

ولا بأس أن يعقد على حرة وأمتين ، لأنّ الحرة في حقه بمنزلة الأمتين ، ولا يعقد على حرتين ويضيف إليهما العقد على أمة ، لأنا قد قدّمنا ان الحرة في حقه بمنزلة الأمتين ، فيصير حينئذ كأنه عقد على خامسة.

وقد قدّمنا أن جميع المحرّمات من جهة النسب ، يحرمن من جهة الرضاع.

ولو أنّ رجلا عقد على جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته ، حرمتا عليه جميعا ، إذا

ص: 539


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يحرم باستيفاء العدد ، فيمن تزوج خمسا في عقد واحد.

كان قد دخل بالمرأة المرضعة ، لأن الجارية الرضيعة صارت ربيبة من نسائه اللاتي دخل بهن ، وحرمت الكبيرة المرضعة ، لأنها صارت من جملة أمّهات نسائه ، فان لم يكن دخل بالكبيرة ، فإن الجارية المرضعة تحل له ، لأنها ممن لم يدخل بأمها ، فأمّا الكبيرة فهي محرمة عليه على كل حال.

وشيخنا أبو جعفر ، أطلق ذلك في نهايته ، من غير تفصيل ، فإنه قال : ولو ان رجلا عقد على جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته ، حرمتا عليه جميعا ، وان أرضعت الجارية امرأتان له ، حرمت عليه الجارية والمرأة التي أرضعتها أولا ، ولم تحرم عليه التي أرضعتها ثانيا (1).

لأنّها بعد رضاعها من المرأة الأولى ، صارت بنته ، فإذا أرضعتها المرأة الأخيرة ، فقد أرضعت بنته ولا بأس بأن ترضع امرأة الرجل بنته بغير خلاف وهذه رواية (2) شاذة أوردها بعض أصحابنا.

والصحيح ان الأخيرة تحرم عليه أيضا ، لأنها أم من كانت زوجته ، فهي داخلة تحت عموم قوله تعالى « وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ » (3) فالتمسك بالقران وعمومه ، أولى من التمسك برواية شاذة ، أو قول مصنف ، وإيراده في سواد كتابه.

وان عقد على جاريتين رضيعتين ، فان أرضعتهما امرأة له ، حرمت عليه المرضعة والجاريتان معا ، فإن أرضعت امرأتان له هاتين الجاريتين ، حرمن كلهن ، هذا كلّه بشرط اعتبار الدخول بالكبار المرضعات ، فان لم يكن دخل بالكبار ، حرمن الكبار ، ولا يحرمن الصغار على ما قدّمناه وحرّرناه.

فأمّا مهورهن ، فان كان قد دخل بالكبار ، فقد استقر مهورهن عليه.

فامّا مهور الصغار ، فهي أيضا عليه ، لان الفسخ جاء لا من قبلهنّ ، وقال بعض أصحابنا يعود به على الكبار ، ولا ارى لهذا القول وجها ، والأصل براءة

ص: 540


1- النهاية : كتاب النكاح باب ما أصل اللّه النكاح وما حرّم منه.
2- الوسائل : الباب 14 من أبواب ما يحرّم بالرضاع.
3- النساء : 23.

الذمة من العود به عليهن.

فان لم يدخل بالكبار فلا يستحققن عليه مهرا ، لان الفسخ جاء من قبلهن قبل الدخول بهن ، وكل فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول بهن ، أبطل مهورهن بغير خلاف ، فامّا الصغار فقد قلنا انّهن لا يحرمن عليه ، فمهورهن ثابتة في ذمته لا تسقط.

وقد قدّمنا أنّه لا يجوز للرجل المسلم ان يعقد على الكافرات ، على اختلافهن ، فان اضطر الى العقد عليهن ، عقد على اليهودية والنصرانية ، وذلك جائز عند الضرورة ، على ما روي (1) في بعض الاخبار.

ولا بأس ان يعقد على هذين الجنسين عقد المتعة مع الاختيار ، لكنّه يمنعهن من شرب الخمور ، ولحم الخنزير ، وقال بعض أصحابنا انه لا يجوز العقد على هذين الجنسين عقد متعة ، ولا عقد دوام ، وتمسك بظاهر الآية ، وهو قوي يمكن الاعتماد عليه ، والركون اليه (2) وجميع المحرّمات في شريعة الإسلام.

ولا بأس بوطي الجنسين أيضا في حال الاختيار بملك اليمين ، ولا بأس باستدامة العقد الدائم أيضا على الجنسين أيضا ، دون ابتدائه واستئنافه ، لأنه يحل في الاستدامة مالا يحل في الابتداء.

ولا يجوز وطؤه ما عدا الجنسين بملك اليمين ، ولا بأحد العقود ، سواء كان العقد دائما مبتدأ ، أو مستداما أو مؤجلا.

وقد روى (3) رواية شاذة انه يكره وطي المجوسيّة بملك اليمين وعقد المتعة ، وليس ذلك بمحظور ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) إيرادا لا اعتقادا.

ورجع عن ذلك في كتابه التبيان ، في تفسير قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا

ص: 541


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ، الحديث 3.
2- وقوله : « رحمه اللّه » وجميع إلخ عطف على لحم الخنزير ، ولعلّ قوله « رحمه اللّه » وقال بعض أصحابنا إلخ حاشيته منه « رحمه اللّه » دخل في المتن.
3- لم نقف عليها في المجاميع الروائية.
4- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحل اللّه من النكاح وما حرّم منه.

الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (1) فإنه قال : فأما المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا ، وشيخنا المفيد في مقنعته (2) يحرّم ذلك ، ولا يجوزه.

وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه ، ويقتضيه أصول المذهب ، وقوله تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) وقوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (4).

وإذا أسلم اليهودي والنصراني ، ولم تسلم امرأته ، جاز له ان يمسكها بالعقد الأول ، ويطأها على ما قدّمناه ، فإن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل ، فإنه ينتظر به عدتها ، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها ، فإنه يملك عقدها ، وان أسلم بعد انقضاء العدة ، فلا سبيل له عليها ، سواء كان بشرائط الذمة ، أو لم يكن لا يختلف الحكم فيه بحال على الصحيح من الأقوال ، وكذلك الحكم فيمن لا ذمة له من سائر أصناف الكفار ، فإنّه ينتظر به انقضاء العدّة ، فإن أسلم كان مالكا للعقد ، وإن لم يسلم إلا بعد ذلك فقد بانت منه ، وملكت نفسها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل ، وكان الرجل على شرائط الذمة ، فإنّه يملك عقدها ، غير أنّه لا يمكن من الدخول إليها ، ليلا (5) ولا من الخلو بها ، ولا من إخراجها من دار الهجرة إلى دار الحرب ، وإن لم يكن بشرائط الذمة ، فإنّه ينتظر به عدّتها ، فإن أسلم قبل انقضاءها فإنّه يملك عقدها ، وإن أسلم بعد انقضاء العدّة ، فلا سبيل له عليها (6). إلا أنّه رجع عمّا ذكره ، وأورده في نهايته ، إيرادا لا اعتقادا من أخبار الآحاد ، في مسائل خلافه ومبسوطة ، فقال في مسائل خلافه : مسألة إذا كانا وثنيين ، أو مجوسيين ، أو أحدهما مجوسيا والآخر وثنيا ، فأيّهما أسلم ، فإن كان قبل الدخول بها ، وقع الفسخ في الحال ، وإن كان بعده وقف على انقضاء العدّة ، فإن أسلما

ص: 542


1- البقرة : 221.
2- المقنعة : أبواب النكاح باب من يحرم نكاحهن ص 500.
3- الممتحنة : 10.
4- البقرة : 221.
5- ل : ليلا ولا نهارا.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

قبل انقضاءها ، فهما على النكاح ، وإن انقضت العدّة انفسخ النكاح ، وهكذا إذا كانا كتابيين ، فأسلمت الزوجة ، سواء كان في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، ثمّ قال رحمه اللّه : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل خلافه في الجزء الثاني.

وهو الذي اخترناه ، ويقوى عندنا ، لأنّ الأدلة تعضده من الكتاب والسنة والإجماع ، وليس على ما أورده من الرواية الشاذة في نهايته دليل.

وقال في مبسوطة : وروي في بعض أخبارنا ، أنّها إذا أسلمت ، لم ينفسخ النكاح بحال ، فجعل القول الذي اعتمده في نهايته واستبصاره ، رواية ، ثم ضعفها بقوله : « في بعض أخبارنا » ومعظم ما يسطّره ويطلقه على هذا المنهاج (2) ، وأيضا لو كانت عنده صحيحة ، لما قال في استدلاله في مسائل خلافه : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا فيها ، ما يقضى على وهنها ، وضعفها ، لأنّه قال :

فإن كان الرجل بشرائط الذمة ، فإنّه يملك عقدها ، غير أنّه لا يمكن من الدخول إليها ليلا (3) ، ولا يخلو بها ، وهذا ممّا يضحك الثكلى ، إن كانت زوجته فلا يحلّ أن يمنع منها ، ثمّ إن منع منها ومن الدخول إليها فإنّ نفقتها تسقط ، لأنّ النفقة عندنا في مقابلة الاستمتاع ، وهذا لا يتمكن من ذلك ، فتسقط النفقة عنه.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (4) ومن ملكه عقدها فقد جعل له من أعظم السبل عليها ، واللّه تعالى نفى ذلك على طريق الأبد بقوله : « ولن » ، وأيضا فالإجماع منعقد على تحريم إمساكها ، وأن يجعل للكافر عليها السبيل ، وشيخنا أبو جعفر في نهايته محجوج بقوله في مسائل خلافه ، ومبسوطة.

ص: 543


1- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 105
2- ل. ق : المنهاج والصفة.
3- ل : ليلا ولا نهارا.
4- النساء : 141.

ويكره للرجل أن يتزوج بامرأة فاجرة معروفة بذلك ، فإن تزوج بها فليمنعها من ذلك.

وإذا فجرت المرأة عند الرجل لا ينفسخ نكاحها ، وكان مخيّرا بين إمساكها وطلاقها ، والأفضل له طلاقها.

وقد قلنا : إنّ شيخنا أبا جعفر ذكر في نهايته أنّ الرجل إذا فجر بامرأة غير ذات بعل ، فلا يجوز له العقد عليها ما دامت مصرّة على مثل ذلك الفعل ، فإن ظهر له منها التوبة ، جاز له العقد عليها ، وتعتبر توبتها بأن يدعوها إلى مثل ما كان منه ، فإن أجابت امتنع من العقد عليها ، وإن امتنعت عرف بذلك توبتها (1).

إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا زنى بامرأة جاز له نكاحها فيما بعد ، وبه قال عامّة أهل العلم ، وقال الحسن البصري : لا يجوز ، وقال قتادة وأحمد : إن تابا جاز ، وإلا لم يجز ، وروي ذلك في أخبارنا (2) ، دليلنا إجماع الفرقة وأيضا الأصل الإباحة ، وأيضا قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3) ولم يفصّل ، وقال تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (4) ولم يفصّل ، وروت عائشة أنّ النبي عليه السلام قال : « الحرام لا يحرّم الحلال » وعليه إجماع الصحابة ، وروي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس ، ولا مخالف لهم (5). هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة.

وهو الذي اخترناه فيما مضى.

لا عدّة على الزانية ، ويجوز لها أن تتزوج ، سواء كانت حاملا أو حائلا ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العدّة عليها.

وقد قلنا : إنّه لا يجوز العقد على امرأة وعند الرجل عمتها أو خالتها ، إلا

ص: 544


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها من كتاب النكاح.
3- النساء : 3.
4- النساء : 24.
5- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 71.

برضى منهما ، فإن عقد عليها كانت العمة والخالة مخيّرة بين إمضاء العقد وبين الاعتزال ، فإن أمضت كان ماضيا على ما روي (1) ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنّه يحتاج إلى عقد ثان ، إذا عقد من غير اذنها ثمّ رضيت ، لا يكفي رضاها ، بل يحتاج إلى عقد مستأنف ، لأنّ ذلك العقد الأول منهيّ عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، فإن اعتزلت واعتدت كان ذلك فراقا بينها وبين الزوج ، ومغنيا عن الطلاق ، ولا يستحق في هذه العدّة عليه نفقة ، لأنّها عدة فسخ ، وله أن يتزوج بأختها في الحال. ولا يجوز له أن يستبيح وطء بنت الأخ أو بنت الأخت إلا بعقد مستأنف على ما قدّمناه ، لأنّ العقد الأوّل وقع فاسدا.

ولا بأس بالعقد على العمة والخالة وعنده بنت الأخ أو بنت الأخت ، وإن لم ترضيا بذلك على ما قدّمناه.

وحكم العمة والخالة من جهة الرضاع حكمهما من جهة النسب على السواء.

ولا يجوز للرجل أن يعقد على أمة وعنده حرّة إلا برضاها ، فإن عقد عليها من غير رضاها كان العقد باطلا بغير خلاف ، فإن أمضت الحرة العقد مضى ، ولم يكن لها بعد ذلك اختيار ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وإن أبت واعتزلت وصبرت إلى انقضاء عدّتها ، كان ذلك فراقا بينها وبين الزوج ، ولا تحل له الأمة بالعقد الأول ، بل لا بدّ من عقد ثان ، لأنّ الأول وقع باطلا ، لأنّه قبل الرضا والإذن ، وذلك منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان : من شرط صحّة العقد على الأمة عند أكثر الفقهاء أن لا يكون عنده حرة ، وهكذا عندنا إلا أن ترضى الحرة بأن يتزوج عليها أمة ، فإن أذنت كان العقد صحيحا عندنا ، ومتى عقد عليها بغير إذن

ص: 545


1- لم نقف عليها في المجاميع الروائية ، ولعلّ ظاهر عبارة المتن أيضا أنّها لم ترد إلا في نهاية الشيخ.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه النكاح وما حرّم منه.

الحرة ، كان العقد على الأمة باطلا ، وروى أصحابنا أنّ الحرّة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الأمة ، أو تفسخ عقد نفسها ، والأول أظهر ، لأنّه إذا كان العقد باطلا ، لا يحتاج إلى فسخه (1) هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : نعم ما قال وحقق هاهنا رحمه اللّه.

ثم قال : فأمّا تزويج الحرة على الأمة فجائز ، وبه قال الجبائي ، وفي الفقهاء من منع منه ، غير أنّ عندنا لا يجوز ذلك إلا بإذن الحرة ، فإن لم تعلم الحرة بذلك ، كان لها أن تفسخ نكاحها أو نكاح الأمة (2) ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : ليس لها أن تفسخ نكاح الأمة إذا كان عقد الأمة متقدّما على عقدها ، بل لها أن تفسخ عقد نفسها فحسب ، دون عقد الأمة المتقدّم على عقدها بغير خلاف بيننا في ذلك ، وهو مذهب شيخنا في نهايته (3) ، ومبسوطة (4) ، وجميع كتبه ، وهو الحقّ اليقين ، لأنّ فسخه يحتاج إلى دلالة.

والذي اعتمد عليه ، وافتي به ، أنّ الحرة إذا كان عقدها متقدّما ، فالعقد على الأمة باطل ، ولا تكون الحرة بين ثلاث اختيارات ، على ما روي في بعض الروايات (5) وهو خبر واحد ضعيف ، عن زرعة ، عن سماعة ، وهما فطحيان ، أورده شيخنا في نهايته (6) ، ورجع عنه في تبيانه (7) ، وقال في مبسوطة : ونكاح الأمة باطل إجماعا (8).

ص: 546


1- التبيان : ج 3 ، ص 169 و 170 ، ذيل الآية 25 من سورة النساء.
2- التبيان : ج 3 ، ص 169 و 170 ، ذيل الآية 25 من سورة النساء.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحل اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- 3المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 215.
5- الوسائل : الباب 47 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 3 لكن الراوي عن سماعة هو يحيى اللحّام. كما أن المذكور فيها اختياران ، لا ثلاث ، فراجع.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحل اللّه النكاح وما حرّم منه ، إلا أنّ العبارة هكذا : ولا يجوز للرجل ان يعقد على أمة وعنده حرّة إلا برضاها ، فإن عقد عليها من غير رضاها كان العقد باطلا.
7- التبيان : ج 3 ، ص 170 ، ذيل الآية 25 من سورة النساء ، والعبارة هكذا : ومتى عقد عليها بغير إذن الحرة كان العقد على الأمة باطلا.
8- 3المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 215.

فإن عقد في حالة واحدة على حرّة وأمة ، كان العقد على الحرة ماضيا ، والعقد على الأمة باطلا ، على ما روي في الأخبار (1).

فإن عقد على حرّة ، وعنده أمة زوجة ، والحرة غير عالمة بذلك ، فإذا علمت أنّ له امرأة أمة ، كانت مخيّرة في فسخ نكاحها دون نكاح الأمة ، على ما قدّمناه وبيّناه ، فمتى رضيت بذلك ولم تفسخ النكاح ، لم يكن لها بعد ذلك فسخ ، ولا اختيار.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا عقد الكافر في حال كفره على امرأة وبنتها في حالة واحدة ، أو واحدة بعد اخرى ، ثمّ أسلم قبل الدخول بواحدة منهما ، أمسك أيتهما شاء (2).

قال محمد بن إدريس : الذي يقتضيه أصول مذهبنا أنّ الأم قد حرّمت عليه أبدا ، لأنّها من أمهات نسائه ، فأمّا البنت فله أن يختارها ويمسكها زوجة ، لأنّها بنت من لم يدخل بها ، وإنّما اختار شيخنا قول بعض المخالفين ، وإن كان لهم فيه قول آخر.

ويكره العقد على الأمة مع وجود الطول لنكاح الحرة ، فأمّا مع عدمه فلا بأس بالعقد عليها ، ومتى عقد على الأمة مع وجود الطول ، كان العقد ماضيا ، غير أنّه يكون قد ترك الأفضل.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (3) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (4).

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ ذلك لا يجوز ، وأنّه غير ماض واستدل بعموم الآية (5).

وقال في كتاب التبيان في تفسير قوله تعالى ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) (6) قال رحمه اللّه : وهذه الآية على عمومها

ص: 547


1- الوسائل : الباب 48 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، مسألة 108.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحل اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- المقنعة : باب ضروب النكاح ، باب العقود على الإماء ص 505 ، وفيه خلاف ما أورده عنه هنا
5- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 86.
6- البقرة : 221.

عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار ، وليست منسوخة ولا مخصوصة ، فأمّا المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا ، ثمّ قال : وفي الآية دلالة على جواز نكاح الأمة المؤمنة ، مع وجود الطول ، لقوله تعالى ( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) فأمّا الآية التي في النساء وهي قوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) (1) فإنّما هي على التنزيه دون التحريم (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في التبيان.

والأظهر من أقاويل أصحابنا ، أنّ العقد ما وقد يخص العموم بالأدلة ، وأيضا قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3) وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل.

وقد روي أنّه يكره العقد على القابلة وابنتها (4).

ولا بأس أن يجمع الرجل بين امرأة قد عقد عليها وبين امرأة أبيها ، أو سرّيته ، إذا لم تكن أمها.

ويكره أن يزوج الرجل ابنه بنت امرأة كانت زوجته ، وقد دخل بها إذا كانت البنت قد ولدت بعد مفارقتها إيّاه ، وليس ذلك بمحظور ، فإن كانت البنت ولدت قبل عقد الرجل عليها ، لم يكن بذلك بأس ، على ما روي في الأخبار من الكراهة في المسألة الاولى (5).

ولا بأس للمريض أن يتزوج في حال مرضه ، فإن تزوج ودخل بها ثمّ مات ، كان العقد ماضيا ، وتوارثا ، وإن مات قبل الدخول بها والبراء ، كان العقد باطلا ، على ما رواه أصحابنا (6) وأجمعوا عليه ، فإذا أقام الرجل بيّنة على العقد على امرأة ، وأقامت أخت المرأة البينة بأنّها امرأة الرجل ، كانت البينة

ص: 548


1- النساء : 25.
2- التبيان : ج 2 ص 217 و 218 مع تقطيع في العبارة.
3- النساء : 3.
4- الوسائل : الباب 39 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.
5- الوسائل : الباب 23 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 5.
6- الوسائل : الباب 43 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 1.

بيّنة الرجل ، ولا يلتفت إلى بيّنتها ، إلا أن تكون بيّنتها قبل بيّنة الرجل ، أو يحصل دخول بها ، فإن ثبت لها إحدى هاتين البينتين أبطلت بينة الرجل.

وإذا عقد الرجل على امرأة فجاء آخر ، فادّعى أنّها زوجته ، لم يلتفت إلى دعواه ، إلا أن يقيم البينة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة : وإن تزوج أمة وعنده حرة ، فنكاح الأمة باطل إجماعا (1) هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : ونعم ما قال ، وحققنا ما عندنا في ذلك ، وقلنا لا خيار لها ، لأنّ العقد باطل ، فمن جعل لها الخيار يحتاج إلى دليل قاهر ، لأنّ الأصل صحة عقدها ، ولا يرجع في ذلك إلى خبر سماعة الفطحي (2) في مثل ذلك ، لأنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ولا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه ، إذا لم تكن أختا له ، وقد روي أن تركه أفضل (3).

وقد روي كراهية أن يتزوّج الرجل بضرة أمّه التي كانت مع غير أبيه (4).

وقد قلنا إن نكاح بنات المرأة المدخول بها حرام محظور بغير خلاف ، سواء كن ربائب في حجره ، أو لم يكنّ ، وكذلك بنات البنت وان نزل ، ونكاح بنات ابن البنت وإن نزلن محرم أيضا بلا خلاف ، لتناول الظاهر لهن ، ولمكان الإجماع على ذلك.

باب أقسام النكاح

النكاح المباح على ثلاثة أقسام ، قسم منها هو النكاح المستدام الذي يسمّى

ص: 549


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 215.
2- الوسائل : الباب 47 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 3.
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب ، ح 2 و 4.
4- الوسائل : الباب 42 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 1.

نكاح الغبطة ، ومعناها وحقيقة لغتها الدوام والإقامة ، يقال : أغبطت السماء بالمطر ، واغبطت الحمى على الإنسان إذا دامت وأقامت ، وكذلك المطر ، فكان معناه نكاح الإقامة والدوام ، قال كثير :

فلم أر دارا مثلها دار غبطة *** ولهو إذا التفت الحجيج بمجمع

يريد بذلك دار اقامة.

ولا يكون مؤجلا بأيام معلومة ، ولا شهور معيّنة.

ويجب فيه النفقة مع التمكن من الاستمتاع.

ويستحب فيه الإعلان والإشهاد عند العقد ، وليست الشهادة عند أهل البيت عليهم السلام شرطا في صحّته ، بل من مستحباته ، وبه تجب الموارثة.

وهو نكاح لا يزول إلا بالطلاق ، أو ما يقوم مقامه من أنواع الفرقة.

ونكاح المتعة وهو المؤجل بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام ، والمهر المعيّن ، ومن شرط صحته ذكر الأجل المحروس ، والمهر المعيّن ، أو الموصوف ، وبهذين الحكمين يتميز من نكاح الغبطة ، ومتى لم يذكر فيه الأجل ، وذكر المهر ، وإن سمّى ونطق عند العقد بالمتعة ، كان النكاح دائما ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (1).

والذي يقوى في نفسي ، ويقتضيه أصول المذهب ، أن النكاح غير صحيح ، لأنّ العقد الدائم لا ينعقد إلا بلفظتين ، زوجت وأنكحت ، وما عداهما لا ينعقد به ، وفي هذا الموضع لم يأت بإحدى اللفظتين ، ويمكن أن يقال يكون العقد دائما إذا لم يذكر الأجل وذكر المهر ، إذا كان الإيجاب بلفظ التزويج أو النكاح ، دون لفظ التمتع.

وأيضا لا خلاف بيننا في أنّه إذا لم يذكر المهر والأجل في لفظ عقد المتعة ، كان العقد باطلا ، ولم يبطل إلا من حيث التلفظ بالتمتع في الإيجاب ، فلو ذكر التزويج أو النكاح مثلا ، بأن قالت : زوجتك أو أنكحتك ولم يذكر المهر

ص: 550


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ضروب النكاح ، والعبارة هكذا : ومتى لم يذكر فيه الأجل وإن سمّى المتعة كان النكاح دائما.

والأجل ، أو تلفظ الرجل في إيجابه بلفظ النكاح أو التزويج ، ولم يذكر المهر والأجل ، فإنّ العقد يكون صحيحا بغير خلاف بين أصحابنا ، فما المؤثر في فساد العقد ، إلا التلفظ بالتمتع ، والإخلال بالمهر أو الأجل أو بهما. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عقد الدوام ينعقد بثلاثة ألفاظ ، زوجتك ، وأنكحتك ، وأمتعتك ، فعلى هذا المذهب يصح ما قاله شيخنا رحمة اللّه والأول هو الأظهر بين الأصحاب.

ومتى لم يذكر المهر مع الأجل ، كان العقد غير صحيح.

ونكاح بملك الايمان ، وهو يختص الإماء دون الحرائر.

وستقف إن شاء اللّه تعالى على شرائط هذه الأقسام الثلاثة من النكاح ، فإنّا نفرد لكلّ قسم منها بابا إن شاء اللّه.

وليس يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة ما روى أصحابنا من تحليل الرجل جاريته ، لأخيه (1) ، لأن هذا داخل في جملة الملك ، لأنّه متى أحلّ جاريته له ، فقد ملكه وطئها فهو مستبيح للفرج بالتملك ، حسب ما قدّمناه.

باب الرضاع ومقدار ما يحرم من ذلك وأحكامه

الذي يحرّم من الرضاع ما أنبت اللحم وشد العظم ، على ما قدّمناه ، فإن علم ذلك ، وإلا كان الاعتبار بخمس عشرة رضعة ، على الأظهر من الأقوال ، وقد حكينا الخلاف في ذلك فيما مضى (2) ، فلا وجه لا عادته إلا أنّا اخترنا هناك التحريم بعشر رضعات ، وقويناه.

والذي افتى به وأعمل عليه الخمس عشرة رضعة ، لأنّ العموم قد خصّصه جميع أصحابنا المحصّلين ، والأصل الإباحة والتحريم طارئ ، فبالإجماع من الكلّ يحرّم الخمس عشرة رضعة ، فالتمسك بالإجماع أولى وأظهر ، فإنّ الحقّ أحق أن يتبع.

وحدّ الرضعة ما يروي الصبيّ ، دون المصة.

ص: 551


1- الوسائل : الباب 31 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
2- راجع ص 520 من الكتاب.

وتكون الرضعات متواليات ، لم يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى ، فإن لم يفصل برضاع امرأة أخرى ، بل فصل بينهن بوجور الصبي اللبن ، أو بحقنته ذلك ، فلا يعتد بذلك في الفصل.

فإن لم ينضبط العدد اعتبر برضاع يوم وليلة ، إذا لم ترضع امرأة أخرى.

فمتى كان الرضاع أقل ممّا ذكرناه ، مما لا ينبت اللحم ولا يشد العظم ، أو كان أقل من خمس عشرة رضعة ، أو مع استيفاء العدد ، قد فصل بينهنّ برضاع امرأة أخرى ، أو كان أقل من يوم وليلة لمن لا يراعى العدد ، أو مع تمام يوم وليلة دخل بينه رضاع امرأة أخرى ، فإنّ ذلك لا يحرّم ، ولا تأثير له في التحريم.

والمحرّم من ذلك أن يكون الرضاع في مدة الحولين من عمر الصبي المرتضع ، فإن كان بعض الرضعات في مدة الحولين ، وبعضها بعدهما ، فلا تأثير لذلك في التحريم.

وكذلك إن كانت المرأة المرضعة ، قد ماتت وتمم العدد بعد موتها ، فلا تأثير أيضا لذلك في التحريم.

فإن حصل الرضاع أو بعضه بعد الحولين سواء كان قبل فطام المرتضع أو بعده ، قليلا كان أو كثيرا ، فإنّه لا يحرم.

وكذلك إن درّ لبن امرأة لست مرضعة ، فأرضعت صبيا أو صبيّة ، فإنّ ذلك لا تأثير له في التحريم.

وإنّما التأثير للبن الولادة من النكاح المشروع فحسب ، دون النكاح الحرام والفاسد ، ووطء الشبهة ، لأنّ نكاح الشبهة عند أصحابنا لا يفصلون بينه وبين الفاسد إلا في إلحاق الولد ورفع الحدّ ، فحسب ، وإن قلنا في وطء الشبهة بالتحريم ، كان قويا ، لأن نسبه عندنا نسب صحيح شرعي ، والرسول عليه السلام قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) ، فجعله أصلا للرضاع ، ولي في ذلك نظر وتأمّل.

ص: 552


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، ح 1 و 4 و 7.

ومتى حصل الرضاع على الصفة التي ذكرناها فإنّه بمنزلة النسب ، يحرم منه ما يحرّم من النسب ، إلا أنّ النسب منه يراعى من جهة الأب خاصة ، دون الام ، ومعنى ذلك ، انّ المرأة إذا أرضعت صبيا بلبن بعل لها ، وكان لزوجها عدة أولاد من أمهات شتّى ، فإنّهم يحرّمون كلّهم على الصبيّ المرتضع ، ولادة كانوا أو رضاعا ، فأمّا اخوته المنتسبون إلى امه المرضعة ، فإنّما يحرم عليه منهم من كان منها ولادة ، دون الرضاع ، لاختلاف لبن الفحلين.

مثاله أنّه لو أرضعت امرأة صبيا من غيرها ، بلبن بعل لها ، وكان للمرأة بنت برضاع من غير ذلك البعل ، لحلّ التناكح بين الابن والبنت ، ولم يحرّم ذلك الرضاع ، لاختلاف لبن الفحلين ، فإن كان رضاعها لابن القوم بلبن من أبي بنتها التي هي منسوبة إليها بالرضاع ، دون الولادة ، حرّم ذلك التناكح بينهما على ما بيّناه ، لأنّ اللبن هاهنا لبن فحل واحد.

وان كان لامه من الرضاع بنت من غير أبيه من الرضاع ، فهي أخته لأمّه عند المخالفين من العامة ، لا يجوز له أن يتزوجها ، وقال أصحابنا الإمامية بأجمعهم : يحلّ له تزويجها ، لأنّ الفحل غير الأب ، وبهذا فسّروا قول الأئمة عليهم السلام في ظواهر النصوص ، وألفاظ الأخبار المتواترة ، « أن اللبن للفحل » (1) يريدون بذلك لبن فحل واحد. فأمّا إذا كان فحلان ولبنان ، فلا تحريم.

فأمّا إذا كانت لها بنت من غير هذا الفحل ولادة ، فلا خلاف أنّها تحرم.

وإن كان لها بنت من زوجها ، فهي أخته لأبيه وامّه.

وأمّا زوج المرضعة ، فهو الفحل الذي له اللبن ، وهو أبوه من الرضاع ، وأخوه عمّه ، وأخته عمته ، وآباؤه أجداده ، فإن كان لهذا الفحل ولد من غير هذه المرضعة ، فهو اخوه لأبيه ، وإن كان له ولد من هذه المرضعة ، فهو اخوه لأبيه

ص: 553


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

وامّه ، وهذا معنى قولهم عليهم السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (1).

فعلى هذا التقدير ، يحرم أولاد الفحل على هذا المرتضع ولادة ورضاعا.

فأمّا أولاد الأم المرضعة فإنّه لا يحرم على المرتضع ، إلا أولادها ولادة ، فأمّا أولادها المنتسبون إليها بالرضاع فلا يحرمون عليه بحال.

والذي يدور عقد الرضاع عليه ، وجملة بابه ، أنّ امرأة الرجل إذا كان بها لبن منه ، فأرضعت مولودا الرضعات على الصفة المقدّم ذكرها ، صار كأنّه ابنهما من النسب ، فكل من حرم على ابنهما من النسب ، حرم على هذا ، لأنّ الحرمة انتشرت منه إليهما ، ومنهما إليه ، فالتي انتشرت منه إليهما ، أنّه صار كأنه ابنهما من النسب ، والحرمة التي انتشرت منهما إليه ، وقفت عليه وعلى نسله ، دون من هو في طبقته من اخوته وأخواته ، أو أعلى منه من آبائه وأمّهاته ، فيجوز للفحل أن يتزوّج بأمّ هذا المرضع ، وبأخته ، وبجدته ، ويجوز لوالد هذا المرضع أن يتزوج بالتي أرضعته ، لأنّه لا نسب بينهما ، ولا رضاع ، ولأنّه لمّا جاز أن يتزوج أم ولده من النسب ، فبان يجوز أن يتزوج أم ولده من الرضاع ، أولى.

فإن قيل : أليس لا يجوز له أن يتزوج أم أم ولده من النسب ، ويجوز له أن يتزوج بأم أم ولده من الرضاع ، فكيف جاز هذا ، وقد رويتم وقلتم أنّه « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »؟

قلنا : أم أم ولده من النسب ما حرمت بالنسب ، إنّما حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب ، والنبي صلى اللّه عليه وآله إنّما قال : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ولم يقل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) ، من قولنا والذي يدور عقد الرضاع عليه ، وهو كلام الشافعي ، ومذهبه ، وسؤاله نفسه وجواباته عنها في قوله : فيجوز للفحل

ص: 554


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
2- المبسوط : ج 5 ، كتاب الرضاع ، ص 305.

أن يتزوج بأم هذا المرضع وبأخته وبجدته.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : أمّا تزويجه بأخته وبجدته ، فلا يجوز بحال ، لأنّا في النسب لا يجوز أن يتزوج الإنسان بأخت ابنه ، ولا بأم امرأته بحال ، وانّما الشافعي علل ذلك بالمصاهرة ، وليس هاهنا مصاهرة ، وكذا في قوله وسؤاله نفسه « أليس لا يجوز له يتزوج أم أم ولده من النسب ويجوز أن يتزوج أم أم ولده من الرضاع » أجاب « بأنّ أم أم ولده من النسب ما حرمت بالنسب ، وانّما حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب » وعلّل ذلك بالمصاهرة ، فلا يظن ظان بأنّ ما قلناه كلام شيخنا أبي جعفر.

والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّ أم أم ولده من الرضاع محرمة عليه ، كما أنّها محرّمة عليه من النسب ، لأنّه أصل في التحريم ، من غير تعليل ، فعلى هذا امرأة لها لبن أرضعت بنتا لقوم ، الرضاع المحرّم ، ولتلك البنت المرضعة أخت ، فإنّه يحل لابن المرضعة الذي قد شربت هذه البنت المرضعة منه ، أن يتزوج بأختها ، وهي أخت أخته من الرضاع ، لما مضى من الأصل ، وهو أنّه انّما يحرم هذا المرضع وحده ، ومن كان من نسله ، دون من كان في طبقته وهذه من طبقته ، لأنّه لا نسب بينه وبين أخت أخته ، ولا رضاع.

ومثاله في النسب ، رجل له ابن تزوّج امرأة لها بنت ، فولدت منه بنتا ، فهذه البنت أخت ابنه من أبيه ، فله أن يتزوج بأختها التي هي بنت زوجة أبيه من غير امّه ، وهي أخت أخته من النسب ، لأنّه لا نسب بينهما ، ولا رضاع.

وهكذا يجوز له أن يتزوج أخت أخيه من الرضاع ، بيانه امرأة لها ابن كبير وابن صغير ، ثم إنّ أجنبيّة لها بنت أرضعت هذا الصغير ، فانّ هذا الصغير أخو هذه الصغيرة من الرضاع ، ولهذا الابن الكبير أن يتزوّج بهذه الصغيرة ، وهي أخت أخيه كما قلناه في النسب.

وعلى هذا يدور كتاب الرضاع ، فكلّما نزلت بك حادثة فارجع إليه ، واعتبر هذا به.

ص: 555

إذا كان له أربع زوجات ، إحداهن صغيرة لها دون الحولين ، وثلاث كبار لهن لبن ، فأرضعت إحدى الكبار هذه الصغيرة ، انفسخ نكاحهما معا ، فإذا أرضعتها الثانية من الكبار ، انفسخ نكاحها ، لأنّها أم من كانت زوجته ، فإن أرضعتها الثالثة ، انفسخ نكاحها ، لأنّها أم من كانت زوجته.

وروي في أخبارنا أنّ هذه لا تحرم ، لأنّها ليست زوجته في هذه الحال ، وانّما هي بنته والذي قدّمناه هو الذي يقتضيه أصولنا ، لأنّها من أمهات نسائه ، وقد حرّم اللّه تعالى أمّهات النساء ، وهذه كانت زوجته بلا خلاف.

والرضاع لا يثبت إلا ببينة عادلة ، ولا يقبل فيه شهادة النساء على الصحيح من أقوال أصحابنا.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا ادّعت المرأة انّها أرضعت صبيا لم يقبل قولها ، وكان الأمر على أصل الإباحة (1).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد بذلك بعد العقد عليها فصحيح ما قال ، لأنّها ادّعت شيئا يفسخ عقده عليها ، فلا يقبل إقرارها في حقّه ، فأمّا إن ادّعت وأقرّت قبل العقد عليها بأنّه ابنها من الرضاع ، وانّها محرمة عليه ، فلا يجوز العقد وتزويجه بحال ، لأنّ هذا إقرار على نفسها.

وإذا أرضعت المرأة صبيين ، ولكلّ واحد منهما اخوة وأخوات ، ولادة أو رضاعا من غير الرجل الذي رضعا من لبنه ، جاز التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ، ولا يجوز التناكح بينهما ، أنفسهما ، ولا بين إخوتهما وأخواتهما من جهة لبن الرجل الذي رضعا من لبنه ، حسب ما قدّمناه.

وروي أنّه إذا ربت المرأة جديا بلبنها ، فإنّه يكره لحمه ولحم كل ما كان من نسله عليها ، وليس ذلك بمحظور.

ص: 556


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه.

وذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في أوّل كتاب الرضاع ، مسألة : إذا حصل الرضاع المحرم ، لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع بلبنه ، ولا لأحد من أولاده من غير هذه المرضعة ، ومنها ، لأنّ اخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : قول شيخنا رحمه اللّه في ذلك غير واضح ، وأي تحريم حصل بين أخت هذا المولود المرتضع ، وبين أولاد الفحل ، وليس هي أختهم لا من أمهم ولا من أبيهم ، والنبي عليه السلام جعل النسب أصلا للرضاع في التحريم فقال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وفي النسب لا يحرم على الإنسان نكاح أخت أخيه التي لا من امه ولا من أبيه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

باب الكفاءة في النكاح واختيار الأزواج

قال الجوهري في كتاب الصحاح : الكفي ء النظير ، وكذلك الكفؤ والكفوء ، على فعل وفعول ، والمصدر الكفاءة بالفتح والمدّ (2).

فعندنا أنّ الكفاءة المعتبرة في النكاح أمران ، الإيمان ، واليسار بقدر ما يقوم بأمرها ، والإنفاق عليها ، ولا يراعى ما وراء ذلك من الأنساب والصنائع.

والأولى أن يقال : إنّ اليسار ليس بشرط في صحّة العقد ، وانّما للمرأة الخيار إذا لم يكن موسرا بنفقتها ، ولا يكون العقد باطلا ، بل الخيار إليها ، وليس كذلك خلاف الإيمان الذي هو الكفر إذا بان كافرا ، فانّ العقد باطل ، ولا يكون للمرأة الخيار كما كان لها في اليسار ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، فقد يوجد في كثير من الكتب المصنّفة إطلاق ذلك ، وانّ الكفاءة المعتبرة في صحة النكاح عندنا أمران ، الإيمان والنفقة ، وتحريره ما ذكرناه وبيّناه.

فعلى هذا التحرير ، يجوز العجمي أن يتزوّج بالعربية ، وللعامي أن يتزوّج بالهاشمية ، لأنّ الرسول عليه السلام زوّج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب

ص: 557


1- الخلاف : كتاب الرضاع ، المسألة 1.
2- الصحاح : ج 1 ، ص 68.

بن هاشم بن عبد مناف ، وهي بنت عمّه عليه السلام المقداد بن عمرو وهو عامي النسب ، بغير خلاف.

وكذلك يجوز للعبد أن يتزوّج بحرّة.

ويجوز للفاسق أن يتزوج بالعفيفة ، ولا يفسد العقد ، وإن كان تركه أفضل.

ولا بأس أن يتزوّج أرباب الصنائع الدنيّة أمن الحياكة والحجامة ، والحراسة ، وغير ذلك ، بأهل المروات والبيوتات ، كالتجار والتناء ، والولاة ، ونحو ذلك لقول الرسول والأئمة عليهم السلام : « المؤمنون بعضهم أكفاء لبعض في عقد النكاح كما أنّهم متكافئون في الدماء » (1) إلا ما خرج بالدليل ، من أنّ العبد ليس بكف ء للحر في القصاص.

وروي أنّه إذا خطب المؤمن إلى غيره بنته ، وكان عنده يسار بقدر نفقتها ، وكان ممن يرضى أفعاله وأمانته ، ولا يكون مرتكبا لشي ء يدخل به في جملة الفساق ، وإن كان حقيرا في نسبه ، قليل المال ، فلم يزوجه إياها ، كان عاصيا لله تعالى ، مخالفا لسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله (2).

ووجه الحديث في ذلك أنّه انّما يكون عاصيا إذا ردّه ، ولم يزوّجه ، لما هو عليه من الفقر والأنفة منه لذلك ، واعتقاده أنّ ذلك ليس بكف ء في الشرع ، فأمّا إن ردّه ولم يزوّجه لا لذلك ، بل لأمر آخر وغرض غير ذلك من مصالح دنياه ، فلا حرج عليه ، ولا يكون عاصيا ، فهذا فقه الحديث.

ويستحب للإنسان إذا أراد التزويج أن يطلب ذوات الدين والابوات ، والبيوتات ، والأصول الكريمة على الشياع والمتعارف ، بين الناس ، لقول الرسول

ص: 558


1- الوسائل : الباب 26 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 3. والباب 23 و 25 منها الحديث 1. ومستدرك الوسائل : الباب 22 من مقدمات النكاح ، ح 8.
2- ويدل على بعض المضمون روايات الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح من الوسائل ، وروايات الباب 24 من أبواب مقدمات النكاح من المستدرك.

عليه السلام : تخيّروا لنطفكم ، فانّ العرق دسّاس (1) ، وقوله عليه السلام استجيدوا الأخوال (2). وقوله عليه السلام : عليك بذات الدين ، تربت يداك (3). وهذا دعاء ، بمعنى الدعاء له ، والمدح على فعله إن فعل ، على مذهب كلام العرب ، فإنّهم إذا أرادوا مدح المجوّد في الرمي ، قالوا : قطعت يداه ، ما أرماه ، قال امرؤ القيس :

فهو لا تنمي رميته *** ماله لا عدّ من نفره

معناه أماته اللّه حتى لا يعد في الأحياء من قومه ، ومعنى هذا القول منه ، التعجب ، أي لله درّة ، كما يقال : أهلكه اللّه ، ما أفرسه! قال أبو عبيد : ترى أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يتعمد الدعاء عليه بالفقر ، ولكنّها كلمة جارية على ألسنة العرب ، يقولونها ، وهم لا يريدون وقوع الأمر.

وقال غيره : أراد تربت يداك ، إن لم تفعل ما أمرتك.

وقال ابن الأنباري : معناه ، لله درك إن استعملت ما أمرتك به ، واتعظت بعظتي.

ويجتنب من لا أصل له ولا عقل ، ولا يتزوج المرأة لجمالها ومالها ، إذا لم تكن مرضية في الاعتقاد والأصل والعقل ، فقد روي عنه عليه السلام أنّه قال : إيّاكم وخضراء الدمن. فقيل : وما خضراء الدمن يا رسول اللّه؟ فقال : المرأة الحسناء من منبت السوء (4).

وهذا من الفصاحة والاستعارة إلى حدّ تجاوز الغاية والنهاية ، وكيف لا يكون ذلك وهو أفصح العرب ، كما قال عليه السلام (5).

وقد قدّمنا أنّه لا يجوز أن يتزوج مخالفة له في الاعتقاد ، بغير هذه العبارة.

ص: 559


1- المحجّة البيضاء : ج 3 ص 93.
2- لم نعثر عليه.
3- سنن الترمذي : كتاب النكاح ، الباب 4 ، ح 1086. وفي سنن أبي داود : كتاب النكاح ، الباب 3. ح 2047 : « فاظفر بذات الدين تربت يداك ». ومثله سنن ابن ماجة : الباب 6 من كتاب النكاح ، ح 1858.
4- الوسائل : الباب 13 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ح 4.
5- اختصاص الشيخ المفيد : بعد حديث سقيفة بني ساعدة ، ص 187. بحار الأنوار ، الباب 18 من تاريخ بينا ، ج 5. ص 158.

ولا بأس بنكاح المستضعفات ، ممّن يتشهدن الشهادتين ، ولا يعرف منها. انحراف عن الحقّ ، وحدّ المستضعف من لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب ، ولا يبغض أهل الحقّ على اعتقاده.

وإذا وجد امرأة لها دين وأصل كريم ، فلا يمتنع من مناكحتها لأجل فقرها ، فانّ اللّه تعالى يقول ( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1).

ويختار من النساء الولود ، وإن كانت سوءاء قبيحة المنظر ، ويجتنب العقيم منهن ، وإن كانت حسناء جميلة المنظر.

ويستحب التزويج بالأبكار ، فقد روي أنّ النبيّ عليه السلام قال : إنّهن أطيب شي ء أفواها ، وأدر شي ء أخلافا ، وأحسن شي ء أخلاقا ، وأفتخ « بالخاء المعجمة » شي ء أرحاما (2) ومعنى « افتخ » : ألين وأنعم.

وروي كراهية التزويج بالأكراد (3).

ويكره تزويج المجنونة.

ولا بأس أن يتزوج الرجل بامرأة قد علم منها الفجور ، إذا تابت وأقلعت ، وقد روي (4) أنّه إذا عقد على امرأة ثم علم بعد ذلك العقد أنّها كانت زنت ، كان له أن يرجع على وليها بالمهر ، إذا كان عالما بحالها ، ما لم يدخل بها ، فان دخل بها كان لها المهر بما استحلّ من فرجها ، ولا يكون له فسخ النكاح ، فإن أراد طلاقها فهو مخيّر فيه ، ولا تبين منه إلا بالطلاق ، أو ما يجري مجراه ، وقال بعض أصحابنا : هو من جملة العيوب التي ترد به النساء.

باب من يتولى العقد على النساء

عندنا أنّه لا ولاية على النساء الصغار اللاتي لم يبلغن تسع سنين إلا للأب

ص: 560


1- النور : 32.
2- الوسائل : الباب 17 و 32 من أبواب مقدمات النكاح.
3- الوسائل : الباب 17 و 32 من أبواب مقدمات النكاح.
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 4.

والجد من قبله ، إلا أنّ لولاية الجد رجحانا وأولوية هنا بغير خلاف بين أصحابنا ، إلا من شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) ، فإنّه يجعل ولاية الجد مرتبطة بحياة الأب في هذه الحال.

والصحيح أنّ ولايته بعد الأب باقية ثابتة في مالها وغيره ، والأصل بقاؤها ، فمن أزالها يحتاج إلى دليل قاهر.

والجد له مزية في هذه الحال ، بأن يختار هو رجلا ، ويختار أبوها رجلا ، فالأولى أن يقدّم من اختاره الجد ، فان بادر الأب في هذه الحال ، وعقد على من اختاره ، فعقده ماض ، فأمّا إن عقدا معا لرجلين في حالة واحدة ، فإنّ العقد عقد الجد ، ويبطل عقد الأب بغير خلاف في ذلك أجمع.

فأمّا عقدهما عليها بعد بلوغها التسع سنين ، وهي رشيدة مالكة لأمرها وهي بكر غير ثيب ، فإنّ أصحابنا مختلفون في ذلك على قولين.

منهم من يقول عقدهما ماض ، وولايتهما باقية ثابتة لم تزل ، ويسوى بين الحالين ، إلا أنّ هاهنا ولاية الجد مرتبطة بحياة الأب ، فإذا مات الأب عند هذه الحال بطلت ولاية الجد ، وصار كالأجانب ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض ، وهو قول شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ومعظم كتبه (3).

ومنهم من يفرّق بين الحالين ، ويزيل ولايتهما في هذه الحال ، وهم الأكثرون المحصلون من أصحابنا ، ويجعلون أمرها بيدها ، ولا يمضون عقدهما عليها ، والحال ما ذكرناه إلا برضاها ، فإن لم ترض وأظهرت الكراهة ، بطل العقد وانفسخ ، وهو قول شيخنا المفيد في كتابه أحكام النساء (4) ، وقول السيّد المرتضى.

وإلى هذا القول أذهب وعليه أعتمد ، وبه أفتى ، لوضوحه عندي ، ويقويه النظر والاعتبار ، والمحقق من الأخبار ، وقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ

ص: 561


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
3- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 17.
4- لم نعثر عليه.

بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (1) فجعل النكاح في الولاية بيدها ، وأضافه إليها ، فالظاهر أنّها تتولاه ، وقوله تعالى ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) فأباح فعلها في نفسها ، من غير اشتراط أحد من الأب والجدّ ، وقوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا ) (3) فأضاف التراجع إليهما ، وهو عقد ، لأنّه لو أراد الرجعة من الزوج وحده ، لما أضافه إليهما معا.

وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، أنّ الأب بعد البلوغ والرشد تخرج الولاية منه عن المال ، ويجب تسليمه إليها ، والاتفاق على أنّ العاقل لا يحجر عليه في ماله ونفسه إلا ما خرج بالدليل من المفلس ، ولا خلاف بينهم أنّ بالبلوغ يكمل عقلها ، ويجب تسليم مالها إليها ، ويصح عقود بيوعها ونذرها وإيمانها ، لقوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (4) ومن جملة فعلها بنفسها ، عقدها عليها عقدة النكاح ، وقد أباح لها اللّه تعالى ذلك بصريح لفظ الآية ، ما تفعله في نفسها ، وذلك عام في جميع الأفعال ، فمن ادّعى التخصيص يحتاج إلى دليل.

فعلى هذا التقرير والتحرير ، إذا لم ترض بعقد أبيها وأظهرت كراهية عقده ، فإنّه يكون باطلا مفسوخا ، وإن رضيت به وامضته ، فإنّه يكون صحيحا ، ويجري مجرى غيره من الأجانب ، لأنّ العقد عندنا في النكاح يقف على الإجازة بغير خلاف بيننا ، إلا ممن شذ وعرف اسمه ونسبه ، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وأيضا فلا خلاف بين المخالف والمؤالف من أصحابنا في المسألة ، أنّ ولاية الأب تزول عن البكر البالغ في عقد النكاح المؤجل ، فبالإجماع قد زالت ولايته هاهنا في النكاح المؤجل ، فلو كانت ولايته ثابتة في النكاح بعد البلوغ ، لم تزل في أحد قسميه ، وتثبت في الآخر ، فمن ادّعى ثبوت ولايته في القسم الآخر الذي

ص: 562


1- البقرة : 230.
2- البقرة : 234.
3- البقرة : 230.
4- البقرة : 234.

هو الدائم ، فعليه الدليل ، لأنّه موافق في خروج الولاية من يده في العقود كلّها ، من البيع وغيره ، وفي أحد قسمي النكاح.

وأيضا فشيخنا أبو جعفر قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان أولى الأولياء مفقودا أو غائبا غيبة منقطعة ، أو على مسافة قريبة أو بعيدة ، وكلت وزوّجت نفسها ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا ما قدّمناه في المسألة الأولى سواء ، من أنّه لا ولاية لغير الأب والجدّ ، ومتى كان أحدهما غائبا كان للآخر تزويجها ، وإن غابا جميعا وكانت بالغا كان لها أن تعقد على نفسها ، وتوكل من شاءت من باقي الأولياء (1) هذا آخر كلام شيخنا في المسألة.

فانظر أرشدك اللّه إلى كلامه رحمه اللّه فهل ترى للخلاف معنى؟ لأنّ من جعل له الولاية ، لا يقول أنّ مع الغيبة تسقط ، لأنّ ولي الصغيرة من الأب والجد ، إذا غابا لا تسقط ولايتهما عنها بحال ، ولا يجوز تزويجها إلا بإذنهما ، لأنّ لهما عليها الولاية بغير خلاف ، وكذلك حالها عند البلوغ ، لا تزول ولايتهما عند من ذهب إلى ذلك من أصحابنا إذ لا فرق بين الموضعين ، وأيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي ، قد رجع وسلم المذهب بالكلية في كتابه كتاب التبيان ، ورجع عمّا ذكره في نهايته ، وسائر كتبه ، لأنّ كتاب التبيان صنّفه بعد كتبه جميعها ، واستحكام علمه ، وسبرة للأشياء ، ووقوفه عليها ، وتحقيقه لها ، فقال في تفسير قوله تعالى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (2) فإنّه قال : لا ولاية لأحد عندنا ، إلا للأب والجد ، على البكر غير البالغ ، فأمّا من عداهما فلا ولاية له (3) فهذا قوله في كتاب التبيان المشتمل على تفسير القرآن ، وإذا كان لا إجماع في المسألة من أصحابنا ، والأصول من الأدلة شاهدة لما ذهبنا إليه واخترناه ، فلا معدل عنه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي محجوج بقوله هذا الذي

ص: 563


1- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 37.
2- البقرة : 237.
3- التبيان : ج 2 ، ص 273.

حكيناه عنه في التبيان.

وقال السيد المرتضى في كتابه الانتصار : مسألة ، ومما يظن قبل الاختبار ، أنّ الإمامية تنفرد به القول ، بأنّه ليس للأب أن يزوّج بنته البكر البالغة إلا بإذنها ، وأبو حنيفة يوافق في ذلك ، وقال مالك والشافعي : للأب أن يزوّجها بغير إذنها ، ثمّ قال رحمه اللّه في استدلاله : دليلنا الإجماع المتردد (1).

وشيخنا المفيد ، قال في كتابه كتاب أحكام النساء ، قال في باب أحكام النساء في النكاح : والمرأة إذا كانت كاملة العقل ، سديدة الرأي ، كانت أولى بنفسها في العقد عليها للأزواج من غيرها ، كما أنّها أولى بالعقد على نفسها في البيع والابتياع ، والتمليك ، والهبات ، والوقوف ، والصدقات ، وغير ذلك ، من وجوه التصرفات ، غير أنّها إذا كانت بكرا ولها أب أوجد لأب ، فمن السنّة أن يتولى العقد عليها أبوها ، أو جدها لأبيها ، إن لم يكن لها أب ، بعد أن يستأذنها في ذلك ، فتأذن فيه ، وترضى به ، ولو عقدت على نفسها بغير إذن أبيها ، لكان العقد ماضيا (2) ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه.

وأيضا فقد قال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مبسوطة ، في فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك : إذا بلغت الحرة رشيدة ، ملكت كلّ عقد من النكاح ، والبيع ، وغير ذلك ، وفي أصحابنا من قال : إذا كانت بكرا لا يجوز لها العقد على نفسها ، إلا بإذن أبيها ، وفي المخالفين من قال : لا يجوز نكاح إلا بولي ، وفيه خلاف ، ثمّ قال رحمه اللّه : وإذا تزوّج من ذكرنا بغير وليّ ، كان العقد صحيحا (3).

فقد وافق هاهنا أيضا ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، في هذه المسألة.

النكاح عندنا يقف على الإجازة ، مثل أن يزوّج رجل امرأة من غير أمر وليها

ص: 564


1- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 17.
2- لم نعثر عليه.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 162.

لرجل ، ولم يأذن له في ذلك ، يقف العقد على إجازة الزوج والولي ، ولو زوّج رجل بنت غيره - وهي غير بالغ - من رجل ، فقبل الزوج ، وقف العقد على إجازة الولي ، وكذلك لو زوّج الرجل بنته الثيب الكبيرة الرشيدة ، أو أخته الكبيرة الرشيدة ، أو غير الكبيرة ، وقف على إجازتها ، وكذلك لو تزوّج العبد بغير إذن سيده ، والأمة بغير إذن سيدها وقف العقد على إجازتهما بغير خلاف في ذلك كلّه عند أصحابنا ، ما خلا العبد والأمة ، فإنّ بعضهم يوقف العقد على إجازة الموليين ، وبعضهم يبطله ويفسده ، ويحتج بأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، وما عداهما لا خلاف بينهم فيه.

إلا ما ذهب شيخنا أبو جعفر إليه في مسائل خلافه (1) فإنّه خالف أصحابه ، في ذلك ، واختار مذهب الشافعي ، وإن كان موافقا لباقي أصحابنا في نهايته (2) ، واستبصاره (3) وتهذيبه (4).

دليلنا : إجماع أصحابنا المنعقد على ما اخترناه ، فانّ من ذكرناه معروف الاسم والنسب ، وإن كان محجوجا بقوله في غير مسائل الخلاف.

والأخبار متواترة عن الأئمة الأطهار بوقوف عقود النكاح على الإجازة.

وقال السيّد المرتضى في الناصريات ، في المسألة الرابعة والخمسين والمائة : ويقف النكاح على الفسخ والإجازة في أحد القولين ، ولا يقف في القول الآخر ، هذا صحيح ، ويجوز أن يقف النكاح عندنا على الإجازة ، ووافقنا على ذلك أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا يصح النكاح الموقوف على الإجازة ، سواء كان

ص: 565


1- الخلاف : كتاب النكاح ، مسألة 11.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
3- الاستبصار : ج 3 ، كتاب النكاح ، باب أنه لا يزوج البكر إلا بإذن أبيها ، وباب أنّ الأب إذا عقد على ابنته الصغيرة .. ، ص 235 و 236.
4- التهذيب : ج 7 ، كتاب النكاح ، باب عقد المرأة على نفسها النكاح ، ص 279 و 280.

موقوفا على إجازة الزوج ، أو الولي ، أو المنكوحة ، وقال في استدلاله : دليلنا على صحة مذهبنا ، الإجماع المتردد ، وما رواه ابن عباس ، من أنّ جارية بكرا أتت النبيّ عليه السلام ، فذكرت أنّ أباها زوّجها ، وهي كارهة ، فخيرها النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم (1) ، وهذا يدلّ على أنّ النكاح يقف على الإجازة والفسخ ، وأيضا ما روي في خبر آخر أنّ رجلا زوّج ابنته وهي كارهة ، فجاءت النبيّ عليه السلام وقالت : زوجني أبي ، « ونعم الأب » من ابن أخيه ، يريد أن يرفع بي خسيسته ، فجعل النبيّ عليه السلام أمرها إليها ، فقالت : أجزت ما صنع بي أبي ، وانّما أردت أن اعلم النساء أنّه ليس إلى الآباء من أمر النساء شي ء (2) ، وروي في بعض الأخبار أنّه عليه السلام قال لها : أجيزى ما صنع أبوك ، وأبوها ما صنع إلا العقد ، فدلّ على أنّه كان موقوفا على الإجازة (3) هذا آخر كلام السيد المرتضى رضي اللّه عنه وأرضاه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى عقد الأبوان على ولديهما قبل أن يبلغا ، ثمّ ماتا ، فإنّهما يتوارثان ، ترث الجارية الصبيّ ، والصبيّ الجارية (4).

قال محمّد بن إدريس : هذا صحيح بغير خلاف بين أصحابنا.

ثمّ قال : ومتى عقد عليهما غير أبويهما ، ثمّ مات واحد منهما ، فإن كان الذي مات ، الجارية ، فلا يرث الصبيّ ، سواء بلغ أو لم يبلغ ، لأنّ لها الاختيار عند البلوغ ، فإن كان الذي مات ، الزوج قبل أن يبلغ ، فلا ميراث لها أيضا ، لأنّ له

ص: 566


1- سنن ابن ماجة : الباب 12 من كتاب النكاح ، ح 3 ( الرقم 1875 ) عن ابن عباس. ورواه أبو داود في سننه عنه أيضا في كتاب النكاح الباب 25 ( الرقم 2096 ). وأورده في التاج : ج 1. في الباب الرابع في الاستئذان وأركان النكاح ص 293 من غير طريق ابن عباس.
2- ابن ماجة : الباب 12 من كتاب النكاح ، ح 2 ( الرقم 1874 ) باختلاف يسير.
3- الناصريات : كتاب النكاح ، مسألة 154.
4- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

الخيار عند البلوغ ، وإن كان موته عند بلوغه ورضاه بالعقد قبل أن تبلغ الجارية ، فإنّه يعزل ما ترثه ، إلى أن تبلغ ، فإذا بلغت ، عرض عليها العقد ، فإن رضيت به ، حلفت باللّه تعالى أنّها ما دعاها إلى الرضا الطمع في الميراث ، فإذا حلفت ، أعطيت الميراث ، وإن أبت لم يكن لها شي ء (1).

قال محمّد بن إدريس : وهذا تسليم منه رحمه اللّه ، أنّ العقد يقف على الإجازة والفسخ.

ثمّ قال رحمه اللّه : ومتى عقد على صبية لم تبلغ غير الأب أو الجد مع وجود الأب ، كان لها الخيار إذا بلغت ، سواء كان ذلك العاقد جدا مع عدم الأب ، أو الأخ أو العم ، أو الأم (2).

وهذا أيضا تسليم للمسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا لم يكن لها جد وكان لها أخ ، يستحب لها أن تجعل الأمر إلى أخيها الكبير ، وإن كان لها اخوان فجعلت الأمر إليهما ، ثمّ عقد كلّ واحد منهما عليها لرجل ، كان الذي عقد له عليها أخوها الأكبر أولى بها من الآخر (3).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد بذلك أنّهما عقدا في حالة واحدة معا ، الإيجابان والقبولان في دفعة واحدة ، فالعقدان باطلان ، لأنّ ذلك منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، وحمل ذلك على الأب والجد قياس ، ونحن لا نقول به ، وان أراد أنّه تقدّم عقد الأخ الصغير عليها ، فكيف يكون الذي عقد له عليها أخوها الأكبر أولى ، وإن أراد أنّ الأكبر كان عقده متقدّما ، فالعقد صحيح ، ولا معنى للأولوية هاهنا.

ثمّ قال رحمه اللّه : فإن دخل بها الذي عقد عليها أخوها الصغير ، كان العقد

ص: 567


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

ماضيا ، ولم يكن للأخ الكبير أمر مع الدخول بها (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إذا كان الصغير قد سبق بالعقد ، فسواء دخل بها المعقود له عليها أو لم يدخل ، لا أمر للكبير ، فإن كان الأخ الكبير قد سبق بالعقد ودخل الذي عقد له الأخ الصغير بها ، فإنّها تردّ إلى الأول ، وكان لها الصداق بما استحلّ من فرجها ، وعليها العدة ، ولا نفقة لها على من دخل بها ، لأنّها تعتد لغيره ، بل النفقة على زوجها ، لأنّها في حباله ، وانّما منعه الشرع من وطئها ، فإن جاءت بولد كان لا حقا بأبيه.

وذهب شيخنا في نهايته إلى أنّه إن كان قد دخل بها الذي عقد له عليها أخوها الأصغر ، وإن كان عقده بعد عقد أخيها الأكبر عليها ، فهي زوجته مع الدخول (2).

إلا أنّه رجع في مسائل خلافه (3) ، وفي مبسوطة (4) عن ذلك وقال : وروي في بعض أخبارنا ذلك (5).

ورجوعه هو الصحيح.

ومتى عقد الرجل لابنه على جارية وهو غير بالغ ، كان له الخيار إذا بلغ ، وليس كذلك إذا عقد على بنته غير البالغ ، لأنّها إذا بلغت لا خيار لها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا أراد الأخ العقد على أخته البكر ، استأمرها ، فإن سكتت كان ذلك رضى منها (6).

قال محمّد بن إدريس : المراد بذلك ، أنّها تكون قد وكلته في العقد.

ص: 568


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء ، والعبارة هكذا ، فإن كان الأخ الكبير سبق بالعقد ودخل بها الذي عقد له الأخ الصغير فإنها تردّ إلى الأوّل.
3- الخلاف. كتاب النكاح ، المسألة 42.
4- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك ، ص 177 ، وقوله وروي في بعض أخبارنا لا يوجد في كتابيه.
5- الوسائل : الباب 7 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 4.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

فإن قيل : إذا وكلته في العقد فلا حاجة به إلى استيمارها.

قلنا : بل يستحب أن يستأمرها عند العقد بعد ذلك ، وكذلك الأب إذا لم يكن وليا عليها ، ولا له إجبارها على النكاح ، وولت أمرها إليه ، فإنّه يستحب له أن يستأمرها إذا أراد العقد عليها ، وهذا معنى ما روي أنّ إذنها صماتها (1) وإلا السكوت لا يدل في موضع من المواضع على الرضا ، إلا إذا لم يكن له وجه إلا الرضا ، فإنّه يدلّ حينئذ على الرضا.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في فصل في ذكر أولياء المرأة ، إلى ما ذكرناه ، وحقّق ما حررناه ، فقال : وأمّا الأبكار فلا يخلو أن تكون صغيرة أو كبيرة ، فإن كانت صغيرة كان لأبيها وجدها أبي أبيها وإن علا أن يزوجها لا غير ، وإن كانت كبيرة فالظاهر في الروايات (2) أنّ للأب والجد أن يجبراها على النكاح ، ويستحب له أن يستأذنها ، وإذنها صماتها ، وإن لم يفعل فلا حاجة به إليها (3) هذا آخر قول شيخنا في مبسوطة.

وإذا ولت المرأة غيرها العقد عليها ، وسمّت له رجلا بعينه ، لم يجز له العقد لغيره عليها ، فإن عقد لغيره كان العقد باطلا.

وإذا عقد الرجل على ابنه وهو صغير ، وسمّى مهرا ثمّ مات الأب ، كان المهر من أصل تركته قبل القسمة ، سواء رضي الابن بالعقد بعد بلوغه ، أو لم يرض ، لأنّه لمّا عقد عليه ولا مال للابن ، فقد ضمن الأب المهر ، فانتقاله إلى الابن بعد بلوغه ورضاه يحتاج إلى دليل ، إلا أن يكون للصبيّ مال في حال العقد ، فيكون المهر من مال الابن دون الأب ، لأنّه الناظر في مصالحه ، والوالي

ص: 569


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 1 وفيه : قال أبو الحسن عليه السلام في المرأة البكر : إذنها صماتها.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 8 ، وكذلك الباب 6 من تلك الأبواب.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 162.

عليه في تلك الحال ، فأمّا الموضع الذي أوجبنا المهر في مال الأب ، فدليله إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا فإنّه لما قبل النكاح لولده مع علمه بإعساره ، وعلمه بلزوم الصداق بعقد النكاح ، علمنا من حيث العرف والعادة أنّه دخل على أن يضمن ، فقام العرف في هذا مقام نطقه.

وحدّ الجارية التي يجوز لها العقد على نفسها ، أو يجوز لها أن تولّي من يعقد عليها ، تسع سنين فصاعدا ، مع الرشد والسلامة من زوال العقل ، فإن بلغت إلى ذلك الحدّ وهي مجنونة أو زائلة العقل ، فإنّ ولاية الأب غير زائلة.

ومتى عقدت الام لابن لها على امرأة ، كان مخيرا في قبول العقد والامتناع منه ، فإن قبل لزمه المهر ، وإن أبي ذلك لزمها هي المهر ، على ما روي في بعض الأخبار (1) أورده شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : حمل ذلك على الأب قياس ، فإن الام غير والية على الابن ، وإنّما هذا النكاح موقوف على الإجازة والفسخ ، فإن بلغ الابن ورضي لزمه المهر ، وإن أبى انفسخ النكاح ، ولا يلزم الامّ من المهر شي ء بحال ، إذ هي والأجانب سواء ، ولو عقد عليه أجنبي كان الحكم ما ذكرناه بغير خلاف ، فلا دليل على لزوم المهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فبقينا على حكم الأصل.

وقد روي (3) أنّ المرأة إذا عقدت على نفسها عقدة النكاح ، وهي سكرى ، كان العقد باطلا ، فإن أفاقت ورضيت بفعلها ، كان العقد ماضيا ، وإن دخل بها الزوج في حال السكر ، ثم أفاقت الجارية ، فاقرّته على ذلك ، كان ذلك أيضا

ص: 570


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 3.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء ، باختلاف يسير.
3- الوسائل : الباب 14 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

ماضيا ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والذي يقوى عندي أنّ هذا العقد باطل ، فإذا كان باطلا فلا يقف على الرضا والإجازة ، لأنّه لو كان موقوفا وقف على الفسخ والإجازة ، وشيخنا قال : كان العقد باطلا ، فإذا كان باطلا ، فكيف يكون في نفسه بعد الإفاقة والرضا ماضيا؟ وأيضا العقد حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : والذي بيده عقدة النكاح ، الأب أو الجدّ مع وجود الأب ، أو الأخ إذا جعلت الأخت أمرها إليه ، أو من وكلته في أمرها ، فأي هؤلاء كان جاز له أن يعفو عن بعض المهر ، وليس له أن يعفو عن جميعه (2).

وقال في مسائل خلافه : الذي بيده عقدة النكاح عندنا ، هو الولي الذي هو الأب ، أو الجد ، ثمّ قال : إلا أنّ عندنا له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه (3).

وقال في كتاب التبيان في تفسير قوله تعالى ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (4) قال رحمه اللّه : قوله « إِلّا أَنْ يَعْفُونَ » معناه من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى عليها لفساد عقلها ، فتترك ما يجب لها من نصف الصداق ، وهو قول ابن عباس ومجاهد ، وجميع أهل العلم ، وقوله ( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » قال مجاهد ، والحسن ، وعلقمة ، أنّه الولي ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام غير أنّه لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب والجدّ على البكر غير البالغ ، فأمّا من عداهما فلا ولاية له إلا بتولية منها ، وروي عن علىّ عليه السلام ، وسعيد بن المسيّب ، وشريح ، وحمّاد ، وإبراهيم ، وأبي

ص: 571


1- النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء.
3- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 34.
4- البقرة : 237.

حذيفة ، وابن شبرمة ، أنّه الزوج ، وروي ذلك أيضا في أخبارنا ، غير أنّ الأوّل أظهر ، وهو المذهب ، وفيه خلاف بين الفقهاء ، ومن جعل العفو للزوج ، قال : له أن يعفو عن جميع نصفه ، ومن جعله للوليّ قال أصحابنا : له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه ، وإن امتنعت المرأة من ذلك ، لم يكن لها ذلك ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، عن أبي عبد اللّه واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج ، قال : لأنّه ليس للوليّ أن يهب مال المرأة (1) هذا آخر كلامه في كتابه التبيان.

والذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته النظر والاعتبار ، والأدلة القاهرة ، والآثار ، أنّ الأب أو الجد من قبله مع حياته أو موته ، إذا عقدا على غير البالغ ، فلهما أن يعفوا عما تستحقه من نصف المهر بعد الطلاق ، إذا رأيا ذلك مصلحة لها ، وتكون المرأة وقت عفوهما غير بالغ ، فأمّا من عداهما ، أو هما مع بلوغها ورشدها ، فلا يجوز لهما العفو عن النصف ، وصارا كالأجانب ، لأنّهما في هذه الحال لا ولاية لهما عليها ، وهي الوالية على نفسها ، ولا يجوز لأحد التصرف في مالها بالهبة والعفو وغير ذلك إلا عن إذنها ، لأنّ التصرف في مال الغير لا يجوز عقلا وسمعا ، إلا بإذنه ، وليس في الآية إن تعلّق بها متعلّق سوى ما ذكرناه ، لأنّه تعالى قال « إِلّا أَنْ يَعْفُونَ » فدلّ بهذا القول أنهن ممن لهن العفو ، وهن الحرائر البالغات الواليات على أنفسهن في العقد والعفو والبيع والشراء وغير ذلك ، ثمّ قال « أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » معناه إن لم يكنّ بالغات ولا واليات على أنفسهن ، فعند هذه الحال لا يلي عليهن عندنا سوى الأب والجد بغير خلاف بيننا ، وهما الواليان عليهن والناظران في عقد نكاحهن ، فلهما العفو بعد الطلاق عما تستحقه ، ولأنّ الإجماع حاصل منعقد على ما ذكرناه ، وفيما عداه خلاف ، فالاحتياط يقتضي ما ذكرناه ، ودليل

ص: 572


1- التبيان : ج 2 ، ص 273 و 274 في تفسير آية 237 من سورة البقرة.

العقل يعضد ما اخترناه ، إذ لا إجماع من أصحابنا على خلاف ما شرحناه ، ولا تواتر من الأخبار على ضد ما بيّناه. وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه مختلف على ما بيّناه في كتبه وحكيناه ، وأقوال المفسرين مختلفة على ما سطّرناه.

ولو لا الإجماع من أصحابنا على أنّ الذي بيده عقدة النكاح ، الأب والجدّ على غير البالغ ، لكان قول الجبائي قويا ، مع أنّه قد روي في بعض أخبارنا أنّه الزوج (1).

وروي أنّه إذا كان لرجل عدة بنات ، فعقد لرجل على واحدة منهن ، ولم يسمّها بعينها ، لا للزوج ولا للشهود ، فإن كان الزوج قد رآهن كلّهن ، كان القول قول الأب ، وعلى الأب أن يسلّم إليه التي نوى العقد عليها عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كلّهن كان العقد باطلا ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

وعاد عنه في مبسوطة ، وضعفه ، وقال : النكاح باطل في الموضعين (3).

وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ العقد حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ومن شرط صحته تمييز المعقود عليها ، ولأنّه إذا ميزها من غيرها ، صحّ العقد بلا خلاف ، وإذا لم يميزها ليس على صحته دليل ، أو فيه خلاف ، فالاحتياط يقتضي ما قلناه واخترناه ، وإنّما أورد الخبر شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله مما لا يعمل به ، رواها أبو عبيدة فحسب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في فصل فيما ينعقد به النكاح : لا يصح النكاح حتى تكون المنكوحة معروفة بعينها ، على صفة تكون متميزة عن غيرها ، وذلك بالإشارة إليها أو التسمية أو الصفة (4).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : لا يصح نكاح الثيب إلا بإذنها ، وإذنها

ص: 573


1- مستدرك الوسائل : الباب 37 من أبواب المهور ، ح 4.
2- النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء آخر الباب.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل فيما ينعقد به النكاح ، ص 192 ، والعبارة هكذا : وإن قال : إحدى ابنتي أو قال : بنتي فقط ، فالنكاح باطل.
4- المبسوط : ج ، كتاب النكاح ، ص 192.

نطقها بلا خلاف ، وأمّا البكر ، فإن كان لها ولي ، له الإجبار ، مثل الأب والجدّ ، فلا يفتقر نكاحها إلى إذنها ، ولا إلى نطقها ، فإن لم يكن له الإجبار كالأخ وابن الأخ والعم ، فلا بدّ من إذنها ، والأحوط أن يراعى نطقها وهو الأقوى عند الجميع ، وقال قوم : يكفي سكوتها ، لعموم الخبر ، وهو قوي (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

والذي يقوى في نفسي أنّه لا بدّ من نطقها على ما قدّمناه ، لأنّا قد بيّنا أنّه لا ولاية لأحد بعد البلوغ عليها بحال.

لا ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، وهو أن يقع الإيجاب والقبول بلفظة واحدة ، أو الإيجاب بإحداهما والقبول بالأخرى ، فتقول : أنكحتك ، فيقول : قبلت النكاح ، أو تقول : زوجتك ، فيقول : قبلت التزويج ، أو تقول : أنكحتك فيقول : قبلت التزويج ، أو تقول : زوجتك ، فيقول : قبلت النكاح ، وما عدا هذا فلا ينعقد به النكاح الدائم بحال.

فأمّا النكاح المؤمل ينعقد بلفظة أخرى زائدة على هاتين اللفظتين ، وهي متعتك نفسي بكذا إلى أجل كذا ، إلا أنّ عقد النكاح الدائم ليس من شرط صحته ذكر المهر ، بل ينعقد من دونه بغير خلاف ، والمؤجل من شرط صحته ذكر المهر والأجل.

وإذا قال رجل في عقد الدوام : أنكحتك أو زوجتك بنتي ، فقال الزوج : قبلت ولم يزد على ذلك ، فعندنا يصحّ العقد ، لأنّ معنى قوله قبلت ، أي قبلت هذا الإيجاب ، أو هذا العقد.

وإذا قال : زوجتك حمل هذه المرأة ، كان باطلا.

ولا بأس أن يتقدّم القبول على الإيجاب في عقد النكاح عندنا ، ولا يجوز ذلك في عقد البيع.

ولا بدّ أن يأتي بلفظ الاخبار في الإيجاب ، ولا يجوز أن يأتي بلفظ الأمر أو

ص: 574


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك.

الاستفهام ، لأنّه لا خلاف في صحّته أن يأتي به على ما قلناه ، وفيما عداه خلاف ، وأيضا ، فالعقد حكم شرعي يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي.

عقد النكاح لا يدخله خيار المجلس ، ولا خيار الشرط ، لأنّه عقد لازم من الطرفين ، فإن شرط ذلك فيه بطل الشرط ، وصح العقد.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ومبسوطة (2) : إذا شرط ذلك بطل العقد.

قال محمّد بن إدريس : لا دليل على بطلان العقد من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، لأنّ العقود الشرعية إذا ضامّتها شروط غير شرعية ، بطلت الشروط وصحّت العقود ، وهذا شرط غير شرعي.

والذي يدلّ على صحّة العقد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) وهذا عقد يجب الوفاء به ، والذي اختاره شيخنا تخريجات المخالفين وفروعهم ، وهو مذهب الشافعي ، وأحد من أصحابنا لم يذهب إلى ذلك ، ولا ذكر المسألة في مسطور له ، ولا وردت بها رواية من جهة أصحابنا ، لا آحادا ولا تواترا ، وشيخنا لما استدل على ما اختاره ، لم يتعرض للإجماع ، ولا للأخبار ، بل لشي ء أوهن من بيت العنكبوت ، ولم يتعرض لها في سائر تصنيفه ، إلا في هذين الكتابين ، لأنّهما فروع المخالفين وتخريجاتهم.

باب المهور وما ينعقد به النكاح وما لا ينعقد

الأصل في الصداق كتاب اللّه ، وسنّة نبيه صلى اللّه عليه وآله ، قال اللّه تعالى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (4).

فإن قيل : كيف سمّاه اللّه تعالى نحلة ، وهو عوض عن النكاح؟

أجيب عنه بثلاثة أجوبة ، أحدها : اشتقاقه من الانتحال الذي هو التدين ،

ص: 575


1- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 59.
2- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل فيما ينعقد به النكاح ، ص 194.
3- المائدة : 1.
4- النساء : 4.

يقال : فلان ينتحل مذهب كذا ، فكان قوله نحلة ، معناه تدينا.

والثاني : أنّه في الحقيقة نحلة منه لها ، لأنّ حظ الاستمتاع من كل واحد منهما لصاحبه كحظ صاحبه.

والثالث : قيل : إنّ الصداق كان للأولياء في شرع من قبلنا ، بدلالة قول شعيب حين زوج موسى ابنته ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (1) ولم يقل تأجر بنتي ثماني حجج ، فكان معنى قوله « نِحْلَةً » أي انّ اللّه أعطاكن هذا في شرعنا نحلة.

فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر.

ومتى تولى عن ذكر المهر ، وعقد النكاح بغير ذكره ، فالنكاح صحيح إجماعا على ما قدّمناه ، لقوله تعالى ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) (2) معناه : ولم تفرضوا لهن فريضة ، بدلالة قوله ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) (3) ولا متعة لمن طلّقها قبل الدخول ، إلا التي لم يسمّ لها مهر.

والصداق ما تراضى عليه الزوجان ، ممّا له قيمة في شرع الإسلام ، ويحلّ تملكه ، قليلا كان أو كثيرا ، بلا خلاف بين المسلمين ، إلا ما ذهب إليه السيد المرتضى في انتصاره ، فإنّه قال : إذا زاد على خمسين دينارا لا يلزم إلا الخمسون (4) والصحيح ما قدّمناه ، لأنّ هذا خلاف لظاهر القرآن ، والمتواتر من الأخبار ، وإجماع أهل الأعصار ، لأنّه لا خلاف في أن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، والصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين تزوجوا بأكثر من خمسين دينارا.

ولا يجوز في المهر ما لا يحلّ تملكه للمسلم ، من خمر أو نبيذ أو خنزير ، وما أشبه ذلك ، فإن عقد على شي ء من هذه المحرمات ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي

ص: 576


1- القصص : 27.
2- البقرة : 236.
3- البقرة : 236.
4- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 20.

في نهايته : كان العقد باطلا (1). وكذلك يقول شيخنا المفيد في مقنعته (2) ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، في كتاب الصداق فقال : مسألة ، إذا عقد على مهر فاسد مثل الخمر والخنزير والميتة وما أشبهه ، فسد المهر ولم يفسد النكاح. ووجب لها مهر المثل ، وبه قال جميع الفقهاء ، إلا مالكا ، فإنّ عنه روايتين ، إحداهما مثل ما قلناه ، والأخرى يفسد النكاح ، وبه قال قوم من أصحابنا ، ثمّ قال في استدلاله على صحّة ما اختاره رحمه اللّه : دليلنا انّ ذكر المهر ليس من شرط صحة العقد ، فإذا ذكر ما هو فاسد ، لم يكن أكثر من أن لم يذكره أصلا ، فلا يؤثر ذلك في فساد العقد (3) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى في نفسي ، ما ذكره في مسائل خلافه ، والدليل عليه ما استدلّ به رحمه اللّه ، فإنّه استدلال مرضي ، ولا إجماع على فساد هذا العقد ، ولا كتاب اللّه تعالى ، ولا دليل عقل ، ولا سنّة متواترة ، بل قوله تعالى يعضد ما ذكره ، وهو قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (4). والنكاح قد بيّنا أنّه العقد من الإيجاب والقبول ، وقد حصل ذلك ، وقد بيّنا أيضا أنّ ذكر المهر ليس من شرط صحة عقد الدوام.

ويجوز أن يكون منافع الحر مهرا ، مثل تعليم قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء ، أو خياطة ثوب ، وغير ذلك مما له أجرة ، لأنّ كلّ ذلك له أجر معيّن ، وقيمة مقدرة.

واستثنى بعض أصحابنا من جملة ذلك الإجارة إذا كانت معيّنة يعملها الزوج بنفسه ، قال : لأنّ ذلك كان مخصوصا بموسى عليه السلام ، والوجه في ذلك أنّ الإجارة إذا كانت معيّنة لا تكون مضمونة ، بل إذا مات المستأجر لا تؤخذ من تركته ، ويستأجر لتمام العمل ، وإذا كانت في الذمة تؤخذ من تركته ،

ص: 577


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أول الباب.
2- المقنعة : أبواب النكاح ، باب المهور والأجور وما ينعقد به النكاح ص 508.
3- الخلاف : كتاب الصداق : المسألة 1.
4- النساء : 3.

ويستأجر لتمام العمل.

والذي أعتمده وأعمل عليه وافتي به ، أنّ منافع الحر تنعقد بها عقود النكاح ، ويصح الإجارة والأجرة على ذلك ، سواء كانت الإجارة في الذمة أو معيّنة ، لأنّ الأخبار على عمومها ، وما ذكره بعض أصحابنا من استثنائه الإجارة ، وقوله : « كانت مخصوصة بموسى عليه السلام » فكلام في غير موضعه ، واعتماد على خبر شاذ نادر (1) ، فإذا تؤمّل حقّ التأمّل ، بان ووضح أنّ شعيبا عليه السلام استأجر موسى ليرعى له لا ليرعى لبنته ، وذلك كان في شرعه وملته ، أنّ المهر للأب دون البنت ، على ما قدّمناه في صدر الباب ، فإذا كان كذلك ، فإنّه لا يجوز في شرعنا ما جاز في شرع شعيب عليه السلام ، فأمّا إذا عقد على إجارة ليعمل لها ، فالعقد صحيح ، سواء كانت الإجارة معينة أو في الذمة.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام ، خبرا وهو محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : لا يحلّ النكاح اليوم في الإسلام بإجارة ، بأن يقول : أعمل عندك كذا وكذا سنة ، على أن تزوجني أختك أو ابنتك ، قال : حرام ، لأنّه ثمن رقبتها ، وهي أحقّ بمهرها (2).

فهذا يدلك على ما حررناه وبيّناه ، فمن استثنى من أصحابنا الإجارة التي فعلها شعيب مع موسى عليهما السلام ، فصحيح ، وإن أراد غير ذلك فباطل.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز العقد على إجارة ، وهو أن يعقد الرجل على امرأة على أن يعمل لها ، أو لوليها أياما معلومة ، أو سنين معينة (3).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، يجوز أن يكون منافع الحر مهرا ، مثل تعليم

ص: 578


1- الوسائل : الباب 22 من أبواب المهور.
2- التهذيب : ج 7 ، ص 367 ، باب المهور والأجور وما ينعقد به النكاح ، ح 51 (1488).
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهدر وما ينعقد به النكاح ، أوائل الباب.

قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء أو خياطة ثوب ، وغير ذلك ممّا له اجرة ، واستثنى أصحابنا من جملة ذلك الإجارة ، وقالوا : لا يجوز ، لأنّه كان يختص بموسى عليه السلام ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روى سهل بن سعد الساعدي أنّ امرأة أتت النبي عليه السلام ، فقالت : يا رسول اللّه انّي قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : هل عندك من شي ء تصدقها إيّاه؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال النبيّ عليه السلام : إن أعطيتها إيّاه جلست ولا إزار لك ، فالتمس شيئا ، فقال : ما أجد شيئا ، فقال له رسول اللّه : هل معك من القرآن شي ء؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ، وسماهما ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قد زوجتكها بما معك من القرآن (1) ، وظاهره أنّه جعل القرآن الذي معه صداقا ، وهذا لا يمكن ، فثبت أنّه إنّما جعل الصداق تعليمها إيّاه ، وروى عطاء ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال لرجل : ما تحفظ من القرآن؟ قال : سورة البقرة ، والتي تليها ، قال : قم ، فعلّمها عشرين آية ، وهي امرأتك (2) هذا آخر كلامه في مسائل خلافه.

قال محمّد بن إدريس : ما بين قوله رحمه اللّه في نهايته ، وبين قوله في مسائل خلافه ، تضاد ولا تناف ، لأنّه قال في نهايته : ولا يجوز العقد على اجارة « وهو أن يعقد الرجل على امرأة ، على أن يعمل لها أو لوليّها أياما معلومة ، أو سنين معيّنة » فأضاف العمل إليه بعينه ، على ما قدّمناه وحرّرناه ، فامّا قوله في مسائل خلافه : « يجوز أن يكون منافع الحر مهرا مثل تعليم قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء ، أو خياطة ثوب ، وغير ذلك ممّا له اجرة » يريد بذلك أن لا تكون الإجارة معيّنة بنفس الرجل ، بل تكون في ذمّته يحصّلها إمّا بنفسه ، أو بغيره ، وذلك جائز على ما بيّناه ، فليلحظ ذلك.

ص: 579


1- مستدرك الوسائل الباب 2 من أبواب المهور ، ح 2.
2- الخلاف : كتاب الصداق : المسألة 3.

ولا يجوز نكاح الشغار بالشين والغين المعجمتين ، وهو أن يزوّج الرجل بنته أو أخته بغيره ، ويتزوّج بنت المزوّج أو أخته ، ولا يكون بينهما سوى تزويج هذا من هذه ، وهذه من ذاك ، ويجعلان المهر التزويج فحسب ، ومتى عقد على هذا كان العقد باطلا ، بغير خلاف بيننا ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي بمجرده يقتضي فساد المنهي عنه.

وقال بعض محققي اللغويين : معنى شغر رجليه ، رفعهما ، أصله في الكلب إذا رفع رجله للبول ، فأمّا نكاح الشغار بالفتح ، والكسر ، فهو أن يزوج الرجل من هو وليّها ، من بنت أو غيرها ، رجلا غيره على أن يزوجه بنته بغير مهر ، وكانت العرب في الجاهلية ، يقول أحدهم للآخر : شاغرني ، أي زوجني حتى أزوجك ، وهو من رفع الرجل ، لأنّ النكاح فيه معنى الشغر ، فسمّى هذا العقد شغارا ومشاغرة ، لإفضائه في كلّ واحد من الزوجين إلى معنى الشغر ، وصار اسما لهذا النكاح ، كما قيل في الزنا سفاح ، لأنّ الزانيين يتسافحان الماء ، أي يسكبانه ، والماء هو النطفة ، ومن الشغر الذي هو رفع الرجل ، قول زياد لبنت معاوية التي كانت عند ابنه ، فافتخرت يوما عليه ، وتطاولت ، فشكاها إلى أبيه زياد ، فدخل عليها بالدرة ، فضربها ، ويقول لها : أشغرا وفخرا.

ويستحب في النساء ، تقليل المهور ، لما روي في ذلك من الآثار (1).

ويستحب أن لا يتجاوز بالمهر السنة المحمدية ، وهو خمسمائة درهم جياد ، وهو اثنتا عشرة أوقية ونش ، بالنون المفتوحة والشين المعجمة المشددة ، وهو عشرون درهما ، وهو نصف الأوقية من الدراهم ، لأنّ الأوقية من الدراهم عند أهل اللغة أربعون درهما ، فإني سألت ابن العصار ببغداد ، وهو إمام اللغة في عصره ، فأخبرني بذلك ، وقال : النش نصف الأوقية ، والأوقية من الدراهم أربعون درهما.

ص: 580


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب المهور.

ومتى عقد الرجل على أكثر من ذلك ، بأضعاف كثيرة لزمه الوفاء به ، على الكمال ، على ما قدّمناه فيما مضى.

وروي (1) أنّه يستحب للرجل أن لا يدخل بامرأته حتى يقدّم لها مهرها ، فان لم يفعل ، قدّم لها شيئا من ذلك ، أو من غيره من الهدية ، يستبيح به فرجها ، ويجعل الباقي دينا عليه ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه ، يستبيح به فرجها ، غير واضح ، وانّما الذي يستبيح به الفرج ، هو العقد من الإيجاب والقبول ، دون ما يقدّمه من المال المذكور ، فانّ تقديمه كتأخيره بلا خلاف.

ومتى سمّى المهر حال العقد ، ودخل بها ، كان في ذمته ، وإن لم يكن سمّى لها مهرا وأعطاها شيئا قبل دخوله بها ، ثمّ دخل بها بعد ذلك ، لم تستحق عليه شيئا سوى ما أخذته منه قبل الدخول ، سواء كان ذلك قليلا أو كثيرا ، على ما رواه أصحابنا ، وأجمعوا عليه ، فانّ دليل هذه المسألة هو الإجماع المنعقد منهم بغير خلاف ، وفيه الحجة ، لا وجه لذلك إلا الإجماع.

فان لم يعطها شيئا قبل الدخول بها ، ولم يسم مهرا في حال العقد ، ثمّ دخل بها لزمه مهر المثل ، والمعتبر بمهر المثل راجع إلى النساء في الشرف والجمال ، والأحوال ، والعادات ، والبلدان ، والأزمان ، والثيبوبة ، والبكارة ، ما لم يتجاوز بذلك خمسمائة درهم جيادا ، فإن كان مهور أمثالها أكثر من الخمسمائة ، ردّ إلى الخمسمائة.

ومتى طلّق الرجل امرأته التي قد سمّى لها مهرا قبل الدخول بها ، كان عليه نصف الصداق المسمّى ، فإن كان قد قدّم لها المهر كملا ، رجع عليها بنصف ما أعطاها ، إذا لم يزد زيادة منفصلة ، فإن كان ذلك قد زاد زيادة منفصلة ، رجع عليها في العين دون النماء ، إلا أن يكون العين حاملة وقت التسليم ، فإنّه يرجع

ص: 581


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب المهور ، الا ان روايات الباب كلها دالة على كراهة الدخول قبل إعطاء المهر.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.

عليه بنصف الجميع الحامل والمحمول معا ، إلا أن يكون قد حمل عندها ، فلا يرجع إلا بالعين دون الحمل ، وكذلك إن كان قد زاد ثمنه بنماء متصل وكان حدوث النماء عندها ، فالأولى أن لا يرجع عليها إلا بمثل قيمة العين وقت التسليم ، لأنّ هذا النماء حدث على ملكها دون ملكه ، لأنّ ملكه ما تجدد إلا بعد الطلاق ، مثل إن كان الصداق حملا فصار كبشا ، أو فصيلا فصار جملا كبيرا ، وما أشبه ذلك ، فأمّا إن كان الزائد في ثمنه لزيادة السوق ، فإنّه يرجع في العين بغير خلاف ، لأنّه لا أثر لهذه الزيادة إلا العين.

فإن وهبت المرأة صداقها المسمّى قبل تطليقه لها ، ثمّ طلّقها الزوج ، كان له أن يرجع عليها بمثل نصف المهر إن كان له مثل ، فإن لم يكن له مثل فله أن يرجع عليها بمثل نصف قيمته ، وإن كان المهر مما له اجرة مثل تعليم شي ء من القرآن أو صناعة معروفة ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، رجع عليها بمثل نصف اجرة ذلك على ما جرت به العادة.

ومتى ادّعت المرأة المهر على زوجها ، لم يلتفت إلى دعواها ، سواء كان قبل الدخول أو بعده.

وعقد الباب وجملة الأمر أن الزوجين إذا اختلفا في المهر ، أو في قدره ، مثل أن يقول الزوج : تزوجتك بألف ، فقالت : بألفين ، أو اختلفا في جنس المهر ، فقال : تزوجتك بألف درهم ، فقالت : بألف دينار ، فالقول قول الزوج في جميع ذلك ، سواء كان قبل الدخول أو بعده ، لأنّها المدعية والزوج المنكر ، والرسول عليه السلام قال : « البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (1).

فإن اختلفا في قبص المهر بعد اتفاقهما عليه ، فقال الزوج : قد أقبضتك المهر ، وقالت : ما قبضته ، فالقول قولها في ذلك ، عكس ما قلناه في المسألة

ص: 582


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.

الأوّلة ، لأنّ الزوج هاهنا مدّع للقبض ، فعليه البينة وعليها اليمين.

إذا كان مهرها ألفا وأعطاها ألفا ، واختلفا فقالت : قلت لي خذي هذا الألف هدية ، أو هبة ، أو صدقة ، وقال : ما قلت ذلك ، بل قلت خذيها مهرا ، فالقول قول الزوج بكل حال ، لأنّها قد أقرّت له بالتسليم ، وادّعت الهبة والهدية والصدقة ، فتحتاج إلى البينة ، وإلا فعلى الزوج اليمين.

ومتى طلّق الإنسان زوجته قبل الدخول بها ، ولم يكن قد سمّى لها مهرا ، كان عليه أن يمتعها إن كان موسرا ، بجارية أو دابة أو عشرة دنانير ، على قدر حاله ، وزمانه ، وعرفه ، وعادة أمثاله ، وإن كان متوسّطا بخمسة دنانير ، أو ثوب قيمته ذلك ، وأدنى ذلك ثلاثة دنانير ، والاعتبار أيضا بالعرف والحال وعادة الأمثال ، وإن كان فقرا فبدون ذلك من الدينار ودونه ، ويرجع أيضا في ذلك إلى حاله ، وزمانه ، وعادة أمثاله.

والمعتبر في المتعة التي تستحقها المرأة المطلّقة قبل الدخول بها ، التي لم يسم لها مهر ، لأنّه لا يستحق المتعة غير من ذكرناها بالأزواج ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (1) فالمرجع في ذلك إلى العرف ، لأنّ الخطاب إذا أطلق ، رجع في تقييده إلى عرف الشرع إن وجد ، وإلا يرجع إلى عرف العادة إن وجد ، وإلا يرجع إلى عرف اللغة ، فالمتقدّم عرف الشرع ، وهذا الحكم بخلاف مهر المثل ، لأنّ المعتبر في ذلك بالنساء دون الرجال.

المدخول بها إذا طلّقت لا متعة لها ، بل يجب لها المسمّى إن كان قد سمّى ، وإن لم يكن سمّى المهر ، وجب مهر أمثالها ، من عماتها ، وخالاتها ، وأخواتها ، سواء كن من عصبات الرجال ، أو عصبات النساء.

الموضع الذي تجب فيه المتعة ، فإنّها تثبت سواء كان الزوج حرا ، أو عبدا

ص: 583


1- البقرة : 236.

والزوجة حرة ، أو أمة ، لأنّ الآية عامة ، وكلّ فرقة يحصل بين الزوجين سواء كان من قبله أو من قبلها ، أو من قبل أجنبي ، أو من قبلهما ، فلا يجب بها المتعة إلا المطلّقة قبل الدخول بها التي لم يسمّ لها مهر ، فحسب.

إذا طلّق الرجل زوجته بعد ان خلا بها وقبل أن يطأها ، فالذي يقتضيه أصول مذهبنا ، والمعتمد عند محصّلي أصحابنا ، أن وجود هذه الخلوة وعدمها سواء وترجع عليه بنصف الصداق إن كان مسمّى ، أو المتعة إن لم يكن مسمّى ، ولا عدّة عليها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى خلا الرجل بامرأته ، فأرخى الستر ، ثمّ طلقها ، وجب عليه المهر على ظاهر الحال ، وكان على الحاكم أن يحكم بذلك ، وإن لم يكن قد دخل بها ، إلا أنّه لا يحل للمرأة أن تأخذ أكثر من نصف المهر ، ما لم يدخل بها ، فإن أمكن الزوج إقامة البينة على أنّه لم يكن دخل بها ، مثل أن تكون المرأة بكرا ، فتوجد على هيئتها ، لم يلزمه أكثر من نصف المهر (1).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا طلّقها بعد أن خلا بها وقبل أن يمسّها ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، فذهبت طائفة إلى أنّ وجود هذه الخلوة وعدمها سواء ، وترجع عليه بنصف الصداق ، ولا عدّة عليها ، وهو الظاهر من روايات أصحابنا (2). وذهبت طائفة إلى أنّ الخلوة كالدخول ، يستقر لها المسمّى ، وتجب عليها العدّة ، وبه قال قوم من أصحابنا ، وروي في ذلك أخبار من طريق أصحابنا (3) ، ثمّ قال في استدلاله على ما اختاره رضي اللّه عنه في صدر المسألة : دليلنا قوله تعالى ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) (4) ولم يستثن الخلوة ، فوجب حملها على عمومها ، قال : ووجه الدلالة من الآية أنّه لا يخلو من أن يكون المسيس عبارة عن اللمس

ص: 584


1- النهاية : كتاب النكاح باب المهور وما ينعقد به النكاح.
2- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور ، ح 1 و 5 و 7.
3- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور ، ح 2 و 3 و 4 و 6.
4- البقرة : 237.

باليد ، أو الخلوة أو الوطء ، فبطل أن يراد بها اللمس باليد ، لأنّ ذلك لم يقل به أحد ، ولا اعتبره ، وبطل أن يراد به الخلوة ، لأنّه لا يعبّر به عن الخلوة لا حقيقة ولا مجازا ، ويعبّر به عن الجماع بلا خلاف ، فوجب حمله عليه ، على أنّه أجمعت الصحابة على أنّ المراد بالمس في الآية الجماع ، روى ذلك عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وروي عن عمر أنّه قال : إذا أغلق الباب ، وأرخى الستر ، فقد وجب المهر ، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم ، ومعلوم أنّ العجز من الزوج ، ولا يكون عن الخلوة ، ولا عن اللمس باليد ، ثبت أنّه أراد به الإصابة ، وأيضا قال تعالى في آية العدة ( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) (1) ولم يفصّل ، وأيضا روايات أصحابنا ، قد ذكرناها في ذلك الكتاب المذكور ، وبيّنا الوجه فيما يخالفها ، والأصل أيضا براءة الذمة ، فمن أوجب جميع المهر على الرجل ، أو العدّة على المرأة بالخلوة (2) فعليه الدلالة هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه.

والذي ذهب إليه رحمه اللّه في مسائل الخلاف ، هو الصحيح ، والحق الصريح ، للأدلّة التي استدل بها ، فإنّها أدلة مرضية لا اعتراض عليها ، وما ذكره في نهايته ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، من طريق أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا تترك لها الأدلة القاطعة للأعذار.

ومتى مات أحد الزوجين قبل الدخول ، استقر جميع المهر كاملا ، لأنّ الموت عند محصّلي أصحابنا يجري مجرى الدخول في استقرار المهر جميعه ، وهو اختيار شيخنا المفيد في أحكام النساء (3) ، وهو الصحيح ، لأنّا قد بيّنا ، بغير خلاف بيننا ، أنّ بالعقد تستحق المرأة جميع المهر المسمّى ، ويسقط الطلاق قبل الدخول نصفه ، فالطلاق غير حاصل إذا مات ، فبقينا على ما كنّا عليه من استحقاقه ، فمن ادّعى سقوط شي ء منه ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من إجماع ،

ص: 585


1- الأحزاب : 49.
2- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 42.
3- لم نعثر عليه.

لأنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، ولا من كتاب اللّه تعالى ، ولا تواتر أخبار ، ولا دليل عقل ، بل الكتاب قاض بما قلناه ، والعقل حاكم بما اخترناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى مات الرجل عن زوجته قبل الدخول بها ، وجب على ورثته أن يعطوا المرأة المهر كاملا ، ويستحب لها أن تترك نصف المهر ، فإن لم تفعل كان لها المهر كلّه ، وإن ماتت المرأة قبل الدخول بها ، كان لأوليائها نصف المهر ، وإن ماتت بعد الدخول بها ، ولم تكن قبضت المهر على الوفاء ، ولا طالبت به مدة حياتها ، فإنّه يكره لأوليائها المطالبة بعدها ، فإن طالبوا به ، كان لهم ذلك ، ولم يكن محظورا (1).

وهذه أخبار آحاد أوردها رحمه اللّه في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، فلا يرجع عن الأدلة القاهرة اللائحة ، والبراهين الواضحة ، بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ومتى تزوّج الرجل امرأة على كتاب اللّه وسنة نبيه ، ولم يسمّ مهرا ، كان مهرها خمسمائة درهم ، لا غير.

فإن تزوّج الرجل امرأة على حكمها ، فحكمت بدرهم إلى خمسمائة درهم ، كان حكمها ماضيا ، فإن حكمت بأكثر من ذلك ، ردّ إلى الخمسمائة درهم ، لأنّه حكمها ، فلا تتعدّى السّنة ، وهذا إجماع من أصحابنا.

وإن تزوّجها على حكمه ، فبأيّ شي ء حكم به كان له ، قليلا كان أو كثيرا.

فإن طلّقها قبل الدخول ، بها ، وكان قد تزوّجها على حكمها ، كان لها نصف ما تحكم به إلى خمسمائة درهم ، وإن كان قد تزوّجها على حكمه ، كان لها نصف ما يحكم به الرجل ، قليلا كان أو كثيرا.

وقد روي أنّه إذا مات الرجل ، أو ماتت المرأة قبل أن يحكما في ذلك

ص: 586


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.

بشي ء ، لم يكن لها مهر ، وكان لها المتعة (1).

وهذه رواية شاذة ، أوردها شيخنا في نهايته (2) ، إيرادا لا اعتقادا.

والصحيح ما ذهب إليه في مسائل خلافه فإنّه يقول في مسائل الخلاف :

إنّ المتعة لا يستحقها إلا المطلقة قبل الدخول بها ، التي لم يسمّ لها مهر فحسب ، دون جميع المفارقات ، بفسخ أو طلاق أو غير ذلك (3).

وأيضا فلا خلاف في ذلك ، وإلحاق غير المطلّقة المذكورة بها قياس ، ونحن لا نقول به بغير خلاف بيننا ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، والإجماع فغير منعقد على ذلك ، ولا به سنّة متواترة ، ولا كتاب اللّه تعالى ، والأصل براءة الذمة.

والأولى القول بأنّه لا يلزم الزوج شي ء بعد موت المرأة ، إذا كان قد تزوّجها على حكمها ، وإن كان قد تزوّجها على حكمه ، لزمه جميع ما يحكم به ، فيرثه هو وورثتها ، على كتاب اللّه تعالى.

ومتى عقد الرجل على مهر معلوم ، وأعطاها بذلك عبدا آبقا وشيئا آخر معه ، على جهة البيع أو الصلح ، ورضيت به ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، رجع عليها بنصف المهر المسمّى ، دون المبيع الذي هو العبد الآبق ، والشي ء الآخر ، لأنّ المهر هو الثمن دون المثمن ، فوجه الفقه في ذلك ما ذكرناه ، وإن لم يجعل في مقابلة المهر سوى العبد الآبق ، كان ذلك غير صحيح ، لأنّ بيع العبد الآبق منفردا غير صحيح عند أصحابنا ، وجاز لها في هذه الحال أن ترجع على زوجها بنصف المهر المسمّى.

وقد روي أنّ الإنسان إذا عقد على دار ولم يذكرها بعينها ، أو خادم ولم

ص: 587


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب المهور ، ح 2 ، والظاهر انه منقول بالمعنى.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.
3- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 15 ، والمسألة 46 ، فإنّ ما نقله من الحكم مستفاد من المسألتين.

يذكره بعينه ، ولا وصفه ، كان للمرأة دار وسط من الدور ، وخادم وسط من الخدم (1).

وقد روي أيضا أنّه إذا عقد لها على جارية له مدبرة ، ورضيت المرأة بذلك ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، كان لها يوم من خدمتها ، وله يوم ، فإذا مات المدبر ، صارت حرة ، ولم يكن لها عليها سبيل ، وإن ماتت المدبرة ، وكان لها مال ، كان نصفه للرجل ونصفه للمرأة (2) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (3) من طريق أخبار الآحاد.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أن يقال في هذه الرواية ، أنّ العقد على المدبرة صحيح ، وتخرج من كونها مدبرة ، وتستحقها المرأة ، لأنّ التدبير بغير خلاف بيننا بمنزلة الوصية ، بل هو وصية حقيقة ، ومن أوصى ببعض من أملاكه ، ثمّ أخرجه من ملكه قبل موته فلا خلاف أنّ الوصية تبطل بذلك الشي ء عند إخراجه من ملكه ، والمدبرة قد أخرجها بجعلها مهرا عن ملكه.

ومما يضعف هذه الرواية قوله : وإذا مات المدبر ، صارت حرة ، وأطلق ذلك ، وإنّما تصير حرة إذا خرجت من الثلث ، بغير خلاف.

ويزيد الرواية ضعفا آخر قوله : « وإن ماتت المدبرة وكان لها مال كان نصفه للرجل ونصفه للمرأة » ولا خلاف بيننا وعند المحصّلين من أصحابنا أنّ العبد المدبر لا يملك شيئا بحال ، فأي مال للمدبر مع قوله تعالى « عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ » (4) فنفى تعالى قدرته على شي ء ، ومن جملة ، ذلك المال ولا خلاف انّ المدبر عبد ، اللّهم إلا أن يكون التدبير المذكور واجبا على وجه النذر ، لا رجوع للمدبر فيه ، فحينئذ يصح ما قاله شيخنا رحمه اللّه.

وإذا عقد الرجل على امرأة وسمّى لها مهرا ولأبيها أيضا شيئا ، لم يلزمه ما سمّاه لأبيها.

ص: 588


1- الوسائل : الباب 25 من أبواب المهور.
2- الوسائل : الباب 22 من أبواب المهور والظاهر ان الرواية منقولة بالمعنى.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.
4- النحل : 75.

وإذا عقد على امرأة ، أو شرط لها في الحال شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، كان العقد صحيحا والشرط باطلا ، مثل ان شرط لها أن لا يتزوج عليها ، ولا يتسرى ، ولا يتزوج بعد موتها ، وما أشبه ذلك.

وقد روي أنّه إن شرطت عليه في حال العقد أن لا يفتضّها ، لم يكن له افتضاضها ، فإن أذنت له بعد ذلك في الافتضاض ، جاز له ذلك (1) ، أورد هذا شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، إيراد إلا اعتقادا ، لأنّه رجع عنه في مبسوطة ، وقال : ينبغي أن يخص هذه الرواية بالنكاح المؤجل ، دون النكاح الدائم ، لأنّ المقصود من ذلك الافتضاض (3).

والذي يقتضيه المذهب ، أنّ الشرط باطل ، لأنّه مخالف لموضوع الكتاب والسنّة ، لأنّ الأصل براءة الذمة من هذا الشرط ، والإجماع فغير منعقد عليه ، بل ما يورد ذلك إلا في شواذ الأخبار.

وإن شرط أن لا نفقة لها ، لزمته النفقة مع التمكين من الاستمتاع ، إذا كان النكاح دائما ، وإن كان النكاح مؤجلا فالشرط صحيح ، لأنّه تأكيد لموضوع هذا العقد.

ومتى عقد الرجل وسمّى المهر إلى أجل معلوم إن جاء به ، وإلا كان العقد باطلا ، ثبت العقد وكان المهر في ذمته ، وإن تأخّر عن الوقت المذكور.

وروي (4) أنّه متى شرط الرجل لامرأته في حال العقد أن لا يخرجها من بلدها ، لم يكن له أن يخرجها إلا برضاها ، فإن شرط عليها أنّه إن أخرجها إلى بلده كان عليه المهر مائة دينار ، وإن لم يخرجها كان مهرها خمسين دينارا ، فمتى أراد إخراجها إلى بلد الشرك ، فلا شرط له عليها ، ولزمه المهر كملا ، وليس

ص: 589


1- الوسائل : الباب 26 من أبواب المهور ، ح 2.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 304 ، والعبارة هكذا : وعندي ان هذا يختص عقد المتعة دون عقد الدوام.
4- الوسائل : الباب 40 من أبواب المهور.

عليها الخروج معه ، وإن أراد إخراجها إلى بلاد الإسلام ، كان له ما اشترط عليها.

وهذه رواية شاذة ، لأنّها مخالفة لما يقتضيه أصول المذهب ، لأنّها يجب عليها مطاوعة زوجها ، والخروج معه إلى حيث شاء ، فإن لم تجبه إلى ذلك كانت عاصية لله تعالى وسقطت عنه نفقتها.

وإن كان قد ذكرها وأوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، فقد رجع عنها في مسائل خلافه فقال : مسألة ، إذا أصدقها ألفا ، وشرط أن لا يسافر بها ، أو لا يتزوج عليها ، أو لا يتسرّى عليها ، كان النكاح والصداق صحيحا ، والشرط باطلا ، وقال الشافعي : المهر فاسد ، ويجب مهر المثل ، فأمّا النكاح فصحيح ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روي (2) عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال : ما بال أقوام يشرطون شروطا ليست في كتاب اللّه ، كلّ شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل ، ولم يقل الصداق باطل (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وهو الصحيح فإنّما أورد ما أورده في نهايته ، إيرادا لا اعتقادا.

وروي (4) أنّه لا يجوز للمرأة أن تبرئ زوجها من صداقها في حال مرضها ، إذا لم تملك غيره ، فإن أبرأته سقط عن الزوج ثلث المهر ، وكان الباقي لورثتها.

أورد هذه الرواية شيخنا في نهايته (5) إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل هو به ، ورجع عنه ، لأنّها مخالفة للأدلّة ، لأنّ الإنسان العاقل الغير مولى عليه ، مسلّط على التصرّف في ماله ، يتصرف فيه كيف شاء.

والصحيح أنّها إذا أبرأته من مهرها ، سقط جميعه ، وصح الإبراء ، لأنّ هذا ليس بوصية ، وإنّما هو إعطاء منجز قبل الموت ، والوصية بعد الموت ، وانّما هذه

ص: 590


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أواخر الباب.
2- مستدرك الوسائل : الباب 5 من أبواب الخيار ، ح 2 قريب من ذلك.
3- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 31.
4- الوسائل : الباب 17 من أحكام الوصايا ، ح 16 ، قريب من ذلك.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أواخر الباب.

الرواية على مذهب من قال من أصحابنا أن العطاء في المرض وإن كان منجزا يخرج من الثلث ، مثل العطايا بعد الموت ، والصحيح من المذهب أنّ العطاء المنجز في حال مرض الموت يخرج من أصل المال ، لا أنّه من الثلث ، لأنّه قد أبانها من ماله ، وتسلّمها المعطى له ، وخرجت من ملك المعطى ، لأنّه لا خلاف أنّ له أن ينفق جميع ماله في حال مرضه ، فلو كان ما قاله بعض أصحابنا صحيحا ، لما جاز ذلك ، ولما كان يصح منه النفقة بحال.

ومتى تزوج الرجل بامرأة على أنّها بكر ، فوجدها ثيّبا ، فقد روي أنّه يجوز له أن ينقص من مهرها شيئا ، والصحيح أنّه ينقص من المسمّى مقدار مثل ما بين مهر البكر إلى مهر الثيب ، وذلك يختلف باختلاف الجمال والسن والشرف وغير ذلك ، فلأجل هذا قيل ينقص من مهرها شي ء منكر غير معرّف.

والذمي متى عقد على امرأة بما لا يحلّ للمسلمين تملكه ، من خمر أو خنزير أو غير ذلك من المحظورات ، ثمّ أسلما قبل تسليمه إليها ، لم يجر له أن يسلّم إليها ما فرضه لها ، ومهرها إيّاه من المحظورات ، وكان عليه قيمته عند مستحليه.

وللمرأة أن تمتنع من زوجها حتى تقبض منه المهر إذا كان غير مؤجل ، والزوج موسرا به ، قادرا على أدائه ، وطالبته به قبل الدخول بها ، فإذا قبضته لم يكن لها الامتناع بعد ذلك ، فإن امتنعت بعد استيفاء مهرها كانت ناشزا ، ولم يكن لها عليه نفقة ، ولا سكنى ، ولا كسوة ، فأمّا إذا دخل بها فلها المطالبة بالمهر ، وليس لها الامتناع حتى تقبضه.

وشيخنا أبو جعفر في نهايته (1) أطلق ذلك إطلاقا ، ولم يفرّق بين قبل الدخول أو بعده.

والصحيح ما ذكرناه ، لأنّ الإجماع منعقد على ذلك ، وهو مذهب السيد

ص: 591


1- النهاية : كتاب النكاح باب المهور وما ينعقد به النكاح ، آخر الباب.

المرتضى في انتصاره (1).

وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في مسائل خلافه ، فإنّه رجع عمّا ذكره وأطلقه في نهايته ، فقال : مسألة ، إذا سمّى الصداق ودخل بها قبل أن يعطيها شيئا ، لم يكن لها بعد ذلك الامتناع من تسليم نفسها حتى يستوفى ، بل لها المطالبة بالمهر ، ويجب عليها أن تسلّم نفسها ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لها أن تمتنع حتى تقبض المهر ، لأنّ المهر في مقابلة كلّ وطء في النكاح ، دليلنا أنّ البضع حقّه ، واستحقه ، والمهر حقّ عليه ، وليس إذا كان عليه حقّ جاز أن يمنع حقّه ، لأنّ جواز ذلك محتاج إلى دليل (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

ومتى لم يقم الرجل بنفقة زوجته وكسوتها وسكناها ، وكان متمكنا من ذلك ، ألزمه الإمام النفقة والقيام بجميع ذلك ، أو الطلاق ، فإن لم يكن متمكنا انظر ، حتى يوسّع اللّه عليه ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقال بعضهم : يبينها الحاكم منه ، والأول هو المذهب ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (3) وذلك عام في جميع الأشياء ، والأحكام.

إذا أصدقها تعليم سورة ، فلا بدّ أن يعينها ، وكذلك الآية لا بدّ من تعيينها ، فإن لم يعيّن السورة والآية ، كان لها مهر المثل بعد الدخول.

فإذا ثبت وجوب تعيين السورة والآية ، فلقنها فلم تحفظها منه ، أو حفظتها من غيره ، فالحكم واحد. وكذلك إن أصدقها عبدا ، فهلك قبل القبض ، فالكلّ واحد ، فإنّ لها عندنا بدل الصداق ، وهو اجرة مثل تعليم السورة ، وقيمة العبد ، لأنّه إذا أصدقها صداقا ، ملكته بالعقد ، وكان من ضمان الزوج إن تلف قبل القبض ، ومن ضمانها إن تلف بعد القبض ، فإن دخل بها استقر ، وإن طلّقها قبل الدخول رجع بنصف العين ، دون نمائها إن كان لها نماء.

إذا قال : أصدقتها هذا الخل ، فبان خمرا ، كان لها قيمتها عند مستحليها ،

ص: 592


1- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 16.
2- الخلاف : كتاب الصداق المسألة 39.
3- البقرة : 280.

هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه يجب عليه مثل الخل ، لأنّ الخل له مثل ، فمن نقله إلى قيمة الخمر ، يحتاج إلى دليل ، ولا يجب لها أيضا مهر المثل ، على ما يذهب إليه الشافعي ، لأنّه عقد على مهر مسمّى مما يحلّ للمسلمين تملكه ، وهو الخل.

إذا تزوجها في السر بمهر ذكراه ، وعقدا عليه ، ثمّ بعد ذلك عقدا في العلانية بخلافه ، فالمهر هو الأول.

المفوضة إذا طلّقها زوجها قبل الفرض وقبل الدخول بها ، فلا مهر لها ، لكن يجب لها المتعة على ما قدّمناه.

مفوضة البضع إذا فرض لها المهر بعد العقد ، كان كالمسمّى بالعقد ، تملك المطالبة به ، فإن دخل بها أو مات ، استقر ذلك ، وإن طلّقها قبل الدخول ، سقط نصفه ، ولها نصفه ، ولا متعة عليه ، فإن مات أحدهما قبل الفرض وقبل الدخول ، فلا مهر لها ولا متعة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها بذلك يحتاج إلى دليل ، وعندنا لا يجب بالعقد مهر المثل ، إلا بالدخول.

مفوضة المهر ، وهو أن يذكر مهرا ولا يذكر مبلغه ، فيقول تزوجتك على أن يكون المهر ما شئنا أو شاء أحدنا ، فإذا تزوّجها على ذلك ، فإن قال على أن يكون المهر ما شئت أنا ، فإنّه مهما يحكم به وجب عليها الرضا به ، قليلا كان أو كثيرا ، وإن قال على أن يكون المهر ما شئت أنت ، فإنّه يلزمه أن يعطيها ما تحكم المرأة به ، ما لم تتجاوز خمسمائة درهم ، على ما قدّمناه القول في معناه ، لأنّ إجماعنا منعقد على ذلك ، وأخبارنا متواترة به.

وإذا دخل بمفوضة المهر استقر ما يحكم به واحد منهما ، على ما فصّلناه ، وإن طلّقها قبل الدخول بها ، وجب نصف ما يحكم به واحد منهما.

ص: 593


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 10.

إذا تزوج امرأة ودخل بها ، ثمّ خالعها ، فلزوجها المخالع نكاحها في عدّتها ، فإن فعل وأمهرها مهرا ، فإن دخل بها في العقد الثاني ، استقر الصداق الثاني ، وإن طلّقها قبل الدخول ، ثبت نصف المهر ، وسقط نصفه.

إذا أصدقها صداقا ، ثمّ وهبته له ، ثمّ طلّقها قبل الدخول ، فله أن يرجع عليها بنصفه ، وكذلك إذا أصدقها عبدا فوهبت له نصفه ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، فإنّه يرجع عليها بنصف العبد الذي وهبته له.

إذا أصدقها ألفا ثمّ خالعها على خمسمائة منها ، قبل الدخول بها ، فإنّه يسقط عنه جميع المهر.

إذا تزوّج الإنسان أمة من سيدها ، ولم يسمّ لها مهرا ، فاشتراها من سيدها ، انفسخ النكاح ، ولا متعة لها عندنا.

إذا أصدقها إناءين ، فانكسر أحدهما ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، كان لها نصف الموجود ، ونصف قيمة التالف.

إذا أصدقها صداقا ، فأصابت به عيبا ، كان لها ردّه بالعيب ، سواء كان العيب يسيرا أو كثيرا ، بغير خلاف بين أصحابنا.

لا يجب بمجرد العقد مهر المثل ، وأيّهما مات قبل الفرض وقبل الدخول ، فلا مهر لها بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن كان قد اختلف فقهاء العامة فيها ، والصحابة ، وقال بما قلناه على عليه السلام ، وعبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه وزيد بن ثابت ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، وخالف فيه من الصحابة عبد اللّه بن مسعود ، واستدل بقول أناس من أشجع في قصة بروع بنت واشق ، على ما أورده شيخنا في مسائل خلافه (1).

قال محمّد بن إدريس : « بروع » بالباء المفتوحة ، المنقطة نقطة واحدة من

ص: 594


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 18 و 19.

تحتها ، والراء غير المعجمة المسكنة ، والواو ، والعين غير المعجمة ، وأصحاب الحديث يكسرون الباء ، من بروع والصواب فتحها ، ذكر ذلك الجوهري في كتاب الصحاح وحققه.

باب العقد على الإماء والعبيد وما في ذلك من الأحكام

متى أراد الإنسان العقد على امة غيره ، فلا يعقد عليها إلا بإذن مولاها ، سواء كان المولى رجلا أو امرأة ، وسواء كان العقد دائما أو مؤجلا ، على الصحيح من المذهب ، لقوله تعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) (1) وشيخنا أبو جعفر في نهايته ، قال : يجوز له أن يعقد على أمة المرأة عقد المتعة ، من غير استيذان (2) ، معتمدا على خبر رواه سيف بن عميرة (3) ، الا انه رجع شيخنا ، في جواب المسائل الحائريات (4) عمّا ذكره في نهايته ، واعتمد على الآية ، وهذا هو الصحيح الحق اليقين ، لأنّه لا يجوز العدول عن كتاب اللّه تعالى بأخبار الآحاد ، وأيضا فالتصرف في مال الغير قبيح عقلا وسمعا إلا بإذنه.

فمتى عقد عليها بإذن المولى ، وجب عليه أن يعطيه المهر قليلا كان المهر أم كثيرا ، فإن رزق منها أولادا كانوا أحرارا لاحقين به لا سبيل لأحد عليهم ، لأنّ عندنا يلحق الولد بالحرية من أيّ الزوجين كانت ، مع تعرّي العقد من الاشتراط لرقّ الولد ، فإن اشترط المولى استرقاق الولد كانوا رقّا ، لا سبيل لأبيهم عليهم ، ولا يبطل هذا العقد إلا بطلاق الزوج لها ، أو بيع مولاها لها ، أو عتقها ، سواء عتقت تحت حر أو عبد على الصحيح من المذهب.

وقال بعض أصحابنا : إن عتقت تحت عبد ، كان لها الخيار ، وإن عتقت

ص: 595


1- النساء : 25.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.
3- الوسائل : الباب 14 من أبواب المتعة ، ح 1.
4- المسائل : الحائريات : لا يوجد في النسخة الموجودة عندنا.

تحت حر ، لم يكن لها الخيار ، والأول هو الأظهر من الأقوال ، لأنّ هذا تخصيص من غير دليل.

فإن باعها السيد كان الذي اشتراها بالخيار بين إقرار العقد وفسخه ، فإن أقرّ العقد لم يكن له بعد ذلك خيار ، وكذلك إن أعتقها مولاها كانت مخيّرة بين الرضا بالعقد وبين فسخه ، فإن رضيت بعد العتق بالعقد لم يكن لها خيار بعد ذلك.

ومتى عقد على أمة غيره بغير إذنه ، كان العقد موقوفا على رضاه ، فإن رضي المولى بذلك كان العقد ماضيا ، وإن لم يرض انفسخ العقد.

وقال شيخنا في نهايته : ومتى عقد على أمة غيره بغير إذن مولاها ، كان العقد باطلا ، فإن رضي المولى بذلك العقد ، كان رضاه به كالعقد المستأنف ، يستباح به الفرج (1).

وهذا بناء منه رحمه اللّه على مذهب له في أنّ العقد في النكاح لا يقف على الإجازة ، وقد بيّنا فساد ذلك فيما مضى. والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، أن يكون العقد باطلا ، وإلى هذا ذهب رحمه اللّه ، فإذا قال انّه باطل فسواء رضي المولى بذلك أو لم يرض ، ولا يكون رضاه كالعقد المستأنف ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، على مذهب من قال بالإجازة ، وعلى قول من لم يقل بذلك.

فإن عقد عليها بغير إذن مولاها عالما بذلك ، كان أولاده رقّا لمولاها ، لا سبيل له عليهم ، ويجب عليه المهر ، إن اعتقد تحليل ذلك ، واشتبه عليه الأمر فيه ، ولا حدّ عليه لاشتباه الأمر فيه ، ولقوله عليه السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات » (2).

وإن عقد عليها على ظاهر الأمر بشهادة شاهدين لها بالحرية ، ورزق منها أولادا ، كانوا أحرارا ، ويجب على الشاهدين ضمان المهر ، إن كان الزوج سلّمه إليها ، وقيمة الأولاد يوم وضعهم أحياء ، لأنّ شهود الزور يضمنون ما يتلفون

ص: 596


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه.
2- الوسائل : الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

بشهاداتهم بغير خلاف بيننا ، بل الإجماع منعقد على ذلك.

وإن عقد عليها على ظاهر الحال ، ولم تقم عنده بيّنة بحريتها ، ثمّ تبيّن أنّها كانت رقا ، كان أولادها رقا لمولاها ، ويجب عليه أن يعطيهم إيّاه بالقيمة ، وعلى الأب أن يعطيه قيمتهم ، فإن لم يكن له مال استسعى في قيمتهم ، على ما روي في الأخبار (1) ، أورده شيخنا في نهايته (2) ، فإن أبى ذلك ، كان على الإمام أن يعطي مولى الجارية قيمتهم من سهم الرقاب من الزكاة ، فإن لم يكن الإمام ظاهرا جاز أن يشتروا من سهم الرقاب. ولا يسترق ولد حر بدين الوالد (3) وإن كان قد أعطاها مهرا ، فلا سبيل له عليها ، ووجب عليه المهر لمولاها ، وكان له أن يرجع على وليّها بالمهر كلّه.

وقد روي أنّ عليه لمولى الجارية عشر قيمتها إن كانت بكرا ، وإن لم تكن بكرا فنصف عشر قيمتها (4) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (5) إيرادا لا اعتقادا ، من طريق أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

والذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ الامام لا يعطي مولى الجارية قيمتهم من سهم الرقاب ، ولا يجوز أن يشتروا من سهم الرقاب من الزكاة ، لأنّ ذلك السهم مخصوص بالعبيد والكاتبين ، وهؤلاء غير عبيد ولا مكاتبين ، بل هم أحرار في الأصل ، انعقدوا كذلك ، ما مسّهم رق أبدا ، لأنّه قال رحمه اللّه : ولا يسترق ولد حر ، وصفه بأنّه حر ، فكيف يشترى الحر من سهم الرقاب ، وإنّما أثمانهم في ذمة أبيهم ، لأنّ من حقّهم أن يكونوا رقا لمولى أمهم ، فلمّا حال الأب بينه وبينهم بالحرّية ، وجب عليه قيمتهم يوم وضعهم أحياء ، وهو وقت

ص: 597


1- الوسائل : الباب 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 5.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد واحكامه.
3- والموجود في نسخة ج وق بتنوين الولد ، موضع بدين الوالد وفي المصدر هكذا : ولا يسترق ولد حرّ من دون زيادة بدين الوالد وغيره.
4- الوسائل : الباب 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد واحكامه.

الحيلولة ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا عقد الرجل على امرأة يظن أنّها حرة ، وإذا الذي عقد له عليها كان قد دلسها ، وكانت أمته ، كان له الرجوع عليه بمهرها إن كان قد أقبضه ، فإن رزق منها أولادا كانوا أحرارا.

والحرة لا يجوز لها أن تتزوج بمملوك إلا بإذن مولاه ، فإن تزوّجت به بإذن مولاه ، ورزق منها أولادا ، كانوا أحرارا على ما قدّمناه ، من أنّ الولد يلحق بالحرية ، من أي الطرفين كان أحد الزوجين ، بغير اختلاف بين أصحابنا ، والمخالف يلحقه من طرف واحد ، اللّهم إلا أن يشترط مولى العبد استرقاق الولد ، فيكون الولد رقا مع الاشتراط ، ومع تعري العقد من الشرط يكون الولد حرا.

وكان الطلاق بيد الزوج دون مولاه ( والمهر على المولى ، وكذلك النفقة ، لأنّه أذن في شي ء فيلزمه توابعه ) (1) فإن طلّقها الزوج كان طلاقه واقعا ، وإن لم يطلّق كان العقد ثابتا ، إلا أن يبيعه مولاه ، فإن باعه كان الذي يشتريه بالخيار ، بين الإقرار على العقد وبين فسخه ، فإن أقرّ العقد لم يكن له بعد ذلك اختيار ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (2) وأورده إيرادا من جهة أخبار الآحاد ، فقد روي رواية شاذة بذلك (3).

والذي تقتضيه الأدلة ، أنّ العقد ثابت ، ولم يكن للمشتري الخيار ، لأنّ قياسه على بيع الأمة باطل ، لأنّ القياس باطل.

وقد رجع شيخنا في مبسوطة ، فقال : وإن كان للعبد زوجة فباعه مولاه ، فالنكاح باق بالإجماع (4) هذا آخر كلامه.

ص: 598


1- ما وقع في القوسين لا يوجد في المصدر.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه.
3- الوسائل : الباب 48 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
4- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في العيوب التي ترد به النكاح ، ص 257.

والعقد صحيح ، فمن أبطله يحتاج إلى دليل.

وإن عتق العبد ، لم يكن للحرة عليه اختيار ، لأنّها رضيت به ، وهو عبد ، فإذا صار حرا كانت أولى بالرضا به.

فإن عقد العبد على حرة بغير إذن مولاه ، كان العقد موقوفا على رضى مولاه ، فإن أمضاه كان ماضيا ، ولم يكن له بعد ذلك فسخه ، إلا أن يطلّق العبد ، أو يبيع هو عبده (1).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، ولو لا الإجماع من أصحابنا على الجارية ، وأنّ في بيعها يكون المشتري مخيّرا ، لما قلنا به ، ولم يوافقنا عليه أحد سوى ابن عباس ، فكيف يلحق العبد بغير دليل ، وهل هذا إلا محض القياس ، ولم يذهب أحد من مصنّفي أصحابنا إلى ذلك ، سوى الرواية التي أوردها شيخنا في نهايته (2) إيرادا ، وعاد عنها في مبسوطة ، على ما حكيناه عنه ، فإنّه قال : وإن كان للعبد زوجة فباعه مولاه ، فالنكاح باق بالإجماع (3) ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

فإن طلّق العبد كان طلاقه واقعا ، ليس لمولاه عليه اختيار ، فإن فسخه كان مفسوخا ، وإن رزق منها أولادا ، وكانت عالمة بأنّ مولاه لم يأذن له في التزويج ، كان أولاده رقا لمولى العبد ، ولا صداق لها على السيد ، ولا نفقة ، وإن لم تكن عالمة بأنّه عبد ، كان أولادها أحرارا ، لا سبيل لمولى العبد عليهم.

والأمة إذا تزوجت بغير إذن مولاها بعبد ، كان أولادها رقا لمولاها ، إذا كان العبد مأذونا له في التزويج ، فإن لم يكن مأذونا له في ذلك ، كان الأولاد رقا لمولى العبد ومولى الأمة بينهم بالسوية.

وإذا زوّج الرجل جاريته عبده ، فعليه أن يعطيها شيئا من ماله مهرا لها ، وكان الفراق بينهما بيده ، وليس للزوج طلاق على حال ، فمتى شاء المولى أن يفرّق

ص: 599


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه ص 478.
2- الوسائل : تقدم المصدر في ص 598.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في العيوب التي توجب الردّ في النكاح ، ص 257.

بينهما أمره باعتزالها ، وأمرها (1) باعتزاله ويقول قد فرّقت بينكما ، وإن كان قد وطأها العبد استبرأها بحيضة إن كانت مستقيمة الحيض ، وإن كانت مسترابة وفي سنها من تحيض استبرأها بخمسة وأربعين يوما ، ثمّ يطؤها إن شاء ، فإن لم يكن وطأها العبد ، جاز له وطؤها في الحال ، فان باعهما كان الذي يشتريهما بالخيار بين إمضاء العقد وفسخه ، فإن رضى بالعقد كان حكمه حكم المولى الأول ، وإن أبى لم يثبت بينهما عقد على حال ، وإن باع المولى أحدهما كان ذلك أيضا فراقا بينهما ، ولا يثبت العقد إلا أن يشاء هو ثبات العقد على الذي بقي عنده ، ويشاء الذي اشترى أحدهما ثباته على الذي اشتراه ، فإن أبى واحد منهما ذلك ، لم يثبت العقد ، وإن رزق منهما أولادا كانوا رقا لمولييهما ، ومتى أعتقهما جميعا ، كانت الجارية بالخيار بين الرضا بالعقد الأول وبين إبائه ، فإن رضيت كان ماضيا ، وإن أبت كان مفسوخا ، هذا أجمع أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، فحكيناه عنه هاهنا.

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا زوّج الرجل عبده أمته ، فإنّ السيد لا يجب عليه أن يعطيها شيئا ، وأنّ هذا الفعال من المولى إباحة للعبد فرج جاريته ، دون أن يكون ذلك عقد نكاح ، وإن سمّى تزويجا وعقدا فعلى طريق الاستعارة والمجاز ، وكذلك تفريق المولى بينهما بأمر العبد باعتزالها أوامرها باعتزاله سمّى طلاقا مجازا ، لأنّه لو كان طلاقا حقيقيّا ، لروعي فيه أحكام الطلاق وشروطه وألفاظه ، ولا كان يقع ، إلا أن يتلفظ به الزوج ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (3) وهذا قد وقع ممن لم يأخذ بالساق ، وهو

ص: 600


1- ق : أوامرها.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه ، وفيه لمولاها ،
3- كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل. أخرجه عن الطبراني عن ابن عباس. ج 9 ، ص 640. وفي سنن ابن ماجة : كتاب الطلاق ، باب (31) طلاق العبد ، بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حديث (2081) - : انّما الطلاق لمن أخذ بالساق .. وفي كنز العمال ، عن سنن البيهقي عن ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وآله : « إلا إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق » ج 9 ، ص 645 ، إكمال الفرع الأوّل ، ح 27801.

المولى ، وهذا أدل دليل وأصدق قيل على أنّ هذا العقد والفعال من المولى إباحة للعبد وطء جاريته ، لأنّه لو كان عقد نكاح لروعي فيه الإيجاب والقبول من موجب وقابل ، ولا يضح ذلك بين الإنسان وبين نفسه ، وكان يراعى فيه ألفاظ ما ينعقد به النكاح ، وأيضا العقد حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وإن كان شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه أورد ذلك في نهايته ، فعلى طريق الإيراد لأجل الرواية ، لئلا يشذ شي ء من الروايات على ما اعتذر لنفسه في عدّته (1) دون الاعتقاد والعمل بصحته ، وكتاب اللّه تعالى خال من ذلك ، والسنة المقطوع بها كذلك ، والإجماع فغير منعقد بذلك ، والأصل براءة الذمة ، ونفي الحكم المدّعى إلى أن يقوم بصحته دليل قاطع للأعذار ، فحينئذ يجب المصير إليه والمعول عليه.

ومتى عقد الرجل لعبده على أمة غيره بإذنه ، جاز العقد ، وكان الطلاق بيد العبد ، فمتى طلّق جاز طلاقه ، وليس لمولاه أن يطلّق عليه لما بيّناه ، فإن باعه كان ذلك فراقا بينه وبينها ، إلا أن يشاء المشتري إقراره على العقد ، ويرضى بذلك مولى الجارية ، فإن أبى واحد منهما ذلك لم يثبت العقد على حال ، وكذلك إن باع مولى الجارية جاريته كان ذلك فراقا بينهما ، إلا أن يشاء الذي اشتراها إقرارها على العقد ، ويرضى بذلك مولى العبد ، فإن أبى واحد منهما كان العقد مفسوخا (2).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لرضى الذي لم يبع وجها ، لأنّ الخيار في إقرار العبد ، وفسخه للمشتري في جميع أصول هذا الباب ، وانّما الشارع جعل لمن لم يحضر العقد ، ولا كان مالكا لأحدهما ، وانّما انتقل إليه الملك الخيار ، لأنّه لم يرض بشي ء من ذلك الفعال ، لا الإيجاب ولا القبول ، ولا كان له حكم فيهما ،

ص: 601


1- العدة : الفصل 4 من الكلام في الاخبار ، وقد نقلنا عبارتها في ذيل ص 380.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه ، باختلاف يسير.

والموجب والقابل أعني السيدين المالكين الأولين رضيا وأوجبا وقبلا ، فمن جعل لهما الخيار أو لأحدهما يحتاج إلى دليل ، لأنّه حكم شرعي ، يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، وانّما أوجبنا الخيار للمشتري ، لأنّه انتقل الملك إليه ، وليس هو واحدا منهما ، وإن كان المخالف لأصحابنا من العامة ، لا يجعل للمشتري الخيار في فسخ العقد ، بل العقد ثابت عندهم ، لا يصح للمشتري فسخه ، ويمكن أن يقال : المراد بذلك أنّ من باع من السيدين الموجب والقابل ، كان للمشتري الخيار إن باع سيد العبد عبده ، كان لمشتريه منه الخيار ، وإن باع سيد الجارية جاريته ، كان لمشتريها منه الخيار ، وليس المراد أنّ في مسألة واحدة وبيع أحدهما يكون الخيار للاثنين ، للمشتري ولمن بقي عنده ، أحدهما ، كما قال شيخنا في نهايته في السمسار والدلال والمنادي ، قال : فإن كان ممن يبيع ويشتري للناس فأجره على من يبيع له ، وأجره على من يشتري له (1) والمقصود أجرة واحدة على مبيع واحد أو مشتري واحد ، وليس المقصود أنّه يستحق أجرتين على مبيع واحد على ما حررناه في موضعه.

ومتى أعتق مولى الجارية جاريته ، كان بالخيار على ما قدّمناه ، وإن أعتق المولى عبده لم يكن لمولى الجارية خيار ، ولا ينفسخ العقد إلا ببيعهما أو عتقهما ، ومتى رزق بينهما ولد ، فإن كان بين مولييهما شرط ، كان على ما شرطاه ، وإن لم يحصل بينهما شرط ، كان الأولاد بينهما على السواء.

ولا توارث بين الزوجين ، إذا كان أحدهما رقّا لا يرث الرجل المرأة ، ولا المرأة الرجل.

وإذا كانت الجارية بين شريكين ، أحدهما غائب والآخر حاضر ، فعقد عليها الحاضر لرجل ، كان العقد موقوفا على رضى الغائب.

وإذا تزوّج رجل جارية بين شريكين ، ثمّ اشترى نصيب أحدهما ، حرمت عليه إلا أن يشتري النصف الآخر ، أو يرضى مالك نصفها بالعقد ، فيكون

ص: 602


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..

ذلك عقدا مستأنفا ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والأولى أن يقال : أو يرضى مالك نصفها بأن يبيحه وطء ما يملكه منها ، فيطؤها بالملكية وبالإباحة ، دون العقد ، لأنّ الفرج لا يتبعض ، فيكون بعضه بالملك ويكون بعضه بالعقد ، بل لا يجتمع الملك والعقد معا في نكاح ووطء واحد ، فليلحظ ذلك.

باب ما يستحب فعله لمن أراد العقد والزفاف وآداب الخلوة والجماع والقسمة بين الأزواج وما في ذلك

يستحب لمن عزم على عقد النكاح أن يستخير اللّه تعالى ، بأن يسأله أن يخير له فيما قد عزم عليه ، ويصلّي ركعتين ، ويقول اللّهم اني أريد أن أتزوج ، اللّهم قدّر لي من النساء أعفهن فرجا ، وأحفظهن لي في نفسها وفي مالي ، وأوسعهن رزقا ، وأعظمهن بركة ، وقدّر لي منها ولدا طيّبا ، تجعله خلفا صالحا ، في حياتي وبعد مماتي.

وإذا أراد العقد الدائم ، يستحب له أن يكون ذلك بالإعلان ، والاشهاد ، والخطبة فيه ، بذكر اللّه تعالى ، والمسنون من ذلك خطبة واحدة تتقدّم الإيجاب والقبول ، فإن أخلّ بشي ء من ذلك ، أو بجميعه لم يفسد العقد ، وكان ثابتا ، إلا أنّه يكون قد ترك الأفضل.

ويستحب الوليمة عند الزفاف يوما أو يومين ، يدعى فيه المؤمنون ، ويكره تفرد الأغنياء بذلك ، والوليمة مستحبة غير واجبة ، وحضورها مستحب إذا دعي إليها ، وليس بواجب عليه الحضور ، إلا أن يكون فيها شي ء من المناكير ، ولا يقدر من يحضر على إنكاره ، فلا يجوز حضورها في حال الاختيار ، فإن كانت لكافر بأي أنواع الكفر كان ، فلا يجوز للمسلم حضورها. وإن دعي إليها ، لأنّ

ص: 603


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه.

ذبائحهم محرمة ، وطعامهم الذي يباشرونه بأيديهم نجس ، لا يجوز أكله لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (1).

وإذا حضر المسلم وليمة المسلم بعد دعائه إليها ، فلا يجب عليه الأكل ، وانّما يستحب له ذلك.

نثر السكر والجوز واللوز وغير ذلك في الولائم مكروه إذا أخذ على طريق الانتهاب ، فإذا لم يؤخذ على طريق الانتهاب ، فلا بأس بذلك ، إذا علم بشاهد الحال من قصد فاعله الإباحة ، وإن لم ينطق بلسانه ، ولا يجوز لأحد من الحاضرين الاستبداد به.

وإذا قرب تحول المرأة إلى بيت الزوج ، فقد روي أنّه يستحب أن يأمرها بأن تصلّي ركعتين ، وتكون على طهارة ، إذا دخلت عليه ، ويصلّي أيضا قبل (2) ذلك ، ويكون على طهارة إذا أدخلت عليه امرأته ، ويدعو اللّه تعالى عقيب الركعتين ، ويسأله أن يرزقه إلفها وودّها ، ورضاها ، فإذا أدخلت عليه ، فيستحب أن يضع يده على ناصيتها ، - وهي مقدم شعر الرأس - ، ويقول : اللّهم على كتابك تزوجتها ، وفي أمانتك أخذتها ، وبكلماتك استحللت فرجها ، فإن قضيت في رحمها نسبا (3) ، فاجعله مسلما سويا ، ولا تجعله شرك شيطان (4).

ويستحب ان يكون عقد التزويج والزفاف بالليل ، ويكون الإطعام والوليمة بالنهار.

ولا يجوز للرجل أن يطأ امرأته قبل أن يأتي لها تسع سنين ، فإن دخل بها قبل ذلك فعابت ، كان ضامنا لعيبها ، ولا يحل له وطؤها أبدا ، فإن أقضاها وجب عليه ديتها ومهرها ونفقتها ما داما حيّين ، فإن مات أحدهما سقطت النفقة ، ومعنى الإفضاء لها أن صير مدخل الذكر ومخرج البول شيئا واحدا أفضى ما بينهما.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : هذا إذا كان في عقد صحيح ، أو عقد

ص: 604


1- التوبة : 28.
2- ج مثل.
3- ج : شيئا.
4- الكافي ج 5 ص 500. باب القول عند دخول الرجل بأهله.

شبهة ، فأمّا إذا كان مكرها لها ، فإنّه يلزمه ديتها على كلّ حال ولا مهر لها (1).

قال محمّد بن إدريس : عقد الشبهة لا يلزمه النفقة ، وانّما أوجب النفقة أصحابنا على من فعل ذلك بزوجته ، وهذه ليست زوجته ، فلا ينبغي أن يتعدّى ما أجمعوا عليه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت ذلك يحتاج إلى دليل ، ولم يذهب أحد من أصحابنا إلى ما قاله رحمه اللّه ، فأمّا قوله : « إذا كان مكرها لها فإنّه يلزمه ديتها ولا مهر لها » فغير واضح ، لأنّا نجمع عليه الأمرين معا ، المهر والدية ، لأنّ أحدهما لا يدخل في الآخر ، لأنّه قد دخل بها ، فيجب عليه المهر لأجل دخوله ، والدية ، لأنّه إجماع ، وهذه ليست ببغي ، وانّما نهي عن مهر البغي فليلحظ ذلك.

ويستحب التسمية عند الجماع.

ويكره الجماع ليلة الكسوف ويومه ، وفيما بين غروب الشمس إلى مغيب الشفق ، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وفي الريح السوداء والصفراء ، وعند الزلازل ، وفي محاق الشهر ، يقال بكسر الميم وضمها ، وهن الثلاث ليال الأواخر من الشهر ، سمّيت بذلك لا محاق القمر فيها ، أو الشهر ، قال الشاعر :

عجوز ترجى أن تكون فتيّة *** وقد لحب الجنبان واحد ودب الظهر

تدسّ إلى العطار سلعة أهلها *** وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟

تزوجتها قبل المحاق بليلة *** فكان محاقا كلّه ذلك الشهر

والعرب تسمّى ليالي الشهر كلّ ثلاث منها باسم ، فيقول ثلاث غرر ، جمع غرة ، وغرة كلّ شي ء أوله ، وثلاث نفل ، وفيل لها نفل من زيادة القمر ، من النفل الزيادة ، والعطاء ، وثلاث تسع ، لأنّ آخر يوم منها اليوم التاسع ، وثلاث عشر ، لأنّ أول يوم منها اليوم العاشر ، وثلاث بيض ، لأنّها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها ، وثلاث درع ، سميت بذلك لاسوداد أوائلها ، وابيضاض

ص: 605


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 41.

سائرها ، ومنه قيل : شاة درعاء ، إذا اسود رأسها وعنقها ، وابيضّ سائرها ، وثلاث ظلم ، لا ظلامها ، وثلاث حنادس ، لسوادها ، وثلاث دآدى لأنّها بقايا ، وثلاث محاق ، لا محاق القمر أو الشهر.

ويكره الجماع في أول ليلة من الشهر ، إلا شهر رمضان ، ويكره في ليلة النصف ، ويكره أن يجامع الرجل وهو عريان ، أو مستقبل القبلة ، أو مستدبرها ، ويكره له الجماع بعد الاحتلام حتى يغتسل.

ولا يجوز للرجل أن يترك المرأة ، لا يقربها بجماع ، لا من عذر ، أكثر من أربعة أشهر ، فإن تركها أكثر من ذلك كان مأثوما.

ويكره للرجل النظر إلى فرج امرأته ، ويكره الكلام في حال الجماع سوى ذكر اللّه تعالى.

ويكره للرجل أن يأتي النساء في غير الفروج المعتادة للجماع ، وهي أحشاشهن من غير حظر ولا تحريم ، عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، لقوله تعالى ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) (1) ومن قال أراد بذلك موضع النسل فهو مبعد ، - لأنّه لا يمتنع أن يسمّى النساء حرثا ، لأنّه يكون منهن الولد - ثمّ يبيح الوطء فيما لا يكون منه الولد ، يدلّ على ذلك أنّه لا خلاف أنّه يجوز الوطء بين الفخذين ، وإن لم يكن هناك ولد.

وثاني متمسّكات المخالف قالوا : قال اللّه تعالى ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (2) وهو الفرج ، والإجماع على أنّ الآية الثانية ليست بناسخة للأولى.

وهذا أيضا لا دلالة فيه ، لأنّ قوله « مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ » معناه من حيث أباح اللّه لكم ، أو من الجهة التي شرعها لكم ، على ما حكي عن الزجاج ، فإنّه قال : معنى الآية نساؤكم ذو حرث لكم فأتوا موضع حرثكم أنّى

ص: 606


1- البقرة : 223.
2- البقرة : 222.

شئتم ، ويدخل في ذلك الموضعان معا.

وثالثها قالوا : إنّ معناه من أين شئتم ، أي ائتوا الفرج من أين شئتم ، وليس في ذلك إباحة لغير الفرج.

وهذا أيضا ضعيف ، لأنّا لا نسلّم أنّ معناه ائتوا الفرج ، بل عندنا معناه ائتوا النساء وائتوا الحرث من حيث شئتم ، ويدخل فيه جميع ذلك.

ورابعها قالوا : قوله في المحيض ( قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ) (1) فإذا حرّم الأذى بالدم فالأذى بالنجو أعظم.

وهذا أيضا ليس بشي ء ، لأنّ هذا حمل الشي ء على غيره من غير علّة ، على أنّه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله « قُلْ هُوَ أَذىً » غير النجاسة ، بل المراد أنّ في ذلك مفسدة ، ولا يجب أن يحمل ذلك على غيره (2) إلا بدليل يوجب العلم.

على أنّ الأذى بمعنى النجاسة حاصل في البول ودم الاستحاضة ، ومع هذا فليس بمنهي عن الوطء في الفرج.

ويقال : إنّ الآية نزلت ردّا على اليهود ، فإنّهم قالوا : الرجل إذا أتى المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول ، فاكذبهم اللّه في ذلك ، ذكره ابن عباس وجابر ، ورواه أيضا أصحابنا.

ويكره للرجل أن يعزل عن امرأته الحرة ، فإن عزل لم يكن بذلك مأثوما ، غير أنّه يكون تاركا فضلا على الصحيح من أقوال أصحابنا والأظهر في رواياتهم ، لأنّه روي أنّ ذلك محظور وعليه دية ضياع النطفة عشرة دنانير ، والأصل براءة الذمة من شغلها بواجب ، ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار الآحاد ، وأمّا الأمة فلا بأس بالعزل عنها على كلّ حال.

وإذا كان للرجل امرأة واحدة فعليه أن يبيت عندها من أربع ليال ليلة ،

ص: 607


1- البقرة : 222.
2- ق : على ذلك غيره.

وإذا كانت امرأتان جاز له أن يبيت عند واحدة منهما ثلاث ليال وعند الأخرى ليلة واحدة ، وإن كانت عنده ثلاث نساء جاز أن يبيت عند واحدة منهن ليلتين وعند كلّ واحدة منهن ليلة ليلة ، فإن كان عنده أربع نساء بعقد الدوام فلا يجوز له أن يبيت عند كلّ واحدة منهن أكثر من ليلة ليلة ، ويجب عليه أن يسوّى بينهن في القسمة ، اللّهم إلا أن تترك واحدة منهن ليلتها لامرأة أخرى ، فيجوز حينئذ أن يبيت عند الموهوب لها الليلة ليلتين ، فإن وهبت له ليلتها فله أن يبيت عند من شاء منهن ليلتين ، وإذا بات عند كلّ واحدة منهن ليلة إذا كن أربعا وسوى بينهن في قسم الليالي والمبيت فليس يلزمه جماعها ، بل هو مخيّر في ذلك.

وإذا عقد على امرأة بكر جاز له تفضيلها بسبع ليال ، ويعود إلى التسوية ولا يقضي ما فضلها به ، فإن كانت ثيّبا فضّلها بثلاث ليال.

وروي أنّه إذا اجتمع عند الرجل حرة وأمة زوجية ، كان للحرة ليلتان وللأمة ليلة من القسم ، فأمّا إن كانت الأمة ملك يمين فليس لها قسمة مع الحرائر.

وروي أنّ حكم اليهودية والنصرانية إذا كانتا زوجتين ، في الموضع الذي يحلّ ذلك فيه ، حكم الإماء على السواء.

ولا بأس أن يفضّل الرجل بعض نسائه على بعض في النفقة والكسوة ، وإن سوى بينهن وعدل كان أفضل.

لا يجوز للرجل الأجنبي من المرأة أن ينظر إليها مختارا ، فأمّا النظر إليها لضرورة أو حاجة فجائز ، فالضرورة مثل نظر الطبيب إليها ، وذلك يجوز بكلّ حال وإن نظر إلى عورتها ، لأنّه موضع ضرورة ، لأنّه لا يمكن العلاج إلا بعد الوقوف عليه. والحاجة مثل أن يتحمل شهادة على امرأة فله أن ينظر وجهها من غير ريبة ليعرفها ويحقّقها ، وكذلك لو كانت بينه وبينها معاملة أو مبايعة ، فيعرف وجهها ليعلم من التي يعطيها الثمن إن كانت بايعة أو المثمن إن كانت مبتاعة ، ومثل الحاكم إذا حكم عليها ، فإنّه يرى وجهها ليعرفها ويجليها.

ص: 608

وروي أنّ امرأة أتت النبيّ صلى اللّه عليه وآله لتبايعه ، فأخرجت يدها ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أيد امرأة أم يد رجل؟ فقالت : يد امرأة ، فقال : اين الحناء (1) فدلّ هذا الخبر على أنّ عند الحاجة يجوز النظر إليها ، لأنّه إنّما عرف أنّه لا حناء على يدها بالنظر إليها مكشوفة.

فأمّا إذا نظر إلى جملتها يريد أن يتزوجها فعندنا يجوز أن ينظر إلى وجهها وكفيها فحسب ، وله أن يكرر النظر إليها ، سواء أذنت أو لم تأذن ، إذا كانت استجابت إلى النكاح ، فأمّا إذا لم توافق على التزويج فلا يجوز له النظر إلى ما كان يجوز له النظر إليه عند استجابتها وظهور العلم بموافقتها.

فأمّا إذا ملكت المرأة فحلا أو خصيا فهل يكون محرما لها ، حتى يجوز له أن يخلو بها ويسافر معها؟ قيل : فيه وجهان : أحدهما ، وهو مذهبنا ، أنّه لا يكون محرما لها ، ولا يجوز له النظر إلى ما يجوز لذوي محارمها النظر إليه.

والقول الآخر يكون محرما ، ويحل له النظر إليها ، وهو مذهب المخالف ، وتمسك بقوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ ) إلى قوله ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ) (2) فنهاهنّ عن إظهار زينتهن لأحد إلا من استثنى ، واستثنى ملك اليمين ، ورووا أنّ الرسول عليه السلام دخل على فاطمة عليها السلام وهي فضل بالفاء المضمومة ، والضاد المعجمة المضمومة ، أيضا ، يقال : تفضلت المرأة في بيتها ، إذا كانت في ثوب واحد ، كالخيعل ونحوه ، والخيعل بالخاء المعجمة ، والياء المنقطة من تحتها نقطتين ، والعين غير المعجمة ، قميص لا كمي له (3)

ص: 609


1- .. في سنن البيهقي : ج 1. كتاب النكاح ، باب تخصيص الوجه والكفين بجواز النظر ، الحديث 6 عن عائشة قالت : جاءت امرأة وراء الستر بيدها كتاب الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقبض النبي يده وقال : ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ قالت : بل يد امرأة ، قال : لو كنت امرأة لغيّرت اظافرك بالحناء. ( ص 86 ).
2- النور : 31.
3- في الصحاح : « وانما أسقطت النون من كمين للإضافة ، لأنّ اللام كالمقحمة ، لا يعتد بها في مثل هذا الموضع ».

وذلك الثوب مفضل ، بكسر الميم ، والمرأة فضل ، بالضم ، مثال جنب - فأرادت أن تستتر ، فقال عليه السلام : لا عليك ، أبوك وخادمك ، وروي : أبوك وزوجك وخادمك (1) ، قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا الآية فقد روى أصحابنا عن الأئمة عليهم السلام في تفسيرها ، أنّ المراد به الإماء دون الذكران ، فأمّا الخبر فرواية المخالف ، وهو خبر واحد ، وأخبار الآحاد عندنا لا توجب علما ولا عملا ، ولو صحّ لما كان فيه ما ينافي مذهبنا ، لأنّ الخادم ينطلق على الأنثى أيضا ، فهو محتمل.

ولا بأس أن ينظر الرجل إلى أمة يريد شراءها ، وينظر إلى شعرها ومحاسنها ووجهها ويديها فحسب ، ولا يجوز له النظر إلى ذلك إذا لم يرد ابتياعها.

وقد روي جواز النظر إلى نساء أهل الكتاب وشعورهن ، لأنّهنّ بمنزلة الإماء (2) إذا لم يكن النظر لريبة أو تلذذ ، فأمّا إذا كان لذلك فلا يجوز النظر إليهن على حال.

والذي يقوى في نفسي ترك هذه الرواية والعدول عنها ، والتمسّك بقوله تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) (3) وقال تعالى ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (4) وإن كان قد ذكرها وأوردها شيخنا في نهايته فعلى جهة الإيراد لا الاعتقاد.

ص: 610


1- لم نعثر في كتبهم على هذه الرواية مشتملة على لفظة « فضل » في فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها لكن في سنن البيهقي : كتاب النكاح ، باب ما جاء في إبداء زينتها لما ملكت يمينها ، ج 7 ، ص 95 - عن أنس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أتى فاطمة عليها السلام يعبد قد وهبه لها - قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلمّا رأى النبيّ ما تلقى قال : إنّه ليس عليك بأس ، إنّما هو أبوك وخادمك. وأخرجه في الدر المنثور عنه وعن سنن أبي داود وابن مردويه.
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، والباب 45 من أبواب العدد ، ح 1 ، ولا ينهى انهما مشتملان على التعليل.
3- النور : 30.
4- طه : 131.

باب العيوب والتدليس في النكاح ، وما يرد منه وما لا يرد وما في ذلك من الأحكام

العيوب التي يردّ النكاح بها تنقسم إلى قسمين : منها ما يرجع إلى الرجال ، ومنها ما يرجع إلى النساء.

فالرجل يردّ ويفسخ عليه النكاح من أربعة عيوب : من العنة ، والخصاء بالمدّ وكسر الخاء - والجبّ ، والجنون ، سواء كان يعقل معه أوقات الصلوات أو لا يعقل معه ذلك ، إذا كان به ذلك قبل العقد ، فأمّا الجنون الحادث بعد العقد ، فإن كان يعقل معه أوقات الصلوات الخمس فلا خيار للمرأة ، ولا يفسخ النكاح به ، وإن كان لا يعقل أوقات الصلوات الخمس معه ، فالمرأة بالخيار ، ولها فسخ النكاح بذلك.

فأمّا إن دلّس نفسه بالحرية فخرج عبدا ، فلها الخيار والفسخ ، إلا أنّ هذا ليس بعيب في خلقته ، بل هو تدليس ، فلأجل هذا ما أضفناه إلى العيوب الأربعة ، وقلنا : يردّ الرجل من أربعة عيوب.

وقد روي (1) أنّ الرجل إذا انتسب إلى قبيلة فخرج من غيرها ، سواء كان أرذل منها أو أعلى منها ، يكون للمرأة الخيار في فسخ النكاح.

والأظهر أنّه لا يفسخ بذلك النكاح ، لأنّ اللّه تعالى قال « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (2) والإجماع فغير منعقد على خلاف ما اخترناه ، ولا تواترت به الأخبار.

وشيخنا أبو جعفر وإن كان قد أورد ذلك وذكره في نهايته (3) فعلى جهة الإيراد لأخبار الآحاد لا الاعتقاد لصحتها والعمل بها ، فإنّه رجع في مبسوطة وبيّن أنّ ذلك رواية فقال رحمه اللّه : « وإن كان الغرور بالنسب فهل لها الخيار أم لا؟ فالأقوى ، أنّه لا خيار لها ، وفي الناس من قال : لها الخيار ، وقد روي ذلك في

ص: 611


1- الوسائل : الباب 16 من أبواب ، العيوب والتدليس ، ح 1 و 3.
2- المائدة : 1.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح ..

أخبارنا » (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة فدلّ ذلك أنّ ما أورده في نهايته رواية من طريق أخبار الآحاد.

إلا أنّ هذا وإن لم يكن عيبا فإنّه يردّ به ، لأنّه تدليس فرددناه من حيث التدليس بالاشتراط ، لا من حيث أنّه عيب يردّ به من غير اشتراط ، لأنّ الغيوب هي في الخلقة يردّ بها النكاح وإن لم يشترط السلامة في حال العقد ، بل بمجرد العقد يردّ النكاح بعيب الخلقة ، فأمّا التدليس فإنّه إذا شرط أنّه حرّ ، فخرج عبدا ، أو انتسب إلى قبيلة ، فخرج بخلافها ، سواء كان أعلى منها أو أدنى ، وكذلك السواد والبياض إذا شرطه فخرج بخلافه ، وما أشبه ذلك ، فلا يردّ به النكاح إلا إذا اشترط خلافه ، فأمّا بمجرّد العقد دون تقدّم الشرط فلا يردّ به النكاح ، فهذا الفرق بين عيب الخلقة وبين التدليس ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

إذا حدث بالرجل جبّ أو خصاء بعد العقد فلا خيار للمرأة في فسخ النكاح ، فإن حدثت العنّة بعد وطئها فلا خيار لها ، وإن حدثت قبل وطئها وبعد العقد ، ولم يطأ غيرها ولا هي مدّة سنة ، فلها الخيار ، فإن وطأها أو وطأ غيرها في مدّة السنّة لم يكن لها خيار ، فأما الجنون الحادث فقد قلنا ما فيه ، فأغني عن إعادته.

فأمّا العيوب الراجعة إلى النساء فسبعة عيوب : الجنون المتقدّم على العقد ، دون الحادث بعده ، والجذام كذلك ، والبرص كذلك ، والرّتق والقرن - بفتح القاف وسكون الراء ، والإفضاء ، وهو ذهاب الحاجز الذي بين مخرج البول ومدخل الذكر ، والعمى ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا في نهايته (2) وقال في مسائل خلافه : وفي أصحابنا من ألحق بها العمى ، وكونها محدودة ، بعد أن ذكر ستّة عيوب فحسب (3).

ص: 612


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك ، ص 189.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ منه وما لا يردّ.
3- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 124.

والذي يقوى في نفسي أنّ المحدودة لا تردّ ، بل يرجع على وليها بالمهر إذا كان عالما بدخيلة أمرها ، فإن أراد فراقها طلقها.

وألحق أصحابنا عيبا ثامنا ، وهو العرج البيّن ، ذهب إليه شيخنا في نهايته (1) ولم يذهب إليه في مسائل خلافه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه : مسألة ، إذا حدث بالمرأة أحد العيوب التي تردّ به ، ولم يكن في حال العقد فإنّه يثبت به الفسخ (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الصحيح أنّ كلّ عيب حادث بعد العقد من عيوب النساء لا يردّ به النكاح ، والذي ذهب إليه شيخنا مذهب الشافعي في أحد قوليه ، اختاره شيخنا ، فليلحظ ذلك.

وتردّ المرأة من التدليس ، وهو إذا عقد الرجل على امرأة ، فظنّ أنّها حرّة ، فوجدها أمة ، فإن كان قد دخل بها كان لها المهر بما استحل من فرجها ، وللرجل أن يرجع على وليها الذي تولّى العقد عليها ودلسها بالمهر ، فإن كان الوليّ لم يعلم دخيلة أمرها لم يكن عليه شي ء ، فإن كانت هي المدلّسة والمتولية للعقد على نفسها رجع عليها إذا لحقها العتاق ، فإن كان لم يدخل بها لم يكن لها مهر ، فإن كان قد أعطاها المهر كان له الرجوع عليها به إذا كان قائم العين ، فإن كان قد أتلفته رجع عليها إذا لحقها العتاق ، فإذا ردّها كان ردّه لها فراقا بينه وبينها ، ولا يحتاج مع ذلك إلى طلاق.

وكذلك إذا تزوّجت المرأة برجل على أنّه حر ، فوجدته عبدا ، كانت بالخيار بين إقراره على العقد وبين اعتزاله ، فإن اعتزلت كان ذلك فراقا بينها وبينه ، فإن استقرت معه لم يكن لها بعد علمها بحاله خيار ، فإن كان قد دخل بها كان

ص: 613


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ منه وما لا يردّ.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 128.

لها الصداق بما استحل من فرجها ، وإن لم يكن دخل بها لم يكن لها شي ء.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي « رحمه اللّه » في مسائل خلافه : مسألة ، إذا عقد الحرّ على امرأة على أنّها حرّة ، فبانت أمة ، كان العقد باطلا ، ثمّ استدل فقال : دليلنا إجماع (1) على بطلانه أنّه عقد على من يعتقد أنّه لا ينعقد نكاحها ، فكان باطلا (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : العقد صحيح ، إلا أنّه له الخيار بين فسخه وإمضائه ، بلا خلاف بين أصحابنا ، وما استدل به فمرغوب عنه ، لأنّ العقد على الأمة عندنا جائز صحيح ، ينعقد نكاحها ، وليس هي كالكافرة الأصلية ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا عقد الرجل على بنت رجل على أنّها بنت مهيرة ، فوجدها بنت أمة ، كان له ردّها وإن لم يكن دخل بها لم يكن عليه لها شي ء ، وروي أنّ المهر على أبيها (3) ، وليس عليه دليل من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع والأصل براءة الذمة ، فمن شغل ذمة الأب بالمهر يحتاج إلى دليل ، فإن كان قد دخل بها كان المهر عليه بما استحلّ من فرجها ، ورجع على أبيها به ، فإن رضي بعد ذلك بالعقد لم يكن له بعد رضاه الرجوع بالمهر ولا خيار الرّد.

ومتى كان لرجل بنتان : أحدهما بنت مهيرة ، والأخرى بنت أمة ، فعقد للرجل على بنته من المهيرة ، ثمّ أدخلت عليه ابنته من الأمة ، كان له ردّها ، لأنّها ليست زوجة له ، سواء رضي بها أو لم يرض ، فإن كان قد دخل بها وأعطاها المهر كان لها ذلك إن كان وفق مهر أمثالها ، وإن كان أنقص فعليه تمامه ، وإن كان أكثر فله الرجوع عليها بما يزيد على مهور أمثالها ، تستحقه بما استحلّ من فرجها ، ورجع على من أدخلها عليه به ، فإن لم يكن دخل بها فليس

ص: 614


1- ل : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. هذا آخر كلامه وهكذا في الخلاف. وفي نسخة الأصل هنا انمحاء.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 132.
3- الوسائل : الباب 8 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2 - 3.

لها عليه مهر ، وعلى الأب أن يسوق إليه ابنته من المهيرة.

وإذا تزوّج الرجل بامرأة فوجدها برصاء ، أو جذماء ، أو عمياء ، أو رتقاء ، أو قرناء ، أو مفضاة ، أو عرجاء ، أو مجنونة كان له ردّها من غير طلاق ، فإن كان قد دخل بها كان لها المهر بما استحلّ من فرجها ، وله أن يرجع على وليّها بالمهر الذي أعطاها ، إذا كان الولي عالما بحالها ، فإن لم يكن عالما بحالها لم يكن عليه شي ء ، ورجع عليها به إذا كانت هي المدلسة نفسها ، فان لم يكن دخل بها لم يكن عليه مهر ، فإن كان قد أعطاها المهر كان له الرجوع عليها به ، ومتى وطأها بعد العلم بحالها ، أو علم بحالها ورضي ، لم يكن له بعد ذلك ردّها ، فإن أراد فراقها بعد ذلك فارقها بالطلاق.

فأمّا ما عدا ما ذكرناه من العيوب فليس يوجب شي ء منها الردّ ، مثل العور ، وما أشبه ذلك.

وإذا عقد على امرأة على أنّها بكر فوجدها ، ثيبا لم يكن له ردّها ، غير أنّ له أن ينقص من مهرها بمقدار مهر أمثالها ، على ما قدّمناه فيما مضى وحررناه.

ومتى عقد الرجل على امرأة ، على أنّه صحيح ، فوجدته عنينا - ولا يعلم ذلك إلا من جهة الرجل بإقراره ، فحسب ، وقد روي أنّه يعرف ذلك بأن يقام في ماء بارد ، فان تشنج ، أي تقبض العضو ، فليس بعنين ، وإن بقي على حاله فهو عنين (1). وهذا قول ابن بابويه في رسالته (2) والأول هو المعمول عليه - فإذا كان كذلك انتظر به سنة ، فإن وصل إليها في مدّة السنة ، ولو مرّة واحدة ، أو إلى غيرها لم يكن لها عليه خيار ، وإن لم يصل إليها ولا إلى غيرها أصلا كانت مخيّرة بين المقام معه وبين مفارقته ، فإن رضيت لم يكن لها بعد ذلك خيار ، فإن اختارت فراقه كان لها نصف الصداق ، وليس عليها عدّة.

ص: 615


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 4.
2- رسالته لو كانت فهي من المخطوطات.

وقال شيخنا أبو جعفر « رحمه اللّه » في نهايته : وإن حدث بالرجل عنه كان الحكم في ذلك مثل ما قدّمناه (1).

المراد بذلك أنّها حدثت بعد العقد على المرأة وقبل وطيها ووطء غيرها ، بعد أنّ عقد عليها ، وإن كان قد وطأ قبل العقد عليها نساء عدّة ، فأمّا إذا حدثت بعد العقد عليها وبعد وطيها أو وطء غيرها بعد العقد عليها فلا خيار لها بحال ، وإذا اختلف الزوج والمرأة فادّعى الزوج أنّه قربها ، وأنكرت المرأة ذلك ، فإن كانت المرأة بكرا فانّ ذلك ممّا يعرف بالنظر إليها فإن وجدت كما كانت لم يكن لادّعاء الرجل تأثير ، وإن لم توجد كذلك لم يكن لإنكار المرأة تأثير ، إلا أنّ هذا لا يصح إلا أن تكون دعواه بأنّه قربها في قبلها ، فإن افتضّ عذرتها فيكون الحكم فيه ما قدّمناه ، فأمّا إن ادّعى أنّه وطأها في غير قبلها فلا اعتبار بالحكم الذي قدّمناه ، لأنّه ليس لنا طريق إلى تكذيبه ، ويكون القول قوله ، ولا يلزم بأحكام العنين في المسألتين معا ، لأنّها ما ادّعت عليه العنة ، ولا أقرّ بالعنة ، وأكثر ما في ذلك أنّه ما وطأها ، ولو أقرّ بأنّه ما افتضها ما يثبت عليه أحكام العنين ، لأنّا قد بيّنا أنّه لا يثبت كونه عنينا إلا بإقراره.

فإن كانت المرأة ثيبا كان القول قول الرجل مع يمينه باللّه ، وقد روي أنّها تؤمر بأن تحشو قبلها خلوقا ، ثمّ يأمر الحاكم الرجل بوطئها ، فإن وطأها فخرج على ذكره أثر الخلوق صدق وكذبت ، وإن لم يكن الأثر موجودا صدقت وكذب الرجل ، ذهب شيخنا في نهايته (2) إلى أنّ أمرها بالخلوق رواية (3) ، وذهب في مسائل خلافه إلى أنّه المعمول عليه (4) ، والصحيح ما قدّمناه وحررناه ، والأظهر ما ذكره في نهايته.

ص: 616


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ به ما لا يردّ.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ منه وما لا يردّ.
3- الوسائل : الباب 15 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2 - 3.
4- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 140.

فإن تزوّجت المرأة برجل على أنّه صحيح ، فوجدته خصيا ، كانت بالخيار بين الرضا بالمقام معه وبين مفارقته ، فإن رصيت بالمقام معه لم يكن لها بعد ذلك خيار ، وإن أبت فرّق بينهما.

وقد روي أنّه إن خلا بها كان للمرأة صداقها منه ، وعلى الإمام أن يعزره لئلا يعود إلى مثل ذلك (1).

ولا دليل على صحة هذه الرواية من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان قد أورد ذلك شيخنا في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا.

ومتى عقد الرجلان على امرأتين فدخلت امرأة هذا على هذا ، والأخرى على الآخر ، ثمّ علم بعد ذلك ، فإن لم يكونا دخلا بهما ردّت كلّ واحدة منهما إلى زوجها ، وإن كانا قد دخلا بهما ، كان لكل واحدة منهما الصداق ، لا المسمّى ، بل مهر المثل ، لأنّ كلّ واحد من الزوجين ما سمّى صداقا لمن دخل بها ، وإنّما هو وطء شبهة ، فيجب على كلّ واحد منهما مهر المثل ، فإن كان الولي تعمد ذلك أغرم ما غرمه الرجل ، وهو مهر المثل ، ولا يقرب كلّ واحد منهما امرأته حتى تنقضي عدّتها ، فإذا انقضت صارت كلّ واحدة منهما إلى زوجها ، بالعقد الأوّل.

فإن ماتتا قبل انقضاء العدة فقد روي أنّ الرجلين الزوجين يرجعان بنصف الصداق على ورثتهما ، ويرثانهما (3).

والصحيح من الأقوال أنّ بموت أحد الزوجين ، أمّا المرأة ، أو الرجل ، يستقر جميع المهر كملا ، سواء دخل بها الرجل ، أو لم يدخل ، على ما قدّمناه قبل هذا.

فإن مات الرجلان ، وهما في العدة ، فإنّهما ترثانهما ، ولهما المهر المسمّى حسب ما قدّمناه في المتوفّى عنها زوجها ولم يدخل بها ، وعليهما العدّة ما تفرغان من العدّة

ص: 617


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2 ، 3 ، 5 ، والتعليل غير مذكور فيها.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ به وما لا يردّ.
3- الوسائل : الباب 49 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 2.

الاولى ، تعتدان عدّة المتوفّى عنها زوجها.

ومتى أقام الرجل بيّنة على أنّه تزوّج بامرأة وعقد عليها عقدا صحيحا ، وأقامت أختها على هذا الرجل البيّنة أنّه عقد عليها ، فإنّ البيّنة بيّنة الرجل ، ولا يلتفت إلى بيّنة المرأة ، اللّهم إلا أن تقيم البيّنة بأنّه عقد عليها قبل عقده على أختها ، فإذا كان الأمر كذلك قبل بيّنتها ، وأبطلت بيّنة الرجل ، أو يكون قد دخل بها ، فمتى كان مع بينة الرّجل (1) أحد هذين الأمرين : إمّا دخول بها ، أو تاريخ متقدم ، سمعت بيّنتها وأبطلت بيّنة الرجل.

باب النكاح المؤجل وما في ذلك من الأحكام

النكاح المؤجّل مباح في شريعة الإسلام ، مأذون فيه ، مشروع بالكتاب والسنّة المتواترة وبإجماع المسلمين ، إلا أنّ بعضهم ادّعى نسخه ، فيحتاج في دعواه إلى تصحيحها ، ودون ذلك خرط القتاد.

وأيضا فقد ثبت بالأدلة الصحيحة أنّ كلّ منفعة لا ضرر فيها في عاجل ولا آجل مباحة ، بضرورة العقل ، وهذه صفة نكاح المتعة ، فيجب إباحته بأصل العفل.

فإن قيل : فمن أين لكم نفي المضرة عن هذا النكاح في الآجل ، والخلاف في ذلك؟

قلنا : من ادّعى ضررا في الآجل فعليه الدليل.

وأيضا ، فقد قلنا : إنّه لا خلاف في إباحتها ، من حيث أنّه قد ثبت بإجماع المسلمين أنّه لا خلاف في إباحة هذا النكاح في عهد النبيّ عليه السلام بغير شبهة ، ثمّ ادّعى تحريمها من بعد ونسخها ، ولم يثبت النسخ ، وقد ثبتت الإباحة بإجماع ، فعلى من ادّعى الحظر والنسخ الدلالة ، فإن ذكروا الأخبار (2) التي رووها في أنّ النبيّ عليه السلام حرّمها ونهى عنها ، فالجواب عن ذلك أنّ جميع

ص: 618


1- ج : مع بينة المرأة.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب المتعة ، ح 32.

ما يروونه من هذه الأخبار ، إذا سلمت من المطاعن والتضعيف ، أخبار آحاد ، وقد ثبت أنّها لا توجب علما ولا عملا في الشريعة ، ولا يرجع بمثلها عما علم وقطع عليه.

وأيضا قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ » (1) ولفظة « اسْتَمْتَعْتُمْ » لا تعدو وجهين : إمّا أن يراد بها الانتفاع والالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللفظة ، أو العقد المؤجّل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع.

ولا يجوز أن يكون المراد هو الوجه الأول لأمرين : أحدهما أنّه لا خلاف بين محصّلي من تكلّم في أصول الفقه في أنّ لفظ القرآن إذا ورد وهو محتمل لأمرين أحدهما وضع أصل اللغة ، والآخر عرف الشريعة أنّه يجب حمله على عرف الشريعة ، ولهذا حملوا كلّهم لفظ صلاة وزكاة ، وصيام ، وحجّ ، على العرف الشرعي ، دون الوضع اللغوي ، والأمر الآخر أنّه لا خلاف في أنّ المهر لا يجب بالالتذاذ ، لأنّ رجلا لو وطأ زوجته ولم يلتذّ بوطئها ، لأنّ نفسه عافتها ، أو كرهتها ، أو لغير ذلك من الأسباب ، لكان دفع المهر واجبا ، وإن كان الالتذاذ مرتفعا.

فعلمنا أنّ لفظ الاستمتاع في الآية إنّما أريد به العقد المخصوص دون غيره.

وأيضا : فقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأقوال من الصحابة والتابعين ، كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وابن عباس ، ومناظرته لابن الزبير عليها معروفة ، رواها الناس كلّهم ، ونظم الشعراء فيها الأشعار ، فقال بعضهم :

أقول للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

هل لك في قنية بيضاء بهكنة (2) *** يكون مثواك حتى مصدر الناس

وعبد اللّه بن مسعود ، ومجاهد ، وعطاء ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وسلمة بن الأكوع ، وأبي سعيد الخدري ، والمغيرة بن شعبة ، وسعيد بن جبير ،

ص: 619


1- النساء : 24.
2- البهكن البهكنة : الغض والغضة. « أقرب الموارد ».

وابن جريح ، فإنّهم كانوا يفتون بها فادّعاء الخصم الاتفاق على حظر النكاح المؤجل باطل.

وأيضا فإجماع أصحابنا حجة على إباحة هذا النكاح.

وهو ما قدّمنا ذكره من عقد الرجل على امرأة مدة معلومة بمهر معلوم.

ولا بدّ من هذين الشرطين ، فإن لم يذكر المدة كان النكاح دائما ، إذا كان الإيجاب بلفظ التزويج أو النكاح ، على ما حررناه في ما تقدّم ، فإن كان بلفظ التمتع بطل العقد.

وإن ذكر الأجل ولم يذكر المهر بطل النكاح ، وإن ذكر مدة مجهولة لم يصح العقد على الصحيح من المذهب.

فأمّا ما عدا الشرطين فمستحب ذكره ، دون أن يكون ذلك من الشرائط الواجبة.

وأمّا الاشهاد والإعلان فمسنونان في نكاح الدوام ، فأمّا النكاح المؤجل فليسا بمسنونين فيه ولا واجبين ، اللّهم إلا أن يخاف الإنسان التهمة بالزنا ، فيستحب له حينئذ أن يشهد على العقد شاهدين.

والمستحب له إذا أراد هذا العقد أن يطلب امرأة عفيفة مؤمنة مستبصرة ، فإن لم يجد بهذه الصفة ووجد مستضعفة جاز أن يعقد عليها ، ولا بأس أن يعقد على اليهودية والنصرانية هذا النكاح في حال الاختيار ، فأما من عدا هذين الجنسين من سائر الكفار ، سواء كانت مجوسية أو غيرها ، كافرة أصل أو مرتدة أو كافرة ملة ، فلا يجوز العقد عليها ولا وطؤها حتى تتوب من كفرها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويكره التمتع بالمجوسية ، وليس ذلك بمحظور (1) وهذا خبر أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ إجماع أصحابنا بخلافه ، وشيخنا المفيد « رحمه اللّه » في مقنعته يقول : لا يجوز العقد على المجوسيّة (2) وقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) وقوله : ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى

ص: 620


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.
2- المقنعة : باب العقود على الإماء ، والعبارة هكذا : ولا يجوز ، وطء المجوسية المجوسية ، ص 508.
3- الممتحنة : 10.

يُؤْمِنَّ ) (1) وهذا عامّ ، وخصّصنا اليهودية والنصرانية بدليل الإجماع ، وبقي الباقي على عمومه ، ورجع شيخنا عمّا ذكره في تبيانه (2).

وبعض أصحابنا يحظر العقد على اليهودية والنصرانية ، سواء كان العقد مؤجلا أو دائما ، وهو الأظهر والأقوى عندي ، لعموم الآيتين ، فمن خصصهما يحتاج إلى دليل ، من إجماع ، أو تواتر ، وكلاهما غير موجودين.

إلا أنّه متى عقد على أحد الجنسين منعهما من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، على ما روي (3).

ولا بأس أن يتمتع الإنسان بالفاجرة ، إلا أنّه يمنعها بعد العقد عليها من الفجور.

ولا يجب على الرجل سؤالها هل لها زوج أم لا؟ لأنّ ذلك لا يمكن أن يقوم له به بيّنة.

والأولى في الديانة سؤالها عن ذلك ، إن كانت مصدّقة على نفسها ، وإن كانت متهمة (4) في ذلك احتاط في التفتيش عن أمرها ، استحبابا لا إيجابا.

ولا بأس أن يتزوّج الرجل نكاحا مؤجلا بكرا ليس لها أب من غير وليّ ، كما أنّ له ذلك في عقد الدوام ، فإن كانت البكر بين أبويها جاز ذلك أيضا ، فإن كانت دون البالغ لم يجز له العقد عليها إلا بإذن أبيها ، فإن كانت بالغا جاز العقد عليها من غير استيذانه ، على ما قدّمناه.

ولا بأس أن يتمتع الرجل بأمة غيره بإذنه ، وإن كانت الأمة لامرأة فكذلك ، ولا يجوز له نكاحها ولا العقد عليها إلا بإذن مولاتها ، بغير خلاف ، إلا رواية شاذة رواها سيف بن عميرة (5) أوردها شيخنا في نهايته (6) ورجع عنها في

ص: 621


1- البقرة : 221.
2- التبيان : ج 2 ، ص 218 ذيل الآية 221 ، والعبارة هكذا : فامّا المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا.
3- الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، ح 1.
4- ق. ل : فان اتهمها.
5- الوسائل : الباب 14 من أبواب المتعة ، ح 1 ، وفيه : لا بأس بأن يتمتع بأمة المرأة بغير إذنها.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.

جواب المسائل الحائريات (1) على ما قدّمناه.

وقد سئل الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان « رحمه اللّه » في جملة المسائل التي سأله عنها محمّد بن محمّد بن الرملي الحائري « رحمه اللّه » وهي معروفة مشهورة عند الأصحاب ، سؤال : وعن الرجل يتمتع بجارية غيره بغير علم منه ، هل يجوز له ذلك أم لا؟

فأجاب : لا يجوز له ذلك ، وإن فعله كان عاصيا آثما ، ووجب عليه بذلك الحدّ ، وقد ظنّ قوم لا بصيرة لهم ممن يعتزى إلى الشيعة ، ويميل إلى الإمامية ، أنّ ذلك جائز بحديث رووه : « ولا بأس أن يستمتع الرجل من جارية امرأة بغير إذنها » (2) وهذا حديث شاذ ، والوجه : أنّه يطؤها بعد العقد عليها بغير إذنها ، من غير أن يستأذنها في الوطء ، لموضع الاستبراء لها ، فأمّا جارية الرجل فلم يأت فيه حديث ، ومن جوّزه فقد خالف حكم الشرع ، وفارق الحق ، وقال ما يردّه عليه كافة العلماء ، ويضلّله جماعة الفقهاء.

قال محمّد بن إدريس : فانظر أرشدك اللّه إلى فتوى هذا الشيخ المجمع على فضله ورئاسته ومعرفته ، وهل رجع إلى حديث يخالف الكتاب والسنّة وإجماع الأمة ، فكيف يجعل ما يورد ويوجد في سواد الكتب دليلا ، ويفتي به من غير حجة تعضده؟ وهل هذا إلا تغفيل من قائله؟

وإذا كانت عند الرجل امرأة حرّة بعقد دوام فلا يجوز له أن يتمتع بأمة إلا بعد رضاها واستيذانها ، وكان الحكم في هذا العقد حكم نكاح الدوام.

فإذا أراد العقد فليذكر من المهر والأجل ما تراضيا عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، بعد أن يكون معلوما غير مجهول ، كلّ واحد منهما ، ويكون المهر ما يجوز تمليكه للمسلمين.

فإن ذكر لها مهرا معلوما وأجلا معلوما ، ثمّ أراد مفارقتها قبل الدخول بها ،

ص: 622


1- المسائل الحائريات : ..
2- الوسائل الباب 14 من أبواب المتعة ، ح 1 ، وفيه : لا بأس بأن يتمتع بأمة المرأة بغير اذنها.

فليهب لها أيّامها ، ويلزمه نصف المهر ، على ما رواه أصحابنا (1) وأجمعوا عليه قولا وعملا ، لأنّهم يجرون هبة الأجل قبل الدخول بها مجرى الطلاق قبل الدخول ، فإن كان قد أعطاها المهر رجع عليها بنصفه ، فإن وهبت مهرها له قبل أن يفارقها ، كان له أن يرجع عليها بمثل نصف المهر بعد تخليته إيّاها ، فإن أعطاها شيئا من مهرها ودخل بها ، لزمه ما بقي عليه منه على كماله ، إذا وفت له بأيامه ، فإن أخلّت بشي ء من أيّامه من غير عذر جاز له أن ينقصها بحساب ذلك من المهر فإن تبيّن له بعد الدخول بها أنّ لها زوجا ، أو هي في عدّة ، لا يلزمه أن يعطيها شيئا ، وكان ما أخذت منه حراما عليها.

ويجوز أن يشترط عليها أن يأتيها ليلا ، أو نهارا ، أو في أسبوع دفعة ، أو يوما بعينه ، أيّ ذلك شاء فعل ، ولم يكن عليه شي ء.

وقد روي (2) أنّه إذا عقد عليها شهرا ، ولم يذكر الشهر بعينه ، كان له شهر من ذلك الوقت ، فإذا مضى عليها شهر ثمّ طالبها بعد ذلك بما عقد عليها لم يكن له عليها سبيل.

والصحيح ترك هذه الرواية ، لأنّ هذا أجل مجهول ، إلا أن يقول : شهرا من هذا الوقت ، فيصح ذلك ، لأنّه يكون معلوما.

فإن كان قد سمّى الشهر بعينه كان له شهره الذي عيّنه ، فإذا ثبت ذلك فلا يجوز لهذه المرأة أن تعقد على نفسها لأحد من عالم اللّه ، وإن لم يحضر ذلك الشهر المعيّن ، لأنّ عليها عقدا ، ولها زوج ، فلا يجوز أن يكون للمرأة زوجان ، ولا يكون عليها عقدان ، بإجماع المسلمين.

ولا يجوز أيضا لمن عقد عليها العقد الأول أن يعقد على أختها قبل حلول شهره المعيّن وحضوره ، لأنّه يكون جامعا بين الأختين.

واختلف أصحابنا في توارث نكاح المؤجل ، فقال قوم منهم : ترث وتورّث

ص: 623


1- الوسائل : الباب 30 من أبواب المتعة ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 35 من أبواب المتعة.

إذا لم يشترطا نفي التوارث ، مثل نكاح الدوام ، وقال آخرون منهم : لا ترث ولا تورّث ، إلا أن يشترطا التوارث ، فإن شرطا ذلك توارثا ، وقال الباقون المحصّلون :

لا توارث في هذا النكاح ، شرطا التوارث أو لم يشرطا ، لأنّهما إن شرطا كان الشرط باطلا ، لأنّه شرط يخالف السنة.

وهذا الذي أفتي به وأعمل عليه ، لأنّ التوارث حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، وقد أجمعنا على تخصيص عموم آيات توارث الأزواج في النكاح الدائم ، واختلف أصحابنا في توريث الأزواج في النكاح المؤجل ، والأصل براءة الذمة.

ولا خلاف أنّه لا يتعلّق بها حكم الإيلاء ، ولا يقع بها طلاق ، ولا يصحّ بينها وبين الزوج لعان ، ويصح الظهار منها عند بعض أصحابنا ، وكذلك اللعان عند السيد المرتضى ، والأظهر أنّه لا يصحّ ذلك بينهما في هذا العقد.

وانقضاء الأجل يقوم في الفراق مقام الطلاق ، ولا سكنى لها ، ولا نفقة ، ويجوز الجمع بغير خلاف بين أصحابنا في هذا النكاح بين أكثر من أربع ، لأنهنّ بمنزلة الإماء عندنا ، ولا يلزم العدل بينهن في المبيت.

ويلحق الولد بالزوج ، ويلزمه الاعتراف به ، ويجب عليه إلحاقه به ، ولا يحلّ له نفيه إذا قطع على أنّه منه ، إلا أنّه إن نفاه أثم ، وكان معاقبا عند اللّه تعالى ، إلا أنّه لا يحتاج مع نفيه إلى لعان ، بخلاف النكاح الدائم ، لأنّ النكاح الدائم متى علم أنّه ولد على فراشه احتاج في نفيه إلى لعان ، فمتى وطأ في القبل الواطي في النكاح المؤجل لزمه الاعتراف به ، وإن كان يعزل الماء.

ولا بأس إن يعقد الرجل على امرأة واحدة مرّات كثيرة ، واحدة بعد أخرى ، لأنّه لا طلاق في هذا النكاح.

وإذا انقضى الأجل فيما بينهما ، جاز له أن يعقد عليها عقدا مستأنفا في الحال ، قبل خروجها من العدة ، ولا يجوز لغيره ذلك ما دامت في العدّة.

وكذلك يجوز له أن يعقد على أختها قبل خروجها من عدّتها ، وبعد

ص: 624

خروجها من أجله ، فإن أراد أن يزيدها في الأجل قبل انقضاء أجلها الذي له عليها لم يكن له ذلك ، فإن أراد فليهب لها ما بقي عليها من الأيام ، ثمّ ليعقد عليها على ما شاء من الأيام.

وعدّة المرأة في هذا النكاح ، إذا كانت ممن تحيض حيضا مستقيما ، أو لا تحيض وفي سنها من تحيض ، إذا انقضى أجلها ، أو وهب لها زوجها أيّامها - على ما قدّمناه وقلنا إنّه عند أصحابنا بمنزلة الطلاق في هذا النكاح بغير خلاف بينهم - قرءان ، وهما طهران للمستقيمة الحيض ، وخمسة وأربعون يوما إذا كانت لا تحيض ومثلها تحيض ، فأمّا إن كانت لا تحيض وليس في سنّها من تحيض فلا عدّة عليها ، إلا إذا توفي عنها زوجها قبل خروجها من أجله.

فإذا توفى عن المتمتع بها زوجها قبل انقضاء أجلها (1) كانت عدّتها مثل عدّة المعقود عليها عقد الدوام ، على الصحيح من المذهب ، وقال قوم من أصحابنا :

عدّتها شهران وخمسة أيام ، والأول هو الظاهر ، لأنّه يعضده القرآن والمتواتر من الأخبار ، سواء كانت أمة أو حرة ، لظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (2) وذلك عامّ في كل من يتوفى عنها زوجها ، ولا إجماع منعقد على تخصيص ذلك ، فيجب العمل بالعموم ، لأنّه الظاهر ، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل.

وقال شيخنا في نهايته : « عدتها إذا انقضى أجلها أو وهب لها زوجها أيامها حيضتان ، أو خمسة وأربعون يوما ، إذا كانت لا تحيض وفي سنّها من تحيض » (3).

أمّا قوله : « حيضتان » يريد بذلك المستقيمة الحيض ، تعتد بالأقراء ، وهي قرءان فعبّر عن القرءين بالحيضتين ، وامّا قوله : « أو خمسة وأربعون يوما » فمراده من لا تحيض وفي سنّها من تحيض.

وقد روي أنّه إذا اشترط الرجل في حال العقد أن لا يطأها في فرجها ، لم يكن له

ص: 625


1- ق : أجله.
2- البقرة : 234.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.

وطؤها فيه ، فإن رضيت بعد العقد بذلك كان جائزا.

وقال شيخنا في نهايته : « وكلّ شرط يشرطه الرجل على المرأة انّما يكون له تأثير بعد ذكر العقد ، فإن ذكر الشروط وذكر بعدها العقد كانت الشروط التي قدّم ذكرها باطلة لا تأثير لها ، فإن كرّرها بعد العقد ثبتت على ما شرط » (1).

قال محمّد بن إدريس « رحمه اللّه » : لا شرط يجب ذكره ويلزمه (2) إلا شرطان : وهما ذكر الأجل المحروس من الزيادة والنقصان ، إمّا بالشهور والأيام ، أو بالسنين والأعوام ، والمهر المعلوم إن كان من الموزون بالوزن أو الاخبار عن الوزن ، وإن كان مكيلا فبالكيل أو الاخبار عن الكيل ، وإن كان غير موزون ولا مكيل فبالمشاهدة أو الوصف في غير المشاهدة ، وما عداهما من الشروط لا يلزم ، ولا تأثير له في صحة هذا النكاح ، وأيضا فالمؤثر لا يكون له تأثير إلا إذا قارن وصاحب ، فكيف يؤثر الشرط المذكور بعد العقد ، فكان الاولى إن كانت الشروط مؤثرة ولازمة أن يكون ما يلزم منها مصاحبا للعقد مقارنا له لا يتقدّم عليه ولا يتأخر وشيخنا أورد ذلك من طريق أخبار الآحاد ، دون الاعتقاد.

قال محمّد بن إدريس : يروى في بعض أخبارنا في باب المتعة عن أمير المؤمنين عليه السلام : لو لا ما سبقني إليه بني الخطاب ما زنى إلا شفا - بالشين المعجمة والفاء - ومعناه إلا قليل ، والدليل عليه حديث ابن عباس ، ذكره الهروي في الغريبين : « ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللّه بها أمة محمد صلى اللّه عليه وآله ولو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شفا » قد أورده الهروي في باب الشين والفاء ، لأنّ الشفاء عند أهل اللغة القليل ، بلا خلاف بينهم ، وبعض أصحابنا ربما صحّف ذلك ، وقاله وتكلم به بالقاف والياء المشددة ، وما ذكرناه هو وضع أهل اللغة ، وإليهم المرجع ، وعليهم المعوّل في أمثال ذلك ، وتعضده

ص: 626


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.
2- ق : يلزم.

الرواية عن ابن عباس « رحمه اللّه ».

وقال شيخنا أبو جعفر في الاستبصار ، في باب التمتع بالأبكار ، أورد خبرا فيه : « ما يقول هؤلاء الأقشاب » (1) بالقاف والشين المعجمة.

قال محمّد بن إدريس : الأقشاب الأخلاط ، وهو ذم لهم (2).

باب السراري وملك الايمان وما في ذلك من الأحكام

يستباح وطء الإماء من ثلاث طرق :

أحدها العقد عليهن بإذن أهلهنّ ، كما قال تعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) (3) وقد سلف ذكر ذلك فيما مضى من كتابنا.

والثاني بتحليل مالكهن أو إباحته الرجل من وطئهن ، وإن لم يكن هناك عقد متضمن لفظ التزويج أو النكاح.

وجملة الأمر وعقد الباب في ذلك أنّ تحليل الإنسان جاريته لغيره من غير عقد فهو جائز عند أكثر أصحابنا المخصّلين ، وبه تواترت الأخبار ، وهو الأظهر بين الطائفة ، والعمل عليه ، والفتوى به ، وفيهم من منع منه ، فمن أجازه اختلفوا : فمنهم من قال : هو عقد والإباحة والتحليل عبارة عنه ، وهو مذهب السيد المرتضى ، ذكره في انتصاره ، والباقون الأكثرون قالوا : هو تمليك منفعة مع بقاء الأصل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي « رحمه اللّه » وشيخنا المفيد ، وغيرهما من المشيخة ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وبه أفتي ، ويجري ذلك مجرى إسكان الدار وإباحة منافع الحيوان ، إذ لا يمنع من ذلك مانع ، من كتاب ، ولا سنة ، ولا دليل عقل ، ولا إجماع منعقد ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر في مبسوطة يجعل

ص: 627


1- الاستبصار ، ج 3 ، باب التمتع بالأبكار ص 145 ، ح 1 وفي الوسائل : الباب 11 من أبواب المتعة ، ح 6.
2- ل : وهو ذمّ لهم ، والذي ورد في كتب اللغة « أو شاب من الناس » بالواو ، وهم الأخلاط.
3- النساء : 25.

من شروطه أن تكون المدّة معلومة.

ويكون الولد لا حقا بامه ، ويكون رقّا ، إلا أن يشترط الرجل الحرية ، والصحيح من المذهب والأقوال والذي تقتضيه الأدلّة أنّ الولد بمجرد العقد في المعقود عليها من الإماء ، أو المباحة المحللة بمجرد الإباحة والتحليل يكون الولد حرا ، إلا أن يشترطه المولى ، لأنّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّ كلّ وطء مباح حلال يلحق الولد بالحرية ، من أيّ طرفي العاقدين الزوجين كانت ، سواء كان بعقد ، أو إباحة ، أو نكاح فاسد ، أو وطء شبهة. والمخالف يلحقه بامه ، ولا يلحقه بأبيه ، فإن كانت حرة كان حرا ، ولا يعتدّ بأبيه ، وإن كانت أمة كان رقّا ، ولا يلتفت إلى أبيه وإن كان أبوه حرا ، وأصحابنا على خلاف مذهب المخالف ، وممّا يتفردون به من القوم.

وقد سأل السيد المرتضى نفسه فقال : مسألة في خبر الواحد : إن سأل سائل فقال : كيف تنكرون أن يكون أخبار الآحاد في الأحكام الشرعية ممّا لم تقم الحجة بالعمل بها ، فقد وجدنا الإماميّة يختلفون فيما بينهم في أحكام شرعيّة معروفة ، ويستند كلّ فريق منهم إلى أخبار آحاد في مذهبه ، ولا يخرج كلّ فريق من موالاة الفريق الآخر وإن خالفه ، ولا يحكم بتكفيره وتضليله ، وهذا يقتضي أنّه إنّما لم يرجع عن موالاته ، لأنّه استند فيما ذهب إليه إلى ما هو حجة.

الجواب : أنّ أخبار الآحاد ممّا لم تقم لها دلالة شرعيّة على وجوب العمل بها ، ولا يقطع العذر بذلك ، وإذا كان خبر الواحد لا يوجب علما وإنّما يقتضي إذا كان راويه على غاية العدالة ظنّا ، فالتجويز لكونه كاذبا ثابت ، والعمل بقوله يقتضي الإقدام على ما يعلم قبحه ، فأمّا الاستدلال على أنّ الحجة ثابتة بقبول أخبار الآحاد بأنا لا نكفر من خالفنا في بعض الأحكام الشرعية من الإماميّة ولا نرجع عن موالاته ، فلا شبهة في بعده ، لأنّا لا نكفر ولا نرجع عن موالاة من خالف من أصحابنا في بعض الشرعيات ، وإن استند في ذلك المذهب إلى

ص: 628

التقليد ، أو رجع فيه إلى شبهة معلوم بطلانها ، ولم يدلّ عدولنا عن تكفيره وتمسكنا بموالاته على أنّ التقليد الذي تمسّك به واعتمد في مذهبه ذلك عليه حقّ ، وأنّ فيه الحجة ، فكذلك ما ظنه السائل ، وبعد فلو كنّا إنّما عدلنا عن تكفيره وأقمنا على موالاته من حيث استند من أخبار الآحاد إلى ما قامت به الحجة في الشريعة لكنّا لا نخطّيه ولا نأمره بالرجوع عمّا ذهب إليه ، لأنّ من عوّل في مذهب على ما فيه الحجة لا يستنزل عنه ، ونحن نخطّي من أصحابنا من خالفنا فيما قامت الأدلة الصحيحة عليه من الأحكام الشرعيّة ، ونأمره بالرجوع إلى الحق ، وترك ما هو عليه ، وانّما لا نضيف إلى هذه التخطئة التكفير والرجوع عن الموالاة ، وليس كلّ مخطئ كافرا وغير مسلم ، انّ المحق من أصحابنا في الأحكام الشرعيّة انّما عوّل فيما ذهب إليه على أخبار الآحاد ، ومن عوّل على خبر الواحد وهو لا يوجب علما ، كيف يكون عالما قاطعا؟

وما بقي ممّا نحتاج إليه في هذا الكلام إلا أن نبيّن من أي وجه لم نكفر من خالفنا في بعض الشرعيات من أصحابنا ، مع العلم بأنّه مبطل والوجه في ذلك أنّ التكفير يقتضي تعلّق أحكام شرعية : كنفي الموالاة ، والتوارث ، والتناكح ، وما جرى مجرى ذلك ، وهذا انّما يعلم بالأدلة القاطعة ، وقد قامت الدلالة وأجمعت الفرقة المحقة على كفر من خالفنا في الأصول ، كالتوحيد ، والعدل والنبوة ، والإمامة ، فامّا خلاف بعض أصحابنا لبعض في فروع الشرعيات فممّا لم يقم دليل على كفر المخطئ ، ولو كان كفرا لقامت الدلالة على ذلك من حاله ، وكونه معصية وذنبا لا يوجب عندنا الرجوع عن الموالاة ، كما نقول ذلك في معصية ليست بكفر.

فإن قيل : فلو خالف بعض أصحابكم في مسح الرجلين ، وذهب إلى غسلهما ، وفي أنّ الطلاق الثلاث يقع جميعه ، أكنتم تقيمون على موالاته؟

قلنا : هذا ممّا لا يجوز أن يخالف فيه إمامي ، لأنّ هذه الأحكام وما أشبهها معلوم ضرورة أنّه مذهب الأئمة عليهم السلام ، وعليه إجماع الفرقة المحقّة ، فلا

ص: 629

يخالف فيها من وافق في أصول الإمامية ، ومن خالف في أصولهم كفر بذلك.

فإن قيل : أفلستم تكفرون من خالفكم من خالف في صغير فروع الشرعيات وكبيرها؟ فكيف يكفر المخالف بما لا يكفر به الموافق؟

قلنا : نحن لا نكفر مخالفنا إذا خالف في فرع لو خالف فيه موافق من أصحابنا لم نكفره ، وإنّما نكفر المخالف في ذلك الفرع بما ذهب إليه من المذاهب التي تقتضي تكفيره ، مثال ذلك : أنّ من خالف من أصحابنا وقال : إنّ الولد الحر من المملوكة مملوك إذا لم يشترط ، لم يكن بذلك كافرا ، وكان هذا القول باطلا ، وكذلك المخالف لنا في الأصول إذا خالف في هذه المسألة وقال : إنّ الولد مملوك وهذا مذهبكم لا يكون بهذا القول بعينه كافرا ، وانّما نكفره على الجملة بما خالف فيه مما يقتضي الأدلة أن يكون كفرا (1). هذا آخر كلام السيد المرتضى ، احتجنا أن نورد المسألة والجواب على وجههما لنبيّن مقصودنا من ذلك ، وهو قوله : « مثال ذلك أنّ من خالف من أصحابنا وقال : إنّ ولد الحر من المملوكة مملوك إذا لم يشترط ، لم يكن بذلك كافرا ، وكان هذا القول باطلا » فدلّ على أنّ الولد حرّ إذا كان أبوه حرا ، وامّه مملوكة ، وكان الوطء حلالا مباحا ، وارتفع الشرط ، سواء كان هذا الوطء بعقد أو إباحة المولى ، لأنّ إطلاق كلام السيد المرتضى يقتضي ذلك ويدلّ عليه ، فدلّ على أنّه إجماع منعقد من أصحابنا.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في الجزء الخامس من المبسوط ، في فصل في حدّ القاذف (2) : إذا قذف رجلا ثمّ اختلفا ، فقال القاذف : أنت عبد ، فلا حدّ عليّ ، وقال المقذوف : أنا حرّ ، فعليك الحدّ ، لم يخل المقذوف من ثلاثة أحوال : إمّا يعلم أنّه حرّ ، أو عبد ، أو يشك فيه ، فإن عرف أنّه حرّ ، مثل أن علم ان أحد أبويه حرّ عندنا ، أو يعلم أنّ امه حرّة عندهم وإن كان عبدا فأعتق فعلى

ص: 630


1- رسائل الشريف المرتضى المجموعة الثالثة ، مسألة 44 عدم تخطئة العامل بخبر الواحد ص 271 - 272.
2- وفي المصدر : حد القذف.

القاذف الحدّ ، وإن عرف أنّه مملوك فلا حدّ على القاذف ، وعليه التعزير ، وإن أشكل الأمر ، كالرجل الغريب لا يعرف ولا يخبر كاللقيط ، قال قوم : القول قول القاذف ، إلى هاهنا كلام الشيخ في المبسوط (1).

مقصودي منه قوله : « فإن عرف أنّه حرّ مثل أن علم أنّ أحد أبويه حرّ عندنا » ولم يشرط في الوطء بعقد أو إباحة ، بل أطلق القول بذلك ، وأنّه متى كان أحد أبويه حرا فهو حرّ عندنا ، يعني عند أصحابنا الإمامية.

وقال - في الجزء الخامس أيضا ، في فصل في دية الجنين - : ديته مائة دينار ، ويجب ذلك في الجنين الكامل ، وكماله بالإسلام والحرّيّة ، أمّا إسلامه بأبويه أو بأحدهما ، وأمّا الحرّيّة فمن وجوه ، أن تكون امه حرّة ، أو تحبل الأمة في ملكه ، أو يتزوج امرأة على أنّها حرّة فإذا هي أمة ، أو يطأ على فراشه امرأة يعتقدها زوجته الحرة ، فإذا هي أمة ، ففي كلّ هذا يكون حرّا ، بلا خلاف عندنا ، إذا كان أبوه أيضا حرّا وإن كانت الام مملوكة ، فانّ الولد يلحق بالحريّة عندنا ، وفي كلّ هذه المواضع ما تقدّم ذكره من مائة دينار (2).

وقال أيضا شيخنا أبو جعفر الطوسي في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب الرهن : مسألة : إذا أتت هذه الجارية الموطوءة بإذن الراهن بولد كان حرّا لا حقا بالمرتهن ، بالإجماع ، ولا يلزمه عندنا قيمته ، وللشافعي فيه قولان : أحدهما يجب عليه قيمته ، وبه قال المروزي (3) والآخر لا تجب ، دليلنا ما قدّمناه ، من أنّ الأصل براءة الذمة ، ووجوب القيمة يحتاج إلى دليل (4) ، هذا آخر كلام شيخنا.

ألا ترى إلى قوله : « كان حرّا لا حقا بالمرتهن بالإجماع ، ولا يلزمه عندنا قيمته » ، ولم يتعرض للشرط ، ولا ذكره جملة ، فقد رجع عمّا ذكره في نهايته

ص: 631


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الحدود ، ص 17.
2- المبسوط : ج 7 ، فصل في دية الجنين ، ص 193.
3- ج : المزني.
4- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 23.

ومبسوطة ، فهو محجوج بهذا القول الذي ذهب إليه وحكيناه عنه في مسائل خلافه ، وما أورده في نهايته فمن طريق أخبار الآحاد ، لا على جهة العمل والاعتقاد ، وهو خبر واحد رواية ضريس الكناسي (1) وبإزائه أخبار كثيرة معارضة له ، تتضمن أنّ الولد حرّ بمجرد الإباحة والتحليل ، وأصول المذهب تقتضي أنّ الولد يلحق بأبيه إلا ما قام عليه الدليل.

رجعنا إلى تقسيمنا.

والثالث بأن يملكهنّ فيستبيح وطئهن بملك الأيمان ، وإذا أحلّ وأباح الرجل جاريته لأخيه ، أو المرأة لأخيها أو لزوجها حلّ له منها ما أحلّه له مالكها ، إن أحلّ له وطئها حلّ له كلّ شي ء منها ممّا يرجع إلى الاستمتاع ، من تقبيل ولمس وعناق وغير ذلك ، وإن أحلّ له ما دون الوطء فليس له إلا ما جعله منه في حلّ ، إن أحلّ له خدمتها لم يكن له سوى الخدمة شي ء ، وإن أحلّ له مباشرتها أو تقبيلها كان له ذلك ، ولم يكن له وطؤها ، فإن وطأها في هذه الحال كان عاصيا ، وإن أتت بولد كان لمولاها ، ويلزمه مهر أمثالها.

وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته : يلزمه عشر قيمتها إن كانت بكرا ، وإن كانت غير بكر لزمه نصف عشر قيمتها (2) ، وقال أيضا :

ومتى جعله في حلّ من وطئها ، وأتت بولد كان لمولاها ، وعلى أبيه أن يشتريه بماله إن كان له مال ، وإن لم يكن له مال استسعى في ثمنه (3).

قال محمّد بن إدريس : وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وحكينا رجوعه في مسائل خلافه ، وأيضا فلا يجب على الإنسان أن يشتري ولده إذا كان الولد مملوكا ، بغير خلاف ، فكيف أوجب عليه شراءه ولا يجب عليه أن يستسعى في فك رقبة ولده من الرق ، بغير خلاف بين أصحابنا.

ص: 632


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب نكاح العبيد الإماء ، ح 1.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

ثمّ قال أيضا في نهايته : ولا يجوز للرجل أن يجعل عبده في حلّ من وطء جاريته ، فإن أراد ذلك عقد له عليها عقدا (1).

قال محمد بن إدريس : لا مانع من تحليل عبده وطء جاريته ، من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل الإباحة ، بل قوله تعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) (2) وقوله ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ ، مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) (3) دليل على صحة ذلك.

ثمّ قال أيضا في نهايته : وينبغي أن يراعى في ما ذكرناه لفظ التحليل ، وهو أن يقول الرجل المالك للأمة لمن يحللها له : « جعلتك في حلّ من وطء هذه الجارية ، أو أحللت لك وطئها » (4).

قال محمّد بن إدريس : ليس قول شيخنا « رحمه اللّه » : ينبغي أن يراعى في ما ذكرناه لفظ التحليل ، بمانع من غيره من الألفاظ ، وهو قوله : أبحتك وطئها ، ولا منع منه.

وإنّما قال : ولا يجوز لفظ العارية في ذلك (5) لشناعة المخالف علينا ، فإنّهم يقولون : هؤلاء يعيرون الفروج ، يريدون بذلك في الحرائر ، معاذ اللّه أن نقول ذلك ، وانّما يتخرصون علينا بما لا نقوله ولا نذهب بحمد اللّه إليه ، فتحرّز أصحابنا - خوفا من الشناعة - فقالوا : ولا يجوز لفظ العارية في ذلك ، حراسة من التشنيع ، وقد قلنا فيما مضى ، أنّ ذلك تمليك منافع ، كتمليك منافع الدار والفرس وغير ذلك.

وقد ذهب شيخنا في مبسوطة في باب العارية إلى ما اخترناه ، فقال : ولا يجوز إعارة الجارية للاستمتاع بها ، لأنّ البضع لا يستباح بالإعارة ، وحكى عن مالك جواز ذلك ، وعندنا يجوز ذلك بلفظ الإباحة ، ولا يجوز بلفظ العارية (6) هذا آخر كلامه في مبسوطة.

وإذا كان الرجل مالكا لنصف الجارية ، والنصف الآخر منها يكون حرّا ، لم

ص: 633


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
2- النساء : 25.
3- النور : 32.
4- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
6- المبسوط : ج 3 ، كتاب العارية ، ص 57.

يجز له وطؤها ، بل يكون له من خدمتها يوم ، ولها من نفسها يوم ، وروي أنّه إذا أراد العقد عليها في يومها عقد عليها عقد المؤجل وكان ذلك جائزا (1).

ومتى ملك الرجل جارية بأحد وجوه التمليكات ، من بيع ، أو هبة ، أو سبي ، أو غير ذلك ، لم يجز له وطؤها في قبلها ، إلا بعد أن يستبرئها بحيضة إن كانت ممن تحيض ، وإن لم تكن ممّن تحيض ومثلها تحيض استبرأها بخمسة وأربعين يوما ، وإن كانت قد يئست من المحيض ، أو لم تكن بلغته لم يكن عليه استبراء.

وكذلك يجب على الذي يريد بيع جارية كان يطؤها ، فإن استبرأها البائع ثمّ باعها لم يسقط عن المشتري الاستبراء الذي يجب عليه ، وقد روي أنه إن كان البائع موثوقا به جاز للذي يشتريها أن يطأها من غير استبراء (2) ، أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (3) ورجع عنها في مسائل خلافه (4) ، وهو الصحيح ، لأنّ فعل البائع لا يسقط عن المشتري ما يجب عليه من الاستبراء.

وكذلك إن كانت المملوكة لامرأة ، فيستحب للمشتري استبراؤها ، عند بعض أصحابنا ، والأولى عندي وجوب استبرائها.

فإن اشترى جارية فأعتقها قبل أن يستبرئها جاز له العقد عليها من دون استبراء ، وحل له وطؤها ، والأفضل أن لا يطأها إلا بعد الاستبراء.

ومتى أعتقها وكان قد وطأها جاز له العقد عليها ووطؤها ، ولم يكن عليه استبراء على حال ، فإن أراد غيره العقد عليها لم يجز له ذلك إلا بعد خروجها من عدّتها - على ما رواه بعض أصحابنا - (5) أمّا. بثلاثة أشهر ، أو ثلاثة أقراء على حسب حالها.

ص: 634


1- الوسائل : الباب 41 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
4- الخلاف : كتاب البيوع المسألة 219 ، وكتاب العدّة المسألة 43 وينافيه قوله في المسألة 40 من هذا الكتاب فراجع.
5- الوسائل : الباب 13 من أبواب النكاح العبيد والإماء.

ومتى اشترى رجل جارية وهي حائض تركها حتى تطهر ، ثمّ يحلّ له وطؤها ، وكان ذلك كافيا في استبراء رحمها على ما روى في بعض الأخبار (1) ، والأظهر الصحيح وجوب الاستبراء بقرءين.

ومتى اشترى جارية حاملا ، كره له وطؤها في القبل ، دون أن يكون ذلك محرّما محظورا ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهو الذي يقتضيه أصول المذهب ، سواء مضى أربعة أشهر أو أقل منها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى اشترى جارية حاملا لم يجز له وطؤها إلا بعد وضعها الحمل أو يمضي عليها أربعة أشهر وعشرة أيام ، فإن أراد وطئها قبل ذلك وطأها فيما دون الفرج ، وكذلك من اشترى جارية وأراد وطئها قبل الاستبراء جاز له ذلك فيما دون الفرج (2).

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته إلى مضي أربعة أشهر فحسب (3).

الا انّ شيخنا أبا جعفر رجع في مسائل خلافه عمّا ذكره في نهايته ، فقال :

مسألة : إذا اشترى أمة حاملا كره له وطؤها قبل أن يصير لها أربعة أشهر ، فإذا مضى لها ذلك لم يكره له (4) وطؤها حتى تضع ، وقال الشافعي وغيره : لا يجوز وطؤها في الفرج ، دليلنا إجماع الفرقة ، والأصل الإباحة وعدم المانع (5) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : ودليلنا نحن على صحّة ما اخترناه قوله تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (6) فأباحنا تعالى وطء ما ملكت أيماننا بمجرد الملكيّة ، والآية عامّة فمن خصّصها يحتاج إلى دليل ، وأيضا الأصل الإباحة ، ولا مانع من ذلك من كتاب ، أو سنّة مقطوع بها ، أو إجماع.

ص: 635


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب النكاح العبيد والإماء ، ح 1.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
3- المقنعة : باب السراري وملك الايمان ص 544.
4- ج : ل. لم يكن له.
5- الخلاف : كتاب العدّة المسألة 46 ، باختلاف يسير في العبارة.
6- النساء : 3.

وإذا باع جارية من غيره ، ثمّ استقال المشتري فأقاله ، فإن كان قد قبّضها إيّاه وجب عليه الاستبراء ، وإن لم يكن قبّضها لم يجب عليه ذلك ، إذا أراد وطئها.

إذا طلّقت الأمة المزوجة بعد الدخول بها ، وأخذت في العدة ، ثمّ باعها مولاها ، فالواجب عليها إتمام العدّة ، ولم يجز للمشتري وطؤها إلا بعد استبراء بعد العدة ، لأنّهما حكمان لمكلّفين لا يتداخلان ، فإسقاط أحدهما بالآخر يحتاج إلى دليل ، وهذا القول مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) ، وهو الصحيح الحقّ اليقين.

إذا باع جارية فظهر بها حمل ، فادّعى البائع أنّه منه ، ولم يكن أقرّ بوطئها عند البيع ، ولم يصدّقه المشتري ، لا خلاف أنّ إقراره لا يقبل فيما يؤدّي إلى فساد البيع ، وهل يقبل إقراره في إلحاق هذا النسب أم لا؟ عندنا أنّه يقبل إقراره ، لأنّ إقرار العاقل على نفسه مقبول ، ما لم يؤد إلى ضرر على غيره ، وليس في هذا ضرر على غيره ، فوجب قبوله وجوازه.

ولا بأس أن يجمع الرجل بملك اليمين ما شاء من العدد ، مباح له ذلك ، ولا يجمع بين الأختين في الوطء ، ويجوز أن يجمع بينهما في الملك والاستخدام ، وكذلك لا بأس أن يجمع بين الام والبنت في الملك ، ولا يجمع بينهما في الوطء ، فمتى وطأ واحدة منهما ، حرّم عليه وطي الأخرى ، تحريم أبد ، فأمّا الأختان فمتى وطأ إحداهما حرم عليه وطء الأخرى تحريم جمع ، إلى أن يخرج الموطوءة من ملكه ، فإن وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى قبل إخراجها من ملكه ، كان معاقبا مأثوما. ولا يحرم عليه وطء الاولى ، بل التحريم باق في الأخرى ، كما كان قبل وطئه لها.

وقال بعض أصحابنا : إذا وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى ، حرمت عليه الاولى إلى أن تخرج الأخيرة من ملكه ، ولا وجه لهذا القول ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، والأصل الإباحة ، وقوله

ص: 636


1- المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، ص 269 ، الظاهر انه في العبارة تقطيع وتلخيص ، فراجع.

تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1) يعضد ذلك ، ولا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ولا يجوز للإنسان أن يطأ جارية قد وطأها أبوه وطئا حلالا ، ويجوز له أن يملكها وإن وطأها أبوه ، وحكم الابن في هذا حكم الأب سواء.

وقد روي أنّ الأب إذا قبّل جاريته بشهوة ، أو نظر منها إلى ما يحرم إلى غير مالكها النظر إليه من غير وطء ، حرمت على ابنه ، وكذلك الابن حكمه في هذا سواء (2) ، وهو الذي أورده شيخنا في نهايته (3).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته : إنّ جارية الأب بعد التقبيل بالشهوة ، أو النظر منها إلى ما يحرم إلى غير مالكها النظر إليه ، قبل الوطء ، يحرم على ابنه ، وليس كذلك جارية الابن عند هذه الحال (4).

والفقيه سلار قال في رسالته : لا تحرم الجارية على كلّ واحد من الأب والابن بالنظر بالشهوة ، ولا بالتقبيل (5).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الجاريتين عند هذه الحال غير محرمتين على كلّ واحد من الأب والابن ، إذا ملكها كلّ واحد منهما ، أو وطأها وطئا شرعيا ، لقوله تعالى « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » (6) وهذه ملك يمين إذا صارت إليه ، وقال تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (7) وهذه قد طابت ، ولا دليل يعدلنا عن هاتين الآيتين ، من كتاب ولا سنّة ، مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، بل الخلاف بين أصحابنا ظاهر في ذلك ، والأصل الإباحة ، فمن ادّعى الحظر ، يحتاج إلى دليل ، ولا يرجع عن ظاهر الكتاب بأخبار الآحاد.

ص: 637


1- النساء : 3.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
3- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- المقنعة : أبواب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن من الأسباب دون الأنساب ، ص 502.
5- المراسم : كتاب النكاح ، ذكر شرائط الأنكحة.
6- النساء : 3.
7- النساء : 3.

وجميع المحرمات اللواتي قدّمنا ذكرهن بالنسب والسبب في العقد ، يحرم أيضا وطؤهنّ بملك الايمان.

ولا يجوز للرجل وطء جاريته إذا كان قد زوّجها من غيره ، إلا بعد مفارقة الزوج لها ، وانقضاء عدّتها إن كانت مدخولا بها.

ولا يجوز له أن يطأ جارية له معه فيها شريك.

وإذا زوّج الرجل جاريته من غيره ، فلا يجوز له النظر إليها متكشفة ، ولا متجردة من ثيابها ، إلا بعد مفارقة الزوج لها ، وانقضاء عدّتها على ما قدّمناه.

ومن اشترى جارية كان لها زوج زوّجها مولاها ، لم يكن عليه الامتناع من وطيها ، إلا مدة استبراء رحمها ، ما لم يرض بذلك العقد ، فإن رضي به ، لم يجز له وطؤها إلا بعد مفارقة الزوج لها بالطلاق ، أو الموت ، وانقضاء عدّتها.

ولا بأس أن يشتري الرجل امرأة لها زوج من دار الحرب ، وكذلك لا بأس أن يشتري بنت الرجل أو ابنه إذا كانوا مستحقين للسبي ، وكذلك لا بأس أن يشتريهم وإن كان قد سباهم أهل الضلال ، إن كانوا مستحقّين للسبي.

وإذا كان للرجل جارية ، وأراد أن يعتقها ، ويجعل عتقها مهرها ، جاز له ذلك ، إلا أنّه متى أراده ينبغي أن يقدّم لفظ العقد على لفظ العتق ، بأن يقول : تزوجتك وجعلت مهرك عتقك فإن قدّم العتق على التزويج ، بأن يقول : أعتقتك وتزوجتك وجعلت مهرك عتقك ، مضى العتق ، وكانت مخيّرة بين الرضا بالعقد ، والامتناع من قبوله ، فإن قبلته مضى ، وكان لها عليه إذا دخل بها مهر المثل ، وهذا جميعه حكم شرعي ، دليل صحّته انعقاد الإجماع من أصحابنا عليه ، وإلا فكيف يصح تزويج الإنسان نفسه جاريته قبل عتقها.

فإن طلّق التي جعل عتقها مهرها قبل الدخول بها ، رجع نصفها رقّا ، واستسعيت في ذلك النصف ، فإن لم تسع فيه ، كان له منها يوم ولها من نفسها يوم في الخدمة ، ويجوز أن تشترى من سهم الرقاب ، هكذا أورده شيخنا في

ص: 638

نهايته (1) ، من طريق أخبار الآحاد ، إيرادا لا اعتقادا.

والذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّه إذا طلّقها قبل الدخول بها ، يكون له عليها نصف قيمتها وقت العقد عليها ، لأنّ عندنا بلا خلاف بيننا أنّ المهر يستحق بنفس العقد جميعه ، وتملكه الزوجة ، والمهر هاهنا نفسها ، فقد ملكت نفسها جميعها ، وصارت حرّة ، فكيف يعود بعضها مملوكا ، والحرّ لا يصير مملوكا ، وإلى هذا يذهب ابن البراج في المهذب (2).

وقد روي أنّه إن كان لها ولد له مال ألزم أن يؤدّي عنها النصف الباقي (3).

ولا دليل على هذه الرواية من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا.

وقد روي أنّه إذا جعل عتقها صداقها ، ولم يكن أدّى ثمنها ، ثم مات ، فإن كان له مال يحيط بثمن رقبتها ، ادّي عنه ، وكان العتق والنكاح ماضيين ، وإن لم يترك غيرها ، كان العتق والنكاح فاسدين ، وترجع الأمة إلى مولاها الأول ، وإن كانت قد علقت منه ، كان حكم ولدها حكمها في كونه رقّا (4).

والذي يقتضيه أصول المذهب ، ترك العمل بهذه الرواية ، والعدول عنها ، لأنّها مخالفة للأدلّة القاهرة ، لا يعضدها إجماع ولا كتاب ولا سنّة ، بل الكتاب مخالف لها ، والسنّة تضادها ، والإجماع ينافيها ، لأنّ الحر لا يعود رقّا ، والعتق صحيح بالإجماع ، وكذلك النكاح ، والولد انعقد حرا بالإجماع ، فكيف يعود رقا.

فإن قيل : البائع يعود في عين سلعته إذا مات المشتري ، ولم يترك وفاء للأثمان؟

قلنا : إذا مات والسلع على ملكه ، وهذه الأمة قد خرجت من ملكه بالعتق ،

ص: 639


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
2- المهذب : كتاب النكاح باب السراري وملك الايمان ، ج 2 ص 247 و 248.
3- الوسائل : الباب 15 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 2.
4- الوسائل : الباب 25 من أبواب العتق.

كما لو باعها من آخر ، ثمّ مات ، فبالإجماع لا يرجع فيها البائع ، ثمّ الولد كيف يرجع فيه ، وهو نماء منفصل ، وانّما البائع يرجع في عين السلعة ، دون نمائها المنفصل بلا خلاف ، فلا يعدل عن الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وانّما أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، دون العمل والاعتقاد.

وإذا كان للرجل ولد كبير ، وله جارية ، لم يجز له وطؤها ، إلا بإذن ولده في نكاحها ، أو العقد عليها ، فإن عقد له عليها ، أو أذن له في وطئها ، وأتت بولد من أبيه ، فإنّها لا تنعتق على مولاها ، فإن كان الولد ذكرا ، فهو ملك لأخيه ، لأنّ الإنسان إذا ملك أخاه ، لا ينعتق عليه ، وإن كان الولد أنثى ، فإنّها تنعتق على أخيها الذي هو مولى أمها ، لأنّ الإنسان إذا ملك من يحرم عليه وطؤها من الأنساب ، فإنّه ينعتق عليه بلا خلاف ، هذا إذا شرط مولى الجارية في حال العقد على والده كون الولد رقّا ، فأمّا إذا لم يشترط على أبيه كون الولد رقّا ، فالولد حر بلا خلاف بيننا.

وإن كان مولى الجارية الذي هو الولد صغيرا ، جاز لأبيه وطؤها بعد تقويمها على نفسه ، وشراؤها من نفسه ، ويكون ضامنا للثمن ، ولا يجوز له وطؤها قبل ذلك.

والمرأة الحرة إذا كان لها زوج مملوك ، فورثته أو اشترته ، أبطل ذلك العقد ، فإن أرادته ، لم يكن لها ذلك ، إلا بأن تعتقه ، وتتزوج به.

وإذا أذن الرجل لعبده في التزويج ، فتزوّج ، وجب على السيد المهر إذا عقد العبد على مهر المثل ، وتجب عليه النفقة ، أعني السيد بشرط التمكين للعبد من الاستمتاع بها ، فإن أبق العبد بعد ذلك لم يكن لها على مولاه نفقة ، وقد بانت من الزوج ، وكان عليها العدّة منه ، فإن رجع العبد قبل خروجها من العدّة ، كان

ص: 640


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

أملك برجعتها ، وإن عاد بعد انقضاء عدّتها ، لم يكن له عليها سبيل ، على ما روي في بعض الأخبار (1) أورده شيخنا في نهايته (2) ولم يورده غيره ، وقد اعتذرنا له بما اعتذر لنفسه ، فيما يورده في كتاب النهاية.

والذي يقتضيه الأدلة ، أنّ النفقة ثابتة على السيد ، وانّها لا تبين من الزوج ، والزوجية بينهما باقية ، لأنّها الأصل ، والبينونة تحتاج إلى دليل قاطع ، من طلاق الزوج ، أو موته ، أو بيع سيده له ، وفسخ المشتري ، أو لعان ، أو ارتداد ، وليس الإباق واحدا من ذلك.

وإذا كان العبد بين شريكين ، وأذن له أحدهما في التزويج ، فتزوّج ثم علم الآخر ، كان مخيّرا بين إمضاء العقد وبين فسخه.

ولا بأس أن يطأ الرجل جاريته وفي البيت معه غيره ، وكذلك لا بأس أن ينام بين جاريتين ، ويكره جميع ذلك في الحرائر من النساء.

وقد روي أنّه إذا اشترى الرجل جارية ، ومضى عليها ستة أشهر لم تحض فيها ، ولم تكن حاملا ، كان له ردّها ، لأنّه عيب يوجب الردّ (3).

وإذا زوّج الرجل أمته من غيره ، وسمّى لها مهرا معينا ، ثمّ باع المولى الجارية قبل الدخول بها ، لم يكن له المطالبة بشي ء من المهر ، لأنّ كلّ فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول بهن ، فإنّه يبطل مهورهن ، وهذا فسخ جاء من قبل مولى الجارية.

وكذلك ليس لمن يشتريها أيضا المطالبة بالمهر ، إلا أن يرضى بالعقد ، فإن رضي المشتري بالعقد ، كان رضاه كالعقد المستأنف ، وله حينئذ المطالبة بالمهر كملا.

فإن طلّقها الزوج قبل الدخول ، استحق المشتري نصفه ، وإن طلّقها بعد الدخول ، استحقه كلّه ، فإن كان الزوج قد دخل بها قبل أن يبيعها مولاها

ص: 641


1- الوسائل : الباب 73 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العيوب.

الأول ، فإنّ المهر للمولى الأول ، يستحقه جميعه ، لأنّ بالدخول يستقر جميع المهر ، وله المطالبة به ، فإن رضي المولى الثاني الذي هو المشتري بالعقد الأوّل ، لم يكن له مهر على الزوج ، لأنّ عقدا واحدا لا يستحق عليه مهران ، وإن لم يرض بالعقد الأوّل انفسخ النكاح ، وكان للمولى الأول المطالبة بكمال المهر ، إن لم يكن استوفاه ، ولا قبضه ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا زوّج الرجل أمته من غيره وسمّى لها مهرا معيّنا ، وقدّم الرجل من جملة المهر شيئا معيّنا ، ثمّ باع الرجل الجارية ، لم يكن له المطالبة بباقي المهر ، ولا لمن يشتريها ، إلا أن يرضى بالعقد (1).

وأطلق الكلام ، ولم يفصّله.

وقال في مبسوطة : وإذا زوّج الرجل أمته ، كان له بيعها ، فإذا باعها ، كان بيعها طلاقها عندنا ، وخالف الجميع في ذلك ، وقالوا : العقد باق بحاله.

ثمّ قال : فأمّا المهر ، فإن كان الزوج قد دخل بها ، فقد استقر المهر ، فإن كان السيد الأوّل قبضه ، فذلك له ، وإلا كان الثاني مطالبة الزوج به ، وإن لم يكن دخل بها ، لم يجب على الزوج تسليم المهر ، وإن كان الزوج قد أقبضه ، استردّه ، وإن لم يكن أقبضه ، لم يكن عليه إقباضه.

ثم قال : والمهر فلا يخلو من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يكون صحيحا أو فاسدا أو مفوّضة ، فإن كان صحيحا وهو المسمّى بالعقد ، كان للسيد الأول ، لأنّه وجب في ملكه ، وإن كان فاسدا لزمه مهر المثل بالعقد ، وكان للسيد الأول ، لأنّه وجب بالعقد ، وكانت حين العقد في ملكه ، وأمّا المفوضة وهو أن يكون نكاح بلا مهر ، أو يقول زوجتكها على أن لا مهر لها ، فالمهر لا يجب بالعقد ، لكن السيد يفرض مهرا ، فإذا فرض لها المهر ، فإن كان قبل البيع فهو للأول ،

ص: 642


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

لأنّه وجب والملك له ، فإن كان الفرض بعد البيع ، قيل : فيه وجهان ، أحدهما انه للثاني ، والثاني انه للأوّل.

وهكذا إذا زوج أمته مفوضة ، ثمّ أعتقها ، ثمّ فرض المهر ، فيه وجهان ، أحدهما لها والثاني كان لسيدها على ما قلناه ، وعلى ما قدّمناه ، من أنّ بيعها طلاقها ، فالمهر إن كان قد قبضه الأول فهو له ، فإن كان بعد الدخول فقد استقر ، وإن كان قبل الدخول فعليه أن يردّ نصفه ، وإن كان لم يقبضه ، فلا مهر لها ، لا للأول ولا للثاني ، فإن اختار المشتري إمضاء العقد ، ولم يكن قد قبض الأول المهر ، كان للثاني ، لأنّه يحدث في ملكه ، فإن دخل بها بعد الشراء ، استقر له الكلّ ، وإن طلّقها قبل الدخول ، كان عليه نصف المهر للثاني ، وإن كان الأول قد قبض المهر ، ورضي الثاني بالعقد ، لم يكن له شي ء ، لأنّه لا يكون مهران في عقد واحد (1).

هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، فأوردته هاهنا ، ليوقف عليه ، ويتأمّل ، والذي حررناه واخترناه ، هو الذي تقتضيه أصول مذهبنا.

وإذا زوّج الرجل مملوكا له بامرأة حرة ، كان المهر لازما في ذمّة المولى ، فإن باع العبد قبل الدخول بها ، وجب على المولى كمال المهر ، وروي نصف المهر (2) أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي يقتضيه أصول المذهب ، وجوب المهر كملا على المولى ، لأنّ عندنا يجب المهر كملا بمجرد العقد ، ويسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول ، وما عدا الطلاق فلا يسقط منه شيئا ، وهذا ما طلّق ، وحمل ذلك على الطلاق قياس ،

ص: 643


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل فيمن يجوز العقد عليهن من النساء ، ومن لا يجوز ، وفي العبارة تقطيع.
2- الوسائل : الباب 60 من أبواب المهور.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

وأيضا حقوق الآدميين إذا وجبت ، لا تسقط إلا بدليل ، وأجمعنا على سقوط نصفه بالطلاق ، فأمّا غيره فلا إجماع عليه.

وإذا زوّج الرجل جاريته من رجل حر ، ثمّ أعتقها ، فإن مات زوجها ورثته ، ولزمتها عدّة الحرة المتوفّى عنها زوجها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن علّق عتقها بموت زوجها ، ثمّ مات الزوج ، لم يكن لها ميراث ، وكان عليها عدّة الحرة المتوفّى عنها زوجها (1).

قال محمّد بن إدريس : هذه رواية شاذة ، أوردها إيرادا ، لا اعتقادا.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ العتق باطل ، لأنّ العتق بشرط ، بإجماعنا غير صحيح ، وليس هذا تدبيرا ، لأنّ حقيقة التدبير تعليق عتق المملوك بموت سيده ، دون موت غيره ، لأنّه بغير خلاف عندنا بمنزلة الوصيّة ، وإلا ما كان يصح ذلك أيضا لو لا الإجماع المنعقد عليه ، فإذا لم ينعتق ، كان يلزمه على مذهبه أن تكون عدّتها شهرين وخمسة أيام ، على ما ذهب إليه في نهايته ، والأظهر أنّ عدّة الأمة المتوفّى عنها زوجها ، عدّة الحرة سواء ، على ما سنبيّنه فيما بعد ان شاء اللّه.

وقال أيضا في نهايته : فإن أعتق الرجل أم ولده ، فارتدت بعد ذلك ، وتزوّجت رجلا ذميّا ، ورزقت منه أولادا ، كان أولادها من الذمّي رقّا للذي أعتقها ، فإن لم يكن حيّا ، كانوا رقّا لأولاده ، ويعرض عليها الإسلام ، فإن رجعت ، وإلا وجب عليها ما يجب على المرتدة عن الإسلام (2).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضي مذهبنا ، أنّ أولادها لا يكونون رقّا ، لأنّه لا دليل على ذلك من كتاب ، أو سنّة ، أو إجماع ، بل الإجماع بخلافه ، لأنّ ولد الحرّين حرّ بلا خلاف ، وانّما هذه رواية شاذة ، أوردها شيخنا إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل عليه ، ولا يلتفت إليه.

ص: 644


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

وإذا كان لرجل جارية ورزق منها ولدا ، لم يجز له بيعها ما دام الولد باقيا ، فإن مات الولد جاز له بيعها ، ويجوز بيعها مع وجود الولد في ثمن رقبتها ، إذا لم يكن مع المولى غيرها ، وكان ثمنها بعينه دينا عليه ، فحينئذ يجوز بيعها عند أصحابنا ، ودليل ذلك إجماعهم عليه ، وأيضا الأصل الملكية ، فمن أخرجها من الملك ، يحتاج إلى دليل ، وأيضا لا خلاف أنّ ديتها ، لو قتلت دية المماليك ، وهي قيمتها ما لم تتجاوز دية الحرائر ، وأيضا لا خلاف في جواز وطئها للسيد ، والوطء لا يحل إلا بعقد أو بملك يمين ، فإن كان ولدها أعتقها ، فلا يحلّ لمولاها وطؤها إلا بعقد ، والإجماع حاصل منعقد على أنّه يحلّ له وطؤها من غير عقد ، وأيضا يصح كتابتها بإجماع المسلمين ، وجميع أحكامها أحكام المماليك.

وذهب السيد المرتضى من أصحابنا ، في كتابه الانتصار ، فقال : مسألة ، ومما انفردت به الإماميّة ، القول بجواز بيع أمهات الأولاد بعد وفاة أولادهن ، ولا يجوز بيع أم الولد وولدها حي ، وهذا هو موضع الانفراد (1) ، هذا آخر كلام المرتضى رضى اللّه عنه.

فإن مات الرجل ولم يخلّف غيرها ، وكان ثمن رقبتها دينا على مولاها ، بيعت وقضي بثمنها دينه ، فإن كان له مال غيرها قضى الدين به ، وجعلت في نصيب ولدها ، وتنعتق.

ولا يجوز للرجل أن يتزوّج بمكاتبة غيره قبل أن يقضي مكاتبتها ، سواء كانت المكاتبة مطلقة أو مشروطة ، لأنّها لم تخلص للحرية ، وحق السيد متعلّق بها ، والفرج لا يتبعض ، فالمشروطة جميعها رق ، والمطلّقة لم يتحرر جميعها بل يتحرر منها بمقدار ما أدّت فحسب.

باب أحكام الولادة والعقيقة والسنّة فيهما وحكم الرضاع

إذا حضر المرأة الولادة ، فليتول أمرها النساء ، ولا يقربها أحد من الرجال

ص: 645


1- الانتصار : كتاب التدبير ، المسألة 9.

إلا عند عدم النساء ، فذوات المحارم (1) منها من الرجال.

وإذا ولد المولود يستحب أن يغسل بالماء ، ويؤذّن في اذنه الأيمن ، ويقام في اذنه الأيسر ، ويحنّك بالماء الفرات المتشعب من أنهار شتى إن وجد ، فإن لم يوجد فبماء عذب ، فإن لم يوجد الإماء ملح مرس فيه شي ء من العسل ، أو التمر ، ثم يحنّك به ، ويستحب أن يحنّك بتربة الحسين عليه السلام.

ومن حقّ الولد على والده ، ان يحسن اسمه ، ويستحبّ من الأسماء أسماء الأنبياء والأئمة عليهم السلام وأفضلها اسم نبينا والأئمة من ذريته عليهم السلام ، وبعد ذلك العبودية لله تعالى ، دون خلقه.

ولا بأس أن يكنّى الرجل ابنه في حال صغره ، ولا يكنّه أبا القاسم إذا كان اسمه محمّدا ، لأنّ هذه الكنية مخصوصة بالنبي والقائم ابن الحسن عليهما السلام وروي أنّه يكره أن يسمّى الرجل ابنه حكما ، أو حكيما ، أو خالدا ، أو مالكا ، أو حارثا (2).

وإذا كان يوم السابع يستحب للإنسان أن يعق عن ولده بكبش ، إن كان ذكرا ، أو نعجة إن كان أنثى.

والعقيقة سنّة مؤكدة ، لا يتركها مع الاختيار ، فهي شديدة الاستحباب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّها على الإيجاب ، وهو اختيار السيد المرتضى والمذهب الأول ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا إجماع على ذلك.

فإن لم يعق الوالد عن ولده ، ثمّ أدرك ، استحبّ له أن يعق عن نفسه ، ولا يقوم في الاستحباب مقام العقيقة ، الصدقة بثمنها.

وإذا لم يتمكن من العقيقة يوم السابع ، استحبّ له قضاؤها إذا تمكّن منها.

ويستحبّ أيضا أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ، ويتصدّق بوزن شعره

ص: 646


1- ل : فإذا عدم النساء فذووا المحارم.
2- الوسائل : الباب 28 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1 - 2.

ذهبا أو فضّة ، ويكون ذلك مع العقيقة في موضع واحد.

وكلّ ما يجزي في الأضحية فهو جائز في العقيقة ، إلا أنّ الأفضل ما قدّمناه ، ان يعق عن الذكر بالذكر ، وعن الأنثى بالأنثى ، فإن لم يوجد ووجد حمل كبير جاز ذلك أيضا.

وإذا ذبح العقيقة فيستحبّ أن يعطى القابلة ربعها الذي يلي الورك بالفخذ ، فإن لم يكن له قابلة ، أعطى أمه ذلك تتصدّق به ، ولا تأكل منه ، وإن كانت القابلة ذميّة أعطيت ثمن الربع ، وإن كانت القابلة أم الوالد أو من هو في عياله ، لم تعط من العقيقة شيئا.

ويستحب أن يطبخ اللحم ، ويدعى عليه جماعة من المؤمنين أقلّهم عشرة أنفس ، ويكره أن يكونوا كلّهم أغنياء ، وكلّما كثر عددهم كان أفضل ، فإن لم يطبخ اللحم وفرّق على الفقراء كان أيضا جائزا ، إلّا أنّ الأول أفضل ، لأنّه السنة المؤكدة.

ويكره للوالدين أن يأكلا من العقيقة كراهية شديدة ، دون أن يكون ذلك محظورا ، وقال ابن بابويه من أصحابنا : إن أكلت الأم منها فلا ترضعه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا يجوز للوالدين أن يأكلا من العقيقة البتة (1).

وذلك منه « رضي اللّه عنه » على طريق تأكيد الكراهة ، لأنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة قيل : لا يجوز.

ولا ينبغي أن يكسر العظم فيها ، بل يفصل الأعضاء تفؤلا بالسلامة.

ويستحب أن يختن الصبي يوم السابع ، ولا يؤخّره ، فإن أخّر لم يكن فيه حرج إلى وقت بلوغه ، فإذا بلغ وجب عندنا ختانه ، ولا يجوز تركه على حال.

وأمّا خفض الجواري فإن فعل كان فيه فضل ، وإن لم يفعل لم يكن بذلك بأس.

ومتى أسلم الرجل وهو غير مختتن ، ختن وإن كان شيخا كبيرا.

ص: 647


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..

وإذا مات الصبي يوم السابع ، فإن مات قبل الظهر لم يعق عنه ، وإن مات بعد الظهر استحبّ أن يعق عنه.

وقد روي كراهة أن يترك للصبيان القنازع (1) ، وهو أن يحلق موضع من رأسه ، ويترك موضع.

ولا بأس أن يحلق الرأس كلّه للرجال ، بل ذلك مستحب ، وكذلك إزالة الشعر من جميع البدن على ما روي في الاخبار (2) ، وروي أنّ ذلك مكروه للشباب (3) ، أورد ذلك الصفواني في كتابه ، فقال : وقد روي أنّ حلق الرأس مثلة بالشباب ، ووقار بالشيخ.

وإذا ولد الصبي فمن السنّة أن يرضع حولين كاملين ، لا أقلّ منهما ولا أكثر ، فإن نقص عن الحولين مدة ثلاثة أشهر لم يكن به بأس ، فإن نقص عن ذلك لم يجز ، وكان جورا على الصبي ، وفقه ذلك ، أنّ أقلّ الحمل عندنا ستّة أشهر ، وأكثره على الصحيح من المذهب تسعة أشهر ، قال اللّه تعالى ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (4) ولا بأس أن يزاد على الحولين في الرضاع ، في الرضاع ، إلا أنّه لا يكون أكثر من شهرين ، على ما روي (5).

ولا يستحق المرضعة الأجر على ما يزيد على الحولين في الرضاع.

وأفضل الألبان التي ترضع بها الصبي لبان الام ، اللبان بالكسر كالرضاع ، يقال : هو أخوه بلبان أمه ، قال ابن السكيت : ولا يقال بلبن أمه ، انّما اللبن الذي يشرب من ناقة أو شاة أو بقرة ، واللبان بالفتح ما جرى عليه اللبب من صدر الفرس ، واللبان بالضم الكندر.

ص: 648


1- الوسائل : الباب 66 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1 و 3.
2- الوسائل : الباب 60 من أبواب آداب الحمام ، ح 4 و 8.
3- الوسائل : الباب 60 من أبواب آداب الحمام ، ح 10.
4- الأحقاف : 15.
5- لم نتحققه في الكتب الروائيّة وفي المسالك في الحضانة وذكروا أنّه مروي.

فإن كانت امه حرة واختارت رضاعه ، كان لها ذلك ، وإن لم تختر فلا تجبر على رضاع ولدها ، فإن طلبت الأجر على رضاعه وكانت في حبال أبيه غير مطلّقة منه طلاقا لا رجعة فيه ، فلا تستحق أجرا ، ولا ينعقد بينها وبين زوجها عقد إجارة ، لأنّ منافعها في كلّ وقت مستحقة للزوج بعقد النكاح ، فيما يرجع إلى أحكام الوطء وتوابعه ، على ما قدّمناه في باب الإجارة (1) وحرّرناه ، وإن كانت مطلّقة طلاقا لا يملك الزوج الرجعة فيه ، فلها أن تعقد على نفسها لرضاع ولدها ، وسيجي ء بيان ذلك.

وقد روي (2) أنّه إن كانت امه جارية ، جاز أن تجبر على رضاعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن طلبت الحرة أجر الرضاع ، كان لها ذلك على أب الولد ، فإن كان أبوه مات ، كان أجرها من مال الصبي (3).

وأطلق ذلك إطلاقا.

وقال في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث في كتاب الرضاع : مسألة ، ليس للرجل أن يجبر زوجته على الرضاع لولدها ، شريفة كانت أو مشروفة ، موسرة أو معسرة ، دنية أو نبيلة ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : له إجبارها إذا كانت معسرة دنية ، وليس له ذلك إذا كانت شريفة موسرة ، وقال أبو ثور : له إجبارها عليه على كلّ حال ، لقوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (4) وهذا خبر معناه الأمر ، فإذا ثبت وجوبه عليها ، ثبت انه يملك إجبارها ، لانه إجبار على واجب ، دليلنا أن الأصل براءة الذمة ، والإجبار يحتاج الى دليل ، والآية محمولة على الاستحباب ، وعليه إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، تشهد بذلك.

ص: 649


1- راجع ص 471 من الكتاب.
2- الوسائل : الباب 68 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..
4- البقرة : 233.

ثمّ قال بعد هذه المسألة : مسألة ، البائن إذا كان لها ولد يرضع ، ووجد الزوج من يرضعه تطوّعا ، وقالت الأم : أريد أجرة المثل ، كان له نقل الولد عنها ، وبه قال أبو حنيفة وقوم من أصحاب الشافعي ، ومن أصحابه من قال : المسألة على قولين أحدهما مثل ما قلناه ، والثاني ليس له نقله عنها ، ويلزمه اجرة المثل ، وهو اختيار أبي حامد ، دليلنا قوله تعالى ( وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) (1) وهذه إذا طلبت الأجرة وغيرها يتطوع ، فقد تعاسرا ، واستدلّ أبو حامد بقوله تعالى ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (2) فأوجب لها الأجرة إذا أرضعته ، ولم يفصّل ، وهذا ليس بصحيح ، لأنّ الآية تفيد لزوم الأجرة إن أرضعته ، وذلك لا خلاف فيه ، وانّما الكلام في أنّه يجب دفع المولود إليها ليرضع أم لا؟ وليس كذلك في الآية (3) هذا آخر كلامه رضي اللّه عنه.

ففصّل القول في مسائل خلافه ، وذكر البائن وغير البائن.

قال محمّد بن إدريس : ما تمسّك به أبو حامد قوي وبه أفتي ، وعليه أعمل لقوله تعالى ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) فأوجب لها الأجرة إذا أرضعته ، ولم يفصّل بين من هي في حباله أو بائن عنه ، وهو الظاهر من أقوال أصحابنا ، أعني استحقاقها الأجرة ، وصحّة العقد عليها للرضاع ، سواء كانت بائنا عنه ، أو في حبال زوجها ، إلا أنّه لا يجبرها على الرضاع ، وهذا اختيار السيد المرتضى ، وما ذكرناه أولا مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4) ، والذي اخترناه مذهبه في نهايته (5) ، وهو المنصوص عن الأئمة الأطهار (6).

ص: 650


1- الطلاق : 6.
2- الطلاق : 6.
3- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 34.
4- المبسوط : ج 6 ، كتاب النفقات ، ص 37 - 38.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..
6- الوسائل : الباب 71 و 81 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1 و 2 و 3 و 5.

ومتى وجد الرجل من يرضع ولده بأجرة مخصوصة ، ورضيت الام بذلك ، كانت هي أولى به من غيرها ، فإن طلبت أكثر من ذلك انتزعه منها.

وإذا بانت المرأة من الرجل ، ولها ولد منه ، فإن كان ذكرا ، فالأم أولى بحضانته من الأب ، وأحقّ به مدة حولين ، فإذا زاد على الحولين ، فالوالد أحقّ به منها ، فإن كان الولد أنثى فالأم أحق بها إلى سبع سنين ، ما لم تتزوج الأم ، فإن تزوّجت سقط حقّها من حضانة الذكر والأنثى ، فإن طلّقها من تزوج بها طلاقا رجعيا ، لم يعد حقّها من الحضانة ، وإن كان بائنا فالأولى أنّه لا يعود ، لأنّ عوده يحتاج إلى دليل.

وقال بعض أصحابنا : يعود حقّها من الحضانة ، واحتجّ بأنّ الرسول عليه السلام علّق حقّها بالتزويج (1) ، فإذا زال التزويج فالحقّ باق على ما كان.

وهذا ليس بمعتمد ، لأنّ الرسول عليه السلام لما سألته المرأة عن الولد ، وانّ أباه طلّقني ، وأراد أن ينتزعه مني ، فقال لها ، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

أنت أحقّ به ما لم تنكحي (2).

وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أنّه قال : الأم أحقّ بحضانة ابنها ما لم تتزوج (3) ، فجعل عليه السلام غاية الاستحقاق للحضانة التي يستحقها الام تزويجها ، وهذه قد تزوّجت ، فخرج الحقّ منها ، ويحتاج في عوده إليها إلى شرع.

ولا خلاف أيضا في أنّ المعتدة عدّة رجعية لها السكنى على الزوج ، ولا يحلّ له إخراجها من المنزل ، إلا أن تأتي بفاحشة مبيّنة ، فإذا أتت بها أخرجها ، فإذا أقيم عليها الحدّ ، لا يعود حقّها من السكنى بلا خلاف.

وكذلك إذا آذت أهل الزوج ، فله إخراجها ، فإذا تركت أذاهم لا يعود حقّها إليها من السكنى بلا خلاف.

ص: 651


1- مستدرك الوسائل : الباب 58 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 5.
2- مستدرك الوسائل : الباب 58 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 6 و 5.
3- مستدرك الوسائل : الباب 58 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 6 و 5.

والحضانة غير الرضاع ، لأنّ الأم إذا لم ترض في اجرة الرضاع بما يرضاه الغير ، انتزعه الأب منها مع ثبوت الحضانة لها في هذه الحال ، فإذا أرضعته الأجنبية التي رضيت بدون ما رضيت به امه ، كان للأم حضانته ، ثمّ إذا احتاج إلى اللبن ترضعه المرضعة ، ثمّ تأخذه الأم بحقّ الحضانة ، إذا روى من اللبن ، ثمّ هكذا ، فليلحظ ذلك.

وإن كان الوالد قد مات كانت الأم أحق بحضانته من الوصي ، إلى أن يبلغ ، ذكرا كان أو أنثى ، تزوّجت أو لم تتزوج ، لقوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ ) (1) ولا خلاف أنّ الأم أقرب إليه بعد الأب من كلّ أحد.

فإن كان الأب مملوكا والام حرّة كانت هي أحقّ بولدها من الأب ، وإن تزوجت ، إلى أن يعتق الأب ، فإذا أعتق كان أحقّ به منها ، على الاعتبار الذي قدّمناه.

وينبغي إذا أراد الإنسان أن يسترضع لولده ، فلا يسترضع إلا امرأة عاقلة مسلمة عفيفة وضيئة الوجه ، فإنّه روي أنّ اللبن يعدي (2) ، ولا يسترضع كافرة مع الاختيار ، فإن اضطر إليها فليسترضع يهودية أو نصرانية ، ويمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، وتكون معه في منزله ، ولا يسلّم الولد إليها لتحمله إلى منزلها.

ولا يسترضع من ولد من الزنا مع الاختيار أيضا.

ولا بأس باسترضاع الإماء ، وقد روي أنّه إذا كانت له أمة ، قد ولدت ، وكانت ولدت من الزنا ، واحتاج إلى لبنها ، فليجعلها في حلّ من فعلها ، ليطيب بذلك لبنها (3).

وإذا سلّم الرجل ولده إلى ظئر ، ثمّ جاءت به بعد أن فطمته ، فأنكره الرجل ، وقال : هذا ليس بولدي ، لم يكن له ذلك ، لأنّ الظئر مأمونة.

ومتى تسلّمت الظئر الولد ، وسلّمته إلى ظئر أخرى ، كانت ضامنة إلى أن

ص: 652


1- الأنفال : 75.
2- الوسائل : الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 2.
3- الوسائل : الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 2 و 3 و 5.

تجي ء به ، فإن لم تجئ به ، كان عليها الدية.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته : الأم أحقّ بالولد الذكر مدة الحولين ، وبالأنثى مدة تسع سنين (1).

وقال شيخنا في نهايته : سبع سنين في الأنثى (2).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا بانت المرأة من الرجل ، ولها ولد منه ، فإن كان طفلا لا يميّز ، فهي أحقّ به بلا خلاف ، وإن كان طفلا يميّز ، وهو إذا بلغ سبع سنين ، أو ثمان سنين فما فوقها إلى حد البلوغ ، فإن كان ذكرا فالأب أحقّ به ، وإن كان أنثى فالأم أحقّ بها ما لم تتزوّج ، فإن تزوّجت فالأب أحقّ بها ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم (3) هذا آخر كلامه رضي اللّه عنه.

قال محمّد بن إدريس : ما ذكره شيخنا في مسائل خلافه ، بعضه قول بعض المخالفين ، وما اخترناه هو الصحيح ، لأنّه لا خلاف أنّ الأب أحقّ بالولد في جميع الأحوال ، وهو الوالي عليه والقيّم بأموره ، فأخرجنا بالإجماع الحولين في الذكر ، وفي الأنثى السبع ، فمن ادّعى أكثر من ذلك يحتاج فيه إلى دليل قاطع ، وهو مذهب شيخنا في نهايته ، والعجب قوله في آخر المسألة : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وهذا ممّا يضحك الثكلى ، من أجمع منهم معه؟ وأيّ أخبار لهم في ذلك؟ بل أخبارنا بخلافه واردة ، وإجماعنا بضد ما قاله رحمه اللّه.

قال بعض أصحابنا : الأخت من الأب أولى بالحضانة من الأخت للأم ، ثمّ استدل بآية الميراث ، لأنّ لها النصف ، ولهذه السدس ، فكانت أولى لقوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (4).

وهذا ليس بمعتمد ، لأنّهما جميعا مسميتان ، كلّ واحدة بنفسها تتقرب إليه.

ص: 653


1- المقنعة : كتاب النكاح باب الحكم في أولاد المطلقات ص 531.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..
3- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 36.
4- الأنفال : 75.

والجدات أولى بالولد وبحضانته من الأخوات ، وأم الأب أولى من الخالة بحضانة الولد ، ولأب الأم وأم أب الأم حضانة ، إذا لم يكن أم وهناك أم أم أو جدة أم أم ، وهناك أب ، فالأب أولى ، وقال الشافعي : أم الأم وجدّاتها أولى من الأب وإن علون ، دليلنا قوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) فالأب أقرب بلا شك ، لأنّه يدلي بنفسه ، وكذلك إذا كان مع الأب أخت من أم ، أو خالة ، أسقطهما ، والعمة والخالة إذا اجتمعتا تساويتا بلا خلاف ، وإن كانت العمة أكثر من الخالة في الميراث ، وهذا دليل على بطلان القول بأنّ الأخت للأب أولى بالحضانة من الأخت للأم ، بالاعتبار الذي اعتبره.

وإذا اجتمع أم أب وجد تساويا في الحضانة.

وأخت لأب وجدّ منهما متساويان أيضا.

ولا حضانة لأحد من العصبة مع الام ، لقوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) والام أقرب من العصبة ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، وهو من تخريجات المخالفين ، ومعظمه قول الشافعي ، وبناؤهم على القول بالعصبة ، وذلك عندنا باطل.

ولا حضانة عندنا إلا للأم نفسها ، وللأب ، فأمّا غيرهما فليس لأحد ولاية عليه ، سوى الجد من قبل الأب خاصة.

وإذا مرض المملوك مرضا يرجى زواله ، فعلى مالكه نفقته بلا خلاف ، فأمّا إذا زمن زمانة مقعدة ، أو عمى ، أو جذم فعند أصحابنا أنّه يصير حرّا ، وينعتق على مولاه من غير اختياره ، فحينئذ لا يلزم المولى نفقته ، لأنّه ليس بعبده.

وقد بينا فيما مضى أنّ بمجرد عقد النكاح يجب المهر المسمّى ، فأمّا النفقة فإنّما تجب يوما بيوم في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، فإذا ثبت ما قلناه ، فإن استوفت نفقة هذا اليوم فلا كلام ، وإن لم تستوف استقرت في ذمته ، وعلى هذا أبدا ، هذا إذا كانت ممكنة من الاستمتاع.

ص: 654

وإذا أسلف زوجته نفقة شهر ، ثم مات ، أو طلّقها بائنا ، فلها نفقة يومها ، وعليها ردّ ما زاد على اليوم.

نفقة الزوجات عندنا غير مقدرة بلا خلاف ، إلا من شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (1) ، فإنّه ذهب إلى أنّها مقدّرة ، ومبلغها مدّ ، وقدره رطلان وربع ، ثمّ استدل رحمه اللّه بإجماع الفرقة وأخبارهم ، وهذا عجيب منه رضي اللّه عنه ، والسبر بيننا وبينه ، فانّ أخبارنا لم يرد منها خبر بتقدير نفقة ، وأمّا أصحابنا المصنّفون فما يوجد لأحد منهم في تصنيف له تقدير النفقة ، إلا من قلده وتابعه أخيرا ، والدليل على أصل المسألة قوله تعالى ( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) أي بما يتعارف الناس ، وأيضا الأصل براءة الذمة من التقدير ، فمن ادّعى شيئا بعينه فإنّه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة.

وإذا كان الزوج كبيرا والمرأة صغيرة لا تجامع مثلها ، لا نفقة لها ، وكذلك إذا كانت الزوجة كبيرة والزوج صغيرا لا نفقة لها ، وإن بذلت التمكين من الاستمتاع ، هكذا أورده شيخنا في مسائل خلافه (3).

والأولى عندي أنّ على الكبير النفقة لزوجته الصغيرة ، لعموم وجوب النفقة على الزوجة ، ودخوله مع العلم بحالها ، وهذه ليست ناشزة ، والإجماع منعقد على وجوب نفقة الزوجات ، فليتأمّل ذلك.

وإذا كانا صغيرين لا نفقة لها.

وإذا أحرمت بغير اذن الزوج ، فإن كان في حجّة الإسلام لم يسقط نفقتها عنه ، وإن كانت الحجة تطوعا سقطت.

وكذلك إذا نشزت المرأة سقطت نفقتها.

وإذا اختلف الزوجان بعد ان سلّمت نفسها إليه في قبض المهر أو النفقة ،

ص: 655


1- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 3.
2- النساء : 19.
3- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 4.

فالقول قولها مع يمينها ، لأنّها المنكرة والزوج المدّعي ، فيحتاج إلى بيّنة ، لقوله عليه السلام : « على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين » (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في الجزء الثالث من كتاب النفقات : مسألة ، إذا اختلف الزوجان بعد ان سلّمت نفسها إليه في قبض المهر أو النفقة ، فالذي رواه أصحابنا أنّ القول قول الزوج ، وعليها البيّنة ، إلا أنّه رجع عن هذا في الجزء الثاني في كتاب الصداق ، وقال : إذا اختلفا في قبض المهر ، فانّ على الزوج البينة ، وعلى المرأة اليمين (2).

وهذا هو الصحيح الحقّ اليقين.

إذا ارتدت الزوجة سقطت النفقة ، ووقف النكاح على انقضاء العدة ، فإن عادت في زمان العدّة ، وجبت نفقتها في المستأنف ، ولا يجب لها شي ء لما فات في الزمان الذي كانت مرتدة فيه.

وإذا أعسر الزوج ، ولم يقدر على النفقة على زوجته لم تملك الفسخ عليه ، وعليها الصبر إلى أن أيسر.

المطلّقة البائن لا نفقة لها في عدّتها ، فإن كانت حاملا فلها النفقة بلا خلاف ، لقوله تعالى ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (3) والأمر يقتضي الفور.

ويجب على الوالد نفقة الولد إن كان موسرا ، وإن لم يكن أو كان وهو معسر ، فعلى جدّه ، فإن لم يكن أو كان وهو معسر ، فعلى أب الجد ، وعلى هذا أبدا.

وإذا لم يكن أب ولا جدّ ، أو كانا وهما معسران ، فنفقته على امّه.

وإذا اجتمع جدّ أبو أب وإن علا وأم ، كانت نفقته على الجدّ دون الأم ، لأنّ الجد يتناوله اسم الأب ، والأب أولى بالنفقة على ولده من الام بالاتفاق.

ص: 656


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 12.
3- الطلاق : 6.

وإذا اجتمع أم الأم وأم الأب ، أو أبو أم وأم أب ، فيهما سواء ، لأنّهما تساويا في الدرجة.

تجب النفقة على الأب والجدّ معا.

وكذلك يجب على الإنسان أن ينفق على امّه ، وأمهاتها ، وإن علون.

إذا كان أبواه معسرين ، وليس يفضل عن كفايته إلا نفقة أحدهما ، كان بينهما بالسوية ، وكذلك إذا كان له أب وابن ، ومعه ما يفضل لنفقة أحدهما ، قسّم بينهما بالسوية ، لأنّهما متساويان في النسب الموجب للنفقة ، وتقديم أحدهما على صاحبه يحتاج إلى دليل.

إذا كان له أب وأبو أب معسران ، أو ابن وابن ابن معسران ، ومعه ما يكفي لنفقة أحدهما ، أنفق على الأب دون الجدّ ، وعلى الابن دون ابن الابن ، لقوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ».

إذا كان الرجل معسرا ، وله أب وابن موسران ، كانت نفقته عليهما بالسوية.

باب إلحاق الأولاد بالآباء وأحكامهم وما في ذلك

إذا ولدت امرأة الرجل ولدا على فراشه ، ومعنى ذلك أن تلد منذ دخل بها بعد مضي ستة أشهر فصاعدا ، لزمه الإقرار به ، فإن اختلفا في الولادة ، فالقول قوله ، لأنّها يمكن أن تقيم عليه البيّنة على الولادة (1) ، فإن اتفقا على الولادة واختلفا في النسب ، فالقول قولها ، ويلحق به الولد ، ولا يجوز له نفيه ، فإن نفاه فيحتاج إلى اللعان ، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر حيّا سليما ، فيجب عليه نفيه ، لأنّه ليس بولد له ، وكذلك إن جاءت بولد لأكثر من تسعة أشهر ، كان له نفيه ، إلا أنّه متى نفاه ورافعته المرأة إلى الحاكم بعد دخوله بها ، كان عليه

ص: 657


1- ج : لأنّها يمكن أن تقيم عليها البيّنة.

ملاعنتها إذا جاءت به لأكثر من مدّة الحمل ، فأمّا إن جاءت به لأقلّ من ستة أشهر منذ يوم العقد والدخول ، فلا يجب عليه ملاعنتها ، لأنّ هذا الولد مقطوع محكوم من جهة الشارع أنّه ليس بابن له.

ومتى أقر الرجل بولد وقبله ، ثمّ نفاه بعد ذلك ، لم يقبل نفيه ، والزم الولد.

ومتى طلّق امرأته أو باع جاريته ، فتزوجت المرأة ووطئت الجارية ، ثمّ أتت بولد لأقلّ من ستة أشهر فإن كان منذ وطء الثاني ، كان لا حقا بالأوّل ، وإن كان الولد لستة أشهر فصاعدا ، كان لاحقا ممن عنده المرأة والجارية.

ومتى كان للرجل جارية ، فوطأها ثم باعها من آخر ، فوطأها أيضا قبل أن يستبرئها (1) ، كلّ ذلك في طهر واحد ثم جاءت بولد كان لاحقا بالأخير الذي عنده الجارية.

وإذا كانت الجارية بين شريكين ، أو أكثر منهما ، فوطئاها جميعا في ظهر واحد ، وجاءت بولد ، أقرع بينهما الحاكم ، فمن خرج اسمه ، الحق الولد به وغرم نصف ثمنه للشريك الآخر ، وكذلك يغرم ما يخصه من الأم الجارية.

ومتى وطأ امرأته أو جاريته ، وكان يعزل عنهما ، وكان الوطء في القبل ، وجاءت المرأة بولد ، وجب عليه الإقرار به ، ولا يجوز له نفيه ، لمكان العزل ، فإن نفاه كان عليه اللعان. فأمّا جاريته إذا نفاه ، فالقول قوله من غير لعان.

وحكم ما يولد له من النكاح المؤجل حكم الجارية السرية ، في أنّه إذا عزل عنها وكان يطؤها في قبلها وجاءت بولد ، يجب عليه إلحاقه والإقرار به ، ولا يجوز له غير ذلك ، ولا يحلّ له سواه ، فإن نفاه أثم وكان معاقبا ، ولا يجب عليه اللعان كما يجب في نفي أولاد النكاح الدائم ، فهذا فرق ما بين النكاحين ، فليلحظ ذلك.

وإذا كان للرجل امرأة لم يدخل بها ، أو يكون قد دخل بها غير أنّه يكون قد غاب عنها غيبة تزيد على زمان الحمل ، وجاءت امرأته أو جاريته بولد ، لم يكن

ص: 658


1- ج : ومتى كان للرجل جارية فوطئاها ، ثم باعها من آخر قبل أن يستبرئها ، فوطأها الذي اشتراها قبل أن يستبرئها ، ثم باعها من آخر فوطئها قبل أن يستبرئها.

ذلك ولدا له ، ووجب عليه نفيه عن نفسه.

وإذا نعي الرجل إلى امرأته ، أو خبرت بطلاق زوجها لها ، فاعتدت وتزوّجت ورزقت أولادا ، ثمّ جاء زوجها الأول المنعى ، أو الزوج المطلّق ، وأنكر الطلاق ، وعلم أنّ شهادة من شهد بالطلاق كانت شهادة غير مقبولة ، بأن يكونوا فساقا وقت التحمل أو وقت الأداء ، أو يعلم كذبهم بأن تقوم البينة بذلك عليهم بالكذب ، لا بإقرارهم على أنفسهم بالكذب ، فرّق بينهما وبين الزوج الأخير ، ثمّ تعتد منه ، وترجع إلى الأول بالعقد الأوّل ، ولا نفقة على الزوج الأخير في هذه العدّة ، لأنّها لغيره ، بل على الأول ، لأنّها زوجته ، ويكون الأولاد للزوج الأخير دون الأول.

فأمّا إن أكذب شهود الطلاق أنفسهم ، عزّروا ، ولا ينقض الحاكم حكمه ، ولا تعود الزوجة إلى زوجها الأول ، على ما شرحناه وحرّرناه في باب شهادات الزور (1) ، فلينظر من هناك ، ويحقق ، فليس بين المسألتين تضاد ولا تناف ، لأنّه إذا أكذب الشهود أنفسهم ، وأقرّوا على أنفسهم بالكذب في شهادتهم ، لا يردّ الحكم المشهود به ، بل يرجع عليهم بدرك ما شهدوا به.

فأمّا إذا بان أنّهم كذبة من غير إقرارهم ، فإنّ الحاكم يردّ الحكم المشهود به بغير خلاف ، فليلحظ الفرق بين الأمرين ، فإنّه غامض على غير المتأمّل المحصّل ، واللّه الموفّق للصواب.

ومتى كان للرجل امرأة فوطأها ، ووطأها بعده غيره فجورا بلا فصل ، كان الولد أيضا لاحقا به ، ولم يجز له نفيه ، لقوله عليه السلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (2) فإن نفاه لا عن امّه.

ص: 659


1- راجع ص 146 من الكتاب.
2- الوسائل : الباب 56 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.

وإن كانت له جارية فوطأها ووطأها غيره بعده فجورا ، كان الولد أيضا لا حقا به ، لم يجز له نفيه إذا اشتبه عليه الأمر ، فإن نفاه لا يجب عليه اللعان.

وقد روي (1) أنّه إذا اشترى الرجل جارية حبلى ، فوطأها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشرة أيام ، فلا يبيع ذلك الولد ، لأنّه غذّاه بنطفته ، وكان عليه أن يعزل له من ماله شيئا ، ويعتقه ، وإن كان وطؤه لها بعد انقضاء الأربعة الأشهر والعشرة الأيام ، جاز له بيع الولد على كلّ حال ، وكذلك إن كان الوطء قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشرة الأيام ، غير أنّه يكون قد عزل عنها ، جاز له بيع ولدها على كلّ حال ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وأورده (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ له بيعه على كلّ حال ، لأنّه ليس بولد له بغير خلاف ، وهذه الرواية لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، ولا يترك لها الأدلة القاهرة ، والبراهين الظاهرة ، لأنّا قد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ولا يجوز للرجل أن ينفي ولد جارية أو امرأة له يتهمهما بالفجور ، بل يلزمه الإقرار به على ما قدّمناه وانّما يسوغ له نفيه مع اليقين والعلم.

إذا طلّق الإنسان امرأته واعتدّت ، ثمّ أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وقت انقضاء العدّة ، لم يلحقه إذا كانت العدّة بالشهور الثلاثة ، لأنّا قد دللنا على أنّ زمان الحمل لا يكون أكثر من تسعة أشهر على الصحيح من الأقوال ، فإن كانت قد تزوجت بعد مضي الثلاثة الأشهر ، ودخل بها الثاني ، وجاءت بولد ، ألحقناه بالثاني ، على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه.

ص: 660


1- الظاهر أنها موثقة إسحاق بن عمار [ المروية في 1 / 9 من أبواب نكاح العبيد والإماء من الوسائل ] إلا أنّها ليس فيها تقييد بما قبل مضى أربعة أشهر وعشرة أيّام ، ولعلّ التقييد به من ناحية الجمع بينها وبين صحيحة رفاعة بن موسى [ المروية في 3 / 8 من الأبواب المذكورة ] فراجع.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب إلحاق الأولاد بالآباء.

كتاب الطلاق

ص: 661

كتاب الطلاق

اشارة

الطلاق جائز لقوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (1) فأبان بها عدد الطلاق ، لأنّه كان في صدر الإسلام بغير عدد.

وروى عروة ، عن قتادة قال : كان الرجل في صدر الإسلام يطلّق امرأته ما شاء من واحد إلى عشر ، ويراجعها في العدّة ، فنزل قوله تعالى « الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » فبيّن أنّ عدد الطلاق ثلاث ، فقوله « مَرَّتانِ » إخبار وهو بمعنى الأمر ، لأنّه لو كان إخبارا محضا ، لكان كذبا ، لأنّه قد يطلّق أقل من مرتين ، بل معناه : وطلّقوا مرتين.

واختلف الناس في الثالثة ، فقال ابن عباس « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » الثالثة ، وقال غيره ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (2) الثالثة وهذا مذهبنا.

وقال تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (3) أي لاستقبال عدّتهن في طهر ، لم يجامعها فيه إذا كانت مدخولا بها ، بلا خلاف ، والأولى أن تكون « اللام » بمعنى « في » ، لأنّه عندنا لا يجوز الطلاق الطاهر التي وطأها زوجها في طهرها ، بل في طهر لم يطأها فيه ، فإذا طلّقها فيه حسب من جملة الأطهار ، فصار الطلاق واقعا هاهنا في بعض العدّة.

وقال السيد المرتضى في الناصريات ، لمّا قال : إنّ الطلاق الثلاث في مجلس واحد من دون تخلل المراجعة بين التطليقات لا يجوز ، ثمّ قال : وإخراج

ص: 662


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 230.
3- الطلاق : 1.

الزوج نفسه من التمكين من مراجعة المرأة مكروه له ، ومن طلّق ثلاثا في ثلاثة أطهار ، لا يحلّ له هذه المرأة إلا بعد نكاحها لغيره ، وهو لا يدري ما ينقلب به قلبه ، قال : ولهذا حمل العلماء قوله ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) بأنّه أراد به الواحدة ، لتملك المراجعة بدلالة قوله « لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً » ومن أبان زوجته بالتطليقات الثلاث في الأطهار الثلاثة والمراجعة بينها ، فقد حرّمها على نفسه إلا بعد أن تنكح زوجا غيره ، ويكره له ذلك (1).

هذا آخر كلام المرتضى ، فأحببت إيراده ليعلم القول في معنى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) فإذا ثبت ذلك من جواز الطلاق ، فإنّه يجوز طلاق الصغيرة التي لم تحض ، والكبيرة التي يئست من المحيض ، وليس في سنّها من تحيض ، والتي يئست من المحيض ، وفي سنّها من تحيض ، والحائل ، والحامل ، والمدخول بها ، وغير المدخول بها ، بلا خلاف ، لعموم آيات الطلاق.

وهو على أربعة أضرب ، واجب ، ومحظور ، ومندوب ، ومكروه.

فالواجب طلاق المولى بعد التربص ، لأنّ عليه أن يفي ، أو يطلّق ، أيّهما فعل فهو واجب ، فإن امتنع منهما حبسه الحاكم ، ولا يطلّق عليه عندنا.

والمحظور طلاق الحائض بعد الدخول ، أو في طهر قربها فيه قبل أن يظهر بها حمل ، بلا خلاف ، وانّما الخلاف في وقوعه ، فعندنا لا يقع ، وعند المخالف يقع مع كونه بدعة.

فأمّا المكروه ، فإذا كانت الحال بينهما عامرة ، والأخلاق ملتئمة ، وكلّ واحد منهما قيّم بحقّ صاحبه.

والمندوب إذا كانت الحال بينهما فاسدة بالشقاق ، وتعذر الاتفاق ، وكلّ واحد منهما يعجز عن القيام بما يجب عليه لصاحبه ، فالمستحب الفرقة ، فهذه أقسام الطلاق.

ص: 663


1- الناصريات : كتاب الطلاق ، ذيل المسألة الحادية والستين والمائة.

فأمّا أقسام النكاح فثلاثة ، محظور ، ومستحب ، ومكروه ، لأنّه لا واجب فيه عندنا.

فالمحظور حال العدّة ، والردّة ، والإحرام.

والمستحب إذا كان بالرجل إليه حاجة ، وله ما ينفق عليها.

والمكروه إذا لم يكن به إليه حاجة ، ولا معه ما ينفق عليها ، خوفا من الإثم.

فإذا تقرّر أقسام الطلاق ، فكلّ طلاق واقع يوجب تحريما ، ويزول ذلك التحريم بثلاثة أشياء ، مراجعة ، ونكاح قبل زوج ، ونكاح بعد زوج.

فالرجعة إذا طلّقها بعد الدخول دون الثلاث بغير عوض ، فالمراجعة ، أن يقول : راجعتك ، أو يلمسها بشهوة ، أو يقبّلها ، أو يطأها ، أو ينكر طلاقها ، هذا كلّه قبل خروجها من العدّة ، ولا يفتقر مراجعتها إلى رضاها ، ولا ولي ، ولا عقد بلا خلاف ، ولا إلى إشهاد عندنا.

وزواله بنكاح من غير زوج ، إذا بانت منه بأقلّ من ثلاث ، وهو أن يطلّقها طلقة أو طلقتين قبل الدخول أو بعده ، بعوض أو بغير عوض ، وصبرت حتى انقضت عدّتها ، وكذلك إذا زال النكاح بالفسخ ، حلّت له قبل زوج غيره.

وأمّا التحريم الذي لا يزول إلا بزوج ونكاح جديد مخصوص ودخول مخصوص ، فإن تبيّن بالثلاث مدخولا بها ، أو غير مدخول بها ، فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

وصحّة الطلاق الشرعي يفتقر إلى شروط ، يثبت حكمه بتكاملها ، ويرتفع بإخلال واحدها.

منها كون المطلّق ممن يصح تصرفه ، ولا يكون ممن رفع القلم عنه ، بأن يكون عاقلا بالغا ، لأنّ طلاق المجنون والصبي ما لم يبلغ غير صحيح.

ومنها إيثاره الطلاق.

ومنها قصده إليه.

ومنها تلفّظه بصريحه دون كناياته.

ص: 664

ومنها كونه مطلّقا من الشروط.

ومنها توجهه إلى معقود عليها.

ومنها تعيينها.

ومنها الإشهاد بعدلين مجتمعين في مكان واحد.

ومنها إيقاعه في طهر لا مساس فيه ، بحيث يمكن اعتباره.

ومنها أن لا يقع على غضب ولا حرد ، ولا يجعله يمينا.

اشترطنا صحّة التصرف ، احترازا من الصبي والمجنون والسكران ، وفاقد التحصيل بأحد الآفات.

واشترطنا الإيثار ، احترازا من المجبر والمكره.

واشترطنا القصد احترازا من الخلف واللغو والسهو وإيقاعه بغير نيته.

واشترطنا إطلاق اللفظ ، احترازا من مقارنة الشروط ، كقوله : أنت طالق إن دخلت الدار ، أو جاء رأس الشهر.

واشترطنا صريح قوله : أنت طالق ، أو هي طالق ، أو فلانة طالق ، احترازا من الكنايات ، كقوله : أنت حرام ، أو بائنة ، أو بتلة ، أو بتة ، أو خليّة أو بريّة ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك ، وأشباه ذلك.

واشترطنا العقد ، احترازا من إيقاعه قبله ، كقوله : إن تزوجت فلانة فهي طالق.

واشترطنا تعيين المطلقة ، احترازا من قوله : زوجتي طالق ، وله عدة أزواج ، أو إحدى زوجاتي طالق ، من غير تعيين لها بقول.

واشترطنا الإشهاد ، احترازا من وقوعه بغير شهادة عدلين مجتمعين.

واشترطنا الطهر للحائض (1) ، احترازا من الحيض والنفاس ، ومما حصل فيه مباشرة.

ص: 665


1- ل : الطهر الخالص.

وقلنا : بحيث يمكن لصحته ، عمّن لا يمكن ذلك فيها ، وهي التي لم يدخل بها ، أو دخل بها وغاب عنها زوجها غيبة مخصوصة ، والتي لم تبلغ ، والآئسة المخصوصة ، والحامل ، والغائبة ، على ما قدّمناه.

ويبطل تعليق الطلاق بالأبعاض ، لأنّه ليس من الألفاظ المشروعة في الطلاق ، فيجب أن لا يقع ، وأيضا قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (1) يدلّ على ذلك ، لأنّه علّق الطلاق بما يتناوله اسم النساء ، واليد أو الرجل لا يتناولهما ذلك.

ويخص اعتبار الشهادة ، قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) إلى قوله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2) لأنّ ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب ، وهذا يوجب عود ذلك إلى الطلاق ، وإن بعد عنه ، لأنّه لا يليق إلا به ، دون الرجعة التي عبّر عنها بالإمساك ، لأنّه لا خلاف في أنّ الإشهاد عليها غير واجب ، كما وجب عود التسبيح إليه تعالى ، مع بعد ما بينهما في اللفظ في قوله تعالى ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) (3) من حيث لا يليق إلا به تعالى.

وحمل الإشهاد على الاستحباب ليعود إلى الرجعة ، عدول عن الظاهر في عرف الشرع بغير دليل.

ولا يجوز أن يكون الأمر بالإشهاد متعلقا بقوله ( أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) ، لأنّ المراد بذلك هاهنا ترك المراجعة والاستمرار على موجب الطلاق المقتضي للفرقة ، وليس بشي ء يتجدد فعله ، فيفتقر إلى إشهاد.

ويخصّ اعتبار الطهر ، أنّه لا خلاف في أنّ الطلاق في الحيض بدعة ومعصية ، وقد فسّر العلماء قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) بالطهر الذي لإجماع

ص: 666


1- الطلاق : 1.
2- الطلاق : 2.
3- الفتح : 8 - 9.

فيه ، على ما حرّرناه وذكرناه فيما مضى ، وإذا ثبت أنّه مخالف لما أمر اللّه تعالى ، لم يقع ، ولم يتعلّق به حكم شرعي.

والنساء في الطلاق على ضربين ، منهنّ من ليس في طلاقها سنّة ولا بدعة ، ومنهنّ من في طلاقها ذلك.

فالضرب الأوّل الآئسة من المحيض لصغر أو كبر ، والحامل ، وغير المدخول بها ، والغائب عنها زوجها غيبة مخصوصة.

والثاني المدخول بها لا غير ، إذا كانت حائلا من ذوات الأقراء ، فطلاقها للسنّة في طهر لإجماع فيه. والبدعة في حيض ، أو في طهر فيه جماع.

واعلم أنّ الطلاق على ضربين ، رجعي وبائن.

والبائن على ضروب أربعة ، طلاق غير المدخول بها ، وطلاق من لم تبلغ المحيض ، ومن جاوزت خمسين سنة مع تغير عادتها ، سواء كانت قرشية أو عاميّة أو نبطية ، على الصحيح من الأقوال ، لأنّ في بعض الأخبار اعتبار القرشية والنبطية بستين سنة ، ومن عداهما بخمسين سنة ، والأوّل هو المذهب المعمول عليه.

وكلّ طلاق كان في مقابلته بذل وعوض من المرأة ، وهو المسمّى بالخلع والمبارأة ، ونحن نذكر أحكامهما فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

فأمّا الطلاق الرجعي ، فهو أن يطلّق المدخول بها واحدة ، ويدعها تعتدّ ، ويجب عليه السكنى لها ، والنفقة ، والكسوة ، ولا يحرم عليه النظر إليها ، ووطؤها ، ويحرم عليه العقد على أختها ، وعلى خامسة ، إذا كانت هي رابعة.

وجملة الأمر وعقد الباب أنّها عندنا زوجة ، وقال المخالف : حكمها حكم الزوجة ، وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : بل هي عندنا زوجة ، لأنّ المخالف قال حكمها حكم الزوجات ، قال : هو ردّا عليه ، بل هي عندنا زوجة (1) ونعم ما قال رحمه اللّه.

ص: 667


1- المبسوط : لا يوجد بعينه بل في كتاب الإيلاء ، ج 5 ص 134 ، خلافه ، والعبارة هكذا : إذا آلى من الرجعية صحّ الإيلاء ، لأنّها في حكم الزوجات بلا خلاف.

وله مراجعتها ما دامت في العدّة ، وإن لم تؤثر هي ذلك ، وليس لها عليه في ذلك خيار.

وتجوز المراجعة من غير إشهاد ، والإشهاد أولى.

وتصح عندنا المراجعة بالقول ، أو بالفعل ، فالقول أن يقول : قد راجعتك ، فإن لم يقل ذلك ، ووطأها أو قبّلها ، أو لا مسها ، أو ضمّها بشهوة ، فقد راجعها.

وروى أصحابنا أو ينكر طلاقها (1) ، والدليل على ذلك أجمع إجماعنا ، وقوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ) (2) فسمّى المطلّق طلاقا رجعيا بعلا ، ولا يكون كذلك إلا والمرأة بعلة ، وهذا يقتضي ثبوت الإباحة.

ولم يشترط الشهادة ولا لفظ المراجعة قولا.

فإن خرجت من العدّة ملكت نفسها ، فإن آثر مراجعتها كان ذلك بعقد جديد ومهر جديد ، وتبقى معه على طلقتين أخريين ، فإن كمل طلاقها ثلاث مرات في ثلاثة أطهار ، مع تخلل مراجعته لها ، على ما سندل عليه ، ولم تكن تزوّجت فيما بينها بسواه ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره بنكاح دوام ، ويكون بالغا ، ويدخل بها واطئا في قبلها ، ويفارقها وتنقضي عدتها منه ، ويهدم الزوج الثاني التطليقات الثلاث ، وإن تكررت من الأول أبدا ، إلا أن يكون طلاق عدّة بعد تسع تطليقات ينكحها بينها زوجان ، وتبيح المرأة بالعقد المستأنف ، وكذا إن تزوّجت فيما بين الاولى والثانية ، أو الثانية والثالثة ، هدم ذلك ما تقدّم من الطلاق ، على الأظهر الأكثر المعمول عليه من أقوال أصحابنا ورواياتهم ، لأنّ في بعضها لا يهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث ، وتمسّك به ، بعضهم ، وقال : متى رجعت إلى الأول كانت معه على ما بقي من تمام الثلاث ، وظاهر قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (3) منعه ، لأنّه

ص: 668


1- الوسائل : الباب 14 من أبواب أقسام الطلاق.
2- البقرة : 228.
3- البقرة : 230.

يدلّ على تحريمها عليه بالثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، من غير تفصيل ، إلا أنّ الإجماع من المحصّلين على ما اخترناه ، والأخبار المتواترة مخصصة لما قدّمناه.

فأمّا غير المدخول بها فإنّه إذا طلّقها واحدة بانت منه ، وملكت نفسها في الحال ، فإن اختار مراجعتها ورضيت هي ، كان ذلك بعقد جديد ومهر جديد ، ولو قلنا بعقد جديد كان كافيا ، وإن لم نقل بمهر جديد ، غير أنّا اتبعنا ألفاظ أصحابنا المصنّفين.

فإن راجعها وطلّقها قبل الدخول بها تمام ثلاث مرات ، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا مختص بحرائر النساء.

فأمّا الإماء فأقصى طلاقهن حرا كان الزوج أو عبدا ، طلقتان ، لأنّ الاعتبار عندنا في عدد الطلقات بالنساء ، فأمّا إيقاعه فبيد الرجال.

وأمّا طلاق العدّة فيختص المدخول بها ، المستقيمة الطهر والحيض ، وصفته أن يطلّقها في طهر لإجماع فيه ، ثمّ يراجعها قبل أن تخرج من عدّتها ، ولو بساعة واحدة ، فإذا أراد طلاقها ثانيا طلاق العدّة وطأها ، فإذا حاضت وطهرت ، طلّقها ثمّ يراجعها قبل خروجها من عدّتها ، ولو بساعة واحدة ، فإذا راجعها حينئذ وأراد طلاقها ثالثا ، وطأها ، فإذا اوطأها فإذا حاضت وطهرت طلّقها ، فإذا فعل ذلك حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره بالصفات التي ذكرناها أوّلا ، ولا يهدم الزوج الثاني هذه التطليقات الثلاث أبدا ، بل متى طلّقها مطلّق على هذا الوجه والكيفية تسع تطليقات ينكحها بينها زوجان ، حرمت عليه أبدا على ما قلناه فيما مضى.

فالفرق بين طلاق العدّة وطلاق غير العدّة ، المسمّى عند بعض أصحابنا بطلاق السنّة ، وإن كان الكلّ عند التحقيق في التسمية طلاق السنّة ، هو أنّ طلاق العدّة لا بدّ لمن أراده بعد طلاقها الأوّل أن يراجعها قبل خروجها من العدّة ، فإذا أراد طلاقها ثانيا وثالثا ، فلا بدّ من وطئها ، وليس كذلك طلاق السنّة ، لأنّه إن أراد طلاقها بعد طلاقها الأوّل ، فليس من شرطه مراجعتها قبل خروجها من عدّتها ، ولا وطؤها إذا أراد طلاقها ثانيا وثالثا ، فيتفق طلاق العدّة

ص: 669

وطلاق السنّة في المرّة الاولى من الطلاق ويختلفان في الطلاق الثاني والثالث ، فليلحظ ذلك.

وشي ء آخر وهو أنّ الإنسان يمكنه أن يبين زوجته في طلاق السنّة ، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره في مجلس واحد ، ويوم واحد ، وأقلّ من ذلك ، بعد تخليل المراجعة بين الطلقات الثلاث ، بأن يطلّقها بمحضر من الشاهدين العدلين ، ثم يراجعها بالقول أو التقبيل على ما مضى ، ثمّ يطلّقها ، ثمّ يراجعها ، ثمّ يطلّقها ، وقد بانت منه ساعة طلّقها ، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، وإن كان ذلك في يوم واحد ومجلس واحد.

فإن قيل : فأصحابكم لا يجيزون ولا يوقعون الثلاث طلقات في مجلس واحد ، بل يوقعون منها واحدة وبعضهم لا يوقع شيئا منها ، فكيف ذهبتم إلى إيقاع الثلاث في مجلس واحد.

قلنا : أصحابنا ما منعوا من ذلك إلا من دون تخلل المراجعة بين التطليقات الثلاث ، أو قولهم : أنت طالق ثلاثا ، لأنّه إذا طلّقها ولم يراجعها ، ثمّ طلّقها ثانيا وثالثا لا يقع الطلاق ، لأنّ طلاق المطلّق لا يقع ، وليس كذلك ما ذهبنا إليه ، لأنّا اعتبرنا المراجعة بين التطليقات الثلاث ، فليتأمّل ذلك ويلحظ.

وما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، من كيفيّة طلاق السنّة ، وهو قوله : إذا أراد الرجل أن يطلّق امرأته التي دخل بها وهو غير غائب عنها ، طلاق السنّة فليطلقها وهي طاهر طهرا لم يقربها فيه بجماع ، ويشهد على ذلك شاهدين تطليقة واحدة ، ثمّ يتركها حتى تخرج من العدّة ، فإذا خرجت من العدّة ملكت نفسها ، وكان خاطبا من الخطاب ، وما لم تخرج من عدّتها فهو ، أملك برجعتها ، فمتى خرجت من عدتها وأراد أن يتزوجها ، عقد عليها عقدا جديدا بمهر جديد ، فإن أراد بعد ذلك طلاقها ، فعل معها ما فعل في الأوّل ، من استيفاء الشروط ، فيطلّقها طلقة أخرى ، ويتركها حتى تخرج من العدة ، فإذا خرجت من العدّة ملكت نفسها مثل الأوّل ، فإن أراد أن يعقد عليها عقدا آخر ، فعل كما فعل في

ص: 670

الأولتين بمهر جديد وعقد جديد ، فإذا أراد بعد ذلك طلاقها ، طلّقها على ما ذكرناه ، ويستوفي شرائط الطلاق ، فإذا طلّقها الثالثة ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، فإن تزوجت فيما بين التطليقة الأولى أو الثانية أو الثالثة ، زوجا بالغا ، ودخل بها ، ويكون التزويج دائما ، هدم ما تقدّم من الطلاق ، وكذلك إن تزوجت بعد التطليقات الثلاث ، هدم الزوج الثلاث تطليقات ، وجاز لها أن ترجع إلى الأول أبدا بعقد جديد ومهر جديد (1) هذا آخر كلام شيخنا في نهايته في كيفيّة طلاق السنّة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا منه رحمه اللّه على جهة التقريب ، وعلى لفظ الخبر ، دون أن يكون من طلّق للسنّة على غير ذلك الوجه لا يسمّى طلاق السنّة.

وقد حقّق القول في الاستبصار (2) ، وأورد أخبارا بأنّه يجوز على خلاف الوجه والكيفية التي أوردها في نهايته ، وأنّها تبين منه في يوم واحد إذا تخللت المراجعة ثمّ ذكر في نهايته ، وقال : الطلاق على ضربين ، طلاق السنّة وطلاق العدّة ، ثمّ قال : وهو ينقسم أقساما ، منها طلاق التي لم يدخل بها ، والتي دخل بها ، ومن لم تبلغ المحيض ، ولا في سنّها من تحيض ، والتي لم تبلغ المحيض وفي سنّها من تحيض ، والمستحاضة ، والمستقيمة الحيض ، والحامل المستبين حملها ، والآئسة من المحيض ، وفي سنّها من تحيض ، والآئسة من المحيض وفي سنّها من لا تحيض (3).

وعدّد أقساما أخر ، وهذه أجمع راجعة إلى قوله الطلاق على ضربين ، طلاق السنّة ، وطلاق العدّة ، لأنّ كلّ واحد من الأقسام التي ذكرها لا بدّ فيه من أن يكون إمّا للسنّة أو للعدّة ، وانّما ذلك راجع إلى من يطلّق ، أو إلى من تطلّق ، لا إلى جنس الطلاق ، بل إلى عدد المطلّق ، والمطلّقة.

ص: 671


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.
2- الاستبصار : كتاب الطلاق ، باب من طلق امرأته ثلاث تطليقات ، ج 3 ، ص 285 إلى ص 291.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.

ثم قال رحمه اللّه : وما يلحق بالطلاق ، وإن لم يكن طلاقا في الحقيقة ، على ضربين ، ضرب منه يوجب البينونة ، مثل الطلاق ، وضرب آخر يوجب التحريم ، وإن لم يقع فرقة ، فالقسم الأول اللعان ، والارتداد عن الإسلام ، والقسم الثاني الظهار والإيلاء ، ويدخل في هذا الباب ، ما يؤثّر في بعض أنواع الطلاق ، وهو الخلع والمبارأة (1).

قوله رحمه اللّه : « ويدخل في هذا الباب ما يؤثّر في بعض أنواع الطلاق » على رأيه واختياره في أنّ الخلع بمجرده لا يقع به فرقة ولا بينونة ، إلا أن يتبع بطلاق ، فلأجل هذا قال ما قال ، ولا يجعله حكما منفردا عن الطلاق فأمّا على ما يذهب إليه غيره من أصحابنا ، مثل السيد المرتضى وغيره ، فانّ الخلع بمجرده يقع به البينونة والفرقة ، وسنبيّن ذلك عند المصير إليه إن شاء اللّه.

ويدخل فيه أيضا ما يكون كالسبب للطلاق ، وهو النشوز والشقاق.

وشرائط الطلاق على ضربين ، ضرب منه عام في سائر أنواعه ، وضرب منه خاص في بعضه ، فأمّا الذي هو عام ، فهو أن يكون الرجل غير زائل العقل ، ويكون مريدا للطلاق ، غير مكره عليه ، ولا مجبر ، ويكون طلاقه بمحضر من عدلين ، ويتلفظ بلفظ مخصوص ، أو ما يقوم مقامه إذا لم يمكنه على ما نبيّنه.

والضرب الآخر وهو أن لا تكون المرأة حائضا ، لأنّ هذا خاص مراعى في المدخول بها ، غير غائب عنها زوجها غيبة مخصوصة ، على ما نبيّنه فيما بعد ، ومعظم هذه الشروط قدّمناها فيما مضى.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن طلّق الرجل امرأته وهو زائل العقل بالسكر ، أو الجنون أو المرة أو ما أشبهها ، كان طلاقه غير واقع ، فإن احتاج من هذه صورته إلا السكران إلى الطلاق ، طلّق عنه وليه ، فإن لم يكن له ولي ، طلّق عنه الإمام أو من نصبه الإمام (2).

ص: 672


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.

وذهب في مسائل خلافه في كتاب الخلع ، إلى غير ما ذهب إليه في نهايته ، فقال : مسألة ، ليس للولي أن يطلّق عمّن له عليه ولاية ، لا بعوض ولا بغير عوض ، ثمّ استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل بقاء العقد وصحته ، وأيضا قوله عليه السلام : الطلاق لمن أخذ بالساق (1) ، والزوج هو الذي له ذلك دون غيره (2) هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : الأولى أن يكون غير السكران مثل السكران ، وان لا يلي غير الزوج الطلاق ، لقوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (3) فأضاف الطلاق إلى الزوج ، فمن جعل لغيره الطلاق فيحتاج إلى دليل.

وأيضا فالرسول عليه السلام قال : « الطلاق بيد من أخذ بالسّاق » (4) والذي يأخذ بالساق الزوج ، فمن جعله بيد غيره يحتاج إلى دليل.

وأيضا الأصل بقاء الزوجيّة بينهما ، فمن أبانها منه بطلاق غيره يحتاج إلى دليل.

فإن قيل : هذا وال عليه ، ناظر في مصالحه ، فله أن يفعل ما شاء ممّا هو راجع إلى مصالحه.

قلنا : لا خلاف أنّ الصبي لا يطلّق عليه وليه ، وهو ناظر في أموره.

وأيضا فالطلاق من شرطه مقارنة نية المطلّق الذي هو الزوج به ، وهذا غير موجود في هؤلاء.

ولنا في هذه المسألة نظر ، والذي وقع التحقيق لنا من ذلك ، أنّه لا يجوز طلاق غيره عليه بحال ، لما قدّمناه من الأخبار ، وبقاء الزوجية بينهما ، فمن أبانها منه بطلاق غيره يحتاج إلى دليل.

ص: 673


1- سنن ابن ماجة : باب طلاق العبد من كتاب الطلاق ، ح 2081.
2- الخلاف : كتاب الخلع ، المسألة 29.
3- البقرة : 230.
4- كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل ، ج 9 ، ص 640 أخرجه عن الطبراني ، عن ابن عباس ، راجع ذيل ص 600 من الكتاب.

وقال شيخنا في نهايته أيضا : وإذا طلّق الرجل امرأته وهو مريض ، فإنّهما يتوارثان ما دامت في العدّة ، فإذا انقضت عدّتها ورثته ما بينه وبين سنة ما لم تتزوج ، فإن تزوجت فلا ميراث لها ، وإن زاد على السنة يوم واحد ، لم يكن لها ميراث ، ولا فرق في جميع هذه الأحكام ، بين أن يكون التطليقة هي الأولة ، أو الثانية ، أو الثالثة ، وسواء كان له عليها رجعة ، أو لم يكن ، فإنّ الموارثة ثابتة بينهما على ما قدّمناه ، هذا إذا كان المرض يستمر به إلى أن يتوفى ، فإن صح من مرضه ذلك ، ثمّ مات لم يكن لها ميراث ، إلا إذا كان طلاقا يملك فيه رجعتها ، فإنّها ترثه ما لم تخرج من العدة (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في نهايته.

قال محمّد بن إدريس. والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الطلاق إذا كان رجعيا ، ورثها الرجل ما دامت في العدّة ، فإذا خرجت من العدة لا يرثها ، وهي ترثه بعد خروجها من العدّة إلى سنة ما لم تتزوّج ، أو يبرأ من مرضه ذلك ، فأمّا إذا كان الطلاق غير رجعي ، وهو الطلاق البائن ، فإنّه لا يرثها ساعة طلّقها ، وإن كانت في العدّة ، وهي ترثه مدة السنة على ما قدّمناه ، لأنّها بعد الطلاق البائن غير زوجة له ، والعصمة انقطعت بينهما ، ولو لا الإجماع لما ورثته ، ولا إجماع معنا على أنّه يرثها بعد الطلاق.

وشيخنا أبو جعفر ، فقد رجع عمّا قاله في نهايته ، في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، المطلقة التطليقة الثالثة في حال المرض ، ترث ما بينها وبين سنة ، إذا لم يصح من ذلك المرض ، ما لم تتزوج ، فإن تزوجت فلا ميراث لها ، والرجل يرثها ما دامت في العدّة الرجعية ، فأمّا في البائنة فلا يرثها على حال ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وقد ذكرناها في الكتاب الكبير (2) هذا آخر كلامه في الجزء

ص: 674


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- التهذيب : كتاب الطلاق ، الباب 3 في أحكام الطلاق ، الأحاديث 183 إلى 190 ، ج 8 ، ص 78 و 79.

الثاني من مسائل خلافه في كتاب المواريث (1).

وقال أيضا في الجزء الثالث في كتاب الطلاق : مسألة ، المريض إذا طلّقها طلقة لا يملك رجعتها ، فإن ماتت لم يرثها بلا خلاف ، وإن ماتت هو من ذلك المرض ، ورثته ما بينها وبين سنة ، ما لم تتزوج ، فإن تزوّجت بعد انقضاء عدّتها لم ترثه ، وإن زاد على السنة يوم واحد لم ترثه.

ثمّ قال : مسألة ، إذا سألته أن يطلّقها في مرضه ، فطلّقها ، لم يقطع ذلك الميراث منه ، ثمّ قال : دليلنا عموم الأخبار الواردة ، بأنّها ترثه إذا طلّقها في المرض ، ولم يفصّلوا ، فوجب حملها على عمومها (2).

ثمّ قال في الجزء الثالث من استبصاره ، في باب طلاق المريض ، لمّا أورد الأخبار ، في أنّها ترثه إذا طلّقها في حال مرضه ، ما بينها وبين سنة ما لم تتزوج ، أو يبرأ من مرضه ذلك ، ثمّ قال : دليلنا على أنّ الذي اختاره ، هو أنّه انّما ترثه بعد انقضاء العدة ، إذا طلّقها للإضرار بها ، ويحمل على هذا التفصيل جميع ما تقدّم من الأخبار المجملة. يدلّ على ذلك ما رواه الحسين بن سعيد ، عن أخيه الحسن ، عن زرعة عن سماعة ، قال : سألته عليه السلام ، عن رجل طلّق امرأته وهو مريض ، قال : ترثه ما دامت في عدّتها ، وإن طلّقها في حال إضرار ، فهي ترثه إلى سنة ، فإن زاد على السنة يوم واحد ، لم ترثه وتعتد أربعة أشهر وعشرا ، عدّة المتوفّى عنها زوجها (3).

قال محمّد بن إدريس : الصحيح ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، من قوله إذا سألته أن يطلّقها في مرضه ، فطلقها ، لم يقطع ذلك الميراث منه ، والدليل عليه ما استدلّ به رحمه اللّه ، من قوله عموم الأخبار يقتضي ذلك ، ولم يفصّلوا ، فوجب حملها على عمومها.

ومن العجب أنّه يخصص العموم في استبصاره بخبر سماعة الذي رواه

ص: 675


1- الخلاف : كتاب الفرائض ، المسألة 111.
2- الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة 55.
3- الإستبصار : كتاب الطلاق ، باب طلاق المريض ، ح 14 ، ج 3 ، ص 307.

زرعة ، وهما فطحيان ، فإن كان يعمل بأخبار الآحاد فلا خلاف بين من يعمل بها ، ان من شرط العمل بذلك ، أن يكون راوي الخبر عدلا ، والفطحي كافر ، فكيف يعمل بخبره ، ويخصّص بخبره العموم المعلوم ، والمخصّص يكون دليلا معلوما ، فهذا لا يجوز عند الجميع.

لا عند من يعمل بأخبار الآحاد ، ولا عند من لا يعمل بها ومتى جعل إليها الخيار ، فاختارت نفسها ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فبعض يوقع الفرقة بذلك ، وبعض لا يوقعها ، ولا يعتدّ بهذا القول ، ويخص هذا الحكم بالرسول صلى اللّه عليه وآله ، وهذا هو الأظهر الأكثر المعمول عليه بين الطائفة ، وهو خيرة شيخنا أبي جعفر (1) ، والأول خيرة السيد المرتضى ، دليلنا : أنّ الأصل بقاء العقد.

وقال شيخنا أيضا : إجماع الفرقة على هذا واخبارهم ، وقد ذكرناها في الكتابين المقدّم ذكرهما ، وبينا الوجه في الأخبار المخالفة لها ، ومن خالف في ذلك لا يعتدّ به ، لأنّه شاد منهم (2).

وإذا قال : أنت على حرام ، لا يحصل بذلك طلاق ، ولإظهار ، ولا إيلاء ، ولا يمين بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ولا تحرم عليه.

فإن قيل للرجل : هل طلّقت فلانة؟ فقال : نعم ، كان ذلك إقرارا منه بطلاق شرعي.

وما ينوب مناب قوله : أنت طالق ، بغير العربية بأي لسان كان ، فإنه يحصل به الفرقة إذا تعذّر عليه لفظ العربية ، فامّا إذا كان قادرا على التلفظ بالطلاق بالعربية ، وطلّق بلسان غيرها ، فلا تقع الفرقة بذلك ، لأنّه ليس عليه دليل ، والأصل بقاء العقد.

ولا يقع الطلاق إلا باللسان.

ص: 676


1- في كتاب الخلاف : في المسألة 31 من كتاب الطلاق.
2- الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة 31 ، ذيل المسألة.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كتب بيده أنّه طلّق امرأته وهو حاضر ليس بغائب ، لم يقع الطلاق ، فإن كان غائبا فكتب بيده أنّ فلانة طالق ، وقع الطلاق ، وإن قال لغيره : اكتب إلى فلانة امرأتي بطلاقها ، لم يقع الطلاق ، فإن طلّقها بالقول ، ثمّ قال لغيره : اكتب إليها بالطلاق ، كان الطلاق واقعا بالقول دون الأمر (1).

قال محمّد بن إدريس : لا يقع الطلاق إذا كتب بخطه أنّ فلانة طالق ، وإن كان غائبا بغير خلاف من محصّل ، لأنّا نراعي لفظا مخصوصا يتلفظ به المطلّق ، ومن كتب فما تلفظ بغير خلاف ، والأصل بقاء العقد وثبوته ، فمن أوقع بالكتابة طلاقا وفرقة ، يحتاج إلى دليل.

وشيخنا أبو جعفر فقد رجع عمّا قاله في نهايته في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا كتب بطلاق زوجته ولم يقصد الطلاق ، لا يقع بلا خلاف ، فإن قصد به الطلاق فعندنا أنّه لا يقع به شي ء ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل بقاء العقد ، ولا دليل على وقوع الطلاق بالكتابة (2) هذا آخر كلامه في مسائل خلافه.

وقال في نهايته : وإذا وكل الرجل غيره بأن يطلق عنه ، لم يقع طلاقه ، إذا كان حاضرا في البلد ، فإن كان غائبا جاز توكيله في الطلاق (3).

قال محمّد بن إدريس : يصحّ التوكيل في الطلاق حاضرا كان الموكل أو غائبا ، بغير خلاف بين المسلمين ، وقد استوفينا الكلام على ذلك في باب الوكالة (4) بما أغنى عن إعادته.

ومن أراد عزل الوكيل ، فليعلمه ذلك ، فإن لم يمكنه فليشهد شاهدين على عزله ، فإن طلّق الوكيل وكان طلاقه قبل العزل ، وقع طلاقه ، وإن كان بعد العزل كان باطلا.

ص: 677


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- الخلاف : كتاب الطلاق ، مسألة 29.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
4- راجع ص 95 من الكتاب.

ومتى وكل رجلين على الطلاق ، ولم يشرط في وكالتهما الانفراد والاجتماع ، لم يجز لأحدهما أن يطلّق ، فإن طلّق بانفراده لم يقع طلاقه ، وإذا اجتمعا عليه وقع.

ومن لم يتمكن من الكلام ، مثل أن يكون أخرس ، فليكتب الطلاق بيده ، إن كان ممن يحسن الكتابة ، فإن لم يحسن فليوم إلى الطلاق ، كما يومي إلى بعض ما يحتاج إليه ، فمتى فهم من إيمائه ذلك ، وقع طلاقه.

وقد روي أنّه ينبغي أن يأخذ المقنعة فيضعها على رأسها ، ويتنحى فيكون ذلك منه طلاقا ، وإذا أراد منه مراجعتها أخذ القناع من رأسها (1).

وهذه الرواية يمكن حملها على من لم يكن له كناية مفهومة ، ولا إشارة معقولة.

ومتى علّق الإنسان الطلاق بشرط من الشروط ، أو صفة من الصفات ، وكذلك العتاق ، كان باطلا على ما قدّمناه.

ومن شرائط الطلاق العامة أن يطلّقها تطليقة واحدة ، فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثا بأن يقول : أنت طالق ثلاثا لغير المدخول بها ، أو قال ذلك للمدخول بها ، لم يقع على الصحيح من المذهب ، إلا واحدة ، وقال بعض أصحابنا : لا يقع من ذلك شي ء ، والأول هو الأظهر من المذهب.

فإن قال لغير المدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، بانت منه بالأولى ، وبطل الطلاق الثاني والثالث بغير خلاف.

فإن قال ذلك للمدخول بها ، لا يقع إلا الطلاق الأول ، دون الثاني والثالث ، لأنّ طلاق الطالق لا يصح ، فإن تحللت المراجعة صحّ على ما قدّمناه.

وقد كتب إليّ بعض الفقهاء الشافعيّة ، وكان بيني وبينه مؤانسة ومكاتبة ، هل يقع الطلاق الثلاث عندكم؟ وما القول في ذلك عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام؟

فأجبته أمّا مذهب أهل البيت ، فإنّهم يرون أنّ الطلاق الثلاث بلفظ واحد

ص: 678


1- الوسائل : الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق ، وبمضمونه الحديث 2 و 3 و 5.

في مجلس واحد وحالة واحدة من دون تخلل المراجعة ، لا يقع منه إلا واحدة ، ومن طلّق امرأته تطليقة واحدة وكانت مدخولا بها ، كان له مراجعتها بغير خلاف بين المسلمين.

وقد روي أنّ ابن عباس وطاووسا يذهبان إلى ما يقوله الشيعة (1) ، وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف أنّ الحجاج بن ارطاة كان يقول : ليس الطلاق الثلاث بشي ء ، وحكى في هذا الكتاب عن محمد بن إسحاق ، أنّ الطلاق الثلاث يردّ إلى واحدة ، ودليل الشيعة على ما ذهبت إليه بعد إجماع أهل البيت عليهم السلام ، فانّ فيه الحجة من وجوه يطول شرحها لا يحتمل هذا الموضع ذكرها ، لأنّه يوحش المبتدي لسماعة ، ولقول الرسول عليه السلام المتفق عليه : « خلّفت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا » (2) فقرن عليه السلام العترة إلى الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجعل حكمها حكمه ، وقال عليه السلام : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من أتاها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك » (3) مطابقا لقول اللّه سبحانه : ( فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ) (4) إن دلوا (5) على ان المشروع في الطلاق إيقاعه متفرقا.

وقد وافقهم مالك وأبو حنيفة على أنّ الطلاق الثلاث في الحال الواحدة محرم مخالف للسنّة ، إلا أنّهما يذهبان مع ذلك إلى وقوعه.

ص: 679


1- التاج ، ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، عن أبي الصهباء ، أنّه قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر وثلاثا من امارة عمر؟ فقال ابن عباس : نعم ، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : كان الطلاق على عهد النبي وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة.
2- لم نتحققه بعينه لكن حديث الثقلين مسلم عند الفريقين وأورده في إحقاق الحق : ج 9 ، من ص 375 - 309 بأسانيد متعددة وألفاظ مختلفة.
3- إحقاق الحق : ج 9 ، ص 293 - 270 ، وهو مروي بأسانيد متعددة باختلاف يسير في الألفاظ.
4- العنكبوت : 15.
5- ج : وقد دلوا.

وفي هذا القول ما فيه.

والذي يدلّ على صحّة ما ذهب إليه الشيعة ، قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) (1) ومن المعلوم أنّه تعالى لم يرد بذلك الخبر ، لأنّه لو أراده لكان كذبا ، وانّما أراد الأمر ، فكأنّه قال تعالى : طلّقوا مرتين ، وجرى مجرى قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (2) وكقوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (3) والمراد بذلك يجب أن يؤمنوه ، والمرّتان لا تكونان إلا واحدة بعد اخرى ، ومن جمع الطلاق في كلمة واحدة ، لا يكون مطلّقا مرتين ، كما أنّ من أعطى درهمين مرة واحدة ، لم يعطهما مرتين.

فإن احتج من يذهب إلى أنّ الطلاق الثلاث يقع وإن كان بدعة بما روي في حديث ابن عمر من أنّه قال للنبيّ عليه السلام : أرأيت لو طلّقتها ثلاثا ، فقال عليه السلام : إذن عصيت ربّك ، وبانت منك امرأتك (4).

فالذي يبطل ذلك أنّه لا تصريح في قوله : « أرأيت لو طلّقتها ثلاثا » فاني كنت أفعل ذلك بكلمة واحدة ، وحالة واحدة ، ويجوز أن يكون مراده انّي لو طلّقتها ثلاثا في ثلاثة أطهار ، تخللها المراجعة ، ولا شبهة في أنّ من طلّق امرأته

ص: 680


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 228.
3- آل عمران : 97.
4- سنن النسائي : كتاب الطلاق ، باب الرجعة ، وفيه : « كان ابن عمر إذا سئل عن الرجل طلّق امرأته وهي حائض ، فيقول : إمّا ان طلّقها واحدة أو اثنتين ، فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أمره أن يراجعها ثمّ يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثمّ تطهر ثمّ يطلّقها قبل أن يمسّها ، وامّا أن طلّقها ثلاثا فقد عصيت اللّه في ما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك امرأتك ». وأورد مثله في صحيح مسلم ، كتاب الطلاق في ذيل ص 340 عن ابن عباش. وفي سنن البيهقي : كتاب الخلع والطلاق ، باب الاختيار للزوج ، أن لا يطلق إلا واحدة ، في حديث عطاء الخراساني ، عن الحسن قال : حدثنا عبد اللّه بن عمر .. إلى أن قال : « فقلت : يا رسول اللّه أفرأيت لو أني طلّقتها ثلاثا كان يحلّ لي أن أراجعها ، قال : كانت تبين منك وتكون معصية » ج 7، ص 330 وأورده في التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة.

ثلاثا في ثلاثة أطهار ، أنّه يسمّى مطلّقا ثلاثا.

فإن قيل : لا فائدة على هذا الوجه في قوله عليه السلام : إذن عصيت ربّك ، وبانت منك امرأتك.

قلنا : يحتمل ذكر المعصية أمرين ، أحدهما أن يكون النبي عليه السلام كان يعلم من زوجة ابن عمر خيرا وبرا يقتضيان المعصية بفراقها ، والأمر الآخر أنّه مكروه للزوج أن يخرج نفسه من التمكين من مراجعة المرأة ، لأنّه لا يدري كيف ينقلب قلبه ، فربما دعته الدواعي القوية إلى مراجعتها ، فإذا أخرج أمرها من يده ، ربما هم بالمعصية.

فإن احتجوا أيضا بما رووه من أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق طلّق امرأته تماضر - بضم التاء وكسر الضاد - ثلاثا (1).

قلنا : يجوز أن يكون طلقها في أطهار ثلاثة مع مراجعة تخللت ، وليس في ظاهر الخبر أنّه طلقها ثلاثة لفظ واحد في حالة واحدة.

وهذه الطريقة التي سلكناها ، يمكن أن تطرد في جميع أخبارهم التي يتعلقون بها ، بما يتضمن وقوع طلاق ثلاث ، فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كلّه ، ونهجناه ، فلا معنى للتطويل بذكر جميع الأخبار.

على أنّ أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم ، يقتضي أنّ الطلاق الثلاث لا يقع.

منها ما رواه ابن سيرين أنّه قال : حدثني من لا أتهم ، أنّ ابن عمر طلّق امرأته ثلاثا وهي حائض ، فأمره النبيّ عليه السلام أن يراجعها (2).

ص: 681


1- .. لم نعثر عليه إلا أنّ في سنن البيهقي ( كتاب الطلاق ، باب من جعل الثلاث واحدة .. ج 7 ، ص 336 ) أنّ أبا الصهبان قال لابن عباس : ألم يكن الطلاق الثلاث في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبي بكر واحدة؟ قال : « قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر نتابع الناس في الطلاق ، فأمضاه عليهم »
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، ص 341. صحيح مسلم : كتاب الطلاق ، ح 9. وأشار إليه أبوداود في سننه في كتاب الطلاق، الباب 4 (الرقم 2185).

وبما رواه الحسن قال : أتى عمر برجل قد طلّق امرأته ثلاثا بفم واحد ، فردّها عليه ، ثمّ أتى بعد ذلك برجل آخر قد طلّق امرأته ثلاثا بفم واحد ، فأبانها منه ، فقيل له : إنّك بالأمس رددتها عليه ، فقال : خشيت أن يتتايع - بالياء المنقطة من تحت بنقطتين يقال تتايع الناس في الشر ، وتتابع الناس في الخير ، بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، التي قبل العين ، وفي الشر تتايع بنقطتين قبل العين - فيه السكران والغيران (1).

وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، أنّه كان يقول انّ الطلاق كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعهد أبي بكر وصدر من امارة عمر طلاق الثلاث واحدة ، ثمّ جعلها عمر بعد ذلك ثلاثا (2).

وروى عكرمة عن ابن عباس ، قال : طلّق ركانة - بالراء المضمومة ، والنون - ابن عبد ربه ، امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا فقال : في مجلس واحد قال : نعم ، قال عليه السلام : انّما تلك واحدة ، فراجعها إن شئت ، قال : فراجعتها (3).

والأخبار المعارضة لأخبارهم أكثر من أن تحصى ، أو تستقصى.

ودليل آخر على أصل المسألة ، وهو أن يقال الطلاق الثلاث بلفظ واحد في حالة واحدة من غير أن يتخلله مراجعة ، لا يقع منه إلا واحدة ، والدليل على ذلك من كتاب اللّه تعالى ، ومن سنّة نبيه صلى اللّه عليه وآله ، ومن إجماع المسلمين ، ومن قول أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن قول ابن عباس رحمه اللّه ،

ص: 682


1- لم نعثر عليه.
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدّة ص 340. سنن أبي داود : الباب 10 من كتاب الطلاق ، ح 5 و 6 ( الرقم 2199 و 2200 ).
3- أورده في هامش التاج ، ج 2 ، ص 340 : الفتح الرباني : كتاب الطلاق ، الباب 3 ، ح 1 ، قالوا :

ومن قول عمر بن الخطاب.

أمّا كتاب اللّه فقد تقرر أنّه نزل بلسان العرب ، وعلى مذاهبها في الكلام ، قال اللّه جلّت عظمته ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (1) وقال تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (2) ثمّ قال سبحانه في آية الطلاق : ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (3) فكانت الثالثة في قوله عزوجل ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) على قول ابن عباس ، أو في قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (4) فوجدنا المطلّق إذا قال لامرأته : أنت طالق ، أتى بلفظ واحد يتضمن تطليقة واحدة ، وإذا قال لها عقيب هذا اللفظ : ثلاثا ، لم يخل من أن تكون أشار به إلى طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات ، أو إلى طلاق يكون في المستقبل ثلاثا ، أو إلى الحال ، فإن كان أخبر عن الماضي ، فلم يقع الطلاق إذن باللفظ الذي أورده في الحال ، وانّما أخبر عن أمر كان ، وإن كان أخبر عن المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق حتى يأتي الوقت ، ثمّ يطلّقها ثلاثا على مفهوم اللفظ والكلام ، وليس هذان القسمان ممّا جرى الحكم عليهما ، ولا تضمنهما المقال ، فلم يبق إلا أنّه أخبر عن الحال وذلك كذب ولغو بلا إشكال ، لأنّ الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا ، فلأجل ذلك حكمنا عليه بتطليقة واحدة ، من حيث تضمّنه اللفظ الذي أورده ، وأسقطنا ما لغا فيه ، واطرحناه إذا كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا وكان مضادا لأحكام الكتاب وأمّا السنّة فانّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : « كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ » (5) وقال عليه السلام : « ما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فاطرحوه » (6) وقد بيّنا أنّ المرّة لا تكون مرتين ، وأن الواحدة لا تكون ثلاثا ،

ص: 683


1- الزمر : 28.
2- إبراهيم : 4.
3- البقرة : 229.
4- البقرة : 230.
5- لم نعثر عليه.
6- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 10 - 19 - 29. وفي جميعها فردوه ، أو دعوه، بدل فاطرحوه.

فأوجبت السنّة إبطال طلاق الثلاث.

وأمّا إجماع الأمّة فإنّهم مطبقون على أنّ كلّ ما خالف القرآن والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق الثلاث للقرآن والسنّة ، فحصل الإجماع على إبطاله.

وأمّا قول أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه قد تظاهر عنه الخبر المستفيض أنّه قال : « إيّاكم والمطلّقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنّهنّ ذوات الأزواج » (1).

وأمّا قول ابن عباس رحمه اللّه ، فإنّه كان يقول : الا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل واحد وهي تحرم عليه ، ويحرّمونها على آخر وهي حلال له ، فقالوا : يا ابن عباس ومن هؤلاء القوم؟ فقال : هم الذين يقولون للمطلّق ثلاثا في مجلس واحد ، قد حرمت عليك امرأتك.

وأمّا قول عمر بن الخطاب ، فلا خلاف أنّه رفع إليه رجل قد طلّق امرأته ثلاثا ، فأوجع ظهره وردّها عليه ، وبعد ذلك رفع إليه رجل قد طلّق كالأول ، فأبانها منه ، فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين ، فقال : قد أردت أن أحمله على كتاب اللّه عزوجل ، فخشيت أن يتتايع فيه السكران والغيران ، فاعترف بأنّ المطلقة ثلاثا تردّ إلى واحدة على حكم الكتاب ، وأنّه انّما أبانها منه بالرأي والاستحسان ، فعملنا من قوله على ما وافق القرآن ، ورغبنا عمّا ذهب إليه من جهد الرأي والاستحسان.

على أنّه لا خلاف بين أهل اللسان العربي وأهل الإسلام ، أنّ المصلّي لو قال في ركوعه : سبحان ربي العظيم فقط ، ثمّ قال في عقيبه : ثلاثا ، لم يكن مسبحا ثلاثا ، ولو قرأ الحمد مرّة ، ثمّ قال في آخرها بلفظه : عشرا لم يكن قارئا لها عشرا.

ص: 684


1- مستدرك الوسائل : الباب 22 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 9 ، وفيه : فإنهن ذوات بعول.

وقد أجمعت الأمة على أنّ الملاعن لو قال في شهادته أشهد باللّه أربعا : أني لمن الصادقين ، لم يكن شاهدا أربع مرّات على الحقيقة ، حتى يفصّلها.

ولو أنّ حاجا رمى بسبع حصيات في دفعة واحدة ، لم يجزئه ذلك عن سبع متفرقات ، فهذا بيّن واضح لمن تدبره ، وأعطى النظر حقّه ، وحرّره ، وأنصف عن نفسه ، ووزن الحقّ بميزان عقله ، وترك التقليد جانبا ، وحب المذهب والنشو والعادة وراء ظهره ، واعتقد المعاد والحساب وسؤال منكر ونكير في رمسه ، واستدرك في يومه ما فرط في أمسه.

وأيضا فقد قال اللّه تعالى ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) (1) فأمر بإحصاء العدّة ، ثبت أنّه أراد في كل قرء طلقة ، لأنّه لو أمكن الجمع بين الثلاث ، لما احتاج إلى إحصاء العدّة في غير المدخول بها وذلك خلاف الظاهر.

فإن قيل : العدد إذا ذكر عقيب الاسم ، لم يقتض التفريق ، مثاله إذا قال له على مائة درهم مرتان ، وإذا ذكر عقيب الفعل اقتضى التفريق ، مثاله ادخل الدار مرتين ، أو ضربته مرتين ، والعدد في آية الطلاق وهو قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) عقيب الاسم لا الفعل.

قلنا : قوله « الطَّلاقُ مَرَّتانِ » ، يعني طلّقوا مرّتين ، لأنّه لو كان خبرا لكان كذبا ، فالعدد مذكور عقيب فعل ، لا اسم فهذا آخر الجواب ، أحببت إيراده هاهنا لئلا يشذ.

وقد روى أصحابنا روايات متظاهرة بينهم ، متناصرة ، وأجمعوا عليها قولا وعملا ، أنّه إن كان المطلّق مخالفا ، وكان ممن يعتقد وقوع الطلاق الثلاث ، لزمه ذلك ، ووقعت الفرقة به ، وانّما لا يقع الفرقة إذا كان الرجل معتقدا للحقّ.

فأمّا الشرائط الخاصّة ، فهو الحيض ، لأنّ الحائض لا يقع طلاقها إذا كان

ص: 685


1- الطلاق : 1.

الرجل حاضرا ، وبكون قد دخل بها ، فإن طلّقها وهي حائض ، كان طلاقه باطلا ، وكذلك إن طلّقها في طهر قد قربها فيه ، لم يقع الطلاق.

ومتى لم يكن دخل بالمرأة وطلّقها وقع الطلاق وإن كانت حائضا.

وكذلك إن كان عنها غائبا بمقدار ما يعرف من حالها وعادتها ، وقع طلاقه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : شهرا فصاعدا ، وقع طلاقه إذا طلّقها وإن كانت حائضا (1).

وليس الاعتبار بالشهر الذي اعتبره رحمه اللّه ، بل الاعتبار بما يعرفه من حال امرأته ، إمّا شهرا أو شهرين ، أو ثلاثة ، على قدر عادتها.

وقد حقّق هذا في استبصاره (2) ، ورجع عن إطلاق ما في نهايته ، في المكان الذي أشرنا إليه.

ومتى عاد من غيبته ، وصادف امرأته حائضا ، وإن لم يكن واقعها لم يجز له طلاقها حتى تطهر ، لأنّه صار حاضرا ، ولا يجوز للحاضر أن يطلّق امرأته وهي حائض بغير خلاف بيننا ، فهذا فقه المسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد ، غير أنّه لا يصل إليها ، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته ، فإذا أراد طلاقها ، فليصبر إلى أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها إن شاء (3).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وإجماعنا منعقد عليه ، أنّه لا يجوز للحاضر أن يطلّق زوجته المدخول بها وهي حائض ، بغير خلاف بيننا على ما قدّمناه ، إذا كانت مستقيمة الحيض ، غير مسترابة ، ولو بقي لا يقربها ولا يطؤها سنة ، أو أكثر من ذلك ، وانّما الاستبراء لمن لا تحيض ، وفي سنّها من

ص: 686


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- الإستبصار : ج 3 ، باب طلاق الغائب ، ص 295 - 294.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

تحيض ، على ما بيّناه ، وحمل الحاضر والحاضرة في البلد على تلك قياس ، وهو باطل عندنا ، والأصل الزوجية ، فمن أوقع الطلاق ، يحتاج إلى دليل قاهر ، وما ذكره شيخنا خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، كما أورده أمثاله ممّا لا يعمل عليه ولا يعرج عليه ولو لا إجماعنا على طلاق الغائب ، وإن كانت زوجته حائضا لما صحّ ، فلا نتعدّاه ونتخطاه.

وقد قلنا : إنّه يستحب الإشهاد على المراجعة ، فإن لم يفعل كان جائزا.

وأدنى ما يكون به المراجعة أن ينكر طلاقها ، أو يقول ما نويت الطلاق ، فيقبل قوله في الحكم ما لم تخرج من العدّة ، فإن خرجت من العدّة لم يقبل منه في الحكم.

أو يقبّلها ، أو يلمسها ، فإن بذلك أجمع ترجع إليه ، وتنقطع العدّة.

وانّما يستحب الإشهاد ، لأنّه متى لم يشهد على المراجعة ، وأنكرت المرأة ذلك ، وشهد لها بالطلاق شاهدان ، فإنّ الحاكم يبينها منه ، ولم يكن له عليها سبيل ، فإن لم يشهد في حال المراجعة ، ثمّ أشهد بعد ذلك ، كان أيضا جائزا.

ومتى أنكر الطلاق ، وكان ذلك قبل انقضاء العدة ، كان ذلك أيضا رجعة على ما قدّمناه ، فإن كان ذلك بعد انقضاء العدّة ، فلا سبيل له عليها ، ولا يقبل قوله على ما ذكرناه.

ومتى راجعها لم يجز له أن يطلّقها تطليقة أخرى طلاق العدّة ، إلا بعد أن يواقعها ، ويستبرئها بحيضة ، فإن لم يواقعها ، أو عجز عن وطئها ، وأراد طلاقها ، طلّقها طلاق السنّة ، على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه.

ومتى واقعها وارتفع حيضها ، وهي في سنّ من تحيض ، وأراد طلاقها ، استبرأها بثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك.

وإذا أراد أن يطلّق امرأة قد دخل بها ، ولم تكن قد بلغت مبلغ النساء ، ولا مثلها في السن قد بلغ ، وحدّ ذلك دون تسع سنين ، فليطلّقها أي وقت شاء ، فإذا طلّقها فقد بانت منه في الحال ، على الصحيح من المذهب.

ص: 687

وقال بعض أصحابنا : يجب عليها العدّة ثلاثة أشهر ، وهو اختيار السيد المرتضى.

والأول أظهر بين الطائفة ، وعملهم عليه ، وفتاويهم به ، وصائرة إليه ، وقد تكلّمنا في باب النكاح (1) في هذه المسألة وبلغنا فيها أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، وقلنا : إن قيل إنّ عندكم إذا دخل بالمرأة زوجها ، ولم تبلغ تسع سنين ، فقد حرمت عليه أبدا ، فكيف يطلّقها؟ وأزلنا الشبهة المعترضة في ذلك بما لا معنى لا عادته (2).

ومتى كان لها تسع سنين فصاعدا ، ولم يكن حاضت بعد ، وأراد طلاقها ، فليصبر عليها ثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك.

وحكم الآئسة من المحيض ، ومثلها لا تحيض ، حكم التي لم تبلغ مبلغ النساء سواء ، في أنّه يطلّقها أيّ وقت شاء ، وحدّ ذلك خمسون سنة على ما قدّمناه.

ومتى كانت آيسة من المحيض ، ومثلها تحيض ، استبرأها بثلاثة أشهر ، ثم يطلّقها بعد ذلك ، وحدّ ذلك إذا نقص سنّها عن خمسين سنة.

وإذا أراد أن يطلّق امرأته ، وهي حبلى مستبين حملها ، فليطلقها ، أي وقت شاء ، بغير خلاف بين أصحابنا ، على خلاف بينهم ، هل الحبلى المستبين حملها تحيض أم لا؟ وأدلّ دليل ، وأوضح قيل ، على أنّها لا تحيض ، إجماعهم على صحّة طلاقها ، سواء كان ذلك في حال رؤية دم ، أو حال نقاء ، فلو كانت تحيض ، ما صحّ طلاقها في حال رؤية الدم ، لأنّ إجماعهم منعقد على أنّ طلاق الحائض لا يقع ، ولا يصحّ ، فيحقق به ما قلناه.

فإذا طلّقها واحدة ، كان أملك برجعتها ما لم تضع ما في بطنها.

فإذا راجعها وأراد طلاقها للسنّة ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له

ص: 688


1- راجع ص 530 من الكتاب.
2- من قوله « فكيف » الى هنا لم يكن في النسخة الأصل وأثبتناه من النسخ الأخر.

ذلك حتى تضع ما في بطنها (1).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لمنعه وجها ، ولا مانعا يمنع منه ، من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع منعقد ، والأصل الصحّة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، مع قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها ) و ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) وغير ذلك من عمومات آيات الطلاق ، وانّما هو خبر واحد ، أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، وقد بيّنا ما في أخبار الآحاد.

فإن أراد طلاقها للعدة واقعها ، ثمّ يطلّقها بعد المواقعة ، فإذا فعل ذلك ، فقد بانت منه بتطليقتين ، وهو أملك برجعتها ، فإن راجعها وأراد طلاقها ثالثة ، واقعها ثمّ يطلّقها ، فإذا طلّقها الثالثة ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

ولا يجوز لها أن تتزوج حتى تضع ما في بطنها ، فإن كانت حاملا باثنين ، فإنّها لا تبين من الرجل إلا بعد وضع الأخير منهما ، لقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (2) فإذا وضعت الأول ، ما وضعت حملها جميعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كانت حاملا باثنين ، فإنّها تبين من الرجل عند وضعها الأوّل ، ولا تحل للأزواج حتى تضع جميع ما في بطنها (3).

وهذا قول عجيب ، لأنّه لو كانت قد بانت من الرجل بوضعها الأول ، وانقضت العدّة ، لحلّت للأزواج ، فلو لم تكن بعد في العدّة ، لما كان التزويج محظورا ، ولا انتظار وضع جميع ما في بطنها معتبرا في تحليل العقد عليها لغيره.

إلا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا طلّقها وهي حامل ، فولدت توأمين بينهما أقلّ من ستة أشهر ، فإنّ عدّتها لا تنقضي حتى تضع الثاني منهما ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والشافعي ، وعامة أهل العلم ، وقال عكرمة : ينقضي عدّتها بوضع الأول ، وقد روى أصحابنا أنّها تبين بوضع الأول ، غير أنّها لا تحلّ

ص: 689


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
2- الطلاق : 4.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

للأزواج حتى تضع الثاني (1) ، والمعتمد الأول ، دليلنا : قوله ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) وهذه ما وضعت حملها (2) ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الحامل عدّتها أقرب الأجلين ، من جملتهم ابن بابويه (3).

ومعنى ذلك ، أنّها إن مرّت بها ثلاثة أشهر فقد انقضت عدّتها ، ولا تحلّ للأزواج حتى تضع ما في بطنها ، وإن وضعت الحمل بعد طلاقه بلا فصل ، بانت منه ، وحلّت للأزواج ، وهذا لمذهب في العجب كالأول.

والصحيح من الأقوال ، والأظهر بين الطائفة ، أنّ عدّتها بوضع الحمل ، يعضد ذلك قوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) .

وإذا أراد الرجل طلاق زوجته وهو غائب عنها ، فإن خرج إلى السفر وقد كانت طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع ، جاز له أن يطلّقها أيّ وقت شاء ، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع ، فلا يطلّقها حتى يمضى زمان يعرف من حالها أنّها حاضت وطهرت فيه ، وذلك بحسب ما يعرف من عادتها في حيضها ، إمّا شهرا ، أو شهرين ، أو ثلاثة أشهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فلا يطلّقها حتى يمضى ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، أو أربعة أشهر ، ثمّ : يطلّقها بعد ذلك أيّ وقت شاء (4).

إلا أنّه رحمه اللّه ، حرّر مَا أجمله في كتابه الإستبصار ، في الجزء الثالث ، فقال في باب طلاق الغائب ، لمّا أورد الأخبار ، واختلفت في التحديد ، فقال :

الوجه في الجمع بين هذين الخبرين ، والخبر الأوّل ، أنّ نقول : الحكم يختلف باختلاف عادة النساء في الحيض ، فمن علم من حال امرأته أنّها تحيض في كلّ

ص: 690


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب العدد.
2- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 8.
3- المقنع المطبوع ضمن الجوامع الفقهية ص 29.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

شهر حيضة ، يجوز له أن يطلّق بعد انقضاء الشهر ، ومن يعلم أنّها لا تحيض إلا كلّ ثلاثة أشهر ، أو خمسة أشهر ، لم يجز له أن يطلّقها إلا بعد مضي هذه المدّة ، فكان المراعى في جواز ذلك ، مضي حيضة ، وانتقالها إلى طهر لم يقربها فيه بجماع ، وذلك يختلف على ما قلناه (1).

هذا آخر كلامه رحمه اللّه في باب طلاق الغائب في الاستبصار ، ونعم ما قال وحرّر ، وأوضح المسألة تغمده اللّه برحمته ، وحشره مع أئمته.

فإن قيل : إذا مضى ثلاثة أشهر بيض فلا حاجة في الاستبراء إلى أكثر منها ، لأنّ بها تخرج من العدّة ، وإن كانت من ذوات الأقراء المستقيمة الحيض.

قلنا : الاستبراء غير العدّة ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ من وطأ زوجته في طهرها ، فلا يجوز له أن يطلّقها فيه حتى تحيض وتطهر ، ثمّ يطلّقها في الطهر الذي لم يقربها فيه بجماع ، فإذن تحقق ما قلناه ، وإن كان أكثر من ثلاثة أشهر.

ومتى أراد الغائب أن يطلّق امرأته ، وراعى ما قلناه ، فليطلّقها تطليقة واحدة ، ويكون هو أملك برجعتها ما لم تخرج من عدّتها ، إمّا بالأقراء إن كانت مستقيمة الحيض ، أو بالشهور ، إن كانت مسترابة ، وفي سنّها من تحيض ، وهي ثلاثة أشهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويكون هو أملك برجعتها ما لم يمض لها ثلاثة أشهر ، وهي عدّتها إذا كانت من ذوات الحيض (2).

ولا أرى لقوله هذا وجها يستند إليه ، ولا دليلا يعوّل عليه ، وكيف صارت هذه على كلّ حال تعتد بالأشهر الثلاثة ، مع قوله تعالى ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (3) ولا خلاف بيننا أنّها إذا شهد لها شهود بالطلاق وتاريخه ، وكان قد مضى لها من يوم طلّقها ثلاثة قروء ، فإنّها تحل للأزواج.

فإذا أراد الغائب الذي طلّق زوجته مراجعتها قبل خروجها من عدّتها ،

ص: 691


1- الاستبصار : ج 3 ، ص 295 ، ذيل الحديث 6 ، من باب طلاق الغائب.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.
3- البقرة : 228.

أشهد على المراجعة ، كما أشهد على الطلاق ، فإن لم يشهد على المراجعة ، وبلغ الزوجة الطلاق ، فاعتدت وتزوّجت ، لم يكن له عليها سبيل ، وكذلك إن انقضت عدّتها ولم تتزوج ، لم يكن له عليها سبيل إلا بعقد مستأنف.

ومتى طلّقها وأشهد على طلاقها ، ثمّ قدم أهله وأقام معها ، ودخل بها ، وأتت المرأة بولد ، ثمّ ادّعى أنّه كان طلّقها ، لم يقبل قوله ، ولا بينته ، وكان الولد لاحقا به.

وفقه ذلك ، أنّ ظاهر حاله ودخوله عليها ووطأه لها والمقام عندها بعد رجوعه ، أنّه راجعها ، وانّها زوجته ، فلا يلتفت إلى دعواه ولا بيّنته بالطلاق ، لأنّ له مراجعتها بعد طلاقه ، وقد رأيناه مراجعا لها ، وفاعلا جميع ما يفعله الزوج فحكمنا عليه بالظاهر.

ومتى كان عند الرجل أربع نساء ، وهو غائب عنهنّ ، وطلّق واحدة منهنّ ، لم يجز له أن يعقد على أخرى إلا بعد أن يمضي تسعة أشهر ، لأنّ في ذلك مدّة الأجلين ، فساد الحيض ووضع الحمل.

هذا إذا كان طلاق المطلّقة أول طلاقها ، أو ثاني طلاقها ، فأمّا إن كان طلاقا ثالثا ، فلا بأس أن يعقد على اخرى بعد طلاقها الثالث بلا فصل ، لأنّها قد بانت منه في الحال ، ولا يكون جامعا بين خمس نساء.

وليس كذلك إذا كان الرجل مسافرا وتحته امرأة واحدة ، وطلّقها طلاقا شرعيا ، وأراد أن يعقد على أختها في حال سفره ، فإذا انقضت عدّتها على ما يعلمه من عادتها ، فله العقد على أختها ، ولا يلزمه أن يصبر تسعة أشهر ، لأنّ القياس عندنا باطل ، وكذلك التعليل ، فليلحظ الفرق بين المسألتين ويتأمّل.

وكذلك إذا كانت المطلّقة التي هي الرابعة غير مدخول بها ، أو مدخولا بها ، وهي لم تبلغ تسع سنين ، أولها من السنين أكثر من خمسين سنة ، أو خمسون وقد تغيّرت عادتها ، فإنّ هاتين المرأتين لا يجب عليهما العدّة على الأظهر من الأقوال ، فليلحظ ذلك.

ص: 692

ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد ، غير أنّه لا يصل إليها ، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته إذا أراد طلاقها ، وقد قدّمنا حكمه ، فلا وجه لا عادته ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والصحيح أنّ من كان حاضرا في البلد ، لا يجوز له أن يطلّق زوجته وهي حائض ، بلا خلاف بين أصحابنا.

وإذا أراد الرجل أن يطلّق المسترابة التي لا تحيض وفي سنّها من تحيض ، بعد دخوله بها ، صبر عليها مستبرئا لها بثلاثة ، أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك أي وقت شاء.

وقد روي أنّ الغلام إذا طلّق وكان ممّن يحسن الطلاق ، وقد أتى عليه عشر سنين فصاعدا ، جاز طلاقه ، وكذلك عتقه ، وصدقته ، ووصيته ، ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، أو لا يكون ممن يحسن الطلاق ، فإنّه لا يجوز طلاقه ، ولا يجوز لوليه أن يطلّق عنه (2).

والأولى ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها مخالفة لأصول المذهب ، والأدلة المتظاهرة ، ولقول الرسول عليه السلام : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » (3) ، ورفع القلم عنه يدلّ على أنّه لا حكم لأفعاله.

وأيضا فقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل عليها ، ولا يلتفت إليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، فعلى جهة الإيراد دون الاعتقاد ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل هو عليه.

ثمّ قال شيخنا في نهايته : ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، أو لا يكون ممّن يحسن الطلاق ، فإنّه لا يجوز طلاقه ، ولا يجوز لوليه أن يطلّق عنه ، اللّهم إلا أن

ص: 693


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.
2- الوسائل : الباب 22 من أبواب مقدمات الطلاق ، ح 2 و 5 و 6 و 7.
3- الوسائل : الباب 4 من أبواب مقدمات العبادات ح 11 ولفظه هكذا : اما علمت ان القلم يرفع عن ثلاثة ، عن الصبيّ حتى يحتلم.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

يكون قد بلغ ، وكان فاسد العقل ، فإنّه والحال ما ذكرناه جاز طلاق الولي عنه (1).

قال محمد بن إدريس : إذا كان يعقل أوقات الصلوات ، فإنّه يطلّق بنفسه ، ولا خيار لزوجته ، وإن لم يعقل ذلك كان لزوجته الخيار ، فإن اختارت الفسخ ، فلا حاجة إلى طلاق الولي ، وإن لم تفسخ فلا يجوز للولي أن يطلّق عنه ، لقول النبيّ عليه السلام : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (2).

والحر إذا كان تحته أمة ، فطلاقها تطليقتان ، لأنّ المعتبر في الطلاق بالزوجة إن كانت حرة ، فطلاقها ثلاث ، سواء كانت تحت حر ، أو عبد ، وإن كانت أمة فطلاقها اثنتان ، سواء كانت تحت حر ، أو عبد.

فإذا طلّقها طلقتين ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

فإن وطأها مولاها ، لم يكن ذلك محللا للزوج من وطئها ، حتى يدخل في مثل ما خرجت منه من نكاح.

فإن اشتراها الذي كان زوجها ، لم يجز وطؤها حتى يزوّجها رجلا ، ويدخل بها ، ويكون التزويج دائما ، ويطأها في قبلها ، ثمّ يطلّقها ، أو يموت عنها ، وتنقضي العدّة ، فإذا حصل ذلك جاز له حينئذ وطؤها بالملك.

ومتى طلّقها واحدة ، ثم اعتقت ، بقيت معه على تطليقة واحدة ، فإن تزوجها بعد ذلك ، وطلّقها الثانية ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

والعبد إذا كانت تحته حرة ، فطلاقها ثلاث تطليقات ، على ما بيّناه ، فإن كان تحته أمة ، فطلاقها تطليقتان حسب ما قدّمناه ، فإن طلّقها واحدة ثم أعتقا (3) بقيت معه على تطليقة واحدة ، على ما رواه أصحابنا في الأخبار (4).

ص: 694


1- النهاية كتاب الطلاق باب كيفية أقسام الطلاق.
2- كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل ، ح 27781 ، ج 9 ، ص 640. راجع ما قدّمناه ذيل ص 600.
3- ج : أعتق.
4- الوسائل : الباب 28 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ح 5 - 4 - 3 - 2.

وتحقيق الفتوى بذلك ، لي فيه نظر ، فان كان على الرواية إجماع ، عملنا بها ، وإلا طلبنا دليلا غيره ليعمل به.

فإن أعتقا جميعا قبل أن يطلّقها شيئا ، كان حكمها حكم الحرة من كونها على ثلاث تطليقات.

وقد قلنا أنّ طلاق المكره لا يقع ، وكذلك سائر عقوده بغير خلاف بين أصحابنا ، وروي عن الرسول عليه السلام أنّه قال : لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (1) بكسر الالف وسكون الغين المعجمة ، قال أبو عبيد القسم بن سلام الإغلاق : الإكراه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث في كتاب الطلاق : مسألة ، الاستثناء بمشية اللّه تعالى يدخل في الطلاق والعتاق ، سواء كانا مباشرين ، أو معلقين بصفة ، وفي اليمين بهما ، وفي الإقرار ، وفي اليمين باللّه ، فيوقف الكلام ، ومن خالفه لم يلزمه حكم ذلك ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وطاوس ، والحكم ، وقال مالك ، والليث بن سعد : لا يدخل في غير اليمين باللّه ، وهو ما تنحل بالكفارة ، وهو اليمين باللّه فقط ، ثمّ استدلّ على ما اختاره ، فقال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت العقد ، وإذا عقّب كلامه بلفظ إن شاء اللّه في هذه المواضع ، فلا دليل على زوال العقد في النكاح ، أو العتق ، ولا على تعلّق حكم بذمته ، فمن ادّعى خلافه فعليه الدلالة ، وروى ابن عمر ، أنّ النبي عليه السلام ، قال : من حلف على يمين ، وقال في أثرها إن شاء اللّه ، لم يحنث فيما حلف عليه (2) ، وهو على العموم في كلّ الأيمان باللّه وبغيره (3).

قال محمّد بن إدريس : لا يدخل الاستثناء بمشية اللّه تعالى عندنا بغير خلاف بين أصحابنا معشر الشيعة الإمامية ، إلا في اليمين باللّه حسب ، لأنّه لا أحد من

ص: 695


1- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح ، والطلاق والعدة ص 339. سنن ابن ماجة : الباب 16 من كتاب الطلاق ح 2047 ).
2- التاج : ج 2 كتاب الايمان والنذور ص 79 ، باختلاف يسير.
3- الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة 53.

أصحابنا قديما وحديثا يتجاسر ، ويقدم على أنّ رجلا أقرّ عند الحاكم بمال لرجل آخر ، وقال بعد إقراره إن شاء اللّه ، لا يلزمه ما أقرّ به.

فأمّا شيخنا أبو جعفر ، فهو محجوج بقوله ، فإنّه رجع عمّا حكيناه عنه في الجزء الثالث أيضا في كتاب الأيمان ، فقال : مسألة ، لا يدخل الاستثناء بمشية اللّه تعالى إلا في اليمين فحسب ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة : يدخل في اليمين باللّه ، وبالطلاق وبالعتاق ، وفي الطلاق والعتاق ، وفي النذور والإقرارات ، دليلنا أنّ ما ذكرناه مجمع على دخوله فيه ، وما قالوه ليس عليه دليل (1) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : اختار رضي اللّه عنه في المسألة الأولى مذهب أبي حنيفة ، واختار في المسألة الثانية مذهب مالك ، ثم استدلّ على صحّة المسألتين.

ولعمري إنّ الأدلة لا تتناقض ، وانّما حداه على ذلك الدخول مع القوم في فروعهم وكلامهم ، ولو لزم طريقة أصحابه من التمسّك بأصول مذهبهم وترك فروع مخالفيه ، كان أولى وأحوط وأسلم له ، ولمن يقف على كتبه وتصنيفه ممن يقلّده ويتبع أقواله نسأل اللّه التوفيق.

باب اللعان والارتداد

اللعان مشتق من اللعن ، وهو الإبعاد ، والطرد ، يقال : لعن اللّه فلانا ، يعني أبعده وطرده ، فسمّي المتلاعنان بهذا الاسم ، لما يتعقب اللعن من المأثم والأبعاد والطرد ، فإنّ أحدهما لا بدّ أن يكون كاذبا فيلحقه المأثم ، ويتعلّق عليه الإبعاد والطرد من رحمة اللّه تعالى ورضاه.

فإذا ثبت هذا فثبوت حكمه في الشرع بالكتاب والسنّة والإجماع ، قال اللّه تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ

ص: 696


1- الخلاف : كتاب الايمان ، المسألة 26.

فَشَهادَةُ ) (1) إلى آخر الآيات ، فذكر تعالى اللعان وكيفيته وترتيبه ، فموجب القذف عندنا في حقّ الزوج الحدّ ، وله إسقاطه باللعان ، وموجب القذف في حقّ المرأة الحدّ ، ولها إسقاطه باللعان.

ويقف صحّة اللعان بين الزوجين على أمور ، منها أن يكونا مكلّفين ، سواء كانا أو واحد منهما من أهل الشهادة والحرّية (2) أم لا ، إذا كان اللعان بنفي الولد ، فأمّا إذا كان اللعان بزنا ، أضافه الزوج القاذف إلى مشاهدة ومعاينة ، فلا يثبت إلا بين الحرّ والحرّة ، والمسلم والمسلمة ، لأنّ بين أصحابنا في ذلك خلافا ، فذهب شيخنا المفيد في مقنعته إلى أنّ اللعان لا يثبت بين الحرّ والمملوكة ، ولا بين المسلم والكافرة (3).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان الزوج مملوكا والمرأة حرّة ، أو يكون الرجل حرا والمرأة مملوكة ، أو يهودية ، أو نصرانية ، ثبت بينهما اللعان (4).

وأطلق كلّ واحد منهما ما ذهب إليه ، ويمكن العمل بقول كلّ واحد منهما على ما حرّرناه ، فنقول لا يثبت بينهما اللعان إذا كان بالقذف ، وادّعى المشاهدة للزنا. ويثبت إذا كان بنفي الولد على ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، وما اخترناه وذهبنا إليه ، اختاره شيخنا أبو جعفر في استبصاره لما اختلفت الأخبار عليه ، فحرّره على ما حرّرناه.

فقال في الجزء الثالث من الإستبصار ، في باب أنّ اللعان ، يثبت بين الحرّ والمملوكة ، والحرّة والمملوك ، فأورد الأخبار في ذلك ، ثمّ جاء خبر أورده في آخر الأخبار مخالف لتلك الأخبار ، فقال رحمه اللّه : فالوجه في هذا الخبر أحد شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامّة على ما قدّمنا القول فيه ، والآخران نقول بمجرد القذف لا يثبت اللعان بين اليهودية

ص: 697


1- النور : 6.
2- ل : أو الجزية.
3- المقنعة : أبواب النكاح باب اللعان ، ص 542.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب اللعان والارتداد.

والمسلم ، ولا بينه وبين الأمة ، وانّما يثبت بمجرد القذف اللعان في الموضع الذي إن لم يلاعن وجب عليه حدّ الفرية ، وذلك غير موجود في المسلم مع اليهودية ، ولا مع الأمة ، لأنّه لا يضرب حدّ القاذف إذا قذفها ، ولكن يعزّر على ما نبيّنه في كتاب الحدود إن شاء اللّه تعالى ، فكان اللعان يثبت بين هؤلاء بنفي الولد لا غير (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وبهذا القول أعمل وافتي ، لأنّ اللعان حكم شرعي يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، والأصل براءة الذمة في الموضع الذي نفيناه ، ولا معنا إجماع من طائفتنا على ذلك.

ومنها أن يكون النكاح دواما.

ومنها أن تكون الزوجة مدخولا بها عند بعض أصحابنا.

والأظهر الأصح أنّ اللعان يقع بالمدخول بها وغير المدخول بها لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ ) (2) الآية هذا إذا كان بقذف يدّعي فيها المشاهدة ، فأمّا إذا كان بنفي الولد والحمل ، فلا يقع اللعان بينهما بذلك قبل الدخول ، القول قول الزوج مع يمينه ، ولا يلحق الولد به بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ولا يحتاج في نفيه إلى لعان ، فعلى هذا التحرير من قال من أصحابنا لا يصح اللعان إلا بعد الدخول ، يريد بنفي الولد ، ومن قال يصح اللعان قبل الدخول ، يريد بالقذف وادّعاء المشاهدة له ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وحكم المطلّقة طلاقا رجعيا إذا كانت في العدّة كذلك.

ومنها أن لا تكون صمّاء ولا خرساء.

ومنها أن يقذفها الزوج بزنا ، يضيفه إلى مشاهدة ، بأن يقول : رأيتك تزنين ، ولو قال : يا زانية لم يثبت بينهما لعان ، أو ينكر حملها أو يجحد ولدها.

ولا يقيم أربعة من الشهود بما قذفها به.

ص: 698


1- الاستبصار : أبواب اللعان ، باب ان اللعان يثبت بين الحر والمملوكة ، ج 3 ، ص 373.
2- النور : 6.

وان تكون منكرة لذلك.

وصفة اللعان أن يجلس الحاكم بينهما ، مستدبر القبلة ، ويوقفهما بين يديه المرأة عن يمين زوجها ، موجهين إلى القبلة ، ويقول الرجل ، أشهد باللّه انّي فيما ذكرته عن هذه المرأة من الفجور لمن الصادقين ، فإذا قال ذلك أمره أن يعيد تمام أربع مرات ، فإذا شهد الرابعة قال له الحاكم : اتق اللّه عزوجل ، واعلم أنّ لعنة اللّه شديدة ، وعذابه أليم ، فإن كان حملك على ما قلت غيرة ، - بفتح الغين - أو سبب من الأسباب ، فراجع التوبة ، فإنّ عقاب الدنيا أهون من عقاب الآخرة.

والبدأة بالرجل واجبة مراعاة.

والترتيب في الشهادة ولفظها أيضا مراعى.

فإن بدأ بلعان المرأة أولا لا يعتد بذلك.

فإن رجع عن قوله في قذفه جلده حدّ المفتري.

وإن أصرّ على ما ادّعاه قال له قل ، ان لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين.

فإذا قالها أقبل على المرأة ، وأقامها ، لأنّها تكون قاعدة عند لعان زوجها ، وقال بعض أصحابنا تكون قائمة عند لعان الزوج.

والأول الأظهر ، وهو الذي اختاره شيخنا في مبسوطة (1).

وقال لها ما تقولين فيما رماك به. فإن اعترفت ، رجمها ، لأنّها بتصديقها له في أربع شهاداته ، كأنّها قد أقرّت أربع مرّات بالزنا ، وإجماع أصحابنا أيضا عليه.

وإن أقامت على الإنكار ، قال لها : قولي أشهد باللّه أنّه فيما رماني به لمن الكاذبين. فإذا قالت ذلك طالبها بإتمام أربع شهادات كذلك. فإذا شهدت الرابعة ، وعظها كما وعظ الرجل ، فإن اعترفت رجمها ، وإن أصرّت على الإنكار ، قال لها : قولي إن غضب اللّه عليّ إن كان من الصادقين. فإذا قالت

ص: 699


1- المبسوط : ج 5 ، كتاب اللعان ، ص 198.

ذلك فرّق بينهما الحاكم ، ولم تحل له أبدا ، على ما قدّمناه (1).

ولفظ الشهادة وعدد الشهادات ، والترتيب واجب في اللعان وشرط فيه ، على ما قدّمناه ، فلو قال أحلف باللّه أو أقسم باللّه ، أو نقّص شيئا من العدد ، أو بدأ الحاكم بالمرأة أوّلا ، لم يعتدّ باللعان ، ولم يحصل الفرقة به ، وإن حكم الحاكم بذلك ، لأن ما قلناه مجمع على صحّته ، وليس على صحّة ما خالفه دليل ، ولأنّ ما عدا ما ذكرناه مخالف لظاهر القرآن ، لأنّه تعالى ذكر لفظ الشهادة والعدد والترتيب ، من حيث أخبر أنّها تدرأ عن نفسها العذاب بلعانها ، والمراد بالعذاب عندنا الحدّ ، وعند أبي حنيفة الحبس ، ولا يثبت واحد منهما إلا بعد لعان الزوج ، فصحّ ما قلناه.

فإذا استوفى اللعان ، الحاكم بينهما فرّق بينهما ، ولم تحلّ له أبدا ، وكان عليها العدّة من وقت لعانها.

ومتى نكل الرجل عن اللعان قبل استكمال الشهادات ، كان عليه الحدّ إذا كان قذفا ، فإن أكذب نفسه بعد مضى اللعان ، لم يكن عليه شي ء ، ولا ترجع إليه امرأته.

وإن اعترف بالولد ، إن كان اللعان بنفيه بعد انقضاء اللعان ، لم يكن عليه شي ء ، ولا ترجع إليه امرأته ، وإن اعترف بالولد قبل انقضاء اللعان ، الحق به وورثه أبوه ، وهو يرثه ، وليس عليه الحدّ.

وإن اعترف به بعد مضى اللعان الحق به ، ويرثه ولده ، وهو لا يرث ولده ، ويكون ميراث الولد لأمه ، أو لمن يتقرب إليه من جهتها ، دون الأب ومن يتقرب إليه به ، ولا يجب عليه الحدّ ، وروي أنّه يجب عليه الحدّ (2) ، والأظهر ما ذكرناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة.

ومتى اعترفت المرأة بالزنا قبل شروع الزوج في اللعان ، فلا ترجم ، إلا أن

ص: 700


1- ق ول : فيما مضى من الكتاب.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب اللعان.

تعترف وتقر أربع مرات.

ومتى نكلت عن اللعان قبل استيفاء شهاداتها ولعانها ، كان عليها الرجم.

فإن اعترفت بالفجور بعد مضي اللعان ، لم يكن عليها شي ء ، إلا أن تقر أربع مرّات على نفسها بالفجور ، فإذا أقرّت أربع مرّات أنّها زنت في حال إحصانها ، كان عليها الرجم ، وإن كانت غير محصن كان عليها الحدّ مائة جلدة.

وإذا قذف امرأته بما يجب فيه الملاعنة على ما قدّمناه ، وكانت خرساء أو صمّاء لا تسمع شيئا ، فرّق بينهما وجلد الحدّ ، إن قامت عليه البيّنة ، وإن لم يقم بيّنة به لم يكن عليه حدّ ، ولم تحلّ له أبدا ، ولم يثبت أيضا بينهما لعان.

فأمّا إن كان الزوج أخرس والمرأة غير خرساء ، فقد قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، الأخرس إذا كان له إشارة معقولة ، أو كناية مفهومة ، يصحّ قذفه ، ولعانه ، ونكاحه ، وطلاقه ، ويمينه ، وسائر عقوده ، ثمّ استدلّ ، فقال : دليلنا قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) (1) الآية ، ولم يفرّق ، وأيضا إجماع الفرقة وأخبارهم على ذلك (2) هذا آخر كلامه.

ولا أقدم على أنّ الأخرس المذكور يصحّ لعانه ، لأنّ أحدا من أصحابنا غير من ذكرناه لم يوردها في كتابه ، ولا وقفت على خبر بذلك ، ولا إجماع عليه ، والقائل بهذا غير معلوم ، فأمّا الآية التي استشهد شيخنا بها ، فالتمسّك بها بعيد ، لأنّه لا خلاف أنّه غير قاذف ولا رام على الحقيقة ، فالنطق منه بالشهادات في حال اللعان متعذر ، والأصل براءة الذمة. واللعان حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وأيضا لو رجع عن اللعان عند من جوّزه له ، وجب عليه الحدّ ، والرسول عليه السلام قال : « ادرءوا الحدود بالشبهات » (3) ومن المعلوم أنّ في إيمائه وإشارته

ص: 701


1- النور : 6.
2- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 8.
3- الوسائل : الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

بالقذف شبهة أنّه هل أراد به القذف أو غيره؟ وذلك غير معلوم يقينا ، كالناطق به بلا خلاف ، وإن قلنا يصحّ منه اللعان كان قويا معتمدا ، لأنّه يصحّ منه الإقرار ، والأيمان ، وأداء الشهادات ، وغير ذلك من الأحكام.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا طلّق الرجل امرأته قبل الدخول بها ، فادّعت عليه أنّها حامل منه ، فإن أقامت البيّنة أنّه أرخى سترا ، أو خلا بها ، ثمّ أنكر الولد ، لاعنها ، ثمّ بانت منه ، وعليه المهر كملا ، وإن لم تقم بذلك بيّنة ، كان عليه نصف المهر ، ووجب عليها مائة سوط ، بعد أن يحلف باللّه أنّه ما دخل بها (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : ما ذكره رحمه اللّه ، ذهابا إلى قول من يذهب إلى أنّ الخلوة بمنزلة الدخول ، والأظهر والأصح عند المحصّلين من أصحابنا أنّ الخلوة وإرخاء الستر لا تأثير لهما ، والقول قول الزوج ، ولا يلزمه سوى نصف المهر ، ولا لعان بينهما.

وإلى هذا يذهب شيخنا في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب الصداق ، فقال : مسألة ، إذا طلّقها بعد أن خلا بها ، وقبل أن يمسّها ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، فذهبت طائفة إلى أنّ وجود الخلوة وعدمها سواء ، وترجع عليه بنصف الصداق ، ولا عدّة عليها (2).

وهو الظاهر من روايات أصحابنا (3) ، ثم استدلّ بأدلة ظاهرة قوية على صحّة ذلك ، وقد أوردنا نحن ذلك في كتابنا هذا في كتاب الصداق (4) ، رجحنا القول في ذلك.

وإذا انتفى الرجل من ولد امرأته الحامل منه ، جاز أن يتلاعنا ، إلا أنّها إن اعترفت ونكلت عن الشهادات ، لم يقم عليها الحدّ ، إلا بعد وضع ما في بطنها.

وإذا قذف الرجل امرأته فترافعا إلى الحاكم ، فماتت المرأة قبل أن يتلاعنا ،

ص: 702


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب اللعان والارتداد.
2- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 42.
3- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور.
4- راجع ص 584 من الكتاب.

فقد ماتت على حكم الزوجية ، ويرثها الزوج ، ويرث وارثها من جهة النسب الحدّ على الزوج ، لان حد القذف عندنا موروث ، لأنّه من حقوق الآدميين ، إلا أنّه لا يرثه إلا ذوو الأنساب دون ذوي الأسباب ، فإن عفا الوارث إلا واحدا ، استحقّه جميعه ، لأنّه لا يتبعض.

وقد روي أنّه إذا قذف الرجل امرأته ، فترافعا إلى الحاكم ، فماتت المرأة قبل أن يتلاعنا ، فإن قام رجل من أهلها مقامها ولا عنه ، فلا ميراث له ، وإن أبى أحد من أوليائها أن يقوم مقامها ، أخذ الزوج الميراث ، وكان عليه الحدّ ثمانين سوطا (1) أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ، ولم يوردها غيره من أصحابنا ، ولا أودعها كتابه ، ولا ضمّنها تصنيفه ، لا شيخنا المفيد ، ، ولا السيد المرتضى ، ولا غيرهما من الجلّة المشيخة المتقدّمين.

وشيخنا أبو جعفر قد لوّح بالرجوع ، بل صرّح عما أورده في نهايته ، في مبسوطة ، ومسائل خلافه ، فقال في مبسوطة : الأحكام المتعلّقة باللعان أربعة ، سقوط الحدّ عن الزوج ، وانتفاء النسب ، وزوال الفراش ، والتحريم على التأييد ، فهذه الأحكام عند قوم يتعلّق بلعان الزوج ، فإذا وجد منه اللعان بكماله ، سقط الحدّ ، وانتفى النسب ، وزوال الفراش ، وحرمت المرأة على التأييد ، ويتعلّق به أيضا وجوب الحدّ على المرأة ، فأمّا لعان المرأة ، فإنّه لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزنا عنها ، وحكم الحاكم لا تأثير له في إيجاب شي ء من هذه الأحكام ، فإذا حكم بالفرقة فإنّما تنعقد (3) الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج ، لا أنّه يبتدئ إيقاع فرقةَ ، وقال قوم - وهو الذي يقتضيه مذهبنا - : إنّ هذه الأحكام لا تتعلّق إلا بلعان الزوجين معا ، فما لم يحصل اللعان بينهما ، فإنّه لا يثبت شي ء من ذلك (4) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة.

ص: 703


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب اللعان ، ح 1.
2- النهاية ، كتاب الطلاق ، باب اللعان ، والارتداد.
3- ل. ق : تنفذ.
4- المبسوط : ج 5 ، كتاب اللعان ، ص 199.

وقال في مسائل خلافه : مسألة إذا قذف الرجل زوجته ، ووجب عليه الحدّ ، فأراد اللعان ، فمات القاذف أو المقذوفة ، انتقل ما كان لها من المطالبة بالحدّ إلى ورثتها ، ويقومون مقامها في المطالبة ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ليس لهم ذلك ، بناه على أصله ، أنّ ذلك من حقوق اللّه ، دون الآدميين ، دليلنا : ما تقدّم من أنّ ذلك من حقوق الآدميين ، فإذا ثبت ذلك فكلّ من قال بذلك ، قال بهذا ولم يفرّق (1) هذا آخر المسألة.

وقال أيضا : مسألة ، إذا لا عن الزوج ، تعلّق بلعانه سقوط الحدّ عنه ، وانتفاء النسب ، وزوال الفراش ، وحرمت المرأة على التأبيد ، ويجب على المرأة الحدّ ، ولعان المرأة لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزنا عنها ، وحكم الحاكم لا تأثير له في إلحاق شي ء من هذه الأحكام ، فإذا حكم بالفرقة ، فإنّما تنفذ الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج ، لا أنّه يبتدئ إيقاع فرقة ، وبهذا قال الشافعي ، وذهبت طائفة إلى أنّ هذه الأحكام تتعلّق بلعان الزوجين معا ، فما لم يوجد اللعان بينهما لم يثبت شي ء منها ، ذهب إليه مالك ، وأحمد وداود ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، فإنّها دالة على ما قلناه ، وروى ابن عباس (2) أنّ النبي عليه السلام قال : المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (3).

هذا آخر استدلاله في مسألته رحمه اللّه ، وهذا مثل ما ذكره في مبسوطة.

وأيضا الرواية التي أوردها في نهايته مخالفة لأصول المذهب ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل بها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

ص: 704


1- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 10.
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، أورده في ذيل ص 348 مرسلا عن البيهقي. ورواه ( في سنن البيهقي ، في كتاب الطلاق ، باب ما يكون بعد التعان الزوج .. ج 2. ص 10 - 409 ) عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : « المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا ». ونحوه عن سهل الساعدي عنه صلى اللّه عليه وآله.
3- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 25.

وأيضا فإنّ اللّه تعالى قال ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) (1) ثمّ قال ( وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ ) (2) وما قال أن يشهد وليّها ، فعلّق تعالى الأحكام بشهادته وشهادتها ، فمن قال : يقوم غيرها مقامها يحتاج إلى دليل.

وأيضا فعندنا أنّها ايمان ، وليس شهادات لقول الرسول عليه السلام : « لو لا الايمان لكان لي ولها شأن » (3) فسمّى اللعان يمينا ، والأيمان عندنا لا يدخلها النيابة بغير خلاف ، فكيف يحلف وليها عنها.

وقال في التبيان : وفرقة اللعان تحصل عندنا بتمام اللعان من غير حكم الحاكم ، وتمام. اللعان انّما يكون إذا تلاعن الرجل والمرأة معا ، وقال قوم : تحصل بلعان الزوج الفرقة ، وقال أهل العراق : لا تقع الفرقة إلا بتفريق الحاكم بينهما ، ومتى رجمت عند النكول ورثها الزوج ، لأنّ زناها لا يوجب التفرقة بينهما ، وإذا جلدت إذا لم يكن دخل بها فهما على الزوجية ، وذلك يدلّ على أنّ الفرقة انّما تقع بلعان الرجل والمرأة معا (4) هذا آخر كلامه في التبيان لتفسير القرآن.

وإذا قال الرجل لامرأته لم أجدك عذراء ، لم يكن عليه الحدّ تاما ، وكان عليه التعزير ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في كتاب اللعان ، فقال : مسألة إذا قال رجل لرجل : زنأت في الجبل ، فظاهر هذا أنّه أراد صعدت في الجبل ، ولا يكون صريحا في القذف ، بل يحمل على الصعود ، فان ادّعى عليه القذف ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن نكل ردت على المقذوف ، فإن حلف حدّ ، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ، ومحمد ، وقال أبو حنيفة : هو قذف بظاهره ، يجب به الحدّ ،

ص: 705


1- النور : 6 - 7.
2- النور : 8.
3- سنن أبي داود : كتاب الطلاق : باب اللعان ، ح 2256. ج 3. ص 278.
4- التبيان : ج 7 ، ص 365 ، ذيل الآية 10 - 9 - 8 - 7 - 6 من سورة النور.

دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، وأيضا قوله زنأت في الجبل ، حقيقته الصعود ، فأمّا الرمي بالزنا فإنّما يقال فيه زنيت ، ولا يقال زنأت ، ألا ترى أنّ القائل يقول زنأت ، أزنو ، زنأ يعني صعدت ، وزنيت أزني ، زنا وزناء بالمد والقصر لغتان ، يعني فعلت الزنا ، فإحدى الصيغتين تخالف الأخرى ، وقال الشاعر وهي امرأة :

أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل *** ولا تكوننّ كهلّوف وكل

يصبح في مضجعه قد انجدل *** وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

وأيضا لو كانت هذه اللفظة تحتمل ، لوجب أن لا تحمل على القذف بالمحتمل ، لأنّ الحدود موضوعة على أنّها تدرأ بالشبهات (1) هذا آخر المسألة.

قال الجوهري في كتابه كتاب الصحاح : وعمل اسم رجل ، وقالت امرأة ترقص ولدها :

أشبه أبا أمك أو أشبه عمل *** وأرق إلى الخيرات زنا في الجبل (2)

عمل اسم لرجل وهو خاله ، تقول : لا تجاوزنا في الشبه.

وقال السيد المرتضى في الدرر والغرر لمّا أنشد البيت ، قال : روى أبو زيد : أنّ قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيا له يرقّصه ، وأمّ ذلك الصبي منفوسة ، وهي بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي ، فجعل قيس يقول له : أشبه أبا أمك أو أشبه عمل يزيد عملي. والوكل : الجبان ، والهلوف - بكسر الهاء وفتح اللام وتشديدها ، والفاء - : الهرم المسن ، وهو أيضا الكبير اللحية (3) فعلى قول المرتضى الشعر لقيس بن عاصم ، وعلى قول الشيخ أبي جعفر والجوهري الشعر لامرأة.

وعلى قول المرتضى لا يكون عمل اسم رجل ، وعلى قول الجوهري هو اسم رجل ، وهو الأولى والأشبه.

ص: 706


1- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 42.
2- الصحاح : ج 5 ، 1775 مادة ( عمل ).
3- أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) ج 2 ، ص 286.

فأمّا المرتد عن الإسلام فعلى ضربين ، فإن كان مسلما ولد على فطرة الإسلام ، فقد بانت منه امرأته في الحال ، وقسّم ماله بين ورثته ، ووجب عليه القتل من غير أن يستتاب ، وكان على المرأة منه عدّة المتوفّى عنها زوجها ، فعلى هذا تكون وارثة من جملة الورثة ، لأنّه ساعة ارتد صار بمنزلة الميت ، وإن لم يقتل ، بأن هرب إلى بلد أهل الحرب ، فلأجل هذا لزمها عدّة المتوفّى عنها زوجها.

فإن كان المرتد ممن قد أسلم عن كفر ، ثمّ ارتد ، استتيب ، فإن عاد إلى الإسلام كان العقد ثابتا بينه وبين امرأته ، وإن لم يرجع كان عليه القتل.

ومتى لحق هذا المرتد بدار الحرب ، ثمّ رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدّة المرأة ، وهي إمّا ثلاثة أقراء ، أو ثلاثة أشهر بحسب حالها ، كان أملك بها ، فإن رجع بعد انقضاء عدتها لم يكن له عليها سبيل.

فإن مات الرجل وهو مرتد قبل انقضاء العدة ، ورثته المرأة ، وكان عليها عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وإن ماتت هي لم يرثها ، وهو مرتد عن الإسلام.

ولا تقتل المرتدة ، بل تحبس ، وإن كانت قد ارتدت عن فطرة الإسلام ، حتى تسلم أو تموت.

والزنديق من يبطن الكفر ، ويظهر الإيمان ، يقتل ولا تقبل توبته ، على ما رواه أصحابنا (1) وأجمعوا عليه.

باب الظهار والإيلاء

يفتقر صحّة الظهار الشرعي إلى شروط :

منها أن يكون المظاهر بالغا كامل العقل ، لأنّه لا يصحّ من صبي ، ولا مجنون ، ولا سكران.

وفي صحّته من الكافر خلاف ، فقال شيخنا أبو جعفر : لا يصح الظهار من

ص: 707


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب حدّ المرتد ، ح 1.

الكافر ، ولا التكفير ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا أنّ الظهار حكم شرعي لا يصحّ ممن لا يقر بالشرع ، كما لا تصحّ منه الصلاة وغيرها ، وأيضا فإنّ الكفارة لا تصحّ منه ، لأنّها تحتاج إلى نية القربة ، ولا يصحّ ذلك مع الكفر ، وإذا لم تصح منه الكفارة لم يصح منه الظهار ، لأنّ أحدا لا يفرّق بينهما (1).

وقال رحمه اللّه : يصح الإيلاء من الذمّي ، كما يصحّ من المسلم ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ ) (2) وذلك عام في المسلم والذمي (3).

قال محمّد بن إدريس : فرقه بين المسألتين فرق عجيب ، واستدلاله عليهما ظريف ، ولو قلب وعكس كان أولى ، وهاهنا يحسن قول « أقلب تصب » لأنّ الإيلاء لا يكون إلا باللّه تعالى وبأسمائه ، والكافر لا يعرف اللّه تعالى ، ولا ينعقد يمينه ، ولا نيته في تكفيره ، فالأولى أن لا يصحّ منه الإيلاء ، لأنّ ما احتج به شيخنا على أنّ الظهار لا يصحّ من الكافر قائم في إيلاء الكافر.

والذي يقوى في نفسي أنّ الظهار يصحّ من الكافر ، لقوله تعالى ( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (4) وهذا عام في جميع من يظاهر ، وفي مقدوره الخروج منه بالكفارة بأن يسلم ، ويعرف اللّه تعالى كما أنّه مخاطب بالصلاة والطهارة ، وكذلك المحدث مخاطب بالصلاة ، لأنّ في مقدوره الطهارة (5) وانّما وجب هذا الحكم لحرمة اللفظة ، وهو قوله : أنت عليّ كظهر أمي ، فهذا اللفظ الذي سمّاه اللّه تعالى منكرا من القول وزورا ، وقد تلفظ به الكافر ، وقاله ، فيجب أن يتعلّق به أحكامه.

ومنها أن يكون مؤثّرا له ، فلا يصحّ من مكره ولا غضبان لا يملك نفسه.

ومنها أن يكون قاصدا به التحريم ، فلا يقع بيمين ولا مع السهو واللغو.

ومنها أن يكون متلفظا بقوله : أنت عليّ كظهر أمي ، على الصحيح من

ص: 708


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 2.
2- البقرة : 226.
3- الخلاف : كتاب الإيلاء ، المسألة 20.
4- المجادلة : 3.
5- ل. ق : الصلاة.

أقوال أصحابنا ، لأنّ الظهار حكم شرعي ، وقد ثبت وقوعه ولزومه إذا علّق بالظهر وأضيف إلى الأم ، ولم يثبت ذلك في بافي الأعضاء ، ولا المحرّمات ، وأيضا فإنّ الظهار مشتق من لفظة الظهر ، فإذا علّق بالبطن وما أشبهها بطل الاسم المشتق من الظهر ، ولم يجز إجراؤه.

وقال بعض أصحابنا إذا ذكر لفظة الظهر وقع ، إذا أضافه إلى بعض محرّمات النسب ، كان يقول : أنت عليّ كظهر بنتي ، أو عمتي ، أو أختي ، فإن لم يذكر لفظة الظهر ، بل ذكر الام ، كأن يقول : أنت عليّ كبطن أمي ، وقع الظهار. وإن يعرى من ذكر اللفظتين معا فلا يقع الظهار ، ولا يتعلّق بذلك أحكامه.

والأول هو الذي يقتضيه الأدلة ، وأصول مذهبنا ، وهو اختيار السيد المرتضى ، والثاني اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي ومذهبه.

ومنها أن يكون ذلك مطلقا من الاشتراط على الأظهر من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يوقعه مشروطا ، ويجعله على ضربين ، مشروطا وغير مشروط ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (1).

والأوّل هو المذهب والأظهر بين أصحابنا الذي يقتضيه أصول مذهبهم ، لأنّه لا خلاف بينهم أنّ حكمه حكم الطلاق ، ولا خلاف بينهم أنّ الطلاق لا يقع إذا كان مشروطا ، وهو اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وجلّة المشيخة من أصحابنا ، والأصل براءة الذمة ، وتحليل ، الزوجة ، فمن حرّم وطأها يحتاج إلى دليل ، وإجماعنا منعقد على الموضع الذي أجمعنا عليه ، وما عداه لا دلالة على وقوع الظهار معه ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

ومنها أن يكون ذلك موجّها إلى معقود عليها ، سواء كانت حرّة أو أمة دائما نكاحها. وقال بعض أصحابنا : أو مؤجلا ، ولا يقع بملك اليمين على الصحيح من المذهب.

ص: 709


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إنّه يقع الظهار بملك اليمين (1).

والأول اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وهو الحقّ اليقين يعضده قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (2) وملك يمين المظاهر ، ما هي من جملة نسائه.

ومنها أن يكون معيّنا لها ، فلو قال - وله عدة أزواج - : زوجتي أو إحدى زوجاتي عليّ كظهر أمي ، من غير تعيين لها بنيّة أو إشارة أو تسمية ، لم يصحّ.

ومنها أن تكون طاهرا من الحيض والنفاس ، طهرا لم يقربها فيه بجماع ، إلا أن تكون حاملا ، أو ليست ممن تحيض ولا في سنها من تحيض ، أو غير مدخول بها على الصحيح من مذهب أصحابنا ، والأظهر من أقوالهم.

وقد ذهب بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى أنّ الظهار لا يقع بغير المدخول بها (3)النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.(4).

والقرآن قاض بصحّة ما اخترناه ، لأنّ الآية على عمومها ، وهو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) وهي قبل الدخول بها يتناولها هذا الاسم بغير خلاف ، وما اخترناه اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد.

أو مدخولا بها وهي غائبة عن زوجها غيبة مخصوصة ، على ما قدّمناه في أحكام الطلاق ، لأنّا قد بيّنا أنّ أحكام الظهار أحكام الطلاق ، وشرائطه شرائطه في جميع الأشياء ، إلا ما أخرجه الدليل.

ومنها أن يكون الظهار منها بمحضر من شاهدي عدل.

يدلّ على ذلك كلّه إجماع أصحابنا ، ونفى الدليل الشرعي على وقوعه مع اختلال بعض الشروط ، ولا يقدح فيما اعتمدناه من الإجماع خلاف من خالف من أصحابنا بوقوع الظهار مع الشرط ، وثبوت حكمه مع تعلّق اللفظ بغير الظهر ، وإضافته إلى غير الام من المحرّمات ، ونفى وقوعه بغير المدخول بها ، ووقوعه بملك

ص: 710


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.
2- المجادلة : 3.
3-
4-

اليمين ، لتميّزه من جملة المجمعين باسمه ونسبه.

على أنّ قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) ينافي تعليقه بغير الظهر ، وعدم وقوعه بغير المدخول بها ، لأنّ الظهار مشتق من لفظ الظهر على ما قدّمناه ، وغير المدخول بها توصف بأنّها من نساء الزوج حسب ما بيّناه.

فإذا تكاملت شروط الظهار حرمت الزوجة عليه ، فإن عاد لما قال بأن يريد استباحة الوطء ، لزمه أن يكفر قبله بعتق رقبة ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا ، لأنّ هذه الكفارة عندنا على الترتيب.

ولا يحرم عليه تقبيلها ، ولا ضمّها ، ولا عناقها.

وقال بعض أصحابنا : يحرم عليه تقبيلها قبل أن يكفر ، كما يحرم وطؤها ، واستدلّ بقوله تعالى ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (1).

وهذا لا دلالة فيه ، لأنّ المسيس هاهنا بلا خلاف بيننا المراد به الوطي.

ويستدلّ على أنّ العود شرط في وجوب الكفارة ، بظاهر القرآن ، لأنّه لا خلاف أنّ المظاهر لو طلّق قبل الوطء لا يلزمه الكفارة ، وهذا يدلّ على أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار.

ويدلّ على أنّ العود ما ذكرناه أنّ الظهار إذا اقتضى التحريم ، وأراد المظاهر الاستباحة ، وآثر رفعه ، كان عائدا لما قال ، ومعنى قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) (2) أي للمقول فيه كقوله سبحانه ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (3) أي الموقن به ، كقوله عليه السلام : « الراجع في هبته » (4) أي في الموهوب ، وكذا يقال : اللّهم أنت رجاؤنا ، أي مرجوّنا ، ولا يجوز أن يكون المراد بالعود الوطء ، على ما ذهب إليه قوم ، لأنّه تعالى قال ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (5) فأوجب الكفارة بعد العود وقبل الوطء فدلّ على أنّه غيره.

ص: 711


1- المجادلة : 3.
2- المجادلة : 3.
3- الحجر : 99.
4- مستدرك الوسائل : الباب 8 ، من أبواب الهبة ، ح 1 ، ولفظه هكذا : « العائد في هبته » فراجع.
5- المجادلة : 3.

ولا يجوز أن يكون العود إمساكها زوجة مع القدرة على الطلاق ، على ما قاله الشافعي ، لأنّ العود يجب أن يكون رجوعا إلى ما يخالف مقتضى الظهار ، وإذا لم يقتض فسخ النكاح ، لم يكن العود الإمساك عليه. ولأنّه تعالى قال « ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا » وذلك يقتضي التراخي ، والقول بأنّ العود هو البقاء على النكاح ، قول بحصوله عقيب الظهار من غير فصل ، وهو بخلاف الظاهر.

وإذا جامع المظاهر قبل التكفير ، فعليه كفارتان : إحداهما كفارة العود ، والأخرى عقوبة الوطء قبل التكفير ، بدليل إجماعنا ، ولأنّ بذلك يحصل اليقين لبراءة الذمة.

وإن استمر المظاهر على التحريم ، فزوجة الدوام بالخيار بين الصبر على ذلك ، وبين المرافعة إلى الحاكم ، وعلى الحاكم أن يخيّره بين التكفير واستباحة الجماع ، وبين الطلاق ، فإن لم يجب إلى شي ء من ذلك أنظره ثلاثة أشهر (1) ، فإن فاء إلى أمر اللّه تعالى في ذلك ، وإلا ضيّق عليه في المطعم والمشرب ، حتى يفي ء.

ولا يلزمه الحاكم بالطلاق ، ولا يطلّق عليه.

وإذا طلّق قبل التكفير سقطت عنه الكفارة ، فإذا راجع في العدة لم يجز له الوطء حتى يكفر ، وإن خرجت من العدّة واستأنف العقد عليها ، جاز له الوطء من غير تكفير.

ومن أصحابنا ، من قال : لا يجوز له الوطء حتى يكفر على كلّ حال.

وظاهر القرآن معه ، لأنّه يوجب الكفارة بالعود من غير فصل ، والأكثر بين الطائفة الأول.

وإذا ظاهر من زوجتين له فصاعدا ، لزمه مع العود لكلّ واحدة منهنّ كفارة ، سواء ظاهر من كلّ واحدة منهن على الانفراد ، أو جمع بينهن في ذلك

ص: 712


1- ج : أنظره إلى ثلاثة أشهر.

كلّه بكلمة واحدة.

وإذا كرّر كلمة الظهار ، لزمه بكلّ دفعة كفارة ، فإن وطأ التي كرّر القول عليها قبل أن يكفر ، يلزمه كفارة واحدة عن الوطء ، وكفارات التكرار.

وفرض العبد في كفارة الظهار الصوم ، وفرضه فيه كفرض الحرّ ، لظاهر القرآن ، ومن أصحابنا من قال الذي يلزمه (1) شهر واحد ، والأول هو الأظهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى ظاهر الرجل امرأته مرّة بعد اخرى ، كان عليه بعدد كلّ مرّة كفارة ، فإن عجز عن ذلك لكثرته ، فرّق الحاكم بينه وبين امرأته (2).

قال محمّد بن إدريس : والأولى أن يستغفر اللّه تعالى بدلا عن الكفارة ، ولا يفرّق الحاكم بينه وبين زوجته ، لأنّ التفريق بينهما يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك.

إلا أنّ شيخنا رجع في استبصاره ، وقال : يستغفر اللّه ، ويطأ زوجته ، وتكون الكفارة في ذمته ، إذا قدر عليها كفر.

والصحيح أنّ الاستغفار كفارة لمن لا يقدر على الكفارة رأسا.

وإذا حلف الرجل بالظهار ، لم يلزمه حكمه.

إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي ، ولم ينو الظهار ، لم يقع.

وكذلك إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي ونوى به الطلاق ، لم يكن طلاقا ، ولا ظهارا.

إذا قال : أنت عليّ حرام ، لم يتعلّق بذلك عند أصحابنا حكم من الأحكام ، لإظهار ، ولا طلاق ، ولا إيلاء ، ولا يمين ، ولا غير ذلك ، على ما قدّمناه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، في كتاب الظهار : مسألة ، المكفر بالصوم ، إذا وطأ زوجته التي ظاهر منها في حال الصوم عامدا ، نهارا كان أو

ص: 713


1- ج : قال يلزمه.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

ليلا ، بطل صومه ، ولزمه استئناف الكفارتين ، فإن كان وطؤه ناسيا ، مضى في صومه ، ولم يلزمه شي ء ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وطريقة الاحتياط ، وأيضا فإنّ اللّه تعالى قال ( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (1) وهذا قد وطأ قبل الشهرين ، فيلزمه كفارتان على ما مضى القول فيه (2) هذا آخر استدلاله رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : أمّا وجوب الكفارة الأخرى فصحيح ، وأمّا استئناف الكفارة المأخوذ فيها بالصوم إذا وطأ ليلا فبعيد لا وجه له ، ولا دليل على استئناف الصيام ، لأنّ الاستئناف ما جاءنا إلا في المواضع المعروفة المجمع عليها ، وهي إن وطأ بالنهار عامدا من غير عذر المرض ، قبل أن يصوم من الشهر الثاني شيئا ، فيجب عليه الاستئناف للكفارة التي موجبها الظهار ، وكفارة أخرى للوطء ، عقوبة على ما قدّمناه ، فأمّا إذا وطأ ليلا فعليه كفارة الوطء ، ولا يجب عليه استئناف ما أخذ فيه ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، فأمّا إذا وطأ بالنهار عامدا بعد أن صام من الشهر الثاني شيئا ، فعليه كفارة الوطء فحسب ، ويبني على ما صام ، ولا يجب عليه الاستئناف ، فليلحظ ذلك ، فهذا الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : مسألة ، إذا وجبت عليه الكفارة بعتق رقبة في كفارة ظهار ، أو قتل ، أو جماع ، أو يمين ، أو يكون قد نذر عتق رقبة ، فإنّه يجزي في جميع ذلك أن لا تكون مؤمنة إلا في القتل خاصّة (3).

قال محمّد بن إدريس : اختلف أصحابنا في ذلك ، والأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ جميع الرقاب في الكفارات وغيرها لا تجزي إلا المؤمنة ، أو بحكم المؤمنة ، ولا تجزي الكافرة ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ

ص: 714


1- المجادلة :
2- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 24.
3- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 27.

تُنْفِقُونَ ) (1) والكافر خبيث بغير خلاف ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، والإعتاق يسمّى إنفاقا.

وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه ، لأنّ الذمة مشغولة بالكفارة بغير خلاف ، ولا تبرأ بيقين إلا إذا كفر بالمؤمنة ، لأنّ غيرها فيه خلاف.

وهذا اختيار السيد المرتضى وغيره من المشيخة ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي.

إلا أنّه رجع عنه في التبيان ، فقال في تفسير قوله تعالى ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (2) : وفي الفقهاء من استدلّ بهذه الآية على أنّ الرقبة الكافرة لا تجزي في الكفارة ، وضعّفه قوم ، وقالوا : العتق ليس بإنفاق ، والأولى أن يكون ذلك صحيحا ، لأنّ الإنفاق يقع على كلّ ما يخرج لوجه اللّه تعالى ، عتقا كان أو غيره (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في كتاب التبيان لتفسير القرآن.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، عتق المكاتب لا يجزي في الكفارة ، سواء أدّى من مكاتبته شيئا أو لم يؤدّ (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الصحيح أنّه إذا لم يؤدّ شيئا من مكاتبته ، يجوز عتقه ، ويجزي في الكفارة ، لأنّه بعد عبد لم يتحرر منه شي ء بغير خلاف ، وبهذا قال في نهايته (5).

هذا إذا كانت المكاتبة مطلقة ، فأمّا إن كانت مشروطة ، فإنّه يجوز إعتاقه ، سواء ، أدّى من مال كتابته (6) شيئا أو لم يؤد ، لأنّه عندنا رق ، وأحكامه أحكام الرق في جميع الأشياء ، إلا ما خرج بالدليل.

ص: 715


1- البقرة : 267.
2- البقرة : 267.
3- التبيان : ج 2 ، ص 344.
4- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 29.
5- النهاية : باب الكفارات ، والعبارة هكذا : ولا ان يعتق مكاتبا له وقد أدّى من مكاتبته شيئا.
6- ل : أدى مكاتبه.

وعتق أمّ الولد عندنا جائز في الكفارات ، وكذلك عتق المدبر الذي يبتدأ بتدبيره ، لا عن نذر قد حصل شرطه ، لأنّه إذا حصل شرطه ، فقد انعتق.

وقال رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة ، إذا أعتق عبدا مرهونا ، وكان موسرا أجزأه ، وإن كان معسرا لا يجزيه (1).

قال محمّد بن إدريس : لا يجزي عتق العبد المرهون قبل فكّه من الرهن ، سواء كان الراهن موسرا أو معسرا ، لأنّ العتق تصرّف بغير خلاف ، وإجماع أصحابنا على أن تصرّف الراهن في الرهن غير صحيح ولا ماض ، وأنّه لا يجوز له التصرف فيه بغير خلاف بينهم ، وأنّه منهي عن التصرف فيه ، وكلّ تصرف يتصرّف فيه فإنّه باطل ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

ثمّ ما قال بهذا أحد من أصحابنا ، ولا وجدته مسطورا في تصنيف أحد منهم. وشيخنا إن كان قال هذا عن أثر ورواية متلقّى بالقبول ، أو أخبار متواترة ، جاز العمل به إذا لم يمكن تأويله ، وإن كان قاله من تلقاء نفسه على سبيل الاستدلال والاستحسان ، فلا معول على ذلك ، فكيف ولم يرد به رواية ، لا من طريق الآحاد ، ولا من طريق التواتر.

ثمّ استدلّ رحمه اللّه على ما ذهب إليه في صدر المسألة ، فقال : دليلنا على أنّ عتق الموسر جائز ، قوله تعالى ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، ولم يفصّل ، وعلى أنّ عتق المعسر لا يجزي ، أنّ ذلك يؤدّي إلى إبطال حقّ الغير ، فلا يجوز ذلك ، وعليه إجماع الفرقة ، لأنّهم أجمعوا على أنّه لا يجوز من الراهن التصرف في الرهن ، وذلك عام في جميع ذلك (2). هذا آخر استدلاله.

وهذا الاستدلال قاض عليه ، وحاكم على فساد ما ذهب إليه ، لأنّ جميع ما استدلّ به على أنّ عتق المعسر لا يجزي ، لازم له في عتق الموسر ، حذو النعل

ص: 716


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 32.
2- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 32.

بالنعل ، والقذة بالقذة ، فالمخصّص يحتاج إلى دليل ، فانّي ما استجملت له رحمه اللّه مع جلالة قدره هذا القول.

ثمّ قال رحمه اللّه في مسائل خلافه : إذا كان له عبد قد جنى جناية عمد ، فإنّه لا يجزي إعتاقه في الكفارة ، وإن كان خطأ جاز ذلك ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا إجماع الفرقة ، لأنّه لا خلاف بينهم إذا كانت جناية عمد أنّه ينتقل ملكه إلى المجني عليه ، وإن كان خطأ ، فدية ما جناه على مولاه ، لأنّه عاقلته ، وعلى هذا لا بدّ ممّا قلناه (1) ، هذا آخر استدلاله.

قال محمّد بن إدريس : ما قاله رحمه اللّه في صدر المسألة غير واضح ، وكذلك ما قاله في استدلاله ، لأنّه قال : « وإن كان خطأ جاز » وأطلق الكلام ، والصحيح أنّه لا يجزي إلا إذا ضمن (2) دية الجناية ، فأمّا قبل التزامه وضمانه ، فلا يجوز ، لأنّه قد تعلّق برقبة العبد الجاني حقّ الغير ، فلا يجوز إبطاله.

وما قاله في استدلاله أنّ مولاه عاقلته ، فغير صحيح ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، أنّ السيد غير عاقلة العبد ، وإجماعهم منعقد على هذا ، وشيخنا قائل به أيضا في غير كتابه هذا ، في هذا الموضع.

وقال في مبسوطة في كتاب الظهار : إذا كان له عبد قد جنى فأعتقه ، قال بعضهم : إن كان جنى عمدا نفذ العتق ، وإن كان خطأ فعلى قولين ، ومنهم من عكس هذا ، فقال : إن كان خطأ لم ينفذ العتق ، وإن كان عمدا فعلى قولين ، والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّه إن كان عمدا نفذ العتق ، لأنّ القود لا يبطل بكونه حرّا ، وإن كان خطأ لا ينفذ ، لانّه يتعلّق برقبته ، والسيد بالخيار بين أن يفديه ، أو يسلمه (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة.

وهذا بخلاف ما ذكره في مسائل خلافه ، وهو قوي يمكن القول به ،

ص: 717


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 33.
2- ج : إذا ضمن مولاه.
3- المبسوط : ج 5 ، كتاب الظهار ، ص 161.

والاعتماد عليه.

وقال أيضا في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان له عبد غائب يعرف خبره وحياته ، فإن إعتاقه جائز في الكفارة بلا خلاف ، وإن لم يعرف خبره ولا حياته لا يجزيه (1).

قال محمد بن إدريس : وأخبار أصحابنا المتواترة عن الأئمة الأطهار ، وإجماعهم منعقد على أنّ العبد الغائب يجوز عتقه في الكفارة ، إذا لم يعلم منه موت ، لأنّ الأصل الحياة ، وهو موافق في نهايته على ذلك (2) ، وقائل به ، ولا يلتفت إلى خلاف ما عليه الإجماع.

إذا كان عليه كفارتان من جنس واحد ، فأعتق عنها ، أو صام بنيه التكفير دون التعيين ، أجزأه بلا خلاف ، وإن كانت من أجناس مختلفة فلا بدّ فيها من نيّة التعيين عن كلّ كفارة ، وإن لم يعيّن لم يجزه.

إذا أدخل الطعام أو الشراب في حلقه بالإكراه ، لم يفطر بلا خلاف ، وإن ضرب حتى أكل أو شرب ، فعندنا لا يفطر ، ولا يقطع التتابع.

ولا يلزمه أن ينوي التتابع في الصوم ، بل يكفيه نيّة الصوم فحسب.

والمعتبر في وجوب الكفارات المرتبة حال الأداء ، دون حال الوجوب.

من قدر حال الأداء على الإعتاق ، لم يجزه الصوم ، وإن كان غير واجد لها حين الوجوب.

يجب أن يطعم في كفارة اليمين خاصة ما يغلب على قوته وقوت اهله ، لا من غالب قوت البلد ، فأمّا غيرها من الكفارات ، فلا يلزم من قوت اهله ، بل الواجب عليه الإطعام ممّا يسمّى طعاما وإطعاما ، لأنّ دليل كفارة اليمين قوله تعالى ( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) (3) ولم يذكر في غيرها من الكفارات ذلك.

ولا يجوز إخراج القيم في الكفارات ، ويجوز إخراج القيم عندنا في الزكوات.

إذا كسي خمسة وأطعم خمسة في كفارة اليمين ، لم يجزه ، لأنّه لم يمتثل ظاهر الآية.

ص: 718


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 34.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العتق واحكامه ، آخر الباب.
3- المائدة : 89.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان ، في تفسير آية الظهار : والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة ، سواء كانت ذكرا أو أنثى ، صغيرة أو كبيرة ، إذا كانت صحيحة الأعضاء ، فإنّ الإجماع واقع على أنّه يقع الاجزاء بها وقال الحسن وكثير من الفقهاء : إن كانت كافرة أجزأت.

فهذا يدلك على رجوعه عمّا قاله في نهايته من أنّها تجزي ، وإن كانت كافرة.

باب الإيلاء

يفتقر الإيلاء الشرعي الذي يتعلّق به إلزام الزوج بالفئة - بفتح الفاء - أو الطلاق بعد مطالبة الزوجة بذلك ، إلى شروط.

منها أن يكون الحالف بالغا كامل العقل.

ومنها أن يكون المولى منها زوجة دوام.

ومنها أن يكون الحلف بما ينعقد به الأيمان عند أهل البيت عليهم السلام ، لأنّه لا ينعقد اليمين عندهم إلا بأسماء اللّه تعالى ، دون أسماء المحدثات (1).

ومنها أن يكون ذلك مطلقا من الشروط.

ومنها أن يكون مع النية والاختيار ، من غير غضب ولا إكراه ، ولا إجبار.

ومنها أن تكون المدة التي حلف أن لا يطأ الزوجة فيها أكثر من أربعة أشهر.

ومنها أن تكون الزوجة مدخولا بها.

ومنها أن لا يكون إيلاؤه في صلاحه لمرض يضر به الجماع ، أو في صلاح الزوجة لمرض ، أو حمل ، أو رضاع.

لأنّه لا خلاف في ثبوت ذلك مع تكامل ما ذكرناه ، وليس على ثبوته مع اختلال بعضها دليل ، فوجب نفيه.

ص: 719


1- ل. ق : دون سائر المحدثات.

ومتى تكاملت هذه الشروط في الإيلاء ، فمتى جامع حنث ولزمته كفارة يمين ، وإن استمر اعتزاله لها ، فهي بالخيار بين الصبر عليه ، وبين مرافعته إلى الحاكم ، فإن رافعته إليه ولو بعد الإيلاء بلا فصل ، أو بعده ولو تطاول الزمان ، أمره بالجماع والتكفير ، فإن أبى أنظره أربعة أشهر من حين المرافعة ، لا من حين اليمين ، ليراجع نفسه ، ويرتئي في أمره ، فإن مضت هذه المدّة ولم يجب إلى ما أمره ، فعليه أن يلزمه الفئة أو الطلاق ، فان أبى ضيّق عليه في التصرف والمطعم والمشرب ، حتى يفعل أيّهما اختار.

ولا تقع الفرقة بين الزوجين بانقضاء المدة ، وانّما يقع بالطلاق ، بدليل قوله تعالى ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) (1) فأضاف الطلاق إلى الزوج ، كما أضاف الفئة إليه ، فكما أنّ الفئة لا تقع إلا بفعله ، فكذلك الطلاق ، وأيضا الأصل بقاء العقد ، فمن ادّعى ان انقضاء المدّة طلقة بائنة ، أو رجعية ، فعليه الدليل.

ويخص ما اشترطناه من كونها زوجة دوام ، بقوله تعالى ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) والنكاح المؤجل لا طلاق فيه.

ونحتج على المخالف فيما اعتبرناه من كون اليمين بأسماء اللّه تعالى خاصّة ، بما رووه من قوله عليه السلام : من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت (2).

ونحتج عليه في النية بقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات (3) ، والمراد أنّ أحكام الأعمال انّما تثبت بالنيّة ، لما علمنا من حصول الأعمال في أنفسها من غير نية.

ويحتج عليه في الإكراه بما رووه من قوله عليه السلام : رفع عن أمتي الخطأ

ص: 720


1- البقرة : 227.
2- التاج : ج 3 ، كتاب الايمان والنذور ، ص 74 ، سنن الدارمي الباب 6 من كتاب النذور ، ورواه أبو داود في سننه في الباب 5 من كتاب الايمان ( الرقم 3249 ) وفيه : فليحلف باللّه أو ليسكت.
3- الوسائل : الباب 5 من أبواب مقدمات العبادات ، ح 6. سنن ابن ماجة : كتاب الزهد ، الباب 21، ح 1 ، ( الرقم 4227 ). سنن أبي داود : كتاب الطلاق الباب 1. ح 1 ( الرقم 2201 ) ورووه في كتبهم الأخر أيضا.

والنسيان وما استكرهوا عليه (1) ، ويدخل في ذلك رفع الحكم والمأثم ، لأنّه لا تنافي بينهما.

ويخصّ كون المدّة أكثر من أربعة أشهر ، قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) (2) فأخبر سبحانه أنّ له التربص بهذه المدّة ، فثبت أنّ ما يلزمه من الفئة أو الطلاق يكون بعدها.

ويخصّ كونها مدخولا بها قوله تعالى ( فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (3) لأنّ المراد بالفئة العود إلى الجماع بلا خلاف ، ولا يقال عاد إلى الجماع إلا لمن تقدم منه فعله ، وهذا لا يكون إلا في المدخول بها.

ومتى آلى أن لا يقرب زوجته وهي مرضعة ، خوفا من حملها فيضر ذلك بالولد ، لم يلزمه الحاكم حكم الإيلاء ، لأنّه حلف في صلاح. وكذلك إن حلف أن لا يقربها خوفا على نفسه من مرض به أو بها ، فلا يلزمه الحاكم حكم الإيلاء ، لأنّ هذا في صلاح والإيلاء لا يكون إلا في إضرار بالمرأة.

وكذلك إن حلف ان لا يقربها في الموضع المكروه ، فلا يلزمه الحاكم حكم الإيلاء ، لأنّ هذا ليس بإضرار للمرأة.

وإذا ادّعت المرأة على الرجل أنّه لا يقربها ، وزعم الرجل أنّه يقربها ، كان عليه اليمين باللّه تعالى أنّ الأمر على ما قال ، ويخلّى بينه وبينها وليس عليه شي ء.

إذا قال : واللّه لا جامعتك ، لا أصبتك ، لا وطئتك ، وقصد به الإيلاء

ص: 721


1- التوحيد : باب الاستطاعة ص 353 ، ولفظه هكذا : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون .. سنن ابن ماجة : كتاب الطلاق ، باب طلاق المكره والناسي ، ح 3 ( الرقم 2045 ) وفيه : أنّ اللّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
2- البقرة : 226.
3- البقرة : 226.

كان إيلاء ، وإن لم يقصد لم يكن بها موليا ، وهي حقيقة في العرف في الكناية عن الجماع ، وكذلك إذا قال : واللّه لا باشرتك ، لا لامستك ، لا باضعتك ، وقصد بها الإيلاء والعبارة عن الوطء ، كان موليا ، وإن لم يقصد لم يكن موليا.

فإن قال : واللّه لا جمع رأسي ورأسك شي ء ، لا ساقف رأسي ورأسك شي ء ، لا جمع رأسي ورأسك مخدة ، كلّ هذه لا ينعقد بها الإيلاء ، ولا حكم لها ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت الإيلاء وحكمه بهذه الألفاظ يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك.

إذا طلّق المولى طلقة ، كانت رجعيّة.

إذا قال : إن أصبتك فأنت عليّ حرام ، لم يكن موليا ولا يتعلّق به حكم على ما بيّناه.

إذا قال : إن أصبتك فلله عليّ أن أعتق عبدي ، لا يكون موليا.

وعندنا أنّ الإيلاء لا يقع بشرط ، لأنّ ثبوت الإيلاء بشرط يحتاج إلى دليل.

الإيلاء يقع بالرجعية ، لأنّها زوجة عندنا ، ويحتسب من مدّتها زمان العدّة.

إذا آلى من أربع نسوة ، فقال : واللّه لا وطئتكنّ فلا يحنث بوطء واحدة منهنّ ، وكذلك إن وطأ اثنتين ، أو ثلاثا منهنّ ، فإن وطأ الرابعة حنث ، ولزمته اليمين ، وكذلك لا يوقف إلا للأخيرة. فأمّا إن قال : واللّه لا وطئت واحدة منكن ، فأيّ واحدة وطأ حنث (1) ، ووجب عليه الكفارة ، وانحلّت في حقّ الباقيات ، فإن وطأ بعدها اخرى لا يجب عليه شي ء ، سوى الكفارة الاولى.

فأمّا إن قال : واللّه لا وطئت كلّ واحدة منكن ، فمن وطأ منهن وجبت عليه في حقّها الكفارة ، ولم تنحل في حقّ الباقيات ، ومتى وطأ واحدة من الباقيات ، كان عليه الكفارة ، والفرق واضح بين هذه الثلاث المسائل ، فليلحظ.

ص: 722


1- ل : انحلت. ق يحنث.

باب الخلع والمبارأة والنشوز والشقاق

سمّى اللّه تعالى الخلع في كتابه ، افتداء فقال ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (1) والفدية العوض الذي تبذله المرأة لزوجها ، تفتدي نفسها منه به ، ومنه فداك أبي وأمي ، أي هما فداؤك ، ومنه يقال : فدي الأسير ، إذا افتدى من المال ، فإن فودي رجل برجل ، قيل مفاداة ، هذا حقيقة الخلع في الشرع.

فأمّا اللغة فهو الخلع ، واشتقاقه من خلع يخلع ، وانّما استعمل هذا في الزوجين ، لأنّ كلّ واحد منهما لباس لصاحبه ، قال اللّه تعالى ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) (2) فلمّا كان كلّ واحد منهما لباسا لصاحبه ، استعمل الخلع في كلّ واحد منهما ، لصاحبه.

والأصل في الخلع الكتاب والسنّة ، فالكتاب قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (3) فرفع الجناح في أخذ الفدية منها عند خوف التقصير في إقامة الحدود المحدودة في حقوق الزوجية ، فدلّ على جواز الفدية.

والخلع والمبارأة ممّا يؤثّران في كيفيّة الطلاق ، وهو أنّ كلّ واحد منهما متى حصل مع الطلاق ، كانت التطليقة بائنة لا رجعة للزوج على المرأة في العدّة ، إلا أن ترجع فيما بذلته وافتدت به قبل خروجها من العدّة ، فله حينئذ الرجوع في بعضها على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

وفرّق أصحابنا بين الخلع والمبارأة ، فلم يختلفوا في أنّ المبارأة لا تقع إلا بلفظ الطلاق ، واختلفوا في الخلع ، فقال المحصّلون منهم فيه مثل ذلك ، وقال قوم منهم : يقع بلفظ الخلع.

ص: 723


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 187.
3- البقرة : 229.

وفرّقوا أيضا بين حكمهما ، فقالوا : الخلع لا يكون إلا بكراهة من جهة المرأة دون الرجل. ويجوز أن يأخذ منها مهر مثلها وزيادة ، أو المهر المسمّى وزيادة ، أو أنقص من ذلك ، كيف ما اتفقا عليه ، من قليل وكثير. والمبارأة تكون الكراهة منهما جميعا ، ولا يجوز أن يأخذ منها أكثر من المهر ، وقال بعضهم : دون المهر فاما مثل المهر أو أكثر فلا يجوز ، والصحيح أنّه يجوز أن يأخذ مثل المهر ، فأمّا أكثر منه فلا يجوز.

فأمّا إذا كانت الحال بين الزوجين عامرة ، والأخلاق ملتئمة ، واتفقا على الخلع ، فبذلت له شيئا على طلاقها ، لم يحلّ له ذلك ، وكان محظورا ، لإجماع أصحابنا على أنّه لا يجوز له خلعها ، إلا بعد أن يسمع منها ما لا يحل ذكره ، من قولها : لا اغتسل لك من جنابة ، ولا أقيم لك حدا ، ولأوطئن فراشك من تكرهه أو يعلم ذلك منها فعلا ، وهذا مفقود هاهنا ، فيجب أن لا يجوز الخلع ، وأيضا قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ ) (1) وهذا نص ، فإنّه حرّم الأخذ منها إلا عند الخوف من ترك إقامة الحدود.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وانّما يجب الخلع ، إذا قالت المرأة لزوجها انّي لا أطيع لك امرا ، ولا أقيم لك حدّا ، ولا اغتسل لك من جنابة ، ولأوطئنّ فراشك من تكرهه ، إن لم تطلقني ، فمتى سمع منها هذا القول ، أو علم من حالها منها عصيانه (2) في شي ء من ذلك ، وإن لم تنطق به ، وجب عليه خلعها.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : قوله رضي اللّه عنه : « وجب عليه خلعها » ، على طريق تأكيد الاستحباب دون الفرض والإيجاب : لأنّ الشي ء إذا كان عندهم شديد الاستحباب ، أتوا به بلفظ الوجوب على ما بيّناه في غير موضع ، وإلا فهو مخيّر بين خلعها وطلاقها ، وإن سمع منها ما سمع ، بغير خلاف ، لأنّ الطلاق

ص: 724


1- البقرة : 229.
2- ق : من حالها عصيانه.

بيده ، ولا أحد يجبره على ذلك. فإذا أراد خلعها اقترح عليها مهما أراد ، على ما ذكرناه.

ولا يصحّ البذل إلا على ما يملكه المسلمون ، فإن خلعها على ما لا يملكه المسلمون وكان عالما بذلك ، كان الخلع غير صحيح ، فأمّا إن خلعها على ما في هذه الجرّة من الخل ، فخرج خمرا ، كان الخلع صحيحا ، وله عليها مثل مل ء الجرة من الخل إن وجد ، وإلا فقيمته ، وكذلك إذا تزوّجها على ذلك حرفا فحرفا.

فإذا تقرر بينهما على شي ء معلوم طلّقها بعد ذلك ، ويكون التطليقة بائنة لا يملك رجعتها ، اللّهم إلا أن ترجع المرأة فيما بذلته من مالها ، فإن رجعت في شي ء من ذلك ، كان له الرجوع في بعضها ما لم تخرج من العدّة ، فإن خرجت من العدة ثمّ رجعت في شي ء ممّا بذلته ، لم يلتفت إليها ، ولم يكن له عليها أيضا رجعة.

فإن أراد مراجعتها قبل انقضاء عدّتها ، إذا لم ترجع هي فيما بذلته ، أو بعد انقضائها ، كان ذلك بعقد مستأنف.

فإن رجعت في البذل قبل خروجها من عدّتها ، فقد قلنا له الرجوع في بضعها ، إلا أن يكون قد تزوّج بأختها ، أو برابعة مع الثلاث الباقيات عنده ، فلا يجوز له الرجوع في بضعها ، وإن كان لها الرجوع في البذل ، لأنّ الشارع جوّز لها الرجوع فيما بذلته قبل خروجها من عدّتها ، وهذه قد رجعت قبل خروجها من عدّتها ، وجوّز له الرجوع في بضعها ، إذا أمكنه ذلك ، وحلّ له ، وهذا لم يحلّ له هاهنا الرجوع ، لأنّه أتى من قبل نفسه بفعاله ، والمنع لها من الرجوع فيما بذلته يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه.

والخلع لا يقع إلا أن تكون المرأة طاهرة طهرا لم يقربها فيه بجماع ، أو يكون غير مدخول بها ، أو يكون غائبا عنها زوجها غيبة مخصوصة ، على ما قدّمناه في أحكام الطلاق ، لأنّ حكمه حكمه ، أو تكون قد أيست من المحيض وليس في سنّها من تحيض.

وان يحضر الشاهدان العدلان.

ص: 725

وجميع أحكام الطلاق معتبرة في الخلع ، لأنّه طلاق ، إلا أنّ في مقابلته عوضا تبذله المرأة ، لكراهتها المقام مع الزوج ، فإن قدّم لفظ الخلع وعقّب بلفظ الطلاق كان جائزا ، وإن لم يقدّم لفظ الخلع بل مجرد لفظ الطلاق في مقابلة العوض ، وقعت أحكام الخلع على كلّ حال.

فأمّا ما ذهب إليه بعض أصحابنا ، إلى أنّه يقع الفرقة بمجرد الخلع ، دون أن يتبع بطلاق ، على ما حكيناه عنهم ، فغير معتمد ، لأنّ الأصل الزوجيّة ، فمن أبانها بهذا يحتاج إلى دليل ، ولا دليل له من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، والأصل بقاء الزوجية.

فإن مات الرجل أو المرأة بعد الخلع ، وقبل انقضاء العدّة ، لم يقع بينهما توارث ، لأنّه قد انقطعت العصمة بينهما ، سواء كان ذلك من الرجل في حال مرضه ، أو لم يكن ، وليس هذا الحكم حكم الطلاق في المرض لا عن عوض ، وحمله على ذلك قياس ، ونحن لا نقول به ، فليلحظ ذلك.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (1) ، لما توسط بين الأخبار ، ولنا في ذلك نظر.

وأمّا المبارأة ، فأحكامها أحكام الخلع سواء حرفا فحرفا إلا ما قدّمناه من الفرق الذي فرّق به أصحابنا ، فلا حاجة بنا إلى تفصيل أحكامها ، لأنّ أحكام الخلع قد فصّلناها ، فهي خلع إلا العبارة ، والفروق المقدّم ذكرها فحسب.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، الصحيح من مذهب أصحابنا أنّ الخلع بمجرده لا يقع ، ولا بدّ معه من التلفظ بالطلاق ، وفي أصحابنا من قال : لا يحتاج معه إلى ذلك ، بل نفس الخلع كاف ، إلا أنّهم لم يبينوا أنّه طلاق أو فسخ (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : من ذهب من أصحابنا إلى أنّه لا يحتاج معه إلى

ص: 726


1- الاستبصار : ج 3 ، باب ان الرجل يطلق امرأته ثم يموت .. ص 344.
2- الخلاف : كتاب الخلع ، المسألة 3.

طلاق ، بل نفس الخلع كاف ، قالوا إنّه يجري مجرى الطلاق ، وانّها تبقى معه إذا تزوّجها على طلقتين.

من جمله من ذهب إلى ذلك السيد المرتضى ، ذكر في الناصريات في المسألة الخامسة والستين والمائة ، فقال : « الخلع فرقة بائنة ، وليست كلّ فرقة طلاقا ، كفرقة الردّة واللعان » قال السيد المرتضى : عندنا أن الخلع إذا تجرد عن لفظ الطلاق ، بانت به المرأة ، وجرى مجرى الطلاق ، في أنّه ينقص من عدد الطلاق ، فهذه فائدة اختلاف الفقهاء في أنّه طلاق أو فسخ ، لأنّ من جعله فسخا لا ينقص به عن عدد الطلاق شيئا ، فتحل وإن خالعها ثلاثا ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والبتي (1) ، والشافعي في أحد قوليه : إنّ الخلع تطليقة بائنة ، وللشافعي قول آخر : أنّه فسخ ، وروي ذلك عن ابن عباس (2) ، وهو قول أحمد وإسحاق الدليل على صحّة ما ذهبنا إليه الإجماع المتقدّم ذكره ، ويدلّ على ذلك أيضا ما روي (3) من أنّ ثابت بن قيس لمّا خلع زوجته بين يدي النبيّ عليه السلام لم يأمره بلفظ الطلاق ، فلمّا خالعها قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : اعتدّي ، ثمّ التفت إلى أصحابه ، فقال : هي واحدة ، فهذا دلالة على أنّه طلاق ، وليس بفسخ ، على أنّ الفسخ لا يصحّ في النكاح ، ولا الإقالة (4) هذا آخر كلام السيّد المرتضى.

ألا تراه قد جعله طلاقا ، فكيف قال شيخنا أبو جعفر ما قاله ، مع اطلاعه على مقالات أصحابنا ، وهذا السيد المرتضى من أعيانهم ، وكثيرا يحكى عنه شيخنا مقالاته ، واختياراته.

ص: 727


1- ل : والمزني ج : والليثي
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة أورده في هامش ص 346.
3- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، ص 346 مع الزيادة.
4- الناصريات : كتاب الطلاق ، المسألة الخامسة والستون والمائة.

الخلع جائز بين الزوجين ، ولا يفتقر إلى حاكم.

ومتى اختلفا في النقد واتفقا في القدر والجنس ، أو اختلفا في تعيين القدر ، أو إطلاق اللفظ ، أو اختلفا في الإرادة بلفظ القدر من الجنس والنقد ، فعلى الرجل البيّنة ، فإذا عدمها ، كان القول قول المرأة مع يمينها ، لأنّها الغارمة المدّعى عليها.

ولا يقع الخلع بشرط ، ولا صفة ، لأنّا بيّنا أنّه طلاق ، وأنّ أحكامه أحكام الطلاق.

وإذا اختلعها أجنبيّ من زوجها بعوض بغير إذنها ، لم يصح ذلك.

إذا خالع أربع نسوة صفقة واحدة بألف ، أو تزوّج أربعا بمهر مسمّى ، فالذي يقتضيه مذهبنا أنّ المهر صحيح ، وينقسم بينهن بالسوية ، وكذلك في الخلع ، ويكون الفداء صحيحا ، ويلزم كلّ واحدة منهن حصّتها بالسوية.

فأمّا النشوز فهو أن يكره الرجل المرأة ، وتريد المقام (1) معه ، وتكره مفارقته ، ويريد الرجل طلاقها ، فتقول له : لا تفعل ، انّى أكره أن تشمت بي ، ولكن انظر ليلتي ، فاصنع فيها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من نفقة وغيرها فهي لك ، وأعطيك أيضا من مالي شيئا معلوما ودعني على خالي ، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما على هذا الصلح.

وقال بعض أصحابنا وهو ابن بابويه في رسالته وقد يكون النشوز من قبل المرأة ، لقوله تعالى ( وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ) (2).

وهذا القول أقوى من الأوّل ، لظاهر القرآن ، والأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (3).

ويحلّ للزوج ضربها بنفس النشوز عندنا ، بعد الوعظ لها ، والهجران في

ص: 728


1- ج : تريد المرأة المقام.
2- النساء : 34.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الخلع والمبارأة ، والنشوز والشقاق.

المضجع ، لظاهر التنزيل وهو قوله تعالى « وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ » فاقتضى ظاهره ، متى خاف النشوز منها حلّ له الموعظة ، والهجران ، والضرب.

وأمّا الموعظة ، فإنّه يخوّفها باللّه تعالى ، ويعرّفها أنّ عليها طاعة زوجها ، ويقول : اتقي اللّه وراقبيه ، وأطيعيني ، ولا تمنعيني حقي عليك.

والهجران في المضجع أن يعتزل فراشها ، وروي من طريق أصحابنا أنّ الهجران ، هو أن يحوّل ظهره إليها في المضجع (1).

وأمّا الضرب فهو أن يضربها ضرب تأديب ، كما يضرب الصبيان على التأديب ، ولا يضربها ضربا مبرحا ، ولا مدميا ، ولا مزمنا.

وروي في بعض أخبارنا أنّه يضربها بالسواك (2) ، وذلك على جهة الاستحباب ، وإلا له أن يضربها بالسوط ضرب أدب ، لأنّ ظاهر الآية يقتضي ذلك.

قال شيخنا في مبسوطة : وروى بعض الصحابة ، قال : كنّا معاشر قريش يغلب رجالنا نساءنا ، فقدمنا المدينة فكانت نساؤهم تغلب رجالهم ، فاختلطت نساؤنا بنسائهم ، فذئرن على أزواجهن ، فقلت : يا رسول اللّه ذئر النساء على أزواجهن ، فرخّص في ضربهن (3) و (4).

قال محمّد بن إدريس : ذئر بالذال المعجمة المفتوحة ، والياء المنقطة بنقطتين من تحتها ، المهموزة (5) ، والرّاء الغير المعجمة ، ومعناه اجترأ ، واجترأن ، قال عبيد بن الأبرص :

ص: 729


1- التبيان : ج 3 ، ص 190 ذيل الآية 34 ، من سورة النساء.
2- التبيان : ج 3 ، ص 190 ذيل الآية 34 ، من سورة النساء.
3- المبسوط : ج 4 ، فصل في أحكام النشوز ، ص 338.
4- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدّة ص 326. سنن ابن ماجة : كتاب النكاح ، الباب 51، ح 1985. سنن أبي داود : باب (42) في ضرب النساء من كتاب النكاح ، ح 2146 ، والحديث متضمّن لأصل الرخصة في الضرب.
5- ج : المهموزة المكسورة.

ولقد أتانا عن تميم أنّهم *** ذئروا لقتلى عامر وتغضبوا

وأمّا الشقاق فاشتقاقه من الشق ، وهو الناحية والجانب فكأنّ كلّ واحد من الزوجين في ناحية من الآخر وجانب ، وفي عرف الشرع فهو أنّه إذ أكره كلّ واحد من الزوجين الآخر ، ووقع بينهما الخصومة ، ولا يصطلحان (1) لا على المقام ، ولا على الفراق والطلاق ، فالواجب على الحاكم أن يبعث حكما من أهل الزوج ، وحكما من أهل المرأة ، وبعثهما على طريق التحكيم عندنا ، لا على طريق التوكيل على ما يذهب إليه بعض المخالفين ، فإن رأيا من الصلاح الإصلاح بينهما ، فعلا من غير استيذان ، وإن رأيا الفراق والطلاق فليس لهما ذلك ، وأعلما الحاكم ، ليدبر الأمر فيما بينهما ، إلا أن يكون الرجل قد وكل الحكم المبعوث من أهله في طلاق الزوجة ، فللحكم حينئذ أن يطلّق قبل الاستئذان ، إن رأى ذلك صلاحا ، وكذلك المرأة إن وكلت الحكم المبعوث من أهلها في البذل ، فله ذلك من دون أعلامها.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : والمستحب أن يكون حكم الزوج من أهله ، وحكم المرأة من أهلها ، للظاهر ، وإن بعث من غير أهلها جاز (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ذلك على طريق الإيجاب دون الاستحباب ، لظاهر القرآن.

ويكون الحكمان حرّين ذكرين عدلين.

ذكر سلّار في رسالته ، فقال : وشروط الخلع والمبارأة ، شروط الطلاق ، إلا أنّهما يقعان بكلّ زوجة (3).

ص: 730


1- ج : لا يصلحان.
2- المبسوط : ج 4 ، فصل في الحكمين في الشقاق بين الزوجين ، والعبارة هكذا : والمستحب على القولين معا أن يحكم حكم الزوج من أهله وحكم المرأة من أهلها للظاهر وإن بعث من غير أهلها جاز.
3- المراسم : كتاب الفراق.

قال محمّد بن إدريس : معنى قوله يقعان بكلّ زوجة ، يريد أنّه باين لا رجعة مع واحد منهما ، سواء كان الخلع أو المبارأة مصاحبا للطلقة الأولة ، أو الثانية ، لأنّه لمّا عدد البوائن ، ذكر ذلك.

وقال الراوندي من أصحابنا : أراد المتمتع بها.

وهذا خطأ محض ، لأنّ المبارأة لا بد فيها من طلاق ، والمتمتع بها لا يقع بها طلاق.

باب العدد

إذا طلّق (1) زوجته قبل الدخول بها ، لم يكن عليها منه عدّة ، وحلّت للأزواج في الحال ، فإن كان قد فرض لها مهرا وسمّاه ، كان عليه نصف ما فرض ، وإن لم يكن سمّى لها مهرا ، كان عليه أن يمتعها على قدر حاله وزمانه ، إن كان مؤسرا ، بجارية أو ثوب تبلغ قيمته عشرة دنانير ، أو خمسة فصاعدا ، وإن كان متوسطا ، فما بين الثلاثة الدنانير (2) إلى ما زاد عليها ، وإن كان معسرا بدينار أو بخاتم وما أشبهه على قدر حاله ، كما قال اللّه تعالى ( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (3) والمعتبر بالمتعة حال الرجال (4) دون النساء ، وبمهر المثل حال النساء دون حال الرجال.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أن يقال : العدّة على ضربين ، عدّة من طلاق وما يقوم مقامه ، وعدّة من وفاة وما يجري مجراها.

والمطلّقة على ضربين مدخول بها ، وغير مدخول بها.

فغير المدخول بها لا عدّة عليها بلا خلاف على ما قدّمناه.

والمدخول بها لا تخلو إمّا أن يكون حاملا أو حائلا ، فإن كانت حاملا فعدّتها أن تضع جميع حملها ، على ما بيّناه في أبواب الطلاق وشرحناه وحكينا

ص: 731


1- ج : طلّق الرجل.
2- ج : دنانير.
3- البقرة : 236.
4- ج : الرّجل.

مقالة بعض أصحابنا في ذلك ، حرّة كانت أو أمة ، بغير خلاف يعتدّ به ، وقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (1) يدلّ على ذلك ، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (2) لأنّ آية وضع الحمل عامة في المطلّقة وغيرها ، وناسخة لما تقدّمها بلا خلاف ، يبيّن ذلك أنّ قوله سبحانه ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) في غير الحوامل ، لأنّه تعالى قال ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (3) ومن كانت مستبينة الحمل لا يقال فيها ذلك ، وإذا كانت خاصّة في غير الحوامل ، لم يعارض آية الحمل ، لأنّها عامّة في المطلّقة وغيرها.

وإن كانت حائلا ، فلا تخلو أن تكون ممّن تحيض ، أو لا تحيض.

فإن كانت ممّن تحيض ، فعدّتها إن كانت حرّة ثلاثة قروء بلا خلاف ، وإن كانت أمة فعدّتها قرءان بلا خلاف عندنا ، وعند باقي الفقهاء ، إلا من داود ، فإن عتقت في العدّة وكانت العدّة رجعية ، تممتها عدّة الحرّة. وإن كانت العدّة بائنة فلا يجب عليها تمام عدّة الحرة ، بل يجب عليها الخروج مما أخذت فيه من عدّة الأمة.

والقرء - بفتح القاف - عندنا هو الطهر بين الحيضتين.

وإن كانت لا تحيض ومثلها تحيض ، فعدّتها إن كانت حرّة ثلاثة أشهر بلا خلاف ، وإن كانت أمة فخمسة وأربعون يوما ، وإن كانت لا تحيض لصغر لم تبلغ تسع سنين ، أو لكبر بلغ خمسين سنة ، مع تغير عادتها ، وهما اللتان ليس في سنّهما من تحيض ، فقد اختلف أصحابنا في وجوب العدّة عليهما ، فمنهم من قال لا تجب ، ومنهم من قال تجب أن تعتد بالشهور ، وهي ثلاثة أشهر ، وهو اختيار السيد المرتضى ، وبه قال جميع المخالفين ، ويحتج بصحة ما ذهب إليه ، بأن قال :

طريقة الاحتياط تقتضي ذلك ، وأيضا قوله تعالى : ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ

ص: 732


1- الطلاق : 4.
2- البقرة : 228.
3- البقرة : 228.

مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) (1) وهذا نص ، وقوله تعالى « إِنِ ارْتَبْتُمْ » معناه على ما ذكره جمهور المفسرين ، إن كنتم مرتابين في عدّة هؤلاء النساء وغير عالمين بمقدارها ، فقد روي أنّ أبي بن كعب قال : يا رسول اللّه انّ عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار ، وأولاتُ الأحمالِ ، فأنزل اللّه تعالى « وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ » إلى قوله : ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) ولا يجوز أن يكون الارتياب بأنّها آيسة من المحيض ، أو غير آيسة ، لأنّه تعالى قطع فيمن تضمنته الآية باليأس من المحيض ، بقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ ) والمرتاب في أمرها لا تكون آيسة.

وإذا كان المرجع في حصول حيض المرأة وارتفاعه إلى قولها ، كانت مصدّقة فيما تخبر به من ذلك ، وأخبرت بأحد الأمرين ، لم يبق للارتياب في ذلك معنى ، وكان يجب لو كانت الريبة راجعة إلى ذلك أن يقول : إن ارتبن (2) ، لأنّ الحكم في ذلك يرجع إلى النساء ، ويتعلّق بهنّ ، ولا يجوز أن يكون الارتياب بمن تحيض أو لا تحيض ممّن هو في سنّها ، لأنّه لا ريب في ذلك من حيث كان المرجع فيه إلى العادة ، على أنّه لا بدّ فيما علّقنا به الشرط ، وجعلنا الريبة واقعة فيه ، من مقدار عدّة من تضمنته الآية ، من أن يكون مرادا ، من حيث لم يكن معلوما لنا قبل الآية ، وإذا كانت الريبة حاصلة بلا خلاف ، تعلّق الشرط به ، واستقل بذلك الكلام ، ومع استقلاله يتعلّق الشرط بما ذكرناه ، ولا يجوز أن يتعلّق بشي ء آخر ، كما لا يجوز فيه لو كان مستقلا اشتراطه ، فهذا جملة ما يتمسّك به من نصر اختيار المرتضى.

والقول الآخر أكثر وأظهر بين أصحابنا ، وعليه يعمل العامل منهم ، وبه يفتي المفتي ، والروايات بذلك متظاهرة متواترة ، وأيضا الأصل براء الذمة من هذا التكليف ، فمن علّق عليها شيئا يحتاج إلى دليل ، وهو مذهب شيخنا المفيد ،

ص: 733


1- الطلاق : 4.
2- ج : ارتبتنّ.

وشيخنا أبي جعفر في سائر كتبه.

فأمّا الآية فلا تعلّق فيها بحال ، لا تصريحا ولا تلويحا ، لأنّه تعالى شرط في إيجاب العدّة ثلاثة أشهر إن ارتابت ، والريبة لا تكون إلا فيمن تحيض مثلها ، فأمّا من لا تحيض مثلها فلا ريبة عليها ، فلا يتناولها الشرط المؤثّر.

وأمّا ما يقوم مقام الطلاق ، فانقضاء أجل المتمتع بها ، وعدّتها قرءان ، إن كانت ممن تحيض وخمسة وأربعون يوما إن كانت ممّن لا تحيض.

فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها ، إن كانت حرّة حائلا ، فعدّتها أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، مدخولا بها أو غير مدخول بها ، بلا خلاف ، وقد دخل في هذا الحكم المطلّقة طلاقا رجعيا إذا توفّي زوجها ، وهي في العدّة ، لأنّها زوجة على ما بيّناه ، ولا تتمم على ما مضى لها من عدّتها قبل موت الزوج ، بل يجب عليها استئناف عدّة الوفاة ، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام من وقت موته ، لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (1) أراد تعالى يتربّصن بعد الموت ، لا قبل الموت.

وهذه عدّة المتمتع بها ، إذا توفي عنها زوجها قبل انقضاء أيامها على الصحيح من المذهب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عدّة المتمتع بها إذا مات زوجها عنها ، وهي في حباله ، شهران وخمسة أيام ، والقرآن قاض عليه.

فإن مات بعد خروجها من حباله وانقضاء أيامه قبل خروجها من عدّتها ، فلا يجب عليها إلا تمام العدّة التي أخذت فيها ، دون عدّة الوفاة ، لأنّها ليست زوجة للميت.

وكذلك المطلّقة طلاقا بائنا لا رجعة للمطلّق فيه ، ومات زوجها عنها قبل خروجها من عدّتها التي لا رجعة له عليها فيها ، فإنّها تتمم العدّة التي أخذ من

ص: 734


1- البقرة : 234.

فيها ، دون عدّة الوفاة ، لأنّها ليست زوجة للميت على ما قدّمناه.

وقد روي أنّ عدّة أم الولد لوفاة سيدها وعدّتها لو زوّجها سيّدها وتوفى عنها ، زوجها ، أربعة أشهر وعشرة أيام (1).

والأولى في أم الولد أنّ لا عدّة عليها في موت مولاها ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وهذه ليست زوجة ، بل باقية على الملك والعبودية إلى حين وفاته.

فأمّا عدّة الأمة المتوفّى عنها زوجها ، سواء كانت أم ولد ، أو لم تكن فأربعة أشهر وعشرة أيام ، على الصحيح من المذهب. والذي يقتضيه أصول أصحابنا (2) ، ويعضده ظاهر القرآن ، لأنّ اللّه تعالى قال ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (3) وهذه زوجة بلا خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : عدّتها إذا لم تكن أم ولد شهران وخمسة أيّام ، على النصف من عدّة الحرة المتوفّى عنها زوجها (4).

إلا أنّه رجع عن هذا في كتابه التبيان لتفسير القرآن (5) ، واختار ما اخترناه.

فإن توفّي زوج الجارية ، وكان قد طلّقها وهي في العدّة ، فإن كان أول طلاقها وله عليها الرجعة ، فالواجب عليها أن تعتد من وقت موته أربعة أشهر وعشرة أيام ، تستأنف ذلك ، ولا تعتدّ بما مضى من الأيام ، ولا تبني عليها.

وإن كان ثاني طلاقها وهي في العدّة التي لا رجعة له عليها ، فتتمم ما أخذت فيه ، ولا تستأنف عدّة الوفاة.

فإن كانت مطلّقة وأخذت في العدّة ، ثمّ أعتقها مولاها وهي في العدّة ، فإن كانت لا رجعة للزوج عليها فيها ، بنت على عدّة الأمة ، وإن كان له فيها عليها

ص: 735


1- الوسائل : الباب 42 من أبواب العدد ، ح 4 و 5.
2- ج أصول مذهبنا.
3- البقرة : 234.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
5- التبيان : ج 2 ، ص 262 ، ذيل الآية 234 من سورة البقرة.

الرجعة ، تمّمت عدّة الحرّة.

وإن كانت المتوفّى عنها زوجها حاملا ، فعليها أن تعتدّ عندنا خاصّة بأبعد الأجلين ، فإن وضعت قبل انقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام ، لم تنقض عدّتها حتى تكمل تلك المدة ، وإن كملت المدة قبل وضع الحمل ، لم تنقض عدّتها حتى تضع حملها ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، وطريقة الاحتياط ، لأنّ العدّة عبادة وتكليف تستحق عليها الثواب ، وإذا كان الثواب فيما ذهبنا إليه أوفر ، لأنّ المشقة فيه أكثر ، كان أولى من غيره ، وقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (1) معارض بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (2) فإذا علمنا بما ذهبنا إليه ، نكون عاملين بالآيتين معا ، والمخالف لا يمكنه العمل بآية عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وهي الأربعة الأشهر والعشرة الأيام إذا كانت حاملا ، ووضعت قبل مضي المدة ، فيترك الآية هاهنا رأسا.

وأمّا ما يجري مجرى الموت فشيئان.

أحدهما غيبة الزوج التي لا تعرف الزوجة معها له خبرا ، ولا لها نفقة ، فإنّها إذا لم تختر الصبر على ذلك ، ورفعت أمرها إلى الإمام في حال ظهوره ، أو إلى نوابه في هذه الحال ، ولم يكن له ولي يمكنه الإنفاق ، ولا له مال ينفق عليها منه ، أنفق عليها الإمام من بيت المال ، وبعث من يتعرّف خبره في الآفاق والجهات التي سافر إلى نحوها ، فإن لم يعرف له خبر حتى انقضت أربع سنين من يوم رفعت أمرها إلى الإمام ، أمرها الإمام بالاعتداد عنه أربعة أشهر وعشرة أيام ، عدّة المتوفّى عنها زوجها ، فإن قدم وهي في العدّة قبل خروجها منها ، فهو أملك بها بالعقد الأول ، وإن جاء بعد خروجها من العدّة ، فقد اختلف قول أصحابنا

ص: 736


1- الطلاق : 4.
2- البقرة : 234.

في ذلك ، فقال بعضهم : الزوج أملك بها ، وقال آخرون : هي أملك بنفسها ، وهو خاطب من الخطاب ، لأنّ لها أن تتزوج بعد خروجها من العدّة بلا فصل ، فلو كان أملك بها لما جاز لها التزويج.

وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) ، فإنّه رجع عمّا ذكره في نهايته (2).

وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّها قد خرجت من العدّة خروجا شرعيا ، من عدّة شرعيّة ، فقد بانت منه ، وحلّت للأزواج بغير خلاف ، ولا دلالة على عودها إليه من غير عقد جديد ، فانّ عودها إليه وكونه أملك بها حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع منعقد ، لأنّا قد بيّنا أنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، والأصل براءة الذمة.

فأمّا إذا تزوّجت فلا خلاف بينهم ، في أنّ الثاني أحقّ بها من الأوّل.

وهذا حكم باطل في حال غيبة الإمام عليه السلام وقصور يده ، فإنّها مبتلاة ، وعليها الصبر إلى أن تعرف موته أو طلاقه ، على ما وردت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (3) والثاني الارتداد عن الإسلام ، على الوجه الذي لا تقبل التوبة منه.

وحكم العدّة في الطلاق الرجعي أن لا تخرج من بيت مطلّقها إلا بإذنه ، ولا يجوز له إخراجها منه ، وهي أحقّ بالسكنى فيه ، فإن باعه وكانت عدّتها بالأقراء التي هي الأطهار ، أو بالحمل ، فالبيع غير صحيح ، وإن كانت عدّتها بالشهور ، فالبيع صحيح ، وتكون مدّة الشهور مستثناة ، ولا يجوز له إخراجها منه ، إلا أن تؤذي أهله ، أو تأتي فيه بما يوجب الحدّ ، فيخرجها لإقامته ، ولا يجب عليه ردّها إليه.

وقال بعض أصحابنا : يخرجها لإقامته ، ويردّها ، ولا تبيت إلا فيه ، ولا يردّها إذا أخرجها للأذى.

ص: 737


1- المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، فصل في امرأة المفقود زوجها وعدتها ، ص 278.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد ، آخر الباب.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ح 3.

والأظهر أن لا يردّها في الموضعين ، لأنّ ردها يحتاج إلى دليل.

ويجب عليه النفقة في عدّة الطلاق الرجعي ، ولا يجب في عدّة البائن ، إلا أن تكون حاملا ، فإنّ النفقة تجب على الزوج لها بلا خلاف ، لقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (1) ولا نفقة لبائن حامل غير المطلّقة الحامل فحسب ، لدليل الآية ، وإلحاق غيرها بها قياس ، ونحن لا نقول به ، لا لمتمتع بها ، ولا لمفسوخ نكاحها ، وغير ذلك.

ولا نفقة للمتوفّى عنها زوجها إذا كانت حائلا بلا خلاف ، وإن كانت حاملا أنفق عليها عندنا خاصّة من مال ولدها الذي يعزل له ، حتى تضع ، على ما روي في الأخبار (2) ، وذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، في جميع كتبه.

والذي يقوى في نفسي ، ويقتضيه أصول مذهبنا ، أن لا ينفق عليها من المال المعزول ، لأنّ الإنفاق حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي ، والأصل أن لا إنفاق ، وأيضا النفقة لا تجب للوالدة الموسرة ، وهذه الام لها مال ، فكيف تجب النفقة عليها ، فإن

كان على المسألة إجماع منعقد من أصحابنا ، قلنا به ، وإلا بقينا على نفي الأحكام الشرعيّة إلا بأدلّة شرعية.

وما اخترناه وحرّرناه مذهب شيخنا محمد بن محمد بن النعمان المفيد ، في كتابه التمهيد ، فإنّه قال : إنّ الولد انّما يكون له مال عند خروجه إلى الأرض حيا فأمّا وهو جنين ، لا يعرف له موت من حياة ، فلا ميراث له ولا مال على الإنفاق ، فكيف ينفق على الحبلى من مال من لا مال له ، لو لا السهو في الرواية ، أو الإدغال (3) فيها هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وقد أشبع القول فيه ، وجنح الكلام والاحتجاج ، فمن أراد الوقوف عليه ، وقف من كتابه الذي أشرنا إليه ، ونبهنا عليه ، وهو كتاب التمهيد ، فإنّ فيه

ص: 738


1- الطلاق : 6.
2- الوسائل : الباب 10 من أبواب النفقات.
3- التمهيد : ( مخطوط ).

أشياء حسنة ، ومناظرات شافية.

وتبيت المتوفّى عنها زوجها حيث شاءت.

ويلزمها الإحداد بلا خلاف إذا كانت حرّة ، صغيرة كانت أو كبيرة.

قال محمّد بن إدريس : ولي في الصغيرة نظر ، لأنّ لزوم الحداد حكم شرعي ، وتكليف سمعي ، والتكاليف لا تتوجه إلا إلى العقلاء.

وانّما ذهب شيخنا في مسائل خلافه (1) إلى أنّ الصغيرة يلزمها (2) الحداد ، ولم يدلّ بإجماع الفرقة ولا بالأخبار.

وهذه المسألة لا نص لأصحابنا عليها ، ولا إجماع.

والحداد هو اجتناب الزينة في الهيئة ، ومس الطيب ، واللباس ، وكلّ ما تدعو النفس إليه ، سواء كان طيبا أو غيره ، ولا يلزم المطلّقة وإن كانت بائنا ، كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة ، ودلالة الأصل ، وقوله تعالى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (3).

ويلزم عدّة الوفاة للغائب عنها زوجها ، من يوم يبلغها الخبر ، لا من يوم الوفاة بغير خلاف بين أصحابنا.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ حكم المعتدة من طلاق زوجها الغائب كذلك.

والأظهر والأكثر المعمول عليه ، الفرق بين الموضعين ، وهو أنّ في عدّة الطلاق تعتد من يوم طلّقها ، إذا قامت بينة عدول بضبط التاريخ.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كانت المرأة مسترابة ، فإنّها تراعي الشهور والحيض ، فإن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ، لم تر فيها دما ، فقد بانت منه بالشهور ، وإن مرّت بها ثلاثة أشهر إلا يوما ، ثم رأت الدم كان عليها أن تعتد بالأقراء ، فإن تأخّرت عنها الحيضة الثانية ، فلتصبر من يوم طلّقها إلى تمام

ص: 739


1- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 28.
2- ج : لزمها.
3- الأعراف : 32.

التسعة أشهر ، فإن لم تر دما فلتعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر ، وقد بانت منه ، وإن رأت الدم فيما بينها وبين التسعة أشهر ثانيا ، واحتبس عليها الدم الثالث ، فلتصبر تمام السنة ، ثم تعتدّ بعد ذلك بثلاثة أشهر ، تمام الخمسة عشر شهرا ، وقد بانت منه ، وأيّهما مات ما بينه وبين الخمسة عشر شهرا ورثه صاحبه (1).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى في نفسي ، أنّها إذا احتبس الدم الثالث بعد مضي تسعة أشهر ، اعتدّت بعدها بثلاثة أشهر تمام السنة ، لأنّها تستبرأ بتسعة أشهر ، وهي أقصى مدّة الحمل ، فيعلم أنّها ليست حاملا ، ثم تعتدّ بعد ذلك عدتها ، وهي ثلاثة أشهر.

وشيخنا أبو جعفر ، رجع عمّا ذكره في نهايته في الجزء الثالث من استبصاره ، وقال بما اخترناه ، فإنّه قال في باب أنّ المرأة إذا حاضت فيما دون الثلاثة أشهر ، كان عدّتها بالأقراء ، فأورد الخبر الذي ذكره في نهايته ، وهو عن عمار الساباطي ، الذي قال فيه : يكون عدّتها إلى تمام خمسة عشر شهرا ، ثمّ أورد خبرا بعده عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطيّة ، عن سورة بن كليب ، قال : سئل أبو عبد اللّه ، عن رجل طلّق امرأته تطليقة على طهر ، من غير جماع بشهود ، طلاق السنّة وهي ممن تحيض ، فمضى ثلاثة أشهر ، فلم تحض إلا حيضة واحدة ، ثم ارتفعت حيضتها ، حتى مضت ثلاثة أشهر أخرى ، ولم تدر ما رفع حيضتها ، قال : إن كانت شابّة مستقيمة الحيض ، فلم تطمث في ثلاثة أشهر إلا حيضة ، ثمّ ارتفع طمثها ، ولا تدري ما رفعها ، فإنّها تتربص تسعة أشهر من يوم طلّقها ، ثمّ تعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر ، ثمّ تتزوج إن شاءت ، قال محمّد بن الحسن : هذا الخبر ينبغي أن يكون العمل عليه ، لأنّها تستبرأ بتسعة أشهر ، وهو أقصى مدّة الحمل ، فيعلم أنها ليست حاملا ، ثمّ تعتد بعد ذلك عدّتها وهي

ص: 740


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

ثلاثة أشهر ، والخبر الأول نحمله على ضرب من الفضل والاحتياط ، بأن تعتد إلى خمسة عشر شهرا (1) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في استبصاره.

وإذا حاضت المرأة حيضة واحدة ، ثمّ ارتفع حيضها ، وعلمت أنّها لا تحيض بعد ذلك لكبر ، فلتعتدّ بعد ذلك بشهرين ، وقد بانت منه على ما رواه أصحابنا (2).

وإذا كانت المرأة المطلّقة مستحاضة ، وتعرف أيام حيضها ، فلتعتدّ بالأقراء ، وإن لم تعرف أيام حيضها اعتبرت صفة الدم ، واعتدت أيضا بالأقراء ، فإن اشتبه عليها دم الحيض بدم الاستحاضة ولم يكن لها طريق إلى الفرق بينهما اعتبرت عادة نسائها في الحيض ، فتعتدّ على عادتهن في الأقراء (3) هكذا ذكره شيخنا في نهايته.

والأولى تقديم العادة على اعتبار صفة الدم ، لأنّ العادة أقوى.

فإن لم تكن لها نساء لهن عادة ، رجعت إلى اعتبار صفة الدم ، وهذا مذهبه في جمله وعقوده (4).

فإن لم يكن لها نساء ، أو كنّ مختلفات العادة ، اعتدت بثلاثة أشهر ، وقد بانت منه.

هذا على قول من يقول بكون حيض هذه في كلّ شهر ثلاثة أيام ، أو عشرة أيام أو سبعة أيام ، ففي الثلاثة الأشهر تحصل لها ثلاثة أطهار.

فأمّا على قول من يقول تحصل عشرة أيام طهرا وعشرة أيام حيضا ، فتكون عدّتها أربعين يوما ولحظتين.

ومتى كانت المرأة لها عادة بالحيض في حال الاستقامة ، ثمّ اضطربت أيّامها ،

ص: 741


1- الإستبصار : ج 3 ، باب ان المرأة إذا حاضت فيما دون الثلاثة أشهر .. ص 323.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب العدد.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
4- الجمل والعقود : كتاب الطهارة ، فصل في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس ، ص 163 ، والمستفاد من كلامه « قدس سره » في المقام تقديم الرجوع إلى الصفة على عادة النساء ، كما في النهاية فراجع.

فصارت مثلا بعد ان كانت تحيض كلّ شهر ، لا تحيض إلا في شهرين ، أو ثلاثة أشهر ، وصار ذلك عادة لها ، فلتعتدّ بالأقراء التي قد صارت عادة لها ، لا بالعادة الاولى ، وقد بانت منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى كانت المرأة لها عادة بالحيض في حال الاستقامة ، ثمّ اضطربت أيامها ، فصارت مثلا بعد أن كانت تحيض كلّ شهر ، لا تحيض إلا في شهرين ، أو ثلاثة ، أو ما زاد عليه ، فلتعتدّ بالأقراء على ما جرت به عادتها في حال الاستقامة ، وقد بانت منه (1).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : « فلتعتد بالأقراء على ما جرت به عادتها في حال الاستقامة » إن أراد بذلك في الشهر والشهرين والثلاثة ، من غير تجاوز الثلاثة الأشهر ، ولم يصر ذلك عادة لها ، بل هي عارفة بعادتها الاولى ، فلتعتد بما قال من عادتها الاولى في حال استقامة أقرائها ، وإن أراد أنّ العادة الاولى اضطربت عليها ، واختلفت ، وصارت ناسية لأوقاتها وأيامها ، غير عالمة بها ، ثمّ صار حيضها في الشهرين والثلاثة عادة لها ثابتة مستمرة ، توالت عليها شهران متتابعان ، ترى الدم فيهما أياما سواء في أوقات سواء ، فلتجعل ذلك عادة لها ، وتعتد بذلك ، لا بالعادة الأولى التي نسيتها واضطربت عليها ، فأمّا ما زاد على الثلاثة الأشهر فصارت لا ترى الدم إلا بعد ثلاثة أشهر ، فإنّ هذه تعتد بالأشهر الثلاثة البيض بغير خلاف ، لقولهم عليهم السلام : أمران أيّهما سبق فقد بانت منه ، وكان ذلك عدّة لها (2) وقد سبقت الثلاثة الأشهر البيض ، فهذا تحرير الحديث وفقهه.

وإذا كانت المرأة لا تحيض إلا في ثلاث سنين ، أو أربع سنين مرة واحدة. وكان ذلك عادة لها ، فلتعتد بثلاثة أشهر وقد بانت منه ، وليس عليها أكثر من ذلك لما قدّمناه من سبق الأشهر الثلاثة البيض.

ص: 742


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
2- الوسائل : الباب 4 من أبواب العدد ، ح 3 - 5 - 12 - 13.

وإذا طلّق امرأة فإن ارتابت بالحمل بعد ان طلّقها ، أو ادّعت ذلك ، صبر عليها تسعة أشهر ، ثم تعتدّ بعد ذلك بثلاثة أشهر ، وقد بانت منه ، فإن ادّعت بعد انقضاء هذه المدة حملا ، لم يلتفت إلى دعواها ، وكانت باطلة ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والأولى عندي أنّها تبين وتنقضي عدّتها بعد التسعة الأشهر ، ولا يحتاج إلى استئناف عدّة أخرى بثلاثة أشهر ، لأنّه لا دليل عليه ، لأنّ في ذلك المطلوب من سبق الأشهر البيض الثلاثة ، أو وضع الحمل ، وانّما ذلك خبر واحد ، أورده شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا.

وقال شيخنا في نهايته : وعدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، إذا كانت حرّة ، سواء كانت زوجة على طريق الدوام ، أو متمتعا بها ، وسواء دخل بها الزوج أو لم يدخل وإن كانت أمة ، فإن كانت أم ولد لمولاها ، فعدّتها أيضا مثل عدّة الحرّة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وإن كانت مملوكة ليست أم ولد فعدّتها شهران وخمسة أيام (2).

وقد قلنا : إنّ الصحيح من الأقوال والأظهر بين أصحابنا ، أنّ عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت حرّة أو امة ، أم ولد كانت أو غير أم ولد ، لظاهر القرآن.

وشيخنا فقد رجع عمّا ذكره في نهايته ، في كتاب التبيان لتفسير القرآن (3).

وقال رحمه اللّه في نهايته : فإن طلّقها الرجل ثمّ مات عنها ، فإن كان طلاقها طلاقا يملك فيه رجعتها ، كان عدّتها أربعة أشهر وعشرة أيام ، إذا كانت أم ولد ، وإن لم تكن أم ولد كانت عدّتها شهرين وخمسة أيام ، حسب ما قدّمناه.

وقد قلنا نحن ما عندنا في ذلك.

وقال : وإن لم يملك رجعتها ، فعدّتها عدّة المطلّقة ، حسب ما قدّمناه ، وإذا

ص: 743


1- النهاية : كتاب الطلاق باب العدد ، باختلاف يسير.
2- النهاية : كتاب الطلاق باب العدد ، باختلاف يسير.
3- التبيان : ج 2 ، ص 262 ، ذيل الآية 234 من سورة البقرة.

مات عنها زوجها ، ثمّ عتقت ، كان عدّتها أربعة أشهر وعشرة أيّام ، وكذلك إن كانت الأمة يطؤها بملك اليمين ، وأعتقها بعد وفاته ، كان عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام ، فإن أعتقها في حال حياته ، كان عدّتها ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر ، حسب ما قدّمناه (1).

قال محمّد بن إدريس : قد ورد حديث (2) بما ذكره رحمه اللّه ، فان كان مجمعا عليه ، فالإجماع هو الحجة ، وإن لم يكن مجمعا عليه ، فلا دلالة على ذلك ، والأصل براءة ذمتهما من العدّة ، لأنّ إحداهما غير متوفى عنها زوجها ، أعني من جعل عتقها بعد موته ، فلا يلزمها عدّة الوفاة ، والأخرى غير مطلّقة ، أعني من أعتقها في حال حياته ، فلا يلزمها عدّة المطلّقة ، ولزوم العدة حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، والأصل براءة الذمة.

وقال رحمه اللّه في نهايته : وإذا طلّق الرجل زوجته الحرة ، ثمّ مات عنها ، فإن كان طلاقا يملك فيه الرجعة ، فعدّتها أبعد الأجلين ، أربعة أشهر وعشرة أيّام ، وإن لم يملك رجعتها كان عدّتها عدّة المطلّقة (3).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : فعدّتها أبعد الأجلين ، عبارة غير متعارفة بين الفقهاء في هذا الموضع ، وانّما يقال ذلك عندنا في الحامل المتوفّى عنها زوجها فحسب ، وانّما مقصوده رحمه اللّه ، أنّ الطلاق إن كان يملك المطلّق فيه الرجعة ، ثم مات وهي في العدّة ، فالواجب عليها أن تعتد منذ يوم مات ، أربعة أشهر وعشرة أيام ، ولا تحتسب بما اعتدت به ، ولا تبنى عليه ، وتستأنف عدة الوفاة التي هي أطول من العدّة التي كانت فيها ، أعني عدّة الطلاق ، فلأجل

ص: 744


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
2- الوسائل : الباب 50 من أبواب العدد ح 1 والباب 51 منها الحديث 1 ، والباب 43 منها ح 1 3 - 5 - 6 - 7 - 8.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

ذلك قال أبعد الأجلين ، لأنّ الرجعية عندنا زوجة ، فتناولها إذا مات عنها زوجها ظاهر القرآن ، من قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (1) وهذا وذر زوجة ، فيجب عليها التربص منذ يوم مات أربعة أشهر وعشرا ، لأنّه تعالى أراد أن يتربصن منذ يوم مات ، فإذا بنت على ما اعتدت من عدّة الطلاق ، ما تربصت منذ يوم مات ، أربعة أشهر وعشرا.

فإذا كان عدّة الطلاق لا يملك فيه الرجعة ، فتتم على ما اعتدت إلى أن تستوفي عدّة الطلاق ، دون عدّة الوفاة ، لأنّه ما مات عن زوجة ، ولا مات لها زوج هي في حباله ، بل هو أجنبي منها ، وهي أجنبية منه ، فهذا الفرق بين الموضعين ، والمميز بين المسألتين.

وعدّة اليهودية والنصرانية ، مثل عدّة الحرّة المسلمة (2) إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام.

وقد قدّمنا أنّ المتوفّى عنها زوجها عليها الحداد إذا كانت حرة فإن كانت امة لم يكن عليها حداد ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (3).

وقد رجع عنه في مبسوطة ، وقال : يلزمها الحداد ، لعموم الخبر المروي عن الرسول عليه السلام : لا تحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر ، أن تحد على أحد فوق ثلاث ، إلا على زوج ، فإنّها تحد أربعة أشهر وعشرا (4).

وهذا عام وبهذا افتي.

والحداد هو ترك الزينة ، وأكل (5) ما فيه الرائحة الطيبة ، وشمّه ، ولبس الثياب المزعفرات والملونات التي تدعو النفس إليها ، وتميل الطباع نحوها ، والكحل بأنواع ما يحسن العين ، وكذلك ما يرجل الشعر ويحسنه ، لأنّ الحداد هو

ص: 745


1- البقرة : 234.
2- ج : عدّة المسلمة.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
4- المبسوط : كتاب العدد ، فصل في الإحداد ، ص 265.
5- ل. وكل.

المنع ، يقال : حدت المرأة على زوجها ، أي امتنعت ممّا ذكرناه ، « وأحدّت بالرباعي والثلاثي ، فمصدر الثلاثي حدادا ، والرباعي احدادا » سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

ويجب على ولي الصغيرة ، أن يمنعها ممّا ذكرناه.

وقد قلنا ما عندنا في ذلك وحرّرناه فيما تقدّم ، وبيّناه.

ولا حداد على مطلّقة عندنا سواء كان بائنا طلاقها أو رجعيا.

الأقراء عندنا الأطهار ، دون الحيض ، فإذا رأت المطلّقة المستقيمة الحيض ، الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها.

وأقلّ ما يمكن أن ينقضي به عدد ذوات الأقراء إذا كانت حرّة غير متمتع بها ، ستة وعشرون يوما ولحظتان ، والمتمتع بها والأمة ، ثلاثة عشر يوما ولحظتان ، لأنّا قد بيّنا في كتاب الحيض ، أنّ أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأقل الطهر عشرة أيّام ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت ما قلناه ، وبان ما قدّرناه ، ويكون التقدير أن يطلقها في آخر كلّ جزء (1) من طهرها ، ثمّ ترى الدم بعد لحظة ، فيحصل لها قرء واحد ، فترى بعد ذلك الدم ثلاثة أيام ، ثمّ ترى الطهر عشرة أيام ثم ترى الدم ثلاثة أيام ، ثم ترى الطهر عشرة أيام ، ثمّ ترى الدم لحظة ، فقد مضى بها ستة وعشرون يوما ولحظتان ، وقد انقضت عدّتها. وفي الأمة إذا طلّقها في آخر طهرها ، ثمّ ترى الدم ثلاثة أيام ، ثم ترى الطهر عشرة أيام ، ثمّ ترى الدم لحظة ، فقد انقضت عدّتها في ثلاثة عشر يوما ولحظتين ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2).

والذي يجب تحصيله وتحقيقه ، أن يقال : أقل ما تنقضي به عدّة من ذكرناه ، في ستة وعشرين يوما ولحظة في الحرّة المطلّقة ، فأمّا الأمة المطلّقة والحرّة المستمتع بها ، فثلاثة عشر يوما ولحظة فحسب في الموضعين ، وما بنا حاجة إلى

ص: 746


1- ق : آخر جزء.
2- الخلاف : كتاب الرجعة ، المسألة 2.

اللحظتين ، لأنّ اللحظة التي ترى فيها الدم الثالث ، ليست من جملة العدّة التي هي الأطهار بلا خلاف بيننا ، فإذا ثبت ذلك ، فاللحظة التي رأت فيها الدم ، غير داخلة في جملة العدة ، فلا حاجة بنا إلى دخولها في جملة العدّة.

وإلى هذا يذهب السيد المرتضى في كتابه الانتصار (1) ، ونعم ما قال ، فانّ الصحيح معه في ذلك ، على ما حرّرناه وأوضحناه ، فليلحظ ببصر التأمّل.

إذا زوّج صغير (2) امرأة ، فمات عنها ، لزمها عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرا.

المعتدة بالأشهر إذا طلّقت في آخر الشهر ، اعتدت بالأهلة ، بلا خلاف ، فإن طلّقت في وسط الشهر ، سقط اعتبار الهلال في هذا الشهر ، واحتسبت بالعدد ، فتنظر قدر ما بقي من الشهر ، وتعتدّ بعده هلالين ، ثمّ تتمّم من الشهر الرابع ثلاثين يوما ، وتلفق الأنصاف والساعات.

إذا طلّقها واعتدت ، ثمّ أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وقت انقضاء العدة ، إذا كانت العدّة بالأشهر الثلاثة ، لم يلحقه ، لأنّا قد دللنا على أنّ زمان الحمل لا يكون أكثر من تسعة أشهر.

إذا خلا بها ولم يدخل بها ، لم يجب عليها العدّة ، ولا يجب لها جميع المسمّى إذا طلّقها بعد ذلك ، سواء كانت ثيبا أو بكرا ، لأنّه الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، ولا يلتفت إلى رواية ترد بخلاف ذلك (3) ، لأنّ الأصل براءة الذمة من المهر والعدّة ، وشغلها يحتاج إلى دليل.

الأمة إذا كانت تحت عبد وطلّقها طلقة ، ثمّ اعتقت ، ثبت له عليها رجعة بلا خلاف ، ولها اختيار الفسخ ، فإن اختارت الفسخ ، بطل حقّ الرجعة بلا خلاف.

وعندنا أنّها تتم عدّة الحرة ثلاثة أقراء على ما قدّمناه.

إذا تزوج امرأة ودخل بها ، ثمّ خلعها ثمّ تزوّجها وطلّقها قبل الدخول بها ، لا

ص: 747


1- الانتصار : في العدد.
2- ق : صبيّ صغير.
3- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور ، ح 2.

عدّة عليها ، لقوله تعالى ( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) (1) وهذه طلّقها في العقد الثاني قبل المسيس.

وإذا طلّقها طلقة رجعية ، ثمّ راجعها ، ثم طلّقها بعد الدخول بها ، فعليها استئناف العدّة بلا خلاف ، وإن طلّقها ثانيا قبل الدخول بها ، فعليها أيضا استئناف العدّة ، لأنّ العدة الأولى قد انقضت بالرجعة.

كلّ موضع تجتمع على المرأة عدّتان ، فإنّهما لا يتداخلان ، بل تأتي بكلّ واحدة منهما على الكمال ، تقدّم الاولى ، ثم الثانية.

أقل الحمل ستة أشهر بلا خلاف ، وأكثره عند المحصّلين من أصحابنا تسعة أشهر ، وقال بعض منهم : أكثره سنة ، وهو اختيار السيد المرتضى في انتصاره (2).

إلا أنّه رجع عنه في جواب المسائل الاولى الموصليات (3) ، وأشبع القول ، واستدلّ على أنّه لا يتجاوز الحمل أكثر من تسعة أشهر.

وذهب بعضهم إلى أنّ أكثره عشرة أشهر ، وهو اختيار سلار من أصحابنا (4).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : إذا طلّقها في آخر الطهر ، وبقي بعد التلفظ بالطلاق جزء ، وقع فيه الطلاق ، وهو مباح ، وتعتد بالجزء الذي بقي طهرا ، إذا كان طهرا لم يجامعها فيه ، فان قال لها : أنت طالق ، ثم حاضت عقيب هذا اللفظ ، قال رحمه اللّه : يقوى في نفسي ، أنّ الطلاق يقع ، لأنّه وقع في حال الطهر ، إلا أنّها لا تعتد بالطهر الذي يلي الحيض ، لأنّه ما بقي هناك جزء تعتدّ به (5).

قال محمّد بن إدريس : قوله « رحمه اللّه » : « إلا انّها لا تعتد بالطهر الذي يلي الحيض » ، عجيب ، وكيف لا تعتد بالطهر الذي يتعقب هذا الحيض ، بل هذا

ص: 748


1- الأحزاب : 49.
2- الانتصار : في العدد.
3- راجع المجموعة الاولى من رسائل الشريف المرتضى ص 191 و 244.
4- المراسم : في النفقات ، والعبارة هكذا : وأقل الحمل ستة أشهر ، والأكثر تسعة أشهر ، وقيل عشرة أشهر.
5- المبسوط ج 5 ، كتاب العدد ، ص 235 ، في العبارة تقطيع.

الطهر الذي يأتي بعد حيضتها ، هذا هو أول أقرائها.

ثمّ قال رحمه اللّه : « لأنّه ما بقي هناك جزء تعتدّ به » مناقضة لما قاله ، لأنّه قال : « لا تعتد بالطهر الذي يلي الحيض » فأي طهر بقي؟ وأي جزء من الطهر الذي طلّقها فيه؟ لأنّه قال : « أنّه بعد التلفظ بالطلاق بلا فصل ، حاضت » ، فلا يتقدّر جزء من ذلك الطهر يلي حيضها ، بل طهر غير ذلك وإذا كان طهر غير ذلك ، فإنّها تعتدّ به بلا خلاف ، فليلحظ ما نبهنا عليه ويتأمّل.

وإذا طلّقها واختلفا ، فقالت : طلقتني وقد بقي من الطهر جزءان ، فاعتدت بذلك قرء ، وقال الزوج : لم يبق شي ء تعتدين به ، فالقول قول المرأة ، لأنّ قولها يقبل في الحيض والطهر عندنا.

وقال شيخنا في مبسوطة : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها ، وقال قوم : لا تنقضي حتى يمضي أقل أيام الحيض ، (1) قال رحمه اللّه : والذي أقوله ، إن كان لها عادة مستقيمة ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها ، وإن كان قد تقدّم رؤية دمها على ما جرت به العادة ، لم تنقض حتى يمضي أقل أيام الحيض (2).

وفي مسائل خلافه (3) ، ونهايته (4) ، أطلق القول ، وقال : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها ، ولم يفصّل ما فصّل في مبسوطة.

ونعم ما قال في مبسوطة وحرّره ، فإنّ فيه الاحتياط واليقين ، لأنّ أخبارنا مختلفة في ذلك ، فيحمل ما ورد منها (5) بأنّها تنقضي برؤية الدم من الحيضة الثالثة ، على من تكون لها عادة مستقيمة ، وما ورد منها (6) بأن لا تنقضي حتى

ص: 749


1- 1المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، ص 235 ، في العبارة تقطيع.
2- 1المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، ص 235 ، في العبارة تقطيع.
3- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 3.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد ، والعبارة هكذا : فإذا رأت الدم من الحيضة ، فقد ملكت نفسها.
5- الوسائل : الباب 15 من أبواب العدد.
6- لم نجد رواية بهذا المضمون في مجاميعنا الروائية ، نعم يوجد فيها : « أنّ العدة لا تنقضي إلا - بانقضاء الحيضة الثالثة » فراجع الباب المذكور من الوسائل.

يمضى أقل أيام الحيض ، على من رأت الدم قبل عادتها ، لأنّ ذلك دم غير متيقن بأنّه دم الحيضة الثالثة ، لأنّه ربما انقطع لدون ثلاثة أيام ، فيكون من باقي الطهر الأخير.

فإمّا المستقيمة الحيض فتجعل المعتاد كالمتيقن.

فتحريره رحمه اللّه مستقيم واضح بخلاف ما ذهب إليه وناظر عليه في مسائل خلافه ، لأنّه ذهب فيها إلى انقضاء العدّة برؤية الدم ، سواء كانت لها عادة أو لم تكن ، وقال الشافعي : إن كانت لها عادة ، بانت برؤية الدم ، وإلا يمضي أقل الحيض (1).

إذا طلّقها وهي من ذوات الأقراء ، فادّعت أنّ عدّتها قد انقضت في مدّة يمكن انقضاء العدّة ، على ما بيّناه فيما مضى وشرحناه ، قبل قولها في ذلك ، لأنّ إقامة البيّنة لا يمكن على ذلك ، ولأنّها مصدّقة على الحيض والطهر ، فإن ادّعت انقضاء عدّتها في زمان لا يمكن ذلك فيه ، لم يقبل قولها ، لأنّا نعلم كذبها.

تمّ الجزء الثاني من كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ويتلوه الجزء الثالث كتاب العتق ، إن شاء اللّه تعالى وحسبنا اللّه ونعم الوكيل وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 750


1- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 3 ، ولا يخفى ان المنقول عن الشافعي خلاف ما نقله في الخلاف ، فراجع.

فهرس الموضوعات

كتاب الجهاد وسيرة الإمام

باب فرض الجهاد وشرائط وجوبه وحكم الرباط ...  3

شروط الجهاد... 3

الجهاد مع أئمة الجور... 4

النيابة في المرابطة... 5

باب أصناف الكفار ومن يجب قتالهم منهم ...  6

كيفية قتال الكفار... 6

زمان قتال المشركين... 8

باب قسمة الفي ء وأحكام الأسارى ...  9

أقسام الأسارى وأحكامهم... 12

أحكام الهجرة من بلاد الكفار... 14

باب قتال أهل البغي والمحاربين ...  15

أقسام أهل البغي... 16

معاملتهم بعد انقضاء الحرب... 16

تعريف المحارب... 19

باب الزيادات ...  20

ص: 751

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...  21

أقسام الامر بالمعروف... 22

شروط النهي عن المنكر... 23

من يجوز له إقامة الحدود... 24

من يجوز له الحكم بين الناس... 25

كتاب الديون والكفالات والحوالات والوكالات

باب كراهية الدين والنزول على الغريم ...  30

أحكام الاستدانة... 30

إذا وجد الغريم في مكة أو الحرم... 32

باب وجوب قضاء الدين ...  33

إذا كان المدين معسرا... 34

إذا كان على غيره دين فحلفه على ذلك... 35

إذا غاب الدائن... 37

أحكام مضاربة الدين وبيعه... 38

باب قضاء الدين عن الميّت ...  45

إقرار الورثة بالدين... 46

من مات أو قتل وعليه دين... 48

من مات وعليه دين مؤجل... 53

من مات وعليه ديون لجماعة... 54

باب بيع الديون والأرزاق ...  55

حكم الدين المؤجل والحال... 55

باب دين المملوك ...  57

ص: 752

حكم المملوك إذا كان مأذوناً له في الاستدانة والتجارة وبالعكس... 57

باب القرض وأحكامه ...  59

أحكام قضاء القرض... 60

أحكام زكاة القرض... 61

أحكام قرض الجارية... 63

باب الصّلح... 64

من أخرج من داره روشنا... 66

تقاسم الشريكين... 68

باب الكفالات والضّمانات والحوالات ...  69

أحكام الضمان... 69

أحكام رجوع الضامن على المضمون عنه... 71

الحقوق التي يصح فيها الضمان... 72

شرائط صحة الضمان... 74

أحكام كفالة الأبدان... 77

أحكام الحوالة... 78

باب الوكالة ...  81

ما يجوز التوكيل فيه ومالا يجوز... 81

من يجوز له التوكيل... 87

أحكام فسخ الوكالة... 89

صفات الوكيل... 91

الاختلاف في العزل... 92

في تعدي الوكيل على ما رسمه موكله... 93

الوكالة في قبض الصداق... 97

ص: 753

باب اللقطة ...  99

أقسام اللقطة... 101

أحكام اللقطة... 104

أحكام اللقيط... 107

الانفاق على اللقطة... 110

المطالبة باللقطة... 111

كتاب الشهادات

الآيات الواردة في المقام... 114

أقسام الحقوق في باب الشهادة... 115

صفات الشاهد... 117

باب كيفية الشهادة ...  125

الشهادة على الشهادة... 127

كيفية إقامة الشهادة... 131

باب شهادة الولد لوالده وعليه وبالعكس ...  134

حكم شهادات ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض... 134

باب شهادة العبيد والإماء ...  135

لو أشهد رجل عبدين له على نفسه بالاقرار بوارث... 135

باب شهادة النساء ...  137

لو شهد أربعة رجال على امرأة بالزنا وادعت أنها بكر... 137

باب شهادة من خالف الإسلام ...  139

حكم شهادة من خالف الاسلام على المسلمين في الوصية بالمال... 139

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين ...  140

ص: 754

أحكام القسامة... 142

باب شهادات الزور ...  144

إذا حكم الحاكم بشهادة باطلة... 149

كتاب القضايا والأحكام

باب آداب القضاء وصفات القاضي ...  152

القضاء في المساجد... 156

كيفية الحكم بين الخصمين... 157

باب سماع البيّنات وكيفية الحكم بها ...  164

الرشوة في الحكم... 166

اختلاف الشهود... 167

اليد المتصرفة واليد الخارجة... 168

أحكام القرعة... 171

ترتيب الشهود... 175

صفات كاتب القاضي... 175

تحرير الدعوى... 177

أحكام الدعاوي... 178

باب كيفية الاستحلاف ...  182

كيفية تحليف أهل الكتاب والأخرس... 183

باب النوادر في القضاء والأحكام ...  184

بحث حول رواية أبي شعيب المحاملي... 184

بحث حول رواية حريز... 186

بحث حول رواية محمد بن إسماعيل 187

ص: 755

كتاب المكاسب

باب عمل السّلطان وأخذ جوائزهم ...  202

أقسام السلطان... 202

أحكام وديعة الظالم... 204

باب التصرّف في مال الولد ومال الوالد... 204

تصرف الولد بمال الوالد وبالعكس... 206

تصرف الوالدة في مال الولد... 209

باب التصرف في أموال اليتامى ...  211

باب ضروب المكاسب ...  214

المكاسب المحظورة على كل حال... 214

المكاسب المباحة على كل حال... 222

المكاسب المكروهة... 223

أحكام متفرقة... 224

كتاب المتاجر والبيوع

باب آداب التجارة ...  230

حكم بيع الحاضر لباد... 236

أحكام تلقي الجلب... 237

أحكام الاحتكار... 238

باب حقيقة البيع وأقسامه وأحكامه ...  240

تعريف البيع... 240

أقسام البيع... 240

ص: 756

العقود التي يدخلها خيار... 243

أحكام خيار المجلس... 246

أحكام التخاير... 246

لو تصرف في المبيع مدة الخيار... 247

لو كان المبيع شيئا فهلك بعد العقد... 249

باب الرّبا وأحكامه ...  250

ما يكون فيه الربا... 253

بيع الجنس بالجنس مثلا بمثل... 259

باب الصّرف وأحكامه ...  265

تعريف الصرف... 265

بيع الانسان ماله على غيره... 268

حكم الأواني المصوغة من الذهب والفضة... 271

باب الشرط في العقود ...  274

بيع غير المملوك... 274

بيع ما يملك ومالا يملك... 275

هلاك المتاع في مدة الخيار... 277

الشرط في الحيوان... 279

لو اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع... 283

أحكام استبراء الجارية... 284

لو اشترى شيئا بحكم نفسه... 285

باب البيع بالنقد والنسية ...  287

أحكام المرابحة... 291

باب العيوب الموجبة للرد ...  295

ص: 757

عيوب الرقيق... 301

باب السّلف ...  306

تعريف السلم... 306

أحكام السلف... 307

السلم في جلود الغنم... 312

السلف في الصوف والشعر والوبر... 316

في شرائط السلم... 317

أحكام متفرقة... 318

باب بيع الغرر والمجازفة ...  321

ما يقع فيه الغرر ومالا يقع... 321

ما يجوز بيعه من الأشياء... 327

أحكام اختبار المبيع... 331

بيع الحشرات... 332

أحكام الانفاق على المبيع المستحق للغير... 333

أحكام متفرقة... 334

باب اجرة السّمسار والدلّال والناقد والمنادي ...  337

اجرة الكيال والوزان... 337

إذا اختلف الواسطة وصاحب المتاع... 339

باب ابتياع الحيوان وأحكامه ...  342

مالا يصح تملكه من العبيد... 342

في شراء الحامل... 343

من ابتاع عبدا أو أمة وكان لهما مال... 344

أحكام التفرقة بين الأطفال وأمهاتهم... 347

ص: 758

في سبايا الظالمين... 348

مماليك الكفار... 349

إذا وطأ أحد الشركاء جارية بينهم... 351

إذا اشترى أحد المملوكين صاحبه من مولاه... 352

أحكام الأمة... 353

أحكام متفرقة... 354

باب بيع الثمار ...  358

بيع الثمرة منفردة عن الأصل... 358

بيع النخيل المؤبر... 362

أقسام الأشجار التي لها حمل في كل سنة... 363

بيع الخضروات وما يخرج حملا بعد حمل والزرع... 365

المزابنة والمحاقلة... 367

بيع العرايا... 368

باب بيع المياه وحريم الحقوق والأرضين ...  372

النطاف والأربعاء... 372

أحكام الحمى... 373

أحكام الأرضين... 374

أحكام طريق المسلمين... 380

أقسام الناس في الحمى وأحكامه... 381

أحكام المعادن الباطنة... 383

أقسام الآبار وأحكامها... 383

ملك المياه والسقي منها... 385

باب الشفعة وأحكامها ...  385

ص: 759

شروط استحقاق الشفعة... 385

في ما تستحق فيه الشفعة... 389

إرث حق الشفعة... 392

أحكام متفرقة... 393

باب الشركة ...  397

أقسام الشركة... 398

شركة العنان... 399

حكم شركة المفاوضة والأبدان والوجوه... 399

تقاسم الشريكين... 402

أحكام متفرقة... 402

باب المضاربة ( وهي القراض ) ...  407

تعريف المضاربة... 407

شروط صحة المضاربة... 407

المضاربة عقد جائز... 409

في معنى الشرط للعامل في الربح... 409

إذا اختلف المضارب وصاحب المال... 411

أحكام متفرقة... 412

باب الرهون وأحكامها ...  416

باب الرهون وأحكامها... 416

شروط صحة الرهن... 416

إذا هلك الرهن في يد المرتهن... 419

أحكام الاختلاف بين الراهن والمرتهن... 421

بيع الرهن... 422

إذا مات المرتهن... 423

ص: 760

حكم الأرض إذا رهنت... 424

إذا مات الراهن... 425

أحكام متفرقة... 425

باب العارية ...  430

أقسام العارية... 430

أحكام الاختلاف في العارية... 430

أحكام متفرقة... 432

باب الوديعة ...  434

أحكام الوديعة... 434

المودع إذا حضرته الوفاة... 439

باب المزارعة ...  441

تعريف المزارعة ( المخابرة )... 441

شروط المزارعة... 442

لو استأجر أرضا مدة معلومة... 447

تعين الاجل في المزارعة... 448

أحكام متفرقة... 448

باب المساقاة ...  451

تعريف المساقاة... 451

شروط صحة المساقاة... 451

مؤونة المساقاة... 452

لو اختلف رب النخل والعامل... 453

أحكام متفرقة... 455

باب الإجارات ...  456

ص: 761

شروط صحة الإجارة... 456

ملك المنفعة... 458

إذا أسقط المؤجر مال الإجارة... 459

إذا مات المؤجر أو المستأجر... 460

إجارة المشاع... 461

أحكام فسخ الإجارة... 462

ضمان الأجير... 463

إذا اختلف المؤجر والمستأجر... 464

من تقبل عملا فدفعه إلى غيره... 466

أحكام متفرقة... 468

أحكام الإجارة في الرضاع... 471

أقسام الإجارة... 473

أحكام إجارة الدواب والبهائم... 473

أحكام متفرقة... 476

باب الغصب ...  480

تقسيم الأموال... 480

لو غصب حبا فزرعه أو بيضا فاحتضنها... 482

أحكام ضمان الغاصب... 485

المقبوض عن بيع فاسد... 488

لو غيرت العين المغصوبة... 491

أحكام متفرقة... 491

باب الإقرار ...  498

صفات المقر... 498

ص: 762

أحكام الاقرار المبهم... 499

أحكام الاستثناء في الاقرار... 501

لو ادعى التلف بعد الاقرار... 505

الاقرار بعد الاقرار... 506

أحكام متفرقة... 507

الشهادة على الاقرار... 514

الاقرار بالبلوغ والنسب... 514

كتاب النّكاح

الحث على التزويج... 518

من يحرم نكاحهن من النساء... 519

شروط تحريم الرضاع... 519

حكم الجمع بين الأختين... 522

حكم أم المزني بها وابنتها... 523

حكم زوجة الأب بالنسبة للابن وبالعكس... 523

موارد التحريم الأبدي... 525

حكم بنت المزني بها... 526

حكم عقد الدوام على الكافرة... 527

أحكام الزواج من الصبية... 530

لو عقد على أختين في حالة واحدة... 536

حكم العقد على أخت المطلقة... 537

في أحكام الزواج المتعدد... 539

أحكام نكاح المشركات... 542

ص: 763

أحكام نكاح الفاجرة... 544

أحكام تزويج الحرة على الأمة... 546

أحكام متفرقة... 548

باب أقسام النكاح ...  549

الفرق بين نكاح الغبطة ونكاح المتعة... 550

باب الرضاع وأحكامه ...  551

أحكام ثبوت الرضاع... 556

باب الكفاءة في النكاح واختيار الأزواج ... 557

الكفاءة المعتبرة في النكاح... 557

باب من يتولى العقد على النساء ... 560

لو لم ترض البنت بعقد أبيها... 562

حكم الإجارة في عقود النكاح... 562

حكم الإجازة في عقود النكاح... 565

أحكام متفرقة... 566

أحكام عفو الأولياء عن المهر... 571

تمييز المعقودة... 573

صيغة عقد النكاح... 574

باب المهور ... 575

في سبب تسمية الصداق نحلة... 575

أحكام الصداق... 576

سنن المهور... 580

أحكام الاختلاف في المهر... 582

متعة المرأة المطلقة... 583

أحكام متفرقة... 584

ص: 764

باب العقد على الإماء والعبيد... 595

العقد على أمة الغير... 595

أحكام زواج الحرة من المملوك... 598

لو تزوجت الأمة بغير إذن مولاها... 599

لو زوج الرجل عبده أمته... 601

أحكام متفرقة... 601

باب ما يستحب فعله ... 603

مستحبات عقد النكاح... 603

آداب الجماع... 605

أحكام النظر إلى الأجنبية... 608

باب العيوب والتدليس في النكاح ... 611

أقسام العيوب... 611

أحكام تدليس المرأة... 613

أحكام متفرقة... 613

باب النكاح المؤجل ... 618

الاستدلال على مشروعيته... 618

شرائط ومستحباته... 620

أحكام متفرقة... 621

توارث نكاح المؤجل وحكم الأولاد... 623

عدة المرأة في هذا النكاح... 625

باب السراري وملك الإيمان ... 626

طرق إباحة وطء الإماء... 627

أحكام الأولاد... 628

ص: 765

أحكام تحليل الإماء... 632

أحكام استبراء الجواري... 634

أحكام جارية الأب وجارية الابن... 637

أحكام متفرقة... 638

باب أحكام الولادة والعقيقة والرضاع... 638

آداب الولادة... 645

مدة الرضاع وأحكامه... 648

أحكام الحضانة... 651

أحكام النفقة... 654

باب إلحاق الأولاد بالآباء وأحكامهم وما في ذلك ... 657

كتاب الطلاق

الاستدلال على جواز الطلاق... 662

أقسام الطلاق... 663

شروط صحة الطلاق الشرعي... 664

أحكام تعليق الطلاق... 666

الطلاق الرجعي والبائن... 667

أحكام المراجعة... 668

الفرق بين طلاق العدة وغير العدة... 669

شرائط الطلاق... 672

أحكام ميراث المطلقة... 674

صيغ الطلاق... 676

العدد الذي يقع به الطلاق... 678

ص: 766

الاستدلال على أن الطلاق الثلاث يقع واحد... 682

طلاق الغائب... 686

طلاق الصغيرة والآيسة... 687

أحكام طلاق الحامل... 689

طلاق الغائب... 691

طلاق المسترابة... 693

طلاق الأمة... 694

باب اللعان والارتداد ... 696

معنى اللعان... 696

صفة اللعان... 699

أحكام متفرقة... 700

أحكام الارتداد... 707

باب الظهار ... 707

شروط صحة الظهار... 707

كفارة الظهار... 711

أحكام متفرقة... 712

باب الإيلاء ... 719

شروط صحة الايلاء... 719

كفارة الايلاء... 720

الايلاء في الصلاح... 721

باب الخلع والمبارأة والنشوز والشقاق ... 723

معنى الخلع... 723

الفرق بين الخلع والمباراة... 723

ص: 767

شرائط صحة الخلع... 725

أحكام المباراة... 726

هل يحتاج الخلع إلى طلاق؟... 726

أحكام النشوز... 728

أحكام الشقاق... 730

باب العدد ... 731

أقسام العدة... 731

أحكام عدة الطلاق... 731

أحكام عدة الوفاة... 734

ما يجرى مجرى الموت... 736

أحكام النفقة على المعتدة بعدة الوفاة... 738

الحداد... 739

عدة المسترابة... 739

عدة المستحاضة... 741

مقدار عدة الوفاة... 743

إذا طلق الرجل زوجته الحرة ثم مات عنها... 744

أقل ما تنقضي به عدد ذوات الأقراء... 746

أحكام متفرقة... 747

ص: 768

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 2

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1411 ه-.ق

الصفحات: 680

المكتبة الإسلامية

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الثالث

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

كتاب السرائر

(ج3)

المؤلف: محمد بن إدريس الحلي

المحقق: لجنة التحقيق

الموضوع: فقه

عدد الأجزاء: 3 أجزاء

الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الثانية

المطبوع: 3000 نسخة

التاريخ: 1410 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

كتاب العتق

اشارة

ص: 3

كتاب العتق والتدبير والمكاتبة

العتق فيه فضل كبير وثواب جزيل ، بغير خلاف بين الأمّة.

ولا يصحّ العتق الّا بعد الملك كما لا يصح الطلاق قبل النّكاح (1) ، لقوله صلى اللّه عليه وآله لا عتق قبل ملك ، ولا طلاق قبل نكاح (2).

ولا يصح العتق أيضا الّا من كامل العقل ، غير مولى عليه ، مختار له ، قاصد اليه ، متلفظ بصريحه ، وهو قوله أنت حر. مطلق له من الشروط إلّا في النذر خاصّة ، موجه به الى مسلم ، أو من هو في حكمه ، لأنّ عتق الكافر لا يقع على الصحيح من أقوال المحصّلين من أصحابنا ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، لان العتق قربة الى اللّه تعالى ، ولا يتقرب إليه بالمعاصي متقرب به الى اللّه تعالى.

ولا يقع العتق من طفل ، ولا مجنون ، ولا سكران ، ولا محجور عليه ، ولا مكره ولا مجبر ، ولا ساه ، ولا حالف به.

ولا يقع بالكتابة والإشارة مع القدرة على النطق باللسان العربي ، ولا يقع بكنايات العتق ، كقوله أنت سائبة ، ولا سبيل لي عليك ، ولا بقوله ان فعلت كذا وكذا فعبدي حر ، ولا بكافر على ما قدّمناه ، ولا للأغراض الدنياوية ، من نفع ، أو دفع ضرر ، أو إضرار بالغير.

والدّليل على وجوب اعتبار هذه الشروط ، إجماع الأمة ، لأنّه لا خلاف في صحّة

ص: 4


1- ج : كما لا يصح الطلاق الّا بعد النكاح.
2- الوسائل : كتاب العتق ، باب 5 ، ح 1 وفيه التقديم والتأخير.

العتق مع تكاملها ، وليس على صحته مع اختلال بعضها دليل ، وأيضا الأصل ان لا عتق ، وامّا الملك فمعلوم ثبوته ، وخروجه عن يد مالكه يحتاج الى دليل ، لأنّ العتق حكم شرعيّ يحتاج في ثبوته الى دليل شرعي.

وإذا أعتق مالك العبد عضوا من أعضائه ، لم يكن لذلك حكم ، ولم يقع به عتق ، فإن أعتق بعضا منه مشاعا ، نصفه مثلا ، أو ثلثه ، أو ربعه ، أو ما زاد على ذلك أو نقص ، عتق الجميع ، فان كان العبد مشتركا ، فأعتق أحد الشركاء نصيبه ، لا للإضرار بالشركاء ، انعتق ملكه خاصّة ، الّا انّه ان كان موسرا انعتق الباقي ، واجبر على قيمته لشريكه ، وان كان معسرا ، استسعى العبد في قيمة باقية ، فإذا أدّاها عتق جميعه ، فان عجز عن ذلك ، فكه سلطان الإسلام من سهم الرقاب من الزكاة ، والّا خدم مولاه بما فيه من العبوديّة.

والعتق في مرض الموت من أصل التركة ، سواء كان واجبا أو متبرّعا به ، على الصحيح من المذهب ، لان بعض أصحابنا يجعله من الثلث ، وهو مذهب جميع من خالفنا ، وبعض أصحابنا وهم المحصّلون يجعله من أصل المال ، لأنها عطيّة منجزة ، وللإنسان أن يتصرف في ماله جميعه في حال حياته ، وينفق في مرضه ما شاء من أمواله ، بغير خلاف.

فامّا ان اوصى بعتق عبده أو عبيده بعد موته ، فإنه من الثلث لان هذه عطيّة مؤخّرة ، وهذه حقيقة الوصية.

فإن أوصى بعتق عبده ، فان كانت قيمته وفق الثلث ، عتق جميعه ، ولا شي ء له ولا عليه ، وان كانت القيمة تنقص عن الثلث ، عتق أيضا ، ولا شي ء له ولا عليه ، وان كانت القيمة تزيد على الثلث ، فالصحيح من أقوال أصحابنا انه ينعتق منه بقدر الثلث ، ويستسعى فيما زاد على الثلث ، سواء كانت الزيادة ضعفي الثلث ، أو أقل ، أو أكثر ، وعلى كل حال ، وهو مذهب ابن بابويه في رسالته. وشيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) ، وهو الّذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ص: 5


1- المبسوط ج 4 كتاب الوصايا ص 22.

وقال بعض أصحابنا ان كانت القيمة على الضعف من الثلث ، بطلت الوصيّة ، ولم ينفذ عتق شي ء منه ، وقد أو رد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، إيرادا لا اعتقادا ، لأنّا قد بينا انه رجع عن ذلك في مبسوطة.

فإن أوصى لعبده بثلث ماله ، فان كانت قيمته وفق الثلث ، عتق ولا شي ء له ولا عليه ، وان كانت أقلّ من الثلث عتق واعطى تمام الثلث ، وان كانت أكثر من الثلث ، عتق منه بمقدار الثلث ، واستسعى في الزيادة على الثلث ، فإذا أدّاها عتق جميعه.

وإذا اوصى بعتق ثلث عبيده ، استخرج ثلثهم بالقرعة وعتقوا.

ولا يجوز ان يعتق في الكفارة ، الأعمى ، والمجذوم ، والمقعد ، لأنّ هؤلاء خرجوا من الملك بهذه الآفات ، والعتق لا يكون الّا بعد ملك.

وإذا أعتق مملوكا وله مال ، فماله لمولاه ، سواء علم مولاه بالمال في حال إعتاقه ، أولم يعلم ، لان العبد عندنا لا يملك شيئا ، وذهب بعض أصحابنا إلى انه ان علم ان له مالا في حال إعتاقه ، فالمال للعبد المعتق ، وان لم يعلم به ، أو علم فاشترطه لنفسه ، فهو لمولاه دونه ، وينبغي عند هذا القائل ان يقول « مالك لي » وأنت حرّ فإن قال « أنت حرّ ومالك لي » لم يكن له على المال سبيل.

وقد بيّنا فساد هذا المذهب ، بما دللنا عليه من ان العبد لا يملك شيئا لقوله تعالى « عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ » (2) وانما ذلك المذهب على رأى من يملكه من أصحابنا فواضل الضرائب ، وأروش الجنايات عليه في نفسه ، وذلك باطل للآية التي تلوناها.

وكل من أقر على نفسه بالعبوديّة ، وكان بالغا مجهول النسب بالحرية ، عاقلا ، أو قامت البيّنة على عبوديته ، وان لم يكن بالغا (3) أو عقل جاز تملكه والتصرّف فيه بالبيع والشّراء والهبة وغير ذلك.

ص: 6


1- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ.
2- سورة النحل : الآية 75.
3- ج. ل. لم يكن بلغ.

وكل من خالف الإسلام من سائر أنواع الكفّار ، يصحّ استرقاقهم ، ثمّ هم ينقسمون قسمين ، قسم منهم يقبل منهم الجزية ، ويقرون على دينهم وأحكامهم ، ويعفون من الاسترقاق ، وهم أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، ومن حكمه حكمهم ، وهم المجوس ، فان امتنعوا من قبول الجزية وإجراء أحكامنا عليهم ، قتلوا ، وسبى ذراريهم ، واسترقوا ، ومن عدا أهل الكتاب ، لا يقبل منهم إلا الإسلام ، فإن امتنعوا ، كان الحكم فيهم القتل ، واسترقاق الذراري.

ولا بأس باسترقاق جميع أصناف الكفار ، وان سباهم أهل الفسق والضلال.

وكذلك لا بأس ان يشتري الإنسان ممّا يسبى بعض الكفار من بعض ، ولا بأس أيضا ان يشترى من الكافر بعض أولاده ، أو زوجته ، أو أحد ذوي أرحامه ، ويكون ذلك حلالا له ، ويسوغ له التصرّف فيه كيف شاء ، إذا كانوا مستحقين للسّبي على ما حررناه.

وإذا كان العبد يباع في أسواق المسلمين ، ويد المالك عليه ، فلا بأس بشرائه ، فإن ادعى الحرية ، لم يقبل قوله الّا ببيّنة عادلة.

ومتى ملك الإنسان أحد قراباته فلا يخلو امّا ان يكونوا من ذوي الأنساب ، أو ذوي الأسباب ، فإن كانوا من ذوي الأنساب ، فهم ينقسمون الى قسمين ، العمودان الآباء وان علوا ، والأبناء وان نزلوا ، فهؤلاء ينعتقون بنفس الملك بغير اختيار المالك.

وقد قيل في انّه متى يكون العتق أقوال ، الأصحّ من ذلك انّه مع تمام البيع معا معا لأنّ الإنسان لا يملك من ذكرناه ، وسواء كانوا ذكورا أو إناثا.

والقسم الآخر وهم من عدا العمودين ، وهذا القسم ينقسم الى قسمين : ذكور وإناث ، فالذكور يملكون ، ولا ينعتقون الّا ان يتبرع المالك بالعتق ، والإناث ينقسمون الى قسمين ، من لا يحل للمالك نكاحها ابدا ، مثل العمّات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، فهذا القسم ملحق بالعمودين بلا خلاف ، وحكمه حكمهما حرفا فحرفا ، ومن عداهن لا ينعتقن بالملك ، الّا ان يتبرع مالكهن

ص: 7

باعتاقهن.

فاما ذوو الأسباب ، فهو الرّضاع والزّوجية.

فقد اختلف قول أصحابنا في أحكام الرضاع في العتق ، فذهب فريق منهم الى ان حكم الرّضاع في العتق حكم العمودين ، ومن عدا العمودين من الإناث حكمهنّ حكم من عدا العمودين من الإناث ، من الأنساب ، وقال الباقي من أصحابنا المحصّلين يسترق المرضعات ، وليس حكمهنّ في الاسترقاق حكم الأنساب ، وكذلك من عدّاهن من الإناث ، والأوّل اختيار شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه (1) والثاني اختيار شيخنا المفيد (2) وهو الّذي يقوى في نفسي ، وبه افتى ، لأنه لا دليل على عتقهن من كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، والأصل بقاء الملك والعبوديّة ، فمن اخرج ذلك من الملك يحتاج الى دليل.

وتمسّك الذاهب الى خلاف ما اخترناه بقوله عليه السلام : « يحرم من الرضاع من يحرم من النسب » (3).

فإنّه مفهوم من فحوى هذا القول النكاح ، دون غيره ، وان ورد في ذلك أخبار ، فهي آحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّ اخبار الآحاد ، لا توجب علما ولا عملا على ما كرّرنا القول فيه وقد مناه.

فامّا الزّوجيّة فمتى ملك أحد الزوجين الآخر ، انفسخت الزّوجيّة بينهما وملكه.

والمملوك إذا عمى من قبل اللّه تعالى ، أو جذم ، أو أقعد بزمانة من قبل اللّه تعالى ، انعتق بغير اختيار مالكه ، ولا يكون له ولاء ، بل يتوالى من شاء ، فان لم يتوال أحدا ومات ، كان ميراثه لإمام المسلمين.

وقد روى انه : إذا نكّل به صاحبه ، أو مثّل به ، انعتق في الحال ، ولا سبيل

ص: 8


1- في المبسوط ، كتاب العتق ، فصل في من يعتق على من يملكه ، ج 6 ، ص 68.
2- في المقنعة ، كتاب البيع باب ابتياع الحيوانات ص 599 ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الوسائل الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع الّا ان في اخبار الباب وكذا في غير هذا الباب هكذا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وكذا في اخبار العامة كما عن سنن ابن ماجة الباب 34 من كتاب النكاح ، ج 1 ، ص 623.

لصاحبه عليه (1) ، أورد هذه الرّواية شيخنا في نهايته (2) إيرادا.

وروي في بعض الأخبار : انه إذا كان المملوك مؤمنا واتى عليه بعد ملكه سبع سنين ، استحب عتقه ، وان لا يملك أكثر من ذلك (3).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويستحب عتق المؤمن المستبصر ، ويكره عتق المخالف للحق (4).

وقد قلنا في ما مضى (5) انّه لا يجوز عتق الكافر ، ومقصود شيخنا بقوله « ويكره عتق المخالف للحق » المظهر للشهادتين غير الحق.

ثمّ قال ولا بأس بعتق المستضعف ، ثمّ قال ولا عتق الّا ما أريد به وجه اللّه تعالى.

وقد روى : انّه يستحب ان لا يعتق الإنسان الّا من أغنى نفسه ويقدر على اكتساب ما يحتاج اليه (6).

ومتى أعتق صبيا أو من يعجز عن النهوض بما يحتاج إليه ، فالأفضل أن يجعل له شيئا يعينه به على معيشته ، وليس ذلك بفرض.

وقال شيخنا في نهايته ، ولا بأس ان يعتق ولد الزّنا (7).

وتحرير هذا القول على رأي شيخنا أبي جعفر ، من كونه يذهب الى ان عتق الكافر جائز في الكفارات ، وخصوصا من كان مظهرا للشّهادتين ، وان كان مخالفا للحق ، فإنه يرى إعتاقه في غير الكفارة ، فعلى هذا القول انه إذا كان مظهرا للشهادتين ، فإنه يجوز إعتاقه على كراهية في ذلك ، على ما قدمناه عنه في إعتاق من خالف الحق ، وان كان ما هو عليه يقتضي تكفيره ، الّا انه له تحرّم بالإسلام (8)

ص: 9


1- الوسائل ، كتاب العتق ، الباب 22.
2- النهاية ، كتاب العتق والتدبير .. باب من يصح ملكه ..
3- الوسائل ، الباب 33 ، من أبواب العتق.
4- النهاية ، كتاب العتق والتدبير .. باب العتق وأحكامه.
5- في ص 4.
6- الوسائل ، كتاب العتق ، الباب 14 ، ح 1.
7- النهاية ، كتاب العتق والتدبير .. باب العتق وأحكامه.
8- ج. ل. الّا انه يحكم له بالإسلام.

وأحكامه تجري عليه ، وان كان غير مظهر للشهادتين ، فلا يجوز إعتاقه على ما قدمناه.

والأظهر بين الطّائفة ان عتق الكافر لا يجوز ، وولد الزّنا كافر بلا خلاف بينهم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا كان العبد بين شريكين ، وأعتق أحدهما نصيبه مضارة لشريكه الآخر ، الزم ان يشترى ما بقي ، ويعتقه ، إذا كان موسرا ، وان لم يكن موسرا ، ولا يملك غير ما أعتقه ، كان العتق باطلا ، وإذا لم يقصد بذلك مضارته بل قصد بذلك وجه اللّه تعالى ، لم يلزم شراء الباقي ، وعتقه بل يستحب له ذلك ، فان لم يفعل استسعى العبد في الباقي ، ولم يكن لصاحبه الّذي يملك ما بقي منه استخدامه ، ولا له عليه ضريبة ، بل له ان يستسعيه فيما بقي من ثمنه ، فان امتنع العبد من السعي في فك رقبته ، كان له من نفسه قدر ما أعتق ، ولمولاه قدر ما بقي هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه قوله رحمه اللّه هذا ، عجيب ، فإنه قال في الباب الّذي ذكر هذا الكلام فيه : « ولا عتق أيضا إلّا ما أريد به وجه اللّه تعالى » ثمّ قال : « وإذا كان العبد بين شريكين ، وأعتق أحدهما نصيبه مضارة لشريكه الآخر ، الزم ان يشترى ما بقي ، ويعتقه إذا كان موسرا » وهذا متناقض مخالف لأصول المذهب ، ولما أصله من انّه لا عتق الّا ما أريد به وجه اللّه تعالى ، وانّما أورد هذه الرواية ، ان كانت وردت ، ورويت ، إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد نظائرها ممّا لا يعمل عليه ولا يعتقد صحته.

والدليل على ما قلناه عنه ، انّه رجع في مبسوطة عن هذا ، فقال فإذا أعتق شركا له (2) من عبد ، لم يخل من أحد أمرين : امّا ان يكون موسرا أو معسرا ، فان كان معسرا أعتق نصفه ، واستقر الرق في نصف شريكه ، وروى (3) أصحابنا انه ان قصد بذلك الإضرار لشريكه ، انه يبطل عتقه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4).

ص: 10


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
2- الشرك : النصيب.
3- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب العتق الحديث 12.
4- المبسوط ، كتاب العتق ، ج 6 ، ص 51.

ثمّ قال في نهايته : وان لم يقصد بذلك مضارته ، بل قصد بذلك وجه اللّه تعالى ، لم يلزم شراء الباقي وعتقه ، بل يستحب له ذلك (1).

وهذا غير واضح ، ولا مستقيم ، لأنا قد بيّنا انّه ان كان موسرا الزم شراء الباقي وأجبره السّلطان على ذلك ، وان كان معسرا استسعى العبد في الباقي.

وقال شيخنا في نهايته وإذا أعتق مملوكه وشرط عليه شرطا ، وجب عليه الوفاء به ، ولم يكن له خلافه ، فان شرط عليه انّه متى خالفه في فعل من الافعال ، كان ردا في الرق. فخالفه كان له رده في الرق (2).

هذا غير واضح ، لان الحرّ لا يجوز انّ يعود رقا. والشرط إذا كان مخالفا للكتاب والسنة كان باطلا ، وهذا شرط يخالف السنة ، فاما ان كان الشرط لا يخالف كتابا ولا سنة فهو شرط صحيح ، فان شرط عليه خدمته سنة ، أو سنتين ، أو أكثر من ذلك لزمه ، فان مات المعتق كان خدمته لورثته ، فإن أبق العبد ولم يوجد الّا بعد انقضاء المدّة التي شرط عليه المعتق فيها الخدمة ، لم يكن للورثة عليه سبيل في الخدمة.

والاولى ان يكون لهم الرّجوع بمثل اجرة تلك المدة ، لأنها مستحقة عليه ، وقد فاتت أوقاتها ، فيرجع عليه بأجرة مثلها ، فامّا الخدمة فليس لهم سبيل عليه فيها ، فلأجل هذا قال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته ، لم يكن للورثة عليه سبيل يعني في الخدمة.

وإذا باع العبد وعلم انّ له مالا ، كان ماله لبائعه دون مشتريه ، وان لم يعلم ان له مالا كان ماله لبائعه بغير خلاف.

وذكر شيخنا في نهايته : انه إذا باع العبد وعلم ان له مالا كان ماله لمن ابتاعه ، وان لم يكن عالما بذلك كان المال له دون المبتاع (3).

وهذا خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّا قد بيّنا انّ العبد لا يملك شيئا عند المحصّلين من أصحابنا لقوله تعالى ( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (4) فنفى قدرته

ص: 11


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
2- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
3- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
4- سورة النحل ، الآية 75.

على شي ء ، والمال من جملة الأشياء.

والدليل على صحة ما اعتذرنا لشيخنا قوله أيضا في نهايته بعد القول الّذي حكيناه عنه بلا فصل : والعبد المملوك لا يملك شيئا من الأموال ما دام رقا ، فان ملّكه مولاه شيئا ، ملك التّصرف فيه ، وليس له رقبة المال على وجه من الوجوه (1).

وقد روى (2) انه إذا نذر الإنسان ان يعتق أول مملوك يملكه ، فملك جماعة من العبيد في حالة واحدة ، أقرع بينهم ، فمن خرج اسمه أعتقه ، وقد روى (3) انه مخير في عتق أيهم شاء ، والأول أحوط هكذا أورده شيخنا في نهايته (4).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه والأولى عندي انّه لا يعتق شي ء من العبيد ، لأنّ شرط النذر ما وجد ، لانّه نذر عتق أول مملوك يملكه ، وليس لمن ملك في حالة واحدة من المماليك أول ، فما وجد شرط النذر ، وأيضا الأصل براءة الذّمة ، فمن شغلها بشي ء يحتاج الى دليل ، ولا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وما أورده شيخنا فإنها رواية شاذة.

وأورد شيخنا في نهايته ، انه إذا أعتق ثلاثة من عبيده وكان له أكثر من ذلك ، فقيل له اعتقت مماليكك؟ فقال نعم ، لم يمض العتق الّا فيمن كان أجاز فيهم العتق أوّلا ، وان أجابهم حين سألوه بلفظ العموم بقوله نعم (5).

وفقه ذلك ان العتق يحتاج إلى نية القربة ، فلا يصح ولا ينعتق الّا من نوى عتقه ، دون من لم ينو ، لأنّه أعرف بنيته.

وقد روى (6) انه إذا كان للرجل جارية فنذر أنه متى وطأها كانت معتقة ، فإن وطأها قبل ان يخرجها من ملكه انعتقت ، وان أخرجها ثمّ اشتراها بعد ذلك وطأها لم يقع بذلك عتق.

وفقه هذه الرواية ان صحت : انّه إذا أخرجها من ملكه انحل نذره ، لانّه نذر في

ص: 12


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه ، في العبارة تقطيع.
2- الوسائل ، كتاب العتق ، الباب 2. ح 1 - 3.
3- الوسائل ، كتاب العتق ، الباب 2. ح 1 - 3.
4- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه ، في العبارة تقطيع.
5- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه ، في العبارة تقطيع.
6- الوسائل ، كتاب العتق ، الباب 59 ، ح 1.

ملكه ، فإذا زال ملكه عنها انحلّ نذره ، ولا يصح في ملك الغير ، فيحتاج إذا عادت الى ملكه الى دليل على عتقها.

وإذا نذر الإنسان ان يعتق مملوكا بعينه ، لم يجز له ان يعتق غيره ، وان كان لو لا النذر ما كان يجوز عتقه ، أو كان يكون مكروها ، مثل ان يكون كافرا أو مخالفا في الاعتقاد ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

هذا على رأيه رحمه اللّه ومذهبه في ان عتق الكافر يصح في الكفارات والنذور إذا عيّنه فيه ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك (2) ، فلا وجه لا عادته.

واما قوله رحمه اللّه « لو لا النذر لم يجز ذلك » يعنى ما كان يجوز عتق الكافر الغير المظهر للشهادتين ابتداء من غير نذر بعينه.

واما قوله « أو كان يكون مكروها » يعنى الكافر الّذي يظهر الشهادتين كان لو لا النذر يكون عتقه مكروها إذا كان ابتداء ، لا عن نذر ، فهذا معنى قوله رحمه اللّه.

وأورد في النهاية أيضا انه إذا زوّج الرجل جاريته ، وشرط انّ أوّل ما تلده يكون حرا فولدت توأما ، كانا جميعا معتقين (3).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ان أراد بالشرط المذكور أول حمل ، كان على ما ذكر ، وان أراد بذلك أول ولد تلده ، كان الأول حرا ، والّذي يخرج ثانيا مملوكا إذا شرطه.

وإذا قال الرجل كل عبد لي قديم فهو حر ، فما كان من مماليكه اتى له ستة أشهر فهو قديم ، وصار حرا ، وكذلك إذا كان في ملكه وقد اتى عليه أكثر من ستة أشهر ، وانّما أقلّه ستة ، لقوله تعالى « حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ » (4) والعرجون في ستة أشهر يكون كذلك ، من جهة عرف الشرع بالآية ، لا من جهة عرف اللغة.

ولا يجوز للإنسان أن يأخذ من مملوك لغيره مالا ليشتريه من غير علم مولاه.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اشترى الإنسان جارية ولم ينقد ثمنها ،

ص: 13


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
2- في ص 6.
3- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
4- سورة يس : الآية 39.

فأعتقها وتزوجها ، ثمّ مات بعد ذلك ، ولم يخلف غيرها ، فانّ عتقه ونكاحه باطل ، وترد في الرق لمولاها الأول ، وان كانت قد حملت ، كان أولادها رقا كهيئتها ، فإن خلّف ما يحيط بثمن رقبتها ، فعلى الورثة ان يؤدوا ثمنها لمولاها ، وقد مضى العتق والتزويج ، ولا سبيل لأحد عليها (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، الّذي يقتضيه أصول مذهب أصحابنا ، ان العتق المذكور صحيح ، لأنه أعتق ملكه بغير خلاف ، والحر لا يعود رقا ، والنكاح صحيح ، والولد حر ، والحر لا يصير عبدا ، لانّه انعقد حرا ، سواء خلّف غيرها من الأموال ، أولم يخلّف. والثمن في ذمته ، وما ذكره رحمه اللّه من بطلان العتق والتزويج وصيرورة أولادها ان حمل كهيئتها رقا ، غير مستقيم ولا واضح ، لانّه مخالف للأدلّة القاهرة ، ومضاد للكتاب والإجماع والسنّة ، المتواترة ، لأنه لا إجماع عليه ، ولا كتاب ولا سنة ، وما أورد شيخنا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ، أورده إيرادا لا اعتقادا على ما بيناه ، كما أورد أمثاله في هذا الكتاب ، أعني النهاية مما لا يعمل عليه ولا يفتي به.

وقال أيضا في نهايته : وإذا أعتق الرجل مملوكه عند موته وعليه دين ، فان كان ثمن العبد ضعفي ما عليه من الدين ، مضى العتق ، واستسعى العبد في قضاء دين مولاه ، وان كان ثمنه أقل من ضعفي الدين كان العتق باطلا (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ان أراد بقوله عند موته انه أنجز عتقه قبل موته ، فان العتق صحيح ماض ، ولا سبيل للديّان عليه ، لانّه تصرف في ملك الإنسان قبل الحجر عليه ، وللإنسان أن يتصرف في ملكه كيف شاء ، لان الناس مسلطون على أملاكهم ، يتصرفون فيها بالبيع والهبة ، والصدقة ، والعتق ، وغير ذلك وان أخّر عتقه الى بعد موته ، فهذا تدبير ووصيّة ، لأنّ التدبير عند أصحابنا بمنزلة الوصية ، والوصية لا تصح الّا بعد قضاء جميع الديون ، وانّما الذي أورده شيخنا في نهايته خبر واحد ، على قول من قال من أصحابنا ان العطايا المنجزة في مرضه الموت ، لا تخرج من أصل المال ، وانّما تخرج من الثلث ، لأنّ أصحابنا لهم في ذلك مذهبان ، فبعض

ص: 14


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
2- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.

يرى انها من أصل المال ، وبعض يرى أنها من الثلث ، والأول هو الأظهر ، لأنه الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأنّ للإنسان أن ينفق جميع ماله على مرضه بغير خلاف ، وانما وردت بالثاني أخبار آحاد لا يعوّل عليها ولا يلتفت إليها ، وهي موافقة لمذهب مخالفينا.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في كتاب العتق : العتق في المرض المخوف ، يعتبر عند بعض أصحابنا من الأصل ، وعند الباقين من الثلث ، وهو مذهب المخالفين ، ثمّ قال : فإذا ثبت ذلك ، وأعتق شقصا من عبد ، نظرت ، فان كان وفق الثلث نفذ فيه وحده ، ولم يقوّم عليه نصيب شريكه ، وان كان الشقص أقل من الثلث ، قوم عليه تمام الثلث ، وان استغرق جميع ثلثه ، فاما إذا اعتبرناه من أصل المال ، فحكمه حكمه لو كان صحيحا ، وقد مضى ثمّ قال إذا اوصى بعتق شقص له من عبد ، ثمّ مات ، أعتق عنه ذلك الشقص ، ولم يقوّم عليه نصيب شريكه ، وان كان غنيا ، لأنّ ملكه زال عن ماله بالموت ، الّا القدر الذي استثنيناه. هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1) ، أوردناه ليعلم انّ ما أورده في نهايته على أحد القولين اللذين لأصحابنا الّذي هو غير معمول عليه ، لما أشرنا إليه من الأدلّة.

إذا كان العبد بين ثلاثة ، لواحد النصف ، وللآخر (2) السّدس ، فأعتق صاحب النّصف وصاحب السّدس ملكهما معا في زمان واحد ، أو وكّلا وكيلا فأعتق ملكهما معا سرى الى نصيب شريكهما ، ويكون عليهما قيمة الثلث بينهما نصفين ، وان اختلف ملك المعتقين لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد ، قوّم العبد قيمة العدل ، واعطى شركاؤه حصصهم ، وعتق العبد (3) ، فعلّق الضمان بأن أعتق شركا له من

ص: 15


1- المبسوط ، كتاب العتق ، ص 57 ، ج 6 ، وفي المصدر ، الّا العقد الذي أثبتناه.
2- ل. ولآخر الثلث ولآخر السدس.
3- مستدرك الوسائل ، الباب 16 ، من أبواب العتق الحديث 7 ، مع اختلاف في العبارة وهي هذه وعنه عليه السلام قال من أعتق شركا له من مملوك أقيم عليه قيمة عدل فاعطى شركاؤه حصصهم وأعتق عليه العبد ان كان ذا يسار والّا فقد عتق منه ما عتق.

عبد ، وقد اشتركا في هذا المعنى ، فكانا سواء في الضمان ، ويكون القيمة حين العتق سواء قيل بنفس اللفظ ، أو بشرطين ، أو مراعى ، لأنّ بين الفقهاء في ذلك اختلافا ، فبعض يقول يعتق حصة شريكه بنفس اللفظ ، وهو الأظهر ، وبعض يقول بشرطين ، باللفظ وقبض القيمة ، وبعض يقول مراعى.

وإذا أعتق الرجل ثلث عبيده ، وله عبيد جماعة ، استخرج منهم ثلثهم بالقرعة ، فمن خرج اسمه كان معتقا. وقال المخالف يعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى كل واحد في ثلثي قيمته ، ليؤدي ويعتق.

وجملة الإقراع بينهم ، وكيفيّته ، فإذا كانوا على صفة يمكن تعديدهم أثلاثا بالقيمة والعدد معا ، وهو إذا كانوا ستة قيمة كل واحد الف ، فيكون كل عبدين ثلث ماله ، فانا نجزيهم ثلاثة أجزاء ، كل عبدين جزاء نقرع بينهم ، بان نكتب الرقاع ، ونساهم على ما بيّناه في غير موضع ، ويمكن إخراج الأسماء على الرق والحرّيّة ، وإخراج الرق والحرية على الأسماء ، فإذا أردت ان تخرج الأسماء على الرق والحرّية ، كتبت في كل رقعة اسم اثنين فيكون ثلاث رقاع ، وتقول أخرج رقعة على الحرّيّة ، فإذا أخرجها فضّت فيعتق من اسمه فيها ويرق الباقون ، وقد اكتفيت بإخراج الرقعة دفعة واحدة ، وان قلت : أخرج رقعة على الرق ، فإذا أخرجها فضت ويرق من اسمه فيها ، ولا بدّ من إخراج أخرى ، فتقول : أخرج أخرى على الرق ، فإذا خرج ، رق من فيها ، وعتق الآخران ، فمتى اخرج القرعة على الحرية ، أجزأه دفعة واحدة ، ومتى أخرجها على الرق ، فلا بد من دفعتين.

فان لم يتفق ذلك ، وهو إذا لم يمكن التعديل بالعدد دون القيمة ، أو بالقيمة دون العدد ، مثل ان كانوا ستة ، قيمة عبد الف ، وقيمة عبدين الف ، وقيمة ثلاثة أعبد الف ، فإذا اعتبرت القيمة ، كانت التركة أثلاثا ، لكن العدد مختلف ، ومتى اعتبرت العدد ، وجعلت كل عبدين سهما ، صحّ ، لكن اختلفت القيمة فما الّذي يصنع به؟

قال قوم تعتبر القيمة ، ويترك العدد ، كما ان قسمة الدار إذا لم تمكن بالمساحة والاجزاء ، عدلت بالقيمة ، وقال آخرون يعتبر بالعدد ويترك القيمة ، والأول هو

ص: 16

الّذي يقتضيه مذهبنا.

وإذا خلّف الرجل مملوكا وشهد بعض الورثة أنّه أعتقه مورّثهم ، فان كان الشاهد مرضيا جائز الشهادة ، وكانا اثنين عتق المملوك ، وان لم يكن مرضيا أو كان غير ان الآخر غير مرضى ، مضى العتق في حصّته ، واستسعى العبد في الباقي.

وإذا اوصى الإنسان بعتق رقبة ، جاز ان يعتق عنه نسمة ، ذكرا كان أو أنثى ، إذا كانت النسمة ممن يجوز إعتاقها.

وقد روى (1) انه إذا أعتق الرجل مملوك ابنه كان العتق ماضيا.

وهذه الرّواية لا يصح العمل بها ، الّا ان يكون الا بن صغيرا ، ويكون الأب قد قوم العبد على نفسه ، والّا فلا يصح ذلك فيه.

وشيخنا أبو جعفر أورد ذلك في نهايته (2) ، وأطلق ولم يقيّد بالابن الصغير ، وتحرير الفتيا ما قلناه.

وقد روى (3) انه إذا أعتق الرجل جارية حبلى بمملوك ، صار ما في بطنها حرا كهيئتها ، فإن استثناه من الحرية لم يثبت رقّه مع نفوذ الحرية في امّه.

وهذه الرّواية أوردها شيخنا في نهايته (4) ولا دليل على صحتها في كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل ان لا عتق ، وثبوت العبودية في حملها ، فمن حرّره يحتاج الى دليل ، ولا دليل له على ما بيّناه ، واخبار الآحاد غير معمول عليها عند أصحابنا ، وانّما هذا يصح على مذهب الشافعي ، لأنّه يجري الحمل مجرى بعض أعضائها ، ولهذا يقول انه إذا باعها واستثنى الحمل ، لا يصح استثناؤه ، ونحمل نحن الرواية على انها وردت مورد التقيّة ، لأنه مذهب مخالفينا.

وإذا أسلم أحد الأبوين ، كان حكم أولاده (5) حكمه في إجراء حكم الإسلام عليهم ، فان بلغوا واختاروا الشرك ، لم يمكنوا من ذلك ، وقهروا على الإسلام ، فإن

ص: 17


1- الوسائل ، الباب 67 ، من أبواب العتق.
2- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
3- الوسائل ، الباب 69 ، من أبواب العتق.
4- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق وأحكامه.
5- ل. أولاده الصغار.

أبوا ذلك ، كان عليهم القتل.

وإذا كان للرجل مملوك ، وهو يحسن اليه ، ويقوم بما يحتاج اليه ، فاستباعه العبد ، لم يلزمه بيعه ، وكان مخيرا في ذلك.

ويكره ان يفرق بين الولد الصغير وبين امه ، وينبغي ان يباعا معا ، وليس ذلك بمحظور على الأظهر من قول المحصّلين من أصحابنا ، والى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في كتاب العتق في نهايته (1).

وإذا أبق العبد ، جاز لمولاه ان يعتقه في الكفارة الواجبة عليه ، ما لم يعرف منه موتا ، على ما بيناه في كتاب الظهار (2).

وإذا عتق العبد ، وعليه دين ، فان كان استدانه بإذن مولاه وامره ، لزم المولى قضاؤه ، وان كان عن غير اذنه ، كان ثابتا في ذمته ، يتبع به ، ولا يلزم المولى منه شي ء.

وقد روى (3) انه إذا اتى على الغلام عشر سنين ، كان عتقه وصدقته جائزا إذا كان على جهة المعروف ، أوردها في نهايته (4) شيخنا إيرادا لا اعتقادا لانه لا دليل على صحة العمل بها ، لأنها مخالفة لأصول المذهب ، لكونها لا دليل عليها من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، والأصل نفى الأحكام الشرعية ، وثبوتها يحتاج إلى أدلة شرعية ، وقول الرسول عليه السلام المجمع عليه ، يؤيد ما قلناه ، وهو « رفع القلم عن ثلاث » (5) وذكر الصبي من جملة الثلاث.

وإذا أعتق الرجل عبده عن دبر ، « بالدال غير المعجمة المضمومة ، والباء المسكنة المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، والراء والمراد بذلك التأخير ، لأنّ الدبر

ص: 18


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق واحكامه.
2- الجزء الثاني ، ص 718.
3- الوسائل ، الباب 56 ، من أبواب العتق الحديث 1.
4- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق واحكامه.
5- سنن ابن ماجة ، كتاب الطلاق الباب 15 ، الحديث 1 ، ج 1 ، ص 658 ، والحديث هكذا عن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال رفع العلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق. وكذلك مع اختلاف يسير في سنن البيهقي الباب 24، من كتاب الطلاق الحديث 1 ، ج 7 ، ص 359.

المؤخر ، والتدبير تفعيل من الدبر ، وهو العتق المؤخر الى بعد الموت » وكان عليه عتق رقبة واجبة ، لم يجز ذلك عنه ، لأنّ المدبر يخرج من الثلث ، والرقبة الواجبة من أصل المال ، والمدبر غير ما يعتق في الكفارات ، فلهذا لا يجزئه ، ولأنّ أسبابهما مختلفة ، فهذا معنى قول شيخنا أبي جعفر في نهايته : وإذا أعتق الرجل عبده عن دبر ، وكان عليه رقبة واجبة ، لم يجز ذلك عنه (1).

وأيضا التدبير على ضربين ، واجب وندب ، فالواجب ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنذر أو العهد ، فان كان هذا الضرب ، فلا يجزئه عن الكفارة ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان ، وان كان الضرب الآخر من التدبير ، فلا يجزئه عن الكفارة الواجبة عليه ، لانه يحتاج إلى نية الإعتاق ، والى كيفية النيّة ، وجنس العتق ، والقصد اليه ، وهذا الضرب أيضا يخرج من الثلث ، والكفارة من أصل المال ، فليلحظ جميع هذه الأقسام.

وحد اليسار الذي يقوّم العبد إذا كان مشتركا بينه وبين غيره ، وأعتق نصيبه منه ، ان يكون للمعتق غير هذا النصيب قدر قيمة نصيب شريكه في الفاضل عن قوت يومه وليلته ، لما روى عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، قال من أعتق شركا له من عبد ، وكان له مال يبلغ ثمنه ، قوم عليه (2).

فان لم يكن الّا قدر نصيبه منه وتمام قيمة نصيب شريكه ، فليس له مال الا ثمن العبد (3) ، فان كان معه وفق قيمة نصيب شريكه ، قوم كل نصيب شريكه عليه ، وان كان معه أقل من ذلك ، قوم عليه بقدر ما يملك من الفاضل عن قوت يومه وليلته.

فامّا ان كان معسرا ، فأعتق نصيبه منه ، عتق ورق الباقي عندنا ، وقال بعض المخالفين يعتق كله ، ويكون قيمة نصيب شريكه في ذمته ، يتبع به إذا أيسر ، وقال

ص: 19


1- النهاية ، كتاب العتق والتدبير ، باب العتق واحكامه.
2- مستدرك الوسائل الباب 16 ، من أبواب العتق. الحديث 7.
3- ج. فان لم يكن الّا قدر نصيبه منه أو لم يكن تمام قيمة نصيب شريكه فليس له مال يبلغ ثمن العبد.

بعضهم شريكه بالخيار بين ان يعتق نصيبه ، وبين ان يستسعيه في قيمته ، ليؤدى فيعتق. وقد روى (1) في أخبارنا ذلك.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة : إذا ورث شقصا من أبيه أو أمه ، قوّم عليه ما بقي إذا كان موسرا ، وقال الشافعي لا يقوم عليه لأنّه بغير اختياره ، دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم هذا أخر المسألة (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، الّذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انه لا يقوّم عليه ما بقي ، لأنه لا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وما ذكره رحمه اللّه من قوله « دليلنا إجماع الفرقة » فعلى اىّ شي ء أجمعت ، انّما أجمعت على انه من أعتق شركا له في عبد ، وكان موسرا قوّم عليه حصّة شريكه ، وكذلك الأخبار التي ادّعاها ، انما وردت بما اجمعوا عليه ، وما وردت ، ولا أجمع أصحابه على ان من ورث شقصا له من عبد يعتق عليه ، يقوم عليه ما بقي إذا كان موسرا.

الّا ان شيخنا رجع عما ذكره ، في مبسوطة ، وقال لا يقوم عليه (3) ، وهو الحق اليقين.

وقال في مسائل الخلاف ، إذا أعتق كافر مسلما ، ثبت له عليه الولاء (4).

وهذا لا يتقدر على ما قررناه ان العتق لا يقع الّا ان يقصد به وجه اللّه تعالى ، والكافر لا يعرف اللّه تعالى ولا يقع منه نية القربة.

عندنا ان العتق لا يقع بشرط ولا يمين ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.

إذا قال كل عبد أملكه فهو حر ، أو قال ان ملكت هذا فهو حرّ ، ولم يجعل ذلك نذرا ، ثمّ ملك ، لم يعتق.

قال شيخنا في مسائل الخلاف ، مسألة : إذا أعتق عن غيره عبدا باذنه ، وقع

ص: 20


1- الوسائل ، كتاب العتق ، الباب 18 ، ح 2 - 3 - 4 - 7 وغيرها في الباب.
2- الخلاف ، كتاب العتق مسألة 7.
3- المبسوط ، ج 6 ، كتاب العتق ، فصل فيمن يعتق على من ملكه ، ص 68.
4- الخلاف كتاب العتق مسألة 12.

العتق عن الآذن (1).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ان العتق لا يقع الّا عن المالك للعبد ، دون الآذن الذي ليس بمالك ، لانّه لا خلاف في قوله عليه السلام « لا عتق قبل ملك ، ولا طلاق قبل نكاح » (2) والآذن لم يملك العبد وانما هو على ملك المباشر للعتق الى حين إعتاقه ، وانّما هذا الذي ذكره شيخنا رحمه اللّه قول المخالفين ، دون ان يكون ورد في أخبارنا ، أو أجمع أصحابنا عليه ، لانّه لو اجمع عليه أصحابنا ، أو وردت به أخبارنا لما قال في استدلاله على صحة ما اختاره « دليلنا ان الآذن في الحقيقة هو المعتق » لانه لو لم يأمره بذلك لم يعتقه ، كما لو امره ببيع شي ء منه ، أو شرائه ، ولكان يقول دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم.

باب أمّهات الأولاد

إذا وطئ الرجل أمته ، فاتت منه بولد ، فان الولد يكون حرّا ، لأنّها علقت به في ملكه بغير خلاف ، وتسرى حرّية الولد إلى الأم عند المخالف ، وعندنا لا تسرى ، وهي أم ولد ، فما دامت حاملا ، فلا يجوز بيعها عندنا ، وان ولدت ، فما دام ولدها باقيا لا يجوز بيعها إلّا في ثمنها ، إذا كان دينا على مولاها ولم يكن له غيرها.

وقال السيّد المرتضى لا يجوز بيعها ما دام الولد باقيا ، لا في الثمن ولا في غيره (3).

والأظهر الأوّل.

فإذا مات الولد ، جاز بيعها ، وهبتها ، والتصرف فيها بسائر أنواع التصرف ، وقال المخالف لا يجوز بيعها ، ولا هبتها ، ولا التصرف في رقبتها بشي ء من أنواع التصرف ، لكن يجوز التصرف في منافعها بالوطي والاستخدام.

ص: 21


1- الخلاف ، كتاب العتق مسألة 16.
2- الوسائل الباب 5 من أبواب العتق الحديث 1 مع التقديم والتأخير في لفظ العتق والطلاق.
3- في كتاب الانتصار ، كتاب التدبير ، مسألة 9.

فإذا مات السيّد عتقت من أصل المال عندهم ، وعندنا تجعل من نصيب ولدها ، وتعتق عليه (1) ، فان لم يكن هناك غيرها انعتق نصيب ولدها ، واستسعيت في الباقي.

وروي انه ان كان لولدها مال ، ادى بقية ثمنها منه ، ولا دليل على هذه الرواية.

فان لم يكن ولدها باقيا ، جاز للورثة بيعها.

أم الولد إذا جنت جناية وجب لها أرش ، فإن الأرش يتعلق برقبتها بلا خلاف ، والمولى بالخيار بين ان يفديها ، أو يسلمها للبيع عندنا ، وعند المخالف على السيّد ان يفديها ويخلصها من الجناية ، قالوا : لانه منع من بيعها باحباله ، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها ، فصار كالمتلف لمحل الأرش ، فلزمه ضمان الجناية ، كما لو كان له عبد فجنى ، فقتله ، ويفارق إذا كان له عبد ، فأعتقه ، ثمّ جنى جناية ، لم يلزمه جناية ذلك ، لأن هناك بلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته.

إذا كان لذمي أم ولد منه ، فأسلمت ، فإنّها لا تعتق عليه ، وتباع عليه عندنا ، لأنها مملوكة.

ولا خلاف بين أصحابنا ، انّ الذّمي إذا كانت عنده جارية ذمّية ، فأسلمت ، فإنّها تباع عليه بغير اختياره ، ويعطى ثمنها ، لقوله تعالى « وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (2) وهذا مذهب شيخنا في مبسوطة (3) ، واختار في مسائل خلافه قول بعض المخالفين ، وهو انه لا تباع ولا تستعار ، لكن يحال بينها وبين المولى الذّمي ، وتجعل في يد امرأة ثقة تنفق عليها من كسبها ، فان فضل شي ء من كسبها ، كان لسيّدها ، وان عجز ذلك عن نفقتها ، كان على السيّد تمام النفقة (4).

وما ذكره في مبسوطة هو الّذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ص: 22


1- ج. ل. تنعتق عليه.
2- سورة النساء : الآية 141.
3- المبسوط ، ج 6 ، كتاب أمهات الأولاد ، ص 188 ، والعبارة هكذا ، إذا كان لذمي أم ولد منه ، فأسلمت فإنها لا يعتق عليه وتباع عندنا.
4- الخلاف ، كتاب أمهات الأولاد ، مسألة 2 ، والمنقول مضمونها.

وقال شيخنا في نهايته في باب أمهات الأولاد ، فان لم يخلف غيرها ، وكان ثمنها دينا على مولاها ، قومت على ولدها ، وتترك الى ان يبلغ ، فإذا بلغ اجبر على ثمنها ، فان مات قبل البلوغ ، بيعت في ثمنها ، وقضى به الدين (1).

وهذا الذي ذكره ، غير واضح ، لأنا نبيعها في ثمن رقبتها في حياة مولاها ، فكيف بعد موته ، ولأيّ شي ء يجبر الولد بعد بلوغه على ثمنها؟ فلأيّ شي ء يؤخر الدين؟

الّا ان شيخنا قد رجع عن هذا في عدّة مواضع ، ولا شك ان هذا خبر واحد أورده هاهنا إيرادا لا اعتقادا.

باب الولاء

الولاء على ثلاثة أقسام ، وولاء النعمة ، وهو كل من أنعم عليه مولاه ، وأعتقه متبرّعا بإعتاقه ، متقربا بذلك الى اللّه تعالى ، لا في واجب عليه ، ولا مجبر عليه ، بان يرث من يعتق عليه أو يبتاع من يعتق عليه.

وولاء تضمن الجريرة ، وهو ان يتعاقد اثنان مجهولا النسب ، أو أحدهما ، أولا وارث (2) من جهة النسب لهما أو لأحدهما ، على ان يعقل عنه ويضمن جريرته وخطاءه ، ويكون له ميراثه.

وولاء الإمامة ، وهو كل من مات ولا وارث له من نسب ، ولا مولى منعم ، ولا ضامن جريرة.

فالقسم الأول ، إذا كان المباشر للعتق رجلا ، فولاء مولاه له ، وضمان جريرته عليه ، الّا ان يتبرّأ (3) من ضمان جريرته في حال عتقه ، ويشهد على ذلك.

فإذا مات المنعم ، فولاء مولاه يجرى مجرى النسب ، ويرثه من يرث من ذوي الأنساب على حد واحد ، إلّا الاخوة ، والأخوات من الأم ، أو من يتقرب بها من الجدّ والجدّة ، والخال والخالة ، وأولادهما.

ص: 23


1- النهاية ، كتاب العتق ، باب أمهات الأولاد.
2- ج. ل. ولا وارث.
3- ج. ل. ان يبرأ.

وفي أصحابنا من قال انه لا يرث النساء من الولاء شيئا ، وانما يرثه الذكور من الأولاد والعصبة ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) وإيجازه (2).

والأول مذهبه في استبصاره (3) ، فإنه قال : ان البنت ترث من ميراث المولى ، كما يرث الابن ، قال وهو الأظهر من مذهب أصحابنا ، وهو مذهبه في مسائل خلافه (4) ، واستدل على صحته بان قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا قوله عليه السلام « الولاء لحمة كلحمة النسب ، لا يباع ولا يوهب » (5).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه وهذا الذي يقوى في نفسي ، وبه افتى ، لأنّ هذا الخبر مجمع عليه ، متلقى بالقبول عند الخاصّة والعامة ، فلا معدل عنه ، ولا إجماع منعقد لأصحابنا على المسألة ، فنخصّص العموم به.

فاما إذا كان المنعم بالعتق امرأة ، فإنها ترث ولاء مواليها ما دامت حية ، فإذا ماتت ورث ولاء مواليها عصبتها من الرجال ، دون أولادها ، سواء كان الأولاد ذكورا أو إناثا ، لأن إجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، فهو المخصّص لعموم الخبر المقدم ذكره.

الّا ما ذهب اليه شيخنا المفيد في مقنعته (6) ، فإنّه قال يرث الولاء أولادها الذكور دون الإناث.

وابن أبي عقيل ذهب الى ان الولاء يرثه أولاد المرأة ، سواء كانوا ذكورا أو إناثا ، وهو يجرى مجرى النّسب على حد واحد ، إلّا الاخوة والأخوات من الام ومن يتقرب بها ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (7).

وهذا أقوى ، يجب ان يعتمد عليه للخبر المقدم ذكره وما قلناه من تخصيصه

ص: 24


1- النهاية ، كتاب العتق ، باب الولاء.
2- الإيجاز.
3- الإستبصار ، ج 4 ، ص 173 ، باب انه لا يرث أحد من الموالي مع وجود واحد من ذوي الأرحام ذيل حديث 7.
4- الخلاف. كتاب الفرائض ، مسألة 84.
5- الوسائل ، الباب 42 ، من أبوال القن ، الحديث 2 و 6.
6- المقنعة باب ميراث الموالي وذوي الأرحام ص 694.
7- الخلاف. كتاب الفرائض ، مسألة 84.

بالإجماع ، فراجعنا النّظر في أقوال أصحابنا وتصانيفهم ، فرأيناها مختلفة غير متفقة ، فالأولى التمسّك بالعموم ، الى ان يقوم دليل الخصوص.

فاما القسم الثاني ، فلا يتعدى الضامن ، فإذا مات الضّامن بطل التعاقد بينهما ، ولا يرثه ورثته بغير خلاف.

فامّا القسم الثالث ، فان ميراثه لإمام المسلمين ، مع فقدان جميع الأنساب والموالي ، وهذا هو ميراث من لا وارث له ، وهو الضّامن لجريرته وحدثه ، فإذا مات الامام ، انتقل الى الامام الذي يقوم مقامه ، دون ورثته الّذين يرثون تركته ، ومن يتقرب اليه.

ولا يصح بيع الولاء ولا هبته.

وإذا أعتق الرجل مملوكا وتبرأ من ضمان جريرته كان سائبة ، ولا ولاء له عليه على ما قدمناه ، وكذلك الّذين يعتقهم في النذور والكفارات والواجبات ، فلا ولاء لمن أعتقه عليه ، ولا لأحد بسببه ، فان توالى هذا المعتق اليه ، وضمن جريرته ، كان ولاؤه له ، فان توالى الى غيره ، كان ولاؤه له ، وضمان جريرته عليه ، فان مات ولم يتوال أحدا ، كان ميراثه لإمام المسلمين على ما قدمناه.

قال شيخنا في مبسوطة ، إذا ملك من يعتق عليه بعوض ، أو بغير عوض ، عتق عليه ، وكان ولاؤه له ، لعموم الخبر (1).

وهذا غير واضح ، ولا مستقيم ، لأنا قد بيّنا انه لا خلاف بين أصحابنا في ان الولاء يستحقه المتبرع بالعتق ، دون غيره ، وأيضا فقول الرّسول عليه السلام. المجمع عليه « ان الولاء لمن أعتق » (2) وهذا ما أعتق بغير خلاف ، لانّه انعتق عليه بغير اختياره ، فإن أراد شيخنا بقوله لعموم الخبر ، هذا الخبر الّذي ذكرناه ، فهو بالضدّ من مراده واستشهاده.

ثمّ قال رحمه اللّه ، فامّا المكاتب ، إذا أعتق بالأداء ، أو اشترى العبد نفسه من

ص: 25


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب العتق فصل في الولاء ، ص 71.
2- الوسائل ، الباب 25 ، من أبواب العتق.

مولاه ، وعتق ، لم يثبت له عليه الولاء عندنا ، الّا ان يشترط عليه ، وعندهم يثبت واما المدبر فإنه يثبت عليه الولاء بلا خلاف ، وكذلك أم الولد (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه قوله رحمه اللّه في المكاتب والمدبر صحيح واضح ، لا خلاف عندنا فيهما ، وامّا أمّ الولد فلا ولاء عليها لأحد من جهة مولاها ، لما قدّمناه من الأدلة وبيّناه.

باب المكاتبة

المكاتبة مشتقة من الكتب ، وهو الضمّ والجمع ، يقال كتبت البغلة إذا ضممت أحد شفريها بحلقة أو سير ، ومنه قيل للجيش والناس المجتمعين « كتيبة » فكذلك المكاتبة ، اشتقاقها من هذا ، لانه ضم أجل إلى أجل ، وعقد المعاوضة على ذلك.

فدليل جوازها قوله تعالى « وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً » (2) فأمر بالكتابة ، فإذا ثبت ذلك ، فهي أن يشترط المالك على عبده أو أمته تأدية شي ء معلوم ، يعتق بالخروج منه اليه ، وهي بيع العبد من نفسه ، وصورتها ان يقول الإنسان ، لعبده أو أمته ، « قد كاتبتك على ان تعطيني كذا وكذا دينارا ، أو درهما ، في نجوم معلومة ، على انك إذا أديت ذلك فأنت حرّ » فيرضى العبد بذلك ، ويكاتبه عليه ، ويشهد بذلك على نفسه ، فمتى ادى مال الكتابة في النجوم الّتي سمّاها ، صار حرّا.

وهي على ضربين ، مشروطة ومطلقة غير مشروطة فإذا أدى المكاتب من غير شرط ، شيئا من مال الكتابة ، عتق منه بحسابه ، والمشروط عبد ما بقي عليه درهم.

ولا يجوز للإنسان وطي أمته المكاتبة ، سواء كانت الكتابة مطلقة ، أو مشروطة بلا خلاف ، فإن وطأها وكانت مشروطا عليها ، لم يحد ، لأنّ هناك شبهة يسقط بها الحد ، وان كانت غير مشروطة عليها ، وقد أدت من مال الكتابة شيئا ، كان عليه

ص: 26


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب العتق فصل في الولاء ، ص 71.
2- سورة النور ، الآية 33.

الحد بمقدار ما تحرّر منها إذا لم يشتبه الحكم عليه.

والكتابة المشروطة ، هو ان تقول للعبد في حال الكتابة « متى عجزت عن أداء ثمنك فأنت رد في الرق ، ولى جميع ما أخذت منك » - فمتى عجز عن ذلك وحد العجز هو ان يؤخر نجما الى نجم والاولى ان نقول ان يؤخر النجم بعد محلّه فامّا تأخير النجم الى النجم الآخر فعلى جهة الاستحباب الصّبر عليه الى ذلك الوقت ، أو يعلم من حاله انه لا يقدر على فك رقبته وأداء ثمنه فإنه عند ذلك يرجع رقا إذا فسخ ذلك مولاه ، فان لم يفسخ الكتابة مولاه ، بقي على ما هو عليه من الكتابة ، وليس بمجرّد عجزه يرجع رقا ، بل يكون سيده بالخيار بين فسخ الكتابة ، أو المقام عليها والصبر عليه.

فان مات هذا المكاتب ، وخلف مالا وأولادا ، كان ما ترك لمولاه ، دون غيره ، وكان أولاده مماليك له إذا كان أولاده من مملوكة اشتراها ، فامّا ان كانوا من حرة ، فلا يكونون مماليك لسيده.

ولا يجوز لهذا المكاتب ان يتصرف في نفسه بالتزويج ، ولا بهبة المال ، ولا بالعتق ما دام قد بقي عليه شي ء من مال الكتابة ، وانما يجوز له التصرف في تنمية المال.

ومتى حصل عليه دين ، كان مولاه ضامنا له ، إذا كان قد اذن له في الاستدانة ، لأنه عبده.

والضرب الآخر من المكاتبة ، هو ان يكاتبه على شي ء معلوم ، ونجوم معلومة ، ولا يشترط عليه انه ان عجز فهو رد في الرق ، على ما بيناه ، فمتى أدى شيئا من مكاتبته انعتق منه بحساب ذلك على ما تقدم بيانه ، ولم يكن لمولاه عليه سبيل.

فان مات هذا المكاتب وترك مالا وترك أولادا ، ورثه مولاه بقدر ما بقي له من العبودية ، وكان الباقي لولده إذا كانوا أحرارا في الأصل ، بعد إخراج ما بقي من مال الكتابة قبل ذلك أجمع ، لأنّه دين ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا على ما بيناه.

والّذي ينبغي تحصيله في ذلك ، ان نقول يرث السيد بمقدار ما فيه من العبودية ، وابنه أو وارثه بقدر ما تحرر منه ، ويؤخذ بقيّة مال الكتابة من نصيب وارث

ص: 27

المكاتب ، إذا صار اليه نصيبه ، لأنّ الدين الّذي هو مال الكتابة يخرج من نصيب الوارث للأجزاء الحرّيّة (1) ، دون جميع ما خلفه وتركه الميت ، لأنّ الاجزاء الباقية على العبودية لا تملك شيئا ، لأنّه مال سيده دونه ، وانّما الدين يتعلق بما فيه من الحرّيّة ونصيبها ، دون جميع التركة.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في استبصاره (2) ، وهو الصحيح دون ما أوردناه أوّلا فإن كان هذا المكاتب قد رزق الولد بعد الكتابة من امة له ، كان حكم ولده حكمه في انه يسترق منه مولى أبيه بقدر ما بقي على أبيه ، فإن أدى الابن ما كان قد بقي على أبيه ، صار حرا لا سبيل لمولاه عليه ، فان لم يكن له مال ، استسعاه مولى الأب فيما بقي على أبيه ، فمتى ادّاه صار حرا.

وهذا المكاتب إذا أدى بعض مكاتبته ، يرث ويورث بحساب ما عتق منه ، ويمنع الميراث بقدر ما بقي من الرق ، وكذلك ان وصى له ، كانت الوصيّة ماضية له ، بقدر ما عتق ، ويحرم بقدر ما بقي من رقه.

وكل شرط يشرطه المولى على مكاتبه ، فإنه يكون ماضيا ما لم يكن شرطا يخالف الكتاب والسنة ، كما ان له جميع ما يشرط عليه ، إذا أعتقه ، فإن شرط عليه ان يكون ولاؤه له ، كان له الولاء دون غيره ، ولا يكون له الولاء بمجرد الكتابة إلّا بالشرط.

ومتى تزوجت المكاتبة بغير اذن مولاها ، كان نكاحها باطلا ، وان كان ذلك بإذن مولاها وقد أدّت بعض مكاتبتها ، ورزقت أولادا ، كان حكم ولدها حكمها ، يسترق منهم بحساب ما بقي من ثمنها ، ويعتق بحساب ما عتقت (3) إذا كان تزويجها بعبد مملوك ، فان كان تزويجها بحر ، كان الولد أحرارا.

وإذا قال المكاتب لمولاه ، خذ مني جميع ما كاتبتنى عليه دفعة واحدة ، كان مخيرا بين أخذه منه في موضع ، والامتناع منه ، ولا يقبل منه الّا على ما وافقه من النّجوم.

ص: 28


1- ج. الوارث الآخر من جهة الحرية.
2- الاستبصار ، الباب 21 ، من كتاب العتق باب ميراث المكاتب ، ج 4 ، ص 47.
3- ق : وعتق بحساب ما أعتق.

وإذا كان المكاتب غير مشروط عليه ، وعجز عن توفية ثمنه ، فان كان مولاه ممّن عليه زكاة واجبة ، فإنه يجب عليه ان يعطيه شيئا من ذلك ، قلّ أم كثر ، لقوله تعالى « وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ » (1) وان لم يكن ممن يجب عليه زكاة ، فلا يجب عليه الإيتاء المذكور في الآية ، لأنه لا مال لله تعالى واجب عليه ، وكان على الامام ان يفك رقبته من سهم الرقاب.

والمكاتب إذا كان غير مشروط عليه ، لم يكن على مولاه فطرته ، فان كان مشروطا عليه ، وجب على مولاه فطرته.

ولا يجوز مكاتبة الكافر ، لقوله تعالى « فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً » (2) وحمل ذلك على الايمان والدين ، اولى من حمله على المال والتكسّب ، لانّه لا يقال للكافر وان كان موسرا أو مكتسبا ، انّ فيه خيرا ، ولا انّه خير ، ويقال ذلك لمن كان فيه ايمان ودين ، وان لم يكن مكتسبا ، ولا ذا مال ، ولو تساوى ذلك في الاحتمال ، لوجب الحمل على الجميع.

الكتابة المشروطة لازمة من جهة السيد ، جائزة من جهة العبد ، ولسنا نريد بقولنا جائزة من جهته ، ان له الفسخ ، كالعامل في القراض ، بل نريد ان له الامتناع عن أداء ما عليه مع القدرة عليه ، فإذا امتنع منه كان سيده بالخيار بين البقاء على العقد وبين الفسخ.

فان كانت الكتابة مطلقة ، فهي لازمة من الطّرفين ، وليس لأحدهما فسخ.

إذا وجبت على المكاتب كفارة في قتل ، أو ظهار ، أو جماع ، ففرضه الصوم بلا خلاف ، فان كفر بالمال بغير اذن سيّده لم يصح ، لأنّه مستغن عن التكفير بالمال ، لانّه يمكنه التكفير بالصوم ، فان اذن له السيد في ذلك ، فإن أراد ان يكفر بالعتق ، لم يجز بلا خلاف عندنا ، لأنه فعل ما لم يجب عليه ، وعند المخالف لأنّ العتق يتضمن ثبوت الولاء ، وليس المكاتب من أهل الولاء ، وامّا ان أراد ان يكفّر بالإطعام أو الكسوة ، فعندنا لا يجزيه ، لانّه فعل ما لم يجب عليه.

ص: 29


1- سورة النور : الآية 33.
2- سورة النور : الآية 33.

الكتابة تصح حالّة ، ومؤجّلة ، وليس الأجل شرطا في صحتها.

يجوز عتق المكاتب المشروط عليه في الكفارة الواجبة ، لأنّه عند أصحابنا جميعا عبد ما بقي عليه درهم ، وأحكامه أحكام العبد القن بلا خلاف بينهم ، فامّا المكاتب المطلق ان لم يكن ادى من مكاتبته شيئا ، فيجوز عتقه في الكفارة ، فإن كان ادى منها شيئا ، فلا يجوز عتقه في الكفارة.

وقال شيخنا في مسائل خلافه ، لا يجوز عتق المكاتب في الكفارة ، سواء كانت المكاتبة مطلقة أو مشروطة (1).

وما حرّرناه هو الّذي يقتضيه أصول مذهبنا ، واليه ذهب في نهايته (2).

باب التدبير

التدبير ، هو ان يعلّق عتق عبده بوفاته ، فيقول « متى مت أو إذا مت فأنت حرّ أو محرّر أو عتيق ، أو معتق » وسمّى مدبرا لان العتق عن دبر حياة سيّده ، يقال : دابر الرجل يدابر مدابرة ، إذا مات ، ودبّر عبده يدبره تدبيرا ، إذا علق عتقه بوفاته.

والتدبير لا يقع الّا مع قصد اليه ، واختيار له ، ولا يقع على غضب ، ولا إكراه ، ولا سكر ، ولا على جهة اليمين ، ويكون القربة الى اللّه تعالى هي المقصودة به ، دون سائر الأغراض ، فعلى هذا تدبير الكافر غير جائز.

وهو على ضربين ضرب يجوز الرجوع فيه ، وهو إذا كان ذلك التدبير تطوعا وتبرّعا ، فهو بمنزلة الوصيّة ، يجوز بيعه في دين وغير دين ، وإخراجه عن ملكه ، والتصرف فيه بسائر جميع التصرفات ، كما يجوز له الرجوع في وصيّته.

والضرب الآخر ، لا يجوز بيعه ، وهو انّه إذا كان تدبيره عن واجب ، ومعنى ذلك ان يكون مثلا قد نذر إن برئ مريضة ، أو قدم غائبة أن يدبر عبده ، ففعل

ص: 30


1- الخلاف ، كتاب الظهار ، مسألة 29 ، والعبارة هكذا ، عتق المكاتب لا يجزى في الكفارة .. فإن المكاتب عندنا على ضربين ، مشروط عليه وغير مشروط إلخ.
2- النهاية كتاب النذر والعهود باب الكفارات.

ذلك واجبا لا تبرعا ، فهذا الضرب لا يجوز بيعه.

فإذا كان التدبير عن وجوب ، فهو من رأس المال ، وان كان عن تطوع فهو من الثلث.

وكيفيّة ذلك : ان يقول الإنسان لمملوكه « أنت حر بعد وفاتي ».

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : التدبير هو ان يقول الرجل لمملوكه : أنت رق في حياتي ، حرّ بعد وفاتي (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه عليه ، لا حاجة بنا ان نقول أنت رق في حياتي ، لأنّه لو لم يقل ذلك ، وقال أنت حرّ بعد وفاتي ، كان ذلك كافيا.

ومتى مات المدبر ، كان المدبر من الثلث ، إذا كان متبرعا بالتدبير ، على ما قدّمناه ، فان نقص عن الثلث انعتق ، ولا له شي ء ، ولا عليه شي ء ، فان زاد عليه استسعى ، سواء كانت الزيادة ضعفي الثلث ، أو أقل ، أو أكثر.

وقال شيخنا في نهايته ، ومتى أراد بيعه من غير ان ينقض تدبيره ، لم يجز له ، الّا ان يعلم المبتاع انه يبيعه خدمته ، وانه متى مات هو كان حرّا ، لا سبيل له عليه (2).

إلّا ان شيخنا رجع في مسائل خلافه ، بان قال في آخر المسألة الرابعة من كتاب المدبر ، قال : دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، ثمّ قال : فامّا بيعه ، وهبته ، ووقفه ، فلا خلاف في ذلك انّه ينتقض بذلك التدبير (3) ، ثمّ قال رحمه اللّه مسألة :

إذا دبره ، ثمّ وهبه ، كان هبته رجوعا في التدبير (4) ، ثمّ قال مسألة : إذا دبره ، ثمّ اوصى به لرجل ، كان ذلك رجوعا (5).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، فامّا قوله رضى اللّه عنه انّه يبيعه خدمته ، فغير واضح ، لأنّ حقيقة البيع في عرف الشرع يقتضي بيع الرّقبة ، فحمله على بيع المنافع عدول باللّفظ عن حقيقته بلا دلالة ، بل شروعه في بيعه ، يقتضي الرّجوع عن التدبير

ص: 31


1- النهاية ، كتاب الطلاق باب التدبير.
2- النهاية ، كتاب الطلاق باب التدبير.
3- الخلاف. كتاب المدبر مسألة 4.
4- الخلاف. كتاب المدبر مسألة 4.
5- الخلاف. كتاب المدبر مسألة 4.

الّذي هو عندنا بمنزلة الوصيّة ، بغير خلاف بيننا ، كمن اوصى بداره لرجل ، ثمّ باعها قبل موته ، اقتضى ذلك الرّجوع عن الوصيّة ، من غير ان يحتاج الى نقض الوصية قبل بيع الدّار ، فليلحظ ذلك ، فهذا الّذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وهو مقالة السيّد المرتضى ، ذكره في النّاصريات (1).

فامّا ان كان التدبير عن واجب ، فيمكن بيعه على جهة الصّلح ، فيكون الصّلح على منافعه مدة حياة من دبّره ، ولا يمتنع ان يسمّى هذا الصّلح على المنافع في هذا الموضع بيعا ، فليلحظ ذلك.

وإذا دبّر الإنسان جاريته وهي حبلى ، وهو عالم بذلك ، فقد روى (2) انه يكون ما في بطنها كهيئتها ، وبمنزلتها يكون مدبرا.

والّذي يقتضيه مذهبنا ، ان ما في بطنها لا يكون مدبّرا مثلها ، لانه ما دبره ، والتدبير حكم شرعيّ يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا يرجع في مثل هذا الى اخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وان كان أورد ذلك شيخنا في نهايته (3) إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله.

فان لم يعلم بحبلها ، كان الولد رقا ، ويكون التدبير ماضيا في الجارية.

فإن حملت بعد التدبير وولدت أولادا ، كان أولادها بمنزلتها مدبرين ، على ما روى (4).

فمتى مات الّذي دبّر أمهم ، صاروا أحرارا من الثلث ، فان زاد ثمنهم على الثلث ، استسعوا في الباقي ، فإذا أدوا انعتقوا.

وقد روى (5) انه ليس للمولى ان ينقض تدبير الأولاد ، وانما له نقض تدبير الام حسب.

ص: 32


1- الناصريات ، كتاب البيوع مسألة 174.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب التدبير الحديث 3.
3- النهاية كتاب العتق باب التدبير.
4- الوسائل الباب 5 من أبواب التدبير الحديث 2.
5- الوسائل الباب 7 من أبواب التدبير الحديث 1.

والّذي يقتضيه مذهبنا خلاف ذلك ، لأنّ إجماع أصحابنا منعقد على ان التدبير بمنزلة الوصيّة ، بل هو وصيّة ، ولا خلاف بينهم في ان للإنسان ان يرجع في وصيّته ما دام حيّا ثابت العقل ، ولا خلاف بينهم في ان الأولاد مدبرون ، فكيف لا يرجع فيهم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا دبر عبده وعليه دين ، فرارا به من الدين ، ثمّ مات ، كان التدبير باطلا ، وبيع العبد في الدين ، وان دبر العبد في حال السّلامة ثمّ حصل عليه دين ، ومات ، لم يكن للديان على المدبر سبيل (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه وهذا غير واضح ، لانه لا خلاف بيننا أنّ التدبير بمنزلة الوصيّة يخرج من الثلث ، ولا يصح الّا بعد قضاء الدّيون ، فعلى هذا التحرير والتقرير يباع العبد في الدّين ، ويبطل التدبير على كل حال ، سواء دبره في حال السلامة ، أو فرارا من الدّين ، وانما هذا خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا.

والمدبر متى حصل معه مال ، جاز لمولاه التصرف فيه ، كما ينصرف في ماله ، فان باعه ، جاز له ان يأخذ ماله.

وإذا أبق المدبر ، بطل تدبيره ، فان رزق في حال إباقه بكسر الألف مالا ، وأولادا ، ثمّ مات ، ومات الذي دبره ، كانوا رقا لورثته ، وجميع ما خلفه من المال والولد لورثة الذي دبره.

وقد روي (2) انه إذا جعل الإنسان خدمة عبده لغيره ، وقال « متى مات من جعل له تلك الخدمة يكون حرا » كان ذلك صحيحا فمتى مات المجعول له ذلك ، صار حرا ، وان أبق العبد ولم يرجع الّا بعد موت من جعل له خدمته ، لم يكن لأحد عليه سبيل ، وصار حرا.

ولا دليل على هذه الرّواية ، وصحّتها ، لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ، لأنّ التدبير في عرف الشريعة عتق العبد بعد موت مولاه ، والمجعول له الخدمة غير مولاه ، وأيضا لو كان التدبير صحيحا ، لكان إذا أبق أبطل التدبير ، لأنّ عندنا إباق المدبر يبطل

ص: 33


1- النهاية ، كتاب العتق باب التدبير.
2- الوسائل ، الباب 11 ، من أبواب التدبير ، الحديث 1.

التدبير ، وفي هذه الرواية انه ان أبق العبد ولم يرجع الّا بعد موت من جعل له خدمته ، لم يكن لأحد عليه سبيل ، وصار حرّا ، وهذا مخالف لحقيقة التدبير ، وأيضا فهذا حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك الّا هذه الرواية الشّاذة.

وقال شيخنا في نهايته ، والمدبر لا يجوز ان يعتق في كفارة ظهار ، ولا في شي ء من الواجبات التي على الإنسان فيها العتق ، ما لم ينقض تدبيره ، فان نقض تدبيره وردّه الى محض الرق ، جاز له بعد ذلك عتقه فيما وجب عليه (1).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك : من ان التصرف فيه وإخراجه عن ملكه ، رجوع عن التدبير ، ولا يحتاج الى قول « بأنّه قد نقض تدبيره ».

والى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، فإنّه قال مسألة : إذا دبّره ، ثمّ وهبه ، كان هبته رجوعا في التدبير سواء أقبضه أو لم يقبضه. وقال الشّافعي ان أقبضه ، مثل ما قلناه ، وان لم يقبضه فعلى ضربين ، منهم من قال يكون رجوعا قولا واحدا ، ومنهم من قال على قولين ، دليلنا ان الهبة إزالة الملك ، وإذا أزال ملكه عنه ، فقد نقض التدبير ، كما لو باعه ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه (2).

إذا كان عبد بين شريكين ، فدبر أحدهما نصيبه ، لم يقوم عليه نصيب شريكه.

وقال السيد المرتضى ، حكم التدبير بين الشريكين ، حكم العتق سواء ، من التقويم والسعاية (3).

والأول اختيار شيخنا أبي جعفر (4) ، وهو الّذي يقوى في نفسي ، لأنه لا دليل على التقويم ، والحاقه بحكم العتق يحتاج الى دليل ، وهو ضرب من القياس ، ونحن لا نقول به ، والأصل براءة الذّمة.

والتدبير بشرط لا يصحّ عندنا.

ص: 34


1- النهاية ، كتاب العتق ، باب التدبير ، آخر الباب.
2- الخلاف كتاب المدبر مسألة 16.
3- الانتصار ، كتاب التدبير مسألة 4 ، بهذا المضمون لا بهذه العبارة.
4- في كتاب الخلاف ، كتاب المدبّر ، مسألة 16.

كتاب الأيمان

اشارة

ص: 35

كتاب الايمان والنّذور والكفارات

باب ماهية الأقسام والايمان

لا يمين شرعيّة منعقدة عند أهل البيت عليهم السلام ، الّا باللّه تعالى ، أو بأسمائه أو صفاته ، فان حلف به كان يمينا بكل حال ، والحلف به هو ان يقول « ومقلب القلوب ، والذي نفسي بيده » ومتى حنث وجبت عليه الكفارة.

فامّا الحلف بأسمائه ، فاسماؤه على ثلاثة أضرب ، اسم لا يشاركه غيره فيه ، واسم يشاركه فيه غيره ، ولكن إطلاقه ينصرف اليه ، واسم يشاركه فيه غيره ، وإطلاقه لا ينصرف اليه.

فاما مالا يشاركه فيه غيره ، فإنه يكون يمينا بكل حال ، كقوله « واللّه » فإنه يبدأ به ، ويعطف عليه غيره فيقول « واللّه الرّحمن الرحيم ، الطّالب الغالب » وكذلك « الرحمن » له خاصّة وهكذا « الأول الذي ليس كمثله شي ء » كل هذا لا يصلح لغيره بوجه ، والحكم فيه كما لو حلف به وقد مضى.

الثاني ما يشاركه فيه غيره ، وإطلاقه ينصرف اليه ، كالرّب ، والرازق ، والخالق ، يقال ربّ العالمين ، وربّ الدّار لغيره ، ورازق الخلق ، ورازق الجند لغيره ، وخالق الأشياء له ، وخالق الافك لغيره ، وما كان من هذا فإطلاقه ينصرف إليه ، فإن أطلق ، أو أراد يمينا ، كان يمينا ، وان لم يرد يمينا ، فيقيّد بالنيّة ، أو بالنطق ، وأراد غير اللّه بذلك ، لم يكن يمينا.

الثالث ما يشاركه فيه غيره ، وإطلاقه لا ينصرف اليه ، كالموجود ، والحيّ الناطق ، ونحو هذا ، كل هذا لا يكون يمينا بوجه ، وان أرادها وقصدها ، لانّه مشترك لا ينصرف إطلاقه اليه ، فإذا كان كذلك ، لم يكن له في نفسه حرمة.

ص: 36

فاما الكلام في صفاته ، فصفاته ضربان ، صفات ذات ، وصفات فعل ، فصفات ذاته ، مثل قوله « وعظمة اللّه ، وجلال اللّه ، وقدرة اللّه ، وعلم اللّه ، وكبرياء اللّه ، وعزّة اللّه » فإنّه ان قصد به المعنى الّذي يكون به عالما ، وقادرا على ما يذهب إليه الأشعري ، لم يكن يمينا باللّه ، وان قصد به كونه عالما وقادرا. كان يمينا ، فان ذلك قد يعبّر به عن كونه عالما وقادرا.

إذا قال لعمر اللّه ، روى (1) أصحابنا انه يكون يمينا.

فعلى هذا لا يمين منعقدة بشي ء من المخلوقات والمحدثات ، وكل مقسوم به ما عداه تعالى ، وأسماؤه الحسنى ، وصفات ذاته على المعنى الذي حرّرناه وشرحناه ، فمن حلف بغير ذلك لا تنعقد يمينه ، وكان مخطئا ، مثل قوله « وحق اللّه ، والقرآن ، والمصحف ، والكعبة ، وأنبياء اللّه ، وأئمته عليهم السلام » كل ذلك لا ينعقد به اليمين ، لأنّ الحالف بغير اللّه تعالى ، عاص بمخالفة المشروع من كيفية اليمين ، وإذا كان انعقاد اليمين ولزوم الكفّارة بالحنث حكما شرعيا ، لم يثبت بالمعصية ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل.

واليمين المنعقدة الموجبة للكفّارة بالحنث ، هي ان يحلف العاقل المالك لاختياره ، ان لا يفعل في المستقبل قبيحا أو مباحا لا ضرر عليه في تركه ، أو ان يفعل طاعة أو مباحا لا يترجح فعله على تركه ، مع عقد اليمين بالنيّة ، وإطلاقها من الاشتراط بالمشيّة ، فيخالف ما عقد اليمين عليه ، مع العمد والاختيار ، لانه لا خلاف في انعقاد اليمين في الموضع الذي ذكرناه ، وليس على انعقادها فيما سواه دليل.

ويختصّ النية قوله تعالى « لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » (2) وعقد اليمين لا يكون إلّا بالنيّة.

ويحتج على المخالف في سقوط الكفارة بالسّهو والإكراه ، بقوله عليه السلام « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (3) واليمين الّتي لا تنعقد ، ولا

ص: 37


1- الوسائل ، الباب 30 من أبواب الايمان الحديث 4.
2- سورة البقرة : الآية 225.
3- الوسائل ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس لكن ما في الباب من الاخبار رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطاء والنسيان وما أكرهوا عليه إلخ. أو قريب من هذه العبارة امّا في كتب العامة ففي سنن البيهقي الباب 32 من كتاب الخلع والطلاق الحديث 2 ج 7 ص 357 عن عقبة بن عامر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وضع اللّه عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وكذلك في سنن ابن ماجة الباب 16 من كتاب الطلاق الحديث 3، ج 1 ، ص 659.

كفارة فيها ، ما عدا ما ذكرناه ، مثل ان يحلف الإنسان على ماض هو كاذب فيه ، أو يقول : « لا واللّه ، وبلى واللّه » من غير ان يعقد ذلك بنية ، وهذه يمين اللغو ، أو يحلف ان يفعل أو يترك ما يكون خلافه طاعة لله تعالى واجبة ، أو مندوبا إليها ، أو يكون أصلح له في دينه أو دنياه.

ويحتج على المخالف ، في هذا ، بقوله عليه السلام « من حلف على شي ء ، فرأى ما هو خير منه ، فليأت الذي هو خير » (1) وتركه كفارتها.

ويخصّ اليمين على المعصية ، انّ معنى انعقاد اليمين ، ان يجب على الحالف ان يفعل أو يترك ما علق اليمين به ، وهذا لا يصحّ في المعصية ، لأنّ الواجب تركها.

وليس لأحد ان يقول معنى انعقاد اليمين لزوم الكفارة بالمخالفة ، لأنّ ذلك تابع لانعقاد اليمين ، وموجب عنه ، وكيف يفسّر الانعقاد به.

وكفارة اليمين ، عتق رقبة ، أو إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات.

والكسوة اختلف قول أصحابنا في ذلك على حسب اختلاف الاخبار ، فبعض ذهب الى ثوبين ، وبعض ذهب الى ثوب واحد ، وهو الأظهر ، للظاهر ، وسواء كان غسيلا ، أو جديدا ، قميصا أو مئزرا ، أو سراويلا ، ولا يجزى قلنسوة ولا خف.

والإطعام شبع المسكين مما يقتاته الحالف ، لا يجزى غيره ، الّا ان يكون أعلى منه ، لقوله تعالى « مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ » (2) أوان يسلم اليه ، مدّا ، وقدره

ص: 38


1- سنن ابن ماجة الباب 7 ، من كتاب الكفارات ، الحديث 2 ، ج 1 ، ص 681 ، والحديث هكذا عن عدي بن حاتم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من حلف على يمن فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ورواه البيهقي عن عدي وعن أبي موسى الأشعري وعن أبي هريرة. كتاب الايمان الباب 6 الحديث 2 و 4 و 5، ج 10 ص 31 و 32 وروى أيضا مثله في الكتابين.
2- سورة المائدة : الآية 89.

رطلان وربع بالبغدادي على الأظهر من الأقوال ، وذهب بعض أصحابنا إلى المدين ، واضافة الأدم الى ذلك غير واجب ، بل هو مستحب على ما رواه (1) أصحابنا ، أعلاه اللّحم ، وأوسطه الزيت والخل ، وأدونه الملح.

ومصرفها مصرف زكاة الأموال ، ومستحقها مستحقها ، لا يجزى غير ذلك.

والعبد كفّارة يمينه ، الصيام ، الأيام الثلاثة فحسب ، لانه غير مخاطب بما يوجب المال.

ولا كفارة قبل الحنث.

ولا يمين لولد مع والده ، ولا لعبد مع سيّده ، ولا للمرأة مع زوجها ، فيما يكرهونه من المباح ، فمتى حلف واحد منهم على شي ء ممّا ليس بواجب ولا قبيح ، جاز للأب حمل الولد على خلافه ، وساغ للزوج حمل زوجته على خلاف ما حلفت عليه ، وكذلك العبد ، ولا يلزم واحدا منهم كفارة على ذلك.

ولا يجوز اليمين بالبراءة من اللّه ، أو من رسوله ، أو واحد من الأئمّة عليهم السلام ، فان فعل اثم ، ولزمه ان خالف ما علق البراءة به ، كفارة ظهار ، على قول بعض أصحابنا ، وهو اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (2) ، وشيخنا أبي جعفر في نهايته (3).

الّا ان شيخنا أبا جعفر ، رجع عن ذلك في مبسوطة ، فقال إذا قال انا يهودي ، أو نصراني ، أو مجوسي ، أو برئت من اللّه أو من القرآن ، أو من الإسلام ، لا فعلت كذا ، ففعل ، لم يكن يمينا ، ولا يحنث بخلافه ، ولا يلزمه كفارة ، وفيه خلاف. هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه (4).

وقال أيضا في مسائل خلافه مسألة إذا قال انا يهودي ، أو نصراني ، أو مجوسي ،

ص: 39


1- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب الكفارات ، الحديث 3.
2- المقنعة ، باب الايمان والأقسام آخر الباب ، ص 731.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور والكفارة باب ماهية الايمان والأقسام لكنه قال فيه ولا يجوز ان يحلف الإنسان بالبراءة من اللّه ولا من كتابه ولا من نبيه ولا من شريعة نبيه ولا من واحد من الأئمة عليهم السلام وما أضاف بعد هذا فان فعل اثم ولزمه ان خالف ما علق البراءة به كفارة ظهار.
4- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ، ص 194.

أو برئت من الإسلام ، أو من اللّه ، أو من القرآن لا فعلت كذا ، ففعل لم يكن يمينا ، ولا المخالفة حنث ، ولا يجب به كفارة ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، وأيضا الأصل براءة الذّمة وتعليق الكفارة عليها يحتاج الى دليل (1).

وما ذكره في مبسوطة ومسائل خلافه ، هو الّذي يقوى في نفسي ، واليه اذهب ، وبه افتى ، لأنّا قد بيّنا انه لا يمين الّا باللّه تعالى ، وبأسمائه وبصفاته ، وهذا ليس كذلك ، وأيضا الأصل براءة الذّمة ، وشغلها بالكفارة والانعقاد يحتاج الى دليل ، وأيضا انعقاد اليمين حكم شرعي ، يحتاج في ثبوته الى دليل شرعي ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، والإجماع فغير منعقد عليه ، وكتاب اللّه تعالى خال من ذلك.

وقول الرجل « يا هناه ، ولا بل شانئك » من قول أهل الجاهلية ، لا ينعقد بذلك يمين.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه معنى « لا بل شانئك » اى لا أب لشانئك. فاختصروا ذلك على عادتهم في الاختصار والحذف ، فقالوا « لا بل شانيك ».

قال ابن درستويه النحوي : قد يلهج بالكلمة الشّاذة عن القياس ، البعيدة من الصواب ، حتّى لا يتكلموا بغيرها ، ويدعوا القياس المطرد المختار ، ولا يجب ان يقال مع ذلك هذا أفصح من المتروك ، من ذلك « أيش صنعت » يريدون « أيّ شي ء صنعت » و « لا بل شانئك » اى لا أب لشانئك ، و « لا تبك » اى لا تباك ، هذا آخر كلام ابن درستويه.

فدل ذلك على ما قلناه في « لا بل شانئك » وما حدانا على تحقيق هذا الّا إيراد شيخنا أبي جعفر ذلك في نهايته (2) ، مطلقا من غير بيان له.

وإذا قال الإنسان أقسمت ، أو حلفت ، لم يكن ذلك يمينا ، حتى يقول حلفت باللّه ، أقسمت باللّه.

وسائر أصناف الكفّار ، لا يحلفون الّا باللّه تعالى ، وبأسمائه ، فإن علم الامام

ص: 40


1- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة 4.
2- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..

أو الحاكم انّ استحلافهم بالتوراة والإنجيل ، أو بشي ء من كتبهم أردع لهم في بعض الأحوال ، جاز له ان يحلفهم به.

ولا يقع اليمين بالطلاق ، ولا بالعتاق ، ولا بالظّهار ، ولا بتحريم الرّجل امرأته على نفسه.

ولا تنعقد اليمين إلّا بالنيّة ، والضمير ، على ما قدمناه ، والنيّة إنما تراعى فيها نية المظلوم ، دون الظالم ، فهذا معنى قول شيخنا في نهايته « والنية إنما تراعى فيها نية المستحلف » إذا كان محقا ، وإذا كان مبطلا ، كانت النية نية الحالف (1). ويمين المكره ، والغضبان ، والسّكران غير منعقدة ، الّا ان يكون في شي ء من هذه الأحوال مالكا فيها نفسه ، لأنا قد بيّنا ان اليمين لا تنعقد إلّا بالنية والضمير.

والاستثناء في اليمين جائز إذا كان متصلا باليمين ، أو حكم المتصل ، بان ينقطع النفس ، فان لم يتصل فلا تأثير له ، فإذا استثنى فإنما يعمل إذا كان موصولا ، ولا يعمل مفصولا ، وينبغي ان يأتي به نسقا ، من غير قطع الكلام ، أو يأتي به في معنى الموصول ، وهو ان يكون الكلام انقطع لانقطاع نفس ، أو صوت ، أو عيّ فمتى اتى به على هذا صح ، وان فصل بينه وبين اليمين فصلا طويلا ، ثمّ استثنى ، أو حين فرغ من اليمين تشاغل بحديث أخر ، سقط الاستثناء.

فإذا ثبت انه لا يصحّ الّا موصولا فإنّما يصح قولا ونطقا ، ولا يصح اعتقادا ونية ، فإذا اتى به نطقا ، فإنما يصح إذا قصد به الاستثناء ، ونواه ، واعتقده ، فامّا إذا لم يكن كذلك فلا يصح.

ويصح الاستثناء في اليمين نفيا كانت أو إثباتا ، فالنفي أن يقول « واللّه لا كلّمت زيدا ان شاء اللّه » والإثبات « واللّه لاكلّمنّ زيدا اليوم إن شاء اللّه تعالى » فإذا استثنى سقط حكمها ، ولم يحنث بالمخالفة ، ولسنا نقول الاستثناء يرفع ما حلف به ، لكنها قد وقعت ومنع من الاعتقاد (2).

ولا يدخل الاستثناء إلّا في اليمين فحسب.

ص: 41


1- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..
2- ج. ل. من الانعقاد.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، ويدخل أيضا في الطلاق ، كقوله أنت طالق ان شاء اللّه. ويدخل أيضا في العتق والنذور وفي الإقرار (1).

الّا انه رجع عنه في مسائل خلافه ، في كتاب الايمان ، وقال لا يدخل في غير اليمين باللّه تعالى (2) وهذا الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أصحابنا ، والذي اختاره رحمه اللّه في مبسوطة ، وفي مسائل خلافه ، في كتاب الطّلاق (3) ، مذهب بعض المخالفين.

ولا يجوز لأحد ان يحلف الّا على ما يعلمه ، فإذا علمه جاز ان يحلف عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، لأنّه مأذون له في ذلك ، الّا انّه يستحب ان يتجنب اليمين على القليل ، وان كان مظلوما ما لم يضر به ذلك.

وإذا حلف الإنسان غيره على مال له ، وجب عليه الرضا بيمينه ، وليس له ان يحاكمه بعد ذلك على ما حلفه عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وليس له ان يأخذ من ماله شيئا ، وان جاء الحالف تائبا مقلعا ، وأعطاه المال الذي حلف عليه جاز له قبضه ، وان جاء بالمال ومعه ربحه ، فليأخذ رأس المال ونصف الربح ، ويعطيه النّصف الآخر ، وان كان له المال عنده ، فغصبه عليه ، وجحده ، غير انه لم يحلفه ، ثمّ ظفر بشي ء من ماله ، جاز له انّ يأخذ منه القدر الّذي له ، من غير زيادة عليه ، وان كان المال الّذي ظفر به وديعة عنده ، لم يجز له جحده ، ولا يدخل في مثل ما دخل معه ، فيه (4).

والذي نقول في هذا كله ، انه يجوز له ان يأخذ بمقدار ماله ، فيما بينه وبين اللّه تعالى ، سواء حلفه أو لم يحلفه ، وسواء كان المال المجحود غصبه منه ، أو لم يغصبه ، وسواء كان ما ظفر له به وديعة ، أو غير وديعة ، لأنّه لا دليل على المنع من ذلك ، من

ص: 42


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ، ص 200.
2- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة 26 ، والعبارة هكذا ، لا يدخل الاستثناء بمشية اللّه الّا في اليمين فحسب.
3- المبسوط ، ج 5 ، كتاب الطلاق ، فصل في ذكر القرائن والصلات .. ، ص 32.
4- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..

كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فلا يجوز تضييع المال ، لأنّ الرسول عليه السلام ، نهى عن قيل وقال وإضاعة المال (1) ، فامّا الربح المذكور ، وأخذ نصفه فلا وجه له ، الّا ان يكون المال المجحود مضاربة ، وكان الربح قبل الجحود والمطالبة والحكومة ، فحينئذ يصح ما ذكره رحمه اللّه.

ومن كان عنده وديعة لمؤمن ، فطالبه بها ظالم ، فلينكرها ، فإذا استحلفه على ذلك ، فليحلف ، ويورّى في نفسه ما يخرجه من كونه كاذبا ، وليس عليه كفّارة ، بل له فيه أجر كبير.

وهذه من جملة الإيمان التي يؤجر الحالف عليها ، لأنّها اربع ، هذه إحداها.

والثانية لا يؤجر عليها ولا يعاقب ، ووجودها كعدمها ، وهي ان يسبق لسانه إلى شي ء ، ويريد خلافه من غير نيّة له ، وهذه لغو اليمين.

والثالثة يأثم ويعاقب عليها ، ولا كفّارة فيها ، وهي اليمين على الماضي في اقتطاع مال الإنسان ، وهي اليمين الغموس ، لأنها تغمس الحالف في الإثم ، فلأجل ذلك سميت يمين الغموس.

والرّابعة من الايمان هي التي تجب فيها الكفّارة ، فهو ان يحلف الإنسان ان لا يخل بواجب ، أو لا يفعل قبيحا ، فمتى أخل بما وجب عليه ، أو ارتكب قبيحا ، وجب عليه فيه الكفّارة.

ومتى حلف أيضا ان يفعل ما قد وجب عليه فعله أو ما الأولى به فعله في دينه أو دنياه ثمّ لم يفعل ما وجب ، أو أخل بما الاولى به فعله ، كان عليه الكفارة.

ومن حلف أيضا ان يفعل فعلا من الأفعال كان فعله وتركه على حد واحد ، ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر ، فمتى لم يفعله كان عليه الكفّارة.

وكذلك ان حلف ان لا يفعل فعلا كان فعله مثل تركه ، فمتى فعله وجبت عليه

ص: 43


1- صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، الباب 22 ، والجزء 23 ، ص 3 ، بإسناده عن المغيرة في حديث ، انه صلى اللّه عليه وآله ، كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال. وفي الوسائل ، الباب ٦ ، من كتاب الوديعة ، الحديث ٢ ، ص ٢٣١ ، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث ان اللّه نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال.

الكفّارة.

وجملة الأمر ، وعقد الباب انّ ما فيه الكفارة ، فهو ان يحلف على ان يفعل أو يترك ، وكان الوفاء به امّا واجبا أو ندبا ، أو كان فعله وتركه سواء ، فمتى خالف ، كان عليه الكفّارة.

ومتى حلف الإنسان على شي ء يدفع به أذى عن نفسه ، أو عن مؤمن كان له فيه أجر (1) ولم يكن عليه في ذلك كفّارة.

والسّلطان الجائر إذا استحلف أعوانه على ظلم المسلمين ، فحلفوا له ، لم يجز لهم الوفاء به ، بل يجب عليهم ترك الظّلم ، ولا كفارة عليهم.

ومن كان عليه دين لا يجد إلى قضائه سبيلا لإعساره ، فقدمه صاحب الدّين الى حاكم ، يعلم انّه متى أقر عنده حبسه ، وأضرّ به وبأهله ، جاز له جحده ، والحلف عليه ، بعد ان ينوي قضاؤه عند التمكن منه ، ويورّى في يمينه ، ولا اثم عليه ، ومعنى التورية انّه يبطن بخلاف ما يظهر إذا حلف ، بان يقول : « واللّه مالك عندي شي ء » ويبطن في ضميره « تستحق المطالبة به الآن » وهو صادق في ذلك لأنه ليس له المطالبة به الآن ، لقوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (2).

ولا يجوز لصاحب الدين ان يعرضه لليمين ، مع علمه بإعساره ، ولا يحل له حبسه مع إحاطة علمه بعجزه ، فان حبسه حينئذ كان مأثوما.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن وهب له أحد والدية شيئا ، ثمّ مات الواهب ، وطالبه الورثة بذلك الشي ء ، جاز له ان يحلف انّه كان اشتراه ، واعطى ثمنه ، ولم يكن عليه كفّارة ولا اثم (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه هذا غير واضح. امّا إذا طالبه الورثة بذلك الشي ء ، فأقرّ لهم به ، أو قامت لهم بيّنة بأنّه للميّت ، فلهم انتزاعه وعوده تركة ، فان ادعى انه اشتراه من والده ، فقوله غير مقبول ، والقول قول الورثة ، الّا ان يردوا عليه

ص: 44


1- ج. ل. كان له فيه أجر كبير.
2- سورة البقرة ، الآية 280.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام الايمان.

اليمين ، لأنّ اليمين في جنبتهم ، ولا يجوز له ان يدعى انّه اشتراه ، ولا ان يحلف انّه اشتراه ، فان حلف على ذلك ، كان كاذبا ، معاقبا على كذبه ، وانّما إن ادّعى انّه له ، ورضى الورثة بيمينه ، فيجوز حينئذ ان يحلف انّه له ، ولا يكون كاذبا في يمينه ، بل يكون صادقا ، وانما هذا خبر واحد ، أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا.

ومن حلف على إنسان ليأكل معه ، أو يجلس معه ، أو يمشى ، فلم يفعل ، لم يجب عليه الكفّارة لأنّه حلف على فعل الغير.

ومن حلف أن لا يشترى لأهله شيئا بنفسه ، وكان شراؤه صلاحا له في دينه أو دنياه ، فليشتره ، ولا كفّارة عليه.

ومن حلف لزوجته ان لا يتزوج عليها ، ولا يتسرى ، لا في حياتها ، ولا بعد وفاتها ، جاز له ان يتزوّج ويتسرى ، ولا كفارة عليه في ذلك ، ولا اثم.

ومن حلف بأن عبيده أحرار ، خوفا من ظالم ، لم ينعتقوا بذلك ، ولم يكن عليه كفارة.

وإذا حلفت المرأة إلّا تخرج الى بلد زوجها ، ثم احتاجت الى الخروج ، فلتخرج ، ولا كفارة عليها ، وكذلك إذا أمرها بالخروج وان لم تحتج الى الخروج ، فلتخرج معه ، ويجب عليها امتثال امره ، ولا كفارة عليها في ذلك ولا اثم.

ومن كان عليه دين ، فحلّفه صاحبه ان لا يخرج من البلد إلّا بإذنه ، لم يجز له الخروج الّا بعد إعلامه ، الّا ان يخاف ان أعلمه منعه من ذلك ، وكان عليه في المقام ضرر وعلى عياله ، فإنه يجوز له الخروج ولا كفارة عليه ولا اثم.

ومن حلف ان يؤدّب غلامه بالضرب ، جاز له تركه ، ولا يلزمه الكفّارة ، لقوله تعالى « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » (1).

ومن حلف ان لا يشرب لبن عنز له ، ولا يأكل من لحمها ، وليس به حاجة الى ذلك ، لم يجز له شرب لبنها ولا لبن أولادها ، ولا أكل لحومهن ، فإن أكل أو شرب ، مع ارتفاع الحاجة ، كانت عليه الكفارة ، وان كان شرب ذلك لحاجة به لم يكن

ص: 45


1- سورة البقرة ، الآية 237.

عليه شي ء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، اما شرب لبن العنز ، وأكل لحمها ، فان كان الشرب أو الأكل تركه اولى من فعله في دينه أو دنياه ، فهو على ما قال رحمه اللّه ، وان كان فعل الأكل أو الشرب أولى في دينه أو دنياه ، فليفعل ذلك ولا كفّارة عليه ولا آثم ، لانّه لا خلاف بيننا في ان من حلف على شي ء ، ورأى خلافه خيرا له في دينه أو دنياه ، فليأت الّذي هو خير له ولا كفّارة عليه ، فامّا شرب لبن أولادها ، أو أكل لحومهن ، فلا بأس بذلك على كل حال ، لان اليمين تعلقت بعين العنز ، دون أولادها ، وانما ذلك خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا فهذا تحرير الفتيا.

ومن أودع عند إنسان مالا ، وذكر انه لإنسان بعينه ، ثمّ مات فجاء ورثته يطالبونه بالوديعة ، جاز له ان يحلف بان ليس له عنده شي ء ويوصل الوديعة إلى صاحبها الذي أقرّ المودع بأنها له ، سواء كان المودع ثقة أو غير ثقة ، لأنّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، سواء كانوا أتقياء أو غير أتقياء.

وذكر شيخنا أبو جعفر في نهايته ، بأنه ان كان الموصي (2) ثقة عنده ، جاز له ان يحلف بأن ليس له عنده شي ء ، ويوصل الوديعة إلى صاحبها ، وان لم يكن ثقة عنده ، وجب عليه ان يرد الوديعة على ورثته (3).

وهذا خبر واحد ، أورده رضى اللّه عنه إيرادا كما أورد أمثاله ممّا لا يعمل عليه ومن حلف ان لا يمس جارية غيره ابدا ، ثم ملكها بعد ذلك ، جاز له وطؤها ، لأنّه إنّما حلف الّا يمسّها حراما ، فإذا ملكها فقد زال عنه ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وإذا قال الرجل أنا يهوديّ أو مجوسيّ أو مشرك أو كافر ، وايمان البيعة والكنيسة تلزمني ، فإنّ كلّ ذلك باطل ، ويستحق قائله به الإثم ، ولم يلزمه حكم اليمين (4). قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، ايمان البيعة ، بفتح

ص: 46


1- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام الايمان.
2- كذا في النسخ الّا انّ في نسخة الأصل عن خط المصنف « الوصي » وهو غير ظاهر.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام الايمان.
4- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ..

الباء وهي اما حقيقة البيعة ، التي كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من المصافحة ، وبعده الى أيّام الحجاج ، أو ما حدث في أيّام الحجاج ، من اليمين بالطلاق والعتق وغير ذلك ، سواء صرّح بذلك أو نواه ، وعلى كل حال فلا يظن ظانّ انّها بكسر الباء ، وانها بيعة النصارى ، وانما يشتبه ذلك على كثير من النّاس ، لانضمام الكنيسة إليها ، وذلك غلط ووهم عظيم.

فاما الكنيسة لم يوردها أحد من أصحابنا في كتاب له ، ولا ورد بذلك خبر في كتب الاخبار ، وشيخنا مصنف النهاية لم يوردها في غير النهاية من سائر كتبه ، لا كتبه الأخباريّة ولا غيرها ، ولا أدرى الى اى شي ء انسب ذلك ، لانه لا ايمان للبيعة والكنيسة ، ولا فيهما ايمان يحلف بها.

وقال رحمه اللّه في مسائل خلافه في الجزء الثالث ، في آخر كتاب النذور ، مسألة إذا قال أيمان البيعة لازمة لي ، أو حلف بإيمان البيعة لا دخلت الدّار ، لم يلزمه شيئا ، ولم يكن يمينا ، سواء عنى بذلك حقيقة البيعة التي كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من المصافحة ، وبعده الى أيام الحجاج ، أو ما حدث في أيام الحجاج من اليمين بالطلاق والعتق وغير ذلك ، سواء صرّح بذلك أو نواه وعلى كل حال ، وقال الشّافعي ان لم ينو شيئا كان لاغيا ، وان نوى ايمان الحجاج ، ونطق فقال أيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتقها ، انعقدت يمينه ، لانه حلف بالطلاق ، فان لم ينطق بذلك ، ونوى الطلاق والعتق ، انعقدت يمينه أيضا ، لأنّها كناية عن الطلاق والعتق ، دليلنا ان الأصل براءة الذمة ، وانعقاد ذلك يحتاج الى دليل ، وعليه إجماع الفرقة ، فإنهم مجمعون على ان اليمين بالطلاق والعتاق باطلة ، فهذا لو كان صريحا بها لبطل بما قلناه هذا آخر كلامه رحمه اللّه (1). فدل ذلك انّه ما أراد في نهايته بيعة النصارى ، وفي نهايته أورد الكنيسة.

إذا حلف واللّه لا أكلت طيبا ، ولا لبست ناعما ، كانت هذه يمين مكروهة (2) ، والمقام عليها مكروه ، وحلها طاعة ، لقوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

ص: 47


1- الخلاف ، كتاب النذور ، مسألة 19.
2- ج. ل. يمينا مكروهة.

تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ » (1) ثم قال تعالى « وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً » (2) ثم قال تعالى « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » (3) وقال تعالى « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ » (4).

لا تنعقد يمين الكافر باللّه ، ولا يجب عليه الكفارة بالحنث ، ولا يصح منه التكفير بوجه.

إذا قال « وحق اللّه » لا يكون يمينا ، قصد أو لم يقصد.

إذا قال اللّه بكسر الهاء ، بلا حرف قسم لا يكون يمينا إذا قال اشهد باللّه ، لا يكون يمينا.

إذا قال اعزم باللّه لا يكون يمينا.

إذا قال أسألك باللّه ، أو أقسم عليك باللّه ، لا يكون يمينا.

إذا حلف لا اتحلى أو لا ألبس الحلي ، فلبس الخاتم ، حنث.

إذا حلفت المرأة لا لبست حليا ، فلبست الجوهر وحده ، حنثت ، قال اللّه تعالى « وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها » (5) ومعلوم ان الذي يخرج منه هو اللؤلؤ والمرجان.

إذا كان في دار فحلف لا سكنت هذه الدّار ، فأقام عقيب يمينه مدة يمكنه الخروج منها ، فلم يفعل ، حنث ، لان اليمين إذا علقت بالفعل ، تعلقت بأقل ما يقع عليه الاسم من ذلك ، كرجل حلف لا دخلت الدّار ، حنث بأقل ما يقع عليه الدخول ، وهو إذا عبر العتبة.

إذا كان في دار فحلف لأدخلها ، لم يحنث باستدامة قعوده فيها.

إذا حلف لا دخلت بيتا ، فدخل بيتا من شعر أو وبر ، أو بيتا مبنيا من حجر ، أو مدر ، فإنه يحنث.

إذا قال واللّه لا دخلت على زيد بيتا ، فدخل عليه وهو في الكعبة ، فإنه يحنث ، لان اللّه تعالى سماه بيتا فبعرف الشرع يسمّى بيتا ، وان كان بعرف الاستعمال

ص: 48


1- سورة المائدة ، الآية 87.
2- سورة المائدة ، الآية 88.
3- سورة الأعراف ، الآية 32.
4- سورة التحريم ، الآية 1.
5- سورة النمل ، الآية 14.

والعادة لا يسمى بيتا ، فإذا طرأ عرف الشرع على عرف اللغة أو الاستعمال ، كان الحكم له ، والمرجع اليه ، دون العرفين ، بغير خلاف من محصل لأصول الفقه.

وقال شيخنا في مبسوطة ، لا يحنث لأنّ البيت ما يكون للإيواء والسكنى (1).

ثمّ قال في موضع آخر من تصنيفه ، في مسائل خلافه ، إذا حلف لا يأكل لحما ، فأكل لحم السمك ، حنث ، ثمّ قال دليلنا ان اسم اللحم يطلق عليه ، قال اللّه تعالى « وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا » (2) وقال « وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا » (3) فإذا كان اسم اللّحم ينطلق عليه ، وجب ان يطلق الأيمان عليه ، هذا آخر كلامه (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه العرف الشرعي وهو القرآن ، هو الّذي سمّاه لحما ، وان كان في عرف الاستعمال والعادة لا يسمّى لحما ، فلزمه في البيت والكعبة ما الزم خصمه من الاستشهاد بالقرآن ، وتحنيث من دخل الكعبة في المسألة الأولى ، إذ هما سواء.

إذا حلف لا يأكل من طعام اشتراه زيد ، فاشترى زيد وعمرو طعاما صفقة واحدة ، فأكل منه ، لم يحنث عندنا إذا اقتسما هذا الطّعام ، وأفرد كل واحد منهما نصيبه ، فإن أكل من نصيب زيد أو نصيب عمرو لم يحنث.

إذا حلف لا يلبس ثوبا من عمل يد فلان ، فوهب له فلان ثوبا ، فان لبسه حنث بلا خلاف ، وان استبدل به ، وباعه ، وبادل به ، ولبسه لم يحنث إذا حلف لا يدخل دار زيد ، فان دخلها وهي ملك لزيد ، حنث بلا خلاف ، وان كان ساكنها بأجرة ، لم يحنث ، لأن حقيقة هذه الإضافة تقيد الملك ، وانّما يستعمل في السكنى مجازا ، وظواهر الأسماء يجب حملها على الحقيقة ، والدّليل على ان حقيقة ذلك ما قلناه ، انه لو قال هذه الدار لزيد ، كان ذلك اعترافا بالملك ، ولو قال

ص: 49


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ، ص 249 ، والعبارة هكذا ، « لان البيت إذا أطلق يتناول ما بنى للإيواء والسكنى ».
2- سورة فاطر ، الآية 12.
3- سورة النحل ، الآية 14.
4- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة 73.

أردت أن يسكنها بأجرة لم يقبل منه.

إذا حلف لا دخلت دار زيد ، أو حلف لا كلمت زيدا ، فكلمه ناسيا ، أو جاهلا بأنه هو زيد ، أو مكرها ، أو دخل الدار ناسيا ، أو مكرها ، أو جاهلا ، لم يحنث ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ، وأيضا قوله عليه السلام « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (1) ، وذلك عام في جميع الأشياء إلّا ما خرج بالدليل.

إذا حلف لا دخلت على زيد بيتا ، فدخل على عمرو بيتا وزيد فيه ، وهو لا يعلم بكون زيد فيه ، فإنه لا يحنث.

إذا دخل على عمرو بيتا وزيد فيه ، واستثناه بقلبه ، كأنه قصد الدخول على عمرو دون زيد ، لم يصح.

وان حلف لا كلم زيدا ، فسلم على جماعة فيهم زيد ، واستثناه بقلبه ، لم يحنث.

إذا دخل عليه عمرو بيتا ، فاستدام زيد القعود معه لا يحنث.

إذا قال الخليفة أو الملك واللّه لا ضربت عبدي ، ثم أمر به فضربه ، لم يحنث.

إذا قال الخليفة واللّه لا تزوجت ، ولا بعت ، فوكل فيهما ، لم يحنث.

إذا حلف لا لبست هذين الثوبين ، أو لا أكلت هذين الرغيفين ، فأكل أحدهما لم يحنث.

إذا حلف لا يأكل الرءوس ، فأكل رءوس الغنم والإبل والبقر ، حنث ، ولا يحنث بأكل رءوس العصافير ، والطّيور ، والحيتان ، والجراد.

وقال بعض الفقهاء لا يحنث إلّا بأكل رءوس الغنم فحسب ، وهو قوى لعرف العادة ، هذا إذا لم يكن له نيّة ، فاما إذا كان له نية ، حنث وبرّ على نيته ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مبسوطة (2) ، وهو فروع المخالفين وتخريجاتهم.

والذي يقتضيه أصولنا ، أنه يحنث بأكل جميع الرءوس ، لأنّ ذلك هو الحقيقة ،

ص: 50


1- الوسائل ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه.
2- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ، ص 238 - 239 ، في العبارة تغيير وتقطيع.

فلا يعدل عنها الى المجاز ، لأنا ننظر الى مخرج اليمين ، ويحنث صاحبها ويبر على مخرجها وحقائقها ، دون أسبابها ، ومعانيها ، ومجازاتها ، وفحوى خطابها ، ولهذا إذا حلف الإنسان لا ضرب عبده ، أولا اشترى شيئا ، فأمر بضربة أو شراء ذلك الشّي ء ، فإنه لا يحنث ، لأن الإيمان تتعلق بحقائق الأسماء والافعال ، لا بمجازاتها ومعانيها. وكذا إذا حلف إنسان على إنسان آخر وقد عدد انعامه عليه ، فقال له في جواب ذلك واللّه لا شربت لك ماء من عطش ، فانتفع بغير الماء وأكل الخبر ، ولبس الثياب ، لا يحنث ، لأنّ يمينه تعلقت بشرب الماء فحسب ، وهو الحقيقة ، وما عدا ذلك مجاز وفحوى خطاب ، ولأن الأصل براءة الذّمة من الواجبات والمندوبات ، الّا ما أوجبه دليل قاطع للأعذار ، فليلحظ ذلك ويتأمّل حق التأمّل.

إذا حلف لا يأكل البيض ، انطلق على كل بيض يزايل بائضه ، وهو بيض الدجاج ، والإوز ، والنعام ، والطّيور ، ونحوها ، فامّا ما عدا ذلك ، ممّا لا يزايل بائضه حيا ، وهو بيض الحيتان ، والجراد ، فلا يحنث بأكله ، لأن إطلاق الايمان يتعلق بما يقصد ويفرد للأكل وحده ، دون بائضه ، هكذا ذكر شيخنا في مبسوطة (1).

والذي يقتضيه مذهبنا انه يحنث بأكل جميع ما ينطلق عليه اسم البيض ، لان اسم البيض يقع حقيقة على جميع ذلك ، والايمان عندنا تتعلق بحقائق الأشياء ، ومخارج الافعال والأسماء ، ولا ترجع إلى المعاني ، فإنما هذه تخريجات المخالفين وقياساتهم ، فإذا كان اسم البيض ينطلق على بيض السّمك حقيقة ، وجب ان يتعلق الأيمان وتطلق عليه ، وطريقة الاحتياط أيضا يقتضيه.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا حلف لا يأكل لحما ، فأكل قلبا ، لا يحنث (2).

والاولى انّه يحنث ، لان اسم اللحم ينطلق عليه حقيقة ، وقد قلنا ان الايمان تتعلق بمخارج الأسماء وحقائقها ، وانما بعض المخالفين قال هذا ، واستدلّ بأنّه لا يباع

ص: 51


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ، ص 239.
2- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة 79.

مع اللّحم ، وهذا خروج منه عن الحقائق إلى المعاني ، والمقاييس ، فلا يعرج عليها ، ولا يلتفت إليها.

إذا حلف لا يشم الورد ، فشم دهنه ، لا يحنث ، وكذلك البنفسج ، لأنّ اليمين ما تعلقت الّا بشم الورد والبنفسج ، فلا يتعدى الى غيره ، ولا يرجع عن الحقائق الى المجازات ، والمعاني ، والتخريجات.

إذا حلف ان لا يأكل لحما فأكل لحم النعم والصّيود والطيور ، حنث ، بلا خلاف ، وان أكل لحم السّمك ، ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنه يحنث ، واحتج بالآية ، وهي قوله تعالى « وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا » (1) وإذا كان اسم اللحم ينطلق عليه شرعا ، وجب ان تطلق الايمان عليه (2).

الّا انّه رجع عن ذلك في مبسوطة ، وقال لا يحنث بأكل لحم السّمك (3).

وهو قوى لعرف العادة ، والأوّل أقوى ، للآية ، لأن عرف الشرع إذا طرأ على عرف العادة ، كان الحكم لعرف الشرع.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا حلف لا شربت من نهر ، لا شربت من دجلة ، فمتى شرب من مائها ، سواء غرف بيده ، أو في كوز ، أو غيره ، أو كرع فيها كالبهيمة ، حنث (4).

الّا انه رجع عن ذلك ، في مبسوطة ، فقال لا يحنث حتّى يركع فيها كالبهيمة ، لأنّه إذا شرب غرفا بيده ، فما شرب منها ، وانما شرب من يده (5).

وهذا الّذي يقوى في نفسي ، لأن الأصل براءة الذّمة ، والكلام في الحقائق دون المجاز ، وهذا هو الحقيقة ، وما عداه مجاز.

ومعنى قوله كرع يقال كرع في الماء يكرع كروعا ، فهو كارع ، إذا تناوله بفيه من

ص: 52


1- سورة النحل ، الآية 14.
2- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة2. 67.
3- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ص 239 ، والعبارة هكذا : فإن أكل لحم الحيتان لا يحنث.
4- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة2. 67.
5- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان ، ص 232.

موضعه ، من غيران يشرب بكفيه ، ولا بإناء ، يقال أكرع في هذا الإناء نفسا أو نفسين ، اى اشرب بفيك ، وفيه لغة أخرى ، كرع بكسر الراء ، يكرع كرعا.

وجملة الأمر وعقد الباب ، ان الحكم إذا علق باسم ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يكون باسم خاص ، أو عام :

فان كان خاصا ، نظرت ، فان كان حقيقة فيه ، لا مجاز له في غيره ، تعلق بالحقيقة ، ولم يتعلق بغيرها ، وان قصد الغير ، ونواه ، واراده ، كقوله لا شربت لك ماء من عطش ، هذا حقيقة غير مجاز في الشراب ، ومجاز في الطّعام ، وفي الناس من قال هو حقيقة فيهما ، والأوّل أوضح ، والثاني قوى ، لا للحقيقة ، بل لفحوى الخطاب.

فاما إذا علقه بالعموم ، حمل على العموم ، الّا ان يدخله التخصيص ، ويكون ذلك بأحد ثلاثة أشياء ، نيّة ، أو عرف قائم في الاسم ، أو عرف الشرع :

فالنية إذا علقها بعموم الأعيان ، كقوله لا كلمت أحدا ، تعلق بكل أحد ، فإن قال نويت الّا زيدا ، كان على ما نوى ، وتعلقها بعموم الزّمان ، مثل ان يحلف لا كلمت زيدا ابدا ، اقتضى أبد الدهر ، فان قال نويت شهرا ، أو نويت ما لم يدخل الدّار ، صحّ لان دخول التخصيص في مثل هذا صحيح. وفي مثل هذا المعنى إذا علقها باسم خاص لشي ء حقيقة فيه ، وقد استعمل في غيره مجازا ، كقوله لا دخلت دار زيد ، حقيقته ملك زيد ، ومجازه دار يسكنها زيد بأجرة ، فإذا نوى المجاز ، قبل منه ، كما يعدل بالحقيقة إلى المجاز بدليل.

فإذا ثبت انها تختص بالنية ، نظرت ، فان كانت يمينا باللّه ، قبلنا منه في الحكم ، وفيما بينه وبين اللّه ، لأنّه أعرف بما نواه ، وان كانت بالعتق أو بالطّلاق ، لم تنعقد عندنا أصلا ، وعندهم تقبل فيما بينه وبين اللّه ، دون الحكم ، لأنه يدعي خلاف الظاهر.

وامّا التخصيص بالعرف القائم في الاسم ، كقوله « لا أكلت البيض » حقيقة هذا كل بيض ، سواء زائل بائضه ، وهو حيّ كالدجاج والنعام والإوز ، أو لا يزايل بائضه ، وهو حي ، كبيض السّمك ، والجراد ، إلّا أنا نحمله على ما يزايل بائضه

ص: 53

حيا ، بالعرف القائم في الاسم ، الا تراه إذا قال أكلت البيض ، لم يفهم منه بيض السّمك والجراد ، وكذلك إذا حلف لا أكلت الرءوس ، فهذا حقيقة في كل رأس ، ونحمله على رءوس النعم بالعرف القائم في الاسم ، وقد قلنا ما عندنا في مثل ذلك ، وحققناه وحرّرناه ، وانّما أوردنا ما أورده شيخنا في مبسوطة ، من كلام المخالفين ، وتخريجاتهم ، الا ترى الى قوله « فهذا حقيقة في كل رأس » فأين يعدل عن الحقيقة ، وهي الأصل ، وانما يعدل في بعض المواضع بدليل قاطع ، مثلا : قال إنسان لغلامه اشتر لنا رءوسا نتغدى بها باليوم ، حملناه على رءوس النعم لأجل القرينة ، وشاهد الحال ، وليس كذلك إذا حلف إنسان ، وأطلق كلامه عن القرائن والبيان ، انه لا يأكل الرءوس فأكل رءوس الغزلان ، وحمر الوحش ، والخنازير ، نقول لا يحنث وقد فعل ما حلف عليه انه لا يفعله ، حقيقة بلا خلاف بين أهل اللّسان ، والعقلاء والعلماء ، ان تلك تسمى رءوسا بلا اشكال.

واما ما يخصّ بالعرف الشرعيّ فكل ما كان له اسم في اللغة واختص بالشرع الى غير ما وضع له في اللغة ، حمل إطلاقه على الشرعي ، كالصّيام ، هو في اللغة عام في الإمساك عن كل شي ء ، وهو في الشّرع إمساك عن أشياء مخصوصة ، فحملنا المطلق على الشرعي ، وفي هذا المعنى الصّلاة في اللغة الدّعاء ، وفي الشرع هذه الأفعال المخصوصة ، فانطلقت على الشرعية ، فحملنا المطلق من الكلام ، على عرف الشرع ، لأنه الطّارى.

فإذا حلف لا كلمت النّاس فهذا عام في كل أحد ، فإذا كلّم واحدا حنث ، لانّه تعلق بالجنس.

إذا حلف لا ذقت شيئا ، فأخذه بفيه ، ومضغه ، ورمى به ، ولم يبتلع منه شيئا ، حنث ، لأنّ الذوق عبارة عن معرفة طعم الشّي ء ، وهذا قد عرف طعمه قبل ان يبتلعه.

قال شيخنا في مسائل خلافه : إذا حلف لا وهبت له ، فإن الهبة عبارة عن كل عين يملّكه إياها متبرعا بها بغير عوض ، فان وهب له ، أو اهدى له ، أو نحلة ، أو

ص: 54

أعمره ، أو تصدّق عليه بصدقة تطوع ، حنث (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب « تغمده اللّه برحمته » اما قوله رحمه اللّه وحدّه « فإن الهبة عبارة عن كل عين يملكه إياها متبرعا بغير عوض » فغير واضح ، لان الوقف كذلك ، ولا يسمّى هبة بغير خلاف ، وصدقة التطوع عندنا لا تسمّى هبة ، بل بينها وبين الهبة فرق كثير ، لأنّ صدقة التطوع بعد القبض ، لا يجوز الرجوع فيها ، والهبة يجوز الرجوع فيها ، فلا يحنث بصدقة التطوع ، لانّه ما وهب.

إذا حلف لا أكلت هذه الحنطة ، أو من هذه الحنطة ، وأشار الى حنطة بعينها ، ثمّ طحنها دقيقا وأكلها ، لم يحنث وكذلك إذا حلف لا أكلت هذا الدقيق ، فخبزه ، ثمّ اكله ، لم يحنث.

ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه إلى انه إذا حلف لا وهبت عبدي ، ثمّ وهبه من رجل ، حنث ، بوجود الإيجاب قبل الموهوب له ، أو لم يقبل (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب ما ذهب إليه رحمه اللّه ، مذهب أبي حنيفة ، وأبي العباس بن شريح ، والذي يقتضيه أصول أصحابنا ، انّه لا يحنث الّا بوجود الإيجاب والقبول ، لأنّ الهبة عقد عندنا بلا خلاف ، والعقود لا يكون الّا بين اثنين ، وهو مثل البيع سواء ، وقد فرق شيخنا بيتهما بغير فرق ، وهو انه قال لا يقال باع بلفظ قوله بعت ، حتى يحصل القبول ، وكذلك نقول نحن في الهبة ، لأنّها باقية على ملكه بلا خلاف ، فإذا وجد القبول ، انتقلت من ملكه ، وكذلك البيع سواء ، فليلحظ ذلك.

وقد رجع شيخنا في مبسوطة (3) ، الى ما اخترناه وحرّرناه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا حلف لا آكل شحما ، فأكل شحم الظهر ، لم يحنث (4).

ص: 55


1- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة 91.
2- الخلاف كتاب الايمان ، مسألة2. 78.
3- المبسوط ، ج 6 ، كتاب النذر ، ص 250.
4- الخلاف كتاب الايمان ، مسألة2. 78.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، انه يحنث ، لأنّ الشحم عبارة عن غير اللحم ، من اى موضع كان ، سواء كان شحم الألية أو الظهر ، أو البطن ، بغير خلاف بين أهل اللسان.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا حلف لا يأكل رطبا ، فأكل المنصف ، وهو الّذي نصفه رطب ، ونصفه بسر أو حلف الا يأكل بسرا فأكل المنصف حنث (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه والذي يقوى في نفسي ، انه لا يحنث ، للعرف ، لأنّ الإنسان إذا قال لغلامه اشتر لنا رطبا ، فاشترى له منصفا ، لم يمتثل امره ، وكذلك ان امره بشرى البسر ، فاشترى له المنصف ، لم يكن ممتثلا أمره ، لأنّ في عرف العادة ، الرّطب هو الذي جميعه قد نضج ، وكذلك في البسر ، الذي جميعه لم ينضج منه شي ء ، وهذا هو المتعارف.

إذا حلف لا استخدم فلانا ، فخدمه فلان من قبل نفسه ، لا يحنث ، لأنّ لفظ الاستفعال ان يطلب منه الخدمة ، هذا موضوعها في اللغة ، وإذا لم يطلب منه ذلك ، لم يكن مستخدما.

إذا حلف لا يشمّ الورد ، فشم دهنه لم يحنث.

إذا حلف لا اضرب فلانا فعضه ، أو خنقه ، أو نتف شعره ، لم يحنث.

إذا حلف لا أتسرّى ، فالكلام في التسري ما هو؟ قال قوم : التسري الوطي والتخدير ، أنزل أو لم ينزل ، لأنّ الجارية ضربان ، سريّة ، وخادمة. فإذا خدّرها ووطئ ، فقد تسرى ، وترك الاستخدام ، وقال قوم التسري مجرد الوطي ، أنزل أو لم ينزل ، خدّرها ، وحصنها ، أو لم يفعل ذلك.

والأقوى عندي الأول ، قال الجوهري في كتاب الصّحاح ، كان الأخفش يقول السريّة مشتقة من السرور ، لانّه يسّر بها ، يقال تسرّيت جارية ، وتسررت ، كما قالوا تظننت وتظنيت ، فعلى هذا من قال هو مشتق من التسري (2) ، يكون مصدر

ص: 56


1- الخلاف كتاب الايمان ، مسألة 82.
2- ج. من السرور.

تسررت ، ومنهم من قال من السرّ ، وهو الجماع ، ومنهم من قال من السري (1) وهو الظهر.

إذا حلف ، الا يأكل أدما ، فأكل الخبز ، بالملح ، حنث بلا خلاف.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا حلف لا يتكلم فقرأ القرآن ، لم يحنث ، واحتج رحمه اللّه بان قال : لا يطلق على من قرأ القرآن انه يتكلم (2).

وهذا غير واضح. والذي يقتضيه أصل المذهب ولغة العرب ، انه إذا قرأ القرآن فقد تكلم ، وانّ القرآن كلام بغير خلاف ، فعلى هذا التقرير يحنث ، وانّما اختار شيخنا قول بعض المخالفين محتجا بان القرآن ، ان كان كلاما خارج الصّلاة ، كان كلاما داخل الصّلاة ، فيؤدّي إلى بطلانها ، وهذا ليس بشي ء ، لأنا نقول انه كلام خارج الصّلاة وداخل الصلاة ، وليس كل كلام يقطع الصّلاة ، لأنّ التكبير والتحميد والتسبيح كلام بلا خلاف ، وهو داخل الصّلاة ولا يقطعها بالاتفاق.

باب النّذور والعهود وأقسام ذلك واحكامه

اشارة

النذر على ضربين : ضرب يجب الوفاء به ، وضرب لا يجب ذلك فيه :

فالذي يجب الوفاء به هو ان ينذر أنه متى فعل واجبا أو ندبا أو مباحا ، أو متى لم يفعل واجبا أو ندبا أو مباحا ، ولا يكون ترك المباح أعود عليه في دينه أو دنياه ، ولا يكون النذر معصية ولا في معصية ، بل لا ينعقد النذر إلّا في طاعة خالصة لله ، مماثلة لما تعبد اللّه به سبحانه في شريعتنا ، فمتى علّق بطاعة تخالف المشروع كان باطلا ، وما روى (3) ان من نذر (4) ان يطوف على اربع كان عليه أن يطوف طوافين : طواف ليديه ، وطواف لرجليه (5) فهي من اخبار الآحاد الشواذ ، وقد قلنا ما عندنا

ص: 57


1- ج. ل. من السرا.
2- الخلاف ، كتاب الايمان ، مسألة 102.
3- الوسائل ، كتاب الحج ، الباب 70 ، من أبواب الطواف ، ح 1 - 2.
4- ج. من نذر.
5- ج. طوافا ليديه وطوافا لرجليه.

في ذلك في كتاب الحج (1) ، وأشبعنا القول فيه.

فعلى هذا التقرير والتحرير لا يصح أن ينذر الإنسان أن يصلّى خمس ركعات بتسليمة واحدة ، لأنّه نذر مخالف للمشروع ، غير مماثل له.

ولا يصح النذر حتى يكون النّاذر لافظا بقصده لله على نفسه ، بان يقول ويتلفّظ ، علىّ لله ، أو لله عليّ ، ويكون معتقدا له ، مختارا من غير إكراه ولا إجبار.

ولا يصح أيضا إلّا فيما يملكه الإنسان.

فإذا تقرّر ذلك ، وتلفّظ بما قدّمناه ، فهذا الّذي تسميه الفقهاء نذر التبرر والطّاعة ، وهو على ضربين : امّا ان يعلّقه بجزاء ، أو يطلق.

فإن علّقة بجزاء فالجزاء ضربان : امّا ابتداء نعمة ، كقوله : إن رزقني اللّه ولدا فلله علىّ أن أتصدّق بمال ، أو إن ملكت مالا ، أو إن فتحت بلدا من بلاد أهل الحرب ، وامّا دفع نقمة ، مثل ان يقول : إن نجّانى اللّه من هذا الحرب ، أو ردّني من هذا السفر ، أو أنجاني من البحر ، أو شفاني من هذا المرض ، فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء به ، بلا خلاف.

وأمّا المطلق بان يقول : لله عليّ أن أتصدق بمال وان أحج ، أو أصوم ، ونحو هذا نذر طاعة ، ابتداء بغير جزاء ، فعندنا أنّه يلزمه ، وعند الأكثر ، وذهب بعض المخالفين إلى انّه لا يتعلق به حكم ، وتمسّك بأنّ غلام ثعلب قال عن ثعلب : « إنّ النّذر عند العرب وعيد بشرطه » وهو اختيار المرتضى « رحمه اللّه » (2) وما ذهبنا اليه هو الظاهر المعمول عليه عند أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر (3) ، وغيره ، من مشيختنا (4) « رحمهم اللّه ».

ومتى نذر الإنسان أنّه إن عوفي ولد له من مرضه ، وهو غائب عنه ، ثمّ سمع بصلاحه ، فان كان برؤه بعد النذر وجب عليه الوفاء به ، وإن كان برؤه قبل النّذر لم يجب عليه ذلك.

ص: 58


1- الجزء الأول ، ص 576.
2- الانتصار ، كتاب النذور.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.
4- ج. ل. مشايخنا.

وقد روى (1) أنّه متى نذر الإنسان أنه لا يتزوج حتّى يحج ، ثمّ تزوّج قبل الحج ، وجب عليه الوفاء بالنّذر ، سواء كانت حجّته حجة الإسلام ، أو حجة التطوع ، لانّه عدل عن طاعة إلى مباح.

ومتى وجب عليه ما نذر ، فان كان علّقه بشرط ، وأنّه يفعله في وقت معيّن ، وجب عليه الوفاء عند حصول الوقت ، فان خالفه أثم ، وكان عليه الكفارة ، وسنبيّنها فيما بعد ، إن شاء اللّه تعالى.

وإن لم يكن علّقه بشرط ، ولا بوقت معيّن ، كان ذلك ثابتا في ذمّته إلى ان يفي به ، ولا يجب عليه في تأخيره له كفّارة ، بغير خلاف ، على ما بيّناه في أبواب الصّيام.

ومن نذر أنّه يصوم شهرا أو سنة أو أقل أو أكثر ، ولم يعلّقه بوقت معين ، وجب عليه الوفاء به ، أيّ وقت كان ، ولا يجب عليه أيضا في تأخيره له كفّارة ، غير أن الأحوط ، إتيانه به على الفور والبدار ، فإن أخّره لم يلزمه كفّارة ، على ما قدمناه.

ومتى علّقه بوقت معيّن فمتى لم يصمه في ذلك الوقت ، من غير عذر ، من مرض أو حيض أو سفر ، وجب عليه القضاء والكفّارة ، كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، بغير خلاف في هذا.

بل الخلاف في كفّارة خلاف النّذر الّذي هو غير الصيّام ، فذهب فريق من أصحابنا الى أن كفّارة ذلك كفّارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، وذهب فريق منهم الى أن كفّارة ذلك كفارة يمين ، فالأوّل اختيار شيخنا أبي جعفر (2) والثاني اختيار السيد المرتضى (3) وابن بابويه ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وبه أفتى ، لأن الأصل براءة الذّمة ، والإجماع غير منعقد (4) من أصحابنا ، والاخبار مختلفة في ذلك.

ومن وجب عليه صيام نذر معين ، فمرض أو سافر ، وجب عليه أن يفطر ذلك اليوم ، ويقضيه ، وليس عليه كفّارة.

ص: 59


1- الوسائل ، الباب 7 ، من أبواب النذور والعهد ، ح 1.
2- في النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.
3- وهو مخالف لقوله في كتاب الانتصار ، كتاب النذر ، فراجع.
4- ج. وامّا الإجماع فغير منعقد.

قال شيخنا أبو جعفر : « أو اتفق أن يكون يوم العيدين » (1).

والصّحيح من المذهب أنه إن اتفق ان يكون يوم العيدين لا يجب عليه القضاء ، لأنّ صيام يوم العيدين لا يتعلق النذر به ، على كلّ حال ، لأنّ النذر انّما يتعلق بما يصح صومه وإفطاره قبل النذر ، فيجب به ، وشهر رمضان واجب قبل النذر بأمره تعالى ، وصوم العيدين محرّم ، فلا يدخل النذر على شي ء منه ، وشيخنا فقد رجع عن ذلك في مبسوطة (2).

فإن كان الناذر للصّيام المعين نذر أنّه يصومه على كل حال ، سواء كان حاضرا أو مسافرا ، فإنه يجب عليه الوفاء به ، وصيامه في السّفر بغير خلاف ، وقد أشبعنا القول في ذلك ، في كتاب الصيام (3) ، واستوفينا أقسامه ، فلا وجه لإعادته.

فامّا صيام يوم العيدين فلا يجوز له على حال ، وإن ذكر ذلك في حال النذر ، لان ذلك نذر في معصية ، لأنّه زمان لا يصح صيامه ، ولا ينعقد النذر به على حال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : « ومن نذر أن يعتق رقبة بعينها لم يجزه غيرها ، سواء كانت كافرة أو مؤمنة ، وعلى اىّ وجه كانت » (4).

وقد بينا أن عتق الكافرة لا يصح ، لأنّ العتق لا بدّ فيه من نية القربة ، ولا يتقرّب الى اللّه سبحانه بالمعاصي ، ولقوله تعالى « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ » (5) والكافر خبيث بغير خلاف ، وقد بيّنا أيضا احكام ذلك وحرّرناه في كتاب العتق (6) وما أورده شيخنا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ، أورده إيرادا لا اعتقادا.

ومن نذر أن يصوم حينا ، وأطلق ذلك ، من غير نية بمقداره ، كان عليه صيام

ص: 60


1- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.
2- المبسوط ، ج 1 ، كتاب الصوم ، فصل في ذكر أقسام الصوم ص 281 الّا انه قال بمقالته في النهاية بوجوب القضاء عليه ان اتفق يوم العيدين. وعبارته كذلك وامّا يوم العيدين فان صادف نذره المعين أفطر وعليه القضاء.
3- الجزء الأوّل ، ص 394.
4- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.
5- سورة البقرة ، الآية 267.
6- في ص 6.

ستة أشهر.

ومن نذر أن يصوم زمانا ، كذلك ، فليصم خمسة أشهر.

ومن نذر أن يعتق كلّ عبد له قديم في ملكه ، ولم يعيّن شيئا ، أعتق كلّ عبد قد مضى عليه في ملكه ستة أشهر فصاعدا.

ومن نذر أن يتصدّق من ماله بمال كثير وأطلق ذلك ولم يسمّه ، وأطلق ذلك ، من غير نيّة بمقدار ، وجب عليه أن يتصدّق بثمانين درهما ، ان كانت الدّراهم يتعاملون بها ، وعرفهم في بلدهم ، وان كانت الدّنانير هي الّتي يتعاملون بها ، وهي عرفهم في بلادهم (1) وجب عليه التصدّق بثمانين دينارا ، لقوله تعالى « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ » (2) وكانت ثمانين موطنا.

ومن نذر أن يحج ماشيا ، أو يزور أحد المشاهد كذلك ، فعجز عن المشي ، فليركب ، ولا كفارة عليه ، ولا سياق بدنة ، هذا رأى شيخنا المفيد (3) وهو الصّحيح.

وقال شيخنا أبو جعفر ، فليسق بدنة (4).

ومتى ركب من غير عجز كان عليه إعادة الحج أو الزيارة ، يمشي في الدّفعة الثانية ما ركب من الطريق في الأوّلة ، ويركب منها ما مشى ، هكذا رواه أصحابنا من طريق الأخبار (5) قال محمّد بن إدريس « رحمه اللّه » : الذي ينبغي تحصيله في هذه الفتيا أن النذر المذكور للحج إذا كان في سنة معيّنة ، ونذر أن يحج فيها بشرط أن يقدر على الحج ماشيا ، ولم يقدر أن يمشى مارّا تلك السنة ، فلا يجب عليه المضي ، ولا القضاء في السّنة الثانية ، إذا قدر على المشي فيها ، لأن إيجاب ذلك في السّنة الثانية يحتاج الى دليل ، والقضاء فرض ثان يحتاج مثبتة إلى شرع ، والأصل براءة الذّمة من التكاليف ، وأيضا فشرط النّذر ما حصل ، فلا يجب مشروطه ، بغير خلاف

ص: 61


1- ج. ل. بلدهم.
2- سورة التوبة ، الآية 25.
3- المقنعة ، باب النذور ، والعهود ص 565.
4- المبسوط ، ج 6 ، كتاب النذور ، ص 250 ، والعبارة هكذا ، ومتى خرج راكبا وقد نذر المشي مع القدرة لزمه دم.
5- الوسائل ، الباب 34 ، من أبواب وجوب الحج والباب 8 من أبواب النذر والعهد.

في هذا ، فان كان النذر مطلقا ، لا في سنة بعينها ، فيجب عليه الحج إذا قدر على المشي ، أيّ سنة قدر على المشي ، فإن كان قد مشى بعضا وركب بعضا فلا يجزيه الحج تلك السّنة ، لأن شرط النّذر ما وجد ، فان حج السنة الثانية ، ومشى ما ركب من السّنة الأوّلة ، وركب ما مشى منها فلا يجزيه أيضا الحج ، لان شرط نذره ما حصل ، وإذا لم يحصل الشرط فلا يجب المشروط ، على ما بيّناه ، سواء كان ذلك عن عذر أو لم يكن ، ساق بدنة أو لم يسق ، على مقالتي شيخنا جميعا ، فهذا الذي يقتضيه الأدلّة وأصول مذهبنا ، ولا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، على ما حرّرناه في غير موضع.

وإذا أراد أن يعبر ناذر المشي في زورق نهرا فليقم فيه قائما ، ولا يقعد حتى يخرج إلى الأرض.

ومن نذر أن يخرج شيئا من ماله في سبيل من سبل الخير ، ولم يسمّ شيئا معيّنا ، كان بالخيار ، إن شاء تصدّق به على فقراء المؤمنين ، وان شاء جعله في حجّ ، أو زيارة ، أو في بناء مسجد ، أو قنطرة ، أو جسر ، أو وجه من وجوه البرّ ومصالح الإسلام.

وروى (1) انّه من جعل جاريته أو عبده أو دابّته هديا لبيت اللّه الحرام ، أو لمشهد من مشاهد الأئمة « عليهم السلام » فليبع العبد أو الجارية أو الدابة ، ويصرف ثمنه في مصالح البيت أو المشهد ، أو في معونة الحاج ، أو الزائرين ، الذين خرجوا الى السفر وتناولهم اسم الحاج والزائرين ، ولا يجوز لأحد أن يعطى شيئا من ذلك لأحد منهم ، قبل خروجهم الى السّفر.

ومن نذر أن يصلي صلاة معروفة ، تطوعا ، في وقت مخصوص ، وجب عليه أن يصلّيها في ذلك الوقت ، في سفر كان أو حضر ، ليلا كان أو نهارا.

ومن نذر أن يتصدّق بدراهم على الفقراء ، أو في موضع مخصوص ، لم يجز له الانصراف الى غيره ، فان صرفها في غير ذلك الوجه كان عليه إعادتها.

ص: 62


1- الوسائل ، الباب 22 ، من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها.

ومن نذر أنّه متى رزق ولدا حج به ، أو حج عنه ، ثمّ مات الناذر ، وجب ان يحج بالولد ، أو عنه ، من صلب ماله الذي ترك ، لأنّه واجب عليه ، والحقوق الواجبة نخرج من صلب التركة ، قبل الوصايا والميراث.

وقد روى (1) أنّه من نذر في طاعة أنه يتصدّق بجميع ما يملكه ، وجب عليه الوفاء به ، غير أنه إذا خاف الضرر على نفسه في خروجه من جميع ما يملكه ، فليقوّم جميع ذلك على نفسه ، ثمّ ليتصدّق ممّا معه ، ويثبته ، الى ان يعلم انّه استوفى ما كان وجب عليه ، واستوعب جميع ماله ، وقد برئت ذمّته.

ومن نذر ولم يسم شيئا إن شاء صلّى ركعتين أو ركعة ، لأنّ صلاة ركعة واحدة عندنا صلاة شرعيّة وهي المفردة من الوتر ، وان شاء صام يوما ، وإن شاء تصدّق بدرهم فما فوقه أو دونه.

قال شيخنا في نهايته : ومن نذر أن لا يبيع مملوكا له ابدا فلا يجوز له بيعه ، وان احتاج الى ثمنه (2).

وهذا غير واضح ولا مستقيم على أصول المذهب ، لانّه لا خلاف بين أصحابنا أنّ النّاذر إذا كان في خلاف ما نذره صلاح له ديني أو دنياوي فليفعل ما هو أصلح له ، ولا كفّارة عليه ، وما ذكره شيخنا وأورده خبر واحد ، لا يرجع بمثله عن الأدلة ، لأن اخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ومن نذر في شي ء فعجز عنه ، ولم يتمكن من الوفاء به ، لم يكن عليه شي ء ، لقوله تعالى « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها » (3) وقد روى (4) أنّه من نذر أن يحرم بحجة أو عمرة من موضع بعينه ، وان كان قبل الميقات ، وجب عليه الوفاء به.

فان كان على هذه الرواية إجماع منعقد ، والّا فالنذر غير صحيح ، لانّه خالف (5) المشروع ، لانّه لا خلاف بين أصحابنا في أن الإحرام لا يجوز ولا ينعقد

ص: 63


1- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب النذر والعهد ، ح 1.
2- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب أقسام النذور والعهود.
3- سورة البقرة ، الآية 286.
4- الوسائل ، الباب 13 ، من أبواب المواقيت.
5- ج. خلاف.

لا من الميقات ، وبينهم خلاف في أنّه إن نذر أن يحرم قبل الميقات فهل يلزمه وينعقد نذره أم لا؟ فبعض يجيزه على هذه الرّواية ، وبعض لا يجيزه ، ويتمسك بالأصل والإجماع المنعقد.

فأمّا ما لا يجب الوفاء به من النّذر

فهو ان ينذر أنه متى لم يترك واجبا أو ندبا كان عليه كيت وكيت ، فليفعل الواجب أو الندب ولا شي ء عليه ، وكذلك إن نذر أنه متى لم يفعل قبيحا كان عليه كيت وكيت ، فليترك القبيح ولا شي ء عليه.

ومن نذر شكرا اللّه تعالى أنّه متى فعل قبيحا كان عليه كيت وكيت ، ثمّ فعل القبيح ، لم يلزمه الوفاء بما نذر ، لأنّ هذا نذر في معصية ، اللّهم إلّا ان يكون جعل ذلك على نفسه ، على سبيل الكفّارة لما يرتكبه من القبيح ، فيجب عليه حينئذ الوفاء به ، لانّه صار نذرا في واجب ، وهو ترك القبيح.

ومن نذر أنه متى فعل واجبا أو ندبا ، أو قدم من سفر ، أو ربح في تجارة ، أو بري ء ممن مرض ، وما أشبه ذلك ، شرب خمرا ، أو ارتكب فجورا أو قتل مؤمنا ، أو ترك فرضا ، فعليه ان يترك الواجب أو النّدب ، ولا كفّارة عليه.

ومن عاهد اللّه : ان يفعل واجبا أو ندبا وجب عليه الوفاء به ، فان لم يفعل كان عليه الكفّارة ، وكذلك ان عاهد اللّه على ان يفعل مباحا لا يترجح فعله على تركه ، فان عاهد على أن لا يفعل قبيحا أو لا يترك واجبا أو ندبا ، ثمّ فعل القبيح أو ترك الواجب والنّدب ، وجبت عليه الكفّارة ، ومن عاهد اللّه أن يفعل فعلا كان الاولى أن لا يفعله في دينه أو دنياه ، أو لا يفعل فعلا الاولى أن يفعله ، فليفعل ما الاولى به فعله ، وليترك ما الاولى به تركه ، وليس عليه في ذلك كفارة.

وقد قدّمنا أن النّذر لا ينعقد الّا أن يتلفظ النّاذر به ، ويكون على صيغة مخصوصة ، ويقارنه النيّة المتقرب بها اليه سبحانه ، ويكون في فعل واجب أو ندب أو ترك قبيح ، أو مباح لا يترجح فعله على تركه دينا أو دنيا ، وسواء كان معلّقا بشرط أو مطلقا عنه ، على الصحيح من أقوال أصحابنا وفتاويهم.

ص: 64

وقال شيخنا في نهايته : النذر هو ان يقول الإنسان إن كان كذا وكذا فلله علىّ كذا وكذا ، من صيام أو صدقة أو حج أو صلاة أو غير ذلك من أفعال البر ، فمتى كان ما نذر وحصل وجب عليه الوفاء بما نذر فيه (1).

فذكر رحمه اللّه النذر المشروط في هذا الكتاب ، اعنى كتاب النهاية ، ولم يذكر المطلق من النذر.

الّا انّه في مسائل خلافه يذهب إلى أنه ينعقد ، سواء كان مشروطا أو مطلقا ، ويناظر على ذلك ويستدلّ على صحته (2) وهو الّذي اخترناه نحن ، لان العمل عليه ، وظاهر القرآن والسّنة يتناوله ، ولا يلتفت الى قول غلام ثعلب الذي يرويه عن ثعلب « من أن النّذر عند العرب وعيد بشرط » لأنّ في عرف الشرع صار متناولا للشّرط وغير الشّرط ، وعرف الشّرع هو الطاري وكالناقل.

ثمّ قال « رحمه اللّه » في نهايته : فان قال : ان كان كذا ، ولم يقل : لله ، لم يكن ذلك نذرا واجبا ، بل يكون مخيّرا في الوفاء به وتركه ، والأفضل له الوفاء به ، على كل حال ، ومتى اعتقد انّه متى كان شي ء فلله عليه كذا وكذا ، وجب عليه الوفاء به عند حصول ذلك الشّي ء ، وجرى ذلك مجرى أن يقول لله علىّ كذا وكذا ، فان جعل في اعتقاده متى كان شي ء كان عليه كذا ، ولم يعتقد لله ، كان مخيّرا في ذلك حسب ما قدمناه في القول « هذا آخر كلامه رحمه اللّه في نهايته » (3).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك : من أنه لا ينعقد الّا ان يتلفظ به وينطق ، مع النيّة أيضا ، ولا يجزى أحدهما عن الآخر ، لأنّ هذا مجمع على انعقاد النذر به ، وليس على انعقاده بغير ذلك دليل ، لأنّ النذر حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، وأيضا فلا يتعلق الاحكام في معظم الشرعيّات الّا بما ينطق المكلّف به ويتلفظ بذلك لسانه ، حتى يحكم عليه به ، من بيع أو طلاق أو هبة أو صدقة أو إقرار وغير ذلك.

ص: 65


1- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب ماهيّة النذور والعهود.
2- الخلاف ، كتاب النذور ، مسألة 1.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب ماهيّة النذور والعهود.

الّا انّ شيخنا أبا جعفر « رحمه اللّه » رجع عما ذكره في نهايته ، في مبسوطة في الجزء الرابع ، في كتاب الايمان ، في فصل في كفارة يمين العبد ، قال : « النذر ضربان : نذر تبرّر وطاعة ، ونذر لجاج وغضب ، فالتبرّر أن يعلّقه بابتداء نعمة ، أو دفع بليّة ونقمة ، فابتداء النعمة أن يقول : ان رزقني اللّه ولدا أو عبدا فما لي صدقة ، وان رزقني الحج فعلىّ صوم شهر. ودفع النقمة قوله : ان شفى اللّه مريضي ، أن خلّصني من هذا الكرب ، إن دفع عنى شرّ هذا الظالم ، فعلى صدقة مال ، أو صوم شهر ، فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء به ، بلا خلاف ، لقوله عليه السلام : « من نذر أن يطيع اللّه فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه » (1) غير أنا نراعي أن يقول ذلك بلفظ « لله علىّ كذا » لأنّ ما عدا ذلك لا ينعقد به نذر ، ولا تخلفه كفارة ، هذا آخر كلامه « رحمه اللّه » (2).

إذا قال : لله عليّ حجة ، عندنا يلزمه الوفاء به ، فان عيّنه في سنة بعينها ، وخالف وجبت عليه كفارة النّذر ، وانحلّ النّذر ، وإن أطلقه لا ينحل ، ووجب عليه الوفاء به.

ومن قال : متى كان كذا وكذا فلله عليّ المشي إلى بيت اللّه ، أو إهداء (3) بدنة اليه ، فمتى كان ذلك الشّي ء وجب عليه الوفاء به.

فان قال : متى كان كذا فلله علىّ ان أهدى هذا الطعام الى بيته ، لم يلزمه ذلك ، لأنّ الإهداء لا يكون إلّا في النعم خاصّة ، ولا يكون بالطعام.

والمعاهدة هو ان يقول : قد عاهدت اللّه تعالى أو عليّ عهد اللّه متى كان كذا فعليّ كذا ، فمتى قال ذلك ، وجب عليه الوفاء به عند حصول ما شرط حصوله.

وجرى ذلك مجرى النذر في جميع الاحكام سواء.

والنذر والعهد معا انما يكون لهم تأثير إذا صدرا عن نيّة ، فمتى تجرّدا من النيّة لم يكن لهما حكم على حال.

ص: 66


1- مستدرك الوسائل ، الباب 12 من أبواب النذور والعهد ، ح 2.
2- المبسوط ، ج 6 ، كتاب النذر ، ص 246.
3- ج. ل. أو على إهداء.

ومتى قال : هو محرم بحجّة أو عمرة ان كان كذا وكذا ، لم يكن ذلك شيئا ، ولم يتعلق به حكم من الاحكام.

إذا قال لله عليّ أن أهدى بدنة ، أجزأه أقل ما يقع عليه الاسم ، وأقلّها ثنية.

فإذا ثبت انعقاده لم يخل من أحد أمرين : إمّا ان يطلق ، أو ينوى بدنة من الإبل ، فإن أطلق نذر بدنة ولم ينو شيئا ، فالصحيح أنّه يلزمه من الإبل ، لأنّ البدنة في اللّغة عبارة عن الأنثى من الإبل ، فان لم يجد فبقرة ، فان لم يجد فسبع من الغنم لأنّ الشرع أقام كل واحد منهما مقام صاحبه عند العدم والتعذر.

إذا نذر صوم عشرة أيام ، أو عشرين يوما ، فهو بالخيار بين ان يتابع ، أو يفرق ، وبين ان يصوم على الفور أو على التراخي.

إذا نذر ان يحج في هذا العام حجة الإسلام ، فوجدت شرائط الوجوب ، فلم يفعل حتى فات الوقت ، استقرت في الذمة ، ولا تسقط ، وان حصر حصرا عاما في هذا العام ، سقط نذره كالمفروضة ، وكذلك ان حصر حصرا خاصا ، ولا فصل بين المفروضة والمنذورة إلّا في فصل واحد ، وهو ان المفروضة إذا سقطت في هذا العام ، وجبت بوجود شرائطها بعده ، والمنذورة إذا سقطت في هذا العام ، لم تجد بعده ، وان وجدت الشرائط ، لأنّ النذر تعلّق بهذه السنة ، فإذا فات فلا يجب بعدها الّا بتجديد نذر ، فلهذا يسقط بكل حال.

إذا قال لله عليّ ان أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ، فان قدم ليلا فلا يلزمه الصوم أصلا ، لأنّه ما وجد شرطه بلا خلاف ، وان قدم في بعض نهار ، لا يلزمه أيضا صومه ، ولا صوم يوم بدله ، لأنّ نذره لم ينعقد ، لأنّ الأصل براءة الذّمة ، وإيجاب صوم يوم بدل هذا يحتاج الى دليل ، والذي يدلّ على ان نذره لم ينعقد ، انه نذر صوم لا يمكنه الوفاء به ، لأنّ بعض يوم لا يكون صوما ، وجرى ذلك مجرى ان يقول يوم يقدم أصوم أمسه ، فإنه لا يكون نذرا صحيحا ، لاستحالته.

إذا نذر أن يصوم أياما معدودة متتابعة ، فافطرها في سفر ، انقطع التتابع ، وعليه الاستيناف.

إذا نذر صوم يوم الخميس ان شفى اللّه مريضه ، فشفاه اللّه ، فصام يوم الخميس

ص: 67

عن كفارة أو قضاء شهر رمضان ، فالظاهر من مذهبنا أنه يقتضي انه لا يجزيه ، لانّه قد تعيّن صومه بالنذر ، فلا يقع فيه سواه ، فإذا ثبت هذا ، فإنّه يكمله عن نذره ، وكذلك من نذر أن يصوم أول يوم من رمضان ، لم ينعقد نذره ، لانّه يستحق صيامه لغيره ، لانه لا يمكن ان يقع فيه على حال صيام غير رمضان.

إذا لزمه صيام يوم بعينه ابدا بالنذر ، ثم وجب عليه صوم شهرين متتابعين عن كفارة القتل ، أو الظهار ، فإنه يصوم الشهرين عن كفارته ، وما فيهما من اليوم المعين صيامه بالنّذر عن كفارته أيضا ، دون نذره ، لأنّه إذا صامه عن كفارته صحت الكفّارة ، وقضى ما فيهما من الأيام المعيّنة المنذورة ، ولو صامها عن نذره بطل تتابعه ، وكان عليه الاستيناف ، ولم يمكنه الكفارة بالصيام ابدا ، والذي يقتضيه مذهبنا ، ان في الشهر الأوّل يفعل هذا الذي قلناه ، وفي الشهر الثاني ، إذا زاد عليه شيئا ، فإنّه يصح ان يصومها عن الكفارة ، وعن النذر معا ، لأن الإفطار فيه لا يبطل التتابع ، فان صام الكل عن الكفّارة ، قضى كل يوم منذور كان في الشهرين ، هذا إذا سبق النذر الكفارة ، فامّا ان سبقت الكفارة النذر ، وهو ان وجب عليه صوم شهرين متتابعين عن كفارته ، ثمّ نذر أن يصوم كل خميس ، كان عندنا مثل الأول سواء ، وعند بعضهم أيضا ، وقال بعضهم لا يقضى ما فيهما من الأيام المنذورة ، لأن كل يوم منذور في الشهرين مستحق للكفارة ، وهو غير نذره ، فلهذا لم ينعقد نذره بها ، كأيام رمضان ، والأقوى ما قلناه ، من ان عليه قضاءه هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) في كتاب النذر ، جملته ما ذكرناه.

والأقوى عندي ، ان يوم النّذر لا يجوز صيامه عن الكفارة ، لا في الشّهر الأول ، ولا في الشهر الثاني ، فامّا قوله رحمه اللّه « ولو صامها عن نذره بطل تتابعه ، وكان عليه الاستيناف ، ولم يمكنه الكفارة بالصيام ابدا » فتمسّك غير واضح ، وانا التزم انّه لا يصحّ له الكفّارة بالصيام ، ويكون فرضه الإطعام ، لأنّه غير قادر على الصيام ، واى مانع يمنع من الانتقال عن الصيام إلى الإطعام ، لأنّه ليس في مقدوره الكفارة

ص: 68


1- لم نعثر عليه.

بالصيام ، فليلحظ ذلك بعين الفكر ، واللّه الموفق للصواب.

إذا نذر صلاة ، قال قوم أقل ما يلزمه ركعتان ، وقال بعضهم أقل ذلك ركعة ، وهذا هو الّذي يقوى في نفسي ، لأنّها أقلّ صلاة مرغبة فيها شرعيّة ، وهي الوتر بلا خلاف بيننا معشر أهل البيت عليهم السلام ، والخطاب إذا أطلق ، أجزأ أقل ما يقع عليه الاسم ، وقد بينا ان الرّكعة صلاة شرعيّة ، وأيضا فلا نص لأصحابنا في ذلك ، والأصل براءة الذمة فيما زاد على الركعة ، وإذا كانت الرّكعة صلاة في الشريعة وعرفها ، حمل الإطلاق على أقل ما يقع الاسم الشرعي عليه.

واختار شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، في مسائل خلافه (1) أحد قولي الشّافعي ، وهو انّه يلزمه صلاة ركعتين ، واستدل بطريقة الاحتياط فحسب ، ولم يذكر إجماعا ولا اخبارا.

وقد قلنا ما عندنا ، وليس هو لمّا استدل بطريقة الاحتياط ، بأولى ممّن استدلّ بدليل ان الأصل براءة الذّمة.

باب الكفارات

الكفارات على ثلاثة أضرب ، كفارة مرتبة من غير تخيير ، ومخير فيها من غير ترتيب ، وما فيها ترتيب ، وتخيير.

فالتي على الترتيب ، كفارة الظهار بلا خلاف ، وكفارة قتل الخطأ أيضا بلا خلاف ، الّا من شاذ من أصحابنا ، ومعنى الترتيب ، هو انه لا ينتقل من الأصل الأول إلى الثّاني ، الّا بعد فقدان الأوّل ، ولا ينتقل من الثاني الى الثالث الّا بعد عدم الثّاني ، ومعنى التخيير هو انه له ان يفعل اىّ الثلاث كان.

فكفارة الظهار عتق رقبة ، فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فان لم يستطع ، فإطعام ستين مسكينا ، وكذلك كفارة قتل الخطأ.

والتي على التخيير بكلّ حال ، فكفارة فدية الأذى ، الإنسان فيها بالخيار ، بين

ص: 69


1- الخلاف ، كتاب النذر ، مسألة 17.

ذبح شاة ، أو صيام ثلاثة أيّام ، أو إطعام ستة أمداد لستة مساكين ، وكذلك كفارات الحج كلها على التخيير ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وظاهر القرآن يعضد ذلك ، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في كتاب الحج (1).

والكفارة التي تجمع الأمرين ، كفّارة اليمين ، فإن الإنسان مخير في الثلاثة الأجناس ، اما عتق رقبة ، أو إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، فان عجز عن ذلك اجمع ، وجب عليه صيام ثلاثة أيام مرتبة متوالية ، بغير خلاف.

ومتى أراد ان يكفر بالإطعام ، فعليه ان يطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين مدّ على الصحيح من المذهب ، وظاهر التنزيل يعضد ذلك ، والأصل أيضا يقويه ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى مدّين.

وقدر المد ، رطلان وربع بالعراقي.

وكذلك في سائر الكفارات الظهار ، والقتل ، والوطي ، وفدية الأذى ، وغير ذلك.

ويجوز ان يخرج حبّا ، ودقيقا ، وخبزا ، وكل ما يسمّى طعاما إلّا كفارة اليمين ، فإنه يجب عليه ان يخرج من الطعام الذي يطعم اهله ، لقوله تعالى « مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ » (2) فقيد تعالى ذلك ، وأطلق في باقي الكفارات ، ولأنّ الأصل براءة الذمة.

فإن أراد التكفير بالكسوة ، فلكل مسكين ثوب واحد ، ولا يلزمه ان يكون جديدا ، ويجوز ان يكون غسيلا ، سواء كان مئزرا أو قميصا. وقال بعض أصحابنا الواجب ثوبان.

وكل من تلزمه نفقته لا يجوز صرف الكفارة اليه ، ومن لا تلزمه نفقته ، يجوز صرفها اليه ، وجملة الأمر وعقد الباب ، ان مستحق الكفّارة ، مستحقّ الزكاة ، وقد مضى ذكرهم في كتاب الزكاة (3).

وعليه ان يعطى عشرة مساكين ، يعتبر العدد فيهم ، فان لم يجد العدد كرر عليهم

ص: 70


1- في الجزء الأول ، ص 557.
2- سورة المائدة ، الآية 89.
3- في الجزء الأوّل ، ص 455.

حتى يستوفى العدد عندنا يوما بعد يوم ، حتى يستوفى العدد.

وإذا أطعم خمسا وكسا خمسا ، لم يجزه ، لانّه خلاف الظاهر.

ولا يجوز إخراج القيم في الكفارات عندنا بغير خلاف ، ويجوز ذلك في الزكوات عندنا بغير خلاف (1) أيضا.

وإذا اجتمع عليه كفارات ، لم يخل من أحد أمرين ، امّا ان يكون جنسا واحدا ، أو أجناسا فإن كان جنسا واحدا ، مثل ان يكون يمينا ، أو ظهارا ، أو قتلا ، فنفرضها في كفارة الايمان ، فإنه أوضح ، فإذا كان عليه كفارات عن يمين ، فإن أطعم عن الكل ، أو كسى عن الكل ، أو أعتق عن الكل ، أجزأه ، وان أطعم عشرة ، وكسى عشرة ، وأعتق رقبة ، أجزأه عن الثلاث ، فإذا ثبت انه جائز ، نظرت ، فإن أبهم النيّة ، ولم يعين ، بل نوى كفارة مطلقة ، أجزأه لقوله « فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ » (2) فامّا ان كانت أجناسا مختلفة ، مثل ان حنث ، وظاهر ، وقتل ، ووطي في رمضان ، افتقر ذلك الى تعيين النيّة ، وهو شرط في ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، لا فرق بين ان يكون الجنس واحدا ، أو أجناسا مختلفة (3) ، وما ذكرناه هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، لقوله عليه السلام « الاعمال بالنّيات وانما لامرئ ما نوى » (4) وان كان في مسائل خلافه (5) يذهب الى ما اخترناه.

والكلام في وقت النيّة ، فعندنا لا يجزيه حتى يكون النيّة مع التكفير.

إذا كانت عليه كفارة ، لم يخل من أحد أمرين ، امّا ان يكون على الترتيب ، أو على التخيير.

فان كانت على الترتيب ، نظرت ، فان خلّف تركة ، تعلقت بتركته كالدين ، يعتق عنه منها ، وان لم يكن له تركة ، سقط العتق عنه ، كما لو مات وعليه دين ولا

ص: 71


1- ج. ل. بلا خلاف.
2- سورة المائدة ، الآية 89.
3- المبسوط : كتاب الايمان ، فصل في الكفارات ، ص 209.
4- الوسائل الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 7.
5- الخلاف ، كتاب الظهار ، مسألة 39.

تركة له ، فان اختار وليه ان يعتق عنه كمال الواجب عليه ، أجزأه عنه ، لأنه يقوم مقام مورثه في قضاء ديونه وغير ذلك.

وان لم يكن الكفارة على الترتيب ، مثل كفارة اليمين ، نظرت ، فان كفر عنه وليه بالكسوة ، أو الإطعام ، صحّ عمن أخرجه عنه ، وكذلك ان كان أعتق عنه أجزأ عندنا ، وقال بعض المخالفين لا يجزى. والأوّل أصح ، لأنّ الثلاثة عندنا واجبة مخير فيها ، وليس الواجب واحدا لا بعينه.

لا يجوز النيابة في الصيام في حال الحياة بحال ، وان مات الإنسان وعليه صيام ، وجب على وليه ان يصوم عنه عندنا.

إذا اعطى مسكينا من كفارته ، أو زكاة ماله ، أو فطرته ، فالمستحب ان لا يشترى ذلك ممن أعطاه.

والاعتبار عندنا في الكفارات المرتبة حال الأداء والإخراج ، لا حال الوجوب ، فان كان في حال الإخراج والأداء موسرا ، وجب عليه العتق ، وان كان معسرا ، وجب عليه الصّيام. ولا اعتبار بما تقدم.

العبد إذا وجب عليه كفارة الحنث ، فأعتق ، لا يجزيه ذلك عن كفارته ، لانّه كفر بغير ما وجب عليه ، لانّه غير مخاطب بإخراج المال.

ومن وجبت عليه كفارة مرتبة من الأحرار لم يخل من أحد أمرين امّا أن يكون له فضل عن كفايته ليومه وليلته ، أو وفق الكفاية ، فإن كان له فضل ، لم يكن من أهل الصّيام ، لانّه واجد ، وان لم يكن له وفق كفاية ليومه وليلته ، كان فرضه الصّيام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، لا يعتبر الايمان في العتق في جميع أنواع الكفارات ، إلّا في كفارة قتل الخطأ خاصة وجوبا ، وما عداه جاز ان يعتق من ليس بمؤمن ، وان كان المؤمن أفضل (1).

وقال المرتضى وباقي أصحابنا ، باعتبار الايمان في جميعها (2).

ص: 72


1- في المبسوط ، ج 6 ، كتاب الايمان فصل في الكفارات ، ص 212 ، وفي الخلاف كتاب الظهار ، مسألة 27.
2- في الانتصار ، كتاب العتق والمكاتب.

وهو الذي اعتمده ، وافتى به ، لقوله تعالى « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ » (1) والكافر خبيث بغير خلاف ، وأيضا دليل الاحتياط يقتضيه.

والأعمى والمجذوم ، والمقعد بالزّمانة ، لا يجزى عتق واحد منهم ، لأنهم ينعتقون عند أصحابنا بهذه الآفات ، والأعرج ، والا قطع اليدين ، أو إحديهما ، أو اقطع الرجلين ، أو إحديهما يجزى للاية ، واليه ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2).

والمدبّر وأمّ الولد يجزى عتقهما عن الكفارة ، ولا يجزى عتق المكاتب عندنا بحال ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، فإنّه قال مسألة ، عتق المكاتب لا يجزى في الكفارة ، سواء ادّى من مكاتبته شيئا ، أو لم يؤد (3).

وقال في نهايته في باب الكفارات : ولا يجوز له ان يعتق مدبرا الّا بعد ان ينقض تدبيره ، ولا ان يعتق مكاتبا له ، وقد ادّى من مكاتبته شيئا (4).

والذي يقتضيه أصولنا ، ان عتق المكاتب المشروط عليه في الكفّارة جائز ، سواء ادى من مكاتبته شيئا أو لم يؤد ، لإجماعنا على انّه عبد ما بقي عليه شي ء ، فامّا المكاتب المطلق ، فإنه إذا لم يتحرر منه شي ء ، ولم يؤد شيئا من مال الكتابة ، فإنّه يجزى إعتاقه أيضا في الكفارة ، لأنه عبد لم يتحرر منه جزء ، فامّا أن ادّى شيئا ولو قليلا ، فلا يجزى إعتاقه في الكفارة ، لأنّه قد تحرر منه جزء بقدر ما ادى ، بغير خلاف ، فليلحظ ذلك ويحصل ، واللّه الموفّق للصّواب.

إذا مات وعليه حق لله ، مثل الزكوات ، والكفارات ، وحق الآدميّين ، مثل الديون ، قيل فيه ثلاثة أقوال ، أحدها حق اللّه المقدّم ، والثاني حقوق الآدميّين ، والثّالث هما سواء ، وهو الأقوى عندي ، لأنّ تقدّم أحدهما على الآخر يحتاج الى دليل.

ص: 73


1- سورة البقرة ، الآية 267.
2- الخلاف ، كتاب الظهار ، مسألة 44 ، وفي المصدر الأعمى لا يجزى بلا خلاف بين الفقهاء ، والأعور يجزى ..
3- الخلاف ، كتاب الظهار ، مسألة 29.
4- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.

وفرض العبد في الكفارات الصّوم ، سواء كانت الكفارة مرتبة ، مثل كفارة الظهار ، أو مخيّرة فيها ، لان العبد لا يملك ، وقد ذكرنا فيما مضى كفارة اليمين (1) ، فان عجز عن الثلاثة الأجناس ، - وحد العجز ان لا يكون له ما يفضل عن قوته وقوت من يجب عليه نفقته ، ليومه وليلته - كان عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات ، يستوي الحر والعبد في صيامهنّ ، فان لم يقدر على الصوم ، فليستغفر اللّه تعالى ، فهو كفارة له ، فان وجد بعد ذلك المال ، أو قدر على الصوم ، فلا يجب عليه فعل شي ء من ذلك ، لانّه قد كفر بالاستغفار ، فوجوب ذلك ثانيا يحتاج الى دليل ، وقد قدّمناه (2) انّه إذا لم يجد العدد ، ووجد بعضهم كرّر عليهم حتى يستوفى العدد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومتى لم يجد أحدا من المؤمنين أصلا ، ولا من أولادهم ، أطعم المستضعفين ممن خالفهم (3).

وهذا غير مستقيم ولا واضح ، لانّه خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ مستحق الكفارات مستحق الزّكوات على ما قدمناه (4) ، فلا يجوز اعطاؤهما لغيرهم على حال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وكفارة نقض النذور والعهود ، عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ، مخير فيها ايّها فعل فقد أجزأه ، ومتى عجز عن ذلك كله ، كان عليه صيام ثمانية عشر يوما ، فان لم يقدر على ذلك ، أطعم عشرة مساكين ، أو قام بكسوتهم ، فان لم يقدر على ذلك ، تصدق بما استطاع ، فان لم يستطع شيئا أصلا ، استغفر اللّه تعالى ، ولا يعود ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (5).

والصحيح الذي يقتضيه أصول أصحابنا وما حققه محصلوهم ، ان النذر لا يخلو من أحد أمرين ، امّا ان يكون صوما معينا ، فخالفه وأفطر فيه متعمدا ، فكفارة ذلك كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان متعمّدا ، وهو ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وحكيناه عنه في خلاف نقض النذور (6).

ص: 74


1- في ص 72.
2- في ص 70.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.
4- في ص 70.
5- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.
6- في ص 59.

وان كان النذر غير صيام ، فان كفارة خلافه كفارة يمين ، لأنّ الأصل براءة الذمّة ، وقد وردت به اخبار ، وذهب اليه من جملة أصحابنا السيد المرتضى في الموصليّات (1) ، وأبو جعفر بن بابويه رحمه اللّه ، وغيرهما من الجلة المشيخة ، وهو الذي يقوى في نفسي وافتى به.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن كان عليه صيام يوم قد نذر صومه ، فعجز عن صيامه ، اطعم مسكينا مدّين من طعام ، كفارة لذلك اليوم ، وقد أجزأه (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، هذا ليس هو على ظاهره ، بل ان كان عجزه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه بمجرى العادة ، مثل العطاش الذي لا يرجى برؤه فما ذكره رحمه اللّه صحيح ، وإن كان لمرض يرجى برؤه ، مثل الحمى وغير ذلك ، فالواجب عليه الإفطار والقضاء ، لما أفطر فيه من غير إطعام مدّين ، ولا كفارة بحال ، فليلحظ ذلك ، فهذا تحرير السّؤال.

وقد قدمنا (3) شرح كفارة الظهار ، فلا وجه لا عادته.

وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا ، امّا عتق رقبة ، أو إطعام ستين مسكينا ، أو صيام شهرين متتابعين ، مخيّر في ذلك على الصّحيح من المذهب.

وكفارة قتل العمد ، عتق رقبة ، وإطعام ستّين مسكينا ، وصيام شهرين متتابعين على الجمع ، هذا في العمد المحض.

وكفارة قتل الخطأ المحض. أو الخطأ شبيه العمد ، واحد منها ، وهي على الترتيب.

وقال شيخنا في نهايته ، ومن حلف بالبراءة من اللّه تعالى ، أو من رسوله ، أو من واحد من الأئمة عليهم السلام ، كان عليه كفارة ظهار ، فان لم يقدر على ذلك ، كان عليه كفارة اليمين (4).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك في كتاب الايمان (5) ، فلا وجه لإعادته وكفارة من

ص: 75


1- المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى ، ص 246 ، المسألة 63.
2- النهاية : كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.
3- في ص 69.
4- النهاية : كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.
5- في ص 37 و 39 و 40.

وطي زوجته في حيض ، ان كان وطؤه لها في أول الحيض ، كان عليه دينار ، وقيمته عشرة دراهم جيدا ، وان كان في وسطه ، نصف دينار ، وان كان في أخره ، ربع دينار على حساب ما قدمناه ، وقد شرحنا ذلك وحرّرناه ، وذكرنا الخلاف فيه ، في كتاب الحيض (1) فلا وجه لإعادته.

فإن وطي أمته في الحيض ، كان عليه ان يتصدّق بثلاثة أمداد من طعام ، يفرقها على ثلاثة مساكين ، سواء كان وطؤه لها في أوّله ، أو آخره ، أو وسطه ، بغير خلاف.

ومن وجب عليه صيام شهرين متتابعين في شي ء ممّا ذكرناه من الكفارات ، فصام شهرا ، ومن الثاني شيئا ، ثم أفطر من غير علة ، كان مخطئا آثما ، وجاز له البناء عليه عند أصحابنا ، فإن صام شهرا ولم يكن قد صام من الثاني شيئا ، وجب عليه الاستيناف ، وان كان إفطاره قبل الشهر لمرض ، كان له البناء عليه على كل حال.

ومن عجز عن صيام شهرين وجبا عليه ، صام ثمانية عشر يوما ، وقد أجزأه ، وان لم يقدر على ذلك ، تصدّق عن كلّ يوم بمد من طعام ، فان لم يستطع استغفر اللّه تعالى ، وليس عليه بعد ذلك شي ء.

وكفارة الإيلاء كفارة اليمين سواء ، وكذلك كفارة من أفطر يوما قد نوى صومه قضاء لشهر رمضان بعد الزوال ، فان لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة.

وقد روى (2) ان من تزوج بامرأة في عدتها عالما بذلك ، فارقها ، وكفر عن فعله بخمس أصوع (3) من دقيق.

وقد روى (4) أيضا ان من نام عن عشاء الآخرة حتى يمضي النّصف الأوّل

ص: 76


1- في الجزء الأوّل ، ص 144.
2- الوسائل الباب 36 ، من أبواب الكفارات والباب 27 ، من أبواب حد الزنا ، ج 5 ، وفي الجواهر ، ج 33 ، ص 189 ، وفيه مع عدم بلوغ ذلك حد الشهرة ، ان العنوان في كلامهم ذات العدة وفي الخبرين ذات الزوج وهما متغايران فراجع.
3- ج. بخمسة أصوس. وما في المتن هو الصحيح بقرينة ما يذكر ويفصل بعيد هذا.
4- الوسائل ، الباب 29 ، من أبواب المواقيت ، ح 8.

من الليل ، صلاها قضاء حين يستيقظ ، ويصبح صائما كفارة لذنبه في النوم عنها الى ذلك الوقت.

والاولى حمل هاتين الرّوايتين على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، لأن الأصل براءة الذمة ، ولا إجماع على هاتين الروايتين.

وذهب السيّد المرتضى « رحمه اللّه » الى ان من تزوّج امرأة ولها زوج ، وهو لا يعلم بذلك ، ان عليه ان يفارقها ، ويتصدّق بخمسة دراهم (1).

ولم أجد أحدا من أصحابنا موافقا له على هذا القول ، والأصل براءة الذّمة ، وشغلها بهذه الكفارة يحتاج الى دليل ، ولا دليل عليها من كتاب ، ولا إجماع ، ولا تواتر اخبار.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه شيخنا أبو جعفر في نهايته جمع الصّاع على اصع ، فقال كفارة من تزوج بامرأة في عدّتها خمسة اصع من دقيق (2). وانما جمع الصاع أصوع ، قال الأصمعي العامة تخطى ، فتقول ثلاث أصّع ، وانّما يقال ثلاث أصوع ، وقد يذكّر الصاع ويؤنث ، فمن انّثه جمعه على أصوع ، ومن ذكّره جمعه على أصواع.

وروى (3) أيضا انّ من ترك صلاة الكسوف متعمدا ، وقد احترق القرص كله ، فليغتسل كفارة لذنبه ، وليقض الصّلاة بعد الغسل.

وقد قدمنا (4) القول في هذا الغسل ، والخلاف فيه بين الأصحاب ، فلا وجه لإعادته.

وروى (5) ان من سعى الى مصلوب بعد ثلاثة أيام ليراه ، فليستغفر اللّه من ذنبه ، ويغتسل كفارة لسعيه إليه.

ص: 77


1- في الانتصار ، كتاب النذور.
2- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات ، وفي المصدر بخمسة أصوع.
3- الوسائل ، الباب 10 ، من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 5.
4- في الجزء الأوّل ، ص 321.
5- الوسائل ، الباب 19 من أبواب الأغسال المسنونة ، ح 3 ، وفي الجواهر ، ج 5 ، ص 69 ، لكنه لا تقييد فيها بالثلاث ، الا انه ذكره غير واحد من الأصحاب إلخ.

وذلك على طريق الاستحباب دون الفرض والإيجاب.

ولا يجوز للرّجل ان يشق ثوبه في موت أحد من الأهل والقرابات ، فان فعل ذلك فقد روى (1) ان عليه كفّارة يمين.

والاولى ان يحمل ذلك على الندب دون الفرض ، لأن الأصل براءة الذمة ، وهذه الرّواية قليلة الورود ، شاذّة ، تورد في أبواب الزّيادات ، عن رجل واحد ، وقد بيّنا انّ اخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ، إلّا ان أصحابنا مجمعون عليها في تصانيفهم ، وفتاويهم ، فصار الإجماع هو الحجّة على العمل بها ، وبهذا افتى.

وروى (2) انّه لا بأس بأن يشق ثوبه على أبيه ، وفي موت أخيه.

والأولى ترك ذلك واجتنابه ، بل الواجب ، لانه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل حفاظ المال ، وتضييعه سفه ، لأنّه إدخال ضرر ، والعقل يقبح ذلك.

فامّا المرأة ، فلا يجوز لها ان تشق ثوبها على موت أحد من النّاس ، فإن شقته ، أخطأت ولا كفارة عليها بغير خلاف ، وانما وردت الرّواية في الرجل ، واجمع عليها أصحابنا دون المرأة ، والقياس باطل عندنا.

ولا يجوز للمرأة ان تلطم وجهها في مصاب ، ولا تخدشه ، ولا تجزّ شعرها ، فان جزته فان عليها كفارة قتل الخطأ ، وقد قدّمنا شرحها (3) على ما رواه أصحابنا ، فإن خدشت وجهها حتى تدميه ، كان عليها كفارة يمين ، فان لطمت وجهها استغفرت اللّه تعالى ، ولا كفارة عليها أكثر من الاستغفار.

ومن وجبت عليه كفارة مرتبة فعجز عن الرقبة ، فانتقل الى الصوم ، فصام شيئا ، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الرجوع إليها ، وجاز له البناء على الصوم ، فان رجع الى الرقبة ، كان ذلك أفضل له.

ومن ضرب مملوكا له فوق الحد ، كانت كفارته ان يعتقه ، على ما روى (4) في

ص: 78


1- الوسائل ، الباب 31 ، من أبواب الكفارات ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 31 ، من أبواب الكفارات ، ح 1.
3- في ص 69.
4- الوسائل الباب 30 من أبواب الكفارات ح 1 وفي مستدرك الوسائل الباب 24 ، من أبواب الكفارات ، ح 1.

بعض الاخبار ، أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة من العتق ، وبقاء الرّق ، فمن ادعى سوى ذلك يحتاج الى دليل.

وروى (2) انّه ان قتل ، كان عليه عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ، وعليه التوبة ممّا فعل أورد ذلك شيخنا في نهايته (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، امّا ما ذكره شيخنا أبو جعفر ، فغير واضح ، ولا مستمر على أصل مذهبنا ، لأنّه ان كان القتل للعبد عمدا محضا ، فالصّحيح انه يجب على السيّد القاتل كفارة قتل العمد المحض ، وهي الثلاثة الأجناس على الجمع ، وان كان قتله له خطأ ، فالواجب كفارة قتل الخطأ المرتبة ، دون المخيّرة فيها ، وما أورده شيخنا في كتابه على التخيير ، دون الترتيب ، فان فرضنا انه قتله عمدا محضا فما يصح ما أورده رحمه اللّه ، وان كان قتله خطأ فما يستقيم أيضا ما ذكره.

ص: 79


1- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.
2- الوسائل : الباب 29 ، من أبواب الكفارات ، ح 1 - 2 - 3.
3- النهاية ، كتاب الايمان والنذور ، باب الكفارات.

ص: 80

كتاب الصيد والذّبائح

اشارة

ص: 81

كتاب الصيد والذّبائح

قال اللّه تعالى « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً » (1) فأباح تعالى صيد البحر مطلقا لكل أحد ، وأباح صيد البرّ إلّا في حال الإحرام.

وقال تعالى « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ » (2).

وقال « يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » (3) الى قوله « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » (4) وهذه أبين آية في كتاب اللّه في الاصطياد وأكل الصيد ، لأنّها أفادت جواز تعليم الجوارح للاصطياد ، وأكل ما تصيد وتقتل ، إذا كان معلما ، لانّه لو لم يقتله لما جاز اكله ، حتى يذكى ، معلما كان أو غير معلم.

وأيضا على ذلك إجماع الأمّة.

فأما ما يجوز الاصطياد به ، فعندنا لا يجوز الاصطياد بشي ء من الجوارح الّا الكلب المعلم فقط ، دون ما عداه ، سواء كان من جوارح السّباع ، أو جوارح الطير ، يدل على صحة ما قلناه بعد إجماعنا ، قوله تعالى « وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » وهذا نصّ صريح على انّه لا يقوم مقام الكلاب في هذا الحكم غيرها ، لانّه تعالى لو قال وما علمتم من الجوارح ولم يقل مكلّبين ، لدخل في هذا الكلام كل جارح من

ص: 82


1- سورة المائدة ، الآية 96.
2- سورة المائدة ، الآية 1.
3- سورة المائدة ، الآية 4.
4- سورة المائدة ، الآية 4.

طير وبهيمة ، ذي ظفر ، وناب ومخلب ، وانّما اتى بلفظ مكلبين ، وهي تخص الكلاب ، لأنّ المكلّب ، هو صاحب الكلاب بلا خلاف بين أهل اللّغة ، فعلمنا انّه تعالى لم يرد بالجوارح جميع ما يستحق هذا الاسم ، وانّما أراد بالجوارح الكلاب خاصّة ، ويجرى ذلك مجرى قولهم ركب القوم مهاريهم ، مبقرين ، أو مجمرين ، فإنه لا يحمل وان كان اللفظ الأول عاما ، الّا على ركوب البقر والجمازات ، وليس لأحد ان يقول المكلّب المضرى ، والممرّن ، والمغرى قلنا (1) هذه لفظة عربية مشتقة من الكاف واللام والباء ، فلا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز ، ولا يتكلّم فيما طريقه اللغة ، إلّا أهلها.

قال طفيل الغنوي :

« تباري مراخيها الزجاج كأنها *** ضراء أحسّت تباعة من مكلب »

يصف خيلا والمراخى جمع مرخاء ، وهي السّريعة العدو ، والزجاج جمع زج ، والضراء جمع ضرورة ، وهي الكلبة.

وقال النابغة : فارتاع من صوت كلاب.

وانما يكون معلما بثلاث شرائط ، أحدها إذا أرسلته استرسل ، وثانيها إذا زجرته انزجر ، وثالثها لا يأكل ممّا يمسكه ، ويتكرر هذا منه دفعات ، حتى يقال في العادة انه معلّم.

ثمّ يكون مرسله ممن يعتقد وجوب التسمية عند إرساله ، ويسمي إذا أرسله.

فإن أكل الكلب منه نادرا فلا بأس بأكل الباقي ، وان كان الأكل عادة له فلا يجوز أكل ما قتله.

واما إذا استرسل بنفسه ، فان وجده وفيه حياة مستقرة ، لم يحل حتى يذكيه معلما كان أو غير معلم ، وان قتله فلا يحل أيضا ، فكأنّه إنّما يحل في موضع واحد ، وهو إذا أرسلته فقتله وهو معلم ، لدليل الآية.

إذا أرسل المسلم آلته على صيد وأرسل المجوسي ، أو أي كافر كان ، آلته أيضا

ص: 83


1- ج. لأنا نقول.

على ذلك الصّيد ، مثل ان أرسلا كلبين ، أو سهمين أو أحدهما كلبا والآخر سهما ، فاصاباه وقتلاه ، حرم اكله بلا خلاف ، ولا فصل بين ان يقع السّهمان دفعة واحدة أو واحدا بعد الآخر ، إذا كان القتل منهما ، فاما ان صيره الأول في حكم المذبوح ، ثم رماه الأخر ، مثل ان قطع الأوّل الحلقوم والمري والودجين ، ثمّ رماه الآخر ، فالأوّل ذابح ، والآخر جارح ، فيكون الحكم للأوّل ، فإن كان الأول مجوسيا ، لم يحل اكله ، وان كان مسلما والثاني مجوسيا ، حل أكله ، لأنّ الحكم للأوّل.

فامّا إن أرسلا معا فوجدا الصيد قتيلا ، فلم يعلم اى الكلبين قتله ، حرم أكله.

فإن أرسلا معا كلبا واحدا ، فقتل ، حرم أكله.

فإن كان مع مسلم كلبان ، فأرسلهما وأحدهما معلم ، والآخر غير معلم ، لم يحل أكله وان كان معه كلبان أرسل أحدهما ، ولم يرسل الآخر ، واسترسل الآخر بنفسه ، حرم أكل ما قتلاه.

فان أرسل مسلم كلبه ، ومجوسي كلبه ، فأدركه كلب المجوسي ، فرده الى كلب المسلم ، فقتله كلب المسلم ، وحده ، حل أكله.

إذا غصب رجل آلة فاصطاد بها ، كالسهم أو الكلب ، كان الصيد للصياد دون صاحب الإله وعلى الغاصب اجرة المثل في تلك الإله.

فإذا اصطاد بالكلب صيدا ، فعضه الكلب. وجرح موضعا منه ، كان موضع العضة نجسا ، لأنّ سؤر الكلب ولعابه نجس ، وما ماسّة نجس بغير خلاف بيننا ، فامّا قوله تعالى « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » (1) ولم يأمر بالغسل ، مرجوع عن ظاهره بالإجماع المقدم ذكره.

واختار شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2) قول بعض المخالفين انه لا يجب غسله ولا يكون نجسا.

الّا انه رجع عنه في مبسوطة (3).

ص: 84


1- سورة المائدة ، الآية 4.
2- الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 8.
3- المبسوط ، كتاب الصيد والذبائح ، ص 259 ، ج 6.

إذا شرب الكلب المعلم من دم الصّيد ، ولم يأكل من لحمه ، لم يحرم ، لقوله تعالى « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » وقد ثبت ان المراد بذلك ان لا يأكل منه ، لانه لو أكل لكان ممسكا على نفسه دون صاحبه.

إذا عقر الكلب المعلم الصّيد عقرا ، لم يصيره في حكم المذبوح ، وغاب الكلب والصيد عن عينه ثمّ وجده ميتا ، لم يحل أكله ، فإن كان قد صيّره في حكم المذبوح ، بان قطع المري والحلقوم والودجين ، أو قطعه نصفين ، فإنه يحل أكله ، لأنا نعلم انه قتله.

إذا أدركه ، وفيه حياة مستقرة ، لكنه في زمان لم يتسع لذبحه ، أو كان ممتنعا ، فجعل يعدو خلفه ، فوقف له ، وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه ، لا يحل أكله (1).

إذا أرسل كلبه المعلم ، وسمى عند إرساله على صيد بعينه ، فقتل غيره ، حل اكله.

وكذلك ان أرسله في جهة ، فعدل عن سمته إلى جهة غيرها ، وقتل ، حل أكله.

إذا رمى سهما أو حربة ، ولم يقصد شيئا ، فوقع في صيد فقتله ، أو رمى شخصا فوقع في صيد فقتله ، لا يحل ذلك ، ولا يجوز اكله بحال ، لانّه لم يسمّ ، وقد دلّلنا على وجوب التسمية.

إذا رمى سهما ، وسمّى ، فوقع على الأرض ، ثمّ وثب بالاعتماد الأوّل فأصاب الصيد فقتله ، حل أكله.

إذا قطع الصيد بنصفين ، وخرج منهما الدم ، حل أكل الكل بلا خلاف ، وان كان الذي مع الرأس أكثر ، حل الذي مع الرأس دون الباقي ، وان كان الذي مع الوركين أكثر ، حل الجميع أيضا ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2)

ص: 85


1- في ج ول هنا زيادة بهذه العبارة : « وقال شيخنا في مسائل خلافه : فان قلنا انه يحلّ اكله كان قويا » إلّا انا لم نجده في كتاب الخلاف.
2- الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 17.

ومبسوطة (1) وهو قول بعض المخالفين.

والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، ان الجميع يحل ، سواء كان الذي مع الرأس أكثر ، أو أقل ، إذا لم يكن قد بقي مع الذي مع الرأس حياة مستقرة ، لأنهما جميعا مذبوحان. ميتان ، مقتولان ، واما إذا كان الذي مع الرأس فيه حياة مستقرة ، فلا يجوز أكل الباقي ، لأنّه أبين من حي ، فهو ميتة ، لأن كل ما أبين من الحي ، وقطع منه ، والحي على حياته ، فهو ميتة ، فاما إذا لم يقطع من حي ، بل كلاهما غير حي ، بل صيد مقتول ، فلا يحرمان.

إذا اصطاد المسلم بكلب علّمه مجوسي ، حل أكل ما قتله ، وبه قال جميع الفقهاء.

إذا كان المرسل كتابيا ، لم يحل أكل ما قتله.

إذا كان المرسل مجوسيّا أو وثنيا ، لم يحل أكل ما اصطاده بلا خلاف ، وان كان أحد أبويه مجوسيّا أو وثنيا والآخر كتابيا لم يجز أيضا عندنا.

كل حيوان مقدور على ذكاته ، إذا لم يقدر عليه ، بان يصير مثل الصيد ، أو يتردى في بئر ، فلا يقدر على موضع ذكاته ، كان عقره ذكاته في أيّ موضع وقع منه.

لا تحل التذكية بالسن ، ولا بالظفر ، سواء كان متصلا أو منفصلا ، فان خالف وذبح لم يحل اكله ، هكذا ذكره شيخنا في مسائل خلافه (2).

والذي ينبغي تحصيله في هذا الإطلاق ، فإن كان ذلك في حال الاختيار ، فهو على ما قال فهو صحيح ، وان كان في حال الاضطرار ، فغير صحيح ، بل عندنا بلا خلاف بيننا انه تجوز الذباحة في حال الاضطرار وعند تعذر الحديد بكلّ شي ء يفري الأوداج ، سواء كان ذلك عظما ، أو حجرا ، أو عودا ، أو غير ذلك ، وانما بعض المخالفين يذهب الى انّ ذلك لا يجوز الذبح بالسن والظفر في حال الاضطرار ،

ص: 86


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الصيد والذبائح ، ص 261 ، الّا انه ليس فيه قوله وان كان الذي مع الوركين أكثر حل الجميع أيضا.
2- الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 22.

والاختيار ، واستدل بخبر رواه المخالف من طرقهم (1) ، وما رواه أحد من أصحابنا ، فليلحظ ذلك ، ولا يظنّ انّه قولنا.

لا تحل ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى.

ولا يجوز الذّكاة في اللّبة ، إلّا في الإبل خاصّة ، فأمّا البقر والغنم فلا يجوز ذبحهما إلّا في الحلق ، فان ذبح الإبل ونحر البقر والغنم لم يحل أكله.

إذا ملك صيدا فأفلت منه ، لم يزل ملكه عنه ، طائرا كان أو غير طائر ، لحق بالبرادى أو لم يلحق ، لانّه قد ثبت ملكه قبل الإفلات بلا خلاف ، ولا دليل على زواله فيما بعد ، وعلى من ادعى ذلك الدلالة.

إذا قتل المحل صيدا في الحل ، لا جزاء عليه ، سواء كان منشأه في الحل ، ولم يدخل الحرم ، أو دخل الحرم وخرج الى الحل ، أو كان منشأه في الحرم ، فخرج الى الحل.

وصيد السّمك أخذه وإخراجه من الماء حيا ، وكذلك ان وجده الإنسان على الجدد ، فأخذه حيا ، ولا تكفى مشاهدته له

دون أخذه ولمسه ، سواء كان من أخرجه وأخذه مسلما أو كافرا من أيّ أجناس الكفّار كان ، لانه لا يراعى في صيده وجوب التسمية ، الّا ان ما يصيده غير المسلم لا يجوز أكله ، إلّا إذا شوهد إخراجه له من الماء حيّا ، سواء مات في يده بعد إخراجه ، أو أخذه المسلم منه وهو حي.

وذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره ، لما أورد الاخبار ، وتأولها لما وردت عامة ، بأنّه لا بأس بصيد المجوس ، الى ان قال فالوجه في هذه الاخبار ، ان نحملها على انه لا بأس بصيد المجوس إذا أخذه الإنسان منهم حيا قبل ان يموت ، ولا يقبل قولهم في إخراج السّمك من الماء حيا ، لأنّهم لا يؤمنون على ذلك معتمدا على خبر ، رواه الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن ابان عن عيسى بن عبد اللّه ، قال سألت

ص: 87


1- صحيح البخاري ، ج 20 ، كتاب الذبائح ، الباب 15 ، الرقم 5150 ، ص 95 ، وفي سنن ابن ماجة كتاب الذبائح ، باب 5 ، ما يذكى به. الحديث 4، الرقم 3178 ج 2 ص 1061. وروى عن رافع بن خديج نحوه أبو داود في سننه في الباب 14 من كتاب الضحايا الحديث 1 الرقم 2821 ج 3 ص 102.

أبا عبد اللّه عليه السلام عن صيد المجوس ، فقال لا بأس إذا أعطوكه احياء (1) والسمك أيضا ، والّا فلا تجز شهادتهم ، الّا ان تشهده (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، وهذا تخصيص منه رحمه اللّه ، للعموم ، بخبر واحد ، وقد بيّنا ان اخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ، وأيضا فالخبر الذي خصّص به واعتمد عليه ، هو دليل الخطاب ، لانّه قال لا بأس إذا أعطوكها حيا ، ولم يقل إذا شاهدت إخراجهم له حيا ، وأخذته منهم بعد ذلك ميتا لا يجوز اكله ، وقد يترك دليل الخطاب لدليل آخر ، وإجماعنا منعقد ، ان صيد السمك ، أخذه وإخراجه من الماء حيا ، ولا يراعى فيه وجوب التسمية.

والاولى لشيخنا ، انه كان يتأول ما شذّ من الاخبار ، على انه إذا صاده المجوس وجميع الكفار ، لا يجوز أكله إلّا إذا شاهد المسلم إخراج الكافر السمك حيا من الماء ، سواء مات في يده بعد إخراجه ، أو أخذه المسلم منه وهو حيّ ، بخلاف صيد المسلم له ، لان صيد المسلم يحل سواء شاهد إخراجه له حيا أو لم يشاهد ، ويقبل قوله في ذلك ، سواء كان محقا أو مبطلا ، والكفار لا يقبل قولهم في ذلك ، كما ذهب الى هذا القول في نهايته (3). وهذا وجه صحيح في تأويل الأخبار ، مستمر على قاعدة النظر وأصل المذهب.

وهو الذي يذهب إليه المحصّلون من أصحابنا ، وهو انه لا خلاف بينهم قديما وحديثا في انّ صيد السمك لا يراعى فيه التسمية ، بل الحال التي يحل معها أكله ، ان يخرجه آدمي من الماء حيّا ، أو يأخذه من غير الماء وهو حي ، سواء أخذه أو أخرجه مسلم أو كافر ، من أي أجناس الكفار كان ، الّا ان ما يخرجه غير المسلم يراعى فيه المشاهدة له ، وقد أخذه حيا ، ولا يقبل قوله في انه أخرجه من الماء حيا ، والمسلم يقبل قوله في ذلك ، سواء كان المسلم محقا أو مبطلا ، فهذا فرق ما بين المسلم والكافر.

ص: 88


1- ج. ل. حيّا.
2- الاستبصار ، ج 4 ، باب صيد المجوسي للسمك ، ص 64 ، ح 11 - 229 ، وفيه ، إذا أعطوكه حيّا.
3- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد واحكامه.

وقد حقق ذلك السيد المرتضى في الناصريات (1).

فاما من تمسك وذهب الى تحريم أكل السمك والجراد إذا صادهما الذمي والمسلم غير المحق ، يعوّل على انّ صيدهما هي ذكاتهما ، وان العذر قد انقطع بان غير المحق لا ذكاة له ، ولا تؤكل ذبيحته.

فأقول ان أخذ السمك وإخراجه من الماء حيا ليس بذكاة على الحقيقة ، وانما اجرى مجرى الذّكاة في الحكم ، لا في وقوع الاسم ، وإذا وقع التحريم بتذكية غير المحق ، وانّه لا ذكاة له ، فإنّما يدخل في ذلك ما يكون حقيقة من الذبح وفرى الأوداج ، وما لا يكون حقيقة ويسمى بهذه التسمية ، جاز ان لا يدخل في الظاهر الّا بدليل ، فعلى من ادعى دخول صيد غير المحق السمك والجراد تحت تحريم ذكاة المبطل ، الدليل.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في استبصاره ، الى ما ذهبنا إليه في مبسوطة ، وحقق ذلك في نهايته ، على ما قدمناه وبيّناه أولا ، وحكيناه (2).

قال في مبسوطة ، إذا اصطاد السمك من لا يحل ذبيحته ، كالمجوسي والوثني ، حل اكله بلا خلاف ، غير انا نعتبر ان نشاهده ، وقد أخرجه حيّا ولا نصدّقه على ذلك ، لانه يجوز ان يكون مات في الماء ، وعندنا لا يجوز أكل ذلك ، وكذلك ما اصطاده اليهودي والنصراني من السمك ، والفرق بين صيد السمك والذبحية على مذهبنا ، ان صيد السمك لا يراعى فيه التسمية ، والذباحة يجب فيها التسمية ، فلأجل ذلك لم يصحّ منهما ، هذا آخر كلامه (3) رحمه اللّه. فتدبّره واعتبره.

وأيضا لو كان صيد السمك ذكاة حقيقة لما قال الرسول عليه السلام لمّا سئل عن ماء البحر ، فقال « هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته » (4) فأحلّ ميتته فلو كان

ص: 89


1- الناصريات المسألة الثالثة والمأتان ، والعبارة هكذا ، لا يحلّ السمك الذي يصطاده ذمي ..
2- في ص 87 و 88.
3- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الصيد والذبائح ، ص 276 - 277.
4- مستدرك الوسائل الباب 2 ، من أبواب الماء المطلق الحديث 1. سنن النسائي ، كتاب الصيد والذبائح ، باب ميتة البحر ( ج 4. ص 307 ).

صيده ذكاة حقيقة لما أطلق عليه اسم الميتة ، لأن الحيوان المذكى لا يسمّى ميتة في عرف الشرع ، ولما قال أمير المؤمنين عليه السلام ، عند سؤال السائل له عن دم السمك ، فقال « لا بأس بدم ما لم يذك » (1) فبان بذلك ما نبهنا عليه ، وأدل دليل على جواز أكل صيد غير المحق مع المشاهدة له ، السمك وقد أخرجه من الماء حيا ، وان مات في يده ، وانّ صيد السمك ليس بذكاة حقيقة ، وانما اجرى مجرى الذكاة الحقيقيّة في الحكم ، لا في وقوع الاسم ، إجماع أصحابنا المحصلين على انّ الشّاة المذكاة ، يحرم منها أربعة عشر شيئا ، وإجماعهم على ان السمك لا يحرم منه شي ء فلو كان صيده ذكاة حقيقيّة لحرم منه ما يحرم من الشّاة المذكاة ذكاة حقيقيّة ، وأحد لا يقول بذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا نصب الإنسان شبكة في الماء يوما وليلة ، أو ما زاد على ذلك ، ثمّ قلعها وقد اجتمع فيها سمك كثير ، جاز له أكل جميعه ، وان كان يغلب على ظنّه ، ان بعضه مات في الماء ، لانّه لا طريق له الى تمييزه من غيره ، فان كان له طريق الى تمييز ما مات في الماء مما لم يمت فيه لم يجز له أكل ما مات فيه ، وكذلك ما يصاد في الحظائر ويجتمع فيها ، جاز أكل ذلك جميعا مع فقد الطريق الى تمييز الميّت من الحي (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه هذه رواية أوردها رحمه اللّه إيرادا ، لا اعتقادا ، وتحرير ذلك ان الإنسان متى نصب الشبكة ، ووقع فيها السمك ، وأخذه منها وهو حيّ ، فإنّه حلال ، وان أخذه وهو ميّت ، فلا يجوز اكله بحال ، لأنّا أجمعنا على ان ما يموت من السمك في الماء فإنّه حرام ، وهذا إجماع منعقد من أصحابنا ، فلا يجوز ان نرجع عنه باخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

وإذا صيد سمك ، وجعل في شي ء ، وأعيد في الماء ، فمات فيه ، لم يجز أكله ،

ص: 90


1- الوسائل ، الباب 23 ، من أبواب النجاسات الحديث 2 ، مع اختلاف في العبارة وهي هكذا : ان عليا عليه السلام كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلى فيه الرجل يعنى دم السمك.
2- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد واحكامه.

وان أعيد الى غير الماء حتى يموت فيه ، فلا بأس باكله ، والفرق بين الأمرين ، ان في الأول مات فيما فيه حياته ، والثاني مات فيما ليس فيه حياته.

وروى (1) انه يكره صيد السمك يوم الجمعة قبل الصّلاة.

ويكره صيد الوحش والطير بالليل.

ويكره أخذ الفراخ من أعشاشهن ، واوكارهن ، وليس ذلك بمحظور.

والطير إذا كان مالكا جناحيه ، فلا بأس بصيده بسائر آلات الصيد ، ما لم يعرف له صاحب ، فان عرف له صاحب فلا يجوز اصطياده ، فان اصطيد وجب ردّه على صاحبه.

والمقصوص الجناح لا يجوز أخذه ، لأن له صاحبا فإن أخذه كان حكمه حكم اللقطة في جميع أحكامها.

ولا يؤكل من الطير ما يصاد بسائر أنواع آلات الصيد ، الّا ما أدرك ذكاته ، الّا ما يقتله السهم ، ويكون مرسله قد سمى عند إرساله ، أو ترك التسمية ساهيا ، مع اعتقاده لوجوبها ، فان لم يكن صاحبه قد سمى ، أو صيد بالبندق ، - وهو الجلاهق وهو الطين المدور ، يرمى به عن القوس ، فارسي واصلة بالفارسية « جلاهة » الواحدة جلاهقة وجلاهقتان ، وليس الجلاهق ، القسي ، كما يظنه بعض النّاس. وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، ورمي الجلاهق ، وهي قسى البندق ، حرام - ، والصحيح ما ذكرناه ، فإنه قول اللغويين ، ذكره ابن الجواليقي ، في المغرب ، وذكره أيضا الجوهري في كتاب الصّحاح ، والاعتماد على أهل اللغة في ذلك ، فإنهم أقوم به - أو المعراض ، وهو سهم بلا ريش ، ولا نصل ، ويصيب بعرض عوده ، دون حده ، ومنه حديث عدي ، انه قال : انى أرمي بالمعراض فيخرق ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ان خرق فكل ، وان أصاب بالعرض ، فلا تأكل (2) ، هذا قول الهروي ،

ص: 91


1- الوسائل ، الباب 30 ، من أبواب الصيد.
2- صحيح البخاري ، كتاب الذبائح والصيد الباب 3 ، ( ج 20 ص 79 ) فيه : « قلت وانا نرمي بالمعراض قال كل ما خرق ، وما أصاب بعرضه فلا تأكل ». رواه مسلم في صحيحه كتاب الصيد والذبائح الباب 1، الحديث 3 ( الرقم 1922 ) وفيه سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن المعراض فقال إذا أصاب بحده فكل ، وإذا أصاب بعرضه فقتل ، فإنه وقيذ فلا تأكل. ج 3 ص 1530 ورواه النسائي في سننه في كتاب الصيد والذبائح ، باب ما أصاب بعرض من صيد المعراض ( ج 7 ص 195 ).

في غريب الحديث ، وقال ابن فارس ، صاحب مجمل اللّغة : المعراض سهم طويل ، له اربع قذذ دقاق ، فإذا رمى به اعترض ، وكذلك ما يقتله الحجارة ، وما أشبه ذلك ، فمات منه لم يجز اكله.

وإذا رمى إنسان طيرا بسهم ، فأصابه وأصاب فرخا لم ينهض بعد ، فأصابهما وقتلهما ، جاز أكل الطير ، لانه صيد ، ولم يجز أكل الفرخ الذي لم ينهض ، لانه ليس بصيد ، وهو مقدور عليه ، فلا يكون حكمه حكم الصيد.

وإذا قتل الصيد بسهم يصيبه ، ولا يكون فيه حديدة ، لم يجز أكله ، فإن كان فيه حديدة ، غير انّه أصابه معترضا فقتله ، جاز اكله.

ولا يجوز ان يرمى الصيد بشي ء أكبر منه ، فان رمى بشي ء أكبر منه فقتله ، لم يجز له اكله ، على ما روى (1) في الاخبار.

وإذا لم يكن مع الصائد سهم فيه حديدة ، ومعه سهم حادّ ينفذ ويخرق - بكسر الرّاء - جاز أكل ما يصيده به إذا خرق ، فإذا لم يخرق ، لم يجز اكله.

وصيد الوحش يجوز بسائر آلات الصيد ، من الجوارح والسباع ، والمصايد ، والحبالات ، الّا انّه لا يجوز أكل شي ء من ذلك عند أصحابنا ، إلّا ما أدرك الإنسان ذكاته ، الّا الكلب خاصّة ، على ما تقدم بيانه وتحريره (2).

وروى (3) أصحابنا ان ادنى ما يلحق معه الذكاة ، ان يجده تطرف عينه ، أو تتحرك يده ، أو رجله ، أو ذنبه.

وإذا أخذ الكلب المعلم صيدا ، فأدركه صاحبه حيا ، وجب ان يذكيه ، فان لم يكن معه ما يذكيه به ، فليتركه حتى يقتله ، ثمّ ليأكل ان شاء ، هكذا أورده شيخنا

ص: 92


1- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب الصيد.
2- في ص 82.
3- الوسائل ، الباب 11 ، من أبواب الذبائح.

في نهايته (1).

والأولى عندي انّه يجب عليه ان يذكيه ، فان لم يكن معه ما يذكيه به فلا يحل أكله إذا قتله الكلب بعد ذلك ، لانّه ليس بصيد الكلب بعد القدرة عليه ، لانه غير ممتنع ، بل هو مقدور عليه ، وهو بمنزلة الغنم.

إذا لم يكن مع الإنسان ما يذكيه ويذبحه به ومعه كلب ، فلا يجوز له ان يدع الكلب يذبحه بلا خلاف ، لانّه ليس بصيد ، هذا الّذي يقتضيه أصول المذهب ، وانّما أورد هذا الخبر شيخنا (2) إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله مما لا يعمل عليه في هذا الكتاب.

وإذا انفلت كلب ، فصاد من غير ان يرسله صاحبه ، وسمّى ، لم يجز أكل ما يقتله.

ومن نسي التسمية عند إرسال الكلب ، وكان معتقدا لوجوب ذلك ، جاز أكل ما يقتله.

ولا يجوز ان يسمى غير الذي يرسل الكلب ، فإن أرسل واحد الكلب وسمى غيره ، لم يجز أكل ما يقتله.

ومن شرط أكل ما يقتله الكلب خاصّة ، ان لا يغيب عن العين ، فإذا غاب عن العين ، ثمّ وجد مقتولا ، لم يجز أكل ما يقتله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (3).

والذي تقتضيه الأدلة ان يقال ، هذا يكون إذا عقره عقرا ، لم يصيره في حكم المذبوح ، فامّا إذا عقره عقرا يصيره في حكم المذبوح ، بأن أخرج حشوته ، أو فلق قلبه ، أو قطع الحلقوم ، والمري ، والودجين ، ثمّ غاب عن العين بعد ذلك ، فإنه يحل اكله ، والى هذا التحرير والتفصيل يذهب رحمه اللّه في مسائل خلافه (4).

ص: 93


1- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد واحكامه.
2- ما تعرض الشيخ رحمه اللّه للمسألة في النهاية ولعله استفاد ابن إدريس رحمه اللّه هذه الفتوى منه من المسألة السابقة.
3- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد واحكامه.
4- الخلاف كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 9.

فامّا السّهم ، فان غاب عن العين ، وكان قد جعله السّهم في حكم المذبوح ، بان قطع الحلقوم والمري والودجين ، أو جميع الرّقبة ، ما خلا الجلد ، أو ابان السّهم حشوته - بكسر الحاء - يعنى جميع ما في بطنه ، وما أشبه ذلك ، فلا بأس بأكله ، فامّا ان كان بخلاف ذلك ، فلا يجوز أكله ، لأنّ في الأوّل يقطع على ان سهمه القاتل له ، والثاني لا قطع معه ، وبهذا وردت الاخبار (1) عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، وأصول المذهب أيضا تقتضيه.

فإن أصاب الصيد سهم فتدهده من جبل ، أو وقع في الماء ، ثم مات فعلى ما فصّلناه من الاعتبار.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا أصاب الصيد سهم ، فتدهده من جبل ، أو وقع في الماء ، ثمّ مات لم يجز أكله ، لأنّه لا يأمن من ان يكون قد مات في الماء ، ومن وقوعه من الجبل (2).

والأصل ما قدمناه من الاعتبار ، لأنّ شيخنا علل القول ، لانه قال لا يأمن ان يكون قد مات في الماء ، ومن وقوعه من الجبل ، ونحن فقد أمّنا إذا وجدناه على الصّفة المقدم ذكرها ، من كونه في حكم المذبوح ، فاما إذا لم يكن كذلك ، فالقول ما قاله رحمه اللّه.

وقال في مبسوطة ، إذا رمى طائرا فجرحه ، فسقط على الأرض ، فوجد ميتا ، حل اكله ، سواء مات قبل ان يسقط ، أو بعد ما سقط ، وقال بعضهم ، إذا مات بعد ما سقط ، لم يحل أكله ، لأن سقوطه على الأرض ، قبل موته ، فقد أعانت السقطة على قتله ، فقد مات من مبيح وحاظر ، فغلّبنا حكم الحظر ، كما لو سقط في الماء ، وهذا أليق بمذهبنا ، فاما ان سقط عن الإصابة في ماء ، أو تردى من جبل ، أو وقع على شجرة ، فتردى منها إلى الأرض ، لم يحل اكله ، لقوله تعالى : « وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ

ص: 94


1- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب الصيد لكن اخبار الباب تعرض بحلية ما علم انه قتل بإصابة السهم.
2- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد واحكامه.

وَالْمُتَرَدِّيَةُ » (1) فما وقع في الماء ، فالماء يخنقه ، وما وقع على الجبل ثمّ تردّى ، فهو المتردية ، هذا إذا كان الجرح غير موحّى. فاما ان كان الجرح قاتلا موحيا ، مثل ان وقع السّلاح في حلقه ، فذبح ، أو في قلبه ، أو في كبده فقتله ، حل اكله بكل حال ، لأنه صار مذكى ، فلا يقدح فيه ما وراء ذلك ، كما لو ذبح شاة ، ثم وقعت في الماء ، فماتت فيه ، فإنه يحل أكلها ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2).

وقال شيخنا في نهايته ، وإذا طعن الصيد برمح ، أو ضربه بسيف ، فقتله ويكون قد سمّى جاز له أكله ، فإن قدّه بنصفين ، ولم يتحرك واحد منهما ، جاز له أكلهما ، إذا خرج منهما الدم ، وان تحرك أحد النصفين ، ولم يتحرك الآخر ، أكل الذي تحرك ، ورمى ما لم يتحرك (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه إذا سال الدم منهما ، أكلهما جميعا ما يتحرك ، وما لم يتحرك.

وذهب شيخنا في مسائل خلافه ، إذا قطع الصيد بنصفين ، حلّ أكل الكل ، بلا خلاف ، وان كان الذي مع الرأس أكثر ، حلّ الذي مع الرأس دون الباقي (4).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه الاعتبار بما مع الرأس إذا لم يكن فيه حياة مستقرة ، فإذا كان كذلك حل الجميع ، وان كان الذي مع الرأس فيه حياة مستقرة ، فلا يؤكل ما عداه ممّا أبين منه. لأنّه أبين من حي ، وما أبين من حيّ فهو ميتة ، فامّا إذا لم يكن فيه حياة مستقرّة ، فما هو ممّا أبين من حي ، فيؤكل الجميع ، وشيخنا استدلّ على تحريمه بأنه أبين من حي ، ولم يفصّل ما فصّلناه ، ولا حرر ما حررناه ، فلتلحظ ما بيّناه بعين الانصاف ، تجده واضحا جليا.

وان قطع منه قطعة بسيف ، أو أخذت الحبالة منه ذلك ، فليرم بالقطعة ، وليذكّى الباقي ويأكله.

ص: 95


1- سورة المائدة ، الآية 3.
2- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الصيد والذبائح ، ص 272 - 273.
3- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد واحكامه.
4- الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 17.

وإذا أخذ الصيد جماعة فتناهبوه ، وتوزعوه قطعة قطعة ، جاز اكله بشرط انهم جميعا صيروه في حكم المذبوح ، أو أولهم ، فإن كان الأوّل منهم لم يصيره في حكم المذبوح ، بل أدرك وفيه حياة مستقرة ، يعيش اليوم واليومين ، ولم يذكوه في موضع ذكاته الشرعية ، بل تناهبوه ، وتوزّعوه من قبل ذكاته ، فلا يجوز لهم أكله ، لأنه صار مقدورا على ذكاته ، ولم يصر في حكم الصيد الذي لا يعتبر في قتله وتحليله موضع ذكاته ، لانه غير مقدور عليه ، فيذكى في أي موضع كان من جسده ، فليلحظ ذلك.

ومتى رمى الإنسان صيدا بعينه ، وسمى ، فأصاب غير ما رماه فقتله ، جاز اكله.

وإذا وجد لحما لا يعلم أذكي هو أم ميّت ، فليطرحه على النار ، فان انقبض فهو ذكي ، وان انبسط فليس بذكيّ.

وقد قدّمنا (1) ان صيد الجراد أخذه ولا يراعى فيه التسمية.

ولا يجوز ان يؤكل من الجراد ما مات في الماء أو الصّحراء ، قبل ان يؤخذ ، ولا ما يحرق في الشجر قبل التناول له ، وعلى هذا التحرير إذا كان الجراد في أجمة ، أو قراح ، فأحرق الموضع ، فاحترق الجراد ، لم يجز اكله.

ولا يؤكل منه الدباء بفتح الدال ، وهو الذي لا يستقل بالطيران ، لانّه ليس بصيد قبل نهوضه.

باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح

الحيوان على ضروب ، منها ما يكون في الحضر خاصّة ، ومنها ما يكون في البرّ ، ومنها ما يكون في البحر.

وكل واحد من هذه الأجناس ينقسم أقساما ثلاثة قسم منها مباح طلق بكسر الطاء - وقسم مكروه ، وقسم محظور.

فامّا حيوان الحضر ، فالإبل ، والبقر ، والغنم ، فإنّها اجمع مباحة ، ويجوز استعمالها

ص: 96


1- في ص 89.

وأكلها على كل حال ، الّا ما كان منها جلالا ، وهو الذي يكون غذاؤه أجمع الجلّة بفتح الجيم وتشديد اللام ، وهي عذرة بني أدم - فإنه محظور لا يجوز اكله.

وحد الجلال الذي لا يجوز أكله إلّا بعد الاستبراء ، هو ان يكون غذاؤه أجمع عذرة الإنسان ، لا يخلطها بغيرها على ما قدّمناه (1) ، وإذا كان مخلطا ، يأكل العذرة وغيرها ، فان لحمه مكروه ، وليس بمحظور.

ويستبرأ الجلال ، الإبل منه بأربعين يوما ، يربط ويعلف علقا مباحا حتى يزول عنه حكم الجلل ، والبقر منه بعشرين يوما كذلك ، والشاة بعشرة أيام ، والبطة بخمسة أيام ، والدّجاجة بثلاثة أيام ، والسمك بيوم واحد.

وقد روى (2) انّه إذا شرب شي ء من هذه الأجناس خمرا ، ثمّ ذبح جاز أكل لحمه بعد ان يغسل بالماء ، ولا يجوز أكل شي ء ممّا في بطنه ، ولا استعماله ، والاولى حمل هذه الرّواية على الكراهيّة دون الحظر ، لانه لا دليل على تحريم ذلك من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل الإباحة.

وإذا رضع شي ء من هذه الأجناس من خنزيرة ، حتى اشتد على ذلك ، لم يجز أكل لحمه.

وروى (3) انه لا يجوز أيضا أكل ما كان من نسله.

وان كان شربه من الخنزيرة دفعة أو دفعتين ، ولم يشتد على ذلك ، كان أكل لحمه مكروها غير محظور ، الّا انّه يستبرأ بسبعة أيام ، على ما روى في الاخبار (4) ان كان ممّا يأكل العلف كسبا ، وغيره اطعم ذلك ، وان لم يكن مما يأكل العلف ، سقى من لبن ما يجوز شرب لبنه سبعة أيام.

وروى (5) انه إذا شرب شي ء من هذه الحيوانات بولا ، ثمّ ذبح ، لم يؤكل ما في بطنه الّا بعد غسله بالماء.

ص: 97


1- في الجزء الأول ، ص 80.
2- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 1.
3- الوسائل ، الباب 25 ، من أبواب الأطعمة المحرمة.
4- الوسائل ، الباب 25 ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 1.
5- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 2.

ومتى شرب شي ء من ذلك من لبن امرأة واشتد على ذلك كره أكل لحمه ، ولم يكن محظورا.

فامّا الخيل والبغال والحمير ، فان لحمها مكروه عند أصحابنا ، وليس بمحظور ، وان كان بعضه أشد كراهة من بعض ، لان لحم البغل أشد كراهة من لحم الحمار ، ولحم الحمار أشد كراهة من لحم الخيل ، ولحم الخيل ادونهن كراهية.

وذهب بعض أصحابنا الى ان أشد ذلك كراهية لحم الحمار.

فان جلّ واحد من هذه الأجناس الثلاثة ، كان لحمه محظورا ، الّا ان يستبرأ ، ولم يرد حد في مدّة استبراء شي ء من ذلك.

والذي ينبغي ان يعوّل عليه ، انّه يستبرأ بمدّة تخرجه من اسم الجلل ، بان يصير غذاؤه أجمع ممّا يجوز اكله من المباحات ، بعد ان كان قد صار غذاؤه أجمع عذرة الإنسان ، بحيث يزول عنه اسم الجلل ، بان لا يسمى جلالا ، لانّه لم يصر غذاؤه أجمع عذرة الإنسان ، فليلحظ ذلك فهذا تحرير فقهه.

ولا يجوز أكل لحم الفيل.

ومن وطي شيئا من الأجناس التي يحل أكل لحمها ، حرّم ذلك لحمها ولحم ما كان من نسلها ، على ما رواه (1) أصحابنا ، ووجب إحراقها بالنّار ، فان اختلطت بغيرها واشتبهت ، استخرجت بالقرعة ، بأن يقسم القطيع قسمين ، ويقرع على كل واحد منهما ، ثم يقسم ذلك أبدا ، الى ان لا تبقى إلّا واحدة.

واما حيوان البحر ، فلا يستباح أكل شي ء منه الّا السّمك خاصة ، والسمك يؤكل منه ما كان له فلس ، وهو القشر ، فاما ما لم يكن له قشر ، وان انطلق عليه اسم المسك فلا يحل اكله ، فعلى هذا التحرير ، الجريّ - بكسر الجيم - والرّاء وتشديدها وتشديد الياء أيضا ، لا يجوز اكله وكذلك الجرّيث - بكسر الجيم - أيضا وتشديد الراء وكسرها فلا يجوز اكله.

ولا يجوز أكل الطّافيّ وهو الذي يموت في الماء فيطفو عليه.

ص: 98


1- الوسائل ، الباب 30 ، من أبواب الأطعمة المحرمة.

وكذلك لا يجوز أكل المارماهي ، ولا الزمار والزّهو بالزاء المعجمة ، لأنّه لا قشر له ، ولا هو سمك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، واما المارماهي ، والزمار ، والزهو ، فإنه مكروه شديد الكراهية ، وان لم يكن محظورا (1).

وهذا غير مستقيم ولا صحيح ، لانّه مخالف لأصول مذهبنا ، ولأنّ إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، انه لا يؤكل من حيوان البحر الّا السمك ، والسمك لا يؤكل منه الّا ما كان له فلس ، وهذه الأجناس التي ذكرها ، لا تسمى سمكا لا لغة ولا عرفا ، وليس لها أيضا فلس ، وانّما هذا خبر واحد أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله ممّا لا يعمل عليه.

الّا انّه رحمه اللّه عاد ، وقال في نهايته أيضا ، يعزر آكل الجرّي ، والمارماهي ، ومسوخ السمك كلها ، والطحال ، ومسوخ البر ، وسباع الطير ، وغير ذلك من المحرمات ، فان عاد أدّب ثانية ، فان استحل شيئا من ذلك وجب عليه القتل ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (2).

فمن يوجب عليه القتل باستحلاله لآكله ، كيف يجعله مكروها غير محظور ، وانّما ذلك خبر واحد أورده على ما رواه ووجده.

ولا بأس بأكل الكنعت ، ويقال أيضا الكنعد ، بالدّال غير المعجمة.

ولا بأس أيضا بأكل الربيثا ، - بفتح الراء وكسر الباء - ، وكذلك لا بأس بأكل الإربيان ، - بكسر الالف وتسكين الراء ، وكسر الباء - وهو ضرب من السمك البحري ، أبيض كالدود ، والجراد ، الواحدة اربيانة.

ولا يؤكل من السمك ما كان جلّالا ، الّا بعد ان يستبرأ يوما الى الليل ، على ما قدّمناه (3) في ماء طاهر ، يطعم شيئا طاهرا.

ولا يجوز أكل ما نضب عنه الماء من السمك.

ص: 99


1- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوانات وما لا يستباح.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.
3- في ص 97.

وإذا شق جوف سمكة ، فوجد فيها سمكة ، جاز أكلها ، إذا كانت من جنس ما يحل أكلها ، على ما روى (1) في الاخبار ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي يقتضيه المذهب ، انّه ان كانت الموجودة حيّة ، فإنها تؤكل ، ويصح العمل بالرّواية ، وان كانت ميتة ، فلا يجوز أكلها على حال ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

فان شق جوف حيّة فوجد فيها سمكة ، فإن كانت على هيئتها ولم تنسلخ ، لم يكن بأكلها بأس ، وان كانت قد انسلخت لم يجز أكلها على حال ، على ما وردت الرواية (3) بذلك ، وأوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (4).

والاولى ان يقال : ان كانت السمكة الموجودة في جوف الحيّة حيّة ، فإنها تؤكل ، سواء تسلخت أو لم تنسلخ ، وان كانت ميتة ، فلا يجوز أكلها ، سواء تسلخت أو لم تنسلخ (5) ، على حال ، فهذا تحرير هذه الرّواية على ما يقتضيه أصول مذهبنا.

وإذا وثبت سمكة من الماء ، فماتت ، فإن أدركها الإنسان بمباشرة ، سوى حاسة النظر ، وفيها روح ، جاز له أكلها ، وان لم يدركها كذلك ، تركها ولم يجز له أكلها.

وإذا وجد الإنسان سمكة على ساحل بحر ، أو شاطئ نهر ، ولم يدر أذكية هي أم ميتة؟ فليلقها في الماء ، فان طفت على ظهرها ، فهي ميتة ، وان طفت على وجهها فهي ذكية.

ولا بأس بأكل الطمر - بالطّاء غير المعجمة المكسورة ، والميم المسكنة ، والراء غير المعجمة - وكذلك لا بأس بأكل الطبراني - بالطاء غير المعجمة المفتوحة ، والباء بنقطة واحدة من تحتها ، المفتوحة ، والرّاء غير المعجمة - وهذان جنسان من أجناس السمك ، لهما فلوس.

وكذلك الإبلامي ، - بكسر الهمزة ، وبالباء المنقطة بنقطة واحدة من تحتها ،

ص: 100


1- مستدرك الوسائل ، الباب 32 ، من أبواب الأطعمة المحرمة.
2- الوسائل كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح.
3- الوسائل كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح.
4- الوسائل ، الباب 15 ، من أبواب الأطعمة المحرمة.
5- ج. انسلخت وتنسلخ ، في المواضع الثلاثة.

المسكنة ، - وهو جنس أيضا من أجناس السمك الذي له فلس وقشر.

واما حيوان البرّ ، فإنّه لا يجوز أكل شي ء من السّباع ، سواء كان ذا ناب قوى يعد وعلى النّاس ، أو غير ذي ناب قوى ، كالثعلب ، وابن آوى ، والأرنب ، وغير ذلك مثل السّبع والفهد ، والنمر ، والكلب ، والخنزير ، والدّب ، وما أشبه ذلك من المسوخ ، والسّباع.

ولا يحل أكل الوبر - بفتح الواو وتسكين الباء - وهي دويبة فوق السّنور ، ودون الأرنب.

وقال شيخنا في مسائل خلافه ، وهي سوداء أكبر من ابن عرس ، تأكل وتجتر ، وقال بعض اللغويّين ، الوبر هي دويبة دون السنور ودون الأرنب ، حجازي لا أذناب لها ، وهي أقذر ما يكون.

قال جرير ، يهجو بنى نمير امرأة منهم.

تطلي وهي سيّئة المعرى *** بصنّ الوبر تحسبه ملابا

قال الصن ، جعد الوبر.

ولا بأس بأكل لحم الظباء.

وقال شيخنا في نهايته ، ولا بأس بأكل لحم الظبي ، والغزال (1).

ويمكن ان يقال الفرق بين الظبي والغزال ، ان الظبي الكبيرة ، والغزال الصغيرة.

قال الشاعر :

ولم أر مثلها نظرا وعينا *** ولا أم الغزال ولا الغزالا

وان كان كل واحد منهما يعبر به عن هذا الجنس ، الّا انّه لما اجتمعا ، أمكن ما قلناه من الفرق ، وان قيل ان المعنى واحد ، الّا انّه لما اختلف اللّفظ ، جاز ذلك ، وان كان المعنى واحدا ، كما قيل : النأي والبعد ، والكذب والمين ، ونظائر ذلك.

ولا بأس بأكل لحم البقر الوحشي ، والحمار الوحشي ، وان كان لحم الحمار

ص: 101


1- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح.

مكروها.

والقرد والسنور سواء كان بريا أو أهليا لا يجوز أكلهما.

ولا يجوز أكل السلحفاة - بفتح اللام - وهي كبار الرقاق الذي تسميه العامّة الرفش ولا جميع الرقاق والضفادع.

ولا يجوز أكل اليربوع ، والفار ، والقنافذ ، والحيات ، والعقارب ، والسرطان ، والخنافس ، وبنات وردان ، والزنانير ، وحشرات الأرض ، والضب حرام.

ولا يجوز أكل السمور والسّنجاب ، والفنك ، والخز ، وما أشبه ذلك.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه قال بعض مصنفي أصحابنا ، ان الخز هي دابة صغيرة ، تطلع من البحر تشبه الثعلب ، ترعى في البر ، وتنزل البحر ، لها وبر تعمل منه ثياب تحل فيها الصلاة ، وصيدها ، ذكاتها مثل السمك.

يعضد هذا القول ما رواه ابن أبي يعفور قال كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، إذ دخل عليه رجل من الخزازين ، فقال له جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال لا بأس بالصّلاة فيه ، فقال له الرّجل جعلت فداك انّه ميّت ، وهو علاجي ، وانا أعرفه ، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام ، انا أعرف به منك ، فقال له الرّجل انه علاجي ، وليس أحد أعرف به منى ، فتبسّم أبو عبد اللّه عليه السلام ، ثمّ قال له : تقول انّه دابة تخرج من الماء ، أو تصاد من الماء ، فتخرج ، فإذا فقد الماء مات ، فقال الرجل صدقت ، جعلت فداك ، هكذا هو ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام فإنّك تقول : انّه دابة تمشي على اربع ، وليس هو في حدّ الحيتان ، فيكون ذكاته خروجه من الماء. فقال الرجل اى واللّه ، هكذا أقول ، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام ان اللّه تعالى أحله ، وجعل ذكاته موته ، كما أحل الحيتان ، وجعل ذكاتها موتها (1).

أورد هذا الخبر شيخنا أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام ، وكثير من أصحابنا المحقّقين المسافرين ، يقولون انه القندس ، ولا يبعد هذا القول من الصواب ، لقولهم عليهم السلام « لا بأس بالصّلاة في الخز ما لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب

ص: 102


1- الوسائل ، الباب 8 ، من أبواب لباس المصلى الحديث 4.

والثعالب » (1) والقندس أشد شبها بالوبرين المذكورين.

وامّا الطّير فالحمام على اختلاف ضروبه ، وقيل ان كل مطوق فهو عند العرب حمام ، وقيل انه كل ما عب فهو حمام ، فان جميع ذلك حلال يؤكل لحمه ، مسرولا كان ، أو غير مسرول ، داجنا أو غير داجن ، والدواجن هي التي تألف البيوت ، وتستأنس فيها ، وكذلك الرّواجن أيضا - بالراء غير المعجمة - ، والأوّل بالدال غير المعجمة والجيم فيهما جميعا ، يقال ذلك للطّير ، والشّاة والبقرة ، - وكذلك جميع الدجاج حبشيا كان أو غير حبشي.

وامّا ما عدا ذلك من الطيور ، فان السّباع منها لا يحل أكلها ، وما عدا السّباع ، فان العصافير ، والقنابر ، والزرازير ، والصّعو ، والهدهد ، يؤكل لحمها.

ويكره لحم الشقراق ، - بكسر الشين والقاف ، وتشديد الراء وفتحها - ، وكذلك يكره لحم الصّرد والصّوّام ، - بضمّ الصّاد وتشديد الواو ، وفتحها - ، وهو طائر أغبر اللّون ، طويل الرّقبة ، أكثر ما يبيت في النخل. وكذلك يكره لحم الحبارى ، على رواية (2) شاذة.

والغربان على أربعة أضرب ، ثلاثة منها لا يجوز أكل لحمها.

وهي الغداف الذي يأكل الجيف ، ويفرس ، ويسكن الخرابات ، وهو الكبير من الغربان السّود.

وكذلك الأغبر الكبير ، لانّه يفرس ويصيد الدرّاج ، فهو من جملة سباع الطير.

وكذلك لا يجوز أكل لحم الا بقع ، الذي يسمى العقعق ، طويل الذنب.

فاما الرابع فهو غراب الزرع ، الصّغير من الغربان السود الذي يسمى الزاغ ، - بالزاء المعجمة ، والغين المعجمة - ، فإن الأظهر من المذهب انّه يؤكل لحمه على كراهية ، دون ان يكون لحمه محظورا.

ص: 103


1- الوسائل ، الباب 9 ، من أبواب لباس المصلي.
2- الوسائل ، الباب 21 ، من كتاب الأطعمة والأشربة ، ح 1 - 2 - 3 ، وفي الجواهر ج 36 ، ص 315 ، وهي غير دالة على الكراهة .. فراجع.

والى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وان كان قد ذهب الى خلافه ، في مبسوطة (2) ، ومسائل خلافه (3) ، فإنّه قال بتحريم الجميع.

وذهب في استبصاره (4) إلى تحليل الجميع.

وقال في مبسوطة ما يأكل الخبائث كالميتة ، ونحوها ، من الطّائر كله حرام ، وهو النّسر ، والرّخم ، والبغاث ، والغراب ، ونحو ذلك عندنا وعند جماعة. وروى ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله اتى بغراب فسماه فاسقا ، وقال ما هو واللّه من الطيبات. والغراب على أربعة أضرب ، الكبير الأسود الذي يسكن الجبال ويأكل الجيف ، والثاني الأبقع ، فهذان حرامان ، والثالث الزاغ وهو غراب الزرع ، والرابع الغداف ، وهو أصغر منه أغبر اللّون كالرّماد ، قال قوم هو حرام لظاهر الاخبار (5) ، وقال اخرون هو مباح ، وهو الذي ورد في رواياتنا (6) الى هاهنا كلامه رحمه اللّه (7).

والذي يقوّي ما اخترناه ، ان التحريم يحتاج إلى دلالة شرعيّة ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ، على الصحيح من أقوال مصنفي أصول الفقه ، ولا إجماع على حظره ، ولا اخبار متواترة ، ولا كتاب اللّه تعالى.

ولا يجوز أكل الخطاف ، ولا أكل الخشاف بغير خلاف بين أصحابنا في ذلك.

ولا يجوز أكل لحم الطواويس ، ولا الرخمة ، ولا الرخمة ، ولا الحدأة - بكسر الحاء - وما كان له مخلب ومنسر يأكل اللحم ، واما باقي الطّائر فيؤكل منه كل ما دفّ ، ويترك منه ما يصفّ ، فان كان يصف ويدف يعتبر ، فان كان دفيفه أكثر من صفيفه ، أكل ، وان كان صفيفه أكثر من دفيفه ، اجتنب ، فان لم يكن هناك طريق الى اعتبار ذلك ، بان يوجد مذبوحا ، أكل منه ما كانت له قانصة ، أو حوصلّة - بتشديد اللام

ص: 104


1- النهاية كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان ، وما لا يستباح.
2- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الأطعمة ، ص 281.
3- الخلاف كتاب الأطعمة مسألة 15.
4- الإستبصار ، ج 4 ، ص 65 ، الباب 42 ، باب كراهية لحم الغراب.
5- الوسائل ، الباب 7 ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 3 و 4 و 5 و 6.
6- الوسائل ، الباب 7 ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 1 و 2.
7- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الأطعمة ، ص 281.

أو صيصية - ، وهي الخارجة من كف الطائر ، فإنها بمنزلة الإبهام من بنى أدم ، وكل ما تحصن به صيصية ، بغير همز ، لأنّها مشتقة من الصياصي ، وهي الحصون ، والصّياصي أيضا القرون - ، ويجتنب ما لم يكن له شي ء من ذلك ، هذا إذا كان مجهول الجنس ، اعتبر بالاعتبار الذي قدّمناه ، فان كان من الجنس الذي يحل أكله ، أو من الجنس الذي يحرم اكله ، فلا يحتاج الى هذا الاعتبار.

ولا بأس بأكل لحم طير الماء ، وان كان مما يأكل السمك ، إذا اعتبر بما ذكرناه.

والطير إذا كان جلالا ، لم يجز أكله إلا بعد استبرائه وحبسه من ذلك.

وتستبرأ البطة وما أشبهها بخمسة أيام ، والدجاجة وما أشبهها بثلاثة أيّام ، على ما قدمناه (1) فيما مضى وبيناه.

وقال شيخنا في مبسوطة ، قد بينا ان حشرات الأرض كلها حرام كالحيّة ، والعقرب والفارة والخنافس ، والدّيدان ، والجعلان ، - وعدّد أشياء - ، وقال وكذلك اللحكا ، وقيل اللحكة ، وهي دويبة ، كالسمكة ، تسكن الرمل فإذا رأت الإنسان ، غاصت وتغيب فيه ، وهي صقيلة ، ولهذا تشبّه أنامل العذارى بها ، فهو حرام ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، قال الجوهري في الصّحاح : الحلكة ، مثل الهمزة ، والحلكاء مثل العنقاء ضرب من العظاء ، ويقال دويبة تغوص في الرمل ، وقال واللحكة دويبة أظنّها مقلوبة من الحلكة ، قال ابن السّكيت اللحكة دويبة شبيه بالعظا تبرق ، زرقاء ، ليس لها ذنب مثل ذنب العظاءة ، وقوائمها خفيّة ، هذا آخر كلام الجوهري.

باب الذبح وكيفيّة وجوب التسمية

الذباحة لا يجوز ان يتولاها غير معتقدي الحق ، فمتى تولاها غير معتقدي الحق

ص: 105


1- في ص 97.
2- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الأطعمة ، ص 281.

من أيّ أجناس الكفار كان ، يهوديّا كان ، أو نصرانيا ، أو مجوسيا ، أو عاب وثن ، ومن ضارعهم في الكفر على اختلاف ضروبه ، كافر ملة ، أو كافر أصل ، أو مرتدا كان سمّى على ذبيحته أو لم يسم ، فلا يجوز أكل ذبيحته عند المحصّلين من أصحابنا ، والباحثين عن مآخذ الشريعة ، والمحققين.

ولا بأس بأكل ذبيحة المستضعف ، وقد بيّناه في كتاب الطّهارة (1).

وقال شيخنا رحمه اللّه في نهايته ، ولا يتولى الذباحة إلّا أهل الحق ، فإن تولاها غيرهم ويكون ممن لا يعرف بعداوة آل محمد عليهم السلام ، لم يكن بأس بأكل ذبيحته (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه المراد بقوله « غيرهم » يعنى المستضعفين الذين لا منّا ولا من مخالفينا ، وصحيح انّهم غيرنا ، فلا يظن ظان انه أراد بغيرهم من مخالفينا المستضعفين ، لأنّ المستضعفين لا منا ولا منهم ، كما قال تعالى « لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ » (3).

ولا يحل أكل ذباحة المحق الّا بشروط.

منها استقبال القبلة بالذبيحة مع قدرته على ذلك ، فإذا لم يكن عارفا بالقبلة وكان ممن فرضه الصّلاة الى أربع جهات ، فإنه يذبح الى اى جهة شاء ، لأنها حال ضرورة ، ولانه ما تعمد ترك استقبال القبلة ، وكذلك إذا لم يقدر على استقبال القبلة بالذبيحة ، فإنه تجزيه الذباحة مع ترك الاستقبال ، لأنّها حال ضرورة ، ولم يترك الاستقبال تعمّدا منه ، بان يقع الذبيحة في بئر وما أشبه ذلك.

والتسمية ، مع الذكر لها.

وقطع أربعة أعضاء ، المري ، والحلقوم ، والودجين ، وهما محيطان بالحلقوم ، فالمرى مجرى الطعام ، والحلقوم مجرى النفس ، مع القدرة على قطعها.

ويكون قطعها بحديد مع قدرته عليه.

ص: 106


1- في الجزء الأوّل ، ص 84.
2- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الذبح وكيفيته.
3- سورة النساء ، الآية 143.

هذا إذا كان مذبوحا ، وهي الغنم والبقر وما أشبههما من الحيوان المأكول اللحم ، فان جميعه مذبوح إلّا الإبل ، فإنها منحورة. والشرائط المقدم ذكرها ثابتة ما عدا الأعضاء ، فإن نحرها في ثغرة النحر ، - وهي الوهدة - ، مجز في استباحة أكلها مع القدرة أيضا على ذلك ، فان نحرت الغنم والبقر وغيرهما ما عدا الإبل مع القدرة والتمكين من ذبحها ، فلا يجوز أكل لحمها بحال ، وكذلك ان ذبحت الإبل مع التمكين من نحرها ، فلا يجوز أكل لحمها على حال ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وكل ما يباع في أسواق المسلمين فجائز شراؤه واكله ، وليس على من يبتاعه التفتيش عنه.

ولا بأس بأن يتولى الذباحة المرأة ، والغلام الذي لم يبلغ ، إذا كان من أولاد المحقين ، فان حكمه حينئذ حكمهم ، وكذلك المجنون ، فان حكمه حكم الصبي حرفا فحرفا.

ولا بأس بذباحة الأخرس إذا كان محقّا ، وكذلك لا بأس بذباحة الجنب والحائض ، إذا فعلوا ما قدمناه من الشروط ، واحسنوه ، فان لم يحسنوا ذلك فلا يجوز أكل ما ذبحوه.

وقد قدمنا (1) انه لا يجوز الذباحة إلّا بالحديد فان لم يوجد حديد ، وخيف فوت الذبيحة أو اضطر الى ذباحتها ، جاز ان يذبح بما يفري الأوداج ، من ليطة أو قصبته ، - والليط هو القشر اللاصق بها الحاد ، مشتق من لاط الشي ء بقلبه ، إذا لصق به ، والقصبة واحدة القصب - ، أو زجاجة ، أو حجارة حادّة الأطراف ، مثل الصّخور ، والمرو ، وغير ذلك.

وكل ما ذبح وكان ينبغي ان ينحر أو نحر وكان ينبغي ان يذبح في حال الضرورة ، ثم أدرك في حال ذكاته ، وجبت ، تذكيته بما يجوز ذلك فيه ، فان لم يفعل لم يجز اكله.

ويكره ان تنخع الذبيحة إلّا بعد ان تبرد بالموت ، وهوان لا يبين الرأس من

ص: 107


1- في ص 106.

الجسد ، ويقطع النخاع ، وهو الخيط الأبيض الّذي الخرز منظومة فيه ، وهو من الرقبة ممدود الى عجب الذنب ، واكله عند أصحابنا حرام ، من جملة المحرمات التي في الذبيحة ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى (1).

فان سبقته السكين ، وابان الرأس ، جاز اكله ، ولم يكن ذلك الفعال مكروها ، وانما المكروه تعمد ذلك ، دون ان يكون محظورا على الأظهر من أقوال أصحابنا ، بلا خلاف بين المحصّلين في ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن السنة ان لا تنخع الذبيحة إلّا بعد ان تبرد ، وهو ان لا يبين الرّأس من الجسد ، ويقطع النخاع ، فان سبقته السكين وابان الرأس ، جاز أكله إذا خرج منه الدم ، فان لم يخرج الدم لم يجز اكله ، ومتى تعمد ذلك لم يجز أكله (2).

الّا انه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني ، فقال مسألة : يكره إبانة الرأس من الجسد وقطع النخاع ، قبل ان تبرد الذبيحة ، فإن خالف وابان ، لم يحرم اكله ، وبه قال جميع الفقهاء ، وقال سعيد بن المسيب ، يحرم اكله ، دليلنا ان الأصل الإباحة ، وأيضا قوله « فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ » (3) وهذا ذكر اسم اللّه عليه ، وعليه إجماع الصحابة ، روى عن عليّ عليه السلام ، انه سئل عن بعير ضربت رقبته بالسيف ، فقال يؤكل وعمران بن حصين قيل له في رجل ذبح بطة ، فأبان رأسها ، فقال تؤكل وعن ابن عمر نحوه ، ولا مخالف لهم هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة (4).

وما أورده في نهايته لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، وانما أورده إيرادا لا اعتقادا ، على ما تكرر قولنا في ذلك ، واعتذارنا له.

وإذا قطعت رقبة الذبيحة من قفاها ، فلحقت قبل قطع الحلقوم ، والمري ، والودجين ، وفيها حياة مستقرة ، وعلامتها ان تتحرك حركة قوية ، ومثلها يعيش اليوم

ص: 108


1- في ص 111.
2- النهاية كتاب الصيد والذبائح باب الذبح وكيفيته.
3- سورة الانعام الآية 118.
4- الخلاف كتاب الضحايا مسألة 13.

واليومين ، حل أكلها إذا ذبحت ، وان لم تكن فيها حركة قوية ، لم يحل أكلها ، لأنها ميتة.

ويكره ان ان يقلب السكين فتذبح الى فوق ، بل ينبغي ان يبتدئ من فوق الى ان يقطع الأعضاء الأربعة المقدم ذكرها.

وقال شيخنا في نهايته ، ولا يجوز ان يقلب السّكين ، فتذبح الى فوق.

قوله رحمه اللّه « ولا يجوز » على تغليظ الكراهية ، دون انّه لو فعله لكانت الذبيحة محرمة اللّحم ، لأنّ تحريمها يحتاج إلى دلالة شرعية ، ولا دليل على ذلك ، والأصل الإباحة ، وشرائط الأجزاء فقد فعلها ، من استقبال القبلة ، والتسمية ، وقطع الحلقوم ، والمري ، والودجين.

ويستحب إذا أراد ذبح شي ء من الغنم ، فليعقل يديه ، وفرد رجله ، ويطلق فرد رجله ، ويمسك على صوفه أو شعره الى ان يبرد ، ولا يمسك على شي ء من أعضائه.

وكذلك يستحب له إذا أراد ذبح شي ء من البقر أن يعقل يديه ورجليه ، ويطلق ذنبه.

وإذا أراد نحر شي ء من الإبل ، يستحب له ان يشد أخفافه إلى إباطه ، ويطلق رجليه.

وإذا أراد ذبح شي ء من الطير ، فليذبحه ، وليرسله ، ولا يمسكه ، ولا يعقله.

فان انفلت منه الطير ، جاز ان يرميه بالسهم بمنزلة الصيد ، فإذا لحقه ذكّاه.

وأورد شيخنا في نهايته ، انه لا يجوز ذبح شي ء من الحيوان صبرا ، وهو ان يذبح شيئا وينظر اليه حيوان آخر (1).

وهذه رواية (2) أوردها إيرادا ، فإن صحت ، حملت على الكراهيّة ، دون الحظر ، لانه لا دليل على حظر ذلك ، وتحريمه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل الإباحة.

ص: 109


1- النهاية كتاب الصيد والذبائح باب الذبح وأحكامه.
2- الوسائل الباب 7 من أبواب الذبائح.

وروى (1) انه لا يجوز ان تسلخ الذبيحة إلّا بعد بردها ، فان سلخت قبل ان تبرد ، أو سلخ شي ء منها لم يجز أكله ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا ، لانّه لا دليل على حظر ذلك من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، واخبار الآحاد لا يرجع بها عن الأصول المقرّرة الممهدة ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وكتاب اللّه تعالى أحق ان يتمسّك به ، ولا يلتفت الى هذه الرّواية الشاذة المخالفة لأصول المذهب ، وهو قوله تعالى « فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ » (3) وهذا قد ذكر اسم اللّه عليه ، وذبح ذباحة شرعية ، وحصلت جميع الشّرائط المعتبرة في تحليل الذباحة ، فمن ادعى بعد ذلك حظرها ، يحتاج إلى دلالة شرعية لأنه قد ادعى حكما شرعيّا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي. ولن يجده.

وإذا ذبحت الذبيحة ، فلم يخرج الدم ، أو لم يتحرك شي ء منها ، لم يجز أكلها ، فإن خرج الدم ، أو تحرك شي ء من أعضائها ، يدها ، أو رجلها ، أو غير ذلك ، جاز اكله ، فالمعتبر على الصحيح من المذهب ، أحد الشيئين في تحليل أكلها ، امّا خروج الدّم الذي له دفع ، أو الحركة القوية ، أيهما كان جاز أكلها.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، الاعتبار في جواز الأكل بعد الذبح بمجموع الشيئين معا (4).

والأوّل هو الأظهر ، لأنه يعضده ظواهر القرآن ، والاخبار المتواترة.

وإذا ذبح شاة ، أو غيرها ، ثم وجد في بطنها جنين ، فان كان قد أشعر ، أو أوبر ، ولم تلجه الروح ، فذكاته ذكاة امه ، فان لم يكن أشعر أو أو بر لم يجز اكله على حال ، الّا ان يكون فيه روح ، فان كانت فيه روح ، فان لم يشعر ولا أوبر وجبت تذكيته ، والّا فلا يجوز أكله ، إذا لم تدرك ذكاته.

ص: 110


1- الوسائل الباب 8 من أبواب الذبائح الّا ان عدم الحلية في روايات الباب منوط بأنه إذا سلخت قبل ان تموت.
2- النهاية كتاب الصيد والذبائح باب الذبح وأحكامه.
3- سورة الأنعام الآية 118.
4- المقنعة باب الذبائح والأطعمة ص 580.

وروى (1) كراهية الذباحة بالليل ، الّا عند الضرورة والخوف من فوتها.

وكذلك روى (2) انه يكره الذباحة بالنهار يوم الجمعة ، قبل الصّلاة.

باب ما يحل من الميتة ويحرم من الذبيحة ، وحكم البيض والجلود

يحرم من الغنم والبقر والإبل ، وغير ذلك ممّا يحل اكله بالذبح ، ما عدا السّمك ، وان كان الحيوان مذكى ذكاة شرعية بالذبح ، أو النحر : الدم ، والفرث ، والطحال ، والمرارة ، والمشيمة ، والفرج ، ظاهره وباطنه ، والقضيب ، والأنثيان ، والنخاع - بضم النّون وكسرها معا - ، وقد قدّمنا (3) شرح ذلك ، والعلباء ، - بكسر العين ، وهي عصبتان عريضتان صفراوان ممدودتان من الرقبة على الظهر ، الى عجب الذنب - والغدد ، وذات الأشاجع ، والأشاجع أصول الأصابع التي تتّصل بعصب ظاهر الكف ، الواحد أشجع ، ومنه قول لبيد :

وانه يدخل فيها - إصبعه *** يدخلها حتى توارى اشجعه

والحدق ، الذي هو السّواد ، والخرزة ، تكون في الدّماغ ، والدّماغ المخ ، يخالف لونها لون المخ ، هي بقدر الحمصة إلى الغبرة ما يكون ، والمثانة بالثاء المنقطة بثلاث نقط ، وهي موضع البول ومحقنه.

وتكره الكليتان ، وليستا بمحظورتين.

ويحل من الميتة غير المذبوحة المذكاة ، الصوف والشعر والوبر ، والرّيش ، سواء قلع جميع ذلك ، أو جزّ ، الا انّه إذا قلع وعليه شي ء من الميتة ، أو فيه شي ء من ذلك ، وجب ازالة ذلك ، وغسله واستعماله بعد ذلك ، من غير ان يحرم إذا قلع.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ولا يحل شي ء منه إذا قلع منها (4).

يعنى لا يحل استعماله إذا قلع قبل إزالة الميتة منه ، أو قبل غسله ، دون تحريمه

ص: 111


1- الوسائل الباب 21 من أبواب الذبائح الحديث 2.
2- الوسائل الباب 20 من أبواب الذبائح.
3- في ص 108.
4- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب ما يحلّ من الميّتة.

رأسا ، لأنه لا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع.

ويحل أيضا العظم ، والناب ، والسن ، والظلف ، والحافر ، والقرن ، وكل من ذلك إذا قلع من الميتة ، أو لامسها ، لا يستعمل الّا بعد غسله وازالة ما عليه من الدسم.

وذكر شيخنا أبو جعفر ، في نهايته ، إلا نفحة ، ( بكسر الهمزة ، وفتح الفاء كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل ، فإذا أكل فهي كرش ) (1) واللبن والبيض ، إذا اكتسى الجلد الفوقاني ، وإذا لم يكتس ذلك ، فلا يجوز اكله (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه اما اللبن فإنه نجس بغير خلاف عند المحصّلين من أصحابنا ، لأنه مائع في ميتة ، ملامس لها ، وما أورده شيخنا في نهايته ، رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب ، لا يعضدها كتاب اللّه تعالى ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، ودليل الاحتياط يقتضي ما ذكرناه ، لانّه لا خلاف بين المسلمين ، انه إذا لم يأكل هذا اللبن ، فإنه غير معاقب ، ولا مأثوم ، وذمته برية من الآثام ، وإذا أكله فيه الخلاف ، والاحتياط يقتضي ما ذكرناه.

والى ما اخترناه يذهب شيخنا أبو يعلى سلار الطبرستاني رحمه اللّه ، في رسالته (3).

ولأجل ذلك قالوا يحل البيض إذا كان قد اكتسى الجلد الصلب ، فاعتبروا الجلد الفوقاني والصلب ، فإذا لم يكن عليه الجلد الصلب ، فلا يحل ، لانّه يكون بمنزلة المائع ، ينجس بمباشرة الميتة له.

وإذا جعل الطحال في سفود مع اللحم ، ثمّ جعل في التنور ، فان كان مثقوبا وكان فوق اللحم ، لم يؤكل اللحم ، ولا ما كان تحته من الجوذاب ، وان كان الطحال المثقوب تحت اللحم ، أكل اللحم ولم يؤكل الجوذاب ، وان لم يكن الطحال مثقوبا ، جاز أكل جميع ما يكون تحته من اللحم وغيره.

ص: 112


1- ما وقع في القوسين ليس في المصدر.
2- النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب ما يحلّ من الميتة.
3- المراسم ، ذكر الصيد والذبائح والعبارة هكذا ، ولا يؤكل ما يوجد في بطون الميتة إلّا ما لحقته الذكاة ..

وإذا اختلط اللحم الذكي بلحم الميتة ، ولم يكن هناك طريق الى تمييزه منها ، لم يحلّ أكل شي ء منه ، ولا يجوز بيعه ، ولا الانتفاع به.

وقد روى (1) انه يباع على مستحل الميتة.

والأولى اطراح هذه الرواية ، وترك العمل بها ، لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ، ولان الرسول عليه السلام ، قال ان اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه (2).

ولا يجوز ان يأكل الميتة إلّا إذا خاف تلف النفس ، فإذا خاف ذلك أكل منها ما يمسك رمقه ، وهو بقية الحياة ، ولا يجوز له الامتلاء منها.

والباغي الذي يبغى الصيد بطرا ولهوا وقال بعض أصحابنا ، الباغي هو الذي يبغى على امام المسلمين ، والعادي الذي يقطع الطريق ، لم يحل لهما أكل الميتة ، وان اضطرا إليها ، لقوله تعالى « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ » (3).

ويؤكل من البيض ما كان بيض ما يؤكل لحمه على كل حال.

وإذا وجد الإنسان بيضا ، ولم يعلم اهو بيض ما يؤكل لحمه ، أو بيض ما لا يؤكل لحمه؟ اعتبر ، فما اختلف طرفاه أكل ، وما استوى طرفاه اجتنب.

وقد ذهب بعض أصحابنا الى ان بيض السمك ما كان منه خشنا ، فإنه يوكل ، ويجتنب الأملس ، والمنماع ، ولا دليل على صحّة هذا القول من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع.

ولا خلاف ان جميع ما في بطن السّمك طاهر ، ولو كان ذلك صحيحا لما حلت الضجباة.

فاما الجلود فعلى ضربين ، ضرب منها جلد ما يوكل لحمه ، فمتى ذكى ، جاز استعماله ولبسه ، والصّلاة فيه ، سواء دبغ أو لم يدبغ ، إذا كان خاليا من نجاسة ، وما لم يذك ومات ، فلا يجوز استعمال جلده ، ولا الانتفاع به في شي ء من الأشياء ،

ص: 113


1- الوسائل ، الباب 36 من كتاب الأطعمة والأشربة ح 1 - 2.
2- لم نجده في المجاميع الروائية ، نعم في المستدرك الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 8 عن عوالي اللئالى عنه صلى اللّه عليه وآله انه قال - في حديث - : « ان اللّه تعالى إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه ».
3- سورة البقرة الآية 173.

لا قبل الدباغ ولا بعده ، لأنه ميتة.

وما لا يوكل لحمه : فعلى ضربين ، ضرب منهما لا يجوز استعماله لا قبل الذكاة ولا بعدها ، دبغ أو لم يدبغ ، وهو جلد الكلب والخنزير.

والضرب الآخر يجوز استعماله بشرطين ، الذكاة الشرعية ، والدباغ ، فاما بيعه فيجوز بعد الذكاة وقبل الدباغ ، فاما استعماله لا يجوز الّا بعد الدباغ ، فإذا دبغ ، جاز استعماله في جميع الأشياء ، مائعا كان ، أو غير مائع ، لأنّه طاهر بغير خلاف ، إلّا في الصّلاة ، فإنّه لا يجوز الصّلاة فيه بغير خلاف بيننا مع الاختيار ، وهي جلود جميع السّباع كلها ، مثل النمر ، والذئب ، والفهد ، والسّبع ، والسمور ، والسنجاب ، والفنك ، والأرنب والثعلب ، وما أشبه ذلك من السّباع والبهائم وقد رويت (1) رخصة في جواز الصّلاة في السمور ، والسنجاب ، والفنك ، والأصل ما قدمناه (2).

وهذا رجوع من شيخنا عما ذكره في الجزء الأول من نهايته ، في انه لا بأس بالصّلاة في السنجاب على ما قدمناه (3).

ولا يجوز استعمال شي ء من هذه الجلود ما لم يذك ، فان استعمله إنسان قبل الذكاة ، نجست يده ، ووجب عليه غسلها عند الصّلاة.

وكذلك شعر الخنزير ، لا يجوز للإنسان استعماله مع الاختيار ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وان كان قد ذهب منهم قوم الى جواز استعماله ، وتمسك بأنه لا تحله الحياة ، الّا أن أخبارنا (4) متواترة عن الأئمة الأطهار ، بتحريم استعماله ، والاحتياط يقتضي ذلك ، فان اضطر الى استعماله فليستعمل منه ، ما لم يكن فيه دسم ، بان يتركه في فخار ، ويجعله في النّار ، فإذا ذهب دسمه ، استعمله عند الضرورة والحاجة اليه ، ويغسل يده عند حضور الصّلاة ، على ما وردت الاخبار (5)

ص: 114


1- الوسائل ، الباب 3 - 4 من أبواب لباس المصلي.
2- النهاية : كتاب الصيد والذبائح ، باب ما يحلّ من الميتة.
3- في الجزء الأول ص 262.
4- وفي الجواهر ج 36 ص 399 بعد نقل كلام السرائر ، وان كنا لم نظفر بخبر واحد كما اعترف به في كشف اللثام.
5- الوسائل ، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به والباب 65 من كتاب الأطعمة الأشربة.

بذلك.

وروى (1) انه يجوز أن يعمل من جلود الميتة دلو يستقى به الماء ، لغير وضوء الصّلاة ، والشرب.

وإذا قطع شي ء من أليات الغنم ، وهي أحياء ، لم يجز اكله ، ولا الاستصباح به ، لأنّه ميتة ، لا تحت السّماء ، ولا تحت الظلال ، وحمله على الدهن النجس قياس لا نقول به.

وروى (2) انه يكره للإنسان أن يربّي شيئا من الغنم ، ثمّ يذبحه بيده ، بل إذا أراد ذبح شي ء من ذلك ، فليشتره في الحال وليس ذلك بمحظور.

ص: 115


1- لم نجده في مجاميع الحديث.
2- الوسائل ، الباب 40 من أبواب الصيد والذبائح ح 1 - 2.

ص: 116

كتاب الأطعمة والأشربة

اشارة

ص: 117

كتاب الأطعمة والأشربة

باب الأطعمة المحظورة والمباحة

الترتيب في معرفة ما يحلّ أكله من الحيوان ، وما لا يحل ، ان يرجع الى الشرع ، فما أباحه الشرع ، فهو مباح ، وما حظره فهو محظور وما لم يكن له في الشرع ذكر أصلا ، فلا يخلو أن يكون حيوانا في حال حياته أو بعد أن تفارقه الحياة فإن كان في حال الحياة ، فهو محظور ، لان ذبح الحيوان محظور الا بالشرع ، وان لم يكن حيوانا كان مباحا ، لأن الأشياء على الأظهر عند محققي أصول الفقه ، على الإباحة.

فأمّا ما حرم شرعا فجملته ، ان الحيوان ضربان ، طاهر ونجس ، فالنجس ، الكلب ، والخنزير ، وما عداهما ، كله طاهر في حال حياته ، بدلالة إجماع أصحابنا المنعقد ، على انهم أجازوا شراب سؤرها ، والوضوء منه ، ولم يجيزوا ذلك في الكلب والخنزير ، وأجازوا استعمال جلودها بعد التذكية والدباغ ، ولم يجيزوا ذلك في الكلب والخنزير بحال.

فأما الصّلاة فيها فلا يجوز بحال على ما قدمناه (1).

فإذا ثبت هذا ، فكل ما كان نجسا في حال الحياة ، لم يحل اكله بلا خلاف.

وما كان طاهرا في حال الحياة ، فعلى ضربين ، مأكول اللحم وغير مأكول اللحم.

فالسباع كلها محرمة الأكل ، سواء كانت من البهائم ، أو من الطير ، بلا خلاف على ما أسلفنا القول فيه وبيناه (2).

ص: 118


1- في الجزء الأول ص 262.
2- في الجزء الأول ص 262.

وكذلك حشرات الأرض ، كلها حرام ، مثل الحية ، والعقرب ، والفأرة ، والديدان ، والجعلان ، والذباب ، والخنافس ، والبق والزنابير ، والنحل.

والسباع كلها سواء كانت ذوات أنياب قوية تعدو على الناس ، كالسبع ، والنمر ، والذئب ، والفهد ، أو كانت ذوات أنياب ضعيفة لا تعدو على الناس ، مثل الضبع ، والثعلب ، والأرنب ، وما أشبه ذلك ، واليربوع ، والضب ، وابن آوى ، والسنور ، بريّا كان أو أهليا على ما قدمناه (1). والوبر ، والقنفذ ، والفيل ، والدبّ والقرد ، والمجثمة ، - بالجيم ، والثاء المنقطة ثلاث نقط - ، كلها حرام ، وهي من الوحش والطير ، التي تجعل غرضا ، ولا تزال ترمى بالنشاب حتى تموت.

والمصبورة أيضا حرام ، وهي التي تجرح وتحبس حتى تموت ، لنهي النبيّ عليه السلام (2) عن تصبير البهائم ، وعن أكلها ، بلا خلاف.

وقال قوم : « المجثمة » هي ان ترميها وهي جاثمة ، وقيل هي الشاة ، تشد ثم ترمى ، كأنها تقتل صبرا.

فاما الطائر فعلى ضربين ، ذي مخلب ، وغير ذي مخلب.

فاما ذو المخلب ، فهو الذي يقتل بمخاليبه ، ويعدو على الطائر والحمام ، كالبازي والصقر ، والعقاب ، والباشق ، والشّاهين ، ونحو هذا ، فجميعه حرام اكله على ما قدمناه فيما مضى وشرحناه (3).

فاما ما لا مخلب له ، فعلى ضربين ، ما يأكل الخبائث ، كالميتة ونحوها ، فكله حرام ، مثل النسر ، والرخم ، والبغاث التي لا تفرس ، فلا يؤكل لحمها.

قال الجاحظ في كتاب الحيوان وان الطير كله سبع وبهيمة وهمج.

والسباع من الطير على ضربين ، فمنها العتاق ، والأحرار ، والجوارح ، ومنها البغاث ، وهو كل ما عظم من الطير ، إذا لم يكن من ذوات السّلاح والمخاليب

ص: 119


1- في ص 101 وص 98.
2- صحيح البخاري الباب 25 من كتاب الذبائح الحديث 1 ( الرقم 5165 ) ج 20 ص 104 فيه عن انس نهى النبي عن تصبر البهائم. وفي صحيح مسلم ، الباب 12 من كتاب الصيد ، الرقم 2. ج 3 ، ص 1549 ، مثله.
3- في ص 104.

المعققة ، كالنّسر ، والزمج ، وأشباههما ، من لئام السباع ، والسّبع من الطير ما أكل اللحم خالصا ، والبهيمة ما أكل الحب خالصا ، والغراب الا بقع ، والأغبر ، والغداف ، على ما قدمنا القول في جميع ذلك (1) ، لان جميع ذلك مستخبث ، وداخل في تحريم الخبائث.

فاما المستطاب من الطائر ، كالحمام ، إنسيّة ، ووحشيّة ، والفواخت ، وكل مطوق كالقماري ، والدباسي ، والورشان ، والدرّاج ، والدجاج ، والقباج ، والطيهوج ، والكراكي ، والكروان ، والحبارى ، ونحو ذلك كله حلال اكله.

وكل طعام حصل فيه شي ء من الخمر ، أو النبيذ ، أو المسكر ، أو الفقاع ، قليلا ، كان ما حصل فيه ، أو كثيرا ، فإنه ينجس ذلك الطعام ، ولا يجوز استعماله على حال.

وان كانت القدر تغلي على النار ، فوقع فيها شي ء من الخمر أهريق ما فيها من المرق ، وغسل اللحم ، والتوابل ، وأكل بعد ذلك.

فان حصل فيها شي ء من الدم فكذلك سواء كان الدم قليلا أو كثيرا ، إذا كان دما نجسا ، لأن في الدماء ما هو طاهر عندنا بغير خلاف ، وهو دم السّمك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فان حصل فيها شي ء من الدم ، وكان قليلا ، ثم على ، جاز أكل ما فيها ، لان النار تحيل الدم ، فان كان كثيرا لم يجز أكل ما وقع فيه (2).

وهو رواية (3) شاذة مخالفة لأصول المذهب ، أوردها في كتابه إيرادا ، ولا يرجع عن الأدلة القاهرة ، إلّا بمثلها.

قوله « وان كان قليلا ثمّ غلى جاز أكل ما فيها لأنّ النّار تحيل الدم » قول عجيب ، هب ، انّ النّار احالته ، المائع الذي قد وقع فيه أليس قد نجسه وقت وقوعه فيه؟! والنّار ، لعمري ما أذهبت جميع المرق ، وما عهدنا ، ولا ذهب أحد من أصحابنا ، الى

ص: 120


1- في ص 104.
2- النهاية ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأطعمة المحظورة والمباحة.
3- الوسائل ، الباب 44 من كتاب الأطعمة والأشربة ح 2.

ان المائع النجس بالغليان يطهر ، الّا ما خرج بالدليل من العصير ، إذا ذهب بالنّار والغليان ثلثاه ، فقد طهر وحلّ ثلث الباقي ، على ما يأتي بيانه (1).

وكل طعام حصل فيه شي ء من الميتات مما له نفس سائلة ، فإنه ينجس بحصوله فيه ، ولا يحل استعماله ، فان كان ما حصل فيه الميتة جامدا ، مثل السمن ، والعسل ، القي منه وما حوله ، واستعمل الباقي ، وان كان ما حصل فيه الميتة مائعا ، لم يجز استعماله ، ووجب إهراقه ، وان كان دهنا ، مثل الشيرج والبزر ، جاز الاستصباح به تحت السماء ، ولا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ، لأنّ دخانه نجس ، بل تعبّد تعبّدنا به ، لان دخان الأعيان النجسة ورمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا ، ولا يجوز الادهان به ، ولا استعماله في شي ء من الأشياء ، سوى الاستصباح تحت السّماء.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في كتاب الأطعمة ، وروى (2) أصحابنا انّه ، يستصبح به تحت السّماء ، دون السّقف ، وهذا يدل على ان دخانه نجس قال رحمه اللّه : غير ان عندي ان هذا مكروه ، فاما دخانه ودخان كل نجس من العذرة وجلود الميتة ، كالسرجين والبعر ، وعظام الميتة ، عندنا ليس بنجس واما ما يقطع بنجاسته ، قال قوم دخانه نجس ، وهو الذي دلّ عليه الخبر (3) الذي قدمناه من رواية أصحابنا ، وقال آخرون وهو الأقوى ، انه ليس بنجس ، فاما رماد النجس فعندنا طاهر ، وعندهم نجس ، وانما قلنا ذلك ، لما رواه (4) أصحابنا من جواز السجود على جص ، أوقد عليه بالنجاسات ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (5).

قوله رحمه اللّه « وروى أصحابنا انه يستصبح به تحت السّماء دون السقف ،

ص: 121


1- في ص 129.
2- الوسائل ، الباب 43 من كتاب الأطعمة والأشربة ح 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - وفي الجواهر ج 36 ص 385 ، لكن إطلاق النصوص يقتضي خلافه بل في كشف اللثام ، لم نظفر بخبر مفصل ولا ناه عن الاستصباح مطلقا أو تحت الأظلّة ، فراجع.
3- إشارة إلى الرواية المتقدمة التي نقلناها عن الوسائل.
4- الوسائل ، الباب 81 من أبواب النجاسات ح 1.
5- المبسوط ، ج 6 ، ص 283.

وهذا يدل على أن دخانه نجس ، غير ان عندي ان هذا مكروه » يريد به الاستصباح تحت السقف.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ما ذهب أحد من أصحابنا الى ان الاستصباح به تحت الظلال مكروه ، بل محظور بغير خلاف بينهم ، وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه ، الا ما ذكره هاهنا ، فالأخذ بقوله ، وقول أصحابه ، أولى من الأخذ بقوله المنفرد عن أقوال أصحابنا.

فأمّا بيعه فلا يجوز الّا بشرط الاستصباح به تحت السماء ، دون الظلال.

وكل ما ليس له نفس سائلة ، مثل الجراد والنمل ، والنحل ، والزنابير ، والخنافس ، وبنات وردان ، والذباب ، والعقارب ، وما أشبه ذلك ، إذا مات في شي ء من الطعام والشراب ، جامدا كان أو مائعا فإنه لا ينجس بحصوله فيه وموته.

ولا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف آرائهم ، بأيّ أنواع الكفر كانوا ، ولا استعمال أوانيهم التي باشروها بالمائعات ، إلّا بعد غسلها بالماء.

وكل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم ، وباشروه بنفوسهم ، لم يجز أكله ، لأنهم أنجاس ، ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه ، ولأن أسئارهم نجسة على ما قدمناه في كتاب الطّهارة (1). فأمّا ما لا تقبل النجاسة ، مثل الحبوب وما أشبهه ، فلا بأس باستعماله ، وان باشروه بأيديهم وأنفسهم ، إذا كانت يابسة.

ولا يجوز استعمال أواني المسكر ، الّا بعد غسلها بالماء ، على ما قدمناه وحررناه في كتاب الطهارة (2).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ولا يجوز استعمال أواني المسكر ، إلّا بعد أن تغسل بالماء ، ثلاث مرات ، وتجفف (3).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، ليس على وجوب التجفيف دليل من كتاب ،

ص: 122


1- الجزء الأول ، ص 84. ط. مؤسسة النشر الإسلامي.
2- في الجزء الأول ، ص 92.
3- النهاية ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأطعمة المحظورة والمباحة ، والعبارة هكذا ، ولا يجوز استعمال أواني الشراب المسكر ..

ولا سنة ، ولا إجماع ، وامّا غسلها ثلاث مرات ، فبعض أصحابنا يوجبه ، وبعض منهم لا يرى ، ولا يراعي عددا في المغسول ، إلّا في الولوغ خاصة.

وروي (1) رواية أنّها تغسل سبع مرّات.

وإذا حصلت ميتة لها نفس سائلة في قدر أهريق ما فيها من المرق ، وغسل اللحم والتوابل ، وأكل بعد ذلك.

ولا بأس بأكل ما باشره الجنب والحائض ، من الخبز والطبخ ، وأشباه ذلك ، من الإدام ، إذا كانا مأمونين. ويكره أكله إذا عالجه من لا يتحفظ ولا يؤمن عليه إفساد الطعام بالنجاسات.

ولا يجوز الأكل والشرب للرجال والنساء جميعا في أواني الذهب والفضّة ، ولا استعمالها في بخور ولا غيره ، حتى ان بعض أصحابنا حرم المأكول الذي فيهما ، وهو شيخنا المفيد في بعض كلامه (2) ، فان كان هناك قدح مفضض ، يجتنب موضع الفضّة منه عند الشرب.

ولا بأس بما عدا الذهب والفضّة من الأواني ثمينة كانت أو غير ثمينة ، من صفر ، أو نحاس ، أو بلور ، - بكسر الباء ، وفتح اللام ، وتشديدها.

ولا بأس بطعام أو شراب أكل أو شرب منه سنور ، أو فأر. وروى (3) كراهية ما أكل منه الفار ، وليس ذلك بمحظور ، لان سؤر السنور والفار وسائر الحشار طاهر.

ورويت (4) رواية شاذّة انّه يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل معه ، فان دعاه ، فليأمره بغسل يده ، ثم يأكل معه ان شاء ، أوردها شيخنا في نهايته (5) إيرادا ، لا اعتقادا.

ص: 123


1- الوسائل : الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة ج 2 ، ولفظ الحديث هكذا سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ ، فقال تغسله سبع مرات وكذلك الكلب.
2- لم نعتر عليه.
3- الوسائل ، الباب 91 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1.
4- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب النجاسات ، ح 2 ، ولا يخفى ان هذه تدل على كراهة الدعوة فحسب.
5- النهاية ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأطعمة المحظورة والمباحة.

وهذه الرّواية لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنها مخالفة لأصول المذهب ، لأنا قد بيّنا بغير خلاف بيننا ، أنّ سؤر الكفّار نجس ، ينجس المائع بمباشرته ، والأدلة لا تتناقض ، وبإزاء هذه الرواية روايات كثيرة بالضد منها ، وأيضا الإجماع على خلافها.

قال السيد المرتضى في انتصاره ، مسألة ، ومما انفردت به الإماميّة ، ان كل طعام عالجه الكفار من اليهود والنصارى ، وغيرهم ، ممن ثبت كفرهم بدليل قاطع ، فهو حرام لا يجوز اكله ، ولا الانتفاع به ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ، وقد دلّلنا على هذه المسألة في كتاب الطهارة حيث دلّلنا على انّ سؤر الكفّار نجس ، لا يجوز الوضوء به ، واستدللنا بقوله تعالى « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » (1) واستقصيناه ، فلا معنى لإعادته هذا آخر كلام المرتضى رضى اللّه عنه (2).

ولا يجوز أكل شي ء من الطين على اختلاف أجناسه ، سواء كان أرمنيّا ، أو من طين البحيرة ، أو غير ذلك ، الّا طين قبر الحسين عليه السلام فإنّه يجوز أن يؤكل منه اليسير ، للاستشفاء فحسب ، دون غيره ، ولا يجوز الإكثار منه ، ولا الإفطار عليه يوم عيد الفطر ، على ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر في مصباحه (3) ، الا انه عاد عنه في نهايته ، فإنه قال ولا يجوز أكل شي ء من الطين على اختلاف أجناسه ، إلا طين قبر الحسين عليه السلام ، فإنه يجوز ان يؤكل منه اليسير للاستشفاء به (4).

ولا بأس أن يأكل الإنسان من بيت من ذكره اللّه تعالى في قوله ، « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا » (5) الآية ، بغير إذنه ، إذا دخل البيت باذنه ، سواء كان المأكول مما يخشى عليه الفساد ، أولا يخشى ذلك عليه ، ما لم ينهه عن الأكل. وذهب بعض أصحابنا إلى انه لا يؤكل الّا ما يخشى عليه الفساد والأول هو الظاهر ، ولا يجوز ان يحمل معه شيئا ، ولا إفساده.

ص: 124


1- سورة التوبة الآية 28.
2- الانتصار ، في الأطعمة والأشربة.
3- مصباح المتهجد ص 676 والمستفاد مما أوردها فيه جواز الاستشفاء بطين قبر الامام الحسين عليه السلام فحسب.
4- النهاية ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأطعمة المحظورة والمباحة.
5- سورة النور الآية 61.

ولا بأس بأكل الثوم ، والبصل ، والكراث ، مطبوخا ونيئا ، - بكسر النون ، وهمز الياء ومدّها - ، غير ان من يأكل ذلك نيئا يكره له دخول المساجد ، لئلا يتأذى النّاس برائحته لنهيه (1) عليه السلام من ان يقرب المسجد حتى تزول رائحته.

وإذا نجس الماء بحصول شي ء من النجاسات فيه ، ثم عجن به وخبز ، لم يجز أكل ذلك الخبز ، وروى في شواذ الاخبار جواز اكله وان النّار قد طهرته (2) ، والأصل ما قدمناه.

وإذا وجد الإنسان طعاما ، فليقومه على نفسه ويأكل منه ، فإذا جاء صاحبه ، ردّ عليه ثمنه ، وقد قدمنا ذلك في كتاب اللقطة (3).

ولا بأس بألبان الأتن حليبا ويابسا ، فإنه طاهر عندنا.

وكذلك لبن الآدميّات طاهر عندنا بغير خلاف من در ولادة ابن ، أو بنت ، وروي (4) في شواذ الاخبار ، ان لبن البنت نجس ، والأصل ما قدمناه.

ولا بأس بشرب أبوال الإبل ، وكلّ ما أكل لحمه من البهائم ، امّا للتداوي أو غيره.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ولا بأس بأن يستشفى بأبوال الإبل (5).

ولم يذكر غيرها ، وليس ذكره لها دليلا على ان غيرها لا يجوز الاستشفاء به ، ولا يجوز شربه ، لأنا بلا خلاف قد بيّنا ، أن أبوال ما يؤكل لحمه ، طاهرة غير نجسة.

إذا اضطر إلى أكل الميتة ، يجب عليه أكلها ، ولا يجوز له الامتناع منه ، دليلنا ما علمناه ضرورة من وجوب دفع المضار عن النفس عقلا ، وإذا كان الأكل من

ص: 125


1- الوسائل الباب 128 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1 ، وفي مستدرك الوسائل الباب 100 من أبواب الأطعمة المباحة ح 7.
2- الوسائل ، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 18.
3- الجزء الثاني ص 106.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب النجاسات ح 4 ولفظ الحديث هكذا ، لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم ، وفي مستدرك الوسائل الباب 2 من أبواب النجاسات ح 1 - 3.
5- النهاية كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأطعمة المحظورة والمباحة.

الميتة في حال الاضطرار ، يدفع به الضرر العظيم عن نفسه ، وجب عليه ذلك.

إذا اضطرّ إلى طعام الغير ، لم يجب على الغير إعطاؤه ، لأن الأصل براءة الذمّة ، وإيجاب ذلك يحتاج الى دليل.

إذا وجد المضطر ميتة وصيدا حيّا وهو محرم ، اختلف أقوال أصحابنا وأحاديثهم فبعض يذهب إلى أنّه يأكل الصيد ، وبعض يذهب إلى أنّه يأكل الميتة ، وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن الصيد إذا كان حيّا فذبحه المحرم ، كان حكمه حكم الميتة ، ويلزمه الفداء ، فإن أكل الميتة أولى ، من غير ان يلزمه فداء ولا اثم ، والاولى ان تحمل الروايات التي وردت بأكل الصيد ، على من وجد الصيد مذبوحا قد ذبحه محل في غير الحرم ، فإن الأولى ان يأكله ويفدي ، ولا يأكل الميتة ، والى هذا التحرير ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في مسائل خلافه في الجزء الثالث من كتاب الأطعمة (1).

إذا اضطر الى شرب الخمر للعطش ، فله شربه ، فان اضطر إليه للتداوي ، أو الجوع ، فلا يجوز له تناوله بحال ، لا للتداوي للعين ، ولا لغيرها ، لما روى (2) من انه ما جعل شفاء في محرم ، وأيضا فتحريمها معلوم من دين الرّسول عليه السلام وتحليلها يحتاج الى دليل.

إذا مرّ إنسان بحائط غيره ، يعنى ببستانه ، لأن الحائط عبارة عن البستان ، وبثمرته ، جاز له ان يأكل منها ، سواء كان في حال ضرورة ، أو في حال اختيار ، ولا يأخذ منها شيئا يحمله معه ، ما لم ينهه صاحبه عن الدخول والأكل ، فإن نهاه عن الأكل والدخول ، فلا يجوز له الأكل والدخول ، وقال المخالف لا يجوز له الأكل منه الّا في حال الضرورة ، دليلنا إجماع أصحابنا على ذلك ، فإنهم لا يختلفون في ذلك ، وما رواه المخالف عن ابن عمر ، ان النبيّ عليه السلام قال : إذا مرّ أحدكم بحائط

ص: 126


1- الخلاف ، كتاب الأطعمة ، مسألة 25.
2- الوسائل : الباب 21 ، من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 1 ، ولفظه هكذا ، قال أبو عبد اللّه عليه السلام ، ما جعل اللّه في محرّم شفاء.

غيره ، فليدخل وليأكل ، ولا يتخذ خبنة (1) بالخاء المعجمة وبضمها ، والباء وتسكينها ، وبالنون المفتوحة ، وهو ما يحمله الإنسان في حضنه هكذا قاله الجوهري في كتاب الصحاح ، وقال الهروي في غريب الحديث ، الخبنة تبان الرجل ، وهو ذلذل ثوبه المرفوع ، يقال رفّع في خبنته شيئا ، قال شمر الخبنة والحبكة في الحجزة والثبنة في الإزار ، قال ابن الأعرابي ، اخبن الرجل إذا خبأ في خبنة سراويله مما يلى البطن ، هذا الذي قاله وحكاه أبو عبيد الهروي في غريب الحديث ، فاما من قال ذلك بالياء المنقطة نقطتين من تحتها موضع النون ، فهو خطأ محض وتصحيف صرف.

جملة القول في الأعيان النجسة ، انّها على أربعة أضرب.

نجس العين ، وهو الكلب والخنزير ، وما توالد منهما ، وما استحال نجسا ، كالخمر ، والبول ، والعذرة وجلد الميتة ، فكل هذا نجس العين ، لا ينتفع به ، ولا يجوز بيعه.

الثاني ما ينجس بالمجاورة ، ولا يمكن غسله ، ولا يطهره الغسل بالماء ، وهو اللبن ، والخلّ ، والدّبس ، ونحو ذلك ، فلا ينتفع به ولا يجوز بيعه بحال.

والثالث ، ما ينجس بالمجاورة وينتفع بمقاصده ، ويمكن غسله وتطهيره بالماء ، وهو الثياب وما في معناها ، فهذا يجوز بيعه قبل تطهيره.

والرابع ، ما اختلف في جواز غسله وهو الزيت والشيرج ، فعند أصحابنا بغير خلاف بينهم ، انّه لا يجوز غسله ولا يطهره الغسل بالماء ، وكذلك البزر والادهان اجمع ، فعندنا وان لم يجز غسله فيجوز الانتفاع به في الاستصباح تحت السماء ، على ما قدمناه وشرحناه (2) ، ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا أيضا ، ولا يجوز الانتفاع به في غير الاستصباح.

إذا وجد المضطر آدميّا ميتا حل له الأكل منه بمقدار ما يمسك رمقه ، كما لو كانت الميتة بهيمة ، للآيات وعمومها ، وفي النّاس من قال لا يجوز أكل لحم الآدمي

ص: 127


1- سنن الترمذي ، الباب 54 من كتاب البيوع ، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها ، ج 2 ، ص 377 ، الرقم 1305 ، فيه : عن ابن عمر انّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : « من دخل حائطا فليأكل ، ولا يتخذ خبنة ».
2- في ص 121.

بحال للمضطر ، لانه يؤدى الى أكل لحوم الأنبياء.

وهذا ليس بصحيح ، لان المنع من ذلك يؤدى الى انّ الأنبياء يقتلون أنفسهم بترك لحم الآدمي عند الضرورة ، فكان من حفظ النبيّ في حال حياته اولى من الذي لم يحفظه بعد وفاته ، بدليل انّ من قتل نبيّا حيّا ليس كمن أتلف آدميّا ميتا.

فان لم يجد المضطر شيئا بحال ، قال قوم له ان يقطع من بدنه من المواضع اللحيمة ، كالفخذ ونحوها ، فيأكله ، خوفا على نفسه ، لانه لا يمتنع إتلاف البعض لاستبقاء الكل ، كما لو كان به آكلة أو خبيثة ، يقطعها.

والصّحيح عندنا انّه لا يفعل ذلك ، لأنه إنما يأكل خوفا على نفسه ، وفي القطع منه الخوف على نفسه ، فلا يزال الخوف بالخوف ، ويفارق الخبيثة ، لأنّ في قطعها قطع السراية ، وليس كذلك قطع موضع من بدنه ، لأن في قطعه إحداث سراية.

فاما ان وجد المضطر بولا وخمرا فإنه يشرب البول ، ولا يجوز له ان يشرب الخمر ، لان البول لا يسكر ، ولأحد في شربه ، فان لم يجد الّا الخمر ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك (1) ، فلا وجه لإعادته.

باب الأشربة المحظورة والمباحة

كل ما أسكر كثيره فالقليل منه حرام ، لا يجوز استعماله بالشرب ، والتصرف فيه بالبيع والهبة ، وينجس ما يحصل فيه ، خمرا كان أو نبيذا ، أو بتعا ، - بكسر الباء المنقطة من تحتها بنقطة واحدة ، وتسكين التاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، والعين غير المعجمة ، وهو شراب يتخذ من العسل - ، أو نقيعا ، وهو شراب يتخذ من الزبيب ، أو مزرا ، - بكسر الميم وتسكين الزاء المعجمة ، وبعدها الراء غير المعجمة وهو شراب يتخذ من الذرة ، - وغير ذلك من المسكرات.

وحكم الفقاع عند أصحابنا حكم الخمر على السّواء ، في انه حرام شربه ، وبيعه ، والتصرف فيه.

ص: 128


1- في ص 126.

فاما عصير العنب ، فلا بأس بشربه ما لم يلحقه نشيش بنفسه ، فان لحقه طبخ قبل نشيشه ، حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى ثلثه ، حل شرب الثلث الباقي ، فان لم يذهب ثلثاه ، ويبقى ثلثه (1) كان ذلك حراما ، وكذلك القول فيما ينبذ من الثمار في الماء ، أو اعتصر من الأجسام من الاعمال ، في جوار شربه ما لم يتغير ، فان تغير بالنشيش لم يشرب.

ولا يقبل في طبخ العصير وغيره ، شهادة من يرى جواز شربه في الحال التي لا يجوز شربه عندنا فيها ، وقد بيّناها ، ويقبل قول من لا يرى شربه إلّا إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.

ولا يجوز شرب الفضيخ - بالفاء والضاد المعجمة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، والخاء المعجمة - وهو ما عمل من تمر وبسر ، ويقال هو أسرع إدراكا ، وكذلك كل ما عمل من لونين ، حتى نش وتغير ، وأسكر كثيره ، فالقليل منه حرام ، والحدّ في قليله وكثيره واحد ، كالخمر ، وان لم يسكر منها شاربها ، لان النبيذ اسم مشترك لما حلّ شربه من الماء المنبوذ ، فيه تمر النخل وغيره ، قبل حلول الشدّة فيه ، وهو أيضا واقع على ما دخلته الشدّة من ذلك ، أو نبذ على عكر والعكر بقية الخمر في الإناء ، كالخميرة عندهم ، ينبذون عليه ، فمهما ورد من الأحاديث في تحليل النبيذ ، فهو في الحال الاولى ، ومهما ورد من التحريم له ، فإنما هو في الحال الثانية التي يتغير فيها ، ويحرم بما حله من الشدة والسكر والعكر ، وضراوة الآنية بالخمرة غليانه وغير ذلك من أسباب تحريمه ، ولا اختار ان ينبذ للشرب الحلال ، إلّا في اسقية الأدم الّتي تملأ ، ثم توكأ رءوسها ، فإنّه قد قيل ان الشدة حين يبتدأ بالنبيذ لسوء الأسقية ، وانه ان لحقه منه شي ء أخرجه إلى الحموضة في الرّواية (2) عن النبي عليه السلام.

فاما الحنتم ، - بالحاء غير المعجمة ، والنّون ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، - وهي الجرة الخضراء ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة الحنتم الجرة الصغيرة (3) والدبا ، بضم الدال وتشديد الباء ، والنقير ،

ص: 129


1- ج : وبقي أكثر من ثلثه.
2- الوسائل الباب 31 من أبواب الأشربة المحرمة.
3- المبسوط ، ج 8 ، كتاب الأشربة ص 60 ، والعبارة هكذا ، واما الحنتم فالجرّة الصغيرة.

والمزفت.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه الزفت من الأرزن هكذا ذكره الجاحظ في كتاب الحيوان ، والقطران من الصّنوبر ، هكذا ذكر ، فقد روى (1) ان الرسول عليه السلام نهى ان ينبذ في هذه الأواني ، وقال انبذوا في الأدم ، فإنه يوكأ ، ويعلق ، كل هذا المنهي عنه لأجل الظروف ، فإنها تكون في الأرض ، فتسرع الشدّة إليها.

ثمّ أباح هذا كله ، بما روى عن ابن بريدة عن أبيه عن النبيّ عليه السلام قال نهيتكم عن ثلاث ، وانا آمركم بهن ، نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، فان زيارتها تذكرة ، ونهيتكم عن الأشربة إن تشربوا إلا في ظروف الأدم ، فاشربوا في كلّ وعاء ، غير ان لا تشربوا مسكرا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي ، أن تأكلوها بعد ثلث ، فكلوا واستمتعوا (2).

فان نبذ في شي ء من تلك الظروف ، لا يشرب الا ما وقع اليقين بأنّه لم تحله شدة ظاهرة ، ولا خفية ، ولا يكون ذلك إلا بسرعة شرب ما ينبذ فيه.

فامّا « الدّبا » فإنه القرع « والنقير » خشبة تنقر ، وتخرط كالبرنيّة ، و « المزفّت » ما قيّر بالزفت بكسر الزّاء ، قال الجاحظ في كتاب الحيوان « القطران » من الصنوبر ، والزفت من الأرزن.

وقد قلنا ان العصير لا بأس بشربه وبيعه ما لم يغل ، وحد الغليان على ما روى (3) الذي يحرم ذلك ، وهو ان يصير أسفله أعلاه ، فإذا غلا حرم شربه ، وبيعه والتصرّف فيه ، الى ان يعود الى كونه خلا ، ولا بأس بإمساكه ، ولا يجب إراقته ، بل يجوز إمساكه الى ان يعود خلا.

ص: 130


1- الوسائل - الباب 25 ، من أبواب الأشربة المحرّمة والباب 52 من أبواب النجاسات الحديث 1 و 2.
2- سنن البيهقي ، كتاب الضحايا ، باب الرخصة في الأكل من لحوم الضحايا .. ج 2. ص 292. وروى نحوه مسلم في صحيحه ، الباب 5 من كتاب الأضاحي ، الحديث 37 ( الرقم 1975 ) ج 2. ص 1564. والنسائي في سننه ، في باب زيارة القبور من كتاب الجنائز ( ج 2. ص 89 ) وفي كتاب الأشربة ( باب الاذن في شي ء منها ) ، ج 8 ، ص 11 - 310.
3- الوسائل الباب 3 من أبواب الأشربة المحرمة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ويكره الاستسلاف في العصير ، فإنه لا يؤمن ان يطلبه صاحبه ، ويكون قد تغيّر الى حال الخمر ، بل ينبغي ان يبيعه يدا بيد ، وان كان لو فعل ذلك لم يكن محظورا (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، ما ذكره شيخنا رحمه اللّه فيه نظر ، لان السلف لا يكون إلا في الذمة ، ولا يكون في العين ، فإذا كان في الذمّة فسواء تغيّر ما عنده الى حال الخمر ، أو لم يتغير ، فإنّه يلزمه تسليم ماله في ذمته اليه ، من اى موضع كان ، فلا أرى للكراهية وجها ، وانما هذا لفظ خبر واحد ، أورده إيرادا.

ولا بأس ان يبيع العنب والتمر ممن يعلم ان يجعله خمرا أو نبيذا ، لان الإثم على من يجعله كذلك ، وليس على البائع شي ء ، غير ان الأفضل ان يعدل عنه الى غيره ، وقد حررنا ذلك وشرحناه في كتاب البيوع (2) ، فليلحظ من هناك ، فلا وجه لإعادته.

وقال شيخنا في نهايته ، ولا يجوز ان يتداوى بشي ء من الأدوية ، وفيها شي ء من المسكر ، وله عنه مندوحة ، فإن اضطر الى ذلك ، جاز ان يتداوى به للعين ، ولا يجوز ان يشربه على حال ، الّا عند خوفه على نفسه من العطش ، على ما قدمناه (3).

وقد قلنا (4) انه لا يجوز له التداوي به لا للعين ولا غيرها ، وانّما هذا خبر واحد من شواذ أخبار الآحاد ، أورده إيرادا ورجع عنه في مسائل خلافه (5) حتى أنه حرم شربها عند الضرورة للعطش.

واليه أيضا ذهب في مبسوطة ، فإنه قال ان وجد المضطر بولا وخمرا يشرب البول دون الخمر ، لان البول لا يسكر ولا حدّ في شربه ، فان لم يجد الا الخمر فالمنصوص لأصحابنا انه لا سبيل لأحد إلى شربها ، سواء كان مضطرا إلى الأكل أو الشرب ، أو التداوي ، وبه قال جماعة ، وقال بعضهم ان كانت الضرورة العطش ، حلّ له شربها ، ليدفع العطش عن نفسه ، وقال بعضهم يحل للمضطر الى الطعام والشراب ،

ص: 131


1- النهاية : كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأشربة المحظورة والمباحة.
2- الجزء الثاني ص 327.
3- النهاية ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأشربة المحظورة ، ولا يخفى كلام النهاية يتم على حال وما بعده ليس فيها.
4- في ص 126.
5- الخلاف ، كتاب الأطعمة ، مسألة 27.

ويحل للتداوي ، ويجوز على ما روى في بعض أخبارنا عند الضرورة التداوي به للعين ، دون الشرب ، هذا آخر كلامه في مبسوطة (1).

وذهب في نهايته الى جواز شربه خوف الضرر للعطش (2).

وهو الذي يقوى في نفسي ، واخترناه في كتابنا (3) هذا.

ولا ادفع جوازه للمضطر إلى أكل ما يكون فيه الخمر خوفا من تلف نفسه ، لقوله تعالى « وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » (4) وأيضا فأدلة العقول تجوزه وتوجبه ، لانه يدفع الضرر به عن نفسه ، فلا مانع يمنع منه عقلا وسمعا ، وقد قلنا انه لا بأس بشرب النبيذ غير المسكر ، وهو ان ينقع التمر والزبيب ، ثم يشربه ، وهو حلو قبل ان يتغير.

ويكره ان يسقى شي ء (5) من الدواب والبهائم الخمر أو المسكر.

ويكره الاستشفاء بالمياه الحارة التي تكون في الجبال.

ومن شرب الخمر ثم بصق على ثوب ، فان علم ان معه شيئا من الخمر ، لم تجز الصّلاة فيه ، وان لم يعلم ذلك بان لا يكون ملونا جازت الصّلاة فيه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أواني الخمر ، ما كان من الخشب ، أو القرع ، وما أشبههما ، لم يجز استعمالها في شي ء من المائعات ، حسب ما قدمناه ، وما كان من صفر ، أو زجاج ، أو جرّار خضر ، أو خزف ، جاز استعمالها إذا غسل ثلاث مرّات ، حسب ما قدمناه ، وينبغي ان يدلك في حال الغسل (6).

وقال في مبسوطة ، في الجزء الأوّل ، أواني الخمر ما كان قرعا أو خشبا منقورا ، روى (7) أصحابنا انّه لا يجوز استعماله بحال ، وانه لا يطهر ، وما كان مقيّرا أو مدهونا ، من الجرار الخضر أو خزفا ، فإنه يطهر إذا غسل سبع مرات ، حسب ما

ص: 132


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب الأطعمة ص 288.
2- النهاية كتاب الأطعمة والأشربة باب الأشربة المحظورة والمباحة.
3- في ص 126.
4- سورة البقرة الآية 195.
5- ج. ل ان يسقى شيئا.
6- النهاية. كتاب الأطعمة والأشربة باب الأشربة المحظورة والمباحة.
7- مستدرك الوسائل الباب 18 من أبواب الأشربة المحرمة.

قدمناه ، وعندي انّ الأوّل محمول على ضرب من التغليظ والكراهة ، دون الحظر ، هذا آخر كلامه في مبسوطة (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه وهو الذي يقوى في نفسي ، واخترناه في كتابنا هذا (2).

والذمي إذا باع خمرا أو خنزيرا ، ثم أسلم ، جاز له ان يقبض ذلك الثمن ، وكان حلالا له.

والخمر إذا صار خلا ، جاز استعماله ، سواء صار ذلك من قبل نفسه ، أو بعلاج ، إذا طرح فيها ما ينقلب الى الخل ، غير انه يستحب ان لا يغير بشي ء يطرح فيه ، على ما روى (3) ، بل يترك حتى يصير خلا من قبل نفسه.

وقد روى (4) في بعض الاخبار ، انّه إذا وقع شي ء من الخمر في الخل ، لم يجز استعماله الا بعد ان يصير ذلك الخمر خلا ، أورد الرواية شيخنا في نهايته (5).

والذي يقضيه أصول مذهبنا ، ترك العمل بهذه الرواية الشاذة ولا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنها مخالف للأدلّة مضادة للإجماع ، لأن الخل بعد وقوع قليل الخمر في الخل ، صار بالإجماع الخل نجسا ، ولا دلالة على طهارته بعد ذلك ، ولا إجماع ، لأنه ليس له حال ينقلب إليها ، ولا يتعدى طهارة ذلك الخمر المنفرد ، واستحالته ، وانقلابه ، الى الخل الواقع فيه قليل الخمر ، المختلط به ، الذي حصل الإجماع على نجاسته.

وهذه الرواية الشاذة ، موافقة لمذهب أبي حنيفة ، فإن صح ورودها ، فتحمل على التقيّة ، لأنها موافقة لمذهب من سمّيناه بذلك ، على ما نبهنا عليه قول السيد المرتضى في انتصاره.

فإنه قال مسألة عند الإمامية إذا انقلبت الخمر خلا بنفسها ، أو بفعل آدمي ،

ص: 133


1- المبسوط ، ج 1 ، كتاب الطهارة ، باب حكم الأواني والأدعية .. ص 15.
2- في الجزء الأول ص 92.
3- الوسائل الباب 31 ، من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 7.
4- مستدرك الوسائل الباب 22 من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1.
5- النهاية : كتاب الأطعمة والأشربة باب الأشربة المحظورة والمباحة.

إذا طرح فيها ما تنقلب به الى الخل ، حلّت ، وخالف الشافعي ومالك في ذلك ، وأبو حنيفة موافق الإمامية فيما حكيناه ، الا انه يزيد عليهم ، فيقول فيمن القى خمرا في خل ، فغلب عليها ، حتى لا يوجد طعم الخمر ، انه بذلك يحل ، وعند الإمامية أنّ ذلك لا يجوز ، ومتى لم ينقلب الخمر الى الخل ، لم يحل ، فكأنهم انفردوا من أبي حنيفة ، بأنهم امتنعوا مما اجازه على بعض الوجوه ، وان وافقوه على انقلاب الخمر الى الخل ، فجاز لذلك ذكر هذه المسألة في الانفرادات ، دليلنا بعد الإجماع المتردد ، ان التحريم انما يتناول ما هو خمر ، وما انقلب خلا ، فقد خرج من ان يكون خمرا ، وانّه لا خلاف في إباحة الخل ، واسم الخل يتناول ما هو على صفة مخصوصة ، ولا فرق بين أسباب حصوله عليها ، ويقال لأصحاب أبي حنيفة ، أي فرق بين غلبة الخل على الخمر في تحليلها ، وبين غلبة الماء عليها ، أو غيره من المائعات ، أو الجامدات ، حتى لا يوجد لها طعم ، ولا رائحة ، فان فرقوا بين الأمرين بأن الخمر تنقلب الى الخل ، ولا تنقلب الى غيره من المائعات والجامدات ، قلنا كلامنا فيها على الانقلاب ، والخمر إذا ألقيت في الخل الكثير ، فما انقلبت في الحال الى الخل ، بل عينها باقية ، فكذلك هي في الماء ، فما الفرق بين ان يلقى فيما يجوز ان تنقلب اليه ، وبين مالا تنقلب إليه ، إذا كانت في الحال موجودة لم تنقلب هذا أخر كلام المرتضى رضى اللّه عنه في المسألة (1) ، فالحظه وتأمّله بعين قلبك ، فإنه دال على ما قلناه ، كاشف لما حررناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ويجوز ان يعمل الإنسان لغيره الأشربة من التمر ، والزبيب ، والعسل ، وغير ذلك ، ويأخذ عليها الأجرة ، ويسلمها اليه من قبل تغيّرها (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، إذا استأجره على عمل ذلك ، فحلال له الأجرة ، سواء سلمها اليه قبل التغير ، أو بعده ، فإنها تهلك من مال صاحبها ، لأنها ما زالت على ملكه.

ص: 134


1- الانتصار ، في الأطعمة.
2- النهاية ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأشربة المحظورة والمباحة.

ولا بأس برب التوت « بتائين » ، كل واحدة بنقطتين من فوق.

ولا بأس برب الرّمان والسكنجبين ، والجلاب ، وان شم فيه رائحة المسكر ، لانه ما لا يسكر كثيره ، والجلاب شراب الورد ، على ما حكاه الهروي في غريب الحديث عن الأزهري ، وكذلك ذكره ابن الجواليقي اللغوي ، في كتاب المغرب ، وفحوى الكلام هاهنا يدل على ذلك.

باب آداب الأكل والشّرب

يستحب ان يغسل الإنسان يده قبل ان يأكل الطعام ، ويغسلها بعده.

ويستحب أيضا ان يسمى اللّه تعالى عند تناول الطعام والشراب ، ويحمد اللّه تعالى عند الفراغ ، وان كان على مائدة عليها ألوان مختلفة فليسم عند تناول كل لون منها ، وان قال بدلا من ذلك بسم اللّه على اوّله وأخره ، كان كافيا.

وقد روى (1) انه ان سمى واحد من الجماعة ، أجزأ عن الباقين.

ولا يجوز الأكل على مائدة يشرب عليها شي ء من المسكرات ، أو الفقاع ، بل يجب عليه الإنكار مع القدرة عليه ، أو القيام ، فإن أكل ما هو طاهر ، فالأكل حرام محظور.

ويكره ان يقعد الإنسان متكئا في حال الأكل ، بل ينبغي ان يجلس على رجله.

وكثرة الأكل مكروه ، وربما بلغ حد الحظر.

ويكره الأكل على الشبع - بفتح الباء.

ويكره الأكل والشرب باليسار.

وينبغي ان يتولى ذلك باليمين الا عند الضرورة.

ويكره الأكل والشرب ماشيا.

ويكره الشرب بنفس واحد بل ينبغي ان يكون ذلك بثلاثة أنفاس ، فإنّه

ص: 135


1- الوسائل الباب 58 من أبواب آداب المائدة الحديث 2.

روى (1) ان ألعب يورث الكباد.

ويكره أكل طعام لم يدع إليه ، بأن يتبع غيره ممن دعي اليه.

ولا يجوز الأكل من طعام يعصى اللّه به أو عليه ، من اختلاطه بخمر ، أو نجاسة غير الخمر ، أو شربه عليه.

ويكره قطع الخبز بالسكين على المائدة.

ويكره الشرب من عروة الكوز ، وكذلك من ثلمته.

ويستحب ان يتبع ما يسقط من فتات الخبز عند الأكل ، ويترك إذا كان في صحراء.

ويشرب صاحب المنزل أوّل القوم ، ويغسل آخرهم.

ولا يتمندل قبل الطعام ويمسّه بعده.

ويستحب الخلال ، ولا يتخلل بعود ريحان ، ولا قصب.

ويستحب ان يبدأ صاحب الطعام بالأكل ويكون هو آخرهم ، رفعا يده منه ، فإذا أرادوا غسل أيديهم ، يبدأ بمن هو عن يمينه ، حتى ينتهي إلى آخرهم.

ويستحب ان يجمع غسالة الأيدي في إناء واحد.

وإذا حضر الطعام والصّلاة ، فالبداءة بالصلاة أفضل ، إذا كانوا في أول الوقت ، فان كانوا في آخر الوقت فذلك هو الواجب ، لا أفضل ، فإن كان هناك قوم ينتظرونه للإفطار معه ، وكان أوّل الوقت ، وهم صيام ، فالبدأة بالطعام أفضل ، لموافقتهم ، وان كان قد تضيّق الوقت ، لا يجوز إلّا البدأة بالصّلاة ، على ما قدمناه.

ويستحب لمن أكل الطعام ، ان يستلقي على قفاه ، ويضع رجله اليمنى على اليسرى.

ص: 136


1- الوسائل الباب 2 من أبواب الأشربة المباحة الحديث 3.

كتاب الطب

اشارة

ص: 137

كتاب الطّب والاستشفاء بالبر وفعل الخير

قد ورد الأمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ووردت اخبار عن الأئمة من ذريته عليهم السلام ، بالتداوي ، فقالوا : تداووا ، فما انزل اللّه داء إلّا أنزل معه دواء الا السام ، فإنه لا دواء معه ، يعنى الموت (1).

ويجب على الطبيب ان يتقي اللّه سبحانه فيما يفعله بالمريض ، وينصح فيه.

ولا بأس بمداواة اليهودي والنصراني للمسلمين ، عند الحاجة الى ذلك.

وإذا أصاب المرأة علّة في جسدها ، واضطرت إلى مداواة الرّجال لها ، كان جائزا ومن كان يستضر جسده بترك العشاء ، فالأفضل له ان لا يتركه ، ولا يبيت الا وجوفه مملوءة من الطعام ، فقد روي (2) ان ترك العشاء مهرمة.

وإذا كان الإنسان مريض ، فلا ينبغي ان يكرهه على تناول الطعام والشراب ، بل يتلطف به في ذلك.

وروي (3) ان أكل اللحم واللبن ، ينبت اللحم ، ويشد العظم ، وروى (4) ان اللحم يزيد في السمع والبصر ، وروى (5) ان أكل اللحم بالبيض يزيد في الباه.

وروي (6) ان ماء الكمأة ، فيه شفاء للعين.

ص: 138


1- مستدرك الوسائل الباب 106 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 1 و 6.
2- الوسائل الباب 46 ، من أبواب آداب المائدة الحديث 2.
3- مستدرك الوسائل الباب 19 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 2.
4- مستدرك الوسائل الباب 19 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 2.
5- مستدرك الوسائل الباب 30 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 5.
6- الوسائل الباب 118 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 2.

وروي (1) انه يكره ان يحتجم الإنسان في يوم الأربعاء ، أو سبت ، فإنه ذكر انه يحدث منه الوضح ، والحجامة في الرأس فيها شفاء من كل داء.

وروي (2) ان أفضل الدواء في أربعة أشياء ، الحجامة ، والحقنة ، والنورة ، والقي.

فان تبيغ الدم ، - بالتاء المنقطة بنقطتين ، من فوق ، والباء المنقطة من تحتها بنقطة واحدة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، وتشديدها ، والغين المعجمة ، ومعنى ذلك هاج به ، يقال تبوّغ الدّم بصاحبه ، وتبيغ ، اى هاج به ، - فينبغي ان يحتجم في أي الأيام كان ، من غير كراهية وقت من الأوقات ، ويقرأ آية الكرسي ، وليستخر اللّه سبحانه ، ويصلى على النبيّ وآله عليهم السلام.

وروي (3) انه إذا عرضت الحمى لإنسان ، فينبغي ان يداويها بصب الماء عليه ، فان لم يسهل عليه ذلك ، فليحضر له إناء فيه ماء بارد ، ويدخل يده فيه.

والاكتحال بالإثمد عند النوم يذهب القذي ، ويصفى البصر.

وروي (4) انه إذا لذعت العقرب إنسانا فليأخذ شيئا من الملح ، ويضعه على الموضع ، ثم يعصره بإبهامه ، حتى يذوب.

وروي (5) انه من اشتدّ وجعه ، فينبغي ان يستدعي بقدح فيه ماء ، ويقرأ عليه الحمد أربعين مرّة ، ثم يصبه على نفسه.

وروي (6) انّ أكل الزبيب المنزوع العجم ، على الريق ، فيه منافع عظيمة ، فمن أكل منه كل يوم على الريق احدى وعشرين زبيبة منزوعة العجم ، قلّ مرضه ، وقيل

ص: 139


1- الوسائل ، الباب 36 من أبواب صلاة الجمعة.
2- مستدرك الوسائل الباب 106 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 4 الّا ان فيه والدواء في أربعة إلخ.
3- لم نجدها بهذه العبارة في مظانها من كتب الحديث الا ان المذكور فيها صب الماء فقط فراجع بحار الأنوار ج 59 من طبع الحديث ص 93 الباب 53 الحديث 8.
4- الوسائل الباب 41 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 3 الّا انه نقل فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كذلك حين لذعته العقرب.
5- بحار الأنوار ج 59 من طبع الحديث ص 104 الباب 53 الحديث 35.
6- لم نجده بهذه العبارة في مظانها من كتب الأحاديث.

انه لا يمرض إلّا المرض الّذي يموت فيه.

ومن أكل عند نومه تسع تمرات ، عوفي من القولنج ، وقتل دود البطن على ما روي (1).

وروي (2) ان أكل الحبّة السوداء ، فيه شفاء من كلّ داء ، على ما روي.

وفي شراب العسل منافع كثيرة ، فمن استعمله ، انتفع به ما لم يكن به مرض حار.

وروى (3) أن لبن البقر فيه منافع ، فمن تمكن منه فليشربه.

وروي (4) ان أكل السمن (5) نافع للأحشاء وروي (6) ان أكل القرع ، يزيد في العقل ، وينفع الدماغ.

ويستحب أكل الهندباء.

وروي عن سيّدنا أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليهما السلام ، انه قال إذا دخلتم أرضا فكلوا من بصلها ، فإنه يذهب عنكم وباؤها (7).

وروي انّ رجلا من أصحابه عليه السلام شكا اليه اختلاف البطن ، فأمر أن يتخذ من الأرز سويقا ، ويشربه ، ففعل ، فعوفي (8).

وروى ان النبي عليه السلام قال : إياكم والشّبرم ، فإنه حار بارّ ، وعليكم بالسناء ، فتداووا به ، فلو دفع شي ء من الموت ، لدفعه السناء وتداووا بالحلبة ، فلو علم أمّتي ما لها في الحلبة ، لتداووا بها ، ولو بوزنها ذهبا (9).

ص: 140


1- مستدرك الوسائل الباب 57 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 5 الّا ان فيه سبع تمرات.
2- بحار الأنوار ج 59 من طبع الحديث ص 227 الباب 81 الحديث 2.
3- لم نجدها بهذه العبارة في مظانها والظاهر انّها نقل بالمعنى ، راجع الوسائل ، الباب 57 من الأطعمة المباحة.
4- الوسائل : الباب 53 من أبواب الأطعمة المباحة.
5- ج. أكل البيض.
6- الوسائل الباب 120 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 5.
7- مستدرك الوسائل الباب 99 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 1.
8- مستدرك الوسائل الباب 4 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 3.
9- مستدرك الوسائل الباب 112 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 6.

وروي عنه عليه السلام انه قال إدمان أكل السّمك الطري يذيب الجسم (1).

وروي ان أكل التمر بعد السّمك الطري ، يذهب أذاه (2).

وروى عنه عليه السلام ، انّ رجلا شكا اليه وجع الخاصرة فقال عليه السلام له عليك بما يسقط من الخوان ، فكله ، ففعل فعوفي (3).

وروي عند عليه السلام انه قال الريح الطيبة تشد العقل ، وتزيد في الباه (4).

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله انه نهى عن أكل الطفل الطين ، والفحم ، وقال من أكل الطين ، فقد أعان على نفسه ، ومن اكله ومات لم يصلّ عليه ، وأكل الطين يورث النفاق (5).

وروي عنه صلى اللّه عليه وآله انه قال : فضلنا أهل البيت على الناس كفضل البنفسج على سائر الأدهان (6).

وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام انه قال من أكل الرّمان بشحمه ، دبغ معدته (7).

والسفرجل يذكى القلب الضّعيف ، ويشجع الجبان (8).

وروي عن سيّدنا أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السلام انه قال الخل يسكن المرار ، ويحيي القلب ، ويقتل دود البطن ، ويشد الفم (9).

ص: 141


1- الوسائل الباب 38 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 1.
2- مستدرك الوسائل الباب 27 من أبواب الأطعمة المباحة.
3- الوسائل الباب 76 من أبواب آداب المائدة الحديث 1.
4- مستدرك الوسائل الباب 42 من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 1.
5- مستدرك الوسائل الباب 65 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 2.
6- بحار الأنوار ج 59 من الطبع الجديد ص 221 الباب 80 الحديث 3.
7- الوسائل ج 17 في الباب 87 باب أكل الرمان بشحمه الحديث 8 عن علي عليه السلام قال : كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ للمعدة.
8- الوسائل الباب 93 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 4.
9- مستدرك الوسائل الباب 34 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 5 و 7 والظاهر ان النقل من ضم الحديثين.

فهذه جملة مقنعة من جملة ما ورد عن الأئمة عليهم السلام في هذا الباب ، وإيراد جميعه لا يحصى ولا يسعه كتاب.

فامّا ما ورد عنهم عليهم السلام في الاستشفاء بفعل الخير والبر والتعوّذ ، والرقى ، فنحن نورد من جملة ما ورد عنهم عليهم السلام في ذاك ، جملة مقنعة بمشية اللّه تعالى.

وروي عن سيّدنا أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السلام انّه قال ثلاثة يذهبن النّسيان ، ويحددن الفكر ، قراءة القرآن ، والسّواك ، والصّيام (1).

وروي عنه عليه السلام ان بعض أهل بيته ذكر له أمر عليل عنده ، فقال ادع بمكتل ، فاجعل فيه برّا ، واجعله بين يديه ، وأمر غلمانك إذا جاء سائل أن يدخلوه اليه ، فينا وله منه بيده ، ويأمره أن يدعو له ، قال أفلا اعطى الدنانير والدّراهم ، قال اصنع ما آمرك به ، فكذلك رويناه ، ففعل فرزق العافية (2).

وروي عنه عليه السلام انه قال ارغبوا في الصدقة ، وبكروا فيها ، فما من مؤمن تصدق بصدقة حين يصبح ، يريد بها ما عند اللّه ، الا دفع اللّه بها عنه شرّ ما ينزل من السّماء ذلك اليوم ، ثم قال لا تستخفّوا بدعاء المساكين للمرضى منكم ، فإنه مستجاب لهم فيكم ، ولا يستجاب لهم في أنفسهم (3).

وروي عنه عليه السلام ان رجلا من أصحابه شكا اليه وضحا أصابه بين عينيه ، وقال بلغ مني يا ابن رسول اللّه مبلغا شديدا ، فقال عليك بالدعاء وأنت ساجد ، ففعل فبرئ منه (4).

وروي عنه عليه السلام انه قال إذا أصابك هم ، فامسح يدك على موضع سجودك ، ثم مرّ يدك على وجهك من جانب خدك الأيسر ، وعلى جبينك الى جانب خدك الأيمن ، ثم قل بسم اللّه الّذي لا إله الا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، اللّهم أذهب عني الهم والحزن ثلاثا (5).

ص: 142


1- مستدرك الوسائل الباب 1 من أبواب السواك ح 11 ، وفي المصدر ، يحدثن الذكر.
2- مستدرك الوسائل الباب 4 من أبواب الصدقة ح 5.
3- مستدرك الوسائل الباب 3 من أبواب الصدقة ح 2.
4- لم نعثر عليه.
5- الوسائل الباب 5 من أبواب سجدتي الشكر الحديث 1 مع اختلاف يسير.

وروي عنه عليه السلام انه قال من قال كلّ يوم ثلاثين مرّة - بسم اللّه الرحمن الرّحيم ، الحمد لله رب العالمين ، تبارك اللّه أحسن الخالقين ، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم ، - دفع اللّه عنه تسعة وتسعين نوعا من البلاء ، أهونها الجذام (1).

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال مرضت فعادني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وانا لا أتقار على فراشي ، فقال يا علي ان أشد النّاس بلاء النبيّون ثم الأوصياء ، ثمّ الذين يلونهم ، أبشر فإنها حظك من عذاب اللّه ، مع مالك من الثواب ، ثم قال أتحبّ ان يكشف اللّه ما بك؟ قال قلت بلى يا رسول اللّه.

قال قل ، - اللّهم ارحم جلدي الرقيق ، وعظمي الدقيق ، وأعوذ بك من فورة الحريق ، يا أم ملدم ، ان كنت أمنت باللّه ، فلا تأكلي اللحم ، ولا تشربي الدم ، ولا تفوري من الفم ، وانتقلي الى من يزعم انّ مع اللّه إلها أخر ، فإنّي اشهد ان لا اللّه الا اللّه وحده لا شريك له ، واشهد ان محمّدا عبده ورسوله - ، قال فقلتها ، فعوفيت من ساعتي. قال جعفر بن محمّد عليه السلام ما فزعت اليه قط ، الّا وجدته وكنا نعلمه النساء والصّبيان (2).

وروي عن سيّدنا أبي جعفر محمّد بن علي عليه السلام انه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يجلس الحسن على فخذه اليمنى ، والحسين على فخذه اليسرى ، ثم يقول أعيذكما بكلمات اللّه التامات كلّها ، من شرّ كلّ شيطان ، وهامة ، ومن كل عين لامة ، ثم يقول هكذا كان إبراهيم أبي عليه السلام يعوّذ بنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام (3).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال من ساء خلقه ، فأذّنوا في اذنه (4).

وروي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله انه نهى عن السحر ، والكهانة ، والقيافة ، والتمائم (5) ، فلا يجوز استعمال شي ء من ذلك على حال.

هذه جملة مقنعة ، واستقصاء ذلك يطول به الكتاب ، ويحصل به الإسهاب.

ص: 143


1- مستدرك الوسائل ، الباب 40 من أبواب الذكر ، ح 6 وفي المصدر ، أهونها الجنون.
2- البحار : ج 95 باب عودة الحمى وأنواعها ، ص 31 ح 15 مع تفاوت يسير وحذف الذيل.
3- البحار ، ج 64 ، باب قنبرة ص 300.
4- الوسائل الباب 46 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 2 ، الّا انه مروي عن الصادق عليه السلام.
5- لم نعثر عليه.

ص: 144

كتاب السبق والرماية

ص: 145

كتاب السبق والرّماية

قال اللّه تعالى ، « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ » (1).

وروى عقبة بن عامر (2) ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال الا ان القوّة الرمي ، إلا ان القوة الرمي إلا أن القوة الرمي (3).

ووجه الدلالة ان اللّه تعالى أمرنا بأعداد الرمي ، ورباط الخيل ، للحرب ولقاء العدو ، والاعداد لذلك ، ولا يكون كذلك الّا بالتعلّم ، والنهاية في التعلّم المسابقة بذلك ، ليكدّ كلّ واحد نفسه في بلوغ النهاية ، والحذق فيه ، وكان في ضمن الآية دليل على ما قدمناه.

وروى عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله انه قال لا سبق إلا في نصل ، أو خف ، أو حافر (4).

وروى انّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله سابق بين الخيل المضمرة ، من الحقباء الى ثنية الوداع ، وكان للرسول ناقة يقال لها العضباء ، إذا سابقت سبقت ، فجاء أعرابي على بكر فسبقها ، فاغتم المسلمون ، فقيل يا رسول اللّه سبقت العضباء ، فقال حق على

ص: 146


1- سورة الأنفال الآية 60.
2- ج. ل. عقبة بن عمار.
3- مجمع البيان في تفسير الآية رواه عن عقبة الّا ان فيه « الا ان القوة الرمي » مرة واحدة.
4- الوسائل الباب 3 من كتاب السبق والرماية الحديث 4 مع اختلاف ، قليل فان فيه « لا سبق إلا في حافر أو نصل أو خف ».

اللّه ان لا يرفع شيئا في الأرض الّا وضعه (1).

وروى عنه عليه السلام انه قال : تناضلوا ، واحتفّوا ، واخشوشنوا ، وتمعددوا (2).

قوله تناضلوا ، يعنى تراموا والنضال الرمي ، واحتفّوا ، يعني امشوا حفاة ، واخشوشنوا ، البسوا الخشن من الثياب ، وأراد ان يعتادوا الحفاء وتمعددوا ، تكلموا بلغة معد بن عدنان ، فإنها أفصح اللغات.

وعليه إجماع الأمّة ، وانما الخلاف في أعيان المسائل.

فإذا تقرر جواز ذلك ، فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه ، وما لا يجوز.

فما تضمنه الخبر من النصل ، والحافر ، والخف ، يجوز المسابقة به ، فالنصل ضربان ، نشّابة ، وهي للعجم ، والأخر السهم ، وهو للعرب والمزاريق وهي الردينيات (3) والسيوف ، وكل ذلك من النصل.

ويجوز المسابقة عليه بعوض لقوله عليه السلام - لا سبق إلا في نصل ، أو خف ، أو حافر - ، وكل ذلك يتناوله اسم النصل.

فاما الخف فضربان ، إبل وفيلة ، وكلاهما يجوز عندنا المسابقة عليهما بعوض.

فاما الحافر ، والخيل والبغال والحمير ، فيجوز المسابقة عليها ، لقوله عليه السلام - أو حافر - ، وهذه الأجناس ذوات حوافر.

فاما ما لم يرد فيه الخبر ، فمذهبنا انه لا يجوز المسابقة به لأن النبيّ عليه السلام نهى ان يكون المسابقة إلّا في هذه الثلاثة الأشياء ، فعلى هذا التحرير لا يجوز المسابقة بالطيور ، ولا على الاقدام ، وشبل الأحجار ، ودحوها ، والمسارعة ، والسفن ، ونطاح الكباش ، وغير ذلك.

فإذا ثبت ذلك ، فإذا قال إنسان لاثنين ، - أيكما سبق بفرسه الى كذا ، فله عشرة

ص: 147


1- مستدرك الوسائل الباب 3 من كتاب السبق والرماية الحديث 4 الّا انه لم يذكر صدر الحديث اعني قوله ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله سابق بين الخيل المضمرة من الحقباء الى ثنية الوداع.
2- الوسائل. لم تجد الحديث في مظانه من كتب الاخبار.
3- الردينيات. واحدتها الرديني وهو الرمح نسبة الى ردينة وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح.

دراهم - صح لان كلّ واحد منهما يجتهدان يسبق وحده ، فاما ان كان المسبق أحدهما ، فقال أينا سبق فله عشرة ، ان سبقت أنت فلك العشرة ، وان سبقت انا فلا شي ء عليك ، فإنه جائز عندنا ، لأن الأصل جوازه.

فإن أخرج كلّ واحد منهما عشرة ، ويقول من سبق فله العشرون معا ، فان لم يدخلا بينهما محللا ، فان المخالف لا يجيزه ، ويجعله قمارا ، وعندنا انه لا يمتنع جوازه ، لأن الأصل الإباحة ، فامّا ان أدخلا بينهما ثالثا ، لا يخرج شيئا وقالا : ان سبقت أنت ، فلك السبقان معا فإنه يجوز ذلك عندنا ، لأن الأصل الجواز.

والاعتبار بالسّبق بالكتد ، أو الهادي ، عند الأكثر ، وقال قوم شذاذ ، الاعتبار بالاذن.

ولا يجوز المسابقة حتى يكون ابتداء الغاية التي يجريان منها ، والانتهاء التي يجريان إليها ، معلوما.

وامّا في المناضلة بالسّهام والنشاب ، فإذا تناضلا على الإصابة ، جاز ، وان تناضلا على أيّهما أبعد رميا ، جاز أيضا عندنا.

والنضال ، اسم يشتمل على المسابقة بالخيل والرّمي معا ، ولكل واحد منهما اسم ينفرد به ، فالمناضلة في الرمي ، والرهان في الخيل.

وجميع احكام الرهان معتبرة في النضال ، الا من وجه واحد ، وهو ان المسابقة لا تصح حتى يعين الفرس ، ومتى نفق لم يستبدل صاحبه غيره ، وفي النضال لا يحتاج الى تعيّن القوس ، ومتى عينها ، لم يتعين ، ومتى انكسرت ، كان له ان يستبدل بها ، لان المقصود من النضال الإصابة ومعرفة حذق الرامي ، وهذا لا يختلف لأجل القوس ، والقصد في المسابقة معرفة السابق ، فلهذا اختلف باختلاف الفرس.

لا تصح المناضلة الا بسبع شرائط ، وهو ان يكون الرشق معلوما ، وعدد الإصابة معلوما ، وصفة الإصابة معلومة ، والمسافة معلومة ، وقدر الغرض معلوما ، والسبق معلوما ، فالرشق - بكسر الراء عبارة عن عدد الرمي.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة الخازق ما خدش الغرض ولم يثبت فيه ،

ص: 148

والخواسق ما فتح الغرض وثبت فيه (1) ، وقال الجوهري ، في كتاب الصحاح الخازق من السهام المقرطس ، وقد خزق السّهم يخزق ، ويقال خزقتهم بالنبل ، اي اصبتهم بها ، وقال الخاسق لغة في الخازق من السهام ، وهو بالخاء المعجمة ، والزاء المعجمة ، والقاف ، والخاسق بالخاء المعجمة أيضا ، والسين غير المعجمة.

والهدف هو التراب المجموع الذي ينصب فيه الغرض. والغرض هو الذي ينصب في الهدف ، ويقصد اصابته ، ويكون من رق ، أو جلد ، أو ورق ، أو قرطاس.

فاما السبق ، فعبارة عن المال المخرج في المناضلة.

اختلف الناس في عقد المسابقة ، هل هو من العقود اللازمة أو الجائزة؟ قال قوم هو من العقود الجائزة ، وهو الذي اختاره شيخنا في مسائل خلافه (2) ، وقال اخرون هو من العقود اللازمة ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (3) وهذا عقد يجب الوفاء به.

إذا تلبسا بالنضال ، ففضل لأحدهما أصابه ، فقال المفضول اطرح الفضل بدينار حتى نكون في عدد الإصابة ، سواء ، لم يجز ، لان موضوع النضال على ان ينضل أحدهما صاحبه بحذقه ، فإذا طرح بما نضله ، لما طرح من عدد الإصابة ، لا لحذقه ، وإذا لم يصح ، فعليه رد ما بذله ، ويعود الى عدد اصابته فيكون على الرمي على إكمال الرشق ، ليتبين الناضل منهما.

ص: 149


1- المبسوط ، ج 6 ، كتاب السبق والرماية ص 297 ، وفي المصدر ، الخوارق ، بالراء غير المعجمة.
2- الخلاف ، كتاب السبق ، مسألة 9.
3- سورة المائدة ، الآية 1.

ص: 150

كتاب الوقوف والصدقات

اشارة

ص: 151

كتاب الوقوف والصدقات

وجوه العطايا ثلاثة : اثنان منها في حال الحياة وواحد بعد الوفاة.

فالذي بعد الوفاة الوصيّة ، ولها كتاب منفرد نذكره فيما بعد ، ان شاء اللّه تعالى.

وامّا اللّذان في حال الحياة فهما الهبة والوقف ، فان قيل : والصدقة ، قلنا : الوقوف في الأصل صدقات ، فلأجل هذا لم نذكرها.

والهبة لها باب مفرد يجي ء فيما بعد ، ان شاء اللّه.

واما الوقوف فهذا موضعها ، فإذا ثبت هذا ، فالوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وجمعه وقوف وأوقاف ، يقال : وقفت ، ولا يقال : أوقفت ، إلّا شاذا نادرا ، ويقال : حبست ، وأحبست.

فإذا وقف شيئا زال ملكه عنه ، إذا قبّض الموقوف عليه أو من يتولى عنه ، وان لم يقبّض لم يمض الوقف ، ولم يلزم ، فإذا قبّض الوقف فلا يجوز له الرجوع فيه بعد ذلك ، ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غيرهما ، ولا يجوز لأحد من ورثته التصرف فيه ، سواء أحدث الموقوف عليه ما يمنع الشرع من معونته ، أو لم يحدث ، لانه بعد قبضه قد صار ملكا من أملاكه ، ومالا من أمواله ، فله حكم سائر أمواله.

وقال شيخنا المفيد « في مقنعته » « الوقوف في الأصل صدقات لا يجوز الرجوع فيها ، الا ان يحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم ، والقربة الى اللّه بصلتهم ، أو يكون تغييرا لشرط في الوقف الى غيره أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله » (1).

ص: 152


1- المقنعة ، باب الوقوف والصدقات ص 652.

والذي يقتضيه مذهبنا أنه بعد وقفه وتقبيضه لا يجوز الرجوع فيه ، ولا تغييره عن وجوهه وسبله ، ولا بيعه ، سواء كان بيعه أدرّ عليهم أم لا ، وسواء اخربه الوقف (1) ولا يوجد من يراعيه بعمارة ، من سلطان وغيره ، أو يحصل بحيث لا يجدي نفعا لأنّا قد اتفقنا جميعا على أنه وقف ، وانّه لا يجوز حلّه ولا تغييره عن وجوهه وسبله ، فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى حكما شرعيّا ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، لأنه لا إجماع منا على ذلك ، لان بعض أصحابنا يذهب اليه ، والباقون يمنعون منه ، فقد حصل الإجماع المنعقد على كونه وقفا ، ولم يجمعوا على خروجه من الوقف ، بحال من الأحوال ، ولا يرجع في مثل هذا الإجماع والأصل الى أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

فانّ شيخنا أبا جعفر قال في مسائل خلافه : مسألة إذا خرب الوقف ولا يرجى عوده ، في أصحابنا من قال : يجوز بيعه ، وإذا لم يختلّ لم يجز ، وبه قال احمد بن حنبل. وقال الشافعي : لا يجوز بيعه على حال ، دليلنا الأخبار المرويّة عن الأئمة عليهم السلام ، هذا أخر كلامه في المسألة (2).

فاعتبر ايها المسترشد قوله واستدلاله ، فإنه قال : « في أصحابنا من قال يجوز بيعه » ولم يستدلّ بالإجماع ، لأنهم ما أجمعوا على بيعه بعد خرابه واختلاله ، وذكر مالا دليل فيه من أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

هذا الخلاف الذي حكيناه من أصحابنا إنما هو إذا كان الوقف على قوم مخصوصين ، وليس فيه شرط يقتضي رجوعه الى غيرهم ، فامّا إذا كان الوقف على قوم وعلى من بعدهم على غيرهم (3) وكان الواقف قد اشترط رجوعه الى غير ذلك ، إلى ان يرث اللّه الأرض ، لم يجز بيعه على وجه من الوجوه ، بغير خلاف بين أصحابنا.

قد قلنا : إنه إذا قبّض الوقف زال ملك الواقف عنه ، وصار ملكا للموقوف

ص: 153


1- ج. ل. خرب الوقف.
2- الخلاف ، كتاب الوقوف والصدقات ، مسألة 22.
3- ج. الى غيرهم.

عليه ، فإذا ثبت أنه يزول - وهو الصحيح - فإنه ينتقل الى الموقوف عليه ، وقال قوم : ينتقل الى اللّه ، ولا ينتقل الى الموقوف عليه.

وإنّما قلنا : انه ينتقل الى الموقوف عليه ، لانه يضمن بالغصب ، ويثبت عليه اليد ، وليس فيه أكثر من أنه لا يملك بيعه على حال ، ومنع البيع لا يدلّ على أنه لم يملكه ، لأنّ الشي ء المرهون ملك للراهن ، ولا يجوز له بيعه ، وكذلك أم الولد ملك لسيدها ، بلا خلاف ، ولا يجوز له بيعها ما دام ولدها حيا ، عند أصحابنا.

فعلى هذا التحرير فهل يقبل في الوقف شاهد واحد ويمين المدّعي أم لا؟ من قال : ينتقل الى اللّه قال : لا تقبل في ذلك إلّا شهادة شاهدين ، ومن قال : ينتقل الى الموقوف عليه قال : تقبل في ذلك شهادة واحد ويمين المدعي الذي هو الموقوف عليه ، لأنّ شهادة الواحد ويمين المدعي تقبل عندنا في كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، والوقف مال أو المقصود منه المال ، بغير خلاف.

يجوز وقف الأراضي ، والعقار ، والدور ، والرقيق والماشية ، والسلاح ، وكل عين تبقى بقاء متصلا ويمكن الانتفاع بها ، خلافا لأبي يوسف ، فإنه لا يجوّز الوقف إلا في الدور ، والأراضي ، والكراع ، والسلاح ، والغلمان ، تبعا للضيعة الموقوفة.

وكل عين جاز بيعها وأمكن الانتفاع بها مع بقائها المتصل فإنه يجوز وقفها ، إذا كانت معينة ، فاما إذا كانت في الذمة ، أو كانت مطلقة ، وهو ان يقول : وقفت فرسا أو عبدا فان ذلك لا يجوز ، لانه لا يمكن الانتفاع به ما لم يتعيّن ، ولا يمكن تسليمه ، ولا يمكن فيه القبض ، ومن شرط لزومه القبض.

فاما الدنانير والدراهم فلا يصح وقفهما ، بلا خلاف وإنما قلنا لا يجوز ، لانه لا منفعة لهما مقصودة غير التصرف فيهما ، فأما إذا كانت حليا مباحا فلا يمنع من وقفها مانع ، فاما ما عدا الدنانير والدراهم ، من الأواني ، والفرش ، والدواب ، والبهائم ، فإنه يجوز وقفها ، لما ذكرناه.

ويجوز وقف المشاع ، كما يجوز وقف المقسوم ، ويصح قبضه كما يصحّ قبضه في البيع.

وجملة القول أنّه يفتقر صحة الوقف الى شروط :

ص: 154

منها ان يكون الواقف مختارا ، مالكا للتبرع ، فلو وقف وهو محجور عليه لفلس لم يصح.

ومنها أن يكون متلفّظا بصريحه ، قاصدا له وللتقرب به الى اللّه تعالى.

والصريح من ألفاظه وقفت ، وحبست ، وسبّلت.

فأما قوله : تصدّقت ، فإنه يحتمل الوقف وغيره ، الّا ان يقرن إليه قرينة تدلّ على أنه وقف ، مثل قوله : تصدقت صدقة لا تباع ولا توهب ، وغير ذلك.

وكذا قوله : « حرّمت وأبّدت » لا يدلّ على صريح الوقف ، الا أن يضمّ الى ذلك ضميمة ، مع أنهما لم يرد بهما عرف الشرع ، فلا يحمل على الوقف الا بدليل.

ومن أصحابنا من اختار القول بأنه لا صريح في الوقف الا قوله : « وقفت » دون « حبست وسبّلت » وهو الذي يقوى في نفسي ، لأن الإجماع منعقد على ان ذلك صريح في الوقف ، وليس كذلك ما عداه.

ولو قال تصدقت ونوى به الوقف صحّ فيما بينه وبين اللّه تعالى ، لكن لا يصحّ في الحكم ، لما ذكرناه من الاحتمال.

ومنها ان يكون الوقوف معلوما ، مقدورا على تسليمه ، يصح الانتفاع به مع بقاء عينه في يد الموقوف عليه ، على ما قدمناه فيما مضى.

ومنها أن يكون الموقوف عليه غير الواقف ، فلو وقف على نفسه لم يصح ، فامّا إذا وقف شيئا على المسلمين عامّة فإنه يجوز له الانتفاع به ، عند بعض أصحابنا ، قال : لأنّه يعود إلى أصل الإباحة ، فيكون هو وغيره فيه سواء ، هذا إذا كان الوقف عامّا كان حكمه كحكم غيره من الناس : الفقراء ، والمساكين ، وان لم يكن عامّا وكان مخصوصا بقوم معينين لم يجز له ذلك ، وان كان ما وقفه دارا أو منزلا ، وكان وقفه لذلك عامّا في سائر النّاس ، مثل الدور التي ينزلها الحاج ، والخانات ، جاز له النزول فيها ، وان لم يكن كذلك لم يجز له ذلك على حال.

والذي يقوى عندي أن الواقف لا يجوز له الانتفاع بما وقفه على حال ، لما بيّناه وأجمعنا عليه ، من أنه لا يصح وقفه على نفسه ، وأنه بالوقف قد خرج عن ملكه ، ولا يجوز عوده اليه بحال.

ص: 155

ومنها ان يكون معروفا متميّزا يصح التقرب الى اللّه تعالى بالوقف عليه ، وهو ممن يملك المنفعة حالة الوقف ، فعلى هذا لا يصح أن يقف الإنسان على شي ء من معابد (1) أهل الضلال ، ولا على مخالف للإسلام ، أو معاند للحق غير معتقد له ، إلّا أن يكون أحد والدية ، لقوله تعالى « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » (2) وما عداهما من الأهل والقرابات الكفار المعاندين للحق فلا يجوز الوقف عليهم بحال ، لأنا قد بيّنا أن من شرط صحة الوقف التقرب به الى اللّه تعالى.

ولا يصح الوقف على من لم يوجد من أولاده ، ولا ولد لهم ، ولا على الحمل قبل انفصاله ، ولا على عبده ، بلا خلاف ولو وقف على أولاده وفيهم موجود ، ولم ينو تعيين الوقف بالموجود ولا شرطه للموجود وحده صحّ ، ودخل في الوقف من سيولد له على وجه التبع ، لأن الاعتبار باتصال الوقف في ابتدائه بموجود هو من أهل الملك ، فان شرط أنه للموجود دون من سيولد فلا يدخل مع الموجود من سيولد فيما بعد ، بغير خلاف.

ويصح الوقف على المساجد والقناطر وغيرهما ، لأن المقصود بذلك مصالح المسلمين ، وهم يملكون الانتفاع.

ومنها أن يكون الوقف مؤبّدا غير منقطع ، فلو قال : وقفت هذا سنة لم يصح.

فامّا قبض الموقوف عليه أو من يقوم مقامه في ذلك ، فشرط في اللزوم والصحة.

ومنها أن لا يدخله شرط خيار الواقف في الرّجوع فيه ، ولا أن يتولاه هو بنفسه ، أو يغيّره هو متى شاء وينقله من وجوهه وسبله ، فمتى شرط ذلك كان الوقف باطلا ، على الصّحيح من أقوال أصحابنا ، لأنه لا خلاف في صحة ما ذكرناه ، وفيما عداه خلاف.

وتعليق الوقف بشرائط في الترتيب جائز ، ولا يجوز ذلك في الوقف نفسه على ما قدمناه.

وذهب السيّد المرتضى الى أن من وقف وقفا جاز له أن يشرط أنّه إن احتاج اليه

ص: 156


1- ج. معاهد.
2- سورة لقمان ، الآية 15.

في حال حياته كان له بيعه والانتفاع بثمنه (1).

وما اخترناه من القول الأول هو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي (2) وجلّة مشيختنا ، ودليله ما قدمناه من أنه لا خلاف في صحة الوقف إذا خلا من الشرط المخالف فيه ، والخلاف في صحّته مع الشرط المذكور.

ويدل على صحّة ما اعتبرناه من الشروط - بعد إجماع أصحابنا - أنّه لا خلاف في صحّة الوقف ولزومه إذا تكاملت ، وليس على صحته ولزومه إذا لم تتكامل دليل.

ويتبع في الوقف ما يشرطه الواقف ، من ترتيب الأعلى على الأدنى ، أو اشتراكهما ، أو تفضيل في المنافع ، أو المساواة فيها ، الى غير ذلك ، بلا خلاف.

وإذا وقف على أولاده ، وأولاد أولاده ، أو على أولاده فحسب ، ولم يقل :

لصلبه ، دخل فيهم أولاد أولاده ، ولد البنات والبنين ، بدليل إجماع أصحابنا ، ولأن اسم الولد يقع عليهم ، لغة وشرعا ، وقد اجمع المسلمون على ان عيسى عليه السلام ولد آدم ، وهو ولد ابنته ، وقد قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحسن والحسين : « ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا » (3) ولا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان لا يحل له نكاح بنت بنته ، مع قوله تعالى « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ » (4) فبنت البنت بنت بغير خلاف ، وأيضا دعا رسول اللّه عليه السلام الحسن ابنا ، وهو ابن بنته فقال (5) لا تزرموا على ابني (6) - بالزاء المعجمة المسكّنة ، والراء غير المعجمة المكسورة ، والميم - اى لا تقطعوا عليه بوله ، وكان قد بال في حجره فهموا بأخذه ، فقال لهم ذلك.

فأمّا استشهاد المخالف على خلاف ما ذكرناه بقول الشاعر :

بنونا بنو أبناءنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فإنّه مخالف لقول الرّسول عليه السلام ، وقول الأمّة ، والمعقول ، فوجب ردّه ، وأن

ص: 157


1- في الانتصار ، كتاب في مسائل شتى في الهبات والإجارة والوقوف والشركة.
2- في المبسوط ، ج 2 كتاب البيوع ص 81 ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
3- إثبات الهداة ج 5 ، ص 129 - 134.
4- سورة النساء ، الآية 23.
5- الوسائل الباب 8 ، من أبواب النجاسات ، ح 4.
6- ج : لا تزرموا ابني

لا يقضى بهذا البيت من الشعر على القرآن والإجماع ، على أنه أراد الشّاعر بذلك الانتساب ، لأن أولاد البنت لا ينتسبون إلى أمهم ، وانما ينتسبون إلى أبيهم ، وكلامنا على غير الانتساب.

وأما قولهم ولد الهاشمي من العامية هاشمي ، وولد العامي من الهاشميّة عامي.

فالجواب عنه أن ذلك في الانتساب ، وليس كلامنا فيه ، بل كلامنا في الولادة ، وهي متحققة من جهة الأم ، بغير خلاف ، ويكون الذكر والأنثى فيه سواء ، إلا ان يشرط الواقف تفضيل بعضهم على بعض.

وإذا وقف على نسله ، أو عقبه ، أو ذرّيّته فهذا حكمه ، بدليل قوله تعالى : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ - الى قوله - وَعِيسى وَإِلْياسَ » (1) فجعل عيسى من ذريته : وهو ينتسب اليه من الام.

وان وقف على عترته فهم الأخص به من قومه وعشيرته ، وقد نصّ على ذلك ثعلب ، وابن الأعرابي ، من أهل اللغة ، ولا يلتفت الى قول القتيبي في ذلك ، وما تعلق به من حديث أبي بكر في قوله : « نحن عترة رسول اللّه » (2) لان هذا الحديث لم يصحّحه نقاد الآثار ، ونقلة الاخبار.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : « ومتى شرط الواقف أنه متى احتاج الى شي ء منه كان له بيعه والتصرف فيه كان الشرط صحيحا ، وكان له أن يفعل ما شرط ، إلّا أنه إذا مات ، والحال ما ذكرناه ، رجع ميراثا ، ولم يمض الوقف » (3).

قال محمّد بن إدريس « رحمه اللّه » : لو كان الوقف صحيحا لم يرجع ميراثا ، ولكان يمضى الوقف فيه بعد موته ، بل الشرط الذي أفسده ، لأنا قد بيّنا (4) انه متى شرط العود في نفس الوقف كان الوقف باطلا ، فلأجل ذلك رجع ميراثه وشيخنا أبو جعفر ذهب الى ان دخول الشرط في نفس الوقف يبطله ، ذكر ذلك في

ص: 158


1- سورة الانعام ، الآية 84 - 85.
2- سنن البيهقي ، كتاب الوقف ، باب الصدقة في العترة ( ج 6 ، ص 166 ).
3- النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب الوقوف وأحكامها.
4- في ص 156.

مبسوطة (1) وفي مسائل خلافه في كتاب البيوع (2) لأن عقد الوقف لازم من الطرفين مثل عقد النكاح.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : « والوقف والصدقة شي ء واحد ، لا يصح شي ء منهما الّا ما يتقرّب به الى اللّه تعالى ، فان لم يقصد بذلك وجه اللّه لم يصح الوقف » (3) إلّا أن الوقف يمتاز من الصدقة بأنه لا بدّ أن يكون مؤبّدا ، ولا يصح بيعه على ما قدّمناه ، والصّدقة يصح بيعها ساعة قبضها ، وليس من شرطها ان تكون مؤبدة ، والوقف لا يصح الا أن يكون مؤبّدا على ما قدمناه ، ولا يصح أن يكون موقّتا ، فان جعله كذلك لم يصحّ إلّا ان يجعله سكنى أو عمرى أو رقبى ، على ما نبيّنه عند المصير اليه ان شاء اللّه (4).

قد قلنا : إنّه إذا وقف على ولده كان الذكر والأنثى فيه سواء ، إلّا ان يشرط تفضيل بعضهم على بعض ، فان قال : الوقف بينهم على كتاب اللّه كان بينهم ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

وإذا وقف على والديه كان أيضا مثل ذلك ، يكون بينهما بالسويّة ، الا أن يفضّل أحدهما على الآخر ، امّا بتعيين أو بقرينة تدل على ذلك.

وقال شيخنا في نهايته : « ولا بأس ان يقف المسلم على والديه ، أو ولده ، أو من بينه وبينه رحم ، وان كانوا كفارا ، ولا يجوز وقفه على كافر لا رحم بينه وبينه ، على حال ، وكذلك إن أوصى لهم بشي ء كان ذلك جائزا « هذا آخر كلامه رحمه اللّه » (5) قال محمّد بن إدريس « رحمه اللّه » : أما وقف المسلم على والديه الكافرين فصحيح ، لقوله تعالى « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » (6) على ما قدّمناه (7) وامّا ما عدا الوالدين من الأهل والقرابات وغيرهم فلا يجوز ولا يصح

ص: 159


1- المبسوط ، ج 2 ، كتاب البيوع ص 81 ، والعبارة هكذا : « وأمّا الوقف فلا يدخله الخياران معا لانه متى شرط فيه لم يصحّ الوقف وبطل ».
2- لم نتحققه في خلافه.
3- النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب الوقوف وأحكامها.
4- في ص 167.
5- النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب الوقوف وأحكامها.
6- سورة لقمان ، الآية 15.
7- في ص 156.

الوقف عليهم ، بحال ، لأنا قد بيّنا (1) أن من شرط صحّة الوقف القربة به الى اللّه تعالى ، ولا يصح التقرب الى اللّه تعالى بالوقف على الكافر ، لأن شيخنا قد حكينا (2) عنه في نهايته أنه قال : « الوقف والصدقة شي ء واحد ، لا يصح شي ء منهما الا ما يتقرب به الى اللّه تعالى ، فان لم يقصد بذلك وجه اللّه لم يصح الوقف » ثم يقول بعده (3) ما حكيناه عنه من صحة الوقف على الكافر : وانّما هذه اخبار آحاد يجدها فيوردها بألفاظها ، إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ، وإن كان غير عامل بها ولا معتقد لصحّتها.

والأولى عندي انّ جميع ذوي أرحامه الكفار يجرون مجرى أبويه الكافرين في جواز الوقف عليهم ، لحثّه عليه السلام بصلة الأرحام ، وبهذا افتى.

فامّا صحة الوصيّة لمن ذكر ، فإنه على ما ذهب إليه ، لأنا لا نراعي في الوصية القربة بها الى اللّه سبحانه ، فلهذا صحت الوصية لهم دون الوقف ، لما بيّناه ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

وإذا وقف الكافر على كافر مثله ، أو على البيع ، والكنائس ، والمواضع التي يتقربون فيها الى اللّه تعالى ، كان وقفه صحيحا ، لأنه يرى ذلك تديّنا عنده.

وإذا وقف الكافر وقفا على الفقراء كان ذلك الوقف ماضيا في فقراء أهل نحلته ، دون غيرهم ، من سائر أصناف الفقراء ، لان شاهد حاله وفحوى خطابه يخصص إطلاق قوله وعمومه ، لأنه من المعلوم بشاهد الحال أنه ما أراد إلّا فقراء ملته ، دون غيرهم ، والحكم في قول جميع أهل الآراء ووقفهم ما حكيناه ، فليلحظ ذلك. وإذا وقف المسلم المحق شيئا على المسلمين كان ذلك للمحقين من المسلمين ، لما دللنا عليه من فحوى الخطاب وشاهد الحال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : « وإذا وقف المسلم شيئا على المسلمين ، كان ذلك لجميع من أقرّ بالشهادتين ، وأركان الشريعة ، من الصّلاة ، والزكاة ، والصّوم ،

ص: 160


1- في ص 155.
2- في ص 159.
3- ج. ثم نقول بعد ما.

والحجّ ، والجهاد ، وان اختلفوا في الآراء والديانات » (1).

وهذا خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّا وإياه نراعي في صحة الوقف التقرب به الى اللّه تعالى ، وبعض هؤلاء لا يتقرب الإنسان المحق بوقفه عليه.

وقال أيضا في نهايته ، فان وقف على المؤمنين كان ذلك خاصا لمجتنبي الكبائر من أهل المعرفة بالإمامة ، دون غيرهم ، ولا يكون للفساق منهم معهم شي ء على حال (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، الصحيح انه يكون لجميع المؤمنين من العدل والفاسق ، لان كلّ خطاب خوطب به المؤمنون ، يدخل الفساق من المؤمنين في ذلك الخطاب ، في جميع القرآن والسنّة والاحكام بغير خلاف ، مثل قوله تعالى « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » (3) وكقوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » (4) وغير ذلك من الآيات ، ولم يرد العدل ، بغير خلاف.

وقد ذكر السيد المرتضى في جواب المسائل الناصريات ، في المسألة السابعة والسبعين والمائة ، والفاسق عندنا في حال فسقه مؤمن يجتمع له الايمان والفسق ، ويسمى باسمهما ، وكل خطاب دخل فيه المؤمنون ، دخل فيه من جمع بين الفسق والايمان ، هذا آخر كلام المرتضى رضى اللّه عنه (5).

وانّما هذه اخبار آحاد يوردها شيخنا ، في كتابه النهاية ، إيرادا لأنه كتاب خبر لا كتاب بحث ونظر ، فإنه رحمه اللّه قد رجع في كتبه كتب البحث ، عن معظم ما ذكره في نهايته ، مثل مسائل خلافه ، ومبسوطة ، وغير ذلك من كتبه ، فلا يتوهم أحد وينسبه منه الى تقصير ، وقلة تحقيق ، وانما العذر له فيه ما ذكرناه ، وقد أفصح عن ذلك وابان واعتذر لنفسه في خطبة مبسوطة على ما حكيناه عنه ، في خطبة كتابنا هذا ، فليلحظ من هناك.

ص: 161


1- النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.
2- النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.
3- سورة الحجرات ، الآية 10.
4- سورة النساء ، الآية 92.
5- الناصريات كتاب الشفعة مسألة 177 آخر المسألة.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر ، عما قاله في نهايته ، في كتاب التبيان ، فقال في تفسير قوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ » فقال هذا الخطاب يتوجه الى جميع المؤمنين ، ويدخل فيه الفساق بأفعال الجوارح وغيرها ، لأن الايمان لا ينفى (1) الفسق عندنا ، وعند المعتزلة أنه خطاب لمجتنبي الكبائر ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في التبيان (2).

وإذا وقف على الشيعة ، ولم يميز منهم قوما دون قوم ، كان ذلك ماضيا في الإماميّة ، والجارودية من الزيدية ، دون البتريّة ، والبترية فرقة تنسب الى كثير النواء ، وكان أبتر اليد ، - ويدخل معهم سائر فرق الإماميّة ، من الكيسانيّة - ، وهم القائلون بإمامة محمّد بن الحنفية ، وانه اليوم حيّ ، وهو المهديّ الذي يظهر ، والناووسية ، - القائلون بأن جعفر بن محمّد عليه السلام لم يمت ، وهو المهدى ، والفطحية القائلون بإمامة عبد اللّه بن جعفر الصادق عليه السلام وقيل انّه كان افطح الرجلين ، والواقفية وهم القائلون بأن موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام لم يمت ، وانه المهدى ، والاثنى عشرية على ما روى (3). وأورده شيخنا في نهايته (4).

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك ، وهو ان نيّة القربة معتبرة في صحة الوقف ، فان كان الواقف من احدى هذه الفرق ، حمل كلامه العام على شاهد حاله ، وفحوى قوله ، وخصص به ، وصرف في أهل نحلته ، دون من عداهم من سائر المنطوق به ، لما دللنا عليه فيما مضى ، وانما هذه اخبار آحاد ، رواها المحق والمبطل من الشيعة ، فأوردها شيخنا في نهايته ، كما هي بألفاظها.

فان وقفه على الإماميّة خاصة ، كان فيمن قال بإمامة الاثني عشر منهم ، فان وقفه على الزيدية ، وكان الواقف زيديّا ، كان على القائلين بإمامة زيد بن على بن الحسين ، وامامة كل من خرج بالسيف من ولد فاطمة عليها السلام من أهل الرأي

ص: 162


1- ج. لا ينافي.
2- التبيان ، ج 2 ، ص 81.
3- لم نجد الرواية في مظانها من كتب الأحاديث والظاهر انه رحمه اللّه نقل عبارة المفيد رحمه اللّه في المقنعة فراجع باب الوقوف والصّدقات ، ص 654 - 655.
4- النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

والعلم والصلاح ، فان كان الواقف إماميّا لم يصح الوقف على ما حرّرناه ، لعدم نيّة القربة التي هي شرط في صحة الوقف ، وشيخنا أطلق هذا الموضع إطلاقا.

فان وقفه على الهاشمين ، كان مصروفا في ولد أبي طالب ، وولد العباس بن عبد المطلب ، وولد أبي لهب ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، فإنّه لا عقب لهاشم الّا من هؤلاء ، الذكور منهم والإناث ، على ما قدمناه بالسويّة ، الا ان يشرط التفضيل.

وإذا وقفه على الطالبيّين ، كان ذلك على أولاد أبي طالب رحمة اللّه عليه ورضوانه.

وإذا وقفه على العلويين ، كان ذلك على ولد على أمير المؤمنين عليه السلام ، وولد ولده ، الذكور والإناث ، الفاطمي وغير الفاطمي ، بالسّويّة ، الذكر والأنثى فيه سواء.

فان وقفه على ولد فاطمة عليها السلام ، كان ذلك على ولد الحسن والحسين عليهما السلام الذكور منهم والإناث بالسّويّة.

فإن وقفه على الحسنية ، لم يكن للحسينية معهم شي ء على حال.

فان وقفه على الحسينية ، لم يكن للحسنية معهم شي ء على حال.

فان وقفه على الموسوية ، كان ذلك على أولاد موسى بن جعفر عليه السلام.

وإذا وقف الإنسان شيئا على جيرانه ، أو اوصى لهم بشي ء ، ولم يسمهم بأسمائهم ، ولا ميّزهم بصفاتهم ، كان ذلك مصروفا الى من يلي داره إلى أربعين ذراعا من أربعة جوانبها ، الا من منع دين الواقف ، وشاهد حاله ، وفحوى قوله ، من الوقف عليه ، على ما حررناه فيما مضى ، وليس لمن بعد عن هذا الحد شي ء.

وروي (1) إلى أربعين دارا.

والأول هو الأظهر ، والمعوّل عليه.

وروي (2) انه إذا وقف على قومه ولم يسمهم ، كان ذلك على جماعة أهل لغته

ص: 163


1- الوسائل الباب 90 من أبواب أحكام العشرة.
2- لم نجد الرواية في مظانها من كتب الأحاديث والظاهر انه رحمه اللّه نقل عبارة المفيد رحمه اللّه في المقنعة فراجع باب الوقوف والصدقات ص 655.

من الذكور ، دون الإناث.

والذي يقتضيه أصول المذهب ، وتشهد بصحّته الأدلة القاهرة ، انه يكون مصروفا الى الرجال من قبيلته ، ممن ينطلق العرف بأنهم اهله وعشيرته ، دون من سواهم ، هذا الذي يشهد به اللغة ، وعرف العادة ، وفحوى الخطاب ، قال الشاعر :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فامّا الدليل على انّ القوم ينطلق على الرجال دون النساء ، قوله تعالى « لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ، .. وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ » (1) وقول زهير :

فما أدرى وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

فاما الرواية التي وردت بان ذلك على جميع أهل لغته ، فهي خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، من غير دليل يعضدها من إجماع ، أو كتاب ، أو سنة ، أو دليل أصل فإذا عدم جميع ذلك ، وورد خطاب مطلق ، حمل على العرف والعرف ما اخترناه.

فان وقفه على عشيرته ، كان ذلك على الخاص من اهله ، الذين هم أقرب النّاس إليه في نسبه.

فان وقفه على مستحقي الخمس ، كان ذلك على ولد هاشم ، وقد بيناهم فيما مضى (2) ، وذكرناهم ، فلا وجه لاعادتهم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فان وقفه على مستحقي الخمس ، كان ذلك على ولد أمير المؤمنين عليه السلام ، وولد العباس وجعفر ، وعقيل (3) ثم لم يذكر غير ذلك.

وليس اقتصاره على ذكر من ذكر دليلا على انه لا يسحق غير المذكورين الذين هم بقية ولد هاشم المستحقين للخمس شيئا من هذا الوقف ، لان هذا دليل فان وقفه على مستحقي الزكاة ، كان ذلك على الثمانية الأصناف المذكورة في القرآن الخطاب.

ص: 164


1- سورة الحجرات ، الآية 11.
2- في ص 166.
3- النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

ومتى وقف الإنسان على أحد الأجناس ممن ذكرناهم ، فان كانوا كثيرين في البلاد ، منتشرين ، كان ذلك مقصورا على من يحضر البلد الذي فيه الوقف ، دون غيره من البلدان.

ومتى وقف الإنسان شيئا في وجه من الوجوه ، أو على قوم بأعيانهم ، ولم يشرط بعد انقراضهم عوده على شي ء بعينه ، كان متى انقرضوا ولم يبق منهم أحد ، راجعا ميراثا على أقرب النّاس من أخر المنقرضين من أرباب الموقوف عليهم ، لانه مال من أموال الموقوف عليهم ، يورث كما يورث سائر الاملاك والأموال ، ولا يجوز عوده على ورثة الواقف ، ولا على الواقف نفسه بحال من الأحوال ، لانه بالوقف خرج من ملكه ، وانتقل الى ملك الموقوف عليه بغير خلاف بيننا ، فعوده اليه بعد ذلك يحتاج الى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع منعقد ، وهذا مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان ، في مقنعته (1).

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته ، ومتى وقف الإنسان شيئا في وجه من الوجوه ، أو على قوم بأعيانهم ، ولم يشرط بعد انقراضهم عوده على شي ء بعينه ، فمتى انقرض أرباب الوقف ، رجع الوقف على ورثة الواقف (2).

وهذا قول مرغوب عنه ، لانه لا دليل عليه بحال.

وقال رحمه اللّه في مسائل خلافه ، مسألة إذا وقف على من يصح انقراضه في العادة ، مثل ان يقف على ولده ، وولد ولده ، وسكت على ذلك ، فمن أصحابنا من قال لا يصح الوقف ، ومنهم من قال يصح ، فإذا انقرض الموقوف عليه ، رجع الى الواقف ان كان حيّا ، وان كان ميّتا رجع الى ورثته ، وبه قال أبو يوسف ، وللشّافعي فيه قولان ، أحدهما لا يصح ، والأخر يصح ، فإذا انقرضوا رجع الى أبواب البر ، ولا يعود اليه ، ولا الى ورثته ، دليلنا ان عوده الى البرّ بعد انقراض الموقوف عليه ، يحتاج الى دليل ، وليس في الشرع ما يدلّ عليه ، والأصل بقاء الملك عليه ، أو

ص: 165


1- المقنعة باب الوقوف والصدقات آخر الباب الّا ان الظاهر ان المصنف رحمه اللّه نقل عبارته بمعناها لا بألفاظها ص 655.
2- النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها.

على ولده ، هذا أخر المسألة (1).

قال محمّد بن إدريس ، انظر أرشدك اللّه الى ما قاله شيخنا في المسألة ، فإنه ما تعرض للإجماع ، ولا للأخبار ، لان الطريقتين مفقودتان هاهنا ، انما دل ما يقضى عليه وهو محجوج به ، وهو قوله « دليلنا ان عوده الى البر بعد انقراض الموقوف عليهم ، يحتاج الى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه » وكذا نقول نحن له رحمه اللّه ، ان عوده الى الواقف ، أو الى ورثته بعد انقراض الموقوف عليهم ، يحتاج الى دليل وليس في الشرع ما يدل عليه ، والأصل بقاؤه وقفا ، فمن أخرجه من كونه وقفا ، يحتاج الى دليل ، ولن يجده ، ونكيل له بصاعه حرفا فحرفا ، واللّه الموفّق للصّواب.

وإذا وقف المسلم شيئا على مصلحة ، فبطل رسمها ، يجعل في وجه البر بلا خلاف ، ولا يجوز عوده على الواقف ، ولا على ورثته ، وهذا أيضا دليل على صحة المسألة المتقدّمة ، وفساد قول المخالف فيها.

وإذا وقف في وجوه البرّ ، ولم يسمّ شيئا بعينه ، كان للفقراء ، والمساكين ، ومصالح المسلمين ، من بناء المساجد ، والقناطر ، وتكفين الموتى ، والحاج ، والزوّار ، وغير ذلك.

وقال شيخنا في نهايته ، وإذا وقف إنسان مسكنا ، جاز له ان يقعد فيه مع من وقفه عليه ، وليس له ان يسكن فيه غيره (2).

وهذا على إطلاقه لا يصحّ ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك (3) ، وهو انه ان كان الوقف عاما على جميع المسلمين ، جاز ذلك على ما حكيناه عن بعض أصحابنا ، وان كان خاصا على قوم بأعيانهم ، لا يجوز للواقف ان يسكن فيه مع من وقفه عليه ، لانه بالوقف خرج من ملك الواقف ، وصار ملكا للموقوف عليه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة يجوز الوقف على أهل الذمّة إذا كانوا أقاربه ، وقال الشافعي يجوز ذلك مطلقا ، ولم يخصّ ، دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا فإن ما قلنا مجمع على جوازه ، وما ذكروه ليس عليه دليل ، هذا أخر كلامه

ص: 166


1- الخلاف كتاب الوقوف والصدقات مسألة 9.
2- النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب الوقوف وأحكامها آخر الباب.
3- في ص 155.

في المسألة (1).

وقد قلنا ما عندنا (2) في مثل هذه المسألة ، من انه لا يجوز الوقف على الكفرة ، الا ان يكون الكافر أحد الوالدين ، لان من صحة الوقف وشرطه ، نية القربة فيه.

إذا وقف على مواليه ، وله موليان ، مولى من فوق ، ومعناه المنعم عليه ، وله مولى أخر من أسفل ، ومعناه من أنعم هو عليه ، فأعتقه ، ولم يبيّن ، انصرف الوقف إليهما ، لأن اسم المولى يتناولهما.

إذا بنى مسجدا واذن النّاس ، فصلوا فيه ، أو عمل مقبرة ، فأذن في الدفن فيها ، فدفنوا ، ولم يقل ان ذلك وقف ، ولم يوجبه على نفسه بالقول والنطق بالوقفية ، لم يزل ملكه عن ذلك ، لان الأصل ، الملكيّة ، وزوالها يحتاج الى دليل ، والوقف حكم شرعي يحتاج الى دليل شرعي.

فإن وقف مسجدا وقفا صحيحا ، ثم انه خرب ، وخربت البلدة التي هو فيها ، لم يعد الى ملكه ، لان ملكه قد زال ، بلا خلاف وعوده اليه يحتاج الى دليل.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا انقلعت نخلة من بستان وقف ، أو انكسرت ، جاز بيعها ، واستدل بان قال دليلنا ، انه لا يمكن الانتفاع بهذه النخلة ، الا على هذا الوجه (3).

قال محمّد بن إدريس ، يمكن الانتفاع بهذه النخلة من غير بيعها ، وهو ان تعمل جسرا ، أو زورقا الى غير ذلك من المنافع مع بقاء عينها ، وقد بينا (4) ان الوقف لا يجوز بيعه ، فعلى هذا التحرير لا يجوز بيعها ، وينتفع بها من هي وقف عليه بغير البيع ، فليلحظ ذلك.

باب العمرى والرقبى والسّكنى والحبيس

العمرى نوع من الهبات ، يفتقر صحّتها إلى إيجاب وقبول ، ويفتقر لزومها الى

ص: 167


1- الخلاف كتاب الوقوف والصدقات مسألة 13.
2- في ص 156.
3- الخلاف كتاب الوقوف والصدقات مسألة 23.
4- في ص 152.

قبض ، كسائر الهبات ، وهي مشتقة من العمر ، وصورتها ان يقول الرجل للرجل : أعمرتك هذه الدّار ، وجعلتها لك عمرك ، أو هي لك ما حييت ، أو ما بقيت ، أو ما عشت ، وما أشبه ذلك مما في معناه.

وهي عقد جائز ، فإذا ثبت جوازها ، فلا تخلو من أربعة أحوال ، اما ان يقول : هذه الدّار لك عمرك ، ولعقبك من بعدك عمرهم ، أو يطلق ذلك ، فيقول : هذه الدار لك عمرك ، فإذا مت رجعت اليّ ، أو يقول : هذه الدار لك عمري ، أو يقول : هذه الدّار لك مدّة عمري.

فإذا قال « عمرك ولعقبك » فإنها جائزة عندنا ، فإذا انقرض العقب ، عادت الى المعمر ، ان كان حيّا ، أو الى ورثته ان كان ميتا.

فان قال « لك عمرك » فإذا مات ، رجعت الى المعمر أيضا.

فإن قال « هذه لك مدة عمري » فليس له ان يخرجه منها ما دام حيّا ، فإذا مات كان للوارث إخراجه منها ، فان مات المعمر ، دون من أعمره ، وخلّف ورثة ، كان لهم سكناها ، الى ان يموت من أعمر أباهم.

فامّا ان قال « هذه الدّار عمرى لك » ولم يقل مدّة عمري ، ولا مدّة عمرك ، فان هذا مجهول ، لا يلزم به شي ء بحال.

والرقبى أيضا جائزة عندنا ، وصورتها صورة العمرى ، الا ان اللفظ يختلف ، وان كان المعنى يتفق ، لانه يقول في العمرى أعمرتك هذه الدار مدّة حياتي أو مدّة حياتك ، أو مدّة عمري أو مدّة عمرك ، والرقبى تحتاج ان يقول « أرقبتك هذه الدار مدّة حياتك أو مدّة حياتي » وفي أصحابنا من قال الرّقبى ان يقول « جعلت خدمة هذا العبد لك مدّة حياتك ، أو مدة حياتي » وهو مأخوذ من رقبة العبد ، والأوّل مأخوذ من رقبة الملك ، وهو الأظهر ، الا ان الاشتقاق المحقق انها مصدر من رقب كل واحد منهما موت صاحبه ، يرقبه رقبى.

وتحتاج أيضا الى الإيجاب والقبول ، والقبض من صحة لزومها.

وقد قلنا انه لا فرق بين العمرى والرّقبى في الحكم والمعنى ، سواء علقه بموت المرقب أو المرقب ، فإن علقة بموت المرقب ، فان مات المرقب رجع الى ورثته ، وان

ص: 168

مات المرقب أوّلا كان لورثته الى ان يموت المرقب ، فإن علقة بموت المرقب ، ومات المرقب ، لم يكن لورثته عليه سبيل حتى يموت ، فإذا مات رجع إليهم ، وان مات المرقب أوّلا ، لم يكن لورثته شي ء ، ورجع الى المرقب مثل ما ذكرناه في العمرى حرفا فحرفا.

فأمّا السكنى ، فلا بأس ان يجعل الإنسان داره ، أو منزله ، أو ضيعته ، أو عقاره ، سكنى لإنسان ، حسب ما أراد ، فإن جعله له مدّة من الزمان ، كان ذلك ماضيا ، ولم يجز له نقله عنه ، الا بعد مضى تلك المدّة ، وكذلك لا يجوز له بيعه ، الا بعد انقضاء المدّة ، أو يشترط على المشتري مقدار ذلك الزمان ، ومتى مات والحال ما وصفناه ، لم يكن لورثته نقل الساكن عنه ، الّا بعد ان تمضى المدّة المذكورة ، ومتى أسكنه إياه مدة عمره فهي العمرى ، وقد ذكرناها مستوفاة.

ومتى أسكنه ولم يذكر مدة ، كان له إخراجه أيّ وقت شاء.

وإذا اسكن إنسان غيره ، لم يجز للساكن ان يسكن معه غيره ، الّا ولده واهله ، يعني امرأته ، ولا يجوز له سواهم ، ولا يجوز للساكن أيضا ان يؤاجره ، ولا ان ينتقل عنه ، فيسكن غيره الا بإذن صاحب المسكن ، على ما ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والذي يقتضيه أصول المذهب ، ان له جميع ذلك ، وخلافه وإجارته وانتقاله عنه ، وإسكان غيره معه ، سوى ولده وامرأته ، سواء اذن له في ذلك أو لم يأذن ، إذا كان أول ما أسكنه قد أطلق السكنى ، لأن منفعة هذه الدّار استحقها ، وصارت مالا من أمواله ، وحقا من حقوقه ، فله استيفاؤها كيف شاء ، بنفسه وبغيره ، وما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فلا شك انه خبر واحد ، وقليلا ما يورده أصحابنا في كتبهم ، فشيخنا المفيد رحمه اللّه لم يورده في مقنعته ، ولا السيّد المرتضى ، ولا المحصّلون من أصحابنا.

وللإنسان أن يحبس فرسه في سبيل اللّه ، وغلامه أو جاريته في خدمة البيت

ص: 169


1- النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب السكنى والعمرى والرقبى والحبيس.

الحرام ، وبعيره في معونة الحاج والزّوار ، فإذا فعل ذلك لوجه اللّه تعالى ، لم يجز له تغييره ، ولا تبديله ، فإنه قد خرج عن ملكه ، فان عجزت الدابة ، أو دبرت ، يعنى صار بها دبر ، - بفتح الدال والباء - ، أي عقر ، لان الدبر في لسان العرب ، العقر ، فروي ان بعض الاعراب قال لعمر بن الخطاب ، وكان أتاه ، فشكا اليه نقب ابله ودبرها ، فكذبه عمر ، وحلف بأنه كاذب ، واستحمله ، فلم يحمله ، فأنشأ يقول.

أقسم باللّه أبو حفص عمر *** ما مسّها من نقب ولا دبر

 - النقب الجرب - فان (1) مرض الغلام أو الجارية ، وعجزا عن الخدمة ، سقط عنهما بمرضهما ، فان عادا إلى الصّحة كان الشرط فيهما قائما حتى يموت العبد ، وتنفق الدابة.

فاما ان حبس ملكه على بعض الآدميين إلى مدة موت الحابس ، فإنه إذا مات عاد الملك إلى ورثة الحابس ، وأنفذت فيه المواريث ، فهذا معنى ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قضى برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث (2).

فاما الحبيس على بيت اللّه ، ونحو ذلك ، فلا يعود الى ملك الحابس ، ولا الى ورثته بعده بحال ، فهذا فرق ما بين الحبيسين والمسألتين ، فليلحظ ذلك ويتأمل ، فربما اشتبه على كثير من المتفقهة.

وروي انه إذا جعل الإنسان خدمة عبده أو أمته لغيره ، مدة من الزمان ، ثم هو حر بعد ذلك ، كان ذلك جائزا ، وكان على المملوك الخدمة في تلك المدّة ، فإذا مضت المدّة ، صار حرا فإن أبق العبد هذه المدّة ، ثم ظفر به من جعل له خدمته ، لم يكن له بعد انقضاء تلك المدّة عليه سبيل ، وان كان صاحب الغلام أو الجارية جعل خدمته لنفسه مدّة من الزمان ، ثم هو حر بعد ذلك ، وأبق المملوك انتقض ذلك التدبير ، فان وجده بعد ذلك كان مملوكا يعمل به ما شاء (3).

ص: 170


1- ج. ل. أو مرض. وعلى هذا فهو عطف على « عجزت الدابة » وعلى اي حال فلم يذكر للشرط الأوّل جوابا الّا انه معلوم من سياق الكلام.
2- الوسائل الباب 5 من احكام السكنى والحبيس.
3- لم نجد الرواية في مظانها من كتب الاخبار الّا ما أورده الشيخ رحمه اللّه في نهايته كما أشار إليه المصنف رحمه اللّه.

أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وهي من أضعف أخبار الآحاد ، لأنها مخالفة لأصول المذهب ، لان التدبير عند أصحابنا بأجمعهم لا يكون الا بعد موت المولى الذي هو المعتق المباشر للعتق ، ويكون بمنزلة الوصيّة ، يخرج من الثلث ، هذا لا خلاف بينهم فيه ، فمن ادعى حكما شرعيا أخر ، غير هذا ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا يرجع الى اخبار الآحاد في مثل ذلك ، لا يوجب علما ولا عملا ، على ما بيناه.

ثم انه لم يذهب إليه أحد من أصحابنا إلا الشاذ التابع لمسطور شيخنا في نهايته ، فإنه رحمه اللّه لم يذكر ذلك في مسائل خلافه ، ولا في مبسوطة ، ولا في معظم كتبه المصنفة ، سوى الكتب الاخبارية ، لانه من طريق اخبار الآحاد ، فيذكرها في جملة الاخبار ، وأوردها إيرادا لا اعتقادا ، على ما اعتذر به لنفسه.

باب الهبات والنحل

الهبة والنحلة جائزتان ، بالكتاب والسنّة وإجماع الأمّة.

فالكتاب قوله تعالى « وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ » (2) والهبة من البرّ ، وكذلك النحلة.

والسنّة ما رواه محمّد بن المنكدر ، عن جابر ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، قال : كل معروف مرغب فيه (3).

وروى أبو هريرة انّ النبيّ عليه السلام قال : لو اهدي اليّ ذراع لقبلت ، ولو دعيت الى كراع لأجبت (4).

ص: 171


1- النهاية كتاب الوقوف والصدقات باب السكنى والعمرى والرقبى والحبيس آخر الباب.
2- سورة المائدة ، الآية 2.
3- لم نجد الحديث بعينه في المجاميع الروائية لكن الموجود « كل معروف صدقة » صحيح البخاري ج 8 كتاب الأدب باب 33 ص 13 نعم نفس الحديث موجود في المبسوط ج 3 كتاب الديات ص 33.
4- سنن البيهقي ، الباب 1 من كتاب الهبات ، الحديث 2 ، ج 6 ، ص 169. صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب القليل من الهبة ، الرقم 2398، ج 11 ، ص 111. وفيه : « لو دعيت الى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو اهدى الىّ ذراع أو كراع لقبلت ».

وروت عائشة ، أن الرسول عليه السلام كان يقبل الهدية ، ولا يقبل الصّدقة (1).

أما صدقة الواجب فكانت حراما عليه وعلى بنى هاشم ، واما صدقة الندب فهي حلال عندنا عليه وعلى بنى هاشم ، وانما كان يتنزه عنها على جهة الاستحباب دون الفرض والإيجاب.

وروي ان جعفر بن محمّد عليه السلام كان يشرب من السقايات التي بين مكة والمدينة ، فقيل له في ذلك ، فقال انّما حرمت علينا صدقة الفرض (2).

وامّا الإجماع ، فقد أجمعت الأمة على جواز الهبة واستحبابها.

إذا تقرّر هذا فالهبة والصّدقة والهدية بمعنى واحد ، غير انّه إذا قصد الثواب والتقرب بالهبة الى اللّه تعالى ، سميّت صدقة ، فإذا أقبضها لا يجوز له الرجوع فيها بعد الإقباض على كل من تصدّق عليه بها ، وإذا قصد بها التودد والمواصلة ، لا التقرب الى اللّه تعالى سميت هدية وهبة.

وهي على ضربين ، هبة يجوز للواهب الرجوع فيها بعد قبض الموهوب لها ، وهبة لا يجوز للواهب الرجوع فيها بعد قبض الموهوب لها.

فالموهوب على ضربين ، ذي رحم ، وأجنبي ، وذو الرحم على ضربين ، ولد وغير ولد ، والولد على ضربين ، كبير وصغير.

فإذا كان كبيرا بالغا ، فلا يجوز للواهب الرجوع فيها بعد قبضها على حال ، سواء أضاف الولد الى القبض شيئا أخر ، أو لم يضف ، وكذلك الولد الصّغير ، لان قبض الوالد قبض عنه ، فلا يحتاج الى قبض ، والولد الكبير يحتاج الى قبض في هبته

ص: 172


1- صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب المكافاة في الهبة ، ج 11 ، ص 122 ، الرقم 2414. وسنن الترمذي ، الباب 34 من كتاب البرّ والصلة ، ج 3 ص 260، الرقم 2019. وسنن أبي داود ، كتاب البيور. باب في قبول الهدايا ، ج 3 ، ص 260. وفيها جميعا : « عن عائشة انّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يقبل الهدية ويثيب عليها ».
2- سنن البيهقي ، كتاب الهبات ، باب إباحة صدقة التطوع لمن لا تحل له صدقة الفرض ( ج 6 ، ص 183 ).

ولزومها ، فهذا الضّرب من الهبة الذي لا يجوز بعد القبض الرجوع فيها بحال.

فاما ذو الرحم غير الولد ، فبعض أصحابنا يجريه مجرى الولد الأكبر ، ويذهب إلى انه لا يجوز للواهب الرجوع في الهبة بعد إقباضها إيّاه ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) ، وبعض يذهب الى ان له الرجوع بعد القبض ، ويجريه مجرى الأجنبي ، وهو الذي يذهب اليه شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2) ، وهو الذي يقوى في نفسي.

فاما الضرب الذي يجوز له الرجوع في الهبة بعد الإقباض ، فهي الهبة للأجنبي ، ولذي الرحم غير الولد ، على الأظهر الأصح عند أصحابنا ، فإذا وهب الأجنبي ، وقبّضه إياها ، فللواهب الرجوع فيها ما لم يضف الموهوب له الى القبض أحد ثلاثة أشياء ، امّا ان يعوّض عنها الواهب ، سواء كان العوض مثلها ، أو أقل منها ، أو أكثر ، أو يتصرف فيها ، أو تستهلك عينها ، فمتى أضاف إلى القبض أحد الثلاثة الأشياء ، فلا يجوز للواهب الرجوع فيها بحال ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (3) وهذا عقد يجب الوفاء به ، وما عدا هذا الموضع ممّا يجوز للواهب الرجوع في هبته ، أخرجناه بدليل ، وهو الإجماع من أصحابنا.

فإذا تقرر هذا ، فهي من العقود الجائزة ، يحتاج إلى إيجاب وقبول.

ومن شرط لزومها الإقباض ، وذهب الأكثرون من أصحابنا ، الى ان من شرط انعقادها وصحته الإقباض بإذن الواهب (4) ، فمتى قبضها الموهوب له بغير اذن الواهب ، كان القبض فاسدا.

ويكره ان يرجع الإنسان فيما يهبه لزوجته ، وكذلك يكره للمرأة الرجوع فيما تهبه لزوجها.

وقد قلنا (5) انه لا يجوز للإنسان ان يرجع فيما يهبه لوجه اللّه تعالى بعد الإقباض على حال ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وما تصدّق الإنسان به لوجه اللّه ، فلا يجوز له ان يعود اليه بالبيع والهبة والشراء ، فان رجع اليه بالميراث كان جائزا (6).

ص: 173


1- النهاية : كتاب الوقوف والصدقات ، باب النحل والهبة.
2- الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة 12.
3- سورة المائدة ، الآية 1.
4- ج. وصحة الإقباض اذن.
5- في ص 172.
6- النهاية ، كتاب الوقوف والصدقات ، باب النحل والهبة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، لا بأس ان يعود إليه بأمر شرعي ، امّا بالبيع أو الهبة أو الشراء ، أو غير ذلك وانما هذا خبر واحد أورده إيرادا لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة ولا إجماع ، لأن المتصدق عليه ، قد ملك الصدقة ، وله بيعها على من شاء من الناس ، سواء باعها على المتصدّق بها ، أو على غيره بغير خلاف.

وشيخنا قد رجع عمّا قاله في مسائل خلافه ، في الجزء الأوّل من كتاب الزكاة ، قال مسألة يكره للإنسان أن يشتري ما أخرجه في الصدقة ، وليس بمحظور ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك البيع مفسوخ ، دليلنا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » (1) وهذا بيع ، فمن ادعى فسخه فعليه الدلالة ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه في مسألته (2).

فانظر الى قوله هاهنا ، والى قوله في نهايته ، يشعرك ان تلك اخبار آحاد يوردها إيرادا على ما يجدها بألفاظها ، من غير اعتقاد لصحّتها.

وروي انه إذا أخرج الإنسان شيئا لوجه اللّه تعالى يتصدق به ، ففاته من يريد إعطائه ، فليتصدق به على غيره ، ولا يرده في ماله (3).

وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

ولا بأس ان يفضّل الإنسان بعض ولده على بعض بالهبة والنحلة ، الا انّه يكره ذلك في حال المرض ، إذا كان الواهب معسرا ، فإذا كان موسرا لم يكره ذلك.

إذا وهب الوالد لولده وان علا الوالد ، أو الأم لولدها وان علت ، وقبضوا ان كانوا كبارا ، أو كانوا صغارا ، لم يكن لهما الرجوع فيه ، هكذا ذكره شيخنا في مسائل خلافه (4).

والذي يقتضيه مذهبنا ، ان هبة الوالد تكون كما قال ، وذكر رحمه اللّه ، وان علا

ص: 174


1- سورة البقرة ، الآية 275.
2- الخلاف ، كتاب الزكاة ، مسألة 136.
3- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب الصدقة ، الحديث 3.
4- الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة 11 - 12 - 13.

الوالد ، فامّا هبة الامّ للولد الكبير البالغ ، فإذا قبض ، فليس لها رجوع ، واما هبتها لولدها الصّغير ، فلا بد من تقبيض وليه ، فإذا قبض الولي الهبة ، امّا أبوه ، أو وصيّة ، فليس لها رجوع ، فإذا لم يقبض فلها الرجوع ، بخلاف الأب ، لأنّ قبض الأب قبضه ، وليس كذلك الام ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا في مسائل الخلاف مسألة : إذا وهب لأجنبي وقبضه ، أو لذي رحم ، غير الولد ، كان له الرجوع فيه ، ويكره الرجوع في الهبة لذي الرّحم (1).

وهذا الذي اخترناه ونصرناه ، ومذهبه في نهايته بخلاف هذا ، فإنه يجعل ذا الرحم بمنزلة الولد البالغ ، وهو خيرة شيخنا المفيد أيضا في مقنعته (2) ، وهو قوي يمكن اعتماده ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فامّا الأجنبي فأخرجناه من عموم الآية بالإجماع.

الهبة عندنا لا تقتضي الثواب الذي هو العوض عنها ، الا ان يشرطه الواهب على الموهوب له.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة ، الهبات على ثلاثة أضرب ، هبة لمن فوقه ، وهبة لمن دونه ، وهبة لمن هو مثله ، فكلها تقتضي الثواب (3).

ولم يدل على ذلك بشي ء يعتمد ، وامّا دليلنا نحن على انّها لا تقتضي الثواب الذي هو العوض عنها الا بالشرط ، فالأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء يحتاج الى دليل ، وإجماع أصحابنا عليه ، فان أحدا منهم لم يذكر ذلك في مسطور.

إذا شرط الثواب ، فان كان مجهولا صح ، لانه وافق ما يقتضيه الإطلاق ، وان كان معلوما كان أيضا صحيحا ، لانه لا مانع منه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة ، إذا وهب ثوبا خاما لمن له الرجوع في هبته ، فقصره الموهوب له ، لم يكن للواهب الرجوع فيه ، ثم استدل ، فقال دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، على انه إذا تصرّف الموهوب له في الهبة ، لم يكن للواهب الرجوع فيها ، وهذا قد تصرّف ، ولأن إثبات الرجوع في هذا الموضع يحتاج

ص: 175


1- الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة 11 - 12 - 13.
2- المقنعة ، باب النحلة والهبة والهبة ص 658.
3- الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة 11 - 12 - 13.

إلى دليل (1).

هذا أخر استدلاله ونعم ما استدلّ به رحمه اللّه.

إذا وهب في مرضه المخوف شيئا واقبضه ، ثمّ مات ، فمن أصحابنا من قال تلزم الهبة في جميع الشي ء الموهوب ، سواء كان الثلث أو أكثر من الثلث ، وهو الصّحيح من المذهب الذي تقتضيه الأصول ، ومنهم من قال تلزم في الثلث ، وتبطل فيما زاد عليه.

إذا كان له في ذمّة إنسان مال ، فوهبه له ، كان ذلك إبراء بلفظ الهبة ، وهل من شرط صحّة الإبراء قبول المبرئ أم لا؟ قال قوم من شرط صحته قبوله ، فلا يصحّ حتى يقبل ، وما لم يقبل فالحق ثابت بحاله.

وهو الذي نختاره ، ونقول به ، لأنّ في إبرائه من الحق الذي له عليه منّة عليه ، وغضاضة ، ولا يجبر على قبول المنّة ، وتحمّل الغضاضة فإذا لم نعتبر قبوله ، أجبرناه على ذلك ، كما نقول في هبة العين له « انها لا تصح إلا إذا قبل ».

وقال قوم ان ذلك يصح ، شاء من عليه الحق ، أو أبي لقوله تعالى « فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (2) و « أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ » (3) فاعتبر مجرد الصدقة ، ولم يعتبر القبول ، وقال تعالى « وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا » (4) فأسقط الدّية بمجرد التصدق ، ولم يعتبر القبول ، والتصدق في هذا الموضع الإبراء.

قلنا اما التمسّك بهذا فضعيف عندنا ، لأنه دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عند المحصلين من أصحابنا المتكلّمين في أصول الفقه لا يعملون به ، هذا إذا وهبه لمن عليه الحقّ.

فإن وهبه لغيره صحّ ذلك ، الا انه لا يلزم الا بالقبض.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الاحكام ، من شرطها الإيجاب والقبول ، ولا تلزم الّا بالقبض ، وكل من له الرجوع

ص: 176


1- الخلاف ، كتاب الهبة ، مسألة 17 ، في نقل العبارة تقطيع.
2- سورة البقرة ، الآية 280.
3- سورة البقرة ، الآية 280.
4- سورة النساء ، الآية 92.

في الهبة ، له الرجوع في الصدقة عليه (1) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، هذا غير واضح ولا مستقيم ، لأن صدقة التطوع بعد إقباضها المصدق بها عليه ، لا يجوز ، ولا يحلّ العود والرجوع بها على من كانت من الناس بغير خلاف بيننا ، وليس كذلك الهبة على ما حررناه.

إذا اهدى لرجل شيئا على يد رسوله ، فإنه على ملكه بعد ، وان مات المهدى اليه كان له استرجاعه ، وان مات المهدي ، كان لوارثه الخيار ، وإذا وصلت الهدية الى المهدى اليه ، لم يملكها بالوصول ، ولم تلزم ، ويكون ذلك إباحة من المهدي.

فمن أراد الهدية ولزومها وانتقال الملك فيها الى المهدى اليه الغائب ، فليوكل رسوله في عقد الهدية معه ، فإذا مضى وأوجب له ، وقبل المهدى اليه واقبضه إياها ، لزمه العقد ، وملك المهدى اليه الهدية.

ومن وكيد السنة ، وكريم الأخلاق الإهداء ، وقبول الهدية إذا دعي إليها داعي المودّة الدنيويّة والتكرم ، فيحسن قبولها إذا عريت من وجوه القبح ، ويقبح القبول مع ثبوته ، وتخرج بالقبول والإقباض عن ملك المهدي ، وله الرّجوع فيها ما لم يتصرّف فيها من أهديت اليه أو يعوّض عنها ، أو تهلك عينها ، وإمضاؤها أفضل ، ولا يجب المكافاة عليها ، وفعلها أفضل.

وقد جاء في الترغيب لقبولها اخبار ورخص ، وجاء في كراهيّة قبولها وذمّها ، أشياء.

فمن جملة ما في الترغيب فيها ، ما روي عنه عليه السلام انه قال تهادوا تحابوا (2).

وروى ان أم حكيم بنت وادع الخزاعية قالت يا رسول اللّه أتكره رد الهدية؟ فقال ما أقبح رد الهدية ، ولو اهدي الىّ كراع لقبلته ، ولو دعيت الى ذراع لأجبت (3).

وروى انّ بعض نسائه عليه السلام سألته ، فقالت يا رسول اللّه ، انّ لي جاريتين

ص: 177


1- المبسوط ، ج 3 ، كتاب الهبات ص 314.
2- الوسائل ، الباب 88 من أبواب ما يكتسب به ، ح 5 - 10 - 18. سنن البيهقي ، الباب 1 من كتاب الهبات ، الحديث 2. رواه أبو هريرة.
3- سنن البيهقي : ج 6 ، ص 169 الباب 1 من كتاب الهبات ح 6 ، ولكن بطريق آخر.

فإلى أيتهما اهدي ، فقال صلى اللّه عليه وآله إلى أقربهما منك بابا (1).

وروى ان سليمان بن داود عليه السلام أمر الريح ، فعدلت عن عشق قبّرة فيه فراخ لها ، فجاءت القبّرة ، فرفرفت على رأسه ، ثم ألقت إليه جرادة ، فقيل لسليمان عليه السلام في ذلك ، فقال كل يهدي على قدره (2).

وروى عنه عليه السلام انه قال : نعم الشي ء الهدية بين يدي الحاجة (3).

فأما ما روى في ذمّها وكراهيتها ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال :

هدايا العمّال غلول (4).

قال : ووصى بعض الولاة أحد كفاته ، فقال إيّاك والهدية ، وليست بحرام عليك ، ولكني أخاف عليك القالة (5).

وسال رجل مسروقا حاجة ، فقضاها فاهدى له هدية فردّها ، وحلف ان لا يقضي له حاجة ، قال فقال القوم لمسروق ، يا با عايشة ما كنا نرى ان بهذا بأسا ، فقال مسروق هذا السحت.

وأهدي الى عمر بن عبد العزيز تفاح فرده ، فقيل له انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يقبل الهدية ، فقال كانت هدية النبيّ صلى اللّه عليه وآله هدية ، وهي اليوم لنا رشوة (6).

وكان يقال الهدية تعوّر عين الحكم.

وقيل اهدى رجل الى صديق له هدية ، فجزع لها ، فعاتبه أصحابه ، فقال كيف

ص: 178


1- صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب بمن يبدأ بالهدية ، ج 11 ، ص 129 ، المرقم 2423. فيه. عن عائشة : « قلت يا رسول اللّه انّ الى جارين ، فإلى أيّهما اهدى؟ قال : إلى أقربهما منك بابا ».
2- لم نعثر عليه بعينه فيما بأيدينا من المصادر غير أنّه ورد نظيره في البحار ج 14 ص 82.
3- الوسائل ، الباب 88 من أبواب ما يكتسب به ح 12 - 18 ، وفي المصدر أمام الحاجة.
4- مجمع الزوائد ، ج 4 ، ص 200 ، كتاب الاحكام ، باب هدايا الأمراء ، عن أبي حميد الساعدي.
5- سير اعلام النبلاء ، ج 5 ص 140 رقم 48.
6- في صحيح البخاري ، كتاب الهبة ، باب من لم يقبل الهدية لعلّة ( ج 11 ، ص 129 ) : قال عمر بن عبد العزيز : كانت الهدية في زمن رسول اللّه هدية ، واليوم رشوة.

لا أجزع ، والمراد بالهدية أحد حالتين ، اما تطويق منّة ، أو مكافأة على معروف ، وما فيهما الا ما يجزع.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ما ورد في الاستحباب وما ورد في الكراهية المرجع فيه الى قرائن الأحوال ، والأغراض والأزمان ، وشاهد الحال ، فيعمل عليه ، ويعتبر به ، وقد عمل بالاخبار جميعها ، فهذا وجه الجمع بينها.

ص: 179

ص: 180

كِتَابُ الوَصايا

اشارة

ص: 181

كتاب الوصايا

الوصيّة مشتقة من وصى يصي ، وهو الوصل ، قال الشاعر ذو الرمّة :

نصى الليل بالأيام حتى صلاتنا *** مقاسمة يشتق انصافها السفر

ومعناه انّه يصل تصرّفه بما يكون بعد الموت ما قبل الموت ، ويقال منه أوصى يوصي إيصاء ، ووصّى يوصّي توصية ، والاسم الوصية والوصاية.

إذا ثبت هذا ، فالأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع ، قال اللّه تعالى « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ » (1).

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الوصيّة حق على كلّ مسلم (2).

وقال عليه السلام ما ينبغي لامرئ مسلم ان يبيت ليلة الا ووصيته تحت رأسه (3).

وروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام انه قال ما من ميّت تحضره الوفاة إلا رد اللّه عليه من سمعه وبصره وعقله للوصيّة ، أخذ الوصيّة أو ترك ، وهي الرّاحة التي يقال لها راحة الموت ، وهي حق على كل مسلم (4).

وروي عن الرسول عليه السلام انه قال من مات بغير وصيّة ، مات ميتة جاهليّة (5)

ص: 182


1- سورة البقرة ، الآية 180.
2- الوسائل ، الباب 1 من كتاب الوصايا ح 2 - 3 - 4 - 6.
3- الوسائل ، الباب 1 من كتاب الوصايا ح 5 - 7.
4- الوسائل ، الباب 4 ، من كتاب الوصايا ح 1 ، وفي المصدر ، آخذ للوصيّة ، أو تارك.
5- الوسائل الباب 1 من كتاب الوصايا ح 8.

معنى قوله عليه السلام « مات ميتة جاهلية » المراد به ان أهل الجاهليّة ما كانوا يرون الوصيّة ، فإذا لم يوص المسلم ، فقد عمل كعملهم ، وشابههم ، أو من تركها معتقدا انّها غير مشروعة ولا مسنونة ، فهذا جاحد للنّص القرآني ، حكمه حكم الكفار المرتدين.

وروي عن أبي عبد اللّه عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام انه قال : من اوصى ولم يحف ، ولم يضار كان كمن صدق به في حياته (1).

وقال ما أبالي أضررت بورثتي أو سرفتهم ذلك المال (2).

سرفتهم بالسين غير المعجمة والراء غير المعجمة المكسورة ، والفاء ، ومعناه اخطأتهم ، واغفلتهم ، لان السرف الإغفال ، والخطأ ، وقد سرفت الشي ء بالكسر ، إذا أغفلته وجهلته ، وحكى الأصمعي عن بعض الاعراب ، وواعده أصحاب له من المسجد مكانا فاخلفهم فقيل له في ذلك ، فقال مررت بكم ، فسرفتكم ، اى اخطأتكم واغفلتكم ، ومنه قول جرير.

أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية

ما في عطائهم منّ ولا سرف

اي إغفال وخطأ ، أي لا يخطئون موضع العطاء ، بأن يعطوه من لا يستحق ، ويحرموه المستحق ، هكذا نصّ عليه جماعة أهل اللّغة ، ذكره الجوهري في كتاب الصّحاح ، وأبو عبيد الهروي في غريب الحديث ، وغيرهما من اللغويّين.

فامّا من قال : في الحديث « سرقتهم ذلك المال » بالقاف ، فقد صحّف ، لان سرقت لا يتعدى الى مفعولين ، الّا بحرف الجرّ ، يقال سرقت منه مالا ، وسرفت بالفاء يتعدى الى مفعولين بغير حرف الجرّ ، فليلحظ ذلك.

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام انّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من لم يحسن وصيّته عند الموت ، كان ذلك نقصا في مروته وعقله (3).

فينبغي للمرء المسلم ان يتحرز من خلاف اللّه عزوجل وخلاف رسوله

ص: 183


1- الوسائل ، الباب 5 من كتاب الوصايا ، ح 2 ، وفي المصدر ، كمن تصدق به.
2- الوسائل ، الباب 5 من كتاب الوصايا ، الحديث 1 ، وفيه : « سرقتهم » بالقاف.
3- الوسائل ، الباب 3 ، من كتاب الوصايا ، ح 1.

عليه السلام في ترك الوصيّة وإهمالها ، ويستظهر لدينه ، ويحتاط لنفسه ، بالوصيّة لأهله وإخوانه ، بتقوى اللّه ، والطّاعة له ، واجتناب معاصيه ، وما يجب أن يصنعوه في غسله ، وتحنيطه ، وتكفينه عند وفاته ، ومواراته ، وقضاء ديونه ، والصّدقة عنه ، والتدبير لتركته ، والنظر في أمر أطفاله ، ويسند ذلك الى ثقة عدل في نفسه ، ليقوم به ، ولا يفرّط فيه ان شاء اللّه.

والواجب منها البداءة بالإقرار على جهة الجملة بما أوجب اللّه تعالى علمه (1) ، والعمل به ، ثمّ الوصيّة بالاستمساك بذلك ، وبتقوى اللّه تعالى ، ولزوم طاعته ، ومجانبة معصيته ، ويعيّن من ذلك ما يجب من غسله وتكفينه ومواراته ، ثم الوصيّة بما عليه من حقّ واجب ديني أو دنيوي ، ويخرج ذلك من أصل تركته ان أطلق ، ولم يقيده بالثلث ، فان لم يكن عليه حق ، استحب له ان يوصي بجزء من ثلثه ، يصرف في النذور والكفارات ، وجزء في الحجّ والزيارات ، وجزء يصرف إلى مستحقي الخمس ، وجزء إلى مستحقي الزكوات وجزء الى من لا يرثه من الأهل والقرابات.

وجملة الأمر وعقد الباب على جهة الجملة ، دون التفصيل ، ان من شرط صحتها حصول الإيجاب من الموصي ، والقبول من الموصى اليه ، ومن شرطه ان يكون حرا مسلما ، بالغا عاقلا ، عدلا ، بصيرا بالقيام ، بما أسند إليه ، رجلا كان أو امرأة.

ويجوز للمسند إليه القبول في الحال ، ويجوز له تأخير ذلك ، لان الوصيّة بمنزلة الوكالة.

قال بعض أصحابنا هي عقد منجز في الحال ، فجاز القبول فيها ، بخلاف قبول الموصى له ، فإنه لا يعتد به الا بعد الوفاة ، لأن الوصيّة تقتضي تمليكه في تلك الحال ، فتأخّر القبول إليها ، هذا أخر كلام من حكينا قوله (2).

ولا أرى بأسا بقبوله قبل الموت وبعده. وعلى كلّ حال لانه لا مانع منه.

وللموصي الرجوع في الوصيّة وتغييرها ، بالزيادة والنقصان ، والاستبدال بالأوصياء ما دام حيّا.

ص: 184


1- ج. ل. أوجب اللّه تعالى عليه.
2- وهو أبو المكارم ابن زهرة في الغنية ، في فصل في الوصية.

ولا يجوز للمسند اليه ترك القبول إذا بلغه ذلك بعد موت الموصي ، ولا ترك القيام بما فوّض اليه من ذلك ، إذا لم يقبل وردّ ، فلم يبلغ الموصي ذلك حتّى مات.

ولا يجوز للوصي ان يوصي الى غيره ، الا ان يفوّض ذلك الموصى اليه ، فاما إذا أطلق الوصية فلا يجوز له ذلك على الصحيح من المذهب ، وهو اختيار شيخنا المفيد (1).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، يصحّ ذلك (2).

والأوّل هو الأظهر ، لأن ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر ، يحتاج الى دليل ، لانه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وإذا ضعف الوصي عمّا أسند إليه ، فعلى الناظر في مصالح المسلمين ان يعضده بقويّ أمين ، وليس له عزله ، فان مات أو فسق ، اقام مقامه من يراه لذلك أهلا.

والوصيّة المستحبة والمتبرع بها ، محسوبة من الثلث ، سواء كانت في حال الصحّة ، أو في حال المرض ، وتبطل فيما زاد عليه ، الا ان يجيز ذلك الورثة بعد موته ، لا قبل الموت على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقد ذهب بعضهم الى ان الإجازة من الورثة لهم سواء أجازوا قبل الموت أو بعده ، وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه (3) والأول اختيار شيخنا المفيد (4) وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنها اجازة في غير ما لا يستحقونه بعد (5) ، فلا يلزمهم ذلك بحال.

ص: 185


1- في المقنعة ، باب الوصيّ يوصى الى غيره ، والعبارة هكذا ، وليس للوصيّ ان يوصى الى غيره الّا ان يشترط ذلك الموصي ..
2- في النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء ، والعبارة هكذا ، وإذا حضر الوصيّ الوفاة وأراد ان يوصى الى غيره ، جاز له ان يوصى اليه بما كان يتصرف فيه من الوصيّة.
3- في النهاية ، باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ ، والعبارة هكذا ، فإن وصى بأكثر من الثلث ورضى به الورثة لم يكن لهم بعد ذلك امتناع من إنفاذها لا في حال.
4- في المقنعة ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، والعبارة هكذا ، فان أمضوه في الحياة كان لهم الرجوع فيه بعد الموت خيابة ولا بعد وفاته ..
5- ج. ل. في غير ما يستحقونه بعد. والظاهر ان لفظ الغير زائدة وحق العبارة ان يقال فيما لا يستحقونه بعد.

وتصحّ الوصيّة عندنا للوارث في المرض المتصل بالموت ، بدليل إجماع أصحابنا ، وأيضا قوله تعالى « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » (1) وهذا نصّ في موضع الخلاف ، ولا يمكن ان يدعى نسخ هذه الآية بآية المواريث ، لانه لا تنافي بينهما ، وإذا أمكن العمل بمقتضاهما ، لم يصحّ دعوى النسخ ، وقولهم « تخصّ الآية بالوالدين والأقربين إذا كانوا كفارا » يفتقر الى دليل ، ولا دليل لهم على ذلك.

وما يروونه من قوله عليه السلام « لا وصيّة لوارث » قد نصّ أصحاب الحديث على تضعيف رواته ثمّ هو مخالف لظاهر القرآن المعلوم ، ولا يجوز ترك المعلوم للمظنون ، ولو سلم من ذلك كله ، لكان خبر واحد ، وقد بيّنا انّه لا يجوز العمل بذلك عند أصحابنا في الشرعيّات.

والوصيّة تصح للكافر سواء كان ذا رحم ، أو غير ذلك ، لأنها عطية بعد الموت ، وليس من شرطها نية القربة ، ولا من مصححاتها.

وذهب بعض أصحابنا الى أن الوصية للكافر لا تصحّ الّا ان يكون ذا رحم للموصي.

ويجوز الوصيّة للحمل ، فان ولد ميتا فهي لورثة الموصي ، دون ورثة الموصي له.

وإذا اوصى بثلث ماله في أبواب من البر ، ولم يذكر تفصيلا ، كان لكل باب منها مثل الآخر ، وكذلك إذ أوصى لجماعة ولم يرتبهم ، ولا سمى لكلّ واحد منهم شيئا معيّنا ، وان رتبهم ، وسمى ما لكل واحد منهم ، بدئ بالأوّل ، ثمّ الثّاني إلى تكميل الثلث ، ولا شي ء لمن بقي منهم.

ومن اوصى بوصايا من ثلثه ، وعين منها الحجّ ، وكانت عليه حجّة الإسلام ، وجب تقديم الحجّ على الوصايا الأخر ، وان لم يبق لها شي ء من الثلث ، لأن الحجّ واجب ، وليس بمتبرّع به.

ويستأجر للنيابة عنه من بلده ، فان لم يف الثلث بذلك ، تمم من أصل المال ،

ص: 186


1- سورة البقرة ، الآية 180.

واستؤجر من بلده ، فان لم يف الجميع بذلك ، استؤجر من ميقات اهله.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه يستأجر للنّيابة عنه من ميقات اهله.

والأوّل هو الأظهر ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) ، وبه تواترت الأخبار عن الأئمة الأبرار ، والثاني خيرة شيخنا أيضا في مبسوطة (2).

ومن اوصى بسهم من ماله ، كان ذلك الثمن.

ومن اوصى بجزء من ماله ، كان ذلك السبع ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، والأظهر من اخبارهم ، وقد وردت رواية (3) شاذة ، وقال بها بعض أصحابنا ، الى انّ الجزء يكون العشر والأوّل هو الصحيح.

ومن اوصى بشي ء من ماله كان ذلك السّدس بغير خلاف.

وذهب بعض أصحابنا الى ان من اوصى بسهم من ماله ، يكون السدس.

والأوّل هو الأظهر المعمول عليه.

ومن اوصى لقرابته ، دخل في ذلك من كان معروفا بنسبه واهله في العادة والعرف ، دون من سواهم.

وقد روي رواية شاذة ، إلى انه يدخل في ذلك كل من تقرب إليه إلى آخر أب وأم في الإسلام (4).

أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (5) ، وما اخترناه اختاره في مسائل خلافه ، ودلّ على صحّته وفساد ما قاله في نهايته.

ومن اوصى في سبيل اللّه ، صرف ذلك في جميع مصالح المسلمين ، مثل بناء

ص: 187


1- النهاية ، كتاب الوصايا باب الوصية المبهمة.
2- المبسوط : ج 4 ، كتاب الوصايا ص 24 ، والعبارة هكذا ، وكل موضع قلنا يحج من ثلثه فمن اين يجزيه .. وفيهم من قال يحرم من الميقات وهو الذي تقتضيه مذهبنا.
3- الوسائل ، الباب 54 من كتاب الوصايا ، ح 1 - 2 - 3 - 4 - 8 - 9 - 10 - 11.
4- لم نجدهما في المجاميع ، وظاهر عبارة المتن انها مروية في النهاية فقط ، راجع الوسائل ، الباب 68 من الوصايا.
5- النهاية : باب الوصية المبهمة.

المساجد ، والقناطر ، وتكفين الموتى ، ومعونة الحاج ، والزوار ، وما أشبه ذلك ، بدليل إجماع أصحابنا ، ولان ما ذكرناه طرق الى اللّه سبحانه ، فإذا كان كذلك ، فالأولى حمل لفظة « سبيل اللّه » على عمومها.

ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، في كتاب الإقرار ، إلى انّه من قال له عندي مال كثير ، فإنّه يكون إقرارا بثمانين ، على الرواية التي تضمنت بأنّ الوصيّة بالمال الكثير بثمانين ، ثم قال وعليه إجماع الطائفة ، في تفسير الكثير بثمانين (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب قول شيخنا « على الرّواية التي تضمنت بأن الوصيّة بالمال الكثير تكون ثمانين » فيه تسامح وتجاوز ، إنّما الرواية (2) وردت فيمن نذر ان يتصدّق بمال كثير ، وما وردت بالوصيّة جملة كافية ، ولا أوردها أحد من أصحابنا في الوصايا ، والذي يقتضيه أصول المذهب ، ويحكم به الأدلة والاعتبار ، ان لا نتجاوز بالرّواية ما وردت فيه فحسب ، ولا نعدّ بها الى غير النذر ، ونرجع في تفسير الكثير الى المقرّ ، وكذلك في الوصيّة نرجع إليهم في تفسير الكثير ، وكذلك نرجع الى العرف والعادة في كثير الجراد فيمن قتله وهو محرم ، وكذلك كثير الشعر ، ونلزم الأصول ، فإن تعدّيناها نصير قايسين ، والقياس باطل على مذهبنا.

قد ذكرنا هذه الجملة والان نذكر الأبواب وتفصيل كل شي ء في بابه على المألوف في التصنيف.

باب الأوصياء

ينبغي للمسلم ان يختار لوصيّته من يثق بديانته ، ولا تصح الوصيّة الّا الى من جمع صفات خمسة ، البلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والعدالة ، والحرّيّة ، فمتى اختل

ص: 188


1- الوسائل ، الباب 3 من كتاب النذر والعهد ، ح 1 - 2 - 3 - 4.
2- الخلاف ، كتاب الإقرار ، مسألة 1.

شي ء منها ، بطلت الوصيّة.

وانّما راعينا البلوغ ، لأن الصبيّ لا يجوز ان يكون وصيّا ، لقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يحتلم (1) ، وفي بعضها حتّى يبلغ (2) ، وإذا كان كذلك ، لم يكن لكلامه حكم ، ومن كان كذلك لا يجوز ان يكون وصيّا لانه مولى عليه في نفسه ، فلا يجوز ان يكون وصيّا لغيره.

وراعينا العقل ، لأن من ليس بعاقل ليس بمكلف ، ومن لا يكون مكلّفا لا يجوز ان يكون وصيّا.

والإسلام ، لا بدّ منه ، لان الكافر فاسق ، والمسلم لا يجوز ان يوصى الى كافر ولا فاسق ، لأنّهما ليسا من أهل الامانة ، والوصيّة امانة.

ويجب ان يكون عدلا لأن الوصيّة امانة ، ولا يؤمن الا العدل.

والحرية شرط ، لان المملوك لا يملك من نفسه التصرّف ، وحكم المدبّر وأم الولد والمكاتب ، حكم العبد القن.

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، إلى انه يجوز الوصيّة إلى المدبر والمكاتب ، والأوّل هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، دون ما سواه.

ويعتبر هذه الأوصاف في الحالين معا ، حال الوصيّة ، وحال الموت.

والذي يقتضيه مذهبنا وتشهد به أصولنا ، ورواياتنا ، انّ العدالة في الوصيّ ليست شرطا في صحة الوصيّة اليه ، وانّما ذلك على جهة الأولى والمستحب ، دون ان يكون شرطا في الصحّة ، ولا خلاف ان الإنسان يجوز ان يودع الفاسق وديعة ، وهي امانة ، ويجعله أمينه في حفظها ، فكذلك الوصيّة.

ص: 189


1- الوسائل ، الباب 4 ، من مقدمات العبادات ، ح 10 وفي سنن أبي داود ج 4 ص 141 كتاب الحدود ، باب 16.
2- سنن أبي داود ، الباب 16 من كتاب الحدود ( ج 4 ، ص 141 ، الرقم 4402 ) مسند ابن حنبل ، في مواضع من مسند على عليه السلام منها قوله عليه السلام : « سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : رفع القلم عن ثلاثة : عن الصغير حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المصاب حتى يكشف عنه » ، ج 1 ، ص 116.

والوصيّ إذا تغيّرت حاله ، نظرت ، فان كان تغيّر بالكبر والمرض ، فان الحاكم يضيف إليه إليه أمينا آخر ، ولا يخرج من يده ، لان الكبر والمرض لا ينافيان الامانة ، وان كان تغير حاله بفسق ، أخرجت الوصيّة من يده ، لان الفاسق لا يكون أمينا على ما أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) ، وهذا الكتاب معظمه فروع المخالفين ، وكلام الشافعي ، وتخريجاته ، ولم يورد أصحابنا في ذلك شيئا لا رواية ولا تصنيفا ، والأصل صحّة الوصية اليه ، والاعتماد عليه ، مع قوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ » (2) وعزله عن الوصيّة وإخراجه منها ، تبديل وتغيير بلا خلاف.

والمرأة يصحّ أن تكون وصيّة على ما قدمناه (3) ، وكذلك الأعمى.

ولا بأس ان يوصي على اثنين ، أحدهما صغير والأخر كبير بعد ان يكون الكبير ممّن جمع الأوصاف الخمسة ، ويجعل للكامل النظر في الحال ، وللصبي إذا بلغ ، فان مات الصبيّ أو بلغ ، وكان فاسد الرأي ، كان للعاقل إنفاذ الوصيّة ، فإذا أنفذ البالغ الكامل الوصيّة ، كان ذلك جائزا ، فإذا بلغ الصبي ولم يرض بذلك ، لم يكن له الفسخ لما أنفذه البالغ الكامل ، الا ان يكون الكبير خالف شرط الوصيّة.

فإن اوصى الى كاملين فلا يخلو من ثلاثة أحوال ، امّا ان يطلق الوصيّة إليهما ، أو يقيّدها بان لا يمضي أحدهما شيئا إلّا باتفاق الآخر ، أو يقيّدها بان كلّ واحد يمضي على الاجتماع والانفراد.

فالقسمان الأولان ، لا يجوز لأحدهما التصرف الّا باتّفاق الآخر ، لانه ما رضي بامانة أحدهما دون الآخر.

فاما القسم الثالث ، فإنه يجوز ان يتصرّف كلّ واحد منهما على الاجتماع وعلى الانفراد.

فإن أطلق الوصيّة أو قيّدها بالاجتماع ، لم يكن لكلّ واحد منهما الاستبداد

ص: 190


1- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، فصل في ذكر الأوصياء ، ص 52.
2- سورة البقرة ، الآية 181.
3- في ص 184.

بما يصيبه.

فان تشاحّا في الوصيّة والاجتماع ، لم ينفذ شي ء مما يتصرّفان فيه ، الّا ما يعود لمصلحة الورثة والكسوة لهم ، والمأكول ، على ما روى (1) ، وللنّاظر في أمر المسلمين الاستبدال بهما ، لأنّهما حينئذ قد فسقا ، لأنّهما أخلّا بما وجب عليهما القيام به ، وقد قدّمنا (2) ان بالفسق تخرج الوصيّة من يده.

ولا بأس ان يوصي الإنسان إلى أولاده ، والى من يرثه ، والى زوجته ، فإن أوصى إليهم وكان فيهم صغار وكبار ، كان للكبار إنفاذ الوصيّة - وان لا ينتظروا بلوغ الصّغار الّا ان يكون الموصى قد اشترط إيقاف الوصية إلى وقت بلوغ الصغار وكان الشي ء الذي اوصى به يجوز تأخيره ، فإن كان ذلك لم يجز لهم ان ينفذوا شيئا منها الا بعد بلوغ الصغار منهم.

وإذا اوصى الإنسان إلى غيره ، كان بالخيار في قبول الوصيّة وردّها ، إذا كان حاضرا شاهدا ، فان كان الموصى إليه غائبا ، فإن له ردّ الوصيّة ما دام الموصي حيّا ، فإذا مات الموصي قبل ان يبلغ اليه الامتناع من قبول الوصيّة ، لم يكن للموصى الغائب الامتناع من القيام بها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا حضر الوصي الوفاة ، وأراد أن يوصي الى غيره ، جاز له ان يوصي اليه بما كان يتصرّف فيه من الوصيّة ، ويلزم الموصى إليه القيام بذلك (3).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته : وليس للموصي ان يوصي الى غيره ، الّا ان يشترط ذلك الموصي ، فان لم يشترط له ذلك ، لم يكن له الإيصاء في الوصيّة ، فان مات كان الناظر في أمور المسلمين يتولى إنفاذ الوصيّة ، على حسب ما كان يجب على الوصيّ ان ينفذها ، وليس للورثة ان يتولّوا ذلك بأنفسهم ، وإذا عدم السّلطان العادل فيما ذكرناه من ذلك ، كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرّأي

ص: 191


1- الوسائل ، الباب 51 من كتاب الوصايا ، والمستفاد من روايات الباب عدم تنفيذ عمل كل من الوصيّين فحسب.
2- في ص 190.
3- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

والفضل ان يتولوا ما يتولاه السّلطان ، فان لم يتمكّنوا من ذلك ، فلا تبعة عليهم فيه (1).

وهذا الذي اختاره ، واعمل عليه ، وافتي به ، وقد قدمنا ذلك وأجملناه (2) فيما مضى (3).

وللموصي أن يستبدل بالأوصياء ما دام حيّا صحيح العقل ، لا يولى على مثله ، فإذا مضى لسبيله لم يكن لأحد ان يغيّر وصيّته ، ولا يستبدل باوصيائه ، فان ظهر منه خيانة ، كان على الناظر في أمور المسلمين ان يعزله ، ويقيم أمينا مقامه على ما قدّمناه (4) ، وان لم يظهر منه خيانة ، الّا انّه ظهر منه عجز وضعف عن القيام بالوصيّة ، كان للناظر في أمر المسلمين ان يقيم أمينا ضابطا يعينه على تنفيذ الوصيّة ، ولم يكن له عزله لضعفه.

والوصي إذا خالف ما أمر به كان ضامنا للمال.

وقد روي انّه إذا أمر الموصي الوصي ان يتصرف في تركته لورثته ، ويتجر لهم بها ، ويأخذ نصف الربح ، كان ذلك جائزا وحلال له نصف الربح (5) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته(6) .

الا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث ما كان يملكه الميت قبل موته والربح تجدّد بعد موته ، فكيف ينفذ وصيته وقوله فيه ، وفي الرواية نظر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وإذا كان للوصي على الميّت مال ، لم يجز له ان يأخذ من تحت يده ، الّا ما تقوم له به البينة (7).

وهذا خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا.

والذي يقضيه أصول مذهبنا ، انه يأخذ مما له في يده ، لان من له على إنسان مال ، ولا بينة له عليه ، ولا يقدر على استخلاصه ظاهرا ، فله أخذ حقه باطنا ، لانه يكون بأخذ ماله من غير زيادة عليه محسنا لا مسيئا. وقد قال تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ

ص: 192


1- المقنعة ، باب الوصيّ يوصي الى غيره ص 676.
2- ج. أحكمناه.
3- في ص 185.
4- في ص 185.
5- الوسائل : الباب 92 من كتاب الوصايا ح 1 - 2.
6- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.
7- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

مِنْ سَبِيلٍ » (1).

وقال شيخنا في نهايته : ومتى باع الوصيّ شيئا من التركة لمصلحة الورثة ، وأراد أن يشتريه لنفسه ، جاز له ذلك ، إذا أخذه بالقيمة العدل من غير نقصان (2).

والذي يقتضيه مذهبنا ، انه لا يجوز له ان يشتريه لنفسه بحال ، لأنّ الإنسان لا يكون موجبا قابلا في عقد واحد ، لان العقد يكون بين اثنين ، فلا يصح ذلك الّا ما خرج بإجماعنا من الوالد إذا اشترى من مال ولده الصغير ، فلا نقيس غيره عليه بحال ، لأنا لا نقول بالقياس في الشرعيّات.

الّا ان شيخنا أبا جعفر رجع عمّا ذكره في نهايته ، وقال بخلافه في مسائل خلافه ، في كتاب الوكالة في الجزء الثاني ، فقال مسألة : جميع من يبيع مال غيره ستة أنفس ، الأب ، والجد ، ووصيّهما ، والحاكم ، وأمين الحاكم ، والوكيل ، لا يصح لأحد منهم ان يبيع المال الذي في يده من نفسه الا الاثنين ، الأب والجد ، ولا يصح لغيرهما ، ثمّ استدلّ ، فقال دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، على انه يجوز للأب ان يقوّم جارية ابنه الصّغير على نفسه ، ويستبيح وطأها بعد ذلك ، وروي (3) ان رجلا اوصى الى رجل في بيع فرس له ، فاشتراه الوصي لنفسه ، واستفتى عبد اللّه بن مسعود ، فقال ليس له ذلك ، ولا يعرف له مخالف ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر (4).

وإذا مات الإنسان من غير وصيّة ، كان على الناظر في أمور المسلمين ، ان يقيم له ناظرا ينظر في مصلحة الورثة ، ويبيع لهم ويشترى ، ويكون ذلك جائزا ، فان لم يكن السلطان الذي يتولى ذلك ، أو يأمر به ، جاز لبعض المؤمنين ان ينظر في ذلك من قبل نفسه ، ويستعمل فيه الأمانة ، فيؤديها من غير إضرار بالورثة ، ويكون ما يفعله صحيحا ماضيا هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (5).

والذي يقتضيه المذهب انّه إذا لم يكن سلطان يتولى ذلك فالأمر فيه الى فقهاء

ص: 193


1- سورة التوبة ، الآية 91.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.
3- سنن البيهقي ، كتاب البيوع ، باب لا يشترى من ماله لنفسه إذا كان وصيّا ، ج 6 ، ص 3.
4- الخلاف ، كتاب الوكالة مسألة 9.
5- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

شيعته عليه السلام (1) ، من ذوي الرّأي والصّلاح ، فإنّهم عليهم السلام قد ولوهم هذه الأمور ، فلا يجوز لمن ليس بفقيه تولّى ذلك بحال ، فان تولاه ، فإنه لا يمضى شي ء ممّا يفعله ، لانّه ليس له ذلك بحال ، فامّا ان تولّاه الفقيه ، فما يفعله صحيح جائز ماض.

باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ

الوصيّة بالخمس أفضل من الوصيّة بالربع ، وهي بالرّبع أفضل منها بالثلث ، ومن اوصى بالثلث ، فقد بلغ الغاية.

ولا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث على حال ، فإن أوصى بأكثر من الثلث ، ردت الى الثلث ، الّا ان يجيزها الورثة بعد الموت ، فان أجازت ما فوق الثلث قبل الموت ، كان لها ردها بعد الموت.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته « على ما حكيناه عنه فيما مضى » (2) سواء أجازت الورثة ما زاد على الثلث في حال الحياة أو بعد الوفاة ليس لها رجوع (3).

والمذهب ، الأوّل ، لأن ما ذهب اليه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعيّ وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، على ما حكيناه عنه فيما مضى (4).

وقد قلنا (5) ان للإنسان ان يرجع في وصيّته ما دام فيه الروح ، وعقله ثابت عليه ، وبعض أصحابنا يطلق ذلك ، ويقول « وللإنسان ان يرجع في وصيّته ما دام فيه روح » وإطلاق ذلك غير مستقيم ، لانه قد يكون فيه روح الّا ان عقله قد زال ، والاولى تقييده بما قيدناه ، فإذا كان كذلك فله تغييرها ، وتبديلها ونقلها من شي ء إلى شي ء ، ومن إنسان إلى غيره ، وليس لأحد فيه اعتراض.

فان دبر مملوكه ، كان ذلك مثل الوصيّة ، بل هو هي عند أصحابنا ، يجوز له

ص: 194


1- ج. شيعة آل محمّد عليهم السلام.
2- في ص 185.
3- النهاية باب الوصية وما يصح منها وما لا يصح.
4- في ص 185.
5- في ص 184.

الرجوع فيه ، فان لم يرجع فيه ، كان من الثلث ، فإن أعتقه في الحال مضى العتق ، وليس لأحد عليه سبيل ، سواء كان عليه دين بأضعافه ، أو أقل ، أو أكثر ، أو لم يكن ، بخلاف التدبير.

فإذا أوصى الإنسان بثلث ماله لشخص ، ثم بعد ذلك اوصى بثلث ماله لغير ذلك الشخص ، كان الثلث لمن اوصى له أخيرا ، وكانت الوصيّة الأخيرة ناسخة للأولى ، ورافعة لحكمها ، لأن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته الا ثلث ماله ، فإذا اوصى به لإنسان ، ثم وصى بعد ذلك به لإنسان آخر ، فقد نقل الثلث الذي يستحقه من الأوّل الى الثّاني ، لأنه يعلم انه لا يستحق سوى الثلث ، فإذا وصّى به ثمّ وصّى به ، فقد رجع عن الوصيّة الأولى ، وللإنسان ان يرجع عن وصيّته ويبدّلها ويغير أحكامها ما دام حيّا ثابت العقل ، فليحظ ذلك ، فهذا معنى قول أصحابنا ، وما يوجد في الكتب « انّه إذا اوصى الإنسان بوصيّة ، ثمّ أوصى بأخرى ، فإن أمكن العمل بهما جميعا وجب العمل بهما ، وإن لم يمكن العمل بهما كان العمل على الأخيرة دون الأولى ».

فامّا إذا اوصى بشي ء ولم يقل بثلثي ، ثم أوصى بشي ء آخر ولم يذكر الثلث ، وأوصى بشي ء آخر ولم يذكر الثلث ، فان مذهب أصحابنا ان يبدأ بالأوّل فالأوّل ، ويكون النقصان ان لم يف الثلث داخلا على من ذكر أخيرا ، لأنه لما أوصى للأوّل ، ما قال أوصيت له بثلثي ، وكذلك الثّاني والثالث ، فظن ان ثلثه يبلغ مقداره جميع من ذكره ، ويفى بما ذكر ، ولم ينقل عن الأوّل ما اوصى له به ، وكذلك الثاني ، فلو علم انه قد استوفى ثلث ماله لمن اوصى له به ، ما اوصى بعده بشي ء آخر ، لانه يعلم انه ليس له بعد موته سوى الثلث ، فإذا استوفاه فيكون النقصان داخلا على من ذكره أخيرا.

فهذا الفرق بين المسألتين ، فلا يظن ظان ان المسألتين واحدة ، وان بينهما تناقضا أو مذهب أصحابنا ان الوصيّة الثانية ناسخة للأولى في جميع المواضع ، أو انّ الواجب البدأة بالأوّل فالأوّل ، بل إذا وجد في بعض الكتب أنّ الأخيرة ناسخة للأولى ، ففقه ذلك ما ذكرناه ، وإذا وجد في الكتب ، ان الواجب ان يبدأ بالأوّل

ص: 195

فالأوّل ، ويكون النقصان داخلا على من ذكر أخيرا ، ففقهه ما ذكرناه ، فليحظ ويتأمل ويعمل فيه بما قررناه.

والذي يدلّك على ما حرّرناه ، ما ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة ، ومسائل خلافه.

فإنه قال في مبسوطة : إذا اوصى الرجل بثلث ماله ، ثم اوصى لآخر بثلث ماله ، فهاتان وصيّتان بثلثي ماله ، وهكذا إذا أوصى بعبد بعينه لرجل ، ثم اوصى لرجل آخر بذلك العبد بعينه ، فهما وصيّتان ، ويكون الثّاني رجوعا عن الاولى ، ومنهم من قال لا يكون رجوعا ، وفيه خلاف ، فمن قال ليس برجوع ، قال ينظر فإن أجاز الورثة ، يكون لكلّ واحد منهما ثلث ماله ، وكذلك نقول ، ومن قال هو رجوع ، فإن أجازوه قالوا المال بينهما نصفان ، وان لم يجيزوه نظرت ، فان كان قيمة العبد قدر الثلث ، فإنه يكون بينهما ، ولا يحتاج إلى اجازة الورثة ، وان كان قيمة العبد أكثر من الثلث ، فللورّاث ان يمنعوا الزيادة على الثلث ، فامّا الثلث فلا ، ويكون الثلث بينهما نصفين ، هذا إذا قبلا جميعا الوصيّة وان رد أحدهما وقبل الآخر ، فان جميع الثلث لمن قبل ، لانه قد اوصى لكل واحد منهما بجميع الثلث ، وعلى ما قلناه « من ان في الثاني رجوعا عن الأول » ينظر ، فان رجع الأوّل فلا تأثير لرجوعه ، لأن الوصيّة له قد بطلت بالوصيّة للثاني ، وان رجع الثاني ولم يقبلها ، رجع المال إلى الورثة ، لأن الوصيّة للأوّل كانت قد بطلت بالوصيّة للثاني ، هذا أخر كلامه في مبسوطة (1).

وقال رحمه اللّه في موضع آخر ، في هذا الفصل في مبسوطة ، أيضا ، فإمّا العطيّة المؤخّرة ، إذا اوصى بعتق ، أو اوصى بمحاباة دفعة واحدة ، نظرت ، فان لم يكن فيه عتق ، فإنه يسوّي بينهم ، لأن حال استحقاق وجوبه واحدة ، وهو بعد الموت ، فان خرج كلّه من الثلث ، صح الكلّ ، وان لم يخرج من الثلث عندنا ، يقدم الأوّل فالأوّل ويدخل النقص على الأخير ، وان اشتبهوا أقرع بينهم ، وعند المخالف يقسط عليهم ، فهذا آخر كلامه (2).

ص: 196


1- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، ص 42.
2- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، ص 48.

فانظر أيدك اللّه بتوفيقه ، الى كلامه في المسألة الأولى ، والى كلامه في هذه المسألة ، لا وجه له الا ما حرّرناه.

وإذا اوصى الإنسان بوصيّة ، فليس لأحد مخالفته فيما اوصى به ، ولا تغيير شي ء من شرائطها على ما قدمناه (1) ، الا ان يكون قد وصّى بما لا يجوز له ان يوصي به ، مثل ان يكون قد اوصى بماله في غير مرضاة اللّه ، أو أمر بإنفاقه في وجوه المعاصي ، من قتل النفوس ، وسلب الأموال ، أو إعطائه الكفار ، أو إنفاقه على مواضع قربهم من البيع ، والكنائس ، وبيوت النيران ، فان فعل شيئا من ذلك وجب على الوصي مخالفته في جميع ذلك ، وصرف الوصيّة إلى الحق ، وكان على امام المسلمين معاونته على ذلك.

فإن أوصى الإنسان لأحد أبويه أو بعض قرابته بشي ء من ثلثه ، وجب إيصاله إليهم وان كانوا كفارا ضلّالا ، وكذلك من لا بينه وبينه قرابة من الكفار على ما قدمناه (2).

وقد ذهب بعض أصحابنا انه لا تصحّ الوصيّة للكفّار الّا لمن بينه وبينه رحم.

والأوّل هو الأظهر لأنا لا نراعي في الوصيّة القربة ، ويعضد ذلك قوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ » (3) وهذا عام.

ولا بأس بالوصيّة للوارث عندنا إذا لم تكن بأكثر من الثلث ، فان كانت بأكثر من الثلث ، ردت اليه ، الّا ان يجيزه الوارث على ما قدّمناه (4).

وإذا اوصى بوصيّة ثم قتل نفسه ، كانت وصيته ماضية ، لم يكن لأحد ردّها ، فان جرح نفسه بما فيه هلاكها على غالب العادات ، ثم وصّى ، كانت وصيّته مردودة ، لا يجوز العمل عليها ، على ما رواه بعض أصحابنا في بعض الاخبار (5).

والذي يقتضيه أصولنا ، وتشهد بصحّته أدلّتنا ، أنّ وصيّته ماضية صحيحة ، إذا كان عقله ثابتا عليه ، لانه لا مانع من ذلك ، ويعضده قوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ

ص: 197


1- في ص 192.
2- في ص 186.
3- سورة البقرة ، الآية 181.
4- في ص 194.
5- الوسائل ، الباب 52 من كتاب الوصايا ، ح 1.

بَعْدَ ما سَمِعَهُ » ولا دليل على إبطال هذه الوصيّة من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع.

وإذا اوصى بوصيّة ثمّ قتله غيره خطأ ، كانت وصيّته ماضية في ثلث ماله وثلث ديته ، على ما رواه أصحابنا (1).

وإذا جرحه غيره ، ثمّ وصّى كان الحكم فيه أيضا مثل ذلك ، في انّه تمضى الوصيّة في ثلث ماله ، وثلث ما يستحقه من أرش الجراح.

وإذا اوصى الإنسان لعبده بثلث ماله ، فان كان الثلث وفق قيمة العبد ، عتق ولا شي ء له ولا عليه ، وان كان أكثر عتق أيضا ، واعطي بقيّة الثلث ، وان كان الثلث أقلّ من القيمة بأيّ شي ء كان أقل (2) ، عتق منه بمقدار الثلث ، واستسعى في الفاضل عن الثلث ، لأن الإنسان يملك بعد موته ثلث ماله ، فقد انعتق على كل حال ما يملكه ، وهو ثلث العبد (3).

وقد رويت رواية (4) شاذة ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا لصحّتها ، لانه رجع عنها في مسائل خلافه ، فقال في نهايته ، وإذا اوصى الإنسان لعبده بثلث ماله ، نظر في قيمة العبد قيمة عادلة ، فإن كانت قيمته أقلّ من الثلث ، أعتق ، واعطي الباقي ، وان كانت مثله أعتق وليس له شي ء ، ولا عليه شي ء ، وان كانت القيمة أكثر من الثلث بمقدار السدس ، أو الربع ، أو الثلث ، أعتق بمقدار ذلك ، واستسعى في الباقي لورثته ، وان كانت قيمته على الضعف من ثلثه ، كانت الوصيّة باطلة (5).

وهذا لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنه عاد عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال مسألة : إذا اوصى لعبد نفسه صحت الوصيّة ، وقوّم

ص: 198


1- الوسائل ، الباب 14 من كتاب الوصايا ، ح 1 - 2 - 3.
2- في نسخة الأصل : « وان كانت قيمته أقل من الثلث بأي شي ء كانت أقل » وخطاه ظاهر.
3- ج. بما يملكه وهو ثلث ماله.
4- الوسائل ، الباب 78 من كتاب الوصايا ، ح 2 ، وأورده بسند آخر في الباب 11 من هذا الكتاب ح 10
5- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة وما يصحّ منها ومالا يصحّ.

العبد ، وأعتق ، إذا كان ثمنه أقلّ من الثلث ، فان كان ثمنه أكثر من الثلث ، استسعى فيما يفضل للورثة ، هذا أخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (1). واستدلّ عليه بإجماع الفرقة ، والى هذا يذهب ابن بابويه في رسالته.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا اوصى الإنسان بعتق مملوك له ، وكان عليه دين ، فان كان قيمة العبد ضعفي الدين ، استسعى العبد في خمسة أسداس قيمته ، ثلاثة أسهم للديان ، وسهمان للورثة ، وسهم له ، وان كانت قيمته أقلّ من ذلك ، بطلت الوصيّة (2) على ما روي (3) في أخبارنا ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته.

والذي يقتضيه المذهب ، انه لا وصية قبل قضاء الدين ، بل الدّين مقدّم على الوصيّة ، والتدبير عندنا وصيّة ، فلا تمضى الوصيّة إلا بعد قضاء الدين ، فان عمل عامل بهذه الرّواية ، يلزمه ان يستسعى العبد ، سواء كانت قيمته ضعفي الدين ، أو أقلّ من ذلك ، لانه متى كانت قيمته أكثر من الدين ، بأي شي ء كانت ، فان الميّت الموصى قد استحق في الذي فضل على الدين ثلثه ، فتمضى وصيّته في ذلك الثلث ، ويعتق العبد ، ويستسعى في دين الغرماء ، وما فضل عن ثلث الباقي للورثة ، ولي في ذلك نظر.

فإن أعتقه في الحال ، وبتّ عتقه قبل موته ، مضى العتق ، وليس لأحد من الديّان ولا للورثة عليه سبيل ، لان ذلك ليس بتدبير ، وانّما ذلك عطيّة منجزة في الحال ، وعطاياه المنجزة صحيحة على الصّحيح من المذهب ، لا تحسب من الثلث ، بل من أصل المال.

ومن وصّى لعبد غيره لم يصح وصيّته ، فإن وصى لمكاتب مشروط عليه ، كان أيضا مثل ذلك ، فان لم يكن مشروطا عليه ، جازت الوصيّة له بمقدار ما ادى من كتابته ، لا أكثر من ذلك.

وإذا اوصى لأم ولده ، اعتقت من نصيب ولدها ، وأعطيت ما اوصى لها به ،

ص: 199


1- الخلاف ، كتاب الوصايا ، مسألة 48.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ.
3- الوسائل ، الباب 39 ، من كتاب الوصايا ، الحديث 1 و 2 و 5 و 6.

على ما روى (1) في الاخبار ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انها تنعتق بالوصيّة ان كانت وفق قيمتها ، وما بقي بعد رقبتها يكون بين ولدها وباقي الورثة ، على كتاب اللّه تعالى ، وإن كانت الوصيّة بأكثر من قيمتها ، وتخرج من الثلث ، فتعتق أيضا بالوصيّة ويسلم إليها ذلك الأكثر ، وان كانت الوصيّة أقل من قيمتها ، عتقت بمقدارها بالوصيّة ، وباقيها من سهم ولدها ، وجعل باقيها من نصيبه ، لان اللّه تعالى قال « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ » (3) فجعل تعالى استحقاق الإرث بعد الوصيّة والدين ، بغير خلاف بين أصحابنا ، فإذا أعتقناها من سهم ابنها ، دون الوصيّة ، فقد قدمنا الإرث على الوصيّة ، وهذا بخلاف القرآن ، وهذه الرواية خبر واحد ، وقد قدّمنا ان اخبار الآحاد لا يعمل بها في الشرعيات ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

وإذا اوصى الموصي بإخراج بعض الورثة من الميراث ، لم يلتفت الى وصيّته ، وقوله ، إذا كان مقرا به قبل ذلك ، أو كان مولودا على فراشه ، لم يكن قد انتفى منه في حال حياته بلعان امرأته.

تصرّف المريض فيما زاد على الثلث إذا لم يكن منجزا لا يصح بلا خلاف ، وان كان منجزا مثل العتاق والهبة المقبوضة ، فلأصحابنا فيه روايتان ، إحديهما (4) انّه يصحّ ، وهو الأظهر في المذهب ، الّذي يعضده الأدلة ، والأخرى (5) لا يصح ، وهو مذهب جميع من خالفنا.

إذا اوصى إنسان بغلة بستانه ، أو ثمرة نخلته ، أو خدمة عبده ابدا لإنسان على

ص: 200


1- لم ، نتحققها في المجامع الحديثية ، وفي الجواهر ، ج 28 ، ص 382 ، قال وفي كتاب العباس ، تعتق من نصيب ابنها وتعطى من ثلثه ما اوصى لها به ، وكان المراد انه قد روى الخبر المزبور في كتاب العباس على هذا النحو .. فراجع.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة ، وما يصحّ منها وما لا يصحّ.
3- سورة النساء ، الآية 12.
4- الوسائل ، الباب 17 من كتاب الوصايا ، ح 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11.
5- الوسائل ، الباب 17 ، من كتاب الوصايا ، ح 13 - 14 - 15 - 16.

وجه التأييد ، فإن غلّة البستان وثمرة النخلة ، ان كانت الثمرة والغلة موجودة في وقت موته ، ولم يخلف غير البستان أو غير النخلة ، فانّ البستان أو النخلة يقوّمان ، ويعطى الموصى له بالغلّة والثمرة بقدر ثلث جميع ما قوّم ، فان كانت الثمرة بقدر الثلث ، فقد استوفى ما وصي له به ، وان نقصت عن الثلث ، استوفى في المستقبل من الثمرة تمام الثلث ، ويعود ملك الأصول إلى الورثة بعد استيفاء جميع ثلث ما كان في ملك الميّت الذي ذكرنا انّه يقوّم بعد الموت.

واما خدمة العبد ، فان العبد أيضا يقوم وقت الموت ، ويستخدمه الموصى له بخدمته مدة يكون إجارتها بمقدار الثلث ، فإذا استوفى الثلث ، عادت رقبة العبد إلى الورثة.

هذا إذا لم يخلف الميّت ثلثين ، كلّ ثلث بمقدار قيمة الغلّة أو الثمرة ، أو قيمة العبد سوى الثلث الذي هو قيمة الغلّة أو الثمرة ، أو قيمة العبد.

فان كانت الثمرة أو الغلّة معدومة ، فإنّ الجميع يقوّم ، ويأخذ في المستقبل الموصى له بقدر الثلث ، ممّا يخرج البستان أو النخلة ، إلى ان يستوفى قدر الثلث ، ويرجعان إلى الورثة.

إذا كان عليه حجة الإسلام ، فأوصى أن يحج عنه من ثلث ماله ، واوصى بوصايا أخر ، قدم الحج على غيره من الوصايا ، فان كانت الحجّة تطوّعا فلا دلالة على تقديمها.

وروى (1) في أخبارنا ان الإنسان إذا وصى بان يشترى بثلث ماله عبيد ، وأعتقوهم ، فينبغي ان يشترى بالثلث ثلاثة فصاعدا ، لأنّهم أقل الجمع ، ان بلغ الثلث قيمة ثلاثة بلا خلاف ، وان لم يبلغ وبلغ اثنين وجزء من الثّالث ، فإنّه يشترى الاثنان ، ويعتقان ، ويعطيان البقيّة.

والذي يقتضيه الأصول ، وتشهد بصحّته الأدلّة ، انّه يشترى بالباقي جزء من عبد ثالث ، لانه يكون قد امتثل المأمور ، لأن العبد يعتق ، ويستسعى في باقي قيمته ،

ص: 201


1- لم نجده في مجاميع أخبارنا ، راجع المسألة 16 من كتاب الوصايا من الخلاف.

فيكون قد أعتقوا ثلاثة ، والرواية من اخبار الآحاد ، وقد بيّنا انه لا يعمل باخبار الآحاد عندنا في الشرعيّات ، لأنها لا توجب علما ولا عملا.

وإذا اوصى لرجل بشي ء ثمّ مات الموصي ، فإنه ينتقل ما اوصى به الى ملك الموصى له بوفاة الموصي ، لأنه لا يخلو الشي ء الموصى به من ثلاثة أحوال ، امّا ان يبقى على ملك الميّت ، أو ينتقل إلى الورثة ، أو ينتقل الى الموصى له ، ولا يجوز ان يبقى على ملك الميّت ، لانّه قد مات ، والميّت لا يملك ، بل يزول ملكه بموته ، ولا يكون ملكا للورثة لقوله تعالى « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ » (1) فجعل للورثة الميراث بعد الوصيّة ، فلم يبق الّا ان يكون ملكا للموصى له بالموت ، هذا استدلال شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (2) ، لانّه يذهب الى ان بالموت ينتقل ما اوصى به الى ملك الموصى له.

والذي يقوى في نفسي ، انه لا ينتقل بالموت ، بل بانضمام القبول من الموصى له ، لا بمجرد الموت ، والذي يدل على صحة ذلك ، أنه لا خلاف بين أصحابنا انه إذا رد الموصى له الوصية بعد موت الموصى ، فإن الشي ء الموصى به يعود إلى الورثة ، ويقسم قسمة الميراث ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلو انتقل الى ملك الموصى له بالموت ، ما كان كذلك ، بل كان يكون هبة منه ، وصلة وعطيّة للورثة ، فيكون ذكرهم وأنثاهم فيها سواء ، وأيضا فإنه يبعد ان يدخل الشي ء في ملك مالك بغير قبوله واختياره ، لانه ليس في أصول مذهبنا ذلك ، ولا لأصحابنا فتوى بذلك ، ولا وردت به اخبار عن الأئمة الأطهار ، ولا وضعه مصنف منهم في كتابه ، ولا أودعه تصنيفه ، ولا اجمعوا عليه ، والأصل ان لا ملك ، فمن ادعى دخول الأشياء في الأملاك بغير رضا المالكين ولا قبولهم ، فإنه يحتاج الى دليل قاهر.

والذي يمكن ان يقال على استدلال شيخنا أبي جعفر ، وتفصيله « من انه ليس بملك للميّت ولا للورثة » فما بقي الا ان يكون داخلا في ملك الموصى له.

يقال ما تقول في التركة إذا كان على الميّت دين يحيط بها ، فإنها بلا خلاف بيننا

ص: 202


1- سورة النساء ، الآية 11 - 12.
2- الخلاف ، كتاب الوصايا ، مسألة 18.

لا يدخل في ملك الغرماء ، ولا ملك الورثة ، والميّت فقد انقطع ملكه وزال فتبقى موقوفة على قضاء الدّين ، فالشي ء الموصى به بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له ، يبقى موقوفا على القبول ، لا يدخل في ملك أحد مثل التركة سواء.

وقد رجع شيخنا في الجزء الأوّل في كتاب الفطرة : إذا قال إنسان قد أوصيت لفلان بثلث هذا العبد ، أو ثلث هذه الدار ، أو الثوب ، ثمّ مات الموصي ، وخرج ثلثا ذلك العبد ، أو تلك الدّار مستحقّا ، فإن الوصيّة تصح في الثلث الباقي في جميعه ، إذا خرج من الثلث ، وذهب بعض المخالفين الى انّ الوصيّة انّما تصحّ في ثلث ذلك الثلث الباقي الذي لم يخرج مستحقا ، والدليل على ما اخترناه ، انه إذا قال أوصيت لفلان بثلث هذه الدار ، فإنّما اوصى له بما يملكه ، الا ترى انّه إذا قال بعت ثلث هذه الدار ، فان ذلك ينصرف الى الثلث الذي يملكه منها ، فإذا كان اوصى له بما يملك ، وخرج من الثلث ، وجب أن يصح ، كما لو اوصى له بعبد يملكه.

إذا اوصى بأن يصرف ثلثه في سبيل اللّه ، فسبيل اللّه يدخل فيه الجهاد وغيره ، من بناء المساجد ، والقناطر ، وجميع ما يتقرّب به الى اللّه سبحانه.

إذا اوصى الإنسان ان يساوي بين ورثته الرجال والنساء ، وان يكونوا في الميراث سواء ، هل ذلك جائز له ، وهل هو في فعله على صواب أو خطأ ، فالجواب عن ذلك انه يجوز ما لم يزد تفضيل البنات على ثلث ماله ، فان زاد على ذلك بطل الزّائد ، ورد الى الثلث.

نكاح المريض جائز إذا دخل بها ، وان لم يدخل ولم يصح من مرضه ذلك ، ومات فيه قبل الصّحة وقبل الدّخول ، لم يصحّ النكاح ، وكان باطلا عند أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ولا يجب عليها عدّة ولا لها ميراث ، وهذا إجماع من أصحابنا.

الوصيّة للقاتل جائزة ، لأنّها ليست بميراث.

إذا اوصى لمواليه ، ولأبيه موال ، وله موال ، كان ذلك مصروفا الى مواليه ، دون موالي أبيه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : لا يجوز ان يوصي إلى أجنبي ، بأن يتولى

ص: 203

أمر أولاده الصغار مع وجود أبيه ، ومتى فعل لم تصحّ الوصيّة ، لأن الجدّ أولى (1) ، ولي في ذلك نظر.

الامّ عندنا لا تلي على أولادها بنفسها ، إلا بوصيّة من أبيهم.

إذا اوصى الإنسان الى رجل بجهة من الجهات ، فليس له ان يتصرف في غيرها من الجهات.

إذا اوصى بثلث ماله ، اعتبر حال الموت ، لا حال الوصيّة.

من ليس له وارث قريب أو بعيد ، ولا مولى نعمة ، لا يصح ان يوصى بجميع ماله ، ولا يوصي بأكثر من الثلث.

إذا قال أعطوا فلانا رأسا من رقيقي ، فإن هذه وصيّة صحيحة ، والورثة بالخيار ، يعطون أيّ رأس من عبيده شاءوا ، أقلّ ما يقع عليه اسم الرقيق ، سواء كان معيبا أو صحيحا ، صغيرا أو كبيرا فان هلك الرقيق إلا رأسا واحدا ، فإنه يعطى ذلك العبد ، لأنه اوصى له لا بعينه ، وعلقه بصفة ، والصّفة موجودة هاهنا ، فامّا ان قال أعطوه رأسا من رقيقي ، ولم يكن له رقيق أصلا ، فإن الوصيّة باطلة ، لأنه علّقه بصفة ليست موجودة ، كما لو اوصى له بدار ، ولم يكن له دار.

وإذا اوصى له بشاة من غنمه ، فالوصيّة صحيحة ، وللورثة ان يعطوا ايّ شاة وقع عليها اسم الشّاة ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، ضانية أو ماعزة ، معيبة أو سليمة ، فإن كانت غنمه كلها إناثا اعطي أنثى ، وان كانت ذكرانا اعطي ذكرا ، وان كانت ذكرانا وإناثا ، فالورثة بالخيار بين إعطائه الذكر أو الأنثى ، لأن الاسم يتناول ذلك.

إذا قال أعطوه عشر أنيق ، أو عشر بقرات ، اعطى الإناث لا الذكور ، لانّه اسم الإناث ، وان قال أعطوه عشرة من الإبل ، الأقوى والأظهر ان يقال يجب ان يعطى ذكورا ، لان الهاء لا تدخل الّا على عدد المذكر ، دون المؤنث.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فإن أوصى ، فقال أعطوه دفّا من دفوفى ،

ص: 204


1- الخلاف ، كتاب الوصايا ، مسألة 40.

فإنه تصح الوصيّة ، لأن الدّف له منفعة مباحة ، لما روى (1) عنه عليه السلام انه قال « أعلنوا هذا النكاح ، واضربوا عليه بالدّف » وعلى مذهبنا لا تصح لان ذلك محظور استعماله ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (2).

ونعم ما قال لانّه من اللّهو واللّعب ، وان كان قد روي رواية شاذّة بأنه مكروه وليس بمحظور.

وإذا قال أعطوه قوسا من قسىّ ، وله قسى ، قوس نشّاب ، وهو قوس العجم ، وقوس نبل ، وهو القوس العربي ، أو يكون له قوس حسبان ، - بضمّ الحاء غير المعجمة ، وسكون السّين غير المعجمة ، وفتح الباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، وهي سهام قصار ، الواحدة حسبانة ، هذا قول الجوهري في كتاب الصّحاح ، وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (3) ، « قوس حسبان » وهو الذي يدفع به النشاب في مجرى ، وهو الوتر مع المجرمى ، ويرمى به ، وقال في كتابه كتاب التبيان ، في تفسير قوله تعالى « حُسْباناً مِنَ السَّماءِ » (4) قال ابن عباس ، وقتادة ، معناه عذابا ، وقيل نارا من السماء تحرقها ، وقيل أصل الحسبان السهام الّتي ترمى بمجرى في طلق واحد ، وكان ذلك من رمي الأساورة هذا أخر كلامه رحمه اللّه في التبيان (5) ، - أو يكون للميّت قوس جلاهق ، أو يكون له قوس النّداف ، قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، فإن هذا بالإطلاق يحمل على قوس النشّاب ، والنبل ، والحسبان ، فالورثة بالخيار ، يعطون ايّ قوس من هذه الثلاثة شاءوا ، ثمّ قال رحمه اللّه ، فامّا إذا لم يكن له شي ء إلّا الجلاهق ، وقوس النّداف ، فالورثة بالخيار ، يعطون ايّ القوسين شاءوا (6).

ص: 205


1- ابن ماجة ، باب إعلان النكاح من كتاب النكاح ، الرقم 1895 ولفظه : « أعلنوا هذا النكاح ، واضربوا عليه بالغربال ».
2- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، ص 20.
3- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، ص 21 ، وفي المصدر ، وهو الوتد مع المجرى.
4- سورة الكهف ، الآية 40.
5- التبيان ، ج 7 ، سورة الكهف ، ص 42.
6- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، ص 21 ، في العبارة تقطيع.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، ارى ان الورثة بالخيار في إعطاء أيّهم ما شاءوا من الخمسة الأقواس ، وتخصيص كلامه الموصي العام ، يحتاج الى دليل ، والجلاهق البندق ، واحده جلاهقة.

باب شرائط الوصيّة

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : من شرط الوصيّة ان يكون الموصي عاقلا حرّا ثابت العقل ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، فان بلغ عشر سنين ، ولم يكن قد كمل عقله ، غير انه لا يضع الشي ء إلا في موضعه ، كانت وصيّته ماضية في المعروف من وجوه البر ، ومردودة فيما لم يكن كذلك ، ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، لم يجز وصيّته ، وقد روى (1) انّه إذا كان ابن ثمان سنين ، جازت وصيّته في الشي ء اليسير ، في أبواب البر ، والأوّل أحوط ، وأظهر في الروايات ، وكذلك يجوز صدقة الغلام إذا بلغ عشر سنين ، وهبته وعتقه ، إذا كان بالمعروف في وجوه البر ، فاما ما يكون خارجا عن ذلك ، فليس بممضاة على حال ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه الذي تقتضيه أصول مذهبنا أن وصيّة غير المكلف البالغ غير صحيحة ، ولا ممضاة ، سواء كانت في وجوه البر ، أو غير وجوه البر ، وكذلك صدقته وعتقه وهبته ، لان وجود كلام الصبيّ غير البالغ كعدمه ، ولانه بلا خلاف محجور عليه ، غير ماض فعله في التصرف في أمواله ، بغير خلاف بين الأمة.

وأيضا قوله تعالى « وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » (3) فأمرنا بالدفع للأموال إليهم بعد البلوغ ، وهو في الرّجال الاحتلام ، أو الإنبات ، أو خمسة عشرة سنة ، وفي النساء الاحتلام أيضا أو الإنبات ، أو بلوغ تسع سنين ، أو الحمل ، أو الحيض مع إيناس الرشد ، وحدّه ان يكون مصلحا لماله ، مصلحا لدينه ، ومن أجاز شيخنا وصيّته وعتقه وهبته ، ليس كذلك.

ص: 206


1- الوسائل ، الباب 15 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح 4.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب شرائط الوصيّة.
3- سورة النساء ، الآية 6.

وأيضا قوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يحتلم (1) ، ورفع القلم عنه يدل على انه لا حكم لكلامه ، وانّما هذه اخبار آحاد ، يوردها في كتابه النهاية ، إيرادا ، وقد بيّنا ان اخبار الآحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وقد بيّنا في كتاب الحجر من كتابنا هذا ، حد البلوغ ، ومتى يفك الحجر عن الأطفال ، ويسلم إليهم أموالهم ، فلا معنى لإعادته.

وليس من شرط صحة الوصيّة الى الموصى اليه ان يشهد الموصي عليها شاهدين عدلين ، بل الأولى أن يشهدهما ، كيلا يعترض فيها الورثة ، فان لم يشهد أصلا وأمكن الوصي إنفاذ الوصيّة ، وجب عليه إنفاذها على ما اوصى به اليه.

ولا يجوز غير شهادة المسلمين (2) العدول في الوصيّة إلا عند الضرورة وفقد العدول ، فإنّه يجوز والحال هذه ان يشهد نفسين من أهل الذمّة ، ممن ظاهره الامانة عند أهل ملته ، ولا يجوز شهادة غير أهل الذمّة على حال.

فان لم يحضره الّا امرأة مسلمة عدلة ، جازت شهادتها في ربع الوصيّة ، فإن حضرت اثنتان ، جازت شهادتهما في النّصف ، ثم على هذا الحساب.

وإذا أشهد إنسان عبدين له على حمل جارية له انّه منه ، وأعتقهما ، فشهدا عند الورثة بذلك ، فلم يقبلوا شهادتهما ، واسترقوهما ، وبيعا ، أو أعتقا ، فشهدا للمولود بالنسب قبلت شهادتهما على الورثة ، وقد حققنا ذلك وحررناه في كتاب الشهادات (3).

باب الوصيّة المبهمة والوصيّة بالعتق والحج

إذا اوصى الإنسان بجزء من ماله ، ولم يبيّنه ، كان ذلك السّبع من ماله ، وروى (4) انه يكون العشر ، والأول هو المذهب ، وعليه العمل على ما قدمناه (5).

ص: 207


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 10.
2- ج : شهادة غير.
3- الجزء الثاني ، ص 135.
4- الوسائل ، الباب 54 من كتاب الوصايا ، ح 1 - 2 - 3 - 4 - 8 - 9 - 10 - 11.
5- في ص 187.

وان اوصى بسهم من ماله ، كان ذلك الثمن ، وذهب بعض أصحابنا رحمهم اللّه ، الى انّه يكون السّدس ، والأول هو الأظهر ، وعليه العمل.

وإذا اوصى بشي ء من ماله ولم يبين مقداره ، كان ذلك السّدس من ماله على ما قدمناه (1) ، وأجملناه فيما مضى.

وقال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته : فإن أوصى بثلث ماله في سبيل اللّه ولم يسمّ ، أخرج في معونة المجاهدين لأهل الضّلال والكافرين (2).

والصحيح من المذهب ، انه يصرف في كل ما يتقرب به الى اللّه سبحانه ، لان سبيل اللّه هو الطريق التي يتقرب بها الى اللّه سبحانه ، ويدخل في ذلك الجهاد وغيره من وجوه البر ، مثل بناء المساجد ، والقناطر ومعونة الحاج والزّوار ، وتكفين الموتى ، وغير ذلك على ما قدمناه فيما مضى (3).

الّا ان شيخنا رجع في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب قسمة الصّدقات ، فإنه قال : مسألة سبيل اللّه يدخل فيه الغزاة في الجهاد ، والحاجّ وقضاء الدّيون عن الأموات ، وبناء القناطر ، وجميع المصالح وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك ، أنه يختص المجاهدين ، وقال أحمد سبيل اللّه هو الحج ، فيصرف ثمن الصدقة في الحج ، دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا قوله تعالى ( وَفِي « سَبِيلِ اللّهِ » فإنه يدخل فيه جميع ذلك ، لأن المصالح من سبيل اللّه ، هذا أخر كلامه في المسألة (4).

فإن أوصى الإنسان بوصيّة وجعلها أبوابا مسمّاة ، فنسي الوصيّ بابا منها ، فليجعل ذلك السّهم في وجوه البرّ على ما روي (5) في بعض الأخبار ، أورده شيخنا في نهايته (6).

وقال شيخنا في جواب الحائريات : إذا نسي الوصيّ جميع أبواب الوصية ، فإنها تعود ميراثا للورثة (7).

ص: 208


1- في ص 187.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.
3- في ص 187.
4- الخلاف : كتاب قسمة الصدقات ، مسألة 21.
5- الوسائل ، الباب 61 من كتاب الوصايا.
6- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.
7- المسائل الحائريات وفي ص 297 المسألة معنونة وعبارتها هكذا ، إذا نسي جميع أبواب الوصيّة ولم يكن هناك ما يرجع فيتذكره بطلت وصيّته.

فنعم ما قال وأجاب رحمه اللّه ، فان كان على تلك الرّواية إجماع ، والّا فالأولى ان تعود الباب كالمنسيّة ميراثا للورثة.

وإذا اوصى الإنسان لغيره بسيف ، وكان في جفن وعليه حلية ، كان السّيف له بما فيه وعليه إذا خرج من الثلث ، على ما رواه (1) أصحابنا.

وإذا اوصى بصندوق لغيره ، وكان فيه مال ، كان الصندوق بما فيه للذي اوصى له به ، إذا خرج من الثلث على ما رواه (2) أصحابنا.

وكذلك ان اوصى له بسفينة وكان فيها متاع ، كانت السّفينة بما فيها للموصى له ، إذا خرج أيضا من الثلث ، الا ان يستثنى ما فيها.

وكذلك إذا اوصى بجراب - بكسر الجيم - وكان فيه متاع ، كان الجراب بما فيه للموصى له ، سواء كان الموصي عدلا أو فاسقا متهما على الورثة أو غير متهم ، لأنا لا نراعي في الموصي العدالة ، بل ثبوت العقل ، فإذا كان عاقلا تمضى وصيّته في ثلث ماله ، ولا تمضى في أكثر من ثلث ماله ، سواء كان عدلا أو فاسقا.

وقال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته - بعد إيراده الوصيّة بالصندوق والسّفينة والسّيف والجراب ، ولم يقيد ان ذلك يجوز إذا خرج من الثلث ، بل قال كان الجراب بما فيه للموصى له - : هذا إذا كان الموصي عدلا مأمونا ، فان لم يكن عدلا وكان متهما ، لم تنفذ الوصيّة في أكثر من ثلثه من الصندوق والسفينة والسيف والجراب ، وما فيها (3).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، فليلحظ.

والى ما اخترناه ذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، فإنه قال : وإذا اوصى إنسان لإنسان بصندوق مقفل ، وكان في الصندوق متاع بقدر الثلث ، أو دونه من تركته ، فالصندوق بما فيه للموصى له ، الا ان يستثنيه الموصي به وكذلك ان وصّى له

ص: 209


1- الوسائل : الباب 57 من كتاب الوصايا.
2- الوسائل ، الباب 58 من كتاب الوصايا.
3- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.

بسفينة فيها طعام ، فالسّفينة بما فيها للموصى له ، الّا ان يستثنى ما فيها ، وكذلك ان وصّى له بجراب مشدود ، ووعاء مختوم ، فالجراب والوعاء وما فيهما للموصى له ، حسب ما قدمناه ، هذا أخر كلام شيخنا المفيد في مقنعته (1).

فإنّه قيد بان ما في الصندوق ، ويكون بقدر الثلث أو دونه من تركته ، وكذلك في السّفينة والجراب ، ولم يجز الوصيّة فيما زاد على الثلث بحال ، سواء كان عدلا مرضيّا أو فاسقا متّهما ، وهذا الذي يقتضيه مذهبنا ، وإجماعنا منعقد عليه ، لا خلاف بين أصحابنا فيه ، من انه لا يجوز الوصيّة من كل أحد بأكثر من الثلث ، سواء كان عدلا أو فاسقا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا وصّى الإنسان بشي ء معيّن لأعمامه وأخواله ، كان لأعمامه الثلثان ، وللأخوال الثلث (2).

والذي يقتضيه مذهبنا ، انّ لكل واحد من أخواله مثل كل واحد من أعمامه ، يكون جماعة الموصى لهم من الأعمام والأخوال في الوصيّة سواء ، لأنّ ذلك ليس بميراث ، وما ذكره رحمه اللّه خبر واحد أورده في نهايته ، إيرادا لا اعتقادا ، وقد بينا أنّ اخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ثمّ قال رحمه اللّه بعد ذلك ، فإن أوصى الإنسان لأولاده وكانوا ذكورا وإناثا ، ولم يذكر كيفيّة القسمة فيه ، كان ذلك بينهم بالسّوية ، فإن قال هو بينهم على كتاب اللّه تعالى ، كان ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (3).

إذا اوصى فقال أعطوا ثلث ما لي لقرابتي ، فإن الوصيّة تكون للمعروفين من أقاربه في العرف ، فيدخل فيه كل من يعرف في العادة انه من قرابته ، سواء كان وارثا أو غير وارث ، لان العرف يشهد بذلك ، وشاهد الحال وفحوى الخطاب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، اتباعا لشيخه المفيد في مقنعته (4) وإذا اوصى بثلث ماله لقرابته ، ولم يسم أحدا ، كان ذلك في جميع ذوي نسبه الراجعين الى آخر

ص: 210


1- المقنعة ، باب الوصيّة المبهمة ، وفي المصدر ، وإذا وصّى الإنسان ص 674.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة ، وفي المصدر ، وإذا اوصى.
3- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة ، وفي المصدر ، وإذا اوصى.
4- المقنعة ، باب الوصيّة المبهمة ص 675.

أب وأمّ له في الإسلام ، ويكون ذلك بين الجماعة بالسويّة (1).

الا انه رجع في مسائل خلافه (2) ، وفي مبسوطة ، فقال في مبسوطة : إذا اوصى فقال أعطوا ثلث مالي لقرابتي أو لأقربائي ، أو لذي رحمي ، فالحكم في الكل واحد ، فقال قوم هذه الوصية للمعروفين من أقاربه في العرف ، فيدخل فيه كل من يعرف في العادة انه من قرابته ، سواء كان وارثا أو غير وارث ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وقال قوم انه يدخل فيه كل ذي رحم محرم ، فامّا من ليس بمحرم له ، فلا يدخل فيه ، وان كان له رحم مثل بني الأعمام وغيرهم ، وقال قوم انها للوارث من الأقارب ، فامّا من ليس بوارث فإنّه لا يدخل فيه ، والأول أقوى ، لأن العرف يشهد به ، وينبغي ان يصرف في جميعهم ، ومن وافقنا على ذلك قال يصرف في جميعهم ، الّا الوارث ، فان اجازته الورثة صرف إليهم أيضا ، فيكون الذكر والأنثى فيه سواء ، وفي أصحابنا من قال انّه يصرف ذلك الى آخر أب وأم له في الإسلام ، ولم أجد به نصا ولا عليه دليلا مستخرجا ، ولا به شاهدا هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (3).

وقال في نهايته : يصرف ذلك الى آخر أب وأم له في الإسلام.

الا ترى أرشدك اللّه ، قوله رحمه اللّه ، ولم أجد به نصا ولا عليه دليلا مستخرجا ، ولا به شاهدا ، فالركون الى ما يوجد في نهايته ، ويورده فيها إذا لم تعضده الأدلة خطأ لا يجوز ولا يحل الركون اليه ، وانما يورد ، اخبار آحاد ، وما يجده في مصنّفات أصحابنا ، إيرادا لا اعتقادا لصحّته ، والعمل به.

والوصيّة للجيران ، والعشيرة ، والقوم ، والمسلمين ، أو المؤمنين ، أو الهاشميين ، أو العلويّين ، وغيرهم ، مما يتناولهم الاسم العام ، على ما ذكرنا في باب الوقوف (4) على السواء ، لا يختلف الحال في ذلك.

ومتى وصّى لحمل غير منفصل ، بل موجود في بطن امّه ، غير منفصل موجود

ص: 211


1- النهاية كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.
2- الخلاف ، كتاب الوصايا ، مسألة 24.
3- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الوصايا ، ص 40.
4- في ص 161 و 162.

في الأرض ، كانت الوصيّة ماضية ، فان سقط الحمل أو مات قبل وضعه وانفصاله من بطن امّه ، رجعت الوصيّة ميراثا على ورثة الموصي ، دون ورثة الموصي له ، فان وضعته امّه حيّا ، واستهل وصاح ، ثمّ مات ، كان ما اوصى له به ميراثا لورثته ، دون

ورثة الموصي ، هذا إذا قبل وارث الحمل المستهل للوصية بعد استهلاله ، على ما قررناه (1) من انّه متى تنتقل الوصية بموت الوصي ، أو بموته ، وقبول الموصى له الوصيّة ، فقد بيّناه.

ومن اوصى لا لحمل ، بل لمعدوم غير موجود في بطن امه ، كانت الوصيّة باطلة.

وإذا اوصى المسلم بثلثه للفقراء ، كان ذلك لفقراء المسلمين ، دون من عداهم من الناس ، وان اختلفوا في الآراء والمذاهب ، اللّهم الا ان يعرف مراد الواقف ، ان كان وقفا ، أو الموصي ، ومن عناه بالذكر بمذهب له ، يدلّ على ذلك ، أو عادة له في الخطاب ، فيحكم عليه بذلك ، دون ما وصفناه من العموم ، فعلى هذا إذا اوصى الكافر للفقراء ، كان ذلك لفقراء أهل ملّته دون غيرهم.

وروى أصحابنا ، انّه إذا اوصى بوصايا وكان في جملتها الحجّ بدئ به ، لأنه فريضة (2) ، وقد قدمنا ذلك وحرّرناه (3).

وإذا اوصى بعتق مملوك ، وبشي ء لقرابته ، ولم يبلغ ثلثه ، ذلك ، بدئ بالمملوك ، لأنه أول ، وما فضل بعد ذلك كان لمن اوصى له به.

وإذا اوصى بعتق ثلث عبيده ، وكان له عبيد جماعة ، استخرج ثلثهم عندنا بالقرعة ، وأعتقوا.

وإذا قال فلان وفلان من مماليكي أحرار بعد موتى ، وكانت قيمتهم أكثر من الثلث ، بدئ بالأوّل فالأوّل إلى ان يستوفى الثلث ، وكان النقصان فيمن ذكرهم أخيرا.

فإن ذكر جماعة من عبيده معدودين ، ولم يميّزهم بصفة ، ولا رتبهم في القول ،

ص: 212


1- في ص 201.
2- الوسائل ، الباب 65 من كتاب الوصايا ، ح 1 - 2 - 3 - 4.
3- في ص 186.

واستخرجوا بالقرعة ، وأعتقوا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا أعتق مملوكا له عند موته ، ولا يملك غيره ، أعتق ثلثه ، واستسعى فيما بقي لورثته (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، ان أراد رحمه اللّه انه بت عتقه في حال حياته ، ولم يجعله مدبّرا بعد موته ، فإنه ينعتق جميعه ، ولا يستسعى في شي ء لأن هذه عطيّة منجزة في الحال ، وليس هو تدبيرا بعد الموت على الصحيح من المذهب ، الّا على مذهب من قال من أصحابنا ، ان العطية المنجزة يكون أيضا مثل المؤخرة ، تخرج من الثلث إذا كانت في مرضه الموت ، والأوّل هو الأظهر بين الطائفة ، وعليه الفتوى ، وبه العمل ، لأنّ للإنسان التصرف في ماله ونفقته جميعه ، في مرضه الموت بغير خلاف ، وان أراد رحمه اللّه ب- « عند موته » بعد موته ، وجعله تدبيرا ، فنعم ما قال وذهب.

وروي انه إذا اوصى بعتق نسمة مؤمنة ، ولم يوجد ذلك ، جاز أن يعتق من أبناء الناس ممن لا يعرف بنصب ولا عداوة ، فإن وجدت مؤمنة ، لم يجز غيرها (2).

والأظهر انّه لا يجزيه غير المؤمنة على كلّ حال ، لقوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ - ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ » (3).

فان اشترى نسمة على انها مؤمنة ، وكان ظاهرها ذلك ، فأعتقت ثم ظهر بعد ذلك انها لم تكن كذلك ، فقد مضى العتق وأجزأ عن الوصي ، لأنه المتعبد المكلف المخاطب بذلك ، وأجزأ أيضا عن الموصي.

وروي انه إذا اوصى بأن يعتق عنه رقبة بثمن معلوم ، فلم يوجد بذلك القدر ، ووجد بأكثر منه ، لم يجب شراؤه ، وتركت الوصيّة إلى وقت ما يوجد بالثمن المذكور ، فان وجد بأقل من ذلك ، اشتري واعطي الباقي ، ثم أعتق (4).

ص: 213


1- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة ، وفي المصدر ، انعتق ثلثه.
2- الوسائل ، الباب 73 من كتاب الوصايا ، ح 2 ، وفي الرواية ، فأوحى بعتق نسمة مسلمة ..
3- سورة البقرة ، الآية 181.
4- الوسائل ، الباب 77 ، من كتاب الوصايا ، ح 1.

وروي انه إذا اوصى الإنسان بعتق جميع مماليكه ، وله مماليك يخصونه ، ومماليك بينه وبين غيره ، أعتق من كان في ملكه ، وقوّم من كان في الشّركة ، واعطي شريكه حقه ، ان كان ثلثه يحتمل ذلك ، وان لم يحتمل ، أعتق منهم بقدر ما يحتمله (1).

والذي يقوى عندي ، انه لا يقوّم من في الشركة ، بل يعتق منهم بقدر ما يملكه ، ولا يعطى شريكه ثمن حصّته ، وان كان ثلثه يحتمل ذلك ، لانه بعد موته لا يملك الثلث إذا لم يوص به ، لأنّ الموت يزول به ملكه الّا ما استثنى من ثلثه ، وهذا ما استثنى شيئا.

إذا اوصى الإنسان فقال حجوا عني بثلثي حجة ، ومات ، فقد أوصى بأن يحج عنه بجميع ثلثه ، فينظر فيه ، فان كان ثلث ما له بقدر اجرة من يحج عنه ، فإن للوصي أن يستأجر من يحج عنه ، سواء كان وارثا أو أجنبيّا ، بلا خلاف ، وان كان ثلث ماله أكثر مما يحج به من اجرة المثل ، فكذلك عندنا ، وعند المخالف يستأجر من يحج عنه بجميع ثلثه إذا كان أجنبيّا ، ولا يجوز ان يستأجر وارثا ، لان ما زاد على اجرة المثل وصيّة بالمحاباة ، وذلك لا يصح للوارث ، وعندنا ان ذلك يصح.

وإن قال حجّوا عني بثلثي ، ولم يقل حجّة واحدة ، فقد اوصى ان يحج عنه بثلثه ، فينظر في ذلك ، فان كان ثلثه بقدر ما يحج به حجة واحدة ، استؤجر من يحج عنه ، سواء كان وارثا أو غير وارث ، وان كان ثلث ماله أكثر من اجرة مثله ، فإنه لا يجوز ان يستأجر عنه بأكثر منه ، وينظر في الزيادة ، فإن أمكن ان يستأجر بها من يحج عنه حجة أخرى ، فعل ، وان لم يمكن ردت الزيادة إلى الورثة ، لأن الوصيّة متى لم تصح في الوجه الذي صرفه (2) فيه ، رجعت الى الورثة ، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها ، ان فيما قبلها أوصى بأن يحج عنه حجة واحدة بجميع ثلثه ، فلأجل هذا لم تراع اجرة المثل.

إذا اوصى الإنسان ان يحج عنه ولم يقل بثلثي ، ولم يبين كم يحج عنه؟ فإنه

ص: 214


1- الوسائل ، الباب 74 من كتاب الوصايا ، ح 2.
2- ج. صرفها فيه.

يجب ان يحج عنه حجة واحدة ، لأنه قد امتثل المأمور به.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إذا اوصى الإنسان ان يحج عنه ، ولم يبين كم يحج عنه؟ فإنه يجب ان يحج عنه ما بقي من ثلثه شي ء (1).

وهذا غير واضح ، الان ان يقيده بالثلث ، بان يقول حجوا عني بثلثي على ما قدمناه وحررناه.

الا ان شيخنا رجع عنه في مبسوطة (2) ، وحرره كما حرّرناه.

وإذا اوصى ان يحج عنه في كل سنة من ارتفاع ضيعة بعينها ، فلم ترتفع كل سنة مقدار ما يحج عنه به ، جاز أيضا ان يجعل ارتفاع سنتين وثلث ، لسنة واحدة ، وحج به عنه.

وفقه هذا على ما قدمناه (3) ، « من ان من اوصى بغلة الضيعة له ، أو بستان ، أو ثمرة نخلة ، للإنسان على التأبيد » ، فإن ارتفاع الضيعة ان كان موجودا في وقت موته ، ولم يخلف غير الضيعة المعيّنة ، فإن الضيعة تقوم ، وتؤخذ للحج بقدر ثلث جميع ما قوم ، فان كان الارتفاع بقدر الثلث ، فقد استوفي ، وحج به كلّ سنة ، الى ان ينفد ، وان نقص الارتفاع عن الثلث ، استوفي في المستقبل من الارتفاع تمام الثلث ، ويعود ملك الضيعة إلى الورثة بعد استيفاء ثلث جميع ما كان في ملك الميّت الذي ذكرناه ، انه يقوم بعد الموت ، هذا إذا لم يخلف الميت ثلثين ، كل ثلث بقدر قيمة الارتفاع المذكور الموجود غير الثلث الذي هو الارتفاع المذكور الموجود ، فان كان الارتفاع معدوما وقت موت الموصي ، فإن الجميع يقوّم ويؤخذ في المستقبل بقدر الثلث ممّا تخرج الضيعة ، الى ان يستوفي قدر الثلث ، فيحج به ، وترجع الضيعة إلى الورثة بعد ذلك ، فليلحظ هذا الموضع ، ويحصّل ما قلناه ، فإنه غامض ملتبس فليفهم عنا ما حرّرناه.

ص: 215


1- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.
2- المبسوط : ح 4 ، كتاب الوصايا ص 23 ، والعبارة هكذا ، وان أطلق ، فيهم من قال يحج من ثلثه ، وذهب الأكثر إلى انّه من رأس المال وهو مذهبنا ..
3- في ص 201.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا قال حجوا عنى حجوا عني حجة واحدة ، فإن كانت حجة الإسلام ، حج عنه من أصل المال ، وان كانت تطوّعا حج عنه من الثلث ، فان لم يبلغ الثلث مقدار ما يحجّ عنه من الموضع ، حج عنه من الموضع الذي يمكن ذلك فيه (1).

وذهب في مبسوطة إلى انه لا يجب ان يحج عنه ، سواء كانت الحجة واجبة أو مندوبة ، ولا يلزم الورثة الأجرة والاستيجار ، الا من ميقات أهله الذي هو ميقات الإحرام (2).

وما ذكره في نهايته ، هو الصحيح الذي تشهد به الروايات عن الأئمة عليهم السلام ، ولان الحج يجب على المال والبدن ، ويجب عليه الخروج من بلده ، والنفقة لمسافته من مصره وبلدته ، فإذا عدم البدن ، سقط عنه ، وبقي في المال من الموضع الذي كان تجب عليه النفقة منه ، لو كان حيا.

وإذا قال الموصي لوصيّه ، أعط إنسانا كل سنة شيئا معينا ، فمات الموصى له ، كان ما اوصى له لورثته ، الّا ان يرجع فيه الموصي ، فإن رجع فيه ، كان ذلك له ، سواء رجع فيه قبل موت الموصى له ، أو بعد موته ، فان لم يرجع في وصيّته حتى يموت ، ولم يخلف الموصى له أحدا ، رجعت الوصيّة على ورثة الموصي ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنه لإمام المسلمين مع قبوله للوصيّة ، لأنّ الإنسان لا بدّ له من وارث ، اما من ذوي الأنساب ، أو من ذوي الأسباب ، فليتأمل ذلك.

وإذا قال الموصي أعطوا فلانا كذا ، ولم يقل انه له ، ولا امره فيه بأمر وجب تسليمه اليه ، وكان الأمر في ذلك اليه ، ان شاء أخذه لنفسه ، وان شاء تصدق به عنه ، كل ذلك جائز له فعله.

ص: 216


1- النهاية : كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.
2- المبسوط ج 4 ص 23 والظاهر ان العبارة منقولة بالمعنى.
3- النهاية : كتاب الوصايا ، باب الوصيّة المبهمة.

باب الإقرار في المرض والهبة فيه وغير ذلك

إقرار المريض على نفسه جائز للأجنبي وللوارث وعلى كل حال ، إذا كان عقله ثابتا في حال الإقرار ، ويكون ما أقربه من أصل المال ، سواء كان عدلا أو فاسقا متهما على الورثة ، أو غير متهم ، وعلى كل حال ، سواء كانت مع المقر له بيّنة ، أو لم تكن ، لإجماع أصحابنا المنعقدان إقرار العقلاء جائز فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إقرار المريض على نفسه جائز للأجنبي وللوارث على كل حال ، إذا كان مرضيا موثوقا بعدالته ، ويكون عقله ثابتا في حال الإقرار ، ويكون ما أقربه من أصل المال ، فان كان غير موثوق به ، وكان متهّما ، طولب المقرّ له بالبيّنة ، فإن كانت معه بيّنة ، اعطي من أصل المال ، وان لم تكن معه بيّنة ، اعطي من الثلث إن بلغ ذلك ، فان لم يبلغ فليس له أكثر منه ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، الّا ان شيخنا رجع عن ذلك في مبسوطة (2) ، ومسائل خلافه ، في كتاب الإقرار : قال مسألة : إذا أقر بدين في حال صحّته ثم مرض ، فأقر بدين آخر في حال مرضه ، نظر فان اتسع المال لهما ، استوفيا معا ، وان عجز المال ، قسّم الموجود منه على قدر الدينين ، ثم قال أيضا مسألة. يصح الإقرار للوارث في حال المرض ، ثم استدل ، فقال ، دليلنا انه لا مانع يمنع منه ، والأصل جوازه ، وأيضا قوله تعالى « كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » (3) والشهادة على النفس هو الإقرار ، وذلك عام في جميع الأحوال لكل أحد ، والتخصيص يحتاج إلى دلالة ، وأيضا قوله تعالى « قالُوا أَقْرَرْنا ، قالَ فَاشْهَدُوا » (4) وهذه أيضا عامة وعلى المسألة إجماع الفرقة ، هذا أخر كلامه

ص: 217


1- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض ..
2- المبسوط ، كتاب الإقرار ، ج 3 ، ص 13.
3- سورة النساء ، الآية 135.
4- سورة آل عمران ، الآية 81.

واستدلاله (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومتى أقر الإنسان بشي ء ، وقال لوصيّه سلّمه إليه ، فإنه له ، وطالب الورثة الوصي بذلك ، فان كان المقر مرضيّا عند الوصي ، جاز له ان ينكر ، ويحلف عليه ، ويسلّم الشي ء الى من أقر له به ، وان لم يكن مرضيّا لم يجز ذلك له ، وعليه ان يظهره ، وعلى المقر له البيّنة بأنه له ، فان لم يكن معه بينة ، كان ميراثا للورثة ، هذا آخر كلامه (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، هذا غير مستقيم ، وأصول مذهبنا بخلافه ، وقد دللنا على صحّة ذلك فيما مضى (3) ، والواجب على الوصي ان يسلمه الى من أقر له به ، سواء كان المقر مرضيّا أو غير مرضي ، لأن إقرار العاقل الحرّ جائز على نفسه.

وشيخنا أبو جعفر قد رجع عن مثل هذا في مسائل خلافه على ما حكيناه عنه واستدل على صحة ما أوردناه عنه ، فلا معنى لا عادته ، وهذه اخبار آحاد أوردها في كتابه النهاية ، على ما وجدها.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا كان عليه دين ، فاقرّان جميع ما في ملكه لبعض ورثته ، لم يقبل إقراره إلا ببيّنة ، فان لم يكن مع المقرّ له بينة ، اعطى صاحب الدين حقه ، أولا ، ثم ما يبقي يكون ميراثا (4).

ما ذكره رحمه اللّه صحيح ، إذا اضافه الى نفسه ، ولم يقل بأمر حقّ واجب ، فامّا ان أطلق إقراره ولم يقل « جميع ما في ملكي » أو « هذه داري » لفلان ، بل قال هذه الدّار لفلان ، أو جميع هذا الشي ء لفلان ، كان ذلك صحيحا سواء كان المقر له وارثا أو غير وارث ، في صحة كان إقراره أو مرض ، وعلى جميع الأحوال ، إذا كان عاقلا ثابت الرأي ، وقد دللنا على صحة ذلك ، وانّما لم تصح المسألة الأولى التي ذكرها شيخنا وحكيناها عنه ، لأنه اضافه الى نفسه ، بان قال « جميع ما في ملكي »

ص: 218


1- الخلاف ، كتاب الإقرار ، مسألة 12 - 13.
2- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض.
3- في ص 217.
4- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض ..

فإضافة إليه فكيف يصحّ ان يكون ملكه لغيره ، الّا بانتقال شرعي ، لأنّه يكون في قوله « هذه داري لفلان » مناقضا ، وقد دللنا على ذلك وشرحناه وحررناه في كتاب الإقرار (1) ، فليلحظ من هناك.

وإذا قال لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف درهم ، فمن أقام البينة منهما ، كان الحق له ، فان لم يكن مع أحدهما بينة ، كان الالف بينهما نصفين ، على ما روي في بعض الاخبار (2).

والذي يقتضيه مذهبنا استعمال القرعة في ذلك ، دون قسمته نصفين ، لإجماع أصحابنا المنعقد ان كل أمر مشكل يستعمل فيه القرعة ، وان قلنا نرجع في التفسير إلى الورثة ، كان قويّا معتمدا.

وإذا أقر بعض الورثة بدين على الميّت ، جاز إقراره على نفسه ، ولزمه بمقدار ما يخصّه ، إذا كان غير مرضيّ ، وقد حررناه هذا القول ، وأشبعناه في باب قضاء الدّين عن الميّت (3) ، وقلنا ما عندنا فيه ، فليرجع اليه ، ويعتمد ما أومأنا إليه من الأدلّة ، فهي العمدة. وكذلك إذا كان المقرّون جماعة ، وليس فيهم مقبول الشّهادة ، فامّا ان كان أقر واحد وهو مرضى ، فان المقرّ له يحلف مع شهادته ، وقد استحقّ جميع ما شهد له به ، لأنا عندنا يقبل الشاهد ويمين المدعي في المال ، وكل ما المقصود منه المال ، وهذا مال.

وأوّل ما يبدأ به من التركة الكفن ، ثم الدين ، ثم الوصيّة ، ثم الميراث.

وإذا كان على الميّت دين ، وخلف مالا دون ذلك ، قضي بما ترك دينه ، وليس هناك وصية ، ولا ميراث ، ويكون ذلك بين أصحاب الديون بالحصص ، فان وجد متاع بعض الديان بعينه ، وكان فيما بقي من تركته وفاء لديون الباقين ، رد عليه متاعه بعينه بنمائه المتصل دون نمائه المنفصل ، هذا إذا اختار ذلك ، وقضي دين الباقين من التركة ، فان لم يخلف غير ذلك المتاع ، كان صاحبه وغيره من الديان فيه سواء ، يقتسمون بينهم على قدر أموالهم.

ص: 219


1- الجزء الثاني ص 506.
2- الوسائل ، الباب 25 من كتاب الوصايا ، ح 1.
3- الجزء الثاني ص 47.

وإذا قتل إنسان وعليه دين ، وجب على أوليائه ان يقضوا دينه من ديته إذا كان القتل يوجب المال ، وقد روي (1) انّه سواء كان قد قتل خطا أو عمدا ، فان كان قد قتل عمدا على هذه الرّواية ، وأرادوا أولياؤه القود ، أو العفو ، لم يكن لهم ذلك ، الا بعد ان يرضوا أصحاب الديون أولا ، ثم ان شاءوا بعد ذلك قتلوا وان شاءوا عفوا عنه ، وإن شاءوا قبلوا الدّية ، هذه الاحكام عند من عمل بهذه الرواية من أصحابنا.

ومن لم يعمل بها قال انا احملها على قتل الخطأ الذي يوجب المال ، دون القتل الذي يوجب القود ، لانه على مذهبنا موجبه شي ء واحد وهو القود ، دون المال ، ولأن الرواية إذا لم تخص بالقتل الذي يوجب المال ، ضادّت القرآن ، وهو قوله ، تعالى ، « وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » (2) فالعامل بها لم يجعل له سلطانا جملة ، وأيضا تقف الاحكام ، لان للولي أن يقول ما أؤدي إليك يا صاحب الدين مالك ، ويقول له صاحب الدين لا أمكنك من القود ، والقاتل إذا طولب بالدية ليقضي الدين عن الميت ، ان يمتنع من الأداء ، لأنه لا يجب عليه الا القود عندنا ، دون المال بلا خلاف بيننا ، فتعطل حينئذ الاحكام ، وقد شرحنا ذلك فيما مضى في كتاب الديون ، وبسطناه وحررناه (3).

وإذا قال الموصي لوصيّه اقض عنّي ديني ، وجب عليه ان يبدأ به قبل الميراث ، فان تمكن من قضائه ولم يقضه وهلك المال ، كان ضامنا له ، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل ، ان كان قد صار إليهم من التركة حقهم ، وان كان قد عزله الوصي من أصل المال ، وقسم الباقي بينهم ، ولم يتمكن من إعطائه أصحاب الديون ، وهلك من غير تفريط من جهته ، كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بالدين ، من الذي صار إليهم وأخذوه واقتسموه.

ومن أقرّ أن عليه زكاة سنين كثيرة ، وأمر بإخراجها عنه ، وجب ان تخرج من

ص: 220


1- الوسائل الباب 59 من كتاب القصاص ، ح 1 - 2.
2- سورة الإسراء الآية 33.
3- الجزء الثاني ، ص 48.

جميع المال ، لأنه بمنزلة الدين ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا.

فان كان عليه شي ء من الزكاة ، وكان قد وجب عليه حجة الإسلام ، ففرّط فيها ، وخلف دون ما يقضى عنه به الحجة والزكاة ، حج عنه من أقرب المواضع ، ويجعل ما يبقى في أرباب الزكاة.

وإذا أقر المريض انّ بعض مماليكه ولده ، ولم يصفه بصفة ، ولا عينه بذكر ، ثم مات ، أخرج بالقرعة واحد منهم ، ويلحق به ، ويورث منه.

وإذا لم يخلف الميّت الا مقدار ما يكفن به ، كفن بذلك ولم يقض به دينه ، فان تبرع إنسان بتكفينه ، كان ما خلّف يقضى به الدين.

والهبة في حال المرض صحيحة إذا قبّضها ، ولم يكن للورثة الرجوع فيها ، فان لم يقبّضها ومات ، كانت راجعة إلى الميراث ، وكذلك حكم ما يتصدق به في حال حياته.

والبيع في حال المرض صحيح ، كصحته في حال الصحة إذا كان المريض مالكا لاختياره ورأيه ثابت العقل ، فان كان المرض غالبا على عقله ، كان ذلك باطلا.

والمريض إذا تزوج ، كان عقده صحيحا ، ويلزمه المهر قليلا كان أو كثيرا ، إذا دخل بالمرأة ، أو بري ء من ذلك المرض ، فان لم يدخل بها ولا بري ء من ذلك المرض ، ومات فيه قبل الدخول بها ، كان العقد باطلا ، ولا يلزمها عدّة ، ولا لها ميراث ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، فليس عليها من الأدلة سوى الإجماع من أصحابنا.

وطلاق المريض مكروه شديد الكراهة ، حتى ان بعض أصحابنا يقول طلاق المريض غير جائز ، لأجل شدّة الكراهة ، فإن طلق ، ورثته المرأة ما بينها وبين سنة ، إذا لم يبرأ من مرضه الذي طلقها فيه ، ولا تزوجت المرأة ، فإن بري ء المريض ، ثم مرض بعد ذلك ومات ، لم ترثه المرأة ، وكذلك ان تزوجت بعد انقضاء عدتها ، لم يكن لها ميراث ، فان لم تتزوج ومضى لها سنة ، فبعدها لم يكن لها ميراث ، ويرث هو المرأة ما دامت في العدة الرجعية ، دون العدة البائنة ، على الصحيح من المذهب والأقوال والروايات ، لأنه الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ص: 221

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا فرق بين ان يكون التطليقة أوّله ، أو ثانية ، أو ثالثة ، وعلى كل حال (1).

الّا انه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، وقال : لا يرثها الزوج الا ما دامت في العدة الرجعية دون العدة التي لا له عليها رجعة (2) ، على ما حكيناه عنه أولا ، وقدّمناه (3).

والوصيّة ماضية إذا تكلم بها الموصي وكان ثابت العقل ، فان اعتقل لسانه وكان ممن يحسن ان يكتب ، كتبها ثم أمضيت أيضا بحسب ذلك ، فان لم يقدر ان يكتب ، وأومى بها ، وفهم بذلك غرضه منه ، أمضيت أيضا بحسب ذلك ، فإن قال له إنسان تقول كذا وكذا ، وتأمر بكذا وكذا ، فأشار برأسه أن نعم ، كان أيضا ذلك جائزا ، إذا علم ذلك من شاهد حاله ، وكان عقله ثابتا عليه ، فان كان عقله زائلا في شي ء من هذه الأحوال ، لم يلتفت الى شي ء من ذلك.

وقد روي أنه إذا وجدت وصيّة بخط الميت ، ولم يكن اشهد عليها ، ولا أمر بها ، فإن الورثة بالخيار بين العمل بها ، وبين ردها وإبطالها ، فإن عملوا بشي ء منها ، لزمهم العمل بها جميعا على ما روي في بعض الاخبار (4) ، وأوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (5).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انهم إذا أقرّوا بشي ء منها وعملوا به ، وقالوا ان هذا حسب صحيح اوصى به ، دون ما عداه مما في هذا المكتوب ، فإنه لا يلزمهم العمل بجميع ما في المكتوب ، الّا بما أقروا به ، دون ما عداه ، وانما هذه رواية وخبر واحد أوردها شيخنا إيرادا وقد بيّنا ان اخبار الآحاد لا يجوز العمل

ص: 222


1- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض ..
2- الخلاف ، كتاب الطلاق مسألة 54 ، وهي منقولة بالمعنى.
3- الجزء الثاني ، ص 674.
4- الوسائل ، الباب 48 من كتاب الوصايا ، ح 2.
5- النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض .. وفي المصدر ، ولم يكن اشهد عليها ولا أقرّ بها ، كان الورثة بالخيار ..

عليها ، في الشرعيات ، لأنها لا توجب علما ولا عملا.

وإذا كان على إنسان دين لغيره ، ومات صاحبه ، لم يجز له ان يعطيه لبعض ورثته الّا باتفاق الباقين ، فإن أعطاه جميعه وأعلمه انّه لجماعة الورثة ، كان القاضي الذي هو المعطي ، ضامنا لحصة الباقين ، وقد سقط عنه نصيبه ، ولا يرجع عليه ان تلف بغير تفريط منه وكان قد وكله في القضاء عنه والتسليم إليهم ، فإن كان قد فرط في حفاظه وتلف ، فإنه يرجع عليه ، وان كان قد أقر وقت تسليمه اليه ، وقال خذ هذا فهو لك ، أو نصيبك من الدّين الذي كان لمورّثك عليّ ، فإنه لا يجوز له ان يعود عليه بشي ء بحال.

وإذا غاب رجل عن اهله ، وترك لهم نفقة سنة أو أكثر من ذلك ، ثم مات بعد شهر ، كان على امرأته ومن يجب عليه نفقته ان يردوا ما فضل عن نفقة الشهر الذي مضى الى الميراث.

ص: 223

ص: 224

كتاب المواريث والفرائض

اشارة

ص: 225

كتاب المواريث والفرائض

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله انه قال : تعلموا الفرائض وعلموها الناس ، فإنها نصف العلم ، وهو ينسى ، وهو أول شي ء ينتزع من أمتي (1).

وروى عبد اللّه بن مسعود ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال تعلّموا القرآن وعلّموه الناس ، وتعلموا الفرائض وعلّموها الناس ، فانى امرء مقبوض ، وسيقبض العلم ، وتظهر الفتن ، حتى يختلف الرجلان في فريضة لا يجدان من يفصل بينهما (2).

وكانت الجاهلية تتوارث بالحلف والنصرة ، وأقروا على ذلك في صدر الإسلام ، في قوله « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » (3) ثم نسخ ذلك بسورة الأنفال بقوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » (4) وكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة ، فروي (5) ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله آخى بين المهاجرين والأنصار ، لمّا قدم المدينة ، فكان يرث المهاجري من الأنصاري ، والأنصاري من المهاجري ، ولا يرث وارثه الذي كان له بمكة ، وان كان مسلما لقوله « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وَإِنِ

ص: 226


1- ابن ماجة ، الباب 1 من كتاب الفرائض ، الحديث 1. رواه عن أبي هريرة. ( ج 1. ص 908 ، الحديث 2719 ).
2- سنن البيهقي ، الباب 1 من كتاب الفرائض ، الحديث 2 ( ج 6 ، ص 208 ) وفي لفظه اختلاف مع ما في المتن.
3- سورة النساء ، الآية 33.
4- سورة الأنفال ، الآية 75.
5- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 4.

اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ »(1) ثم نسخت هذه الآية بالقرابة والرحم والنسب والأسباب ، بقوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ » (2) وفي آية أخرى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً » (3) فبيّن انّ اولي الأرحام أولى من المهاجرين الّا ان تكون وصيّة وقوله تعالى « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً » (4) ثم قدر ذلك في سورة النساء في ثلاث آيات (5) في قوله تعالى « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » (6) ذكر فرض ثلاثة أحدها جعل للبنت النصف ، وللبنتين الثلثين ، فان كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم بين ذكر الوالدين ، وان لكل واحد منهما السدس مع الولد ، فان لم يكن ولد ، فللأم الثلث ، والباقي للأب ، وان كان له اخوة معهما ، فلأمه السدس ، والباقي للأب ، في قوله تعالى « وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ » (7) هذه الآية الأولى.

ثم قال « وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ » (8) فذكر في صدر هذه الآية حكمين ، وذكر في أخرها حكم الكلالة ، ذكر في أولها حكم الزوج والزوجة ، وان للزوج إذا لم يكن ولد النصف ، فان كان له ولد الرّبع وللزوجة الرّبع إذا لم يكن ولد ، فان كان ولد فلها الثمن ، ثم عقّب بالكلالة ، فقال ان كان له أخ من أم أو أخت ، فله السّدس ، وان كانوا اثنين فصاعدا فلهم الثلث ، وفي قراءة ابن مسعود ، ( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ) من أم ( فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) ، وأيضا فإن اللّه تعالى ذكر أنثى وذكرا ، وجعل لهما الثلث ، ولم يفضل أحدهما على الآخر ،

ص: 227


1- سورة الأنفال ، الآية 72.
2- سورة الأنفال ، الآية 75.
3- سورة الأحزاب ، الآية 6.
4- سورة النساء ، الآية 7.
5- إلى هنا موافق لما أورده في المستدرك الباب 1 من أبواب موجبات الإرث ، ح 3.
6- سورة النساء ، الآية 11.
7- سورة النساء ، الآية 11.
8- سورة النساء ، الآية 12.

ثبت انه يأخذ بالرحم.

الآية الثالثة في أخر سورة النّساء قوله « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » (1) فذكر فيها أربعة أحكام ، ذكر انّ للأخت من الأب والام إذا كانت واحدة لها النصف ، وان ماتت هي ولم يكن لها ولد ولها أخ ، فالأخ يأخذ الكل ، ( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ ) ، ( وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

وروي عن ابن عباس انه قال من علم سورة النساء ، وعلم من يحجب ومن لا يحجب ، فقد علم الفرائض (2).

وإذا ثبت هذا فالارث على ضربين ، خاص وعام ، فالعام (3) إذا مات ميت ولم يكن له وارث ، ولا مولى نعمة ، ولا مولى تضمن جريرة ، كانت تركته عند أصحابنا لإمام المسلمين خاصة ، وهو الذي يعقل عنه ، وان مات ذمي ولا وارث له ، كان كذلك للإمام ، وعند المخالف يكون ميراثه لبيت مال المسلمين فيئا.

والإرث الخاص (4) يكون بشيئين ، بسبب ونسب ، فالسبب سببان ، زوجية وولاء ، والولاء على ثلاثة أقسام ، ولاء النعمة ، وولاء تضمّن الجريرة ، وولاء الإمامة ، فالميراث بالنسب يثبت على وجهين بالفرض والقرابة ، فإذا مات ميت فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام ، أوّلها ان يخلف من يحوز جميع المال ، والثاني ان يخلف من يأخذ بعض ماله ، الثالث لم يخلف أحدا.

فإن خلف من يحوز جميع المال ، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام ، أحدهما يأخذ الكل بالقرابة ، الثاني يأخذ الكل بالفرض ، الثالث يأخذ بالفرض والقرابة.

فمن يأخذ بالقرابة فقط مثل الابن والأب ، فإنهما يأخذان المال بالقرابة عندنا دون التعصيب ، لأن التعصيب عندنا باطل ، وكذلك الجد والأخ ، وابن الأخ والعم وكذلك من يتقرب من قبل الأم ، فإن كل واحد من هؤلاء يأخذ جميع المال بالقرابة.

ص: 228


1- سورة النساء ، الآية 176.
2- الدرّ المنثور ، في تفسير سورة النساء ، ( ج 2 ، ص 116 ) فيه : « من قرأ سورة النساء فعلم ما يحجب ممّا لا يحجب علم الفرائض ».
3- ج. فالخاص.
4- ج. والإرث العام.

واما المولى فإنه يأخذ بحق الولاء دون التعصيب ، فان كانوا جماعة أخذوا المال كله بالقرابة أو الولاء ، لانه ليس لهم تسمية فيأخذون بها ، والعصبة عندنا باطلة.

ومن يأخذ بالفرض دون القرابة ، مثل الزوج والأخت ، إذا اجتمعا ، يأخذ الزوج النصف والأخت النصف بلا خلاف ، وكذلك حكم البنتين والأبوين والأختين من الأب والام ، أو الأب مع الأختين أو الأخوين من الام.

ومن يأخذ بالفرض والقرابة مثل الزوج والعم أو ابن العم ومن يجري مجراه ، فان الزّوج يأخذ بالفرض ، والباقين يأخذون بالقرابة دون التعصيب ، وكذلك كل من له سهم مسمى ، ويفضل عن سهمه من ذوي الأنساب إذا لم يكن هناك غيره ، فإنه يأخذ ما سمي له بالفرض ، والباقي بالقرابة يرد عليه ، مثل ان يخلف البنت وحدها ، أو البنتين ، فإنها تأخذ النصف إذا كانت وحدها ، والثلثين إذا كانتا اثنتين ، والباقي رد عليها أو عليهما.

فاما إذا لم يخلف أحدا ممن يرثه فان ميراثه عندنا لإمام المسلمين ، وعند المخالفين لبيت المال ، فإذا ثبت هذا فإن كان الامام ظاهرا سلم اليه ، وان لم يكن ظاهرا حفظ له كما تحفظ سائر حقوقه ، ولا يسلم الى سلاطين الجور ، فمن سلمه مع الاختيار الى سلاطين الجور ، كان ضامنا.

وجملة الأمر وعقد الباب ، ما يحتاج الى العلم به في ذلك ستة أشياء ، ما به يستحق الميراث ، وما به يمتنع ، ومقادير سهام الورّاث ، وترتيبهم في الاستحقاق ، وتفصيل أحكامهم مع الانفراد والاجتماع ، وكيفيّة القسمة عليهم.

فاما ما به يستحق فشيئان ، نسب وسبب ، والسبب ضربان ، زوجية وولاء ، والولاء على ضروب ثلاثة ، ولاء العتق المتبرع به ، وولاء تضمن الجريرة ، وولاء الإمامة على ما قدمناه (1).

وأما ما به يمتنع فثلاثة أشياء : الكفر والرق وقتل الوارث عمدا على وجه الظلم ، فكل ما يمنع من الميراث من الكفر والرق والقتل ، يمنع من حجب الام من

ص: 229


1- في ص 228.

الثلث الى السّدس ، فإذا ثبت هذا فإنهم لا يرثون ولا يحجبون ، وهو إجماع الأمة إلا ابن مسعود ، فإنه انفرد في جملة الخمس المسائل ، بأن هؤلاء يحجبون فلا يعتد بخلافه ، لأنه قد انقرض ، وخصوصا على مذهبنا في الإجماع وعلة كونه حجة.

فصل

وامّا مقادير السهام فستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس.

فالنصف سهم أربعة : سهم الزوج مع عدم الولد ، وولد الولد ، وان نزلوا ، ذكورا كانوا أو إناثا ، وسهم البنت إذا لم يكن غيرها من الأولاد ، والأخت من الأب والام ، والأخت من الأب إذا لم يكن أخت من أب وأم.

والربع سهم اثنين : سهم الزوج مع وجود الولد ، وولد الولد ، وإن نزلوا ، وسهم الزوجة مع عدمهم.

والثمن سهم الزوجة أو الزوجات الأربع ، أو ما زاد عليهن في بعض الأحكام ، لان المريض إذا طلق أربعا في مرضه طلاقا ثالثا فله ان يتزوج بأربع غيرهن قبل خروجهن من عدتهن ، فإذا دخل بمن تزوجهن أخيرا ، ثم مات قبل برئه من مرضه الذي طلق الأربع فيه ، وقبل سنة من طلاقه لهن ، وقبل تزويجهن ، فان الثمان النسوة يرثنه الثمن ، ان ترك معهن ولدا ، أو ولد ولد ، وان نزلوا ، لأنهم ينطلق عليهم اسم الولد حقيقة عندنا ، والربع ان لم يترك ولدا ويكون بين جميعهن بالسّوية ، ويتقدر ان يكنّ أكثر من ثمان نسوة أضعافهن على التقرير والتقدير الذي قدرناه وحررناه بغير خلاف بين أصحابنا رحمهم اللّه ، فلا يتعجب مما يقوم الدليل على صحته ، بل الدليل كما يقال يعمل العجب.

والثلثان سهم ثلاثة : سهم البنتين فصاعدا ، والأختين فما زاد من الأب. والام ، والأختين فصاعدا من الأب ، إذا لم يكن أخوات من أب وأم.

والثلث سهم اثنين : سهم الام مع عدم الولد ، وولد الولد ، وعدم من يحجبها من الاخوة المخصوصين بنسب مخصوص وعدد مخصوص ، وانتفاء صفات مخصوصة ، معنى قولنا - بنسب مخصوص - ، ان يكونوا من الأب والام ، أو من الأب ، فامّا ان كانوا

ص: 230

من الام وحدها ، فلا يحجبونها عن الثلث بحال ، ولو كانوا ألفا ، وقولنا - عدد مخصوص - ان يكونوا ذكرين موجودين منفصلين عن البطن ، لان الحمل عندنا لا يحجب ، أو يكونوا أربع أخوات ، أو يكونوا ذكرا وأنثيين ، ولا يجب أقل من هذه العدة ، وقولنا انتفاء صفات مخصوصة - ان لا يكونوا قتلة عمدا على جهة الظلم للمقتول ، ولا عبيدا ، ولا كفرة ، لان كل من حصلت فيه احدى هذه الصفات لثلاث فإنّه لا يحجب ولا يرث ، ولو كانوا ألفا.

وسهم الاثنين سواء كانا ذكرين أو أنثيين فصاعدا من كلالة الأم ، والكلالة عند أصحابنا الاخوة ومن انضم إليهم ، فاما إذا لم يكن من الاخوة للأم أحد ، فإن المتقرّب بالأم يأخذ نصيبها وهو الثلث ، سواء كان واحدا المتقرب بها أو أكثر من واحد ، ويأخذه بالقربى لا بالفرض والتسمية ، بخلاف الإخوة ، لأنّ الإخوة يأخذون بالتسمية والفرض ، الواحد (1) السدس ، ومن زاد عليه الثلث.

وقد ذهب بعض أصحابنا الى ان للجد من قبل الام السدس ، والاثنين الثلث ، وأجراهم مجرى الاخوة ، والأظهر الأوّل ، لأنّ الإخوة يأخذون بالفرض والتسمية بغير خلاف ، فلا يزادون على ما سمي لهم ، والأجداد من قبلها يأخذون سهم الامّ وهو الثلث ، الواحد منهم الثلث ، والجماعة الثلث ، هذا إذا انفردوا عن الاخوة من قبلها.

فاما إذا اجتمعوا مع الاخوة ، أخذ الجميع من الاخوة والأجداد معا الثلث ، يكون بينهم بالسّوية ، لا يفضل أحدهما (2) على الأخر ، ولا يفضل أخ على جد ، ولا جد على أخ ، ولا ذكر على أنثى ، فليلحظ ذلك ويتأمل ، فإن فيه غموضا ولبسا.

فصل

وامّا ترتيب الورّاث (3) فاعلم : ان الواجب تقديم الأبوين والولد ، فلا يجوز أن يرث مع جميعهم ولا مع واحد منهم أحد ممن عداهم من النسب والسّبب ، الّا الزوج والزّوجة ، فإنهما يرثان إذا انتفت عنهما الصّفات الثلاث المقدم ذكرها مع جميع الوراث

ص: 231


1- ج. للواحد.
2- ج. أحد.
3- ج. ل. الوارث.

الأبوين ، وحجبهما عن أعلى السّهمين إلى أدناهما.

وبعض أصحابنا يذهب الى ان ابن البنت يعطى نصيب البنت ، وبنت الابن تعطى نصيب الابن.

وذهب اخرون من أصحابنا إلى خلاف ذلك ، وقالوا ابن البنت ولد ذكر حقيقة فنعطيه نصيب الولد الذكر ، دون نصيب امه ، وبنت الابن بنت حقيقة ، نعطيها نصيب البنت دون نصيب الابن الذي هو أبوها ، واختاره السيّد المرتضى (1) واستدل على صحة ذلك بما لا يمكن المنصف دفعه من الأدلة القاهرة اللائحة ، والبراهين الواضحة ، قال رضى اللّه عنه اعلم : انه يلزم من ذهب من أصحابنا إلى ان أولاد البنين والبنات يرثون سهام آبائهم مسائل سبع ، لا مخلص لهم منها.

فمن ذلك انه يلزمهم ان يكون حال البنت أحسن من حال الابن ، بل أحسن من حال جماعة كثيرة من البنين ، كرجل خلف بنت ابن وعشرين ابنا من بنت ، فعندهم ان لبنت الابن نصيب أبيها وهو الثلثان ، ولبني البنت نصيب أمهم وهو الثلث ، فالبنت الواحدة أوفر نصيبا من عشرين ابنا.

ومنها ان يكون نصيب البنت يساوي نصيب الابن ، حتى لو كان مكانها ابن لورث ما ترثه هي بعينه على وجه واحد وسبب واحد ، وذلك ان مذهبهم ان بنت الابن تأخذ المال كله بسبب واحد ، لان لها عندهم نصيب أبيها ، فلو كان مكان هذه البنت ابن لساواها في هذا الحكم ، وأخذ ما كانت تأخذه البنت على الوجه الذي كانت تأخذه عليه ، وليس في الشّريعة ان الابن يساوى البنت في الميراث ، فإذا عارضونا بمن خلف بنتا ولم يخلف غيرها ، فإنّها تأخذ جميع المال ، ولو كان مكانها ابن لجرى في ذلك مجراها ، فالجواب ان الابن لا يجري عندنا مجرى البنت هاهنا ، لان البنت تأخذ النصف بالتسمية ، والنصف الأخر بالرد ، والابن يأخذ المال بسبب واحد ، من غير تسمية ولا ردّ ، وأنتم توجبون مساواة الابن للبنت في الميراث والسبب.

ص: 232


1- رسائل الشريف المرتضى المجموعة الثالثة ، ص 257 - 265.

ومنها ان البنت في الشرع وبظاهر القرآن لها النصف إذا انفردت ، وللبنتين الثلثان ، وهم يعطون بنت الابن من عندهم البنت المتوفّى (1) ، ومستحقة لهذه التسمية الجميع ، وكذلك يقولون في ابنتي ابن ان لهما جميع المال من غير رد عليهما ، وهذا بخلاف الكتاب والإجماع.

فإن قالوا ما جعل اللّه تعالى للبنت الواحدة النصف ، وللبنتين الثلثين في كل موضع ، وانما جعل لهن ذلك مع الأبوين خاصة ، وإذا انفردت عن الأبوين ، لم يكن لهن ذلك قلنا قد ذهب الفضل بن شاذان الى هذا المذهب ومن تابعه عليه ، فرارا من مسألة العول ونحن نبين فساد هذه الطريقة بعد ان نبين لزوم ما ألزمناهم إيّاه على تسليم ما اقترحوه ، فنقول قد جعل اللّه تعالى للبنت الواحدة النصف ، ومذهبكم هذا يقتضي أن للأبوين السدسين (2) ، وما بقي لبنت الابن ، وهي عندكم بنت المتوفّى على سبيل الحقيقة ، فقد صارت البنت تأخذ مع الأبوين أكثر من النصف بسبب واحد ، وجرت في ذلك مجرى الابن ، فامّا القول بانّ للبنت الواحدة النصف ، وللبنتين الثلثين ، انما يختص باجتماع الأبوين معهن ، فمن بعيد القول عن الصواب ، لان اللّه تعالى قال « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » (3) وهذه جملة مستقلة بنفسها ، وظاهر القرآن يقتضي ان للذكر مثل حظ الأنثيين على كل حال ، ومع وجود كل أحد ، وفقد كل أحد ، ثم عطف عليها جملة أخرى مستقلة أيضا فقال تعالى « فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ » (4) ظاهر هذه الجملة ان ذلك لهن على كل حال ومع فقد كل واحد ووجوده ، ثم عطف تعالى جملة أخرى مستقلة غير متعلّقة بما يليها ولا ما تقدمها فقال تعالى « وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ » (5) وما جرى إلى هاهنا للوالدين ذكر ، وظاهر الكلام يقتضي أن للواحدة النصف مع كل أحد ، الا ان يمنع دليل ، ثم قال تعالى « وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ ، إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ

ص: 233


1- ج. ل. وهي عندهم بنت المتوفّى.
2- ج. ل. السدس.
3- سورة النساء ، الآية 11.
4- سورة النساء ، الآية 11.
5- سورة النساء ، الآية 11.

الثُّلُثُ » (1) فبيّن جل اسمه هاهنا حكم الوالدين في الميراث مع وجود الولد وفقده فكيف يجوز ان يعلق إيجاب النصف للبنت الواحدة والثلثين للبنتين ، بوجود الأبوين ، وقد تقدم ذكر حكم البنات مطلقا وبعد الخروج عنه أتى ذكر الأبوين مشروطا ، وكيف يتوهم ذلك فتأمّل ، واللّه تعالى يقول - ان كان له ولد - فشرط في ميراث الأبوين الولد ، ولو كان المراد ان النصف للبنت ، والثلثين ، مع وجود الأبوين ، لكان اشتراط الولد لغوا واشتراطا لما هو موجود مذكور ، ولو صرح تعالى بما ذكروه ، لكان الكلام قبيحا خارجا عن البلاغة والبيان ، الا ترى انه لو قال تعالى ولأبويه مع البنت أو البنتين لكل واحد منهما السّدس ، ان كان له ولد لقبح ذلك وفحش ، فكيف يقدر في الكلام ما لو أظهرناه لكان غير مستقيم ، واجمع أهل العربيّة على ان الوقف التام عند قوله تعالى - ( وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) - ولو كان المراد ما توهموه من ان لها النصف مع الأبوين ، لما كان ذلك وقفا تاما ، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم البتة ، والمفسرين ، وأصحاب الاحكام ، في ان قوله تعالى - ( وَلِأَبَوَيْهِ ) - كلام مبتدأ مستأنف ، لا تعلق له بما قبله.

فاما اعتذارهم عند سماع هذا الكلام بان اشتراط الولد انما حسن ، ليدخل فيه الذكور وما زاد على البنتين ، لانه لم يمضي إلا ذكر البنت الواحدة والبنتين ، فعجيب ، لانه لو أراد ما ذكروه لقال تعالى يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين مع الأبوين ، فإن كن نساء فوق اثنتين معهما فلهما ثلثا ما ترك ، وان كانت واحدة معهما فلها النصف ، فلو أراد هذا المعنى على التّرتيب الذي رتبوه ، وعنى بقوله ان ذلك لهما مع البنت أو البنتين وما زاد عليهما ، وأراد أن يبين ان السدسين للأبوين مع الأولاد ، لكان لا يحسن ان يقول ان كان له ولد ، بل يقول وان كان له أيضا ذكور ، لأنّه قد تقدم ذكر البنت الواحدة وما زاد عليها ، فلا معنى لاشتراط الولد وانفراد قوله تعالى - ( وَلِأَبَوَيْهِ ) - عن الجملة المتقدمة لا يذهب على متأمل ، وانما فروا بهذا التقدير الذي لا يتحصل عن نقصان البنت في مسألة العول عن النصف ،

ص: 234


1- سورة النساء ، الآية 11.

وادعوا ان النصف جعل لها مع الأبوين لا في كل موضع ، وأحسن من ركوبهم هذه المعضلة ، ان يقولوا ان اللّه تعالى جعل (1) لها النّصف بظاهر الكلام في كل موضع ، وفي مسألة العول قام دليل على ان لها دون ذلك ، فعلمنا ان اللّه تعالى لم يجعل لها النصف في هذا الموضع خاصّة ، وان كان لها في سائر المواضع ، وانما أحسن أن نخص بدليل ، بعض المواضع أو يحصل ما هو مطلق من القول مشروطا بغير دليل ، ولا حجة على وجه يسمح به الكلام ، ويذهب رونقه ، وتزول فصاحته ، ثم يقال لهم خبرونا عمن خلف أولاد ابن ، أو أولاد بنت ، ذكورا وإناثا ، كيف تقسمون الميراث بين هؤلاء الأولاد ، فإذا قالوا للذكر مثل حظ الأنثيين ، قلنا فبأيّ حجة فعلتم ذلك ، فلا وجه لهذه القسمة ، إلا قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، والى الآية المفزع (2) في ذلك ، فيقال لهم فقد سمى اللّه تعالى أولاد الأولاد أولادا ، فأيّ فرق بين ان يكون الذكور والإناث أولاد ابن واحد ، أو بنت واحدة وبين ان يكون هؤلاء الذكور والإناث أولاد بنت وابن في تناول الاسم لهم ، وإذا كان الاسم متناولا لهم في الحالين ، فيجب ان تكون القسمة في الحالين تتفق ولا تختلف ، ويعطى أولاد البنات الذكور والإناث ، وأولاد البنين الذكور والإناث ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلا يخالف حكم الآية في أحد الموضعين ، ويتناول الآية لهما تناولا واحدا.

فان قالوا يلزمكم ان ترثوا (3) أولادا لأولاد مع الأولاد ، لتناول الاسم للجماعة عندكم.

قلنا لو تركنا وظاهر الآية ، فعلنا (4) ذلك ، لكن إجماع الشيعة الإماميّة بل إجماع كل المسلمين منع من ذلك ، فخصصنا الظاهر وحملنا الآية على ان المراد يوصيكم اللّه في أولادكم بطنا بعد بطن.

فان قالوا فنحن أيضا نخصص الظاهر ، ونحمل قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) على ان المراد به أولاد الصلب بغير واسطة.

قلنا تحتاجون الى دليل قاطع على هذا التخصيص ، كما فعلنا نحن في ذلك ،

ص: 235


1- ج. لم يجعل.
2- ج. ل. المفترع.
3- ج. ل. تورثوا.
4- ج. لفعلنا.

ورجعنا فيه الى الإجماع.

فإن قالوا أجمعت الإماميّة على ذلك.

قلنا ما الدليل على ذلك ، فانا ما نعرف هذا الإجماع ، وفي المسألة خلاف بينهم ، وان كان أكثرهم يقول بخلاف الصواب في هذه المسألة تقليدا وتعويلا على روايات رووها ، ان كل من تقرب بغيره ، أخذ سهام من تقرب به (1) ، وهذا الخبر انما هو في أولاد الاخوة والأخوات ، والأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، وبنى الأعمام والأخوال ، لأن هؤلاء لا تسمية لهم في الميراث ، وانما يتقربون بغيرهم ، فأعطوا سهام من يتقربون به ، وليس كذلك أولاد الأولاد ، لأن هؤلاء وان سفلوا داخلون في اسم الولد ، واسم البنات والبنين على الحقيقة ، ممن هو مسمّى في الكتاب ، ومنصوص على توريثه ، لا يحتاج في توريثه الى ذكر قرابته ، وان نعطيه نصيب من يتقرب به ، كما لا يحتاج في توريث أولاد الصّلب بلا واسطة إلى شي ء من ذلك.

فان قيل فما دليلكم على صحة ما ذهبتم اليه من توريث أولاد الأولاد ، والقسمة عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين.

قلنا دليلنا على ذلك قوله تعالى - ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) - ، ولا خلاف بين أصحابنا في ان ولد البنين ، وولد البنات ، وان سفلوا يقع عليهم هذه التسمية ، ويتناولهم على سبيل الحقيقة ، ولهذا حجبوا الأبوين عن ميراثهما الى السدسين بولد الولد ، وان هبطوا وحجبوا الزوج عن النصف الى الرّبع ، والزوجة عن الرّبع الى الثمن بولد الولد ، فمن سماه اللّه تعالى ولدا في حجب الأبوين ، وحجب الزوجين ، يجب ان يكون هو الذي سماه ولدا في قوله تعالى - ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) - ، وكيف يخالف بين حكم الأولاد ، ويعطى بعضهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والبعض الأخر نصيب آبائهم الذي يختلف ويزيد وينقص ، ويقتضي تارة تفضيل الأنثى على الذكر ، والقليل على الكثير ، وتارة المواساة بين

ص: 236


1- الوسائل ، الباب 1 و 2 من أبواب موجبات الإرث.

الذكر والأنثى ، وعلى ايّ شي ء نعوّل في الرجوع عن ظاهر كتاب اللّه تعالى.

فاما مخالفونا من العامة فإنهم لا يوافقونا في تسمية ولد البنت بأنه ولد على الحقيقة ، ومنهم من وافق على ذلك ، ووافق جميعهم على انّ ولد الولد وان هبط يسمّى ولدا على الحقيقة. وقد حكي عن بعضهم انه كان يقول انّ ولد الولد انّما يسمون بهذه التسمية إذا لم يحضر أولاد الصّلب ، فان حضروا لم يتناولهم الاسم ، وهذا طريف ، فان الاسم إذا تناولهم ، لم يختلف ذلك بان يحضر غيرهم أو لا يحضر ، وما راعى أحد فيما يجري على المسميات من الأسماء مثل ذلك ، وانما أحوجهم الى ذلك انهم وجدوا أولاد الابن لا يأخذون مع حضور الابن شيئا ، ويأخذون مع فقده بالاية المتضمنة للقسمة على الأولاد. وظنّوا ان الاسم يتناولهم في الحال التي لا يرثون فيها ، وهذا غلط منهم ، وقد أغناهم اللّه تعالى عن هذه البدعة في إجراء الاسم والخروج عن المعهود فيها ، بان يقولوا ان الظاهر يقتضي اشتراك الولد وولد الولد في الميراث ، لو لا انّ الإجماع على خلاف ذلك ، فيخصّصوا بالإجماع الظاهر.

وممّا يدل على ان ولد البنين والبنات يقع عليهم اسم الولد قوله تعالى « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ » (1) ولا خلاف بين الأمة في ان بظاهر هذه الآية تحرم علينا بنات أولادنا ، فلو لم تكن بنت البنت بنتا على الحقيقة ، لما دخلت تحت هذه الآية ، ويحقق ذلك انه تعالى لما قال « وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ » (2) ذكر في المحرمات بنات الأخ وبنات الأخت ، لأنهن لم يدخلن تحت اسم الأخوات ، ولما دخل بنات البنات تحت اسم البنات ، لم يحتج ، وقد حرمهن ان يقول وبنات بناتكم ، وهذه حجة قوية فيما قصدناه.

وقوله تعالى « وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ » (3) وقوله جلّ اسمه « وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ » (4) لا خلاف في عموم الحكم هاهنا بجميع أولاد الأولاد من ذكور وإناث.

ص: 237


1- سورة النساء ، الآية 23.
2- سورة النساء ، الآية 23.
3- سورة النساء ، الآية 23.
4- سورة النور ، الآية 31.

وممّا يدل أيضا على ان ولد البنت ينطلق عليه اسم الولد على الحقيقة ، انه لا خلاف في تسمية الحسن والحسين عليهما السلام انهما ابنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وانهما يفضلان بذلك ويمدحان ، ولا فضيلة ولا مدح في وصف مجاز مستعار ، فثبت انه حقيقة ، وقد روى أصحاب السير كلهم ان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه لما أمر ابنه محمّد بن الحنفيّة وكان صاحب رأيته يوم الجمل في ذلك اليوم فقال له :

أطعن بها طعن أبيك تحمد *** لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المسدّد.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه يعنى المقوّم وقد استد الشي ء إذا استقام ، ومنه قول الشاعر :

أعلّمه الرماية كل يوم *** فلما استدّ ساعده رماني

والعامة تنشده بالشين المعجمة ، وهو بالسين غير المعجمة ، فحمل محمّد رضي اللّه عنه ، فأبلى جهده ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام أنت ابني حقا وهذان ابنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعنى الحسن والحسين ، فأجرى عليهما هذه التّسمية مادحا لهما ، ومفضّلا لهما ، والمدح لا يكون بالمجاز والاستعارة ، وما زالت العرب في الجاهليّة تنسب الولد الى جده ، اما في موضع مدح أو ذم ، ولا يتناكرون ذلك ، ولا يحتشمون منه ، وقد كان الصادق أبو عبد اللّه عليه السلام يقال له ابدا أنت ابن الصديق ، لأن أمه بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، ولا خلاف بين الأمة في انّ عيسى عليه السلام من بنى أدم وولده ، وانّما ينسب إليه بالأمومة دون الابوية (1).

فان قيل اسم الولد يجري على ولد البنات مجازا ، وليس كل شي ء استعمل في غيره يكون حقيقة له.

قلنا الظاهر من الاستعمال الحقيقة ، وعلى من ادعى المجاز الدّلالة ، وقد بينا في غير موضع ان الأصل الحقيقة ، والمجاز طار داخل ، والاستعمال محمول على الأصول ، الّا ان تنقل دلالة قاهرة.

ص: 238


1- ج. الأبوة.

فإن قالوا : لو حلف رجل بالطلاق ، أو باللّه تعالى انه لا ولد له ، وله ولد بنت ، لما كان حانثا.

قلنا يكون عندنا حانثا إذا أطلق القول ، وانما لا يكون حانثا إذا نوى ما يخرجه عن الحنث.

وقد ناقض الفضل بن شاذان في مذهبه ، وقال في كتابه في الفرائض ، في رجل خلف بنت ابن وابن بنت ، ان لبنت الابن الثلثين ، نصيب أبيها ، ولابن البنت الثلث نصيب امه ، في ولد (1) الولد نصيب من يتقرب به وأعطاه ذلك ، ثم قال في هذا الكتاب في بنت ابن وابن ابن ، أن المال بينهما ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وهذه مناقضة لما قرّره ، لان بنت الابن تتقرب بأبيها ، وابن الابن يتقرب أيضا بأبيه ، فيجب ان يتساويا في النصيب ، فكيف جعل هاهنا للذكر مثل حظ الأنثيين مع ان كل واحد يتقرب لغيره ، فله على مذهبه نصيب من يتقرب به ، والّا فعل مثل ذلك في بنت ابن وابن بنت ، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين.

ومن العجب انه قال في كتابه ما هذه حكاية لفظه ، فان ترك ابن بنت وابنة ابن ، وأبوين ، فللأبوين السدسان ، وما بقي فلابنة الابن ، حق أبيها الثلثان ، ولابن البنت حق امه الثلث ، لان ولد البنت ولدا كما ان ولد الابن ولد ، وهذا التعليل ينقض الفتوى ، لأنه إذا كان ولد البنت ولدا كما ان ولد الابن كذلك ، فيجب ان يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، بظاهر قوله تعالى - ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) - فكيف اعطى الأنثى ضعف ما اعطى الذكر.

وقد يوافق الحق مذهب ابن شاذان في بعض المسائل من هذا الباب ، وان خالف في التعليل ، مثل من خلف بنت بنت وابن ابن ، فإنه يعطى البنت نصيب أمها وهو الثلث ، ويعطى الابن نصيب أبيه وهو الثلثان ، وهكذا نعطيهما نحن ، لأنا ننزلهما منزلة ابن وبنت بلا واسطة ، للذكر مثل حظ الأنثيين.

هذا آخر كلام السيّد المرتضى رضى اللّه عنه. وهو الذي يقوى في نفسي ،

ص: 239


1- ج. فجعل لولد الولد.

وافتى به ، واعمل عليه ، لان العدول الى ما سواه عدول الى غير دليل من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، بل ما ذهبنا اليه هو ظاهر الكتاب الحكيم ، والإجماع حاصل على ان ولد الولد ولد حقيقة ، على ما دللنا عليه في غير موضع ، ولا يعدل عن هذه الأدلة القاطعة للأعذار ، إلّا بأدلة مثلها موجبة للعلم ، ولا يلتفت الى اخبار آحاد في هذا الباب ، لأنها لا توجب علما ولا عملا ، ولا إلى كثرة القائلين به ، والمودعية كتبهم وتصنيفاتهم ، لأن الكثرة لا دليل معها ، لانه ربما كان الدليل مع القليلين ، لأن الحجة هو قول امام الزمان عليه السلام ولأجله عندنا صار الإجماع حجة ودليلا ، فإذا لم يقطع على ان قوله مع أقوال الكثيرين من أصحابنا ، لم نأمن ان يكون قوله داخلا في أقوال القليلين ، فيحتاج في المسألة إلى دليل غير الإجماع ، لأن دليل صحة الإجماع غير مقطوع به مع أحد الفريقين ، فيحتاج في المسألة إلى دليل غيره.

والى ما اختاره السيّد واخترناه ذهب الحسن بن أبي عقيل العماني رحمه اللّه في كتابه كتاب المتمسك بحبل آل الرسول عليهم السلام ، وهذا الرجل من جلّة فقهاء أصحابنا ومتكلميهم ، وكتابه كتاب معتمد قد ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في فهرست المصنفين ، واثنى عليه ، وكان شيخنا المفيد محمّد بن محمّد النعمان رحمه اللّه يكثر الثناء على هذا الرجل.

والأقرب من الأولاد أولى من الأبعد ، وان كان الأقرب بنتا ، والا بعد ابن ابن.

فان عدم الأبوان والولد ، فالواجب تقديم الاخوة والأخوات والأجداد والجدات ، ولا يرث مع جميعهم ولا واحد منهم أحد ممن عداهم من ذوي الأنساب ، ويرث معهم من ذوي الأسباب الزوج والزوجة على ما قدمناه (1) ، وانهما يرثان مع كل أحد ، ولا يمنعان من الإرث جملة ، الّا ان يكون المانع احدى الصّفات الثلاث المقدم ذكرها.

ص: 240


1- في ص 231.

وحكم أولاد الاخوة والأخوات وان نزلوا ، حكم آبائهم وأمهاتهم في الاستحقاق ، ومشاركة الأجداد ، وحجب من سواهم ، واعتبار الأقرب منهم فالأقرب ، فالأخ من الأب أو الأب والام ، مع الجد للأب أو للأب والام ، بمنزلة الأخ مع الأخ ، والأخت من هذا النسب مع الجد المذكور بمنزلة الأخت مع الأخ ، والجدة من هذا النسب المذكور مع الأخ أيضا من هذا النسب ، بمنزلة الأخت مع الأخ ، والجدة مع الأخت بمنزلة الأخت مع الأخت ، فاما ان كان الأخ من الام فحسب ، فقد قدمنا (1) حكمه ، وكذلك ان كان الجد من الام مع هؤلاء المقدم ذكرهم ، فقد قدمنا (2) أيضا حكمهم وحررناه وشرحناه فيما مضى فليلحظ من هناك ، فلا وجه لا عادته فان لم يكن أحد من هؤلاء وجب تقديم الأعمام والعمّات والأخوال والخالات ، أو واحد منهم على غيرهم من القرابات ، الا من استثنيناه ، وحكم الأولاد منهم وان نزلوا ، حكم آبائهم وأمهاتهم على ما قدمناه (3) ، إلا في مشاركة الأخوال أو الأعمام وفيما رواه (4) أصحابنا واجمعوا عليه من ان ابن العم للأب والام ، أحق بالميراث من العم للأب ، فإنّهم أجمعوا على عين هذه المسألة وصورتها فحسب ، فان كان عوض العم المذكور فيها عمة للأب ، كان الميراث لها دون ابن العم الذي للأب والام ، لأنّهم ما أجمعوا الا على صورة المسألة المقدم ذكرها ، وكذلك لو كان خال وعم للأب ، وابن العم للأب والام ، كان المال للعم والخال للعم الثلثان ، وللخال الثلث ، وسقط ابن العمّ للأب والام ، وكذلك لو كان خال وابن العم المقدم ذكره ، كان الميراث للخال دون ابن العم المذكور في المسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في استبصاره في تأويل خبر أورده ، وهو رجل مات ولم يخلف الا بني عم ، وبنات عم ، وعم أب وعمتين لمن الميراث؟ فكتب أهل العصبة وبنو العم هم وارثون ، قال شيخنا فالوجه في هذا الخبر أحد شيئين ، أحدهما ان نحمله على التقية ، لأنه موافق لمذهب العامة لأن المتقرر من مذهب الطائفة ان الأقرب

ص: 241


1- في ص 232.
2- في ص 232.
3- في ص 232.
4- الوسائل ، الباب 4 - 5 من أبواب ميراث الأعمام والأخوال.

اولى بالميراث من الأبعد ، فإذا ثبت ذلك فالعمتان أولى ، لأنهما أقرب من ابن العم ومن عم الأب ، والوجه الآخران يكون هذا الحكم يختص إذا كان بنو العمّ لأب وأم والعم أو العمة للأب خاصة (1).

قال محمّد بن إدريس قوله - أو العمة - غير صحيح ، لأن الإجماع منعقد على العم دون العمة.

وقد رجع شيخنا عن هذا في المسائل الحلبيّة ، فقال المسألة السّادسة ، ان ابن العم للأب والام ، مع العم للأب ، المال لابن العم ، فان كان معه اخوة ، كان بينهم ، فان كان مكان ابن العم (2) للأب عمة للأب ، أو عم للأم ، كان المال لمن كان من قبل الأم أو الأب ، دون ابن العم للأب والام ، ولا نحمل على تلك المسألة غيرها لبطلان القياس ، ولو لا إجماع الفرقة عليها لما قلنا بها لأنها تخالف الأصول ، فينبغي ان يكون الفتيا مقصورا عليها ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه (3).

فلا يجوز لنا ان نتعدى عن المسألة وصورتها وصيغتها ، ولا نقيس غيرها عليها ، لان القياس عندنا باطل ، كما قال.

فان عدم هؤلاء الوراث فالمستحق من له الولاء بالعتق المتبرع به ، أو الولاء بتضمن الجريرة دون ولاء الإمامة ، لان ولاء الإمامة لا يستحق به الإرث الأبعد الولائين المقدم ذكرهما.

ولا يستحق أيضا الإرث في جميع أقسام الولاء الثلاثة ، إلا بعد عدم جميع ذوي الأنساب ، دون الأسباب إلا في ولاء لامامة ، فإن الإمام لا يستحقه الا مع عدم جميع ذوي الأنساب أيضا ، دون الأسباب إلا سبب واحد ، وهو الزوج ، فإن الإمام لا يستحق من الإرث بولاء الإمامة شيئا مع الزوج ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، فاما مع الزوجة فإنّه يستحق ما بقي بعد سهمها وفرضها بغير خلاف من محصّل متأمل ،

ص: 242


1- الإستبصار ، ج 4 ، الباب 101 من ميراث الاولى من ذوي الأرحام ، ح 3.
2- ج ، ل : مكان العم.
3- لم تتوفر لدينا هذه المسائل.

إلا رواية (1) شاذة لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها.

فان شيخنا أبا جعفر ذكر في نهايته قال : فإذا خلفت زوجا ولم تخلف غيره من ذوي رحم قريب أم بعيد ، كان للزوج النصف بنص القرآن (2) ، والباقي رد عليه بالصحيح من الاخبار (3) عن أئمة آل محمّد عليهم السلام.

وإذا خلف الرجل زوجة ولم يخلف غيرها من ذي رحم قريب أو بعيد كان لها الربع بنص القرآن (4) والباقي للإمام (5) ، وقد روي (6) ان الباقي يرد عليها ، كما يرد على الزوج (7).

وقال بعض (8) أصحابنا في الجمع بين الخبرين هذا الحكم مخصوص بحال غيبة الامام ، وقصور يده ، فاما إذا كان ظاهرا ، فليس للمرأة أكثر من الربع ، والباقي له على ما بيناه ، وهذا وجه قريب من الصّواب.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنّف هذا الكتاب : ما قرّبه شيخنا أبعد ممّا بين المغرب ، والمشرق ، لان تخصيص الجامع بين الخبرين بما قد ذهب اليه ، يحتاج فيه الى دلالة قاهرة ، وبراهين متظاهرة ، لان أموال بنى أدم ومستحقّاتهم لا يحل بغيبتهم ، لان التصرف في مال الغير بغير اذنه قبيح عقلا وسمعا.

وشيخنا أبو جعفر فقد رجع عمّا قربه في إيجازه ، فقال ذوو السّهام على ضربين ، ذو والأنساب ، وذو والأسباب ، فذو والأسباب هم الزوج والزوجة ، ولهما حالتان ، حالة انفراد بالميراث ، وحالة اجتماع ، فإذا انفردوا كان لهم سهمهم المسمّى ، ان كان زوجا النصف ، والرّبع ان كانت زوجة ، والباقي لبيت المال ، وقال أصحابنا ان الزوج وحده يرد عليه الباقي بإجماع الفرقة على ذلك ، هذا أخر كلامه في

ص: 243


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 6 - 9.
2- سورة النساء ، الآية 12.
3- الوسائل ، الباب 3 ، من أبواب ميراث الأزواج.
4- سورة النساء ، الآية 12.
5- الوسائل ، الباب 4 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 2 - 3 - 4 - 5 - 7 - 8.
6- الوسائل ، الباب 4 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 6 - 9.
7- النهاية ، باب ميراث الأزواج.
8- وهو ابن بابويه على ما نقله في الوسائل ذيل الحديث 9 من الباب 4 من أبواب ميراث الأزواج.

الإيجاز (1).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، في أخر باب ميراث الاخوة والأخوات ، وإذا لم يوجد مع الأزواج قريب ولا نسيب للميّت ، ردّ باقي التركة على الأزواج (2).

إلّا انّه رحمه اللّه رجع عن ظاهر كلامه وإجماله ، في كتابه كتاب الاعلام ، فقال في باب ميراث الأزواج : واتفقت الإماميّة على ان المرأة إذا توفيت وخلفت زوجا ولم تخلف وارثا غيره من عصبة ولا ذي رحم انّ المال كله للزوج ، النّصف منه بالتسمية ، والنصف الآخر مردود عليه بالسنّة هذا أخر كلامه رحمه اللّه (3).

والى ما اخترناه ذهب السيّد المرتضى في انتصاره ، فقال مسألة وممّا انفردت به الإماميّة ، ان الزوج يرث المال كله إذا لم يكن وارث سواه ، فالنصف بالتّسمية ، والنصف الآخر بالردّ ، وهو أحق بذلك من بيت المال ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ، وذهبوا كلهم الى ان النصف له ، والنصف الأخر لبيت المال ، والحجة في ذلك إجماع الطائفة عليه ، فإذا قيل كيف يرد على من لا قرابة له ولا نسب ، وانما يرث بسبب ، وانما يرد على ذوي الأرحام ، ولو جاز ان يرد على الزوج ، لجاز ان يرد على الزوجة حتى تورث جميع المال ، إذا لم يكن وارث سواها ، قلنا الشرع ليس يؤخذ قياسا ، وانما يتبع فيه الأدلة الشرعية ، وليس يمتنع ان يرد على من لم يكن ذا رحم وقرابة إذا قام الدليل على ذلك ، واما الزوجة فقد وردت رواية (4) شاذة بأنّها ترث المال كله إذا انفردت كالزوج ، ولكن لا يعول على هذه الرّواية ، ولا تعمل الطائفة بها ، وليس يمتنع ان يكون للزوج مزية في هذا الحكم على الزّوجة ، كما كان له مزيّة عليها في تضاعف حقه على حقّها ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (5).

ويقوم ولد المعتق الذكور منهم والإناث وجميع من يرثه من ذوي الأنساب على حد واحد مقامه ، إلّا الاخوة والأخوات من الأم أو من يتقرب بها من الجد والجدة

ص: 244


1- الإيجاز ، فصل في ذكر سهام المواريث ، ص 270 ، ط. الحديث.
2- المقنعة ، باب ميراث الاخوة والأخوات ص 691.
3- لم نعثر عليه.
4- الوسائل ، الباب 4 ، من ميراث الأزواج ، حديث 6 - 9.
5- الانتصار ، كتاب الفرائض والمواريث والوصايا ..

والخال والخالة وأولادهما على الصّحيح من المذهب ، سواء كان المعتق المباشر للعتق رجلا أو امرأة ، لأنه الذي يقتضيه أصل مذهبنا (1).

وفي أصحابنا من قال انه لا ترث النساء من الولاء شيئا ، وانما يرثه الذكور من الأولاد والعصبة إذا لم يكن أولاد ذكور ، هذا إذا كان المعتق رجلا.

فامّا إذا كان المعتق امرأة فلا يرث أولادها من ولاء مواليها شيئا ، بل يرث الولاء العصبة دون أولادها ، سواء كان الأولاد ذكورا أو إناثا.

وذهب بعض أصحابنا إلى انه إذا كان المعتق رجلا يرث ولاء مواليه أولاده الذكور دون الإناث منهم ، فان لم يكن له أولاد ذكور ، كان الولاء للعصبة ، فإن كان المعتق امرأة ، ورث ولاء مواليها أولادها الذكور دون الإناث ، فان لم يكن ذكور فان الولاء للعصبة ، مثل ما قال إذا كان المعتق رجلا ، وهذا اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (2).

وقال الحسن بن أبي عقيل يرث الولاء جميع ورثة المعتق ، وذكر اختلاف الشيعة في ذلك ، فقال الأكثرون منهم بما أوردناه عنه ، ثم قال : وهذا مشهور متعالم (3).

قال محمّد بن إدريس والثاني (4) اختيار شيخنا في نهايته (5) والأول اختياره في مسائل خلافه ، فإنه قال مسألة الولاء يجري مجرى النسب ، ويرثه من يرث من ذوي الأنساب على حد واحد ، إلا الاخوة والأخوات من الأم ، أو من يتقرب بها من الجد والجدة والخال والخالة ، وأولادهما ، وفي أصحابنا من قال انه لا ترث النساء من الولاء شيئا وانما يرثه الذكور من الأولاد والعصبة ، ثم استدل ، فقال دليلنا إجماع الفرقة وأيضا قوله عليه السلام - الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب - (6) (7) ، اللحمة بضم اللام ، القرابة ولحمة الثوب تفتح وتضم.

ص: 245


1- ج. أصول مذهبنا.
2- المقنعة ، باب ميراث الموالي وذوي الأرحام 694.
3- ج. متعارف.
4- بل الأول كما ان مختاره في الخلاف الثاني.
5- النهاية ، كتاب الميراث ، باب ميراث الموالي ..
6- الخلاف ، كتاب الفرائض ، مسألة 84.
7- الوسائل ، الباب 42 ، من كتاب العتق ، ح 2 ، وفي المصدر ، لاتباع ولا توهب.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه وهذا الخبر مجمع عليه ، متلقى بالقبول عند المخالف والمؤالف ، ومن المعلوم ان في النسب يرث جميع ذوي الأنساب على حد واحد ، الّا ما خرج بالإجماع من كلالة الأم ومن يتقرب بها على ما قدمناه.

فصل : في تفصيل احكام الورّاث مع الانفراد والاجتماع

قد بينا ان أول المستحقين الأبوان ، والولد ، فالأبوان إذا انفردا من الولد كان المال كله لهما ، للأم الثلث ، والباقي للأب ، والمال كله لأحدهما إذا انفرد ، فان كان معهما زوج أو زوجة ، فللأم الثلث من أصل التركة بالتسمية ، والباقي بعد سهم الزوج أو الزوجة للأب بآية اولي الأرحام.

يدل على ذلك بعد إجماعنا قوله تعالى « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ » (1) وهذا نصّ في موضع الخلاف ، لانه لا يفهم من إيجاب الثلث لها الا الثلث من الأصل ، كما لا يفهم من إيجاب النصف للبنت أو الزوج مع عدم الولد الّا ذلك.

وأيضا فإنه تعالى لم يسم للأب مع الأم شيئا ، وانما يأخذ الثلثين ، لان ذلك هو الباقي بعد المسمى للأم ، لا لأنه الذي لا بدّ أن يستحقه ، بل الذي اتفق له ، فإذا دخل عليهما زوج أو زوجة ، وجب ان يكون النقص داخلا على من له ما يبقى وهو الأب ، كما ان له الزيادة دون صاحب السهم المسمّى وهو الام ، ولو جاز نقصها عمّا سمي لها في هذا الموضع ، لجاز ذلك في الزوج أو الزوجة ، وقد علمنا خلاف ذلك.

وحمل المخالف الآية على ان المراد للأم الثلث مع الأب إذا لم يكن وارث غيرهما ، ترك للظاهر من غير دليل.

وقولهم لما ورث الأبوان بمعنى واحد وهو الولادة ، وكانا في درجة واحدة ، اشبها

ص: 246


1- سورة النساء ، الآية 11.

الابن والبنت ، فلم يجز ان يفضّل الأنثى على الذكر ، قياس لا يجوز ان يثبت به الأحكام الشرعية.

ثم لو منع ذلك من التفضيل ، منع (1) من التساوي كما منع في الابن والبنت منه ، وقد علمنا نساوي الأبوين.

وقولهم إذا دخل على الأبوين من يستحق بعض المال ، كان الباقي بعد أخذ المستحق بينهما على ما كان في الأصل كالشريكين في مال لأحدهما ثلثه ، وللآخر ثلثاه ، استحق عليهما بعضه ، ليس بشي ء لأن الشريكين قد استحق كل واحد منهما سهما معيّنا ، فإذا استحق من المال شي ء كان ما يبقى بينهما على قدر سهامهما المسماة المعينة ، وليس كذلك ما نحن فيه ، لأنا قد بيّنا أن الأب لا يأخذ الثلثين ، بالتسمية ، ولا هما سهمه الذي لا بدّ أن يستحقه ، وانما له الفاضل بعد ما سمي للأم ، فاتفق انه الثلثان.

وبهذا نجيب عن قولهم ، إذا أدخل النقص على الابن والبنت معا لمزاحمة الزوج أو الزوجة ، فكذلك يجب في الأبوين ، لأن اللّه سبحانه وتعالى قد صرح في الابن والبنت بان ( لِلذَّكَرِ ) مثل ( حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، فوجب ان يكون القسمة بينهما على ذلك في كل حال ، ولم يصرح بأن للأب في حال الانفراد من الولد الثلثين ، وانما أخذهما اتفاقا ، فافترق الأمران.

فإن كان مع الأبوين أخوان ، أو أربع أخوات ، أو أخ وأختان لأب ، أو لأب وأم ، قد انتفت (2) عنهم الصفات الثلاث المقدم ذكرها ، فالام محجوبة عن الثلث الى السدس بدليل إجماع أهل البيت عليهم السلام وأيضا فلا خلاف في صحة الحجب بمن ذكرناه ، وليس كذلك الحجب بمن عداهم.

وقوله تعالى « فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ » (3) وان تناول ظاهره الاخوة من الأم ، فانا نعدل عن الظاهر للدليل ، وهذا جوابنا على من قال انه لا يحجب بأقل من ثلاثة من الاخوة ، وتمسّك بظاهر الآية ، وان أقل الجمع ثلاثة.

ص: 247


1- ج. ل. لمنع.
2- ج : فقد انتفت.
3- سورة النساء ، الآية 11.

وللأبوين مع الولد الثلث بينهما بالسوية ، ولأحدهما السدس واحدا كان الولد أو أكثر ، ذكرا كان أو أنثى ، ولد صلب كان أو غيره ، الّا انه ان كان ذكرا فله جميع الباقي بعد سهم الأبوين ، وان كان ذكرا وأنثى ، ( فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، وهذا كله بلا خلاف.

وان كان أنثى فلها النصف ، والباقي يرد عليها وعلى الأبوين بدليل إجماع الطائفة وأيضا قوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ » (1) وإذا كانت البنت والأبوان أقرب الى الميت ، واولى برحمة من عصبته ، ومن امام المسلمين وبيت المال ، كانوا أحق بميراثه.

ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام « المرأة تحوز ميراث ثلاثة ، عتيقها ، ولقيطها ، وولدها (2) ، وهي لا تحوز جميعه الّا بالردّ ».

وبما رووه من انه عليه السلام جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه ولذرّيّتها من بعدها (3) ، وظاهر ذلك ان جميعه لها ، ولا يكون لها ذلك الا بالرد.

وبما رووه عن سعد انّه قال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله ان لي مالا كثيرا وليس يرثني الّا بنتي ، أفأوصي بمالي كله؟ قال لا ، قال فبالنصف؟ قال لا ، قال فبالثلث؟ قال الثلث ، والثلث كثير (4) ، فأقره عليه السلام على قوله ليس يرثني إلا بنتي ، ولم ينكر عليه.

وروي هذا الخبر بلفظ أخر ، وانه قال أفأوصي بثلثي مالي والثلث لبنتي؟ قال لا ، قال أفأوصي بنصف مالي والنصف لبنتي؟ قال لا ، قال أفأوصي بثلث مالي

ص: 248


1- سورة الأنفال ، الآية 75.
2- سنن ابن ماجة ، الباب 12 من كتاب الفرائض ، الرقم 2742 ( ج 2 ، ص 916 ). الترمذي ، الباب 23 من كتاب الفرائض ، ( الرقم 2. ج 4 ، ص 429 ) سنن أبي داود ، كتاب الفرائض ، باب ميراث ولد الملاعنة ، الحديث 1 ( الرقم 2906 ، ج 3 ، ص 125 ).
3- سنن أبي داود ، كتاب الفرائض ، باب ميراث ولد الملاعنة ، الحديث 2 و 3 ( الرقم 8 - 2907 ، ج 3 ، ص 125 ).
4- النسائي ، باب الوصية بالثلث من كتاب الوصايا ، الجزء 6 ، ص 244.

والثلثان لبنتي؟ قال الثلث والثلث كثير (1).

وهذا يدل على ان البنت ترث الثلثين ، وقول المخالف ان اللّه جعل للبنت الواحدة النصف فكيف يزاد على ذلك ، لا حجة فيه ، لأنها تأخذ النصف بالتسمية ، وما زاد عليه بسبب أخر وهو الرد بالرحم ، ولا يمتنع ان ينضاف سبب الى آخر كالزوج ، إذا كان ابن عم ، ولا وارث معه فإنّه يرث النصف بالزوجية ، والنصف الآخر عندنا بالقرابة ، وعند المخالف بالعصبة.

فإن كان مع الأبوين ابنتان فما زاد ، كان لهما الثلثان ، وللأبوين السدسان ، ولأحد الأبوين معهما السدس ، والباقي رد عليهم بحساب سهامهم ، فان كان هناك اخوة يحجبون الام ، لم يرد عليها من فاضل الفريضة شي ء ، ورد ذلك على الأب والبنت فحسب.

إذا خلف بنتا وأبوين ، واخوة يحجبون الام ، فهاهنا لا يرد من الفاضل على السّهام شي ء على الام ، ورد على الأب والبنت.

فان كان مع الأبوين والولد زوج أو زوجة ، كان للولد ما يبقى بعد سهم الأبوين ، والزّوج أو الزّوجة ، واحدا كان الولد أو جماعة ، ذكرا كان أو أنثى ، للصلب كان أو لغيره ، فان لم يف الباقي بالمسمى للبنت أو للابنتين ، ويكون النقص داخلا على البنت أو ما زاد عليها ، دون الأبوين ، ودون الزوج أو الزوجة ، لأن الأمة بأجمعها تذهب الى ان للبنت (2) أو البنتين منقوصات وما أجمعت على ان الأبوين والزوج منقصون (3) ، بل أجمعت على انهم هاهنا مسمون بظاهر التنزيل ، فعملنا بالقرآن هاهنا وخصصنا البنات بالنقص ، وان كنّ مسميات بالإجماع من الأمّة ، وليس معنا في حق الأبوين والزوج إجماع منعقد ، بحيث يخصصهم به ، فوفينا الظاهر حقه ، وعملنا بكتاب اللّه ، وبإجماع الأمة ، وهذه من مسائل العول التي يذهب المخالفون فيها إلى إدخال النقص على جميع ذوي السّهام ، ويشبهون ذلك بمن مات وعليه

ص: 249


1- مستدرك الوسائل ، الباب 9 من كتاب الوصايا ، ح 2 ، باختلاف يسير.
2- ج. ق. البنت.
3- ج. منقوصون.

ديون لا تتسع تركته لوفائها.

والعول في اللغة عبارة عن الزيادة والنقصان معا ، فإن أضيف هاهنا الى المال كان نقصانا ، وان أضيف إلى السّهام كان زيادة ، دليلنا على ما ذهبنا إليه ، إجماع أهل البيت عليه.

وأيضا فلا خلاف ان النقص هاهنا داخل على البنات على ما قدمناه ، ولا دليل على دخوله هاهنا على من عداهن من إجماع ولا غيره ، فوجب البقاء فيهم على الأصل الذي اقتضاه ظاهر القرآن ، ومحكم التبيان.

وأيضا فدخول النقص على جميع ذوي السّهام تخصيص لظواهر كثيرة من القرآن ، وعدول عن الحقيقة فيها الى المجاز ، ودخوله على البعض رجوع عن ظاهر واحد ، فكان أولى.

فإذا ثبت ان نقص البعض اولى ، ثبت انّه الّذي عيناه ، لان كل من قال بأحد الأمرين ، قال بالآخر ، والقول بان المنقوص غيره ، مع القول بان نقص البعض اولى ، خروج عن الإجماع.

وفي أصحابنا من يقول في هذا الموضع انّ اللّه تعالى انما فرض للبنتين الثلثين مع الأبوين فقط إذا لم يكن غيرهم ، فإذا دخل في هذه الفريضة الزّوج ، تغيّرت الفريضة التي سمّي فيها الثّلثين للبنتين ، كما انّه لو كان مكان الزوج ابن لتغيّرت القسمة ، ولم يكن للابنتين الثلثان.

وقال أيضا أعني بعض أصحابنا ان الزوج والزّوجة جعل لهما في الكتاب فرضان ، أعلى وأسفل ، وحطّا من الأعلى إلى الأدون ، وكذلك جعل للأبوين فرضان ، أحدهما أعلى وهو الثلثان للأب ، والثلث للأم ، ثم بين انهما إذا حجبا عن ذلك حطّا الى السّدسين ، وفرض للابنة النصف ، وللابنتين الثلثين ، ولم يحط البنات من فريضة إلى أخرى ، ويجب إدخال النقص على سهام من لم يلحقه نقص ، ولا حط من رتبة إلى رتبة أخرى ، ويوفر نصيب من نقص ، وحط من رتبة عليا إلى رتبة سفلى ، حتى لا يلحقه نقص بعد نقص أخر ، فيكون ذلك إجحافا به.

وهذا الذي حكيناه عن بعض أصحابنا فيه نظر ، والمعتمد في الاستدلال على

ص: 250

ما قدمناه أولا وحررناه فإنه احسم للشغب.

وهذا اختيار السيد المرتضى في الناصريات ، فإنه قال في المسألة التسعين والمائة ، الفرائض لا تعول ، ولو مات رجل وخلف أبوين وبنتين وزوجة ، فللزوجة الثمن ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ، وما بقي فللبنتين ، وهذا صحيح ، وذهب أصحابنا بلا خلاف الى ان الفرائض لا تعول ، ووافقنا على ذلك ابن عباس ، وداود بن علي الأصفهاني ، وخالفنا باقي الفقهاء ، وتحقيق هذه المسألة : ان تكون السهام المسماة في الفريضة يضيق عنها المال ، ولا يتسع لها ، كامرأة خلفت ابنتين وأبوين وزوجا ، فللزوج الربع ، وللبنتين الثلثان ، وللأبوين السدسان ، وهذا مما يضيق عنه المال ، لانه لا يجوز ان يكون المال ثلثان ، وسدسان ، وربع ، وعندنا في هذه المسألة ان للأبوين السدسين ، وللزوج الربع ، وما بقي فللبنتين ، ومخالفونا الذين يذهبون الى العول ، يجعلون للزوج الخمس ثلاثة أسهم من خمسة عشر ، وللأبوين السدسان ، أربعة من خمسة عشر ، وللبنتين الثلثان ، ثمانية من خمسة عشر ، فقد نسب مخالفونا في العول الى اللّه تعالى ما لا يليق بحكمته ، وعدله ، وجميل صفاته ، لانه لا يجوز ان يفرض في المال ما لا يتسع المال له ، فذلك سفه وعبث ، ولان اللّه (1) تعالى فرض للأبوين السدسين في هذه المسألة واعطوهما أربعة من خمسة عشر ، وهذا خمسا وثلثا عشر ، لا سدسان ، وفرض للزوج الربع ، وأعطوه ثلاثة من خمسة عشر ، وهذا خمس ، لا ربع ، وفرض للبنتين الثلثين ، واعطوهما ثمانية من خمسة عشر ، وهذا ثلث وخمس لا ثلثان ، فان قالوا فلم أدخلتم النقصان في هذه المسألة على البنتين دون الجماعة ، واللّه تعالى قد سمى للبنتين الثلثين ، كما جعل للواحدة النصف ، قلنا المعتمد في إدخال النقص على نصيب البنتين في هذه المسألة وما شاكلها من المسائل التي يدعي فيها العول ، انا نقصنا من أجمعت الأمّة على نقصانه من سهامه ، وهم (2) البنتان ، لانه لا خلاف بين من اثبت العول وبين من نفاه في ان البنتين منقوصتان هاهنا عن سهامهما التي هي الثلثان ، وليس كذلك من عدا البنتين من الأبوين والزوج ، لان

ص: 251


1- ج. ل. لان اللّه.
2- ل. وهما.

الأمة ما أجمعت على نقصانهم ، ولا قام على ذلك دليل ، فلما اضطررنا الى النقصان وضاقت السّهام عن الوفاء ، نقصنا من وقع الإجماع على نقصانه ، وقررنا نصيب من لا دليل على وجوب نقصانه ، فصار هذا الإجماع دليلا على انّه ليس للبنتين الثلثان على كل حال ، وفي كل موضع ، فخصصنا الظاهر بالإجماع ، ووفينا الباقين في هذه الفريضة بظواهر الكتاب التي لم يقم دليل على تخصيصها ، الى هاهنا أخر كلام السيّد المرتضى (1).

فنعم ما قال واستدلّ وحرر.

وأيضا فقد روى الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود الهذلي أحد فقهاء أهل المدينة السبعة ، والثاني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر الصديق التيمي ، وعروة بن الزبير الأسدي القرشي ، وسعيد بن المسيب بن الحزن (2) المخزومي ، وسليمان بن بشار مولى ميمونة بنت الحارث زوج النبيّ عليه السلام ، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري ، فهؤلاء السبعة ، قال جلست الى ابن عباس ، فجرى ذكر الفرائض والمواريث ، فقال ابن عباس سبحان اللّه ، أترون الذي أحصى رمل عالج عددا ، جعل في مال نصفا وثلثا وربعا ، فقال له زفر بن أوس البصري (3) ، يا بن عباس فمن أول من أعال الفرائض؟ قال عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض ، ودافع بعضها بعضا ، قال واللّه ما أدري أيكم قدم اللّه وأيّكم أخّر؟ فما أجد شيئا هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص ، وادخل على كل ذي حق حق ما دخل عليه من عول الفريضة ، وايم اللّه لو قدم من قدم اللّه ، وأخّر من أخر اللّه ، ما عالت فريضة (4).

تمام الحديث.

فانا أخذنا منه موضع قصدنا.

ص: 252


1- الناصريات ، كتاب الفرائض ، مسألة 190.
2- ج. الحرب. ل. حرث.
3- ج. النضري « والمعهود في كتب الرجال : النصري ».
4- سنن البيهقي ، كتاب الفرائض ، باب العول في الفرائض ( ج 6 ، ص 253 ). وفي لفظ الحديث اختلاف مع ما في المتن.

والفرق بين ما نحن فيه ، وبين الديون على التركة ، ان الغرماء مستوون في وجوب استيفاء حقوقهم منها ، ولا مزية لبعضهم على بعض في ذلك ، وليس كذلك مسائل العول ، لأنا قد بيّنا ان في الورثة من لا يجوز أن ينقص عن سهمه ، وفيهم من هو اولى بالنقص من غيره ، فخالفت حالهم حال الغرماء ، ودعواهم على أمير المؤمنين عليه السلام انه كان يقول بالعول ، وروايتهم عنه ، انه قال بغير رويّة ، وقد سئل وهو على المنبر ، عن ابنتين وأبوين وزوجة ، صار ثمنها تسعا ، - غير صحيحة - ، لأن أبناءه عليهم السلام وشيعته اعلم بمذهبه من غيرهم ، وقد نقلوا عنه خلاف ذلك ، وابن عباس ما أخذ مذهبه في إبطال العول الّا عنه ، وقد روى المخالف عنه ، انه قال من شاء باهلته ، ان الّذي أحصى رمل عالج ، ما جعل في مال نصفا وثلثا وربعا ، ثم اعتمادهم في الرّواية عن أمير المؤمنين عليه السلام لما ادعوه من قوله بالعول في الفرائض ، على اخبار آحاد لا يعول على مثلها في الشرع ، ثم هي موقوفة على الشعبي والنخعي ، والحسن بن عمارة ، والشعبي ولد في سنة ست وثلاثين ، والنخعي ولد في سنة سبع وثلاثين ، وأمير المؤمنين عليه السلام قتل في سنة أربعين ، فلا تصح روايتهما عنه ، والحسن بن عمارة مضعف عند أصحاب الحديث ، ولما ولّي المظالم ، قال سليمان بن مهران الأعمش ، ظالم ولي المظالم.

فاما ما ادّعوه من قوله عليه السلام صار ثمنها تسعا فرواه سفيان (1) ، عن رجل لم يسمه ، والمجهول لا يعتد بروايته ، على انه تتضمن ما لا يليق به عليه السلام ، لأنه سئل عن ميراث المذكورين ، فأجاب عن ميراث الزوجة فقط ، وإغفال من عداها ، وقد سئل عنه ، غير جائز عليه.

وقد قيل ان الخبر لو صح لاحتمل ان يكون المراد به صار ثمنها تسعا عند من يرى العول على سبيل التهجين له والذم ، كما قال اللّه تعالى « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » (2) ، اى عند قومك وأهلك ولاحتمل أيضا ان يكون أراد الاستفهام ، وأسقط حرفه ، كما روى عن ابن عباس في قوله تعالى « فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ » (3). وقال

ص: 253


1- ج. سفيان الثوري.
2- سورة الدخان ، الآية 49.
3- سورة البلد ، الآية 11.

عمر بن أبي ربيعة.

ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرا *** عدد القطر والحصى والتراب

فصل

وإذا انفرد الولد من الأبوين واحد الزوجين ، فله المال كله ، سواء كان واحدا أو جماعة ، ذكرا كان أو أنثى ، ولا يرث مع البنت أحد سوى من قدمناه ، عصبة كان أو غيره ، بل النصف لها بالتّسمية الصريحة ، والنصف الآخر بالرد بالرحم ، على ما بيناه ، ومخالفونا يذهبون إلى انه لو كان مع البنت عم ، أو ابن عم ، لكان له النصف بالتعصيب ، وكذا لو كان معها أخت ويجعلون الأخوات عصبة مع البنات ، ويسقطون من هو في درجة العمّ أو ابن العم من النساء كالعمات وبنات العم ، إذا اجتمعوا ، ويخصون بالميراث الرجال دونهن ، لأجل التعصيب ، ونحن نورثهن.

ويدل على صحة ما نذهب اليه بعد إجماع أصحابنا عليه ما قدمناه من آية ذوي الأرحام ، لأن اللّه سبحانه نص فيها على ان سبب استحقاق الميراث القربى وتداني الأرحام ، وإذا ثبت ذلك وكانت البنت أقرب من العصبة ، وجب ان يكون اولى بالميراث.

ويدل أيضا على انه لا يجوز إعطاء الأخت النصف مع البنت ، قوله تعالى « إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ » (1) ، فشرط في استحقاقها النّصف عدم الولد وفقده ، فوجب ان لا يستحقه مع البنت ، لأنها ولد ، ويدل على بطلان تخصيص الرجال بالإرث دون النساء ، قوله تعالى « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ، نَصِيباً مَفْرُوضاً » (2) ، فأوجب سبحانه للنساء نصيبا كما أوجب للرجال ، من غير تخصيص ، فمن خصّ الرجال بالميراث في بعض المواضع ، فقد ترك الظاهر ، فعليه

ص: 254


1- سورة النساء الآية 176.
2- سورة النساء ، الآية 7.

الدلالة ، ولا دلالة يقطع بها على ذلك ، ولا يلزمنا مثل ذلك إذا خصصنا البنت بالميراث دون العصبة ، لأن الاستواء في الدرجة مراعى مع القرابة ، بدليل ان ولد الولد لا يرث مع الولد للصلب ، وان شمله اسم الرجال إذا كان من الذكور ، واسم النساء إذا كان من الإناث ، وإذا ثبت ذلك وكان هو المراد بالاية ، وورث المخالف العم دون العمة ، مع استوائهما في الدرجة ، كان ظاهر الآية حجة عليه ، دوننا على ان التخصيص بالأدلة غير منكر ، وانما المنكر أن يكون ذلك بغير دليل.

فان قالوا نحن نخص الآية التي استدللتم بها بما رواه ابن طاوس ، عن أبيه عن ابن عباس ، عن النبيّ عليه السلام من قوله يقسم المال على أهل الفرائض على كتاب اللّه فما أبقت فلأولى ذكر قرب (1) ، وتورث الأخت مع البنت بما رواه الهذيل بن شرحبيل ، من ان أبا موسى الأشعري سئل عمن ترك بنتا وبنت ابن وأختا لأب وأم ، فقال للبنت النصف ، وما بقي فللأخت (2). وبما رواه الأسود بن يزيد ، قال قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فاعطى البنت النصف ، والأخت النّصف ، ولم يورث العصبة شيئا (3).

فالجواب ان ترك ظاهر القرآن لا يجوز بمثل هذه الاخبار ، لأنّ أوّل ما فيها ان الخبر المروي عن ابن عباس لم يروه أحد من أصحاب الحديث الّا من طريق ابن طاوس ، ومع هذا فهو مختلف اللفظ ، فروي على ما تقدم ، وروي فلأولى عصبة ذكر ، وروى فلأولى رجل ذكر وكلّ عصبة (4) واختلاف لفظه مع اتحاد طريقه ، دليل ضعفه ، على ان مذهب ابن عباس في نفى التوريث بالعصبة مشهور ، وراوي الحديث إذا خالفه كان قدحا في الحديث ، والهذيل بن شرحبيل مجهول ضعيف ، ثم

ص: 255


1- سنن أبي داود ، باب في ميراث العصبة ، الرقم 2898 ، ج 3 ، ص 122. الترمذي ، باب في ميراث العصبة ، الرقم 1. ج 4 ، ص 418 ابن ماجة ، باب ميراث العصبة ، الرقم 2740 ، ج 2 ، ص 915.
2- سنن أبي داود ، باب ما جاء في ميراث الصلب ، الرقم 2890 ، ج 3 ، ص 120.
3- سنن أبي داود ، باب ما جاء في ميراث الصلب ، الرقم 2893 ، ج 3 ، ص 121. البخاري ، الباب 11 من كتاب الفرائض ، الرقم 6340.
4- ج. ل. ذكر عصبة.

ان أبا موسى لم يسند ذلك الى النبي عليه السلام وفتواه هو لا حجة فيها ، ولا حجة أيضا في قضاء معاذ بذلك ، ولا في كونه على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ما لم يثبت علمه عليه السلام به ، وإقراره عليه ، وفي الخبر ما يبطل ان يكون الأخت أخذت بالتعصيب ، وهو قوله ولم يورث العصبة شيئا ، لأنها لو كانت ها هنا عصبة لقال ولم يورث باقي العصبة شيئا ، على ان هذه الاخبار لو سلمت من كل قدح ، لكانت معارضة بأخبار مثلها ، وارادة من طريق المخالف مثل قوله عليه السلام ، من ترك مالا فلأهله (1) ، وقول ابن عباس وجابر بن عبد اللّه ، ان المال كله للبنت دون الأخت ، وروى الأعمش مثل ذلك عن إبراهيم النخعي ، وبه قضى عبد اللّه بن الزبير على ما حكاه الساجي والطبري ، وما نختص نحن بروايته في إبطال التوريث بالعصبة كثير ، فإذا تعارضت الاخبار سقطت ، ووجب الرجوع الى ظاهر القرآن.

على ان أخبارهم لو سلمت من المعارضة لكانت اخبار آحاد ، وقد دللنا على فساد العمل بها في الشّرعيّات.

على انهم قد خالفوا في لفظ الحديث عن ابن عباس ، فورثوا الأخت مع البنت ، وليست برجل ولا ذكر ، وورثوها أيضا مع الأخ ، إذا كانا مع البنت ، ولم يخصوا الأخ (2) وكذا لو كان مكان الأخ عم ، وإذا جاز لهم تخصيصه بموضع دون موضع ، جاز لنا حمله على من ترك أختين لأم ، وأخا لأب ، مع أولاد إخوة لأب وأم ، أو ترك زوجة وأخا مع عمومة وعمات ، فان ما يبقي بعد الفرض المسمى للأختين ، أو الزوجة لاولى ذكر قرب ، وهو الأخ بلا خلاف.

على انهم إذا جعلوا الأخت عند فقد الإخوة عصبة ، لزمهم ان يجعلوا البنت مع عدم البنين عصبة ، بل هي أولى ، لأن الابن أحق بالتعصيب من الأب ، والأب أحق بالتعصيب من الأخ ، فأخت الابن تكون أحق بالتعصيب من أخت الأخ

ص: 256


1- سنن الترمذي ، الباب 1 من كتاب الفرائض ، الرقم 2090 ( ج 4 ، ص 413 ) سنن أبي داود ، باب ميراث ذوي الأرحام ( الرقم 2899 و 28900 ج 3 ، ص 123 ). البخاري ، الباب 3 من كتاب الفرائض ، الرقم 1. الّا ان اللفظ في الأخيرين : « من ترك مالا فلورثته ».
2- ج. الأخت.

بلا شبهة ، وليس لهم ان يفرقوا بان البنت لا تعقل عن أبيها ، لأن الأخت أيضا لا تعقل وقد بيّنا فيما تقدم ان ولد الولد وان نزلوا يقومون مقام آبائهم وأمهاتهم ، بل هم أولاد حقيقة ، وبيّنا مذهبنا واختيارنا في ذلك ، فلا وجه لإعادته في مشاركة من يشاركونه ، وحجب من يحجبونه ، ويأخذ كل منهم تسمية نفسه ، وما ينطلق عليه من الاسم ، دون ميراث من يتقرب به.

وذهب بعض أصحابنا على ما حكيناه أوّلا عنهم انه يأخذ كل منهم ميراث من يتقرب به ، كابن بنت وبنت ابن ، فان لابن البنت الثلث ، ولبنت الابن الثلثين ، والصحيح من المذهب ما قدمناه ، لأن اسم الولد يقع على ولد الولد ، وإن نزلوا حقيقة وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى ، عند جميع أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، لما قدمناه من إطلاق المسلمين في عيسى عليه السلام انه ابن آدم ، ولقول الرسول عليه السلام في الحسن والحسين عليهما السلام ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا (1). ولأن جميع ما علقه سبحانه من الاحكام بالولد ، قد عم به ولد البنين والبنات في قوله تعالى « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ » الى قوله « وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ » (2) وقوله « وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ » (3) وقوله « وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ » (4) ، فإذا وقع اسم الولد على ولد الولد حقيقة ، تعلق بهم احكام الميراث إذا لم يوجد ولد الصلب ، مثل ما تعلق به بظواهر القرآن.

وليس لأحد ان يقول : ان اسم الولد يقع على ولد الولد مجازا ، فلا يدخل في الظواهر الّا بدليل ، لأن الأصل في الاستعمال حقيقة (5) على ما بيّنه محصّلو أصحاب أصول الفقه ، ومن ادعى المجاز فعليه الدّلالة ، ولا يلزم على ذلك مشاركة ولد الولد لولد الصّلب في الميراث ، ولا مشاركة الأجداد للآباء الأدنين لظاهر قوله تعالى « وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ » (6).

ص: 257


1- الإرشاد للمفيد ، في ذكر امامة الحسين بن على عليهما السلام.
2- سورة النساء ، الآية 23.
3- سورة النساء ، الآية 23.
4- سورة النور ، الآية 31.
5- ج. ل. الحقيقة.
6- سورة النساء ، الآية 11.

لأنا عدلنا من الظاهر في ذلك للدليل القاطع ، ولا دليل يوجب الرجوع عنه فيما اختلفنا فيه ، فبقينا على ما يقتضيه الظاهر.

ويخص ولد الأكبر من الذكور إذا لم يكن سفيها فاسد الرأي بسيف أبيه ، ومصحفه ، وخاتمه ، وثياب جلدة ، إذا كان هناك تركة سوى ذلك ، فإذا لم يخلف الميت غيره ، سقط هذا الحكم ، وقسم بين الجميع ، فان كان له جماعة من هذه الأجناس ، خصّ بالذي كان يعتاد لبسه ويديمه ، دون ما سواه من غير احتساب به عليه.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يحتسب عليه بقيمته من سهمه ، ليجمع بين ظواهر القرآن وما أجمعت الطائفة عليه ، وهو تخريج السيد المرتضى ، ذكره في الانتصار (1).

وذهب بعض أصحابنا الى ان ذلك مستحب تخصيصه به ، دون ان يكون ذلك مستحقا له على جهة الوجوب ، وهو اختيار أبي الصلاح الحلبي في كتابه الكافي (2).

والأول من الأقوال هو الظاهر المجمع عليه عند أصحابنا ، المعمول به ، وفتاويهم في عصرنا هذا وهو سنة ثمان وثمانين وخمسمائة عليه ، بلا اختلاف بينهم (3).

وكذا ذهب السيّد المرتضى فيما رواه أصحابنا ، واجمعوا عليه من ان الزوجة التي لا يكون لها من الميت ولد ، لا ترث من الرباع والمنازل شيئا ، والحق بعض أصحابنا جميع الأرضين من البساتين والضياع وغيرها.

وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر ، والأول اختيار شيخنا المفيد ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، لأنا لو خلينا وظواهر القرآن ورّثناها من جميع ذلك ، وانما عدلنا في الرباع والمنازل بالأدلة ، وهو إجماعنا وتواتر أخبارنا ، ولا إجماع معنا منعقد على ما عدا الرباع والمنازل ، فحمله المرتضى على انها لا ترث من نفس ذلك ، بل من قيمته ، كما يذهب أصحابنا في الانقاض ، والطوب - بالطاء غير المعجمة المضمومة ، والواو ،

ص: 258


1- الانتصار ، كتاب الفرائض والمواريث ، مسألة 9.
2- الكافي ، فصل في الإرث ، ص 371.
3- ج. بغير خلاف بينهم فيه.

والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، وهو الآجر.

والصحيح انها لا ترث من نفس التربة ، ولا من قيمتها ، بل يقوّم الطوب والآلات ، وتعطى قيمته ، وما ذكره السيّد تخريج منه ، وانفراد هذا إذا لم يكن لها من الميت ولد ، فاما إذا كان لها منه ولد ، أعطيت سهمها من نفس جميع ذلك ، على قول بعض أصحابنا ، وهو اختيار محمّد بن على بن الحسين بن بابويه تمسّكا منه برواية شاذة ، وخبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا.

والى هذا القول ذهب شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته (1) ، الا انه رجع عنه في استبصاره (2) ، وهو الذي يقوى عندي ، أعني ما اختاره في استبصاره ، لأن التخصيص يحتاج إلى أدلة قوية ، واحكام شرعية ، والإجماع على انها لا ترث من نفس تربة الرباع والمنازل شيئا ، سواء كان لها من الزوج ولد أو لم يكن ، وهو ظاهر قول شيخنا المفيد في مقنعته (3) ، والسيّد المرتضى في انتصاره (4).

ولو أحد الاخوة أو الأخوات أو الأجداد أو الجدات ، إذا انفرد جميع المال من أي الجهات كان. وإذا اجتمع كلالة الأم مع كلالة الأب والام ، أو الأب مع عدم كلالة الأب والام ، كان للواحد من كلالة الأم أخا كان أو أختا السدس ، ولاثنين فصاعدا الثلث ، وهذا مخصوص بالاخوة ، لأنّها الكلالة عندنا.

وذهب بعض أصحابنا الى ان قال : وإذا اجتمع كلالة الأم مع كلالة الأب والام ، كان للواحد من قبل الأم أخا كان أم أختا ، جدا كان أم جدة ، السدس ، وللاثنين فصاعدا الثلث ، الذكر والأنثى فيه سواء.

والصّحيح من أقوال أصحابنا المحصلين ، ان لواحد الأجداد من قبل الأم إذا انفرد الثلث ، فان كان معه من الاخوة من قبلها أحد ، كان له ولهم الثلث بينهم بالسويّة ، والباقي لكلالة الأب ، أخا كان أم أختا ، جدا كان أم جدة ، فان كان

ص: 259


1- النهاية ، كتاب المواريث باب ميراث الأزواج.
2- الاستبصار ، الباب 94 ، كتاب الفرائض ، ج 4 ، ص 154.
3- المقنعة أبواب فرائض المواريث باب ميراث الأزواج ص 687.
4- الانتصار ، كتاب الفرائض والمواريث ، مسألة 12.

كلالة الأب جماعة ، ذكورا وإناثا فللذكر مثل حط الأنثيين ، ولا يرث أحد من الاخوة والأخوات من قبل الأب خاصة مع وجود واحد منهم من الأب والام أخا كان أو أختا.

ومتى اجتمع واحد من كلالة الأم مع أخت أو أختين فصاعدا من الأب والام ، كان الفاضل من سهامهم مردودا على كلالة الأب والام خاصّة ، لاجتماع السببين فيهم ، وتشترك كلالة الأم مع كلالة الأب فحسب في الفاضل على قدر سهامهم.

ومن أصحابنا من قال : يختص بالرد كلالة الأب أيضا ، لأن النقص يدخل عليها خاصة إذا نقصت التركة عن سهامهم لمزاحمة الزوج أو الزوجة ، ولا يدخل على كلالة الأم ، ولا على الزوج والزوجة على حال.

والأول هو الظاهر من المذهب ، لأن هؤلاء يتقربون الى الميت بسبب واحد ، وأولئك أيضا بسبب واحد فلا دليل على رد الفاضل عليهم ، وانما رددنا الفاضل على كلالة الأب والام ، لإجماعنا على ذلك ، ولأنهم جمعوا السببين معا.

وولد الاخوة والأخوات وان نزلوا يقومون عند فقد آبائهم مقامهم في مقاسمة الأجداد ، وفي الحجب لغيرهم ، وكذلك حكم الأجداد والجدات وان علوا.

والأدنى من جميعهم وان كان أنثى أحق من الا بعد وان كان ذكرا ، كل ذلك بدليل إجماعنا عليه.

ويستحب إطعام الجد أو الجدة من قبل الأب السدس من نصيب الأب ، فإن اجتمعا كانت الطعمة بينهما نصفين ، وليس ذلك بواجب.

والطعمة في لسان العرب الهبة ، ذكر ذلك أبو سعيد الأصمعي ، عبد الملك بن قريب ، في كتاب الأبواب ، قال باب يقال هذه طعمة لفلان ، أي هبة ، وفي حديث بعض الصحابة ، أن معاوية اعطى مصر عمرو بن العاص طعمة ، أي هبة.

فإذا ثبت ذلك ، فللواهب ان يهب ، وله ان لا يهب ، فلا يتوهم أحد ان ذلك على جهة الوجوب ، فهو عين الخطأ.

هذا إذا كان الأب حيا وسهمه الأوفر ، ومن أصحابنا من قال : ان هذا حكم

ص: 260

الجد أو الجدة أيضا من قبل الام معها ، وهو الأظهر.

والمراد بالسدس الذي هو الطعمة ، سدس جميع أصل الفريضة ، لا سدس ما يصيبه الأب من الفريضة فحسب ، ولا سدس ما يصيب الام من الفريضة فحسب ، بل سدس جميع أصل الفريضة ، بدلالة الخبر الذي أورده شيخنا في الاستبصار مفصلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام في أبوين وجدة لأم ، قال للأم السدس ، وللجدة السدس ، وما بقي وهو الثلثان للأب (1). وعموم الأخبار الباقية.

وهذا معنى قوله في نهايته (2) ويؤخذ من ثلث الام سدس أصل المال ، فيعطى الجد أو الجدة من قبلها ، وكذلك قال في الجد أو الجدة من قبل الأب ، يؤخذ سدس أصل المال.

والمراد بأصل المال في الموضعين ، أصل الفريضة ، لا أصل ما حصل للأم سهمها وفرضها من الفريضة ، وكذلك القول في الأب فليلحظ ذلك ويحتفظ به ، فإنه ملتبس.

وترث الأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، مع فقد من قدمنا ذكره من الوراث ، ويجري الأعمام والعمات من الأب والأم ، مجرى الاخوة والأخوات من قبلهما في كيفية الإرث ، وفي إسقاط الأعمام والعمات من قبل الأب فقط ، ويجري الأخوال والخالات مجرى الاخوة والأخوات من قبل الام ، لواحدهم إذا اجتمع مع الأعمام والعمات السدس ، ولمن زاد عليه الثلث ، الذكر والأنثى فيه سواء ، والباقي للأعمام والعمات من الأب والام ، أو من الأب (3) ، إذا لم يكن عمّ ولا عمة من قبل الأب والام ، وللذكر من هؤلاء الأعمام والعمات مثل حظ الأنثيين ، هذا على قول بعض أصحابنا.

والأظهر من الأقوال ، والذي يقتضيه أصل مذهبنا ، والذي عليه المحصلون من أصحابنا ، ان واحد الأخوال والخالات يأخذ مع الأعمام والعمّات الثلث ،

ص: 261


1- الاستبصار ، الباب 97 ، كتاب الفرائض ، ج 4 ، ص 163 ، ح 10 ، الرقم 617.
2- النهاية ، كتاب المواريث باب ميراث الوالدين ومن يدخل عليهما.
3- ج. ل. والعمات من قبل الأب والام أو من قبل الأب.

وللاثنين فصاعدا الثلث ، نصيب الام ، وانما ذلك مخصوص بالاخوة والأخوات فحسب ، لأنّهم الكلالة ، عندنا على ما قدمناه.

والاخوة والأخوات المتفرقون ، والأعمام والعمات المتفرقون ، والأخوال والخالات المتفرقون ، مثال ذلك ، أخ من قبل الأب والام وأخ من قبل الام فحسب ، وأخ من قبل الأب ، وكذلك الأعمام والأخوال ، فإنه يسقط واحد الثلاثة الذي من جهة الأب خاصة ، فإذا فقد الذي من جهة الأب والام ، قام مقامه الذي من قبل الأب ، الذي أسقطناه في أخذ ما يأخذه ، ومقاسمة من يقاسمه على حد واحد ، فليحصل ذلك ويتأمل.

والدليل على ذلك إجماعنا عليه بغير خلاف أعلمه.

ولا يقوم ولد الأعمام والعمات ، مقام آبائهم وأمهاتهم في مقاسمة الأخوال والخالات ، ولا يقوم أيضا ولد الخؤولة والخالات ، مقام آبائهم وأمهاتهم في مقاسمة الأعمام والعمات ، فلو ترك عمة أو خالة مثلا مع ابن عم وابن خال ، لكانت كل واحدة من العمة والخالة أحق بالميراث منهما ، ولا يرث الأبعد من هؤلاء مع من هو ادنى منه ، الّا من استثنيناه فيما مضى ، من ان ابن العم للأب والام ، يكون أحق عندنا من العمّ للأب ، لإجماعنا على صورة هذه المسألة وعينها ، دون ما عداها ، وليس كذلك إذا ترك أخا لأبيه ، وابن أخ لأبيه وامه ، فان المال هاهنا للأقرب الذي هو الأخ من الأب ، دون ابن الأخ الذي من الأب والام ، فليلحظ ذلك.

وكل واحد من العم والعمة والخال والخالة يأخذ نصيب من يتقرب به ، فإن جرى نقص لمزاحمة زوج أو زوجة ، كان داخلا على من هو من قبل الأب ، مثاله امرأة ماتت ، وخلفت زوجها وعمها وخالها ، فان الزوج يستحق النصف من التركة ، والخال يستحق الثلث ، والباقي وهو السدس للعم ، لانه لو كان من يتقربان به موجودا وهو الأب والام ، كانت القسمة هكذا ، وإجماعنا منعقد على جميع ذلك.

فصل

فان لم يكن أحد ممن قدمنا ذكره من الوراث ، كان ميراثه لمن أعتقه تبرعا ،

ص: 262

لا فيما يجب عليه من الكفارات أو الواجبات غير الكفارات ، أو أعتق عليه بغير اختياره ، سواء كان المعتق رجلا أو امرأة ، فان لم يكن المباشر للعتق حيا ، ورث ولاء مواليه ورثته ، ذكر انهم وإناثهم على ترتيب ميراث النسب ، لأنه يجري مجراه ، ويرثه من يرث من ذوي الأنساب على حد واحد ، على ما قدمناه (1) ، إلّا الاخوة والأخوات من الأم ، أو من يتقرب بها من الجد والجدّة ، والخال والخالة وأولادهما ، لقوله عليه السلام المجمع عليه الولاء لحمة كلحمة النسب (2).

وبعض أصحابنا يقول ان لم يكن المعتق حيا باقيا فالميراث لولده الذكور منهم دون الإناث ، سواء كان المباشر للعتق رجلا أو امرأة ، وهو اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (3).

ومن أصحابنا من قال ان ولد المعتقة لا يقومون مقامها في الميراث ، ذكورا كانوا أو إناثا ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (4) ، وان كان قد رجع عن ذلك جميعه في مسائل خلافه (5) ، وقال بما اخترناه ، وهو الحق اليقين.

فان لم يكن للمعتق أولاد ، فالميراث للعصبة وأولادهم الإخوة ، ثم الأعمام ، ثم بنوا العم ، هذا على مقالة شيخنا في نهايته (6) ، لا على ما ذهب إليه في مسائل خلافه.

وجرّ الولاء صحيح ، وصورته ان يزوج عبده بمعتقة غيره ، فولاء أولادها لمن أعتقها ، فإن أعتق مولى أبيهم أباهم ، انجر ولاء الأولاد إلى مولى أبيهم من مولى أمهم فإن أعتق مولى جدهم لأبيهم جدهم مع كون أبيهم عبدا انجر ولاء الأولاد الى من أعتق جدهم من مولى أمهم ، فإن أعتق بعد ذلك مولى أبيهم أباهم ، انجر ولاء الأولاد إلى مولى أبيهم من مولى جدهم ، ولا ينجرّ ولاء من بوشر عتقه إلى غير من باشره في حال من الأحوال ، ولا ينجرّ ولاء أولاد حرّة أصليّة لم يمسّها رقّ أصلا ، وان

ص: 263


1- في ص 246.
2- الوسائل ، الباب 42 ، من كتاب العتق ، ح 2 - 6.
3- المقنعة أبواب فرائض المواريث باب ميراث الموالي وذوي الأرحام ص 694.
4- النهاية كتاب الميراث باب ميراث الموالي مع وجود ذوي الأرحام.
5- الخلاف ، كتاب الفرائض مسألة 86.
6- النهاية كتاب الميراث باب ميراث الموالي مع وجود ذوي الأرحام.

أعتق معتق أباهم ، لان أمهم ما أعتقها معتق ، حتى ينجرّ الولاء منه الى من أعتق أباهم.

والحر إذا تزوج بامة ولم يشرط مولاها كون الأولاد رقّا فالأولاد أحرار عندنا بغير خلاف ، فإن أعتقها مولاها لا يثبت ولاء يثبت ولاء على الأولاد بحال.

عبد تزوج بمعتقة رجل ، فاستولدها بنتين ، فهما حرتان ، إذا لم يشترط مولاه رقّ الأولاد ، وولاؤهما لمولى الام ، فاشترتا أباهما ، فإنه ينعتق عليهما ، كل ذلك بلا خلاف ، مات الأب ، للبنتين الثلثان بحق النسب ، والباقي رد عليهما باية اولي الأرحام ، لا بحق الولاء ، لان الولاء عندنا انما يثبت إذا لم يكن هناك ذو نسب قريب أو بعيد ، فإذا كان هناك نسب فلا ميراث بالولاء على حال ، وهذا أصل فيما يتعلق بهذا الباب.

وإذا اشترى المعتق عبدا فأعتقه ، فولاؤه له ، فان مات ولم يخلف أحدا ، فولاؤه لمولى المولى ، أو لمن يتقرب به ممن يستحق الولاء ، سواء كان المعتق رجلا أو امرأة ، لا يختلف الحكم فيه.

قد قلنا انّه إذا زوج الرجل معتقته بعبد ، ثم جاءت بولد ، فولاء الولد لمولى المعتقة ، ثم ان سيد العبد أعتق عبده ، انجر الولاء من مولى الأمة إلى مولى أبي الولد ، فان زوّج رجل أمته بعبد فجاءت بولد ، فأعتقها سيدها مع ابنها ، فان الولاء لمولى الأمة ، ثم أعتق مولى العبد عبده فهاهنا لا ينجر الولاء اليه.

والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها حيث قلنا انه إذا أعتق الأب ينجر الولاء الى سيّده ، لان هناك ما صادف عتقا هذا الابن ، وما باشر عتقا فلأجل هذا قلنا ينجرّ الولاء الى مولى الأب ، وليس كذلك هاهنا ، لأنه صادف عتقا وباشر العتق ، فلم ينجرّ الولاء الى غيره ، فليلحظ ذلك.

وحكم المدبّر حكم المعتق على حدّ واحد.

وامّا المكاتب فلا يثبت الولاء عليه الّا بشرط ، فإذا لم يشرط كان سائبة.

ولا يصح بيع الولاء ولا هبته بحال

ص: 264

[ ولاء ضمان الجريرة ]

واما ولاء تضمن الجريرة فهو ان يكون المعتق سائبة ، وهو كل من أعتق في كفارة ، أو في واجب غير الكفارة ، أو أعتق عبدا تبرعا وتبرأ من ضمان جريرته فإنه يتوالى الى من شاء ، ممّن يضمن جريرته وحدثه ، أو يكون إنسان لا نسب له معروف ، فيتوالى الى إنسان معروف النسب ، أو يتوالى مجهول النسب الى مجهول النسب ، كالحميلين ، فاما معروف النسب والورّاث (1) ، فلا يجوز ان يتوالى الى أحد بحال ، الا انّ لا يكون له وارث ، فيتوالى إذ ذاك فمتى مات هذا الإنسان ، ولا أحد يرثه من قريب ولا بعيد ، فميراثه لمن ضمن جريرته وحدثه ، فإذا مات بطل هذا الولاء ، ورجع الى ما كان ، ولا ينتقل منه الى ورثته ، كانتقال ولاء المعتق (2).

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته (3) ، إلى انهما سواء في جميع الاحكام ، وما اخترناه رأي شيخنا أبي جعفر في إيجازه (4) ، وهو الأظهر ، لأن انتقال الضمان بعد الموت والإرث يحتاجان الى دليل شرعي ، لأن هذا حكم التزمه ضامن الجريرة على نفسه ، ولا دليل على التزام ورثته له بعد موته ، فليلحظ ذلك.

فإذا تعاقدا بينهما ولاء تضمن الجريرة ، فليس لأحدهما فسخ ذلك العقد ، سواء عقل عنه بعد العقد ، أو لم يعقل ، وبعض المخالفين لنا قال له الفسخ ما لم يعقل عنه ، واختاره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافة (5).

ومذهبنا الأوّل ، لأنه الذي يقتضيه أصولنا ، ولقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (6) ، وهذا عقد يجب الوفاء به.

[ ولاء الإمامة ]

وامّا ولاء الإمامة ، فهو كل من لا وارث له قريب ولا بعيد ، ولا مولى عتاقة

ص: 265


1- ج. ل. الوارث.
2- ج. ل. ولاء العتق.
3- المقنعة أبواب فرائض المواريث ص 694.
4- الإيجاز فصل في ذكر الولاء ص 278 من كتاب الرسائل العشر.
5- الخلاف ، كتاب العتق ، مسألة 9.
6- سورة المائدة ، الآية 1.

ولا مولى تضمن جريرة ، فإن ولاءه للإمام وميراثه له ، لأنه الذي يضمن جريرته وحدثه من ماله وخاصّة ، دون مال بيت المسلمين ، فإذا مات الامام انتقل الى الامام الذي يقوم بأمر الأمة مقامه ، دون ورثته الذين يرثون تركته ، ومن يتقرب اليه.

قد قلنا انه إذا مات العبد المعتق وليس له مولى ، فميراثه لمن يتقرب الى مولاه من جهة أبيه ، دون أمه ، الأقرب أولى من الأبعد على تدريج ميراث المال ، وبينا خلاف أصحابنا في ذلك ، وما ذهبنا اليه هو اختيار شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه فإنه قال مسألة : إذا مات العبد المعتق وليس له مولى ، فميراثه لمن يتقرب الى مولاه من جهة أبيه دون أمه ، الأقرب أولى من الا بعد على تدريج ميراث المال ، ثم قال دليلنا إجماع الفرقة وأيضا قوله عليه السلام الولاء لحمة - بضم اللام - كلحمة النسب (1) ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه (2) وهو الصحيح.

وسهم الزوج والزوجة ثابت مع جميع من ذكرناه على ما مضى بيانه وتحريره.

فصل

قد بينا فيما مضى ان الكافر لا يرث المسلم ، فامّا المسلم فإنه يرث الكافر عندنا ، وان بعد نسبه ، ويحجب من قرب عن الميراث بلا خلاف بيننا ، وقد دللنا على ذلك بظواهر آيات الميراث ، لأنه إنما يخرج من ظاهرها ما أخرجه دليل قاطع ، وأيضا فالإسلام يزيده قوة وعلوّا ، لقوله عليه السلام الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (3). وبهذا يحتج على المخالف ، وبقوله عليه السلام الإسلام يزيد ولا ينقص (4).

فاما ما رووه من قوله عليه السلام لا توارث بين أهل ملتين (5) ، ومن قول بعض الصحابة في ذلك ، فأكثره مضعف مقدوح في رواته (6) ، ثم هو مخالف لظاهر

ص: 266


1- الوسائل ، الباب 42 ، من كتاب العتق ، ح 2 - 6.
2- الخلاف ، كتاب الفرائض ، مسألة 141.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، ح 11 - 9.
4- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، ح 11 - 9.
5- الوسائل الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 14 - 15 - 17 ، وفي المصدر ، لا يتوارث أهل ملّتين.
6- ج. ل. روايته.

القرآن ، ومعارض لما قدمناه ، ولو سلم من ذلك كله ، لكان من اخبار الآحاد التي لا يجوز العمل بها في الشرعيات عندنا ، لأنها لا تثمر علما ولا توجب عملا.

على انا نقول بموجب قوله عليه السلام - لا توارث بين أهل ملتين - لو سلمناه تسليم جدل ، لان التوارث تفاعل وذلك لا يكون الّا بان يرث كل واحد منهما الآخر ، ونحن لا نقول بان الكافر يرث المسلم ، فلا توارث بينهما ، والحال هذه وقول بعض المخالفين - ان التوارث انما هو للنّصرة والموالاة ، ولذلك يرث الذكور من العصبة دون الإناث ، ولا يرث القاتل ولا العبد لنفي النّصرة - ، ممّا لا يعول عليه ، لانه غير مسلّم ان التوارث لما ذكروه ، وقد ورث النساء والأطفال مع فقد ذلك فيهم ، ثم ان النّصرة مبذولة من المسلم للكافر في الحق والواجب ، كما أنها مبذولة للمسلم بهذا الشّرط.

وإذا خلف المسلم ولدا كافرا ، ولم يخلف غيره من ولد ، ولا والد ، ولا ذي رحم ، ولا زوج ، ولا زوجة ، ولا قريب ، ولا بعيد من المسلمين ، كان ميراثه للإمام عليه السلام وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، كان ميراثه لبيت المال ، وأطلق ذلك ومقصوده لبيت مال الامام ، دون بيت مال المسلمين.

فان خلف مع الولد الكافر ولدا أخر مسلما ، كان المال له ، ذكرا كان أو أنثى ، دون الكافر ، وكذلك إذا كان بدل الولد المسلم أحد ذوي أرحامه ، قريبا كان أو بعيدا ، كان المال للمسلم كائنا ما كان على ما قدمناه ، وسقط الولد الكافر ، ولا يستحق منه شيئا على حال.

فان خلف من الورّاث المسلمين أكثر من واحد ممن يتقدّر (2) القسمة بينهم ، وولدا كافرا ، كان المال للوراث المسلمين ، دون الولد الكافر أو الأقرب الكافر.

فإن أسلم الولد الكافر أو الأقرب الكافر قبل قسمة الميراث بين الوراث المسلمين ، كان له نصيبه ، وان أسلم بعد قسمة المال ، لم يكن له شي ء على حال ، فهذا معنى قوله عليه السلام من أسلم على ميراث قبل قسمته فله حقه (3).

ص: 267


1- النهاية ، كتاب الميراث باب توارث أهل الملتين.
2- ج. لا يتقدر.
3- الوسائل ، الباب 3 من أبواب موانع الإرث ، ج 2 - 3 - 4 - 5 الّا انّ في المصدر هكذا فله ميراثه - فهو له.

وكذلك من أعتق على ميراث ، الحكم في ذلك سواء ، لا يختلف.

فان خلف وارثا مسلما وأخر كافرا ، كان للمسلم المال دون الكافر ، فإن أسلم الكافر لم يكن له من المال شي ء ، لأن المسلم قد استحق الميراث عند موت الميّت ، وانما يتصور القسمة إذا كانت التركة بين نفسين فصاعدا ، فإذا أسلم قبل القسمة قاسمهم على ما بيناه ، وذلك لا يتأتى في الواحد على حال.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته ، وإذا خلفت المرأة زوجها وكان مسلما ، وولدا ، أو والدا ، أو ذوي أرحام كفارا ، كان الميراث للزوج كله ، وسقط هؤلاء كلهم ، فإن أسلموا ، رد عليهم ما يفضل من سهم الزوجية (1) و (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه وهذا غير مستقيم على الأصل الذي أصله وقرره في صدر الباب ، اعني باب توارث أهل ملتين ، وإجماعنا أيضا مستقر عليه ، وهو انه إذا كان الوارث المسلم واحدا استحق بنفس الموت الميراث ، ولا يردّ على من أسلم بعد الموت من الميراث شي ء على حال ، لان هاهنا لا تتقدر القسمة ، والزوج عندنا في هذه الحال وارث جميع المال ، النصف بالتسمية ، والنصف الآخر رد عليه بإجماع أصحابنا على ما قدمناه ، بل كان هذا يستقيم لشيخنا أبي جعفر لو كان المخلف زوجة ، لان هاهنا تتقدر القسمة بينها وبين الامام عليه السلام لأنها غير وارثة بنفس الموت جميع المال ، بل (3) لها الربع فحسب ، والباقي لإمام المسلمين.

فإن أسلم الوارث الكافر قبل قسمة المال بينها وبين الإمام ، أخذ ما كان يأخذه الامام ، وان أسلم بعد القسمة ، فلا شي ء له بحال ، فليلحظ ذلك ، فإنه واضح جلي.

وروي انه إذا خلف الكافر أولادا صغارا ، واخوة وأخوات من قبل الأب ، واخوة وأخوات من قبل الام مسلمين ، كان للاخوة والأخوات من قبل الام الثلث ، وللاخوة والأخوات من قبل الأب الثلثان ، وينفق الاخوة (4) من قبل الام

ص: 268


1- ج. ل. الزوج.
2- النهاية ، كتاب الميراث باب توارث أهل الملتين.
3- ج. بل كان لها.
4- ل. الاخوة والأخوات.

على الأولاد بحساب حقهم ثلث النفقة ، وينفق الاخوة والأخوات من الأب بحساب حقهم ثلثي النفقة ، فإذا بلغ الأولاد ، وأسلموا ، سلّم الاخوة إليهم ما بقي من الميراث ، وان اختاروا الكفر ، تصرّفوا في باقي التركة ، ولم يعطوا الأولاد منها شيئا. وان كان أحد أبوي الأولاد الصغار مسلما ، وخلف اخوة وأخوات من قبل أب أو من قبل أم ، كان الميراث للأولاد الصّغار ، فإذا بلغوا أجبروا على الإسلام ، وقهروا عليهم ، فإن أبوا كانوا بحكم المرتدين الأصليين ، وجرى عليهم ما يجرى عليهم سواء ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والذي يقتضيه أصل مذهبنا ان في المسألة الاولى ، يكون الميراث بين الاخوة من الأب والاخوة من الام ، للذين من قبل الأب الثلثان ، وللذين من قبل الام الثلث ، يتصرفون فيه تصرف المالكين في أملاكهم ، لأنه لا وارث مسلم لهذا الميّت الكافر ، سواهم ، لأنهم استحقوا الميراث ، دون من عداهم من سائر الناس ، لانه لا وارث له مسلم سواهم ، ولو لم يكن كذلك ، ما جاز لهم قسمة الميراث بينهم ثلثين وثلثا ، ولا سوغ لهم الشارع ذلك.

فعلى هذا التحرير والتقرير ، إذا بلغ الأولاد واختاروا الإسلام ، لا يجب على الاخوة ردّ شي ء من الميراث إليهم بحال ، ولا يجب لهم النفقة أيضا قبل البلوغ ، ولا يلزم الاخوة ذلك بحال على الأصل الذي أصلناه وقررناه ، لأن الأولاد حكمهم حكم آبائهم فيما يجري عليهم من الاحكام الشرعيات ، لأنهم لا يدفنون في مقابر المسلمين لو ماتوا قبل البلوغ ، ولا إذا قتلهم قاتل من المسلمين يقاد بهم ، ولا ديتهم ديات المسلمين ، بل حكمهم في جميع ذلك احكام الكفار.

كما ان في المسألة الثانية لا يرثه الإخوة المذكورة بل ورثه أولاده الأطفال دون إخوته ، لأنهم بحكم أبيهم المسلم ، فلأجل ذلك إذا بلغوا ولم يختاروا الإسلام ، كان حكمهم حكم المرتدين عن فطرة الإسلام ، والأولاد في المسألة الاولى لا يقهرون على الإسلام ، ولا إذا اختاروا الكفر كان حكمهم حكم المرتدّين عن فطرة الإسلام ،

ص: 269


1- النهاية ، كتاب الميراث باب توارث أهل الملتين.

ولا حكم المرتدّ الذي كان كافرا ثم أسلم ، لأنهم بحكم الكفار الأصليين ، فليلحظ ذلك ، فان فيه لبسا على من لم ينعم النظر ، وانما الرواية من اخبار الآحاد أوردها شيخنا في نهايته إيرادا ، كما أورد أمثالها مما لا يعمل به.

والمسلم إذا كان له أولاد ذميون ، وقرابة كفار ، ومولى نعمة مسلم ، أو مولى تضمن جريرة ، أو مولى امامة ، فان ميراثه للمولى المسلم ، دون أولاده وقراباته الكفار.

والمسلمون يرث بعضهم بعضا وان اختلفوا في الآراء والمذاهب ، والاعتقادات والديانات ، والمقالات ، لأن الذي به يثبت الموارثة ، إظهار الشهادتين ، والإقرار بأركان الشريعة ، من الصّلاة والزكاة ، والصوم ، والحج ، دون فعل الإيمان الذي يستحق به الثواب ، وبتركه العقاب.

وقد يوجد في بعض نسخ المقنعة في باب أهل الملل المختلفة ، والاعتقادات المتباينة ويرث المؤمنون أهل البدع ، من المعتزلة والمرجئة والحشوية ولا ترث هذه الفرق أحدا من أهل الايمان ، كما يرث المسلمون الكفّار ، ولا يرث الكفار أهل الإسلام (1).

والأوّل هو المذهب المحصل ، والقول المعول عليه ، والمرجوع اليه.

والكفار على اختلافهم يتوارث بعضهم من بعض ، لان الكفر كالملة الواحدة ، لقول أبي عبد اللّه عليه السلام لا يتوارث أهل ملتين ، نحن نرثهم ولا يرثونا (2) ، فجعل من خالف الإسلام ملة واحدة.

والمسلم الذي يولد (3) على فطرة الإسلام ، ثم ارتدّ ، فقد بانت منه امرأته ، ووجب عليها عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وقسم ميراثه بين ورثته ، وتستحق الزوجة سهمها معهم ، لانه بحكم الميت ، فكأنه قد مات ، وهي زوجته ، ما فارقها الّا بالموت ، فكأنه قد مات عن زوجة ، ولا يستتاب ، بل يقتل على كل حال ، فان القتل

ص: 270


1- المقنعة ، باب مواريث أهل الملل المختلفة ص 701.
2- الوسائل : الباب 1 ، من أبواب موانع الإرث ، ح 6.
3- ج. ل. ولد.

قد تحتم عليه ، فان لحق بدار الحرب ، ثم مات وله أولاد كفار وليس له وارث مسلم ، كان ميراثه لإمام المسلمين.

ومن كان كافرا ، فأسلم ثم ارتد ، عرض عليه الإسلام ، فإن رجع اليه ، والّا ضربت عنقه ، وتعتد امرأته منه عدة المطلقة ، دون عدة المتوفّى عنها زوجها ، لأنّها بانت منه قبل موته ، وتلك ما بانت منه الّا بعد موته الذي هو ارتداده الذي هو بمنزلة موته ، فان قتل أو مات وزوجته في العدة ، ورثته مع ورّاثه المسلمين ، قد حكم (1) عليها استيناف عدّة المتوفّى عنها زوجها ، مذ يوم (2) مات لانه لو تاب ورجع الى الإسلام قبل خروجها من عدّتها ، كان أملك بها بالعقد الأول ، فإن ماتت في العدة ، لم يرثها وهو على حال الكفر ، لأنا قد بينا ان الكافر لا يرث المسلم ، والمسلم يرث الكافر ، ولا يجب عليها على جميع الأحوال إلّا عدة المطلقة ، دون المتوفّى عنها زوجها ، ما عدا الموضع الذي ذكرناه واستثنيناه من وجوب استيناف عدة الوفاة ، لأنه لو تاب وهي في العدة ، كان أملك بها ، وانما يجب على من مات زوجها وهي في عدة يكون بها أملك ، ان يستأنف عدة المتوفّى عنها زوجها ، لقوله تعالى « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً » (3) وهذا قد وذر زوجة ، لان المعتدة عدة رجعية عندنا بغير خلاف بيننا زوجة.

وهذا المرتد الذي ارتد لا عن فطرة الإسلام ، لا يقسم ماله بين ورثته ، الى ان يموت أو يقتل ، ولو لحق بدار الحرب ، بل يوقف وهو على ملكه ، ما زال عنه بارتداده.

وقال شيخنا في نهايته ، ومن كان كافرا فأسلم ثم ارتد ، عرض عليه السلام ، فان رجع اليه ، والّا ضربت عنقه ، فان لحق بدار الحرب ، ولم يقدر عليه ، اعتدت منه امرأته عدة المطلقة ، ثمّ يقسّم ميراثه بين أهله ، فإن رجع الى الإسلام قبل انقضاء عدتها ، كان أملك بها ، وان رجع بعد انقضاء عدتها ، لم يكن له عليها سبيل ، فان مات على كفره وله أولاد كفّار ، أو لم يخلّف وارثا مسلما ، كان ميراثه لبيت المال ، هذا

ص: 271


1- ج. ل. ووجب عليها.
2- ج. ل. منذ.
3- سورة البقرة ، الآية 234.

أخر كلامه رحمه اللّه (1).

الّا انه رجع عنه في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3) ، وذهب الى ما اخترناه ، لأن قسمة أموال بني آدم وانتقالها منهم حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، وانما الشافعي في أحد قوليه يقول المرتد الذي يستتاب يزول ملكه عن ماله ، وينتقل ماله الى ورثته ، وهو حي ، ومذهبنا بخلاف ذلك ، بل ماله باق على ملكه ما دام حيا ، وبالموت أو القتل ينتقل عنه الى ورثته المسلمين ، فليلحظ ذلك.

وقوله رحمه اللّه كان ميراثه لبيت المال ، فمراده بيت مال الامام ، دون بيت مال المسلمين ، فليلحظ ذلك في جميع ما يقوله في باب المواريث.

وقد قدمنا انه إذا أسلم الكافر ، أو عتق المملوك على ميراث بعد قسمته ، لم يرث شيئا.

ومتى لم يكن للميت الّا وارث مملوك ، ابتيع من التركة ، وعتق ، وورث الباقي ويجبر المالك على بيعه بالقيمة العدل ، هذا إذا كانت التركة تبلغ قيمته ، أو زائدا عليها ، فاما إذا نقصت عن ذلك ، فلا يجب شراؤه ، ولا يجبر المولى على بيعه ، وتكون التركة لإمام المسلمين بغير خلاف.

وروي انه إذا كانت التركة أقل من ثمن المملوك ، استسعي في الباقي (4) ، ذهب اليه بعض أصحابنا.

والأول الأظهر ، وعليه العمل والفتاوى.

فان كان الوارث اثنين ، أو جماعة ، ونقصت التركة عن شرائهما ، أو شراء جميعهم ، ووفت بثمن واحد منهم ، فلا يشترى من وفت بثمنه ، بغير خلاف.

وذهب أكثر أصحابنا إلى انه لا يشترى إلّا ولد الصلب ، والوالد والوالدة فحسب ، دون من عداهم من سائر الورّاث من ذوي الأنساب والأسباب.

وهو الذي يقوى في نفسي ، واعمل عليه ، وافتى به ، وهو اختيار شيخنا

ص: 272


1- النهاية كتاب الميراث باب توارث أهل الملتين آخر الباب.
2- الخلاف كتاب المرتد مسألة 7.
3- المبسوط ج 7 كتاب المرتد ص 283.
4- أورده الشيخ قدس سره في النهاية باب الحرّ المسلم يموت ، وقال لست اعرف بذلك أثرا.

المفيد (1) ، والسيّد المرتضى (2) ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي (3).

والذي يدل على صحة ما اخترناه ، انه لا خلاف بيننا في ان الرق يحجب الورّاث عن الإرث ، مثل الكفر والقتل عمدا على جهة الظلم ، وبإجماعنا اشتري الثلاثة المذكورون ، وليس معنا إجماع منعقد ممن عداهم ، فبقينا فيمن عداهم على الأصل.

وشيخنا أبو جعفر في نهايته (4) يوجب شراء الزوج والزوجة ، الّا انه رجع عن ذلك في استبصاره (5) ، وذهب الى انه لا يشترى واحد منهما ، ولا يورث ، بل يكون التركة لإمام المسلمين.

واما ما عدا الولد للصلب والوالدين من سائر القرابات ، فلم يرد بذلك الآخر واحد مرسل ، وراويه عبد اللّه بن بكير ، وهو فطحي المذهب ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك فلا وجه لإعادته.

وأم الولد إذا مات سيدها وولدها حيّ ، ولم يكن عليه دين ، جعلت في نصيب ولدها ، وعتقت عليه ، فان لم يخلّف غيرها عتق منها نصيب الولد ، واستسعيت في الباقي لغيره من الورثة ، فإن كان ثمنها دينا على سيّدها ، بيعت في الدين إذا لم يخلف ما يحيط بثمن رقبتها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب أمهات الأولاد ، وإذا مات مولاها وولدها حيّ ، جعلت في نصيب ولدها ، وقد انعتقت ، فان لم يخلف غيرها ، كان نصيب ولدها منها حرا ، واستسعيت في الباقي لمن عدا ولدها من الورثة ، فان لم يخلف غيرها وكان ثمنها دينا على مولاها ، قوّمت على ولدها ، ويترك الى ان يبلغ ،

ص: 273


1- في المقنعة ، باب الحرّ إذا مات وترك وارثا مملوكا 695.
2- في الانتصار ، والعبارة هكذا - من مات وخلف مالا وأبا مملوكا وامّا مملوكة ، فان الواجب ان يشتري من تركته ويعتق.
3- في النهاية ، باب الحرّ المسلم يموت.
4- النهاية كتاب الميراث باب الحر المسلم يموت.
5- الاستبصار ، الباب 103 من كتاب الفرائض.

فإذا بلغ اجبر على ثمنها ، فان مات قبل البلوغ ، بيعت في ثمنها ، وقضي به الدين (1).

الّا انه رجع عن هذا أيضا في نهايته ، في باب السراري وملك الايمان ، في كتاب النكاح ، فإنه قال في أخر الباب ، وإذا كان للرجل جارية رزق منها ولدا لم يجز له بيعها ما دام الولد باقيا ، فان مات الولد جاز له بيعها ، ويجوز بيعها مع وجود الولد في ثمن رقبتها إذا لم يكن مع الرجل غيرها ، فان مات الرجل ولم يخلف غيرها ، بيعت وقضى بثمنها دينه ، وان كان له مال غيرها ، جعلت من نصيب ولدها ، وتنعتق ، هذا أخر كلام شيخنا (2).

ولا يرث القاتل عمدا مقتوله على وجه الظلم ، على ما بيناه (3) بلا خلاف ، ويرثه إذا كان قتله خطأ ما عدا الدية المستحقة عليه ، أو على عاقلته ، بدليل الإجماع من الطائفة على ذلك ، وظاهر آيات المواريث ، وقاتل العمد إنما أخرجناه من الظاهر بدليل قاطع ، وليس ذلك في قاتل الخطأ.

وقول المخالف لو كان قاتل الخطأ وارثا لما وجب تسليم الدية عليه.

ليس بشي ء ، لأنه لا تنافي بين وجوب تسليم الدية ، وبين الميراث ممّا عداها.

ولا يرث من الدية أحد من كلالة الأم ، ولا من يتقرب بها ، ويرثها من عداهم من ذوي الأنساب والأسباب.

ولا يستحق أحد من الزوجين القود على حال ، فإن رضي الورثة المناسبون بأخذ الدية ، وبذلها القاتل ، كان لهما نصيبهما فيها.

وميراث ولد الملاعنة لأمّه ولمن يتقرب بها ، ويرثها هو ومن يتقرب بها ، ولا يرثه أبوه ولا من يتقرب به على حال ، ولا يرثه الولد الّا ان يقرّ به بعد اللّعان ، فيرثه الولد دون أقاربه ، لأن إقراره في حق نفسه فحسب ، هذا على قول بعض أصحابنا ، وهو الذي أورده شيخنا في نهايته (4).

ص: 274


1- النهاية كتاب العتق باب أمهات الأولاد.
2- النهاية ، كتاب النكاح ، باب السراري والايمان.
3- في ص 273.
4- النهاية ، كتاب الميراث ، باب ميراث الملاعنة.

وقال اخرون منهم ولا يرث ولد الملاعنة ملاعن امّه المصر على نفيه ، ولا من يتعلق بنسبه ، ولا يرثونه ، ومن يتعلق بنسبه ، ويرثه بعد الاعتراف به والرجوع عن نفيه ، ومن يتعلق بنسبه ، ولا يرثه الأب ولا من يتعلق بنسبه.

وهذا هو الأقوى عندي ، لأنه إذا أقرّ به ، حكم عليه بأنه ابنه ، الّا ما أخرجه الدليل ، ولأن الإقرار بمنزلة البيّنة ، بل أقوى.

الّا أن لقائل أن يقول : قد حكم الشارع في هذا الموضع انه ليس بولد له. كما لو أقرّ اللقيط بأنه عبد ، لا يقبل إقراره بالعبوديّة ، لأن الشارع حكم بأنه حر ، فلا يقبل إقراره بالرّق.

والذي اعتمده في هذه الفتوى ، ان الولد يرثه بعد إقراره به ، دون غيره من قراباته ، فإنه لا يرثهم ولا يرثونه لإجماع أصحابنا على ذلك ، ومن شذ منهم لا يلتفت الى خلافه ، لانه معروف النسب والاسم ، وهو أبو الصلاح صاحب كتاب الكافي الحلبي.

والوالد لا يرث الولد على حال بدليل إجماعنا على ذلك ، وأيضا فالاحتياط فيما ذكرناه ، لأن الإقرار بالولد بعد نفيه قد يكون للطمع في ميراثه ، فإذا لم يورّث ، كان ذلك صارفا له عن الإقرار به لهذا الغرض ، واقتضى ان لا يكون بعد الجحود إلّا لتحري الصّدق فقط.

فان مات ولد الملاعنة ، وخلف أخا من أبيه الذي نفاه ، ومن امه ، وخلف أختا من امه ، كان الميراث بين الأخ والأخت نصفين ، لأنّهما من كلالة الأم ، يتساوى الذكر والأنثى في الميراث ، لان نسب الأخ إليه من أبيه غير معتدّ به ، لانه بعد نفيه ما صار أباه ، فكأنّه خلف أخا وأختا لأم ، فليلحظ ذلك.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره ، الى انّ ولد الملاعنة ان اعترف به أبوه بعد الملاعنة ، فإنه يرث أباه ، ولا يرثه أبوه ، ويرث أخواله وترثه أخواله ، إذا كانت امه ميتة ، فاما إذا لم يعترف به أبوه بعد اللعان ، فإنه لا يرث أباه ، وترثه أمه ، فإذا ماتت ، ترثه أخواله ، وهو لا يرث أخواله (1).

ص: 275


1- الاستبصار ، الباب 104 من كتاب الفرائض.

هذا بخلاف مذهبه في نهايته (1) ، فان فيها أطلق القول.

والصحيح انه يرث أخواله ، وترثه أخواله ، سواء اعترف به أبوه بعد اللعان. أو لم يعترف ، لان نسبه من الام بسبب (2) شرعي بغير خلاف.

وأورد في استبصاره حديثين قال فيهما ابن الملاعنة ترثه امه الثلث ، والباقي لإمام المسلمين ، لان جنايته على الامام ، فتأوّلهما ، وقال الوجه في هاتين الروايتين ان نقول : انما يكون لها الثلث من المال إذا لم يكن لها عصبة يعقلون عنه (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه وهذا تأويل يرغب الإنسان عنه ، ويربأ بنفسه منه ، لانه مصير الى مذهب المخالفين ، وعدول عن آية ذوي الأرحام ، وأصول المذهب ، ورجوع الى القول بالعصبة ، ثم هدم ونقض لإجماعنا ، وهو ان قرابات الام وكلالتها لا يعقلون ولا يرثون من الدية شيئا بغير خلاف بيننا ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

وولد الزنا لا يرث من خلق من نطفته ، ولا من ولدته ، لأنهما غير أبويه شرعا ، ولا من يتقرب بهما اليه ، ولا يرثونه على حال ، لانه ليس بولد لهما شرعا على ما قدمناه ، لان الولد للفراش على ما جاء عنه (4) عليه السلام والفراش المذكور في الخبر عبارة عن العقد ، وإمكان الوطي عندنا وعند الشافعي.

ومن أصحابنا من قال حكمه حكم ولد الملاعنة سواء ، وهو مذهب من خالفنا من الفقهاء.

والأوّل هو المذهب الذي يقتضيه أصولنا.

ويعزل من التركة مقدار نصيب الحمل ، والاستظهار يقتضي عزل نصيب ذكرين ، فان ولد ميتا فلا شي ء له ، وان ولد حيا ، ورث ويعلم حياته بالاستهلال ، وهو رفع الصوت أو الحركة الكثيرة التي لا تكون الا من حي ، فربما كان أخرس ، وقد ذكرنا احكام الشهادة بالاستهلال وكيفيتها في كتاب الشهادات (5) ، فلا وجه لا عادته.

ص: 276


1- النهاية ، كتاب الميراث باب ميراث ولد الملاعنة.
2- ج. ل. نسب.
3- الاستبصار ، الباب 105 من كتاب الفرائض ، ج 9 - 10.
4- الوسائل : الباب 56 ، ح 1 ، والباب 58 ، ح 5 - 4 - 3 - 2 والباب 74 من أبواب نكاح العبيد والإماء والباب 8 من أبواب ميراث الملاعنة ، ح 1 - 4.
5- في الجزء الثاني ، ص 138.

وان ولد مولود ليس له فرج أصلا ، لا فرج الرجال ولا فرج النساء ، فهذا هو المشكل امره ، استخرج بالقرعة بغير خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ولقولهم عليهم السلام كل أمر مشكل فيه القرعة (1) فما خرجت القرعة ورث عليه ، فيكتب على سهم عبد اللّه ، وعلى سهم آخر امة اللّه ، ويجعلان في سهام مبهمة ، ويخلط ويدعو المقرع ، فيقول : اللّهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، بيّن لنا أمر هذا الشخص ، ليحكم فيه بحكمك ، ثم يؤخذ سهم سهم ، فان خرج عليه عبد اللّه ، حكم له بحكم الذكور وورث ميراثهم ، وان خرج امة اللّه ، حكم له بحكم الإناث وورّث ميراثهن.

وإذا خلف الميت شخصا له رأسان على بدن واحد ، أو بدنان ورأسان على حقو واحد ، ترك حتى ينام ، ثم ينبّه أحدهما فإن انتبه والآخر نائم ، فهما اثنان ، وان انتبها جميعا ، فهما واحد.

فاما ميراث الخنثى ، وهو الذي له فرج الرجال وفرج النساء معا ، فله أحوال عند أصحابنا ، فأوّل أحواله اعتبار المبال ، فان خرج من فرج الرجال ، ورث ميراثهم (2) ، وحكم عليه بأنه رجل ، وان خرج البول من فرج النساء ، ورّث ميراثهن ، ويحكم عليه بحكمهن ، فإن بال منهما جميعا ، فالاعتبار بالسابق منهما ، فيورّث عليه ، فإن لم يسبق أحدهما الأخر ، فالاعتبار بالفرج الذي ينقطع البول منه أخيرا فيورّث عليه ويحكم به له ، فان جاء سواء في دفعة واحدة ، وانقطعا سواء في وقت واحد ، فهاهنا وفي هذه الحال يتصور مسألة الخلاف بين أصحابنا فحينئذ فحيّز النزاع (3).

واما في الأحوال الأول (4) فلا خلاف بينهم فيها اجمع ، بل الخلاف فيما صورناه ،

ص: 277


1- الوسائل ، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 11 ، وفيه : « كلّ مجهول ففيه القرعة ». ولعل ما في المتن قاعدة مستنبطة من كلامهم عليهم السلام ، كما في الباب 11 من المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهم السلام « أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة في ما أشكل ».
2- ج. ميراث الرجال.
3- ج. ل. فحينئذ يظهر محل النزاع.
4- ج. ل. الأولة.

فذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) ، وإيجازه (2) ، ومبسوطة (3) ، إلى انه يورث نصف ميراث الرجال ونصف ميراث النساء ، فيجعله تارة ذكرا وتارة أنثى ، ويعطيه ويورثه نصف سهم الذكر ونصف سهم الأنثى ، قال الذاهب الى هذا القول ، الذي يعول عليه في ميراث الخنثى ، وكيفية قسمته ، ويجعل أصلا فيه ، ان يفرض الخنثى بنتا ونصف بنت مع الباقين من الورثة ، قال وقيل فيه وجه آخر ، وهو أن يقسم الفريضة دفعتين ، بفرض الخنثى في أحدهما ذكرا ، وفي الأخرى أنثى ، فما يصيبه في الدفعتين ، اعطي نصفه من الفريضة.

مثال ذلك : إذا خلف ابنا بيقين ، وخلف خنثى ، فينبغي ان يطلب ما لا يمكن قسمته مع فرض الذكر ومع فرض الأنثى من غير كسر ، وأقل ما يمكن فيه في هذه المسألة ستة ، فإن فرضت الخنثى ذكرا ، كان المال بينهما نصفين ، لكل واحد ثلاثة ، فإن فرضته بنتا كان لها سهمان من ستة فإذا أضفت السهمين إلى الثلاثة ، صارت خمسة ، فتعطى الخنثى نصفها ، وهو سهمان ونصف من ستة وثلاثة ، ونصف للابن المتيقن ، فإذا أردت ان لا ينكسر ، فاجعلها من اثني عشر ، فتعطي الابن سبعة ، والخنثى خمسة.

فان فرضت بنتا بيقين وخنثى ، خرجت الفريضة أيضا من اثني عشر ، فان كان ذكرا كان له ثمانية ، وللبنت أربعة ، وان كانت بنتا ، كان لها ستة ، لأن المال بينهما نصفان بالفرض والرد عندنا ، فنضيف الستة إلى الثمانية ، يصير أربعة عشر ، فتعطى الخنثى نصفها سبعة ، وللبنت المتيقنة خمسة.

فان كان ابن وبنت وخنثى ، فأقل ما يخرج منه سهامهم عشرون ، فان فرضته ذكرا كان له ثمانية ، وان فرضته أنثى ، كان له خمسة ، يصير ثلاثة عشر نعطيه نصفه ستّة ونصفا من عشرين ، فإن أردته بلا كسر ، جعلته من أربعين ، فتعطى الخنثى ثلاثة عشر ، وتبقى سبعة وعشرون ، للابن ثمانية عشر ، وللبنت تسعة ، ثم على هذا

ص: 278


1- النهاية : باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم في وقت واحد.
2- الإيجاز : فصل في ذكر ميراث الخنثى ص 275 من الرسائل العشر.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب الفرائض والمواريث ، ميراث الخنثى ، ص 114.

المنهاج بالغا ما بلغوا.

وان كان معهم زوج أو زوجة ، أخرجت سهمه ، والباقي قسمته على ما قلناه.

وذهب جماهير أصحابنا والأكثرون منهم والمحصلون ، إلى انه في هذه الحال المتنازع فيها ، يعتبر ويورث بعدد الأضلاع ، فإن نقص عدد أحد الجانبين عن الأخر ، ورث ميراث الرجال وحكم عليه بحكمهم ، وان تساوى الجانبان في عدد الأضلاع ، ورث ميراث النساء وحكم له بحكمهن ، وهو مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي رحمه اللّه فإنه قال في كتابه كتاب الاعلام ، - وشرحه على جميع متفقهة العامة فيه ، ومستدلا عليهم - ، قال : واتفقت الإماميّة في توريث الخنثى على اعتباره بالمبال ، فان خرج البول (1) مما يكون للرجال خاصّة ، ورث ميراث الرّجال ، وان كان خروجه مما يكون للنساء حسب ، ورث ميراث النساء ، وان بال منهما جميعا نظر الى الأغلب منهما بالكثرة ، فورث عليه ، وان تساوى ما يخرج من الموضعين ، اعتبر باتفاق الأضلاع واختلافها ، فان اتفقت ورث ميراث الإناث ، وان اختلفت ورث ميراث الرجال ، قال رحمه اللّه ولم أجد من العامة أحدا يعتبر في الخنثى ما ذكرناه على الترتيب الذي وصفناه ، قال ولنا بعد الحجة بإجماع الفرقة المحقة على ما ذكرناه في هذه المسألة ، ورود الخبر بذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعزوه إلى السنّة الثابتة عنده ، عن نبي الهدى صلى اللّه عليه وآله ، وبطلان مقال من خالفه فيه ، وقطع على فساده من العامة ، إذ لم يعتمد في ذلك على حجة في فساده ، وقد ثبت ان الحق لا يخرج عن امة محمّد صلى اللّه عليه وآله ، ولو كانت الإمامية مبطلة فيما اعتقدته منه ، وكان من خالفها أيضا مبطلا في إنكاره لما ذكرناه لخرج الحق عن امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وذلك باطل لما بيّناه ، وهذا آخر كلامه رحمه اللّه (2).

فقد رجع كما ترى عما ذكره وأورده في مقنعته (3) بغير شك ولا ارتياب.

ص: 279


1- ج. ل. فان كان خروج البول.
2- لم نعثر عليه.
3- المقنعة ، أبواب فرائض المواريث ، باب ميراث الخنثى ص 698.

وهذا أيضا مذهب السيّد المرتضى رضى اللّه عنه على ما حكاه عنه ، ذكره في انتصاره مثل ما ذكره شيخه المفيد ، وشرحه كشرحه ، وفضل أحواله كتفصيله ، وصوّره كتصويره ، حرفا فحرفا ، ثم قال في استدلاله على صحة المسألة. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردّد ، وأيضا فإن باقي الفقهاء عوّلوا عند اشكال الأمر وتقابل الأمارات على رأي وظن وحسبان ، وعوّلت الإماميّة فيما يحكم به في الخنثى على نصوص وشرع محدود ، فقولها على كل حال اولى. هذا آخر كلام السيّد المرتضى (1) الا ترى أرشدك اللّه الى الخيرات استدلال هذين العالمين القدوتين بإجماع الإمامية على صحة القول في هذه المسألة ، وفساد قول من خالفهما فيه. والى ما ذهبا إليه أذهب ، وعليه اعمل ، وبه افتي ، إذ الدليل يعضده ، والحجّة تسنده ، وهو الإجماع المشار اليه ، والخبر المتفق عليه ، وقد كان في بعض أصحابنا الماضين رحمهم اللّه يتعاطى معرفة مسائل الخناثى ، والضرب لها واستخراج سهامهم بغير انكسار ، وكنا نجيل في ذلك سهامنا مع سهامهم متبعين كلامهم قبل اعمال نظرنا في المسألة ، إذ الإذن البكر تقبل ما يرد عليها بلا روية ولا نظر ، وهذا غير محمود عقلا وشرعا ، فحيث تأملنا المسألة وأعطينا النظر حقه وسبرنا أقاويل أصحابنا وكتبهم ، وجدناها بخلاف ما كنا عليه ، فكشفنا قناع صحتها ، وأوضحنا غياهيب ظلمتها.

وأيضا فالدليل على أصل المسألة قول اللّه سبحانه ممتنا به على خلقه وعباده « يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً » (2) وقال تعالى « يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ » (3) وقال تعالى « أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ » (4) وقال « وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » (5) وما قال في امتنانه - والخنثى - وقال « أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ » (6) وقال تعالى « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى » (7) فلو كان بعد الأنثى منزلة

ص: 280


1- الانتصار ، في الميراث.
2- سورة النساء ، الآية 1.
3- سورة الشورى ، الآية 49.
4- سورة الطور ، الآية 39.
5- سورة الليل ، الآية 3.
6- سورة الصافات ، الآية 153.
7- سورة النجم ، الآية 21.

لذكرها ، وقال سبحانه « فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » (1) فلو كان المجعول قسما أخر لذكره في امتنانه علينا ، الا ترى الى قوله تعالى في هذه الآيات ، ووجه الامتنان بها ، وذكر التثنية في جميعها ، من غير إدخال قسم ثالث فيها.

ثم ان شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه رجع عما ذكره أجمع في مسائل خلافه وترك القول الذي حكيناه ، عنه في نهايته ، ومبسوطة ، وإيجازه ، فقال في مسائل الخلاف مسألة : إذا مات إنسان ، وخلف خنثى مشكلا ، له ما للرجال وما للنساء ، اعتبر بالمبال ، فان خرج من أحدهما أولا ، ورث عليه ، وان خرج منهما اعتبر بالانقطاع ، فورث على ما ينقطع أخيرا فإن اتفقا روى أصحابنا انه تعد أضلاعه ، فإن تساويا ورث ميراث النساء ، وان نقص أحدهما ورث ميراث الرجال ، والمعمول عليه ان يرجع الى القرعة فيعمل عليها ، وقال الشافعي ننزله نحن بأسوإ حالتيه ، فنعطيه نصف المال ، لانه اليقين ، والباقي يكون موقوفا حتى يتبين حاله ، فإن بان انه ذكر ، أعطيناه ميراث الذكور ، وان بان أنه أنثى ، فقد أخذ حقه ، فيعطى الباقي للعصبة ، وبه قال زيد بن ثابت ، وقال أبو حنيفة يعطيه النصف يقينا ، والباقي يدفع الى عصبته ، وذهب قوم من الحجازيين ، وقوم من البصريين ، انه يدفع اليه نصف ميراث الذكر ، ونصف ميراث الأنثى ، فيعطى ثلاثة أرباع المال ، وبه قال أبو يوسف وجماعة من أهل الكوفة ، دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه في المسألة (2).

الا ترى الى قول شيخنا رحمه اللّه ، فان فيه إذا تامّلته عجائب ودلائل على صحة القول بما اخترناه ، وفساد المذهب الذي ذهب إليه في كتبه المقدم ذكرها ، وهو قوله فان اتّفقا روى أصحابنا انه تعد أضلاعه ، فإن تساويا ورث ميراث النّساء ، وان نقص أحدهما ورث ميراث الرجال ، فقد أقر على نفسه ان أصحابه يعني الشيعة الإمامية رووا ذلك من غير خلاف بينهم في الرواية ، بل تلقاها جميعهم بالقبول ، لانه لم يقل وقد روي خلافه ، فدل على ان الرّواية متواترة ، وما هذا حكمه يجب

ص: 281


1- سورة القيامة ، الآية 39.
2- الخلاف ، كتاب الفرائض ، مسألة 116.

العمل به ، ولا يجوز العدول عنه ، وقال رحمه اللّه مستدلا على خصومه ، دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، فجعل الاخبار دليله ، وهو قد حكى عن أصحابه انهم رووه ، فالأخبار التي استدل بها وعناها هي التي رووا ، ثم استدل بإجماعهم ، وإجماعهم منعقد على هذه الأخبار التي رووها في هذا المعنى ، ثم انه رحمه اللّه خالف أصحابه على ما حكى عنهم ، وخالف قوله الذي ذكره في كتبه الثلاثة المقدم ذكرها ، وقال هاهنا المعمول عليه ان يرجع الى القرعة ، فيعمل عليها ، وفي هذا ما فيه.

ثم ان القرعة لا تستعمل إلّا في كلّ أمر مشكل إذا لم يرد فيه بيان شرعي ، ولا نص مبين لحكمه ، فحينئذ يفزع إلى القرعة ، فيجعل بيان حكمه وحل مشكلة ، فامّا إذا ورد البيان من الشارع بحكمه ، فلا يجوز الرجوع فيه الى القرعة بحال ، من غير خلاف بيننا في هذا الأصل المقرر المحرر ، وقد أقر رحمه اللّه ان أصحابه رووا بيان هذا الحكم ، واستدل بإجماعهم واخبارهم التي رووها عليه ، فكيف يفزع هو الى القرعة في هذا الموضع ، ان هذا لعجيب طريف ، الّا ان يريد بأخبارهم التي عناها ان كل أمر مشكل فيه القرعة ، وقد دللنا على فساد هذه الطريقة ، وقلنا انه لا يجوز استعمال القرعة إلا في أمر لم يبين الشارع حكمه ومشكلة ، والشارع بين حكم هذا بعدّ (1) الأضلاع ، فإن شيخنا أقرّ بأنّ أصحابه رووا ذلك من غير تناكر بينهم في الرواية.

وقد قال رحمه اللّه في الحائريات ، لما سئل عن الخبر الذي ورد - ان اللّه تعالى لما خلق آدم عليه السلام أخذ من جنبه الأيسر ضلعه الأعوج ، فخلق منه حوّا ، وان (2) أضلاع الرجال تنقص وأضلاع النساء تمام ، فما عنده فيه؟ فقال الشيخ الجواب ذلك مشهور بين أهل النقل في أصحابنا ، والمخالفين ، وهو جائز لا مانع منه ، وهو في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام.

الا ترى الى قوله - ذلك مشهور بين أهل النقل في أصحابنا والمخالفين - فدل على انّه إجماع المسلمين ، فضلا عن طائفتنا على رواية هذا الحكم.

ص: 282


1- ج. بعدد.
2- ل. ومن أجل ذلك ان.

ثم انه رحمه اللّه لم يذكر في كلامه الذي حكيناه عنه في مسائل خلافه ، انه ذهب الى ما ذكره في نهايته وإيجازه ومبسوطة ، إلّا قوم مجهولون غير معينين ، ما خلا أبا يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة ، فإذا لم يذهب إليه أحد من المسلمين المعروفين ، ولا أحد من الصحابة والتابعين ، ولا الفقهاء المعروفين سوى أبي يوسف ، وكفى بهذا القول وهنا وضعفا.

وإذا عقد على الصغيرين عقد النّكاح أبواهما ، توارثا ، فان كان العاقد غيرهما ، فلا توارث بينهما حتى يبلغا ويمضيا العقد ، فان بلغ أحدهما فأمضاه ، ثم مات ، انتظر بلوغ الأخر ، فإن بلغ وأمضاه حلّف بأنه لم يرض به طمعا في الميراث ، فإذا حلف ورث سهمه ، فان لم يحلف فلا ميراث له.

ويتوارث الزوجان بعد الطلاق الرجعي ، سواء كان في الصحة أو المرض ما دامت المرأة في العدة بغير خلاف ، وان كان الطلاق في حال مرض الزوج ، ورثته المرأة أيضا بعد خروجها من العدة ، ما بينها وبين سنة ، ما لم تتزوج أو يبرأ الزوج من مرضه الذي طلقها فيه ، وهو لا يرثها بعد خروجها من عدتها ، هذا في الطّلاق الرجعي ، فإن كان طلاقه لها طلاقا لا رجعة له فيه ، فلا ميراث بينهما ساعة طلقها ، الّا ان يكون أوقع هذا الطلاق البائن في مرضه ، فإنها ترثه ما دامت في عدتها ، وبعد خروجها من العدّة ما بينها وبين سنة ، ما لم تتزوج المرأة أو يبرأ من مرضه الذي طلّقها فيه.

وشيخنا أبو جعفر ذهب في نهايته ، إلى انهما يتوارثان ما دامت في العدّة ، وان كان الطلاق لا رجعة له عليها فيه ، إذا كان طلاقه لها في المرض ، ثم بعد خروجها من العدة ترثه ما لم تتزوج ، أو يبرأ الزوج من مرضه الذي طلق فيه الى سنة (1).

الّا انه رجع عن ذلك في مسائل خلافه على ما ذكرناه فيما تقدم (2).

وإذا تزوج المريض ومات قبل برئه ، وقبل الدخول بالمرأة ، بطل العقد بينهما عند

ص: 283


1- النهاية ، كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه والعبارة منقولة بالمعنى.
2- في ص 222.

أصحابنا ، ولم ترثه المرأة ، ولا عدة عليها منه.

وإذا انفرد الزوج بالميراث ، فله النصف بالتسمية ، والنصف الأخر رد عليه بإجماع أصحابنا ، ولا يلزم على ذلك ان يرد الباقي من سهم الزوجة عليها إذا انفردت بالميراث ، لان الشرع لا يؤخذ قياسا ، وقد قدمنا (1) القول في ذلك مشروحا ، فلا وجه لإعادته.

وإذا تعارف المجلبون - واحدهم مجلب (2) جلب وهو الحميل - واختلف في تفسيره فقال الجوهري في كتاب الصّحاح الحميل الذي يحمل من بلده صغيرا ، والحميل الدعي.

قال الكميت يعاتب قضاعة في تحويلهم الى اليمن :

علام نزلتم من غير فقر

ولا ضراء منزلة الحميل

وقال صاحب المجمل وهو ابن فارس ، الحميل الدّعي.

وقال الهروي في غريب الحديث ، اما قوله الحميل لا يورث إلّا ببيّنة ، ففيه قولان ، يقال فيه هو الذي يحمل من بلاده صغيرا الى بلاده الإسلام ، ويقال هو المحمول (3) النسب ، وذلك ان يقول هذا أخي أو أبي أو ابني ، ليزوي ميراثه عن مواليه ، فلا يصدق إلا ببينة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، واما الحميل فهو الذي يجلب من بلاد الشّرك ويسترق ، فإذا تعارف منهم اثنان أو جماعة بنسب يوجب بينهم الموارثة في شرع الإسلام ، فإنه يقبل قولهم في ذلك ، ويورثون على نسبهم ، ولا يطالبون بالبيّنة على ذلك على حال (4).

وهذا القول قريب من قول من حكيناه من أهل اللغة ، إذ كل منهما مدع نسبا من الأخر ، لأن حقيقة الدعوى كل خبر ليس على صحته وفساده دليل.

ص: 284


1- في ص 243.
2- ل. مجلوبون واحدهم مجلوب. وفي نسخة الأصل : « مجلبون واحدهم مجلوب » والظاهر انه خطأ.
3- ل. المجهول.
4- النهاية : كتاب الميراث ، باب ميراث ولد الملاعنة.

الّا ان شيخنا أبا جعفر رجع في التبيان ، فقال الحميل الغريب ، لانه يحمل على القوم وليس منهم (1).

فاما ميراث اللقيط ، فان كان توالى الى إنسان ، ضمن جريرته وحدثه ، فإنّه يكون ميراثه له ، وضمان جريرته عليه ، فان لم يكن توالى الى أحد ، فميراثه لإمام المسلمين ، وليس لمن التقطه وربّاه شي ء من ميراثه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : واما المشكوك فيه ، فهو ان يطأ الرجل امرأته أو جاريته ، ثم يطؤها غيره في تلك الحال ، وتجي ء بالولد ، فإنه لا ينبغي له ان يلحقه به لحوقا صحيحا ، بل ينبغي ان يربيه وينفق عليه ، فإذا حضرته الوفاة ، عزل له شيئا من ماله قدر ما يتقوى به على شأنه ، وان مات هذا الولد ، لم يكن له شي ء من تركته ، وكانت لبيت المال ان لم يخلف ولدا ولا زوجا ولا زوجة ، هذا أخر كلامه في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ما ذكره رحمه اللّه خلاف ما يقتضيه أصول مذهبنا ، والصحيح ان هذا الولد الذي من زوجته ولده شرعا ، يرثه إذا مات وكذلك الولد يرث الوالد إذا لم ينتف منه باللعان مع امه بغير خلاف بيننا ، ولقوله عليه السلام الولد للفراش وللعاهر الحجر (3) والفراش عبارة عن العقد ، وإمكان الوطي على ما جرت به العادة ، دون التمكين على ما في مقدور اللّه تعالى ، على ما يذهب إليه أبو حنيفة.

وإذا وطي نفسان فصاعدا جارية مشتركة بينهما ، فجاءت بولد ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه الحق به ، وضمن للباقين من شركائه حصّتهم ، وتوارثا ، فإن وطأها نفسان في طهر واحد بعد انتقال الملك من واحد منهما إلى الأخر ، كان الولد لا حقا بمن عنده الجارية ، ويرثه (4) الأب والولد أيضا مثل ذلك يرثه على ما رواه أصحابنا.

ص: 285


1- التبيان : لم نتحققه.
2- النهاية : كتاب الميراث ، باب ميراث ولد الملاعنة.
3- الوسائل ، الباب 56 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
4- ج. ل. ويرث.

وتحقيق ذلك ان يعتبر بستة أشهر وأقل منها ، فان كان أقل من ستة أشهر من وقت وطي المشتري ، فانّ الولد يلحق بالسيّد الأوّل الذي هو البائع ، وان كان لستة أشهر فصاعدا فإنه يلحق بالمشتري الذي عنده الجارية ، فاما الرواية ، فيمكن ان يعمل بها على بعض الوجوه ، وهو ان يكونا وطئاها في وقتين متقاربين في يوم واحد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن تبرأ عند السلطان من جريرة ولده ومن ميراثه ، ثم مات الولد وله مال ، كان ميراثه لعصبة أبيه دون أبيه (1).

وهذا خلاف إجماع أصحابنا وإجماع المسلمين ، لان الوالد يضمن جريرة ابنه ويعقل عنه ، ولا يصح التبرّي من المواريث على حال ، وانما هذه رواية شاذة من أضعف أخبار الآحاد ، وأوردها شيخنا إيرادا لا اعتقادا.

وقد رجع عنها في الحائريات ، في المسألة الخامسة والثمانين والمائة ، وعن العاقلة إذا تبرأت من ميراث من تعقل عنه وجريرته ، أيكون ذلك بمنزلة الأب ، أو ما الحكم في ذلك فيه؟ فقال رحمه اللّه الجواب لا يصح له التبري ، لأن الشرع إذا حكم به لم ينفع التبري ، وثبت حكمه ، والرواية في تبري الأب من جريرة الابن رواية شاذة فيها نظر ، فان صحت لا يقاس عليها غيرها ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجواب (2).

والمملوك لا يملك شيئا حتى يستحقه ورثته من الأحرار ، بل ماله ان كان في يده شي ء لمولاه ، وكذلك حكم المدبّر بغير خلاف بين أصحابنا.

فامّا المكاتب فهو على ضربين ، مشروط عليه ومطلق ، على ما قدمناه (3) في موضعه ، فإذا كان مشروطا عليه ، فحكمه حكم المماليك ، فان كان غير مشروط عليه ، فإنه يرث ويورث بقدر ما ادى من مكاتبته ، من غير زيادة ولا نقصان ، ويحرم ما زاد على ذلك.

وإذا اشترط المكاتب على الذي كاتبه ان يكون ولاؤه له كان شرطه صحيحا ،

ص: 286


1- النهاية ، كتاب الميراث باب ميراث ولد الملاعنة آخر الباب.
2- لا توجد المسألة في المطبوع من مسائل الحائريات في المجموعة التي سميت بالرسائل العشر.
3- ص 26.

فان لم يشرط ذلك ، لم يكن له ولاؤه ، الّا ان يتوالاه (1) ، فان شرط عليه ان يكون ميراثه له دون ورثته ، كان ذلك باطلا ، لانه خلاف الكتاب والسنّة.

وإذا أدى المكاتب المطلق نصف الكتابة ، ثم مات ، وخلف ولدا من جارية له ، أو من حرة ، أو وارثا غير الولد ، وخلف مالا ، فنصفه للسيّد وتصفه لوارثه (2) ، ويعطى الوارث من نصيبه الذي أخذه وهو النصف ، ما بقي على مورثه من مال الكتابة ، لأنه دين على مورثه ، فلا يستحق الوارث التركة إلّا بعد قضاء الدين.

وإذا كان عبد بين شريكين أعتق أحدهما نصيبه ثم مات ، وخلف مالا ، كان نصف ما ترك للذي لم يعتق ، والباقي لورثته ، فان لم يكن له ورثة ، كان ذلك لمولاه الذي أعتقه تبرعا.

فصل في ميراث المجوس

اختلف قول أصحابنا في ميراث المجوس إذا تحاكموا الى حكام الإسلام على ثلاثة أقوال.

فقال قوم انهم يورثون بالأنساب والأسباب الصحيحة التي تجوز في شرع الإسلام ، ولا يورثون بما لا يجوز فيه على كلّ حال.

وقال قوم انهم يورّثون بالأنساب على كل حال ، ولا يورّثون بالأسباب إلّا بما هو جائز في شريعة الإسلام.

وقال قوم انهم يورثون من الجهتين معا ، سواء كان ممّا يجوز في شريعة الإسلام أولا يجوز ، وهذا القول الأخير الذي هو ثالث الأقوال ، خيرة شيخنا أي أبو جعفر الطوسي في نهايته (3) ، وسائر كتبه ، وأوّل الأقوال اختيار شيخنا المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، فإنه قال في كتاب الاعلام وشرحه ، فاما ميراث المجوس فإنه عند جمهور الإمامية ، يكون من جهة النسب الصحيح ، دون النكاح الفاسد ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، ومن اتبعهما فيه من المتأخرين ، وسبقهما اليه من

ص: 287


1- ج. ل. يتولاه.
2- ج. لوراثه.
3- النهاية ، كتاب الميراث باب ميراث المجوس.

المتقدمين ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

والى هذا القول اذهب ، وعليه اعتمد ، وبه افتي ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ » (2) وقال في موضع أخر « وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ » (3) وقال تعالى « فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ » (4) فإذا حكم الحاكم بما لا يجوز في شرع الإسلام فقد حكم بغير الحق وبغير ما انزل اللّه ، وبغير القسط وأيضا فلا خلاف بيننا ان الحاكم لا يجوز له ان يحكم بمذاهب أهل الخلاف مع الاختيار ، وشيخنا أبو جعفر يوافق على هذا ، وقد ذكره في عدة مواضع من كتبه ، وانما اعتمد رحمه اللّه على رواية شاذة روتها العامة عن أمير المؤمنين عليه السلام ذكر ذلك ابن اللبان القرضي في الموجز ، وهو من فقهاء المخالفين لمذهب أهل البيت عليهم السلام وأحال (5) شيخنا أبو جعفر في مبسوطة على ابن اللبان ، لانه قال وقد قلنا ان الصحيح ان الميراث يثبت بينهم بالزوجية على كل حال ، وروي ذلك عن على عليه السلام وذكر ابن اللبان ذلك في الموجز عنه ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (6) ورأيت انا الموجز بخط شيخنا أبي جعفر جميعه ، وهو كتاب صغير في الفرائض ، فحسب.

ثم ان شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه يقول في نهايته ، وهذا القول عندي هو المعتمد ، وبه تشهد الروايات (7).

واستدل بما يرغب الإنسان عن ذكره ، سترة عليه.

ثم قال بعد ذلك أيضا في نهايته مع انه قد رويت الرواية الصريحة ، وقد أوردناها في كتاب تهذيب الأحكام ، بأنهم يورثون من الجهتين جميعا وان كان ذلك باطلا في شريعة الإسلام (8).

ص: 288


1- لم نعثر عليه.
2- سورة المائدة ، الآية 49.
3- سورة الكهف ، الآية 29.
4- سورة المائدة ، الآية 42.
5- ج. أجال.
6- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الفرائض والمواريث فصل في ميراث المجوس.
7- النهاية ، كتاب الميراث ، باب ميراث المجوس.
8- النهاية ، كتاب الميراث ، باب ميراث المجوس.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه أعجب منه رحمه اللّه ، كيف قال في أوّل كلامه - وهذا القول عندي هو المعتمد ، وبه تشهد الروايات - ثم قال في أخر كلامه ، وبابه - مع انه قد رويت الرواية الصريحة في الأوّل - كانت جماعة روايات ، وبالأخير رواية واحدة فحسب ، ثم هذه الروايات التي قال عنها في أوّل كلامه وادعاها ، اين أودعت؟ وفي أي تصنيف ذكرت؟ ثم انه رحمه اللّه قد صنف كتبا اخبارية أكبرها تهذيب الأحكام ، أورد فيه من كل غث وسمين ، وهو الذي يومى اليه ويعتمد عليه ، وما أورده فيه ولا ذكر سوى الرواية الواحدة التي رواها مخالفونا في المذهب ، وهو إسماعيل بن أبي زياد السكوني - بفتح السّين ، منسوب إلى قبيلة من العرب عرب اليمن - وهو عامي المذهب بغير خلاف ، وشيخنا أبو جعفر موافق على ذلك ، قائل به ، ذكره في فهرست المصنفين (1) ، وله كتاب يعد في الأصول ، وهو عندي بخطي كتبته من خط ابن أشناس البزاز وقد قرئ على شيخنا أبي جعفر ، وعليه خطه اجازة وسماعا لولده أبي علي ، ولجماعة رجال غيره ، فان كان شيخنا أبو جعفر عاملا باخبار الآحاد ، فلا يجوز له ان يعمل بهذه الرّواية إذا سلمنا له العمل باخبار الآحاد تسليم جدل ، على ما يقترحه وذكره في عدته ، وان كان مخالفا لإجماع أصحابنا سلفهم وخلفهم ، حتى ان المخالفين من أصحاب المقالات يذكرون في كتبهم ومقالات أهل الآراء والمذاهب ، ان الشيعة الإمامية لا ترى العمل في الشرعيات باخبار الآحاد ، وشيخنا المفيد ذكر ذلك أيضا في كتاب المقالات (2) الذي صنفه ، ومذهب السيّد المرتضى ومقالته في ذلك ، فأشهر من ان يذكر ، وما أظن خفي على هذين السيدين الأوحدين العالمين مقالة أهل مذهبهما ، بل ربما لم يكن لأصحابنا في المتقدمين والمتأخرين أقوم منهما بمعرفة المقالات ، وتحقيق أصول المذهب ، ومعرفة الرجال ، وخصوصا شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه اللّه فإنه خرّيت هذه الصناعة.

ص: 289


1- ج. ل. أسماء المصنفين. الفهرست ، ص 1. رقم 38. ط النجف ، سنة 1356 / 1937.
2- المقالات ط. مكتبة الداوري ص 139.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في عدته ، والذي اذهب اليه ، ان خبر الواحد لا يوجب العلم ، وكان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلا ، وقد ورد جواز العمل به في الشرع ، الّا ان ذلك موقوف على طريق مخصوص ، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة ، ويختص بروايته ، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : راوي الرواية التي اعتمدها رحمه اللّه وهو إسماعيل بن أبي زياد السكوني ، ما حصلت فيه الطريق التي راعاها (2) شيخنا ، ولا الصفة التي اعتبرها ، بل هو عامي المذهب ، ليس هو من جملة الطائفة ، وهو غير عدل عنده ، بل كافر ، فكيف اعتمد على روايته ، وهو لا يقول بذلك ، فان كان يعمل في بعض مقالاته على اخبار الآحاد ، بل يراعي ان يكون الراوي من عدول طائفتنا على ما قرره في عدته على ما حكيناه عنه.

ولقد أحسن شيخنا محمود الحمصي رحمه اللّه ، فيما أورده في كتابه المصادر ، في أصول الفقه ، لما حكى كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في عدته ، فإنه ذكر جملة باب الاخبار ، وطوّل في الإيراد لها معظمها ، فإنه قال وذهب شيخنا السعيد الموفق ، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، قدس اللّه روحه ونور ضريحه الى وجوب العمل بما ترويه ثقات الطائفة المحقة ، وان كانوا في حيّز الآحاد ، ثم ذكر بعد ذلك فصولا كثيرة ، حكى فيها كلامه ، ثم قال بعد ذلك ، قال قدّس اللّه روحه ، فان قيل كيف تعملون بهذه الاخبار ، ونحن نعلم ان رواتها أكثرهم كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتشبيه وغير ذلك من الغلو والتناسخ وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء ، قيل لهم ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه وغير ذلك مما ذكر في السؤال ، ولو صحّ انّه نقله ، لم يدل على انّه كان معتقدا لما تضمنه الخبر ، ولا يمتنع ان يكون انما رواه ليعلم انه لم

ص: 290


1- العدّة ، فصل (5) في ذكر الخبر الواحد وجملة من القول في أحكامه ( ج 1 ، ط مؤسسة آل البيت ، ص 290 - 291 ).
2- ج. ادعاها.

يشذ عنه شي ء من الروايات ، لا لانه يعتقد ذلك ، فان قيل كيف تعوّلون على هذه الاخبار ، وأكثر رواتها المجبرة والمشبّهة والمقلدة ، والغلاة ، والواقفة ، والفطحيّة ، وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد ان يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به ، وهذا مفقود في هؤلاء قيل لسنا نقول ان جميع اخبار الآحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط نحن نذكرها فيما بعد ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه ، فاما ما يرويه العلماء المعتقدون للحق ، فلا طعن على ذلك بهذا السؤال. واما الفرق الذين أشاروا إليهم من الواقفة والفطحيّة وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان ، أحدهما ان ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل ، وان كانوا مخطئين في الاعتقاد ، فما يكون طريقه هؤلاء ، جاز العمل به ، قال عليه شيخنا الحمصي الّا انّ هذا الجواب لا يوافق المذهب الذي اختاره وقرّره وقنّنه (1) ، من ان الخبر إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة ، جاز العمل به ، دون ما يكون واردا من غير طريقهم ، فان اعتذر بما ذكره قدّس اللّه روحه من ان هؤلاء وان كانوا مخطئين في الاعتقاد ، كانوا ثقات في النقل ، قيل له هذه العلة وهي الثقة في النقل ، قد توجد في غير هؤلاء من المبطلين في العقائد ، كالمجبّرة والمشبهة ، وغيرهم ، فاجز العمل بخبرهم إذا كانوا ثقات في النقل ، كما أجزت في هؤلاء المبطلين ، والّا فما الفرق؟ وهذا يوجب عليه ان يرفع الفرق والتمييز بين أصحابنا وبين غيرهم من الفرق في الرواية والنقل ، وان يصير الى مذهب المخالفين في اخبار الآحاد هذا أخر كلام الحمصي الذي قاله على شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه (2).

ونعم ما قال واستدرك واعترض ، فإنه لازم كطوق الحمامة.

قال شيخنا أبو جعفر : والجواب الثاني انّ ما يروونه إذا اختصوا بروايته لا يعمل به ، وانما يعمل به إذا انصاف الى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة ، والاعتقاد الصحيح ، فحينئذ يجوز العمل به.

قال شيخنا الحمصي رحمه اللّه ، وهذا الجواب هو الذي يوافق مذهبه الذي حكيناه

ص: 291


1- ج. ل. فنّنه.
2- المصادر : لم نعثر عليه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه. فالسكوني ما انضاف الى روايته رواية من هو على الطريقة المستقيمة ، والاعتقاد الصحيح ، فكيف جاز لشيخنا رحمه اللّه العمل في ميراث المجوس بروايته.

وأيضا ما هو من فرقتنا ، ولا من عدول طائفتنا ، على ما قرره شيخنا في مذهبه في العمل باخبار الآحاد.

ثم انا نورد ما أورده في كتاب تهذيب الاحكام جميعه ، ونتكلم عليه.

قال رحمه اللّه باب ميراث المجوس ، محمّد بن احمد بن يحيى ، عن بنان بن محمّد ، عن أبيه ، عن ابن المغيرة ، عن السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن علي ، انه كان يورّث المجوس إذا تزوج بامّه وبابنته من وجهين ، من وجه انها امه ، ووجه انها زوجته ، قال محمّد بن الحسن قد اختلف أصحابنا رحمهم اللّه في ميراث المجوس ، إذا تزوج بإحدى المحرمات من جهة النسب في شريعة الإسلام ، فقال يونس بن عبد الرحمن وكثير ممّن تبعه من المتأخرين : انه لا يورث الّا من جهة النسب والسبب اللذين يجوزان في شريعة الإسلام ، وامّا ما لا يجوز في شريعة الإسلام ، فإنه لا يورث منه على حال ، وقال الفضل بن شاذان وقوم من المتأخرين من تبعوه على قوله انّه يورّث من جهة النسب على كل حال ، وان كان حاصلا عن سبب لا يجوز في شريعة الإسلام ، فإنّما (1) السبب فلا يورث منه الا ممّا يجوز في شرع الإسلام. والصحيح عندي انه يورث المجوسي من جهة النسب والسبب معا ، سواء كان مما يجوز في شريعة الإسلام أو لا يجوز ، والذي يدل على ذلك الخبر الذي قدمناه عن السكوني ، وما ذكره أصحابنا من خلاف ذلك ، ليس به اثر عند الصّادقين عليهم السلام ، ولا عليه دليل من ظاهر القرآن ، بل انّما قالوه لضرب من الاعتبار ، وذلك عندنا مطرّح بالإجماع ، وأيضا فإن هذه الأنساب والأسباب وان كانا غير جائزين في شريعة الإسلام ، فهما جائزان عندهم ، ويعتقدون انه ممّا يستحل به الفروج ، ولا يستباح بغيره ، فجرى مجرى العقد في شريعة الإسلام ، الا ترى الى ما روي ان رجلا سبّ مجوسيّا بحضرة

ص: 292


1- ج. ل. فأمّا.

أبي عبد اللّه فزبره ، ونهاه عن ذلك ، فقال انه تزوج بامه ، فقال اما علمت ان ذلك عندهم النكاح ، وقد روي أيضا انه قال عليه السلام ان كل قوم دانوا بشي ء ، يلزمهم حكمه ، وإذا كان المجوس يعتقدون صحة ذلك ، فينبغي ان يكون نكاحهم جائزا ، وأيضا لو كان ذلك غير جائز ، لوجب ان لا يجوز أيضا إذا عقد على غير المحرمات ، وجعل المهر خمرا أو خنزيرا أو غير ذلك من المحرمات ، لان ذلك غير جائز في الشرع ، وقد أجمع أصحابنا على جواز ذلك ، فعلم بجميع ذلك ان الذي ذكرناه هو الصحيح ، وينبغي ان يكون عليه العمل وما عداه يطرح ولا يعمل عليه على حال ، هذا أخر الباب جميعها حرفا فحرفا التي أوردها شيخنا أبو جعفر في تهذيب الاحكام (1).

فانظر أرشدك اللّه بعين قلبك ، واترك تقليد الرجال جانبا ، هل فيها دليل يعتمد ويوجب العمل والعلم ويثمر اليقين؟ بل معظمها عنده رضي اللّه عنه الرواية عن السكوني التي جعلها اعتماده ، فصدّر بها بابه ، وقد بينا ما فيها.

ثم انّه رحمه اللّه حكى في نهايته (2) لما قال - وهذا القول هو المعتمد عندي وبه تشهد الرّوايات - وما أورد في تهذيب احكامه الذي هو معدن رواياته ومظان اخباره إلّا رواية واحدة ، وقد قلنا ما عندنا فيها.

ثم انه حكى في تهذيب الاحكام ، ان أصحابنا على مذهبين اثنين فحسب ، يونس (3) ومن تابعه ، ومذهب ابن شاذان ومن تبعه ، فكيف يحدث هو رحمه اللّه قولا ثالثا ، وأصحابنا على ما حكاه عنهم على قولين فإذا اجمعوا على قولين ، فلا يجوز احداث قول ثالث بغير خلاف ، لأن الحق لا يعدوهم ، وفي هذا القول ما فيه عند من تدبّره وتأمّله.

ثم قوله - وما ذكره أصحابنا من خلاف ذلك ليس به اثر عند الصادقين عليهم السلام ولا عليه دليل من ظاهر القرآن ، بل انما قالوه لضرب من الاعتبار ،

ص: 293


1- التهذيب ، الباب 37 من المجلد التاسع باب ميراث المجوس ، ص 364.
2- النهاية ، كتاب الميراث ، باب ميراث المجوس.
3- ج. ل. مذهب يونس.

وذلك عندنا مطرح بالإجماع - فقد أقرّ بأن قال - وما ذكره أصحابنا يعني الإماميّة - وما يقوله الإمامية الذين هم أصحابه ، ففيه الحق ، فكيف لا يكون عليه دليل ، بل قولهم له هو الدليل القاطع ، والبرهان الساطع.

ثم قال - ليس به اثر عن الصادقين - فإذا اجمعوا على القول ، فلا حاجة لهم إلى رواية تروي عن بعض الصادقين ، إذ لا دليل فيها ، بل إجماعهم عليها هو الدّليل على صحّتها ، بل في قولهم وإجماعهم على الحكم ، قول بعض الصادقين ، وهو رئيس الكل في عصره ، وامام زمانه ، مقطوع على صدقه.

واما قوله رحمه اللّه - ولا دليل عليه من ظاهر القرآن - بل ظاهر القرآن عليه ، ومعهم - فيه ، وهو قوله تعالى « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ » (1) ، « وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ » (2) ، الى غير ذلك من الآيات المحكمات ، وايّ ظاهر قرآن معه رحمه اللّه فيما ذهب اليه ، أو أيّ رواية عن الصادقين معه ، وفي هذا الموضع يحسن ان يقال اقلب تصب.

ثم قوله رحمه اللّه وشناعته - بل انما قالوه بضرب من الاعتبار - ان أراد بالاعتبار هاهنا القياس ، فهو كما قال انه باطل عندنا ، وايّ قياس هاهنا حتى يشنّعه؟ وان أراد بالاعتبار استخراج الأدلة والنظر فيها وما يقتضيه أصول المذهب ، فهذا لا نأباه نحن ولا هو رحمه اللّه ، وأكثر استدلالاته في مسائله على خصومه وغيرهم ، قوله - والذي يقتضيه أصول مذهبنا - وما يزال قائلا بأن الأصل الإباحة ، والحظر يحتاج الى دليل ، هذا لا يزال يستدل به في مسائل خلافه ، وفي أوّل خطبة مسائل خلافه لمّا قرر الأدلّة وبنى كتابه عليها ، قال أو إجماع أو دليل أصل ، ثم ما رأيت أعجب منه رحمه اللّه يذهب الى هذا في خطبة مسائل خلافه ، وفي جميع استدلالاته في مسائلها ، إذا احتاج الى ذلك ، ويذهب في عدته التي هي أصول فقهه - في ان الأشياء في دليل العقل على الحظر أو الإباحة أو - الى الوقف في ذلك ، ويستدل في مسائل خلافه بأن الأصل الإباحة في الأشياء ، وأصول الفقه ما تراد الا حتّى (3) يركب عليها مسائل الفقه.

ص: 294


1- سورة المائدة ، الآية 48.
2- سورة الكهف ، الآية 29.
3- ج. حتى يركب.

ثم قوله رحمه اللّه - بان هذه الأنساب والأسباب وان كانا غير جائزين في شريعة الإسلام ، فهما جائزان عندهم ، وما روي ان رجلا سبّ مجوسيّا بحضرة أبي عبد اللّه عليه السلام فزبره ، ونهاه - واي (1) فرج له في ذلك ، وايّ نسبة بين هذا وبين جواز ان يحكم بالباطل ، وبغير الحق وغيّر شرعنا (2) إذا تحاكموا إلينا ، وهل هذا الّا دفع بالرّاح ، ومعارضة في غير موضعها ، وبناء على شفا جرف انهار (3).

فاما قوله رحمه اللّه - لو كان ذلك غير جائز ، لوجب ان لا يجوز أيضا إذا عقد على غير المحرمات ، وجعل المهر خمرا أو خنزيرا ، أو غير ذلك من المحرمات ، لان ذلك غير جائز في الشرع ، وقد أجمع أصحابنا على جواز ذلك - فممّا يضحك الثكلى ، لكن ما أحسن قول الرّسول عليه السلام - حبك الشي ء يعمى ويصم (4) - يا سبحان اللّه ، كان ذكر المهر الحلال ، ملكه شرط في صحة عقد النكاح ، فنحن بإجماع المسلمين نصحح عقد النكاح الدائم من غير ذكر مهر فيه ، فما ذكر المهر الفاسد بأعظم من ترك ذكره جملة ، ومع هذا فالعقد صحيح.

ثم ما اعجل ما نسي استدلاله في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في أوّل كتاب الصداق ، قال مسألة : إذا عقد على مهر فاسد مثل الخمر والخنزير والميتة وما أشبهه ، فسد المهر ولم يفسد النكاح ، ووجب لها مهر المثل ، وبه قال جميع الفقهاء الّا مالكا ، فان عنه روايتين ، إحديهما مثل ما قلناه ، والأخرى يفسد النكاح ، وبه قال قوم من أصحابنا ، دليلنا ان ذكر المهر ليس من شرط صحة العقد ، فإذا ذكر ما هو فاسد ، لم يكن أكثر من ان لم يذكره أصلا ، فلا يؤثر ذلك في فساد العقد ، وأيضا قوله عليه السلام لا نكاح إلّا بوليّ مرشد ، وشاهدي عدل (5) فنفاه لعدم الولي والشاهدين ، وأثبته بهم ، وهنا نكاح له (6) قد عقد بهم ، فوجب ان يكون ثابتا وأيضا فإنهما عقدان

ص: 295


1- ج. فأيّ.
2- ج يغيّر الحق ويغيّر شرعنا. ل. بغير الحق وبغير شرعنا.
3- ج. ل. جرف هار.
4- سنن أبي داود ، باب في الهوى من كتاب الأدب ، الرقم 5130 ، ج 4 ، ص 334.
5- الوسائل ، الباب 11 من أبواب المتعة ح 11 ، إلّا في المصدر هكذا إلّا بولي وشاهدين.
6- ج. ل. وهذا نكاح قد.

يصح ان ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه ، الا ترى انه لو عقد بغير مهر صح النكاح بلا خلاف ، فإذا ثبت بعد ذلك ، المهر صح أيضا فإذا كانا عقدين ففساد أحدهما لا يوجب فساد الأخر إلا بدليل ، هذا آخر استدلاله ومسألته (1).

وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا المخالف في هذه المسألة ، والمؤالف ، ان اليهود والنصارى والمجوس متى انقادوا إلى الجزية ، وقبلوها ، وقاموا بشرائطها ، والتزموا أحكامنا عليهم ، وما يقترحه إمامنا ، عقد لهم عقد الذمة ، وشرائط الذمة ، الامتناع من مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، ونكاح المحرمات في شريعة الإسلام ، فمتى فعلوا شيئا من ذلك ، فقد خرجوا من الذمة ، فكيف يجوز لنا ان نقرّهم على نكاح المحرمات في شرعنا ، ونحكم لهم بذلك ، وبصحته إذا تحاكموا إلينا ، وأخذ علينا ان لا نقرهم على ذلك ، هذا في اليهود والنصارى ، الذين هم الأصل في هذه الاحكام ، والمجوس فرع عليهم ، لأنا أمرنا الشارع ان نسنّ فيهم سنّة أهل الكتاب اليهود والنصارى ، فإذا كان الأصل لا نقرهم على نكاح المحرمات فكيف بك بالفرع (2) ، وهذا الاستدلال مجمع عليه ، لا خلاف فيه ، ان من جملة شرائطه الذّمة ، ان لا تنكحوا المحرمات في شرعنا.

وقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة ، في الجزء الرابع في كتاب المكاتب ، في فصل في كتابة الذمي ، يجوز كتابة النصراني ، بما يجوز به كتابة المسلم ، لعموم الآية والخبر ، وانما يصح كتابته على الوجه الذي يصح عليه كتابة المسلم ، ويرد (3) ، على الوجه الذي يردّ عليه المسلم ، فإذا كاتب عبدا ثم ترافعا الى حاكم المسلمين ، حكم بينهم بحكم الإسلام ، فإن كانت الكتابة تجوز بين المسلمين ، أمضاها ، وان كانت لا تجوز ، ردها ، لان الحاكم انما يجوز له ان يحكم بما يسوغ في دينه ، هذا أخر كلامه من أوّل الفصل الى هاهنا حرفا فحرفا (4).

الا ترى الى قوله رحمه اللّه في هذا الموضع لان الحاكم انما يجوز له ان يحكم

ص: 296


1- الخلاف ، كتاب الصداق مسألة 1.
2- ج. المحرمات يكن بالفرع اولى.
3- وفي المصدر - ترد - في الموضعين.
4- المبسوط ج 6 فصل في كتابه الذمي ، ص 128.

بما يسوغ في دينه ، وهذا هو الحق اليقين ، فشيخنا أبو جعفر المخالف في مسألة المجوس ، إذا تحاكموا إلينا ، فهو محجوج بقوله هذا الذي حكينا عنه ، في مبسوطة.

وما ذهبنا اليه اختيار السيّد المرتضى ، ذهب إليه في المسائل الموصليات الثانية فإنه قال المسألة التاسعة والمائة ، وان ميراث المجوس من جهة النسب الصحيح ، دون النكاح الفاسد ، والحجة في ذلك الإجماع المتكرر ، وليس هذه المسألة مما ينفرد بها الإمامية ، بل يوافق عليها مالك والشافعي ، ومن المتقدمين الحسن والزهري والأوزاعي ، هذا أخر كلامه في المسألة (1).

وكلامنا أيضا فقد أطلنا فيها.

فامّا من عدا المجوس من الكفار ، إذا تحاكموا إلينا ورثناهم على كتاب اللّه تعالى ، وشريعة نبيّه عليه السلام بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك.

وهو مذهب شيخنا أبي جعفر أيضا في نهايته ، فإنه قال بعد ان أطنب في ميراث المجوس ، فاما من عدا المجوس من الكفار ، فإذا تحاكموا إلينا ، ورثناهم أيضا على كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله سواء ، هذا آخر كلامه رحمة اللّه في الباب (2).

قوله رحمه اللّه - فاما من عدا المجوس من الكفار فإذا تحاكموا إلينا ورثناهم أيضا على كتاب اللّه وسنة نبيّه صلى اللّه عليه وآله سواء ، كأنّه رحمه اللّه قد ورث المجوس على كتاب اللّه وسنة نبيّه حتّى يعطف عليهم غيرهم ، ويقول ورثناهم أيضا على كتاب اللّه وسنة نبيه ، فان هذا قول عجيب ظريف.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، لما ذكر اختلاف أصحابنا في ميراث المجوس ، قال الآخرون يورثون بكلا الأمرين ، الأنساب والأسباب ، سواء كانا جائزين في الشرع ، أو لم يكونا جائزين ، وهو الذي اخترته في سائر كتبي في النهاية والخلاف والإيجاز في الفرائض ، وتهذيب الاحكام ، وغير ذلك ، لأنه الأظهر في الرّوايات (3).

ص: 297


1- المجموعة الاولى من رسائل الشريف المرتضى ، ص 266 ، المسألة 109 الّا أنّه ذكرها في « المسائل الموصليات الثالثة ».
2- النهاية كتاب الميراث باب ميراث المجوس وسائر أصناف الكفار.
3- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الفرائض والمواريث ، فصل في ميراث المجوس ، ص 120.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ما رأيت أعجب من شيخنا في هذه المقالة ، وايّ روايات في ذلك حتى يكون ما اختاره هو الأظهر فيها ، ان هذا لعجيب ، وليس إذا علمنا ان مصنفا أراد لفظة يقيم بها تصنيفه ، فجعل مكانها لفظة تحيله (1) وتفسده ، وجب ان نحسب (2) له ما يتوهم انه اراده ويترك ما قد صرح به ، ولو كانت الأمور كلها تجري هذا المجري ، لم يكن خطأ.

ويوقف نصيب الأسير في بلاد الكفر الى ان يجي ء ، أو يصح موته ، فان لم يعلم مكانه ولا موته وحياته ، فهو مفقود ، واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أقوال.

فقال قوم ان المفقود يحبس ماله عن ورثته قدر ما يطلب في الأرض كلها اربع سنين ، فان لم يوجد بعد انقضاء هذه المدّة ، قسم المال بين ورثته.

وقال قوم لا بأس ان يبتاع عقار المفقود بعد عشر سنين من غيبته وفقده وانقطاع خبره ، ويكون البائع ضامنا للثمن والدرك ، فان حضر المفقود ، خرج اليه من حقه.

وقال قوم لا يقسم مال المفقود حتى يعلم موته ، أو يمضي مدة لا يعيش مثله إليها بمجرى العادة ، وان مات له من يرثه المفقود ، دفع الى كل وارث أقل ما يصيبه ، ووقف الباقي حتى يعلم حاله.

وهذا الأخير هو الذي يقوى عندي ، واعمل عليه ، وافتي به.

والأوّل من الأقوال اختيار السيّد المرتضى في انتصاره (3).

والثاني من الأقوال اختيار شيخنا المفيد ، ذكره في مقنعته (4).

والثالث من الأقوال اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي ذكره في مسائل خلافه (5) ، وهو الأصح والأظهر لأن فيه الاحتياط والإجماع ، لأن التصرف في مال الغير بغير اذنه قبيح محظور عقلا وسمعا ، فمن أباحه يحتاج الى دليل ، ونعم ما اختار

ص: 298


1- ل. تختّله.
2- ج. ل. يحسب.
3- الانتصار كتاب الفرائض والمواريث مسألة 19.
4- المقنعة أبواب فرائض المواريث باب ميراث من لا وارث له ص 706.
5- الخلاف كتاب الفرائض مسألة 136.

شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه فان قوله في هذه المسألة ، هو الصواب ، وما عداه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، والأصل المنع من التصرف في مال الغير إلّا بإذنه ، فمن ادعى قسمته والتصرف فيه ، فقد ادعى حكما شرعيا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، فالعاقل اللبيب يتوخى الانصاف ، فلا يسلم الى المتقدم إذا جاء بالرّدى لتقدمه ، فلا يبخس المتأخر حق الفضيلة إذا اتى بالحسن لتأخّره ، فمن العدل ان يذكر الحسن ولو جاء ممّن جاء ، ويثبته الآتي به كائنا ما كان ، فإن الحكمة ضالة المؤمن ، ويطرح الردي ولو جاء ممّن جاء ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، انه قال انظر الى ما قال ولا تنظر الى من قال (1).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، ومن مات وخلف تركة في يد إنسان لا يعرف له وارثا ، جعلها في الفقراء والمساكين ، ولم يدفعها الى سلطان الجور والظلمة من الولاة (2).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، ميراث من لا وارث له ينتقل الى بيت المال ، وهو للإمام خاصّة ، وعند جميع الفقهاء ينتقل الى بيت المال ، ويكون للمسلمين (3).

وقال رحمه اللّه في مسألة أخرى ، كل موضع وجب المال لبيت المال عند الفقهاء وعندنا ، للإمام ، ان وجد الامام العادل ، سلم اليه بلا خلاف ، وان لم يوجد ، وجب عليه حفظه له عندنا ، كما يحفظ سائر أمواله التي يستحقها ، ثم استدل فقال دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا فإذا دفعه الى الامام العادل برئت ذمته بلا خلاف وليس على براءتها إذا دفعه الى الجائر ، أو صرفه في مصالح المسلمين ، دليل هذا آخر كلامه رحمه اللّه (4).

ومعه في هذا الحق اليقين ، والدليل على صحة ما استدل به ، فنعم ما قال

ص: 299


1- شرح مائة كلمة ، للبحرانى ص 68.
2- المقنعة أبواب الفرائض المواريث باب ميراث من لا وارث له من العصبة ص 706.
3- الخلاف كتاب الفرائض مسألة 14.
4- الخلاف كتاب الفرائض مسألة 15.

واستدل ، ولا يلتفت الى ما قاله (1) شيخنا في مقنعته ، فإنه خلاف أصول مذهبنا ، وإجماع طائفتنا ، ومصير الى مذهب المخالفين لنا.

والمهدوم عليهم والغرقى إذا لم يعرف ، تقدم موت بعضهم على بعض ، وكان يرث بعضهم بعضا ، ورث بعضهم من بعض ، من نفس التركة ، لا مما يرثه من الأخر ، لأنّا ان ورثناه مما يرثه ، لما انفصلت القسمة أبدا.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يورثه مما ورثه أيضا ، وهو اختيار شيخنا المفيد (2).

والأول هو الأظهر بين الطائفة الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، لأن الإرث لا يكون الّا فيما يملكه الميت قبل موته.

وقد روى أصحابنا انه يقدم أضعفهم نصيبا في الاستحقاق ، ويؤخر الأقوى (3) ، مثال ذلك زوج وزوجة ، فإنه يفرض المسألة أوّلا كان الزوج مات ، وتورث منه الزوجة ، لأن سهمها أقل من سهم الزّوج ، ويورث بعد ذلك الزوج.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، وهذا مما لا يتغير به حكم ، سواء قدمنا موت الزوج أو الزوجة ، إذا ورثنا أحدهما من صاحبه ، غير انا نتبع الأثر في ذلك (4).

ونعم ما قال ومتى ورثنا أحدهما من صاحبه قدر ما يستحقه ، فما يبقى يكون لورثته الاحياء ، فان فرضنا في غرق الأب والابن ، أن للأب وارثا غير ان هذا الولد اولى منه ، وفرضنا ان للولد وارثا غير ان أباه أولى منه ، فإنه يصير ميراث الابن لورثة الأب ، وميراث الأب لورثة الابن ، لأنا إذا فرضنا موت الابن أولا ، صارت تركته للأب ، وإذا فرضنا موت الأب بعد ذلك ، صارت تركته خاصة للولد ، وصار ممّا (5) كان ورثه من أبيه لورثته الأخر ، وكذلك إذا فرضنا موت الأب ، يصير تركته خاصّة لورثة الابن ، وعلى هذا يجري أصل هذا الباب ، فان خلف أحدهما

ص: 300


1- ج. ل. مقالة.
2- في المقنعة باب ميراث الغرقاء والعبارة هكذا ، وورث منها ما ورثته منه وما كان ملكا لها سواه ، ص 699.
3- الوسائل ، الباب 6 من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم.
4- المبسوط ، ج 4 ، كتاب الفرائض والمواريث ، فصل في ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ص 118.
5- ج. وصار ما كان ورثه من أبيه لورثة الآخر. ل. وصار ما كان ورثه لورثته الآخر.

شيئا ولم يخلف الأخر شيئا ، فإنه ينتقل ميراث من له مال ، الى الذي ليس له شي ء ، ومنه ينتقل الى ورثته ، ولا ينتقل إلى ورثة الذي خلّف المال شي ء على حال.

وعلى هذا متى كان اخوان معتقان ، فماتا غرقا أو هدما ، ولم يعلم تقدّم موت أحدهما على الأخر ، ورث كل منهما صاحبه ، ولأحدهما مال ، والأخر لا مال له ، فإنه ينتقل تركة الذي له مال ، الى مولى الذي لا مال له ، لما قلناه ، ولا ترجيح في هذه المسألة لتقديم أحدهما على الأخر ، لأن ميراث كل واحد منهما من صاحبه على حد الأخر عند من رأى تقديم الأقوى.

والأولى عندي انه لا اعتبار بذلك.

وإذا كان ليس لأحدهما وارث غير صاحبه ، فميراثهما للإمام.

وإذا كان أحدهما يرث صاحبه ، والأخر لا يرثه ، فإنه لا يورث بعضهم من بعض ، ويكون ميراث كل واحد منهما لورثته ، مثال ذلك ان يغرق اخوان ، ولأحدهما أولاد ، والأخر لا ولد له ، فإنه لا توارث بينهما ، لأنّ مع وجود الولد لا يرث الأخ.

ومتى ماتا حتف أنفهما في وقت واحد ، لم يورث بعضهم من بعض ، لان ذلك انما يجوز في الموضع الذي يشتبه الحال فيه ، فيجوز تقديم موت أحدهما على صاحبه.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فصل في المعاياة ، - وهذا الفصل وضعه على رأي المخالف في مسائل العول ، والعول باطل على مذهبنا ، ومعنى المعاياة أن يأتي بشي ء لا يهتدى له ، وجمل عياياء إذا لم يهتد للضراب ، فأردت بجعلي هذا الكلمة هاهنا ان يفهم معنى المعاياة التي ذكرها شيخنا في مبسوطة - وإذا كان للرجل أربع نسوة ، فطلق واحدة منهن ، ثم تزوج بأخرى ، ثم مات ، ولم تتميز المطلقة من غيرها ، فإنه يجعل ربع الثمن للّتي تزوجها أخيرا ، لأنها متيقنة باستحقاقه ، وثلاثة أرباع الثمن بين الأربع نسوة (1) ، الأول اللاتي طلق واحدة منهن ، ولم يتميز منهن.

وإذا اجتمع جد أبي الميت وجدته من قبل أبيه ، وجد أبيه وجدته من قبل امه ،

ص: 301


1- ج. النسوة.

وجد أم الميت وجدتها من قبل أبيها ، وجدها وجدتها من قبل أمّها ، ولا يجتمع هذه الثمانية الأجداد إلا بعد عدم الأجداد الذين يتقربون هؤلاء الثمانية بهم ، حتى يتقدر اجتماع هؤلاء ، فإذا قدّر ذلك ، كان لأجداد الأب الثلثان ، منهما ثلثا الثلثين للجد والجدة من قبل أبيه ، بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والثلث الباقي وهو ثلث الثلثين للجد والجدة من قبل امه ، بينهما أيضا للذكر مثل حظ الأنثيين ، والثلث الباقي من أصل المال للجدين والجدتين من قبل الام ، النصف من ذلك وهو السدس من أصل المال ، للجد والجدة من قبل أبي أم الميت ، بينهما بالسوية ، والنصف الآخر بين الجد والجدة من قبل أمها أيضا ، بينهما بالسوية ، فهذه الفريضة مخرجها من ثلاثة ، لأن أقل ما له ثلثان وثلث صحيحان من ثلاثة ، فتنكسر على كل واحد من المستحقين ، فتضرب عدد رءوس الأجداد الذين من قبل الام وهم أربعة ، في أصل الفريضة ، فينكسر أيضا عليهم ، فتضرب أيضا تسعة في اثنى عشر ، فيرتقي الى مائة وثمانية أسهم ، منها الثلث للجدّين والجدتين من قبل أم الميّت ، وهو ستّة وثلاثون سهما ، للجد والجدّة من أبيها النصف من ذلك ، ثمانية عشر سهما لكل واحد منهما تسعة ، وللجدّ وللجدة من قبل أمّها النصف الباقي ، وهو ثمانية عشر سهما ، لكل واحد منهما تسعة ، لأن هؤلاء الأربعة يأخذ كل واحد منهم مثل ما يأخذه الآخر ، ذكرهم وأنثاهم سواء ، لأنهم من قبل الام ، ويبقى الثلثان من أصل المال وهو اثنان وسبعون سهما للجدين والجدتين من قبل أب الميت ، منهما الثلثان ، وهو ثمانية وأربعون سهما للجد والجدة من قبل أبيه ، للجد اثنان وثلاثون سهما ، وللجدة ستة عشر سهما ، والثلث (1) الباقي وهو أربعة وعشرون سهما ، للجد والجدة من قبل امه ، منها للجد ستة عشر سهما ، وللجدة ثمانية أسهم ، فذلك مائة وثمانية أسهم ، وقد استوفيت الفريضة ، فإن خلف الميت عمة لأب ، هي خالة لأم ، وعمة أخرى لأب ، وخالة لأب وأم ، كان للعمتين من قبل الأب الثلثان ، اثنى عشر من ثمانية عشر سهما لكل واحد منهما ستة ، وللخالة من الأم التي هي إحدى العمتين من

ص: 302


1- ج. ل. وثلث.

الأب ، سدس الثلث ، وهو واحد من ثمانية عشر ، فيصير معها سبعة ، وللخالة الأخرى من الأب والام ، خمسة أسهم من ثمانية عشر سهما ، فكأنما خلف عمتين لأب ، وخالتين ، احدى الخالتين لام ، والخالة الأخرى لأب ، أو لأب وأم ، فاصل الفريضة من ثلاثة ، لأن أقل مال له ثلثان صحيحان وثلث صحيح ثلاثة ، فتعطى العمتان الثلثين وهما سهمان ، وتعطى الخالتان سهما ينكسر عليهما ، وإحديهما تستحق مع الأخرى السدس ، لأنّها من الام ، فتضرب ستة في أصل الفريضة ، فتصير ثمانية عشر سهما فينقسم على ما قدمناه أولا.

فصل : في ذكر جمل تعرف بها سهام الفرائض وكيفيّة القسمة على الورّاث

مخرج النصف من اثنين ، والثلثين من ثلاثة ، ومخرج الربع من أربعة ، ومخرج السدس من ستة ، ومخرج الثمن من ثمانية.

فإن كان في الفريضة مع النصف سدس ، كانت من ستة ، فإن اجتمع معه ثمن أو ربع فهي من ثمانية ، فإن اجتمع ثلثان وثلث ، كانت من ثلاثة ، فإن كان فيها ربع وما يبقى ، أو ثمن ونصف وما يبقى ، فهي من ثمانية ، وان كان مع الربع ثلث أو سدس ، فهي من اثنى عشر ، فان كان مع الثمن ثلثان ، أو سدس ، كانت من أربعة وعشرين.

فإذا أردت إخراج السهام وقسمتها صحاحا فانظر الفريضة ، فإن كان فيها فرض مسمى ، إذا أخرجته لمستحقه ، كان الباقي وفقا لباقي الوراث ، فاقسمه عليهم ، ولست هاهنا تحتاج الى ضرب السهام بعضها في بعض.

مثال ذلك إنسان مات ، وخلف أباه وخمسة بنين ، فهذه من ستة ، لأن أقل عدد يخرج منه سدس صحيح فهو ستة ، للأب السدس من ذلك واحد ، ويبقى خمسة ، يقسم على البنين الخمسة ، لكل واحد منهم سهم ، وقد استوفيت الفريضة.

فان لم تجد السّهام وفقا على ما ذكرناه ، ووجدتها تنكسر إذا قسمتها ، فهي على ضربين ، أحدهما ان يكون في الفريضة فرض مسمّى ، والباقي لمن يبقى والآخران

ص: 303

يكون فيها صاحب فرض مسمّى ، والباقي يرد على أصحاب تلك القسمة.

فإن كان ما تجده ينكسر وفيها صاحب مسمّى ، والباقي لمن يبقى ، وهو الضرب الأول ، فاخرج الفرض المسمى لصاحبه ، فإذا وجدت الباقي بعده ينكسر على من يبقى من الوراث ، فاضرب رءوسهم - اعنى عددهم لا عدد سهامهم ، ولا عدد مخارجها سوى عدد صاحب الفرض المسمى - في أصل الفريضة ، هذا إذا كان يستحق كل واحد مثل ما يستحقه صاحبه سواء ، ثم اقسم ذلك تجد السهام صحيحة.

مثال ذلك إنسان مات ، وترك أباه وثلاثة بنين ، فهذه من ستة ، يكون للأب من ذلك سدس ، يبقى خمسة أسهم لا تنقسم على البنين الثلاثة على الصحة ، فالوجه في ذلك ان تضرب عدد رءوسهم وهي ثلاثة ، في أصل الفريضة وهي ستة ، فتكون ثمانية عشر سهما للأب منها السدس ، ثلاثة أسهم ، وتبقى خمسة عشر سهما لكل واحد من البنين خمسة أسهم وقد استوفيت الفريضة على الصحة من غير انكسار.

ومثال آخر ، وهو رجل مات ، وخلف أبوين وخمس بنات ، للأبوين السّدسان ، سهمان من ستة ، تبقى أربعة أسهم لا تنقسم على صحة ، تضرب عدد البنات وهو خمسة في أصل الفريضة وهو ستة ، فيكون ثلاثين لكل واحد من الأبوين خمسة أسهم ، ولكل واحدة من البنات أربعة أسهم.

وان كان من بقي بعد الفرائض أكثر من واحد ، ولم تصح القسمة ، فاضرب عدد من له ما بقي ، في أصل الفريضة ، مثل أبوين وزوج وبنتين ، للزوج الرّبع ، وللأبوين السدسان ، تخرج من اثنى عشر ، تبقى بعد فرائضهم خمسة ، فتكسر على البنتين ، فتضرب عدد البنتين وهو اثنان ، في اثنى عشر ، فيكون أربعة وعشرين ، لكل واحد من الأبوين أربعة أسهم ، وللزوج ستة أسهم ، ولكل واحدة من البنتين خمسة أسهم.

فإن بقي بعد الفرائض ما يجب رده على أرباب الفرائض ، أو على بعضهم بعد فرائضهم ، ولم تصح القسمة فاجمع مخرج فرائض من يجب الرد عليه ، واضرب في أصل الفريضة ، مثل أبوين وبنت ، للأبوين السدسان ، وللبنت النصف ، ويبقى سهم واحد من ستة أسهم ، فتأخذ مخرج السدسين وهو الثلث من ثلاثة ، ومخرج

ص: 304

النّصف من اثنين ، فيكون خمسة ، فتضرب في ستة وهو أصل الفريضة ، فيكون ثلاثين ، لكل واحد من الأبوين خمسة أسهم بالفرض ، وللبنت خمسة عشر سهما بالفرض ، وتبقى خمسة أسهم ، لكل واحد من الأبوين سهم واحد بالرد ، وللبنت ثلاثة أسهم بالرد.

فان كانت المسألة بحالها ، ووجب الرد على بعضهم ، بان يكون هناك اخوة وأخوات ، فإن عند ذلك لا تستحق الأم أكثر من السدس ، وما وجب من الرد عليها ، يتوفر على الأب ، فإنها تكون مثل الأوّل سواء ، غير ان السهم المردود على الام يوفر على الأب ، فيحصل للأب سبعة أسهم ، وللأم خمسة أسهم ، وللبنت ثمانية عشر سهما.

فان فرضنا ان المسألة فيها زوجة ، فإنها تستحق الثمن ، فتصح المسألة من أربعة وعشرين ، للأبوين السّدسان ثمانية ، وللبنت النّصف اثنى عشر ، وللزوجة الثمن ثلاثة ، بقي سهم يحتاج الى ان يرد على الأبوين والبنت ، دون الزوجة ، لأن الزوج والزوجة لا يستحقان في الرد شيئا ، فتضرب سهامهم وهي خمسة في أصل الفريضة وهي أربعة وعشرون ، تصير مائة وعشرين ، للزوجة الثمن خمسة عشر ، وللبنت النصف ستون ، وللأبوين السدسان أربعون ، بقي خمسة اعطى كل واحد من الأبوين سهما ، والثلاثة أسهم للبنت.

فان كان هناك من يحجب الام وفر سهمها من الرد على الأب ، فيحصل معه سهمان من الرد ، ولا شي ء للأم.

قال محمد بن إدريس ، وللفرضيّين طريقة أخرى في حساب هذا الباب وانكساره ، قالوا فان كان الباقي صحيحا فقد استغنيت عن ضربها ، فان انكسر عليك ، فانظر الى ما بقي بعد إخراج فرائضهم من السّهام ، هل يوافق سهام رءوسهم بشي ء من الاجزاء ، فان وافقها بشي ء من الاجزاء ، فاضرب مخرج ذلك الجزء الذي يوافقه في أصل المسألة ، ثم اقسم بينهم ، فإنه يصح ذلك مقسوما محررا ، فان كان الذي يوافقها أيضا ، فاضرب في اثنين ، ثم أقسم ، فإن كان الذي يوافقها أثلاثا ، فاضربه في ثلاثة في أصل المسألة ، ثم على هذا الاعتبار ابدا.

ص: 305

وذلك ان يقال امرأة تركت زوجها وستة بنين ، فاصل هذه المسألة من أربعة أسهم ، لأنّ فيها ربعا وباقيا للزوج الربع واحد ، ويبقى ثلاثة أسهم للأولاد الستة ، لا تصح بينهم الّا مكسورا ، ويوافق الثلاثة الباقية لهم من الأسهم الستة التي هي سهام رءوسهم نصفا ، فتضرب اثنين وهو مخرج النّصف في أصل الفريضة ، وهي أربعة التي كانت أصل مسألتهم ، فتكون ثمانية ، فيخرج ربعها اثنين ، ويبقى ستة للبنين.

وكذلك أبوان وثلاثة بنين وبنتان ، فاصل المسألة من ستة ، لأن فيها سدسين للأبوين سهمان ، ويبقى أربعة على ثمانية وبعدد (1) سهام البنين والبنتين ، ويوافق الاثنين الأربعة أيضا (2) فاضرب اثنين في أصل المسألة فتكون اثنى عشر سهما ، للأبوين السدسان ، ويبقى ثمانية.

فإن قيل لك ، امرأة تركت زوجها وثلاثة بنين وثلاث بنات ، فأصلها من أربعة ، لأن فيها ربعا ، للزوج الربع واحد ، ويبقى ثلاثة على تسعة بعدد سهام البنين والبنات ، ويوافق الثلاثة التسعة ثلاثا ، فتضرب ثلاثة في أربعة.

وكذلك امرأة وسبعة بنين وسبع بنات ، فهذه أصلها من ثمانية ، لأن فيها ثمنا ، للمرأة الثمن سهم ، يبقى سبعة على أحد وعشرين ، والسبعة توافق الأحد والعشرين أثلاثا ، وتضرب ثلاثة في ثمانية ، فتكون أربعة وعشرين ، فيخرج لهم حسابا صحيحا ، فهذا أصل هذا الفن قد نبهتك على مبسوطة ، فاعتبره واسبره (3) فإنه أكثر من ان يحاط به.

فإذا كانت مسألة لا توافق ما يبقى شيئا من الأجزاء ، فاضرب عدد سهامهم في أصل المسألة ، تصح ان شاء اللّه تعالى ، وذلك ان يقال لك امرأة تركت زوجا وخمسة بنين ، فهذه أصلها من أربعة ، فللزوج الربع سهم ، ويبقى ثلاثة لا تنقسم ولا توافق شيئا من الاجزاء ، فتضرب خمسة في أربعة ، للزوج الربع خمسة ، والباقي يخرج بينهم

ص: 306


1- ج. في سهام.
2- ج. ويوافق الأربعة الباقية من السهام الثمانية أيضا. ل. وتوافق الاثنين الأربعة أيضا بالنصف.
3- ج. واستبره.

مستويا ثلاثة ثلاثة ، فهذا مختصر من حسابهم ، ومجمل من مبسوط أسبابهم.

فصل في ذكر جمل من استخراج المناسخات

العمل في تصحيح ذلك ان يصحح مسألة الميت الأوّل ، ثم تصحح مسألة الميت الثاني ، ويقسم ما يخص الميت الثاني من المسألة الأولى ، على سهام مسألته ، فإن انقسمت فقد صحت المسألتان معا ممّا صحت منه مسألة الميت الأوّل.

مثال ذلك رجل مات ، وخلف أبوين وابنين ، فالمسألة تخرج من ستة ، للأبوين السدسان ، ولكل واحد من الابنين اثنان ، فإذا مات أحد الابنين وخلف ابنين ، كان لكل واحد منهما سهم من هذين السهمين ، فقد صحت المسألتان من المسألة الأولى.

فان لم تنقسم الثانية من المسألة الأولى ، نظرت في سهام من يستحق المسألة الثانية ، وجمعتها وضربت في سهام المسألة الأولى ، صحت لك المسألتان معا.

مثال ذلك ، المسألة التي قدمناها ، فتفرض ان أحد الابنين مات ، وخلّف ابنا وبنتا وكان له سهمان من ستة ، لم يمكن قسمتهما عليهما ، ضربت سهم الابن وهو اثنان ، وسهم البنت وهو واحد ، في أصل الفريضة المسألة الاولى ، وهي ستة ، فتصير ثمانية عشر ، للأبوين السدسان ستة ، ولكل واحد من الابنين ستة.

فإذا مات الابن وخلف ابنا وبنتا كان للابن من ذلك أربعة ، وللبنت اثنان ، وكذلك ان مات ثالث ورابع ، فصحح مسألة كل ميت ، ثم اقسم ماله من مسائل المتوفين قبله من السّهام ، على سهام مسألته ، فإن انقسمت فقد صحت لك المسائل كلّها ، وان لم تصح ، فاضرب جميع مسألته فيما صحت منه مسائل المتوفين قبله ، فما اجتمع ، صحت منه المسائل كلها ، واللّه الموفق للصواب.

ومعنى تناسخ الورثة عند الفقهاء ، ان يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث الأول قائم ، لم يقسم بعد.

ص: 307

باب الإقرار بوارث

إذا مات رجل وخلف ابنين ، فأقر أحدهما بأخ ، وجحد الآخر ، فلا خلاف ان نسبه لا يثبت ، فامّا المال الذي حصل في يد المقر ، فمذهبنا انه يلزمه بمقدار حصته ، فيكون له ثلث ما في يده ، ثم على هذا الحساب ، لأنه أقر على نفسه ، وعلى غيره فقبلنا إقراره على نفسه ، ولا نقبل في حق غيره. والنسب بشاهد واحد لا يثبت.

إذا كان الورّاث جماعة ، فأقر اثنان رجلان ، ثبت نسبه إذا كانا مرضي الشهادة ، فان لم يكونا عدلين ، لم يثبت نسبه ، ولزمهما بمقدار حصتهما على ما قدمناه من الاعتبار.

الإقرار بالنسب لا يخلو من أحد أمرين ، اما ان يكون المقر بالنسب مقرا على نفسه بنسب أو غيره ، فان كان على نفسه ، مثل ان يقر بأنه ابنه ، نظر فان كان المقربة صغيرا ، اعتبر فيه ثلاثة شروط ، أحدها ان يمكن ان يكون ولدا له ، فان لم يمكن ان يكون ولدا له ، فلا يثبت نسبه ، مثل ان يقر به ، وللمقر ستة عشر سنة ، وللمقر به عشر سنين.

والثاني ان يكون مجهول النسب ، لأنه إذا كان معروف النسب فلا يثبت نسبه منه.

والثالث ان لا ينازعه فيه غيره ، لأنه إذا نازعه فيه غيره ، لم يثبت ما يقول الّا ببيّنة.

فإذا حصلت هذه الشروط الثلاثة ، ثبت النسب.

وان كان المقربة كبيرا ، فإنه يعتبر فيه أربعة شروط ، الثلاثة التي ذكرناها ، والرابع تصديق المقربة ، لأنه إذا كذبه في إقراره لم يثبت نسبه منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، جميع ما يقر به يعتبر تصديقه له ، الّا ولد الصلب فحسب ، فإنه يثبت نسبه منه ، سواء صدقه أو كذبه (1).

ص: 308


1- النهاية ، باب الإقرار بوارث.

وفي ذلك نظر.

الّا ان شيخنا رجع في مبسوطة (1) ، الى ما قلناه أوّلا فاعتبر تصديق المقربة في الجميع.

فإذا ثبت هذا فإن أقر بصغير ، ووجدت الشرائط الثلاثة فيه ، ثبت نسبه ، فإذا بلغ وأنكر ان يكون ولدا له ، لم يقبل منه ، ولم يسمع دعواه لذلك ، لانه حكم عليه قبل ان يكون لكلامه حكم بأنه ابنه ، فلا يسمع بعد الحكم دعواه ، كما لو كان في يده صبي صغير محكوم له برقّه ، فلمّا بلغ أنكر ان يكون عبدا له ، لم يسمع منه ، لما تقدم له من الحكم بالرق قبل ان يكون لكلامه حكم ، وهكذا إذا التقط الإنسان لقيطا وربّاه ، ثم أقر الملتقط بأنه عبد لفلان ، لم يقبل إقراره عليه بذلك ، لان الظاهر من اللقيط ، الحرية.

فاما إذا أقر بنسب على غيره مثل ان يقر بأخ ، فان كان صغيرا فبثلاثة شروط ، وان كان كبيرا فباربعة شروط ، على ما قدمناه ، ويراعى في ذلك إقرار رجلين عدلين.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، أو رجل وامرأتين من الورثة (2).

والأوّل الذي اخترناه ، هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وهو ان النسب لا يثبت إلّا بشهادة رجلين عدلين ، فان لم يكن كذلك ، فلا يثبت النسب على ما بيّناه.

فإذا ثبت هذا ، فكل موضع ثبت النسب بالإقرار ، ثبت المال بغير استثناء عندنا ، وعند المخالف يستثنى موضعا واحدا ، وهو إذا كان إثبات الميراث يؤدّى الى إسقاطه ، مثل ان يقرّ الاخوان بابن للوارث ، فان نسبه يثبت ، ولا يثبت عنده له الميراث ، قال لانه لو ورث ، حجب الأخوين ، وخرجا من كونهما وارثين ، ويبطل الإقرار بالنسب ، لأنه أقر بمن (3) ليس بوارث ، فإذا بطل النسب بطل الميراث ، فلما ادى إثبات الميراث إلى إسقاطه ، أسقط ، فثبت النسب دونه.

ص: 309


1- المبسوط ، ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 38.
2- المبسوط ، ج 3 كتاب الإقرار ص 39.
3- ج. ل. إقرار ممّن.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، لما أورد ما قاله المخالف ، ولو قلنا انه يثبت الميراث أيضا كان قويا ، لانه يكون قد ثبت نسب بشهادتهما ، فتبعه الميراث لا بالإقرار (1).

هذا في المقر الذي يثبت النسب بإقراره ، وهو إذا كانا اثنين عدلين ، فاما إذا كان المقر واحدا أو كانا غير عدلين ، فإنه يثبت لهما الميراث بمقدار ما يخصهما.

ولو مات المقر له ، لم يرثه المقر ، لانه لم يثبت نسبه ، اللّهم الّا ان يكون قد صدقه المقر له في ذلك ، وكان بالغا عاقلا ، ولا يتعدى منهما الى غيرهما ، الّا الى أولادهما فقط ، فاما غيرهما من ذوي النسب ، فلا يثبت ميراثهما منه الا بالإقرار منهم أيضا كذلك ، أو تصديق لهما ، فيقوم مقام الإقرار.

إذا مات رجل وخلف ابنا ، فأقر بأخ ، ثم إنهما أقرا بثالث ، ثبت نسب الثالث ، ثم ان الثالث أنكر الثاني ، وقال ليس بأخ لنا ، سقط نسبه ، لانه لم يقر بنسبه اثنان من الورثة ، وانما أقر الأوّل ، فيكون المال بين الأوّل والثالث ، ويأخذ الثاني من الأوّل ثلث ما في يده ، لانه مقرّ به وبغيره.

إذا خلف زوجة وأخا فأقرت الزوجة بابن للزوج ، وأنكره الأخ ، لم يثبت نسبه الّا انه يقاسمها ، فالمرأة تزعم ان لها الثمن ، لان لمورثها ابنا فينظر ، فان كان المال في يد الأخ ، لم تأخذ إلّا الثمن ، لانه القدر الذي تدعيه ، وان كان المال في يدها ، لم يأخذ الأخ إلّا ثلاثة أرباع المال ، لانه هو القدر الذي يدعيه ، لانه يقول لها الربع ، إذ ليس لمورثها ابن ، فيبقى في يدها الربع ، وهي تدّعي نصفه ، فيكون لها ، والباقي يردّه على الابن.

إذا خلف ابنين ، فأقر أحدهما بأخ ، وجحد الآخر ، فان نسب المقر به لا يثبت ، فان مات الجاحد ، فورثه المقر جميع ماله ، وجب عليه ان يقاسم الأخ المقر به ، لانه كان أقربه ، وان خلف اخوه الجاحد ابنا ، فوافق عمه على إقراره ، ثبت النسب والميراث على ما ذكرناه ، لأنهما اثنان.

ص: 310


1- المبسوط ، ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 39.

إذا خلف ابنين أحدهما عاقل والآخر مجنون ، فأقر العاقل بنسب أخ له ، لم يثبت النسب بإقراره ، لأنه واحد ، فإن أفاق المجنون ، ووافقه على إقراره ، ثبت النسب والميراث ، وإن خالفه لم يثبت نسبه ، وشارك المقر في مقدار ما يخصه ، وان مات وهو مجنون ، فان ورثه المقر جميع المال ، قاسم المقر به ، لانه كان مقرا به.

فان خلف ابنين أحدهما كافر والآخر مسلم ، فأقر أحدهما بأخ ، نظر فان كان الميت كافرا ، كان الميراث للمسلم ، فإن أقر بنسب قاسم المقر به ان كان مسلما ، والّا حاز الميراث جميعه ، ولا يراعى جحود الكافر ، لانه لا يرث شيئا ، فالمال كله للمسلم ، وان كان الميّت المسلم (1) فكذلك المال للمسلم ، فإذا أقر بنسب ، ثبت وقاسمه المال ، ولا يراعى جحود الكافر ، وان أقر الكافر في المسألتين ، لم يكن لإقراره تأثير ، لأنه لا يرث شيئا.

وإذا خلف ابنين ، أحدهما قاتل ، فالمال كله لغير القاتل ، فإن أقر بنسب أخ ، شاركه في الميراث ، وإن أقر القاتل لم يثبت النّسب ، لانّه ليس له من الميراث شي ء.

إذا أقر ببنوة صبي ، لم يكن ذلك إقرارا بزوجيّة امّه ، سواء كانت مشهورة الحرية ، أو لم تكن ، والى هذا ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه ، ووافقه الشافعي على ذلك ، وخالفهما أبو حنيفة ، واحتج أبو حنيفة بأن أنساب المسلمين وأحوالهم ينبغي ان تحمل على الصحة ، فقال شيخنا يحتمل ان يكون الولد من نكاح صحيح ، كما يحتمل ان يكون من نكاح فاسد ، أو من وطي شبهة ، ثم قال ويبطل قول أبي حنيفة ببنوة أخيه (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، معنى ذلك ان رجلا آخر لو أقرّ ببنوة أخ لهذا الصبي ، لكان يلزم على قول أبي حنيفة انها تكون زوجة للمقرين في حالة واحدة ، صحيحة النّكاح.

وإذا مات صبي مجهول النسب وله مال ، فأقر رجل بنسبه ، ثبت النسب ، وكان

ص: 311


1- ج. مسلما.
2- الخلاف ، كتاب الإقرار ، مسألة 31.

له ميراثه ، إذا كانت الشّرائط حاصلة من الإمكان وغيره على ما قدمناه.

وليس لأحد أن يقول ان هاهنا تهمة من حيث يجوز ان يكون قصد بذلك أخذ المال.

وذلك ان هذا يفسد به إذا كان حيا وله مال فاقرّ به ، فان لحوق التّهمة تجوز في هذه الحال ، لانه لا ينتفع (1) بماله ويساره كما ينتفع به بعد موته.

وان كان المقربة كبيرا فإنه يثبت نسبه بإقراره ، في وجود (2) الشرائط ، وتصديقه لا يراعى ، لأنه إذا مات صار في معنى الصغير والمجنون الذي لا حكم لكلامه ، ولا اعتبار بتصديقه ، ولا خلاف في ذلك.

وإذا مات إنسان ، وخلف ورثة ، فأقر بعض الورثة بوارث آخر بالنسب ، فان كان المقر له اولى به من المقر ، أعطاه جميع ما في يده ، وان كان مثله سواء أعطاه مقدار ما كان نصيبه (3) من سهمه ، ولا أكثر من ذلك ولا أقل منه.

ومتى أقر بورثة جماعة كان الحكم أيضا فيه مثل ذلك سواء.

فإن أقر بوارثين ، أحدهما أولى من صاحبه ، غير انّهما جميعا اولى منه بالمال ، اعطى جميع ما في يده للذي هو اولى بالميت وأحق بميراثه ، وسقط الآخر.

فان أقر بوارثين فصاعدا متساويين في الميراث ، وتناكروا هم ذلك النسب بينهم ، لم يلتفت الى إنكارهم ، وقبل إقراره لهم ، وإذا أنكروا أيضا إقراره في الأوّل لهم ، لم يستحقوا شيئا من المال ، فإن أقروا له بمثل ما أقر لهم به ، توارثوا بينهم إذا كان المقر له ولدا أو والدا ، فان كان غيرهما من ذوي الأرحام ، لم يتوارثوهم ، وان صدّق بعضهم بعضا ، ولا متعدي الحكم فيه مال الميت على حال ، كما قدمناه ، لانه لا يقبل إقراره على غيره.

فإن أقر بوارث هو اولى منه بالمال ، وجب ان يعطيه المال على ما بيناه ، فإن أقر بعد ذلك بوارث آخر هو اولى منهما ، لزمه ان يغرم له مثل جميع المال ، فإن أقر بعد هذا بوارث آخر هو اولى منهم كلهم ، لزمه ان يغرم أيضا مثل جميع المال ، ثم على هذا

ص: 312


1- ج. ل. ينتفع.
2- ج. ل. ووجود.
3- ج. ل. يصيبه.

المثال بالغا ما بلغ إقراره.

فإن أقر بوارث (1) اولى منه بالمال ، فأعطاه ما في يده ، ثم أقرّ بوارث مساو للمقر له في الميراث ، لزمه ان يغرم له مثل ما كان يصيبه من أصل التركة.

فإن أقر بوارث مساو له في الميراث ، فقاسمه المال ، ثم أقرّ بوارث اولى منهما ، لزمه ان يغرم له مثل جميع المال ، ثم على هذا المثال بالغا ما بلغ إقراره.

فإن أقر بزوج للميّتة ، أعطى الزوج مقدار ما كان يصيبه من سهمه ، فإن أقرّ بعد ذلك بزوج آخر ، كان إقراره باطلا ، اللّهم الّا ان ينكر إقراره الأوّل ، ويكذب نفسه في الإقرار بالزوج الأوّل ، فيلزمه حينئذ ان يغرم للزوج الثاني مقدار ما يصيبه من سهمه ، وليس له على الأوّل سبيل ، ولا رجوع بشي ء أخذه.

فإن أقر ولد الميت بزوجة له ، أعطاها ثمن ما كان في يده من التركة ، فإن أقر بزوجة ثانية ، أعطاها أيضا نصف ثمن ما في يده من التركة ، فإن أقر بزوجة ثالثة ، أعطاها ثلث ثمن ما في يده ، وان أقر بزوجة رابعة ، أعطاها ربع ثمن ما أخذه من التركة ، فإن أقر بخامسة ، وقال ان احدى من أقررت لها ليست زوجة ، لم يلتفت الى إنكاره لها ، ولزمه ان يغرم للتي أقر لها بعد ذلك ، ربع ثمن ما أخذه من التركة ، فان لم ينكر واحدة من الأربع ، لم يلتفت الى إقراره بالخامسة ، وكان باطلا الّا ان يكون قد أقر بزوجات طلقهن في حال مرضه ، على ما قدمناه أولا وشرحناه وحررناه فليلحظ ذلك (2) ، ويراعى في إقراره بالخامسة وما زاد عليها.

فإن أقر للأربع النسوة في دفعة واحدة ، لم يكن لهن أكثر من الثمن بينهن بالسوية ، وقد قدمنا فيما مضى (3) انه متى أقر اثنان بوارث آخر ، فان كانا مرضيين مشهوري العدالة ، والشرائط المقدم ذكرها أوّلا حاصلة ، قبلت شهادتهما للمقر له ، والحق نسبه بالميت ، وقاسم الورّاث ، الّا ان يكون مشهورا بغير ذلك النسب على ما بيّناه ، فان كانا كذلك لم يلتفت الى إقرارهما وشهادتهما ، وان كانا غير مرضيي العدالة ، لم يثبت نسب المقر له ، ولزمهما في نصيبهما بمقدار ما كان يصيبه من حظهما ،

ص: 313


1- ل. بوارث آخر. ج. بوارث هو.
2- في ص 283.
3- في ص 308.

لا أكثر من ذلك ولا أقلّ ، كما ذكرناه (1) في المقر الواحد ، وكذلك الحكم فيما يزيد ويتفرع على المسائل من هذا الباب سواء ، فينبغي ان تحصّل معرفته ، ويعتمد عليه ، فإنه يطلع به على سائر ما تشعب في التصنيفات ، فإن أصولها ما لخصناه (2) وأثبتناه.

فصل آخر في كيفيّة القسمة بين الورّاث

فان للفرضيّين طريقة اخرى ، وهي ان قالوا قسمة الرباع والأرضين بين ورّاثها يفتقر الى تصحيح السّهام ، لاستغناء ما عداها من التركات عن ذلك ، فطريق إخراج السّهام صحاحا ، ان ينظر مريد ذلك في فريضة أهل الإرث ، فإنّها لا تخلو ان يكون فيها ذو نصف ، أو ثلث ، أو ربع ، أو سدس ، أو ثمن ، معه غيره ، فيفرضها من عدد يخرج منه ذلك السّهم صحيحا ، ثم ينظر في الفاضل عنه وسهام ما عدا مستحقّه ، فان انقسم عليهم من غير انكسار ، والّا ضرب سهامهم في أصل الفريضة ، فما انتهت اليه فسهام الكل يخرج منها صحاحا بغير انكسار ، وفهم هذه الجملة كاف ، ونفصلها ليقع العلم بأعيان مسائلها.

فمن ذلك فريضة النّصف ، أصلها من اثنين لذي النّصف سهم ، ويبقى سهم ، فان كان الوارث معه واحدا فهو له من غير انكسار ، وان كانا اثنين متساويين ، كأخ وأخت من قبل الأم ، أو أخوين أو أختين من قبل الأب ، انكسر الباقي عليهم ، فالوجه في ذلك ، ان تضرب سهامهم وهي اثنان في أصل الفريضة ، فيصير أربعة ، لذي النصف سهمان ، ولكل واحد من هذين سهم.

وان كانوا ثلاثة يتساوون في السهام كإخوة الأم ، أو اثنان مختلفان ، كأخ وأخت لأب ، فليضرب سهامهم وهي ثلاثة في أصل الفريضة ، فتصير ستة ، للزوج ثلاثة ، ولكل واحد من الثلاثة المتساوين سهم ، ولواحد الاثنين سهمان ، وللأنثى سهم.

وان كانوا ذوو سهام خمسة متساوون (3) ، كإخوة أم ، أو أخوات أب ، أو

ص: 314


1- في ص 310.
2- ج. لحظناه.
3- ج. وان كان ذوي سهام خمسة متساوين.

اخوان لأب ، وأخت له ، فان الفاضل ينكسر عليهم ، فلتضرب سهامهم وهي خمسة في أصل الفريضة ، فتصير عشرة ، لذي النصف خمسة أسهم ، ولكل واحد من الخمسة المتساوين سهم ، ولكل واحد من الأخوين مع الأخت سهمان ، وللأخت سهم ، ثم على هذا يجرى الحساب في جميع أهل هذه الفريضة وان كثروا.

ومن ذلك فريضة الثلث ، أصلها من ثلاثة ، لذي الثلث سهمه ، وهو واحد ، وهو سهم الام مع الأب ، والباقي له.

فان كان معهما زوج أو زوجة ، فاصل الفريضة من عدد له ثلث صحيح ، وربع صحيح ، فيعطى الام منه الثلث ، والزوج النصف ، أو الزوجة الربع ، والباقي للأب.

فإن كن الزوجات جماعة ، ينكسر عليهن الربع ، ضربت سهامهن في أصل الفريضة ، فما انتهت إليه أخرجت منه السّهام صحاحا.

وان كانت فريضة اخوة أم ، واخوة أب ، وكان الفاضل عن فريضة إخوة الأم ، وهو اثنان ، ينكسر على من معهم من إخوة الأب ، فليضرب سهامهم المنكسر عليهم في أصل الفريضة ، فما بلغت ، أخرجت منه السهام صحاحا كأنهم كانوا أربعة متساوين ، أو أخا وأختين ، فسهامهم أربعة ، تضرب في ثلاثة ، فتصير اثنى عشر سهما لإخوة الأم الثلث أربعة ، وتبقى ثمانية أسهم ، للأخ أربعة منها ، ولكل أخت سهمان ، ثم على هذا الحساب.

ومن ذلك فريضة الربع ، أصلها من أربعة ، لذي الربع حقه واحد ، والباقي لمشاركيه ان كانوا ثلاثة يتساوون أخذ كل واحد منهم سهما ، فان اختلفوا فزادوا أو نقصوا ، ضربت سهامهم في أصل الفريضة ، فما انتهت إليه أخرجت منه السهام صحاحا ، مثال ذلك ثلاثة بنين ، وبنتان مع زوج ، أو ثلاثة اخوة لأب ، وأختان مع زوجة فسهام كل مع ذي الربع ثمانية ، تضرب في أصل الفريضة ، وهي أربعة ، فتصير اثنين وثلاثين سهما ، لذي الربع ثمانية أسهم ، ولكل ذكر من الولد أو الاخوة ستة أسهم ، ولكل أنثى ثلاثة أسهم ، ثم على هذا يجرى الحكم في حساب سهام جميع من يرث معه ، ذو الربع ومن ذلك فريضة السدس ، وأصلها من ستة ،

ص: 315

لذي السدس سهم ، ولمشاركيه ان كانوا خمسة ، يتساوون لكل واحد سهم ، وان كانوا أخوين لأب ، وأختا ، أو ابنين وبنتا ، فلكل ذكر سهمان ، وللأنثى سهم ، وان زادت السهام عليهم أو نقصت ، ضربت سهامهم في أصل الفريضة ، فما بلغت ، أخرجت منه السّهام صحاحا.

مثال ذلك ثلاثة اخوة لأب ، واربع أخوات له ، مع أخ لأم ، أو ثلاثة بنين واربع بنات ، مع أحد الأبوين ، فسهامهم عشرة ، تضرب في الأصل فيصير ستّين سهما ، لذي السّدس عشرة أسهم ، ولكل واحد من الذكور عشرة أسهم ، ولكل أنثى خمسة أسهم ، ثم على هذا يجرى حساب هذه الفريضة بالغا ما بلغ أهلها.

ومن ذلك فريضة الثمن ، وأصلها من ثمانية ، لذي الثمن واحد ، ويبقى سبعة ، فإن كان مشاركوه ممن تصحّ قسمتها عليهم صحاحا ، قسمت ، وان انكسرت عليهم ، ضربت سهامهم في أصل الفريضة ، فما بلغت أخرجت السّهام منه صحاحا.

مثال ذلك خمس بنين ، أو ابنان وبنت ، أو ابن وثلاث بنات ، سهامهم خمسة ، تضرب في الفريضة ، وهي ثمانية ، فيصير أربعين سهما ، لذي الثمن خمسة ، ويبقى خمسة وثلاثون سهما لكل واحد من البنين الخمسة سبعة أسهم ، ولكل واحد من الابنين مع البنت أربعة عشر سهما ، وللبنت سبعة أسهم ، وللابن أربعة عشر سهما ، ولكل بنت من الثلاث سبعة أسهم ، ثم على هذا الحساب ، تجري القسمة في هذه الفريضة بالغا ما بلغت سهام أهلها.

فإن اجتمع في الفريضة ربع وسدس ، وهي فريضة الزّوجة مع واحد الاخوة من الام ، واخوة الأب ، فأصلها من اثنى عشر ، للزوجة ثلاثة ، ولأخ الأم سهمان تبقى سبعة أسهم لكلالة الأب ، فإن أمكنت قسمتها عليهم صحاحا ، والّا ضربت سهامهم في أصل الفريضة ، فما بلغت ، أخرجت منه السّهام صحاحا ، وكذلك القول في فريضة إخوة الأم والزوجة أو الزوج ، عملها كالأول ، فإن كان ما يستحقه كل واحد من الكلالتين ينكسر عليهم ، ضربت سهام كلّ واحد من أهل الكلالتين في سهام الأخرى ، فما بلغ ضرب في أصل الفريضة ، فما بلغ أخرجت منه السهام صحاحا ، فان كانت في الفريضة ذو سهام مسمّاة ، وردّ ، ينكسر كزوج وأحد الأبوين وبنت ، فاصل الفريضة من

ص: 316

اثنى عشر للزوج الربع ، ثلاثة ، ولأحد الأبوين السدس سهمان ، وللبنت النصف ستة أسهم ، يبقى سهم ينكسر في الرد على البنت والأب ، فالوجه في ذلك ان تضرب سهامهما وهي أربعة في أصل الفريضة وهي اثنى عشر فيصير ثمانية وأربعين سهما ، للزوج الربع اثنى عشر سهما ، ولأحد الأبوين السدس ، ثمانية أسهم ، وللبنت النصف أربعة وعشرون سهما ، ويبقي أربعة أسهم ، للبنت ثلاثة أسهم ، ولأحد الأبوين سهم ، ثم على هذا الوجه يجرى حكم حساب جميع الفرائض فليعمل بحسبه واستقصاء مسائل جميع الفرائض في القسمة ، وما يتفرع منها ، ويتناتج ، يطول ، وفيما ذكرناه كفاية وبلغة ، ومقنع لمن فهمه وتدبّره وتأمّله ثم الجزء الخامس من كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى ويتلوه في الجزء السادس كتاب الحدود والديات والجنايات إن شاء اللّه تعالى (1).

ص: 317


1- في نسخة الأصل هنا عبارة لكاتبها تحكي عن قدمة النسخة وإليك نصّها : « وفرغ من نسخه كاتبه أبو الحسين جعفر بن على بن جعفر بن عبد اللّه بن حبشي في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وستمائة بالمشهد المقدس الكاظمين مقابر قريش سلام اللّه على ساكنيه ، حامدا اللّه تعالى ومصلّيا على رسوله محمّد النبي المصطفى وآله الطيبين الطاهرين والحمد لله ربّ العالمين ».

ص: 318

كتاب الدّيات والجنايات

اشارة

ص: 319

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كتاب الدّيات والجنايات

قال اللّه تعالى « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » (1) ، فذكر اللّه تعالى في هذه الآية ديتين وثلاث كفارات.

ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الإسلام ، فقال « وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ».

وذكر الكفارة دون الدية ، بقتل المؤمن في دار الحرب في صفّ المشركين ، إذا حضر معهم الصّف ، فقتله مسلم ، ففيه الكفارة دون الدية ، فقال - وان كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة » لأن قوله وإن كان كناية عن المؤمن الذي تقدم ذكره ، وقوله - من قوم - معناه في قوم ، لان حروف الصفات تقوم بعضها مقام بعض على قول بعض أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مسائل خلافه (2) معتمدا على قوله تعالى ، « فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » ولم يذكر الدية وتمسّك أيضا بأن الأصل براءة الذّمة.

والذي يقوى في نفسي ، ويقتضيه أصول مذهبنا ، ان عليه ، الدية والكفارة معا ، لقوله عليه السلام المجمع عليه - لا يطل دم امرئ مسلم (3) ، وقوله عليه السلام في

ص: 320


1- سورة النساء ، الآية 92.
2- الخلاف ، كتاب كفارة القتل ، مسألة 3.
3- الوسائل ، الباب 29 ، من أبواب القصاص في النفس ، ح 1 ، الّا انّ لفظ الحديث لا يبطل.

النفس مائة ، من الإبل (1) ، وهذه نفس ، والدية وان لم تذكر في الآية ، فقد علمناها بدليل آخر ، وهو قوله عليه السلام - لا يطل دم امرئ مسلم - وفي النفس مائة من الإبل.

والأصل فقد انتقلنا عنه بدليل الشرع ، وأيضا فإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، لم يخالف منهم أحد في ذلك ، ولا أودعه كتابا له ما خلا شيخنا أبا جعفر ، وإذا تعين المخالف في المسألة ، لا يعتد بخلافه.

وما اختاره شيخنا في مسائل خلافه ، مذهب بعض المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ولم يرد خبر عنهم عليهم السلام يعضد ما اختاره ، ولا انعقد لهم إجماع ، ولهذا ما استدل رحمه اللّه على ما ذهب إليه بإجماع الفرقة ولا بأخبارهم ، لأنهما معدومان (2) ، فثبت ما اخترناه ، وذهبنا اليه ، وقويناه.

ثم ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين ، فقال « وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ».

وعند المخالف ان ذلك كناية عن الذمي في دار الإسلام ، وما قلناه أليق بسياق الآية ، لان الكنايات في كان كلها عن المؤمن ، فلا ينبغي ان تصرّفها الى غيره بلا دليل.

فصل في أقسام القتل وما يجب به من الديات

القتل على ثلاثة أضرب ، عمد محض ، وهو ان يكون عامدا الى قتله بآلة تقتل غالبا ، كالسيف ، والسكين ، واللّت ، والحجر الثقيل ، عامدا في قصده ، وهو ان يقصد قتله بذلك ، فمتى كان عامدا في قصده ، عامدا في فعله ، فهو العمد المحض.

والثاني خطأ محض ، وهو ما لم يشبه شيئا من العمد ، بان يكون مخطئا في فعله ، مخطئا في قصده ، مثل ان يرمى طائرا فيصيب إنسانا ، فقد أخطأ في الأمرين معا.

ص: 321


1- مستدرك الوسائل ، الباب 1 من أبواب ديات النفس ، ح 1 ، بزيادة المؤمنة بعد النفس.
2- ج. ل. مفقودان.

الثالث عمد الخطأ ، أو شبيه العمد ، والمعنى واحد ، وهو ان يكون عامدا في فعله ، مخطئا في قصده.

فامّا عامد في فعله ، فهو ان يعمد إلى ضربه بآلة لا تقتل غالبا ، كالسوط ، والعصي الخفيفة.

والخطأ في القصد ، ان يكون قصده تأديبه وزجره وتعليمه ، لكنه مات منه ، فهو عامد في فعله ، مخطئ في قصده.

فاما الديات فتقسم ثلاثة أقسام أيضا بانقسام القتل ، مغلظة في السن والاستيفاء.

فالعمد المحض مائة من مسان الإبل على أرباب الإبل تستأدى في سنة واحدة من مال القاتل ، دون عاقلته بعد التراضي من القاتل وأولياء المقتول ، لأن عندنا موجب القتل العمد المحض ، القود ، دون الدية.

الثانية مخففة من وجهين السّن والاستيفاء ، فالسن عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن لبون ، ذكر ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة.

والاستيفاء ان تكون مؤجلة ثلاث سنين ، كل رأس حول ثلثها ، على العاقلة خاصة.

وهي كل دية وجبت بالخطإ المحض ، ولا ترجع العاقلة بها على القاتل ، سواء كان في حال الأداء موسرا أو معسرا.

وذهب شيخنا المفيد ، الى ان العاقلة ترجع بها على القاتل (1).

وهذا خلاف إجماع الأمة.

الثالث مغلظة من وجه مخفّفة من وجه (2) فالتغليظ بالسن على ما قلناه في العمد ، والتخفيف في الأصل عندنا ، تستأدى في سنتين من مال القاتل خاصّة.

قد ذكرنا ان القتل ثلاثة أقسام ، عمد محض ، وخطأ محض ، وخطأ شبيه العمد ، وهكذا الجناية على الأطراف تنقسم هذه الأقسام.

ص: 322


1- في المقنعة ، باب البيّنات على القتل ص 737.
2- ج. ليس فيه عبارة « مخففة من وجه ».

قد ذكرنا ان الدية تغلظ في العمد المحض ، وعمد الخطأ ، وتخفف في الخطأ المحض ، فهذه مخففة ابدا الّا في موضعين ، المكان والزمان ، فالمكان الحرم ، والزمان الأشهر الحرم ، فعندنا انها تغلظ ، بان توجب دية وثلثا ، ولم يذكر أصحابنا التغليظ إلّا في النفس ، دون قطع الأطراف.

عندنا ان كانت العاقلة من غير أهل البلد ، أخذ منهم ما هم من أهله ، لأن الدية عندنا أما مائة من الإبل أخماسا (1) وأرباعا (2) روى ذلك أجمع ، (3) ، أو مأتان من البقر ، أو ألف من الغنم ، أو ألف دينار ، أو عشرة ألف (4) (5) درهم أو مائتا حلة ، والحلة إزار ، ورداء ولا تسمّى حلة حتى تكون ثوبين اثنين ، من برود اليمن ، أو نجران.

فعلى هذا التحرير تكون الدية على أصحاب الحلل ، أربعمائة ثوب ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

فكل واحد من هذه الأجناس الستة ، أصل في نفسه ، وليس بعضه بدلا عن بعض ، هذا إذا كانت على العاقلة.

فاما ان كانت على القاتل ، وهو إذا قتل عمدا ، أو اعترف بالخطإ ، أو كان شبيه العمد عندنا ، فالحكم فيه كالحكم في العاقلة سواء ، عندنا.

إذا أوضحه موضحتين ، ففي كل واحدة منهما خمس من الإبل ، لقوله عليه السلام في الموضحة خمس من الإبل (6) ، ولقوله وفي المواضح خمس خمس (7) ، فان عاد الجاني فخرق ما بينهما ، حتى صارا واحدة ففيها أرش واحدة ، لأنه صيرهما واحدة بفعله ، كما لو أوضحه ابتداء به ، لان فعل الواحد يبنى بعضه على بعض ، بدليل انه

ص: 323


1- لم نتحقق نصّا يدل عليه وفي الجواهر ج 43 ، ص 23 ، وامّا ما عن المبسوط والسرائر - عشرون بنت مخاض وعشرون ابن لبون وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة وعشرون جذعة - فلم نجد له شاهدا فيما وصل إلينا من النصوص.
2- ج. رباعا.
3- الوسائل الباب 2 من أبواب ديات النفس ، ح 1 - 10.
4- ج : عشرة آلاف.
5- الوسائل ، الباب 1 من أبواب ديات النفس ، ح 1 - 4 - 9.
6- الوسائل ، الباب 2 من أبواب ديات الشجاج والجراح ، ح 4 - 5 - 6 - 10 - 12 - 16 - 18.
7- سنن ابن ماجة ، باب الموضحة الرقم 2655 ، ج 2 ، ص 886.

لو قطع يده ورجله ، ثم عاد فقتله ، فالدية واحدة ، لأن الجاني واحد.

قد قلنا ان قتل العمد المحض موجبة عندنا القود دون الدية بشروط.

منها ان يكون غير مستحق بلا خلاف.

ومنها ان يكون القاتل بالغا كامل العقل ، فان حكم عمد من ليست هذه حاله ، حكم الخطأ لقوله عليه السلام المجمع عليه - رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه (1).

ومنها ان لا يكون المقتول مجنونا بلا خلاف بين أصحابنا.

ومنها ان لا يكون صغيرا على خلاف بيننا فيه ، الا ان الأظهر بين أصحابنا والمعمول عليه عند المحصلين منهم ، الاستقادة به ، لان ظاهر القرآن يقتضي ذلك.

ومنها ان لا يكون القاتل والد المقتول ، لقوله عليه السلام ، لا يقتل والد بولده (2).

إلا في موضع واحد ، وهو الموضع الذي يتحتم القتل عليه لأجل المحاربة ، فيقتل بقتل ولده لأجل المحاربة الحتم ، لا لأجل الاستقادة ، بدليل ان ولى من قتله المحارب لو عفا لوجب على السلطان قتله حدا للمحاربة.

ومنها ان لا يكون القاتل حرا والمقتول عبدا ، سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره.

ومنها ان لا يكون القاتل مسلما والمقتول كافرا ، سواء كان معاهدا أو مستأمنا أو حربيا ، لقوله تعالى « وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (3) ولقوله عليه السلام لا يقتل مسلم بكافر (4).

ويقتل الحر بالحرّة ، بشرط ان يؤدي أولياؤها إلى ورثته الفاضل عن ديتها من ديته ، وهو النّصف ، بدليل إجماع أصحابنا.

وقوله تعالى ( وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ) (5) - لا يدل على ان الذكر لا يقتل بالأنثى ، الا من

ص: 324


1- الخصال ، ج 1 ص 93 ، ح 40.
2- الوسائل الباب 32 من أبواب القصاص في النفس ، ح 4 - 8 - 11.
3- سورة النساء ، الآية 141.
4- لا يوجد بعينه في مصادرنا وبمضمونه روايات الباب 47 من أبواب القصاص في النفس من كتاب الوسائل وفي المستدرك في الباب 41 من هذا الباب لا يقتل مؤمن بكافر ، ح 2.
5- سورة البقرة ، الآية 178.

حيث دليل الخطاب ، وذلك متروك لدليل غيره ، ودليل الخطاب عند المحققين من أصحابنا ، غير معمول به ، ومن عمل به ، يقول إنما أخرجنا من ذلك قتله بها مع الشرط الذي ذكرناه ، بدليل.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : العمد المحض ، هو كل من قتل غيره وكان بالغا كامل العقل ، بأي شي ء كان ، بحديد ، أو خشب ، أو حجر ، أو سم ، أو خنق ، وما أشبه ذلك ، إذا كان قاصدا بذلك القتل ، ويكون فعله مما قد جرت العادة بحصول الموت عنده ، حرا كان أو عبدا ، مسلما كان أو كافرا ، ذكرا كان أو أنثى ويجب فيه القود أو الدية على ما نبينه فيما بعد (1).

قوله رحمه اللّه أو الدية ليس الولي بالخيار بين القود وأخذ الدية ، وانما مراده مع تراضى القاتل وولى المقتول ، لا انّه إذا أبى واحد منهما اجبر عليه.

ثمّ قال رحمه اللّه ومتى كان القاتل غير بالغ وحده عشر سنين فصاعدا ، أو يكون مع بلوغه زائل العقل ، اما ان يكون مجنونا ، أو مؤوفا ، فان قتلهما وان كان عمدا ، فحكمه حكم الخطأ المحض.

قوله رحمه اللّه ومتى كان القاتل غير بالغ ، وحده عشر سنين. رواية (2) شاذة ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ، ولظاهر القرآن ، والسّنة ، لقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ، ومن بلغ عشر سنين من الصبيان الذكران ، ما احتلم ، فمن استقاد منه ، وقتله بمن قتله ، فما رفع القلم عنه.

وشيخنا أبو جعفر فقد رجع عن ذلك في مبسوطة (3) ، ومسائل خلافه (4).

وقاتل العمد المحض ، لا يجوز ان يستقاد منه الّا بالحديد ، وان كان هو قد قتل

ص: 325


1- النهاية كتاب الديات ، باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- لا يوجد في المصادر الحديثية الّا الشيخ ( قده ) أورده في النهاية كتاب الديات ، باب أقسام القتل.
3- المبسوط ، ج 7 ، فصل في صفة قتل العمد وجراح العمد ، ص 50.
4- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 39.

صاحبه بغير الحديد من الضرب ، أو الرمي ، وما أشبه ذلك.

ولا يمكن أيضا من التمثيل به ، ولا تعذيبه ، ولا تقطيع أعضائه ، وان كان فعل ذلك هو بصاحبه ، لنهيه عليه السلام عن المثلة (1) ، بل يؤمر بضرب رقبته ، وليس له أكثر من ذلك ، الّا ان يكون فرق الضرب عليه ، فقطع عضوا منه ، ثم بعد ذلك قتله ، على ما نبينه فيما بعد.

وليس في قتل العمد الدية (2) ، الّا ان يبذل القاتل من نفسه الدية ، ويختار ذلك أولياء المقتول ، فان لم يبذل القاتل من نفسه ذلك لم يكن لأولياء المقتول المطالبة بها ، وليس لهم إلّا نفسه على ما قدمناه ، ومتى بذل الدية ، ولم يأخذها أولياء المقتول وطلبوا القود ، كان لهم أيضا ذلك.

فإن فادى القاتل نفسه بمال جزيل ، أضعاف أضعاف الدية الواجبة ، ورضى به أولياء المقتول ، كان ذلك أيضا جائزا.

فإن اختلف أولياء المقتول ، فبعض يطلب القود ، وبعض يطلب الدية كان للذي يطلب القود ، القود إذا رد على الذي طلب الدية ما له منها خاصة ، ثم يقتل القاتل.

وكذلك ان اختلفوا فبعض عفا عن القاتل ، وبعض طلب القود ، وبعض يطلب الدية ، كان للذي يطلب القود ان يقتل القاتل إذا ردّ على الذي يطلب الدية ماله منها من ماله خاصة ، وسهم من عفا. ما يرده على القاتل ، ثم يقتل القاتل.

وكذلك إذا اختلفوا فبعض عفا عن القاتل ، وبعض طلب القود ، أو الدية فإنّ الذي طلب القود ، يجب عليه أن يرد على القاتل ، سهم من عفا عنه ، ثم يقتله ، وإن طلب الدية ، كان القاتل مخيرا بين أن يعطيه ذلك بمقدار ما يصيبه من الدية ، وبين ان لا يعطيه ذلك ، لأنا قد بينا ان موجب قتل العمد المحض القود دون الدية ، ولا يجب الدية عندنا ، الا برضى الجميع ، فكيف يجب على القاتل إعطاؤها

ص: 326


1- الوسائل ، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس ، ح 2 - 4 - 5.
2- ل. الّا القود.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وكذلك ان اختلفوا ، فبعض عفا عن القاتل ، وبعض طلب القود أو الدية ، فإن الذي طلب القود ، يجب عليه ان يرد على أولياء القاتل سهم من عفا عنه ، ثم يقتله ، وان يقتله ، وان طلب الدية وجب على القاتل ان يعطيه مقدار ما يصيبه من الدّية ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

قال محمّد بن إدريس ، لا حاجة بنا ان نردّ على أولياء القاتل ، بل على القاتل نفسه ، كما قدمناه ، لانه لا يمكن من قتله قبل تسليم المال ، لأنه رحمه اللّه قال يرد على أولياء القاتل سهم من عفا عنه ، ثم يقتله ، فإذا كان لا يقتله الّا بعد الرد ، فيكون الرد عليه ، دون أوليائه بغير خلاف.

واما قوله رحمه اللّه ، فان طلب الدية وجب على القاتل ان يعطيه مقدار ما يصيبه من الدية ، فقد قلنا ما عندنا فيه ، وأيضا فهذا ينقض علينا أصلنا المقرر ، لأنا بلا خلاف بيننا ، لا نخيّر ولى المقتول بين القود وأخذ الدية بل ما يستحق إلّا شيئا واحدا ، وهو القود على ما قدمناه فيما مضى والمخالف لنا يخيّره بين القود وأخذ الدية. وهذا لا يذهب أحد من أصحابنا اليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وأولياء المقتول ، هم الذين يرثون ديته ، سوى الزوج والزوجة.

وقد ذكرناهم في كتاب المواريث ، ويكون للجميع المطالبة بالقود ، ولهم المطالبة بالدية ، ولهم العفو على الاجتماع والانفراد ، ذكرا كان أو أنثى ، على الترتيب الذي رتبناه.

وإذا مات ولي الدم قام ولده مقامه في المطالبة بالدم ، والزوج والزوجة ليس لهما غير سهمهما من الدية ، ان قبلها أولياء المقتول ، أو العفو عنه بمقدار ما يصيبهما من الميراث ، وليس لهما المطالبة بالقود ، ومن ليس له من الدية شي ء ، من الاخوة والأخوات من الام ، ومن يتقرب من جهتها ، فليس لهم المطالبة بالدّم ولا الدّية (2).

ص: 327


1- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

وقال في مبسوطة ، واما الكلام في القصاص ، وهو إذا قتل عمدا محضا فإنه كالدية في الميراث يرثه من يرثها ، فالدية يرثها من يرث المال ، والقود يرثه من يرث الدية ، والمال معا ، هذا مذهب الأكثر ، وقال قوم يرثه العصبات من الرجال دون النساء ، وفيه خلاف ، والأقوى عندي الأول ، وان كان الثاني قد ذهب إليه جماعة من أصحابنا ، وذكرناه نحن في النهاية (1) ، ومختصر الفرائض (2) ، فأما الزّوج والزّوجة ، فلا خلاف بين أصحابنا انه لا حظ لهما في القصاص ، ولهما نصيبهما من الميراث من الدية ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، حرفا فحرفا (3).

قال محمد بن إدريس الذي أعوّل عليه ، وافتى به ، القول الذي قوّاه شيخنا في مبسوطة ، دون ما ذكره في نهايته ، لانه موافق لأصول مذهبنا ، يعضده ظاهر القرآن ، من قوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ » (4) فلا نرجع عن كتاب اللّه تعالى باخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، وهي أيضا معارضة بأخبار مثلها ، والإجماع فغير منعقد على ما ذكره في نهايته ، فإذا لم يكن على المسألة إجماع ، فالتمسك فيها بكتاب اللّه تعالى هو الواجب.

وذهب شيخنا في الجزء الثالث من الإستبصار ، الى ان النساء لا عفو لهن ولا قصاص (5).

وما ذكره في نهايته ومبسوطة هو الصحيح.

وإذا كان للمقتول أولياء صغار وأولياء كبار ، واختار الكبار الدية ، كان لهم حظهم منها ، فإذا بلغ الصغار كان لهم مطالبة القاتل بالقود ، بعد ان يردوا عليه ما اعطى الأولياء الكبار من الدية ، ولهم أيضا العفو عنه على كل حال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فإذا بلغ الصغار ، كان لهم مطالبة القاتل

ص: 328


1- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- مختصر الفرائض المطبوع ضمن الرسائل العشر ص 277.
3- المبسوط ، ج 7 فصل في صفة قتل العمد وجراح العمد ، ص 54.
4- سورة الأحزاب ، الآية 6.
5- الإستبصار ، ج 4 ، الباب 153 ، ص 262.

بقسطهم من الدية ، أو المطالبة له بالقود (1).

وقد قلنا ما عندنا في مثل قوله رحمه اللّه - كان لهم مطالبة القاتل بقسطهم من الدية.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، واى قسط لهم من الدية ، مع انا أجمعنا على ان قتل العمد المحض موجبه القود ، دون الدية ، بغير خلاف بيننا ، الّا ان يتراضى الجميع بالدية.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ودية العمد الف دينار جيادا ، إن كان القاتل من أصحاب الذهب ، أو عشرة آلاف درهم ان كان من أصحاب الورق جيادا ، أو مائة من مسان الإبل ، ان كان من أصحاب الإبل ، أو مائتا بقرة مسنة ، ان كان من أصحاب البقر ، أو ألف شاة وقد روى (2) الف كبش ، ان كان من أصحاب الغنم ، أو مائتا حلّة ان كان من أصحاب الحلل ، ويلزم دية العمد في مال القاتل خاصة ، ولا يؤخذ من غيره الّا ان يتبرّع إنسان بها عنه ، فان لم يكن له مال ، فليس لأولياء المقتول الّا نفسه (3).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، ليس لأولياء المقتول الأنفس القاتل عمدا ، سواء كان له مال ، أو لم يكن.

فما قاله رحمه اللّه ، يوهم ان الأولياء يخيرون بين الدية والمطالبة بها ، وبين القود ، وهذا خلاف مذهبنا.

ثم قال رحمه اللّه تمام الكلام في نهايته ، فاما ان يقيدوه بصاحبهم ، أو يعفوا عنه ، أو يمهلوه الى ان يوسع اللّه عليه (4) ثم قال ومتى هرب القاتل عمدا ولم يقدروا عليه الى ان مات ، أخذت الدية من ماله ، فان لم يكن له مال ، أخذت من الأقرب فالأقرب من أوليائه الذين يرثون

ص: 329


1- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- لا يوجد بعينه ويدل بمضمونه رواية من الباب 1 من أبواب ديات النفس في الوسائل.
3- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
4- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

ديته ، ولا يجوز مؤاخذتهم بها مع وجود القاتل (1).

قال محمّد بن إدريس هذا غير واضح ، لانّه خلاف الإجماع وظاهر الكتاب ، والمتواتر من الاخبار ، وأصول مذهبنا ، وهو ان موجب القتل العمد ، القود ، دون الدية ، على ما كررنا القول فيه بلا خلاف بيننا ، فإذا فات محله وهو الرقبة ، فقد سقط لا الى بدل ، وانتقاله الى المال الذي للميت ، أو الى مال أوليائه ، حكم شرعي يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، ولن يجده ابدا ، وهذه اخبار آحاد شواذ أوردها شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا لانه رجع عن هذا القول في مسائل خلافه وافتى بخلافه وهو الحق اليقين.

فقال مسألة إذا قتل رجل رجلا ، ووجب القود عليه ، فهلك القاتل قبل ان يستفاد منه ، سقط القصاص إلى الدية ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة يسقط القصاص لا الى بدل ، دليلنا قوله عليه السلام - لا يطل دم امرئ ، مسلم - (2) فلو أسقطناه لا الى بدل ، لأطلنا دمه ، ولو قلنا بقول أبي حنيفة لكان قويا ، لأن الدّية لا تثبت عندنا إلا بالتراضي بينهما ، وقد فات ذلك ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (3).

ويجب على القاتل العمد ، ان يتوب الى اللّه تعالى مما فعله ، وحدّ التوبة ان يسلم نفسه إلى أولياء المقتول ، فامّا ان يستقيدوا منه ، أو يعفوا عنه ، أو يقبلوا الدية ، أو يصالحهم على شي ء يرضون به عنه ، ثم يعزم بعد ذلك على ان لا يعود الى مثل ما فعل في المستقبل ، ويعتق بعد ذلك رقبة ، ويصوم شهرين متتابعين ، ويطعم ستين مسكينا ، فإذا فعل ذلك كان تائبا ، على ما رواه (4) أصحابنا ، هذا مع قدرته على كفارة الجمع المقدم ذكرها.

فإذا لم يقدر على شي ء منها ، أو على (5) بعضها ، فعله ولا شي ء عليه ، وصحت

ص: 330


1- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- الوسائل ، الباب 29 من أبواب القصاص في النفس ، ح 1.
3- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 50.
4- الوسائل ، الباب 28 من أبواب الكفارات.
5- ج. أو قدر على.

توبته أيضا ، وكان تائبا.

وانما يلزم هذه الكفارة من عفا عنه ، أو صالحه الأولياء على الدية ، وامّا إذا قتل فلا كفارة عليه ، لان من جملتها الصوم ، فإذا قتل من يصوم عنه.

وتصح توبته سواء قتل مؤمنا متعمدا على إيمانه ، أو الأمور الدنياوية على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، لأن التوبة موقوفة على الجسد ما دامت الحياة والعقل فيه ، وقوله تعالى « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » (2) الآية وقوله - يغفر الذنوب جميعا - (3) وقوله « غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ » (4).

فاما قوله تعالى - ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) - (5) فليس في ظاهرها انه تاب ، ويمكن العمل بها إذا لم يتب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى انه لا تقبل توبته ، ولا يختار التوبة ، ولا يوفق للتوبة ، معتمدا على اخبار آحاد (6) ، والإجماع فغير منعقد ، حتى يرجع في هذه المسألة اليه ، ويعوّل عليه.

ولا كفارة إلّا في قتل نفس المسلم ، أو من في حكمه.

ولا كفارة على قاتل اليهودي والنصراني ، ومن لا يقرّ بالشهادتين.

ولا كفارة على المجنون والصبي إذا كانا قاتلين ، لأنهما غير مكلّفين ، والخطاب من الحكيم يتناول المكلفين البالغين العاقلين.

فأما دية قتل الخطأ فإنها تلزم العاقلة ، وهي تلزم العصبات من الرجال ، سواء كان وارثا أو غير وارث ، الأقرب فالأقرب ، ويدخل فيها الولد والوالد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فأما دية قتل الخطأ ، فإنها تلزم العاقلة الذين يرثون دية القاتل ، ان لو قتل ، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئا على حال (7).

ص: 331


1- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الجراح ، ص 4.
2- سورة هود ، الآية 112.
3- سورة الزمر ، الآية 53.
4- سورة الغافر ، الآية 3.
5- سورة النساء ، الآية 93.
6- الوسائل ، الباب 9 من أبواب القصاص في النفس ، ح 1 - 5.
7- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

وقال في مسائل خلافه ، العاقلة كل عصبة خرجت عن الوالدين والمولودين ، وهم الاخوة وأبناؤهم إذا كانوا من جهة أب وأم ، أو من جهة أب ، والأعمام وأبناؤهم ، وأعمام الأب وأبناؤهم ، والموالي ، هذا أخر كلامه في مسائل الخلاف (1).

وهذا قول الشّافعي اختاره شيخنا في مسائل خلافه ، ولم يذكر في استدلاله إجماع طائفتنا ، ولا اخبارهم ، بل ذكر اخبار آحاد من طريق المخالف التي استدل بها الشافعي ، وباقي أصحابنا على خلاف شيخنا في ذلك ، فهو المنفرد بالقول.

وما ذكره في نهايته ، هو أخبارنا (2) ، وروايتنا ، ومن طريقنا.

وما يذهب إليه في المبسوط. ومسائل خلافه ، معظمه من فروع المخالفين ، بل إجماعنا منعقد على ان العاقلة ، جماعة الورّاث من الرجال ، دون من يتقرب بالأم ، فليلحظ ذلك ويتحقق.

وقد رجع شيخنا في جواب مسائل الحائريات ، فإنه سئل عما أودعه نهايته ، أن الأب إذا تبرّأ من ميراث ولده ، ومن ضمان جريرته ، صحيح أم لا؟ فقال الجواب لا يصحّ (3) انه ليس له التبري ، والشرع إذا حكم به لم ينفع التبري ، وثبت حكمه (4).

والرواية (5) بتبري الأب من جريرة الابن ، رواية شاذة ، فقد رجع كما تراه.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه الى ان الموسر من العاقلة ، عليه نصف دينار ، والمتوسط ربع دينار ، يوزع على الأقرب فالأقرب ، حتى تنفد العاقلة (6).

وهو مذهب الشافعي اختاره شيخنا ، والذي يقتضيه مذهبنا ، انه لا تقدير ولا توظيف على أحد منهم ، بل تؤخذ منهم على قدر أحوالهم ، حتى يستوفى النجم الذي هو ثلثها ، لان تقدير ذلك يحتاج الى دليل ، ولا أحد من أصحابنا ذهب الى تقدير ذلك ، فمن قدّره يحتاج الى دليل.

ص: 332


1- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 98.
2- ل. اختيارنا.
3- ج. الجواب الصحيح.
4- الوسائل العشر ، ص 288.
5- الوسائل ، الباب 7 من أبواب ميراث ولد الملاعنة ، ح 2 - 3.
6- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 105.

وشيخنا فقد رجع في مبسوطة عما ذكره في مسائل خلافه ، فقال في مبسوطة ، والذي يقتضيه مذهبنا انه لا يقدر ذلك ، بل يقسم الامام على ما يراه من حاله من الغنى والفقر ، وان يفرقه على القريب والبعيد ، وان قلنا يقدّم الأولى فالأولى كان قويا ، لقوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » (1) وذلك عام هذا آخر كلامه رحمه اللّه (2).

والذي يتحمل العقل عن القاتل من العاقلة ، من كان منهم غنيا أو متجملا ، واما الفقير فلا يتحمل شيئا منها ، ويعتبر الغنى والفقر حين المطالبة والاستيفاء ، وهو عند حئول الحول ، ولا يعتبر ذلك قبل المطالبة ، لأنه يحل عند انقضاء كل حول منها ثلثها.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، ان العاقلة ترجع بالدّية على القاتل (3) وهذا خلاف إجماع المسلمين قاطبة ، ولانه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، وقال بعض أصحابنا ان العاقلة ترجع على القاتل بالدية ، ولست اعرف به نصا ولا قولا لأحد (4).

اختلفوا في معنى تسمية أهل العقل بأنهم عاقلة.

منهم من قال العقل اسم للدية وعبارة عنها ، وسمى أهل العقل عاقلة ، لتحملهم ذلك ، يقال عقلت عنه إذا تحملتها عنه ، وعقلت له إذا دفعت الدية اليه.

ومنهم من قال انما سميت بالعاقلة ، لأنها مانعة ، والعقل المنع ، وذلك ان العشيرة كانت تمنع عن القاتل بالسيف في الجاهليّة ، فلما جاء الإسلام منعت عنه بالمال ، فلهذا سميت عاقلة.

وقال أهل اللغة العقل الشد ، ولهذا يقال عقلت البعير إذا ثنيت ركبته وشددتها ، وسمى ذلك الحبل عقالا ، فسمّي أهل العقل عاقلة ، لأنها تعقل الإبل بفناء وليّ المقتول

ص: 333


1- سورة الأنفال ، الآية 75.
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 178.
3- المقنعة ، باب البينات على القتل ص 737.
4- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 174.

والمستحق للدية ، يقال عقل يعقل عقلا ، فهو عاقل ، وجمع العاقل عاقلة ، وجمع العاقلة عواقل ، والمعاقل جمع الديات ، وايّ هذه المعاني كان فلا يخرج ان معناه هو الذي يضمن الدية ، ويبذلها لولي المقتول.

واجمع المسلمون على ان العاقلة تحمل دية الخطأ المحض ، إلّا الأصمّ فإنه قال على القاتل ، وبه قالت الخوارج.

والعاقلة لا تعقل البهائم.

ولا تعقل الّا بنى أدم في قتل الخطأ المحض ، على ما قدمناه ، إذا قامت به البينة العدول ، ولا يعقل إقرارا ولا صلحا.

وإذا حال الحول على موسر من أهل العقل ، توجهت المطالبة عليه ، فان مات بعد هذا لم يسقط بوفاته ، بل يتعلق بتركته كالدين.

الدية الناقصة ، مثل دية المرأة ، ودية اليهودي والنصراني ، والمجوسي ، ودية الجنين ، تلزم أيضا في ثلاث سنين ، كل سنة ثلثها.

والقدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني ، هو قدر جنايته ، قليلا كان أو كثيرا.

وذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته ، إلى انها لا تحمل ما دون الموضحة (1).

الا انه رجع في مسائل خلافه ، فقال مسألة : القدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني ، هو قدر جنايته ، قليلا كان أو كثيرا ، ثم قال وروى (2) في بعض أخبارنا انها لا تحمل إلا نصف العشر (3) أرش الموضحة فما فوقها ، وما نقص عنه ففي مال الجاني ، ثم قال دليلنا عموم الأخبار التي وردت في ان الدية على العاقلة ، ولم يفصلوا (4).

قال محمّد بن إدريس ، ما قاله وذهب إليه في مسائل خلافه ، هو الحق اليقين ، والإجماع منعقد عليه ، ولا يرجع عن ذلك الى رواية شاذة لا توجب علما ولا عملا.

ص: 334


1- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- الوسائل ، الباب 5 من أبواب العاقلة ، الحديث 1.
3- وفي المصدر ، الا نصف العشر الموضحة.
4- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 106.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وقال بعض أصحابنا انّ العاقلة ترجع بها على القاتل ، ان كان له مال ، فان لم يكن له مال ، فلا شي ء للعاقلة عليه ، ومتى كان للقاتل مال ولم يكن للعاقلة شي ء ، ألزم في ماله خاصة الدية (1).

قال محمّد بن إدريس هذا غير مستقيم ، لانه خلاف إجماع المسلمين على ما قدمناه ، لان القاتل لا يدخل في العقل ، ولا يعقل عن نفسه ابدا.

ثم قال شيخنا أبو جعفر أيضا في نهايته ، ومتى لم يكن للقاتل خطأ عاقلة ، ولا من يضمن جريرته من مولى نعمة ، أو مولى تضمن جريرة ، ولا له مال ، وجبت الدية على بيت مال المسلمين (2).

وهذا أيضا غير مستقيم ، لانه خلاف إجماع أصحابنا ، بل تجب الدية على مولاه الذي يرثه ، وهو امام المسلمين ، في ماله وبيت ماله ، دون بيت مال المسلمين ، لانه ضامن جريرته وحدثه ، ووارث تركته ، وهذا إجماع منّا لا خلاف فيه ، وقد أحكمنا ذلك وحررناه في باب الولاء (3) فلا حاجة بنا إلى إعادته.

وقال شيخنا في نهايته ، وامّا دية الخطأ شبيه العمد ، فإنها تلزم القاتل نفسه في ماله خاصّة ، فان لم يكن له مال ، استسعي فيها ، أو يكون في ذمته الى ان يوسع اللّه عليه ، فان مات أو هرب ، أخذ أولى الناس اليه بها ممن يرث ديته ، فان لم يكن له أحد أخذت من بيت المال (4).

قال محمّد بن إدريس هذا غير واضح ، لانه خلاف الإجماع ، وضد ما يقتضيه أصول مذهبنا ، لأن الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها يحتاج الى دليل ، والإجماع حاصل على ان الأولياء وبيت المال لا تعقل الا قتل الخطأ المحض ، فاما الخطأ شبيه العمد فعندنا بغير خلاف بيننا لا تعقله العاقلة ، ولا تحمله ، بل بحب الدية على القاتل نفسه ، فمن قال بموته ، أو هربه ، تصير على غيره يحتاج الى دليل قاهر ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

ص: 335


1- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
2- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.
3- في ص 266.
4- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

وعلى قاتل الخطأ المحض والخطأ شبيه العمد ، بعد إعطاء الدّية الكفارة ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فان لم يجد كان عليه صيام شهرين متتابعين ، فان لم يستطع اطعم ستين مسكينا ، لأنّها مرتبة ، وقد ذكرناها فيما تقدم (1) ، فان لم يقدر على ذلك أيضا ، تصدق بما استطاع ، أو صام ما قدر عليه.

وقال شيخنا في نهايته ، ومن قتل عمدا ، وليس له ولي ، كان الامام ولي دمه ، ان شاء قتل قاتله ، وان شاء أخذ الدية وتركها في بيت المال ، وليس له ان يعفو ، لان ديته لبيت المال ، كما ان جنايته على بيت المال (2).

قال محمّد بن إدريس ، هذا غير صحيح ولا مستقيم ، بل الامام ولي المقتول المذكور ، ان شاء قتل ، وان شاء عفا ، فإن رضي هو والقاتل واصطلحا على الدية ، فإنها تكون له ، دون بيت مال المسلمين ، لأن الدية عندنا يرثها من يرث المال والتركة ، سوى كلالة الأم ، فإن كلالة الأم لا ترث الدية ولا القصاص ولا القود ، بغير خلاف ، وتركته لو مات كانت لإمام المسلمين ، بغير خلاف بيننا ، ولان جنايته على الإمام ، لأنه عاقلته.

وشيخنا رجع في غير نهايته من كتبه عن هذه الرواية الشاذة ، ان كانت رويت ، فقد أوردها في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، فان روى ذلك ، فقد ورد للتقية ، لأنه مذهب بعض المخالفين.

ومن قتل خطأ أو شبيه عمد ، ولم يكن له أحد ، كان للإمام ان يأخذ ديته ، ليس له أكثر من ذلك.

ومن عفا عن القتل فليس له بعد ذلك المطالبة به ، فان قتل بعد ذلك القاتل ، كان ظالما متعديا ، وقيد بالقاتل.

ومن قبل الدية ، ثم قتل القاتل ، كان كذلك ، وكان عليه القود.

وإذا قتل الأب ولده خطأ كانت ديته على عاقلته ، يأخذها منهم الورثة الذين

ص: 336


1- في ص 69.
2- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

لا يعقلون ، دون الأب القاتل ، لأنا قد بينا ان القاتل ان كان عمدا لا يرث من التركة ، ولا من الدية شيئا ، وان كان خطأ فإنه أيضا لا يرث من الدية شيئا على ما بيناه (1) ، ومتى لم يكن له وارث غير الأب ممن لا يحمل العقل ، فلا دية له على العاقلة على حال ، لأنهم يؤدّون إلى أنفسهم لأنهم حينئذ ورثته ، فلا قائدة ، ولا معنى في ذلك.

فان قتله عمدا أو شبيه عمد ، كانت الدية عليه في ماله خاصة ، ولا يقتل به على وجه قودا ، لأجل قتله إيّاه فحسب ، الا ان يكون محاربا قتل ولده ، فيقتل الوالد حدا لا قودا ، لأجل المحاربة ، لأن القتل هاهنا يتحتّم على القاتل كائنا من كان ، لقوله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا » (2) وقد حررنا ذلك فيما تقدم (3).

وتكون الدية لورثته خاصة ، فان لم يكن له وارث غير الأب القاتل ، كانت الدية عليه لإمام المسلمين.

وقال شيخنا أبو جعفر لبيت المال ، وأطلق (4).

وقد اعتذرنا له فيما مضى (5) ، وقلنا انه قال في المبسوط إذا قلت بيت المال ، فمقصودي بيت مال الامام.

وإذا قتل الابن أباه عمدا ، قتل به إن كانا ممن يجري بينهما القود على ما نبيّنه ان شاء اللّه تعالى (6).

فان قتله خطأ ، كانت الدية على عاقلته ، ولم يكن له منها شي ء على ما بيّناه.

فان لم يكن للأب من يرثه إلا العاقلة ، فلا شي ء لها على أنفسها.

وإذا قتل الولد امه ، أو قتلت الأم ولدها عمدا محضا ، قتل كل واحد منهما بصاحبه ، وان قتله خطأ ، كانت الدية على عاقلته على ما بيّناه ، ولا يرث هو شيئا منها على ما بينا القول فيه وشرحناه.

ص: 337


1- في ص 274.
2- سورة المائدة ، الآية 33.
3- في ص 324.
4- النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود.
5- لم نتحقّقه.
6- لم نتحقّقه.

باب البيّنات على القتل وعلى قطع الأعضاء

الحكم في القتل يثبت بشيئين ، أحدهما قيام البيّنة ، وهما شاهدان عدلان في قتل العمد المحض الموجب للقود على القاتل ، بأنه قتل.

فاما قتل الخطأ المحض ، أو الخطأ شبيه العمد ، فشهادة شاهد واحد ، ويمين المدعي ، لانه يوجب المال دون القود ، وفي المال أو المقصود منه المال ، يقبل شهادة واحد ويمين المدعي.

والثاني إقراره على نفسه ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، أو شبيه العمد.

فان لم يكن لأولياء المقتول نفسان يشهدان بذلك ، وكان معهم لوث بفتح اللام وتسكين الواو ، وهو التهمة الظاهرة ، لأن اللّوث القوّة ، يقال ناقة ذات لوث ، اى قوّة ، وكأنّه قوة الظن كان عليهم القسامة ، خمسون رجلا منهم ، يقسمون باللّه تعالى ، ان المدعى عليه قتل صاحبهم ، ان كان القتل عمدا ، وان كان خطأ خمسة وعشرون رجلا ، يقسمون مثل ذلك ، ولا يراعى فيهم العدالة.

والأظهر عندنا ان القسامة خمسون رجلا ، يقسمون خمسين يمينا ، سواء كان القتل عمدا محضا أو خطأ محضا أو خطأ شبيه العمد.

وهذا مذهب شيخنا المفيد محمّد بن النعمان ، قد ذكره في مقنعته (1).

والأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر (2) فإنه فصّل ذلك.

وما اخترناه عليه إجماع المسلمين.

واللوث أيضا عندنا يراعى في الأعضاء والأطراف ، لأن القسامة لا تكون إلّا إذا كان لوث.

وشيخنا ذهب في مبسوطة الى ان الدعوى إذا كانت دون النفس فلا يراعى فيها ان يكون معه لوث (3).

ص: 338


1- المقنعة ، باب البيّنات على القتل ص 736.
2- الخلاف كتاب القسامة مسألة 4.
3- المبسوط ، ج 7 ، كتاب القسامة ، ص 223.

وهذا قول بعض المخالفين ، ذكره في هذا الكتاب ، لأنّ معظمه فروعهم.

والقسامة عند الفقهاء كثرة اليمين ، وسميت قسامة ، لتكثير اليمين فيها.

وقال أهل اللغة القسامة عبارة عن أسماء الحالفين من أولياء المقتول ، فعبر بالمصدر عنهم ، وأقيم المصدر مقامهم ، يقال أقسمت اقسم أقساما ، وقسامة ، وذلك من القسم الذي هو اليمين.

فامّا إذا قامت البيّنة بشهادة غيرهم ، فليس فيه أكثر من شهادة نفسين عدلين ، إذا كان القتل عمدا ، أو شهادة عدل ويمين المدعي إذا كان القتل خطأ ، لأنّ المقصود من هذا القتل المال دون القود.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فاما إذا قامت البيّنة بشهادة غيرهم ، فليس فيه أكثر من شهادة نفسين عدلين ، ايّ ضرب كان من أنواع القتل ، لا يختلف الحكم فيه (1).

وليس إطلاقه رحمه اللّه ذلك ، يدل على ان في قتل الخطأ لا يقبل إلا شهادة عدلين ، ولا تقبل شهادة عدل ويمين المدعي ، الّا من حيث دليل الخطاب ، وذلك عندنا غير معمول عليه ، وان كان قد أفصح وفصّل وذهب في مبسوطة (2) ، ومسائل خلافه (3) ، الى ما اخترناه ، وذهبنا اليه.

وقد قلنا ان القسامة انما تكون مع اللوث الذي هو قوة الظن ، وهو التهمة الظاهرة ، ولا تكون القسامة مع ارتفاعها ، فان لم يكن لوث ولا تهمة ظاهرة ، فان المدعى عليه ، لا يلزمه سوى يمين واحدة ، بأنّه ما قتل المقتول ، ولا تجب اليمين هاهنا على المدعي ، مثل سائر الدعاوي فليلحظ ذلك.

ومتى أقاموا نفسين تشهدان لهم بالقتل أو أقاموا القسامة على ما قدّمناه ، وجب على المدعى عليه إن كان القتل عمدا القود ، الّا أن يتراضيا على أخذ الدية حسب ما قدّمناه ، وان كان القتل خطأ محضا أو شبيه العمد ، وجب عليه أو على عصبته الدية على ما بيّناه.

ص: 339


1- النهاية ، كتاب الديات باب البيّنات على القتل.
2- المبسوط ج 6 كتاب القسامة ص 211.
3- الخلاف كتاب الشهادات مسألة 23.

ومتى لم يكن لأولياء المقتول من يشهد لهم من غيرهم ، ولا لهم قسامة من أنفسهم ، وكان هناك لوث ، كان على المدعى عليه ان يجي ء بخمسين ، يحلفون أنه بري ء مما ادعي عليه ، فان لم يكن له من يحلف عنه ، كررت عليه الايمان خمسين يمينا ، وقد برئت عهدته ، فان امتنع من اليمين ، الزم القتل ، وأخذ به على ما يوجبه الحكم فيه.

والبينة في الأعضاء ، مثل البيّنة في النفس ، من شهادة نفسين عدلين ، ان كان عمدا أو عدل ويمين المدعى ، على ما قدمناه وحررناه.

والقسامة فيها واجبة مثلها في النفس.

وكل شي ء من أعضاء الإنسان يجب فيه الدية كاملة ، مثل الأنف ، والذكر ، والسمع والشم ، واليدين ، والعينين ، وغير ذلك ، كان فيه القسامة مثل ما في النفس سواء.

وفيما نقص من الأعضاء ، القسامة فيها على قدر ذلك ، وبحسبه من الايمان ، من حساب الخمسين يمينا ان كانت الجناية عمدا ، أو خمسة وعشرين ان كانت الجناية خطأ.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والبيّنة في الأعضاء مثل البيّنة في النّفس ، من شهادة نفسين مسلمين عدلين ، والقسامة فيها واجبة مثلها في النّفس ، وكل شي ء من أعضاء الإنسان يجب فيه الدية كاملة ، مثل العينين والسمع وما أشبههما ، كان فيه القسامة ستة رجال ، يحلفون باللّه تعالى ، ان المدعى عليه قد فعل بصاحبهم ما ادعوه ، فان لم يكن للمدعي قسامة ، كررت عليه ستة أيمان ، فإن لم يكن له من يحلف ، ولا يحلف هو ، طولب المدعى عليه بقسامة ستة نفر يحلفون عنه أنه بري ء من ذلك ، فإن لم يكن له من يحلف ، حلف ستة أيمان ، أنه بري ء مما ادعي عليه ، وفيما نقص من الأعضاء ، القسامة فيها على قدر ذلك ، ان كان سدس العضو فرجل واحد ، يحلف كذلك ، وان كان ثلثه فاثنان ، وان كان النصف فثلاثة ، ثم على هذا الحساب ، وان لم يكن له من يحلف ، كان عليه بعدد ذلك ، ان كان سدسا فيمين واحدة ، وان كان ثلثا ، فمرتين ، وان كان النصف ، فثلاث مرّات ، ثم على

ص: 340

هذا الحساب ، فان لم يكن للمدعي من يحلف عنه ، وامتنع هو (1) ان يحلف ، طولب المدعى عليه ، اما ان يقسم عليه ، أو تكرر الايمان عليه ، حسب ما يلزم المدعي على ما بيّناه (2).

وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد (3) ، وسلار (4) ، وغيرهما من المشيخة ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ولانه مجمع عليه ، والاحتياط يقتضيه.

وما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر اختيار ظريف بن ناصح ، في كتابه الحدود والديات ، وتابعه على ذلك ، واختار ما اختاره.

ولا شك انه خبر واحد ، وقد بيّنا ان اخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشّرعيات ، لأنها لا توجب علما ولا عملا.

وامّا الإقرار فيكفي أن يقر القاتل على نفسه دفعتين ، من غير إكراه ولا إجبار ، ويكون كامل العقل ، فان لم يكن كامل العقل ، أو كان عبدا مملوكا ، فإنّه لا يقبل إقراره ، لأن إقراره إقرار على الغير الذي هو سيّده ، فامّا إن لحقه العتاق بعد إقراره ، قبلناه ، وحكم فيه بما يقتضيه الشرع.

وروي في بعض الاخبار ، انه متى شهد نفسان على رجل بالقتل ، وشهد أخران على غير ذلك الشخص ، بأنه قتل ذلك المقتول ، بطل هاهنا القود ، ان كان عمدا وكانت الدية على المشهود عليهما نصفين ، وان كان القتل شبيه العمد فكمثل ، وان كان خطأ محضا كانت الدية على عاقلتهما نصفين.

أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا. (5)

والذي يقتضيه أصول المذهب ، ويحكم بصحته الاستدلال ، إنّ أولياء المقتول بالخيار ، في تصديق احدى البيّنتين ، وتكذيب الأخرى ، فإذا صدقوا إحداهما قتلوا

ص: 341


1- ج. ل. هو من ان.
2- النهاية ، باب البيّنات على القتل وعلى قطع الأعضاء.
3- المقنعة : باب البينات من أبواب القضاء والاحكام ص 113.
4- الجوامع الفقهية : كتاب المراسم ذكر احكام البينات ص 594.
5- النهاية ، كتاب الديات باب البيّنات على القتل.

ذلك المشهود عليه ، ولم يكن لهم على الآخر سبيل ، ولا يبطل هاهنا القود ، لانه لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة متواترة ، بل الكتاب قاض بالقود مع البيّنة ، في قوله تعالى « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » (1) فمن عمل بهذه الرّواية ، أبطل حكم الآية رأسا ، ولا وجه لأخذ الدية منهما جميعا لأنّهما غير مشتركين في القتل ، لأن البيّنة عليهما ، بخلاف ذلك ، لأنها تشهد بقتل كل واحد منهما على الانفراد ، دون الاجتماع والاشتراك.

ويحقق ذلك ويزيده بيانا المسألة التي تأتي بعد ذلك ، وهو من شهد عليه بالقتل ، ثم أقر آخر بالقتل ، فللأولياء أن يقتلوا من شاءوا منهما بغير خلاف ، فإذا لا فرق بين الموضعين ، لأن الإقرار كالبيّنة ، والبيّنة كالإقرار في ثبوت الحقوق لشرعية التي تتعلق بحقوق بنى آدم ، فليلحظ ذلك.

فإذا قامت البيّنة على رجل ، بأنه قتل رجلا عمدا ، وأقر آخر بأنه قتل ذلك المقتول بعينه عمدا ، كان أولياء المقتول مخيرين في ان يقتلوا أيهما شاءوا ، فان قتلوا المشهود عليه ، فليس لهم على الذي أقر سبيل ، ويرجع أولياء الذي شهد عليه ، على الذي أقر بنصف الدية ، فإن اختاروا قتل الذي أقر ، قتلوه ، وليس لهم على الآخر سبيل ، وليس لأولياء المقتول المقر على نفسه ، على الذي قامت عليه البينة سبيل.

وان أراد أولياء المقتول قتلهما جميعا قتلوهما معا ويردون على أولياء المشهود عليه نصف الدية ، وليس عليهم أكثر من ذلك.

فان طلبوا الدية ، كانت عليهما نصفين ، على الذي أقر ، وعلى الذي شهد عليه الشهود.

هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

ولي في قتلهما جميعا نظر ، لان الشهود ما شهدوا بأنهما اشتركا في قتل المقتول ، ولا المقر أيضا أقر باشتراكهما في قتله ، وانما كل واحد منهما ببينة من الشهود ، أو الإقرار ، تؤذن بأنه قتله على الانفراد ، دون الآخر ، فكيف يقتلان معا ، وما تشاركا في القتل ، وانّما لو تشاركا في قتله ، لأقدناهما (3) ، ولو كانوا ألفا ، بعد ان يرد ما فضل عن ديته ،

ص: 342


1- سورة الإسراء الآية 33.
2- النهاية كتاب الديات باب البيّنات على القتل.
3- ل. لقتلناهما.

وهاهنا رد نصف دية ، فلو اشتركا لكان يرد دية كاملة ألف دينار ، يتقاسم بها أولياؤهما معا.

والأولى عندي ، ان يرد الأولياء إذا قتلوهما معا دية كاملة ، فيكون بين ورثتهما نصفين ، إذ قد ثبت انهما قاتلان جميعا بإقرار أحدهما على نفسه ، والبينة على الآخر ، ولا يرجع في مثل هذا الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

هذا إذا أقرا بالقتل مجتمعين مشتركين ، وتشهد البيّنة بذلك ، فاما إذا كانا متفرقين ، فالعمل على ما حررناه في شهادة الشهود على الاثنين حرفا فحرفا.

وروى أصحابنا في بعض الاخبار ، انه متى اتهم رجل بأنه قتل نفسا ، فأقر بأنه قتل فجاء آخر ، فأقر أنّ الذي قتل هو دون صاحبه ، ورجع الأول عن إقراره ، درئ عنهما القود والدية معا ، ودفع الى أولياء المقتول الدية من بيت مال المسلمين ، روي ذلك عن الحسن بن علي عليهما السلام (1) ، وانه قضى بهذه القضية ، وحكم بها في حياة أبيه عليه السلام.

ومتى أقر نفسان فقال أحدهما أنا قتلت رجلا عمدا ، وقال الآخر أنا قتلته خطأ ، كان أولياء المقتول مخيرين ، إن أخذوا بقول صاحب العمد ، فليس لهم على صاحب الخطأ سبيل ، وان أخذوا بقول صاحب الخطأ ، فليس لهم على صاحب العمد سبيل.

وروى ان المتهم بالقتل ، ينبغي ان يحبس ستة أيام ، فإن جاء المدعي ببينة ، أو فصل الحكم معه ، والّا خلي سبيله (2).

وليس على هذه الرّواية دليل يعضدها ، بل هي مخالفة للأدلّة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن قتل رجلا ثم ادعى انه وجده مع امرأته في داره ، قتل به ، أو يقيم البيّنة على ما قال (3).

قال محمّد بن إدريس ، الاولى ان يقيد ذلك بان الموجود كان يزني بالمرأة ، وكان

ص: 343


1- مستدرك الوسائل ، الباب 4 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به ، أوردها عن النهاية.
2- الوسائل ، الباب 12 من كتاب القصاص.
3- النهاية ، كتاب الديات باب البيّنات على القتل.

محصنا فحينئذ لا يجب على قاتله القود ، ولا الدية ، لأنّه مباح الدم.

فاما ان أقام البيّنة انه وجده مع المرأة ، لا زانيا بها أو زانيا بها ولا يكون محصنا ، فإنه يجب على من قتله القود ، ولا ينفعه بيّنته هذه ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا في مسائل خلافه ، مسألة : إذا قطع طرف غيره ، ثم اختلفا ، فقال الجاني كان الطرف أشل ، فلا قود ولا دية كاملة فيه ، وقال المجني عليه كان صحيحا ، ففيه القود والدية كاملة ، فإن كان الطرف ظاهرا مثل اليدين والرجلين ، والعينين ، والأنف ، وما أشبهها ، فالقول قول الجاني مع يمينه ، ويقيم (1) المجني عليه البيّنة ، فإن كان الطرف باطنا ، فالقول قول المجني عليه (2).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب ، ما اختاره شيخنا قول الشافعي ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ان القول قول المجني عليه في الطرفين معا ، سواء كانا ظاهرين أو باطنين ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، وقول الرسول عليه السلام المتفق عليه - على الجاحد اليمين ، وعلى المدعى البيّنة - (3) والأصل سلامة الأعضاء ، والجاني يدعي الشلل والعيب ، فعليه البيّنة ، ومن فصل ذلك وخصص يحتاج إلى دلالة.

باب الواحد يقتل اثنين أو أكثر منهما أو الاثنين والجماعة يقتلون واحدا

إذا قتل اثنان واحدا أو أكثر منهما عمدا ، كان أولياء المقتول مخيرين بين ان يقتلوا واحدا منهم ، يختارونه ، ويؤدى الباقون الى ورثته مقدار ما كان يصيبهم لو طولبوا بالدية ، فإن اختار أولياء المقتول قتلهم جميعا ، كان لهم ذلك ، إذا أدوا إلى ورثة المقتولين ما يفضل عن دية صاحبهم ، يتقاسمونه بينهم بالسوية.

يدل على ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام وأيضا فما اشترطناه أشبه بالعدل وأليق به.

ص: 344


1- ج. أو يقيم.
2- الخلاف كتاب الجنايات مسألة 76.
3- الوسائل ، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 3 ، وعبارة المتن نقل بالمعنى.

ويدل على جواز قتل الجماعة بالواحد بعد الإجماع المشار اليه ، قوله تعالى « وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » (1) لانه لم يفرق بين الواحد والجماعة.

وأيضا قوله تعالى « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » (2) لأن المعنى ان القاتل إذا علم انه يقتل إذا قتل ، كفّ عن القتل ، وكان في ذلك حياته وحياة من همّ بقتله.

وسقوط القود بالاشتراك في القتل يبطل المقصود بالاية.

ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام فمن قتل بعده قتيلا ، فأهله بين خيرتين (3) ، الخبر ، لانه لم يفرق وقوله تعالى « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » (4) « والْحُرُّ بِالْحُرِّ » (5) المراد به الجنس لا العدد ، فكأنه قال ان جنس النفوس يؤخذ بجنس النفوس ، وجنس الأحرار يؤخذ بجنس الأحرار.

وإذا قتل نفسان واحدا بضربتين مختلفتين ، أو متفقتين ، بعد ان يكون القتل يحدث عن ضربهما ، كان الحكم فيه سواء ، لا يختلف ، فان كان قتلهما له خطأ محضا ، كانت الدية على عاقلتهما بالسويّة.

وإذا اشترك نفسان في قتل رجل فقتله أحدهما ، وأمسكه الآخر ، قتل القاتل ، وخلّد الممسك السجن حتى يموت ، فان كان معهما ردء (6) ينظر لهما ، سملت عيناه معا - اى فقئتا ، يقال سملت عينه تسمل ، إذا فقئت بحديدة محماة.

وإذا قتلت امرأتان رجلا عمدا ، قتلتا به جميعا ، فان كنّ أكثر من اثنتين ، كان لأوليائه قتلهنّ ، ويؤدون ما يفضل عن دية صاحبهم على أوليائهن ، يقسّمونه بينهم بالحصص ، وان كان قتلهن له خطأ ، كانت الدية على عاقلتهن بالسوية.

فإن قتل رجل وامراة رجلا ، كان لأولياء المقتول قتلهما جميعا ، ويؤدون إلى أولياء الرجل نصف ديته ، خمسة الف (7) درهم.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، تكون خمسة آلاف درهم بين أولياء الرجل

ص: 345


1- سورة الإسراء ، الآية 33.
2- سورة البقرة ، الآية 179.
3- سنن أبي داود ، باب ولى العمد يرضى بالدية ، من كتاب الديات ( ج 4 ، الرقم 4504 ).
4- سورة المائدة ، الآية 45.
5- سورة البقرة ، الآية 178.
6- ل. ثالث.
7- ج. آلاف.

والمرأة ، لأولياء الرجل ثلثاها ، ولأولياء المرأة ثلثها (1).

والأول اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) وهو الذي يقتضيه الأدلة ، وتشهد بصحته الاخبار والاعتبار.

فان اختاروا قتل المرأة ، كان لهم قتلها ، ويأخذون من الرجل خمسة ألف درهم ، فان اختاروا قتل الرجل ، كان لهم قتله ، وتؤدى المرأة إلى أولياء الرجل نصف ديتها ، ألفين وخمسمائة درهم ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي يقتضيه مذهبنا انها ترد خمسمائة دينار إلى أولياء الرجل ، لأنّها جنت نصف الجناية ، فهما مشتركان في الجناية التي هي القتل ، ولأجل ذلك إذا صالحا الأولياء على أخذ الدية ، كان عليها نصفها ، وعلى الرجل نصفها بغير خلاف.

وكذلك لو كان مكانها رجل واختار الأولياء قتل أحدهما ، ادّى الأخر الباقي الى أولياء المقاد منه المقتول ، خمس مائة دينار بغير خلاف ، لانّه شريكه في الجناية ، وهما قاتلان ، وكذلك المرأة المذكورة ، ولا يرجع في مثل هذا الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

فإن أراد أولياء المقتول الدية ، كانت نصفها على الرجل ، ونصفها على المرأة سواء بعد تراضى الجميع بأخذ الدية والصلح على ذلك.

وان كان قتلهما خطأ محضا كانت الدية نصفها على عاقلة الرجل ، ونصفها على عاقلة المرأة سواء.

وقد روى انه إذا قتل رجل حر ومملوك رجلا على العمد ، كان أولياء المقتول مخيرين بين ان يقتلوهما ، ويؤدوا إلى سيد العبد ثمنه ، أو يقتلوا الحر ، ويؤدى سيد العبد الى ورثته خمسة ألف درهم ، أو يسلم العبد إليهم ، فيكون رقّا لهم ، أو يقتلوا العبد بصاحبهم خاصة ، فذلك لهم ، وليس لسيد العبد على الحر سبيل فان اختاروا الدية ، كان على الحر النصف منهما ، وعلى سيد العبد النصف الآخر ، أو يسلم العبد

ص: 346


1- المقنعة باب الاشتراك في الجنايات ص 752.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب الواحد يقتل اثنين.
3- النهاية ، كتاب الديات ، باب الواحد يقتل اثنين.

إليهم ، فيكون رقّا لهم (1).

وهذا الذي ذكره شيخنا في نهايته (2).

وقال بعض (3) أصحابنا في كتاب له ، وإذا قتل الحر والعبد حرّا ، فاختار وليه الدية ، فعلى الحر النصف ، وعلى سيد العبد النصف ، وان اختار قتلهما ، رد قيمة العبد على سيّده وورثة الحر ، وان اختار قتل الحر ، فعلى سيد العبد نصف ديته لورثته ، وان اختار قتل العبد ، قتله ويؤدّى الحر الى سيّده نصف قيمته.

قال محمّد بن إدريس ، وهذا الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

وذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره ، إلى انه إذا قتل الولي الحر ، يجب على سيد العبد ان يرد على ورثة المقتول الثاني نصف الدّية ، أو يسلّم العبد إليهم ، لأنه لو كان حرا لكان عليه ذلك على ما بيّناه ، فحكم العبد حكمه على السّواء ، هذا آخر كلامه في استبصاره (4).

وهو رجوع عما ذكره في نهايته (5) ، ونعم الرجوع الى الحق.

فإن كان قتله لهما (6) خطأ محضا ، كان نصف ديته على عاقلة الرجل ، ونصفها على مولى العبد ، أو يسلّمه إلى أولياء المقتول ، يسترقونه ، وليس لهم قتله على حال.

وروى أيضا انه ان قتلت امرأة وعبد رجلا حرّا ، واختار أولياء المقتول قتلهما ، قتلوهما ، فان كان قيمة العبد أكثر من خمسة ألف (7) درهم ، فليردوا على سيده ما يفضل بعد الخمسة ألف (8) درهم. وان أحبوا أن يقتلوا المرأة ، ويأخذ العبد ، الّا ان يكون قيمته أكثر من خمسة ألف درهم ، فليردوا على مولى العبد ما يفضل عن خمسة ألف درهم ، ويأخذوا العبد ، أو يفتديه مولاه ، وان كان قيمة العبد أقل من

ص: 347


1- التهذيب ، ج 10 ، باب 21 من كتاب الديات ، ج 2 قريبا منه.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب الواحد يقتل اثنين.
3- الكافي في الفقه ، ص 386.
4- الاستبصار الباب 167 من المجلد الرابع ، ص 283.
5- النهاية ، كتاب الديات ، باب الواحد يقتل اثنين ..
6- ج. قتلهما له.
7- ج. آلاف.
8- ج. خمسة آلاف.

خمسة الف درهم ، فليس لهم الا نفسه ، وان طلبوا الدية ، كان على المرأة نصفها ، وعلى مولى العبد النصف الآخر ، أو يسلّمه برمّته (1) ، - يعنى بكماله - إليهم - والرمة قطعة حبل بالية ، ومنه قوله دفع إليه الشي ء برمّته ، واصلة ان رجلا دفع الى رجل بعيرا بحبل في عنقه ، ثم قيل ذلك لكل من دفع شيئا بجملته ، لم يحتبس منه شيئا.

وينبغي ان يكون العمل والفتوى على هذه الرواية ، لأنها تعضدها الأدلة ، وأصول المذهب ، والإجماع ، وبها يفتي شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) واستبصاره (3) ، ونحن لما قدمناه من اقتران الأدلة لها (4).

وإذا اشترك جماعة من المماليك في قتل رجل حر ، كان لأولياء المقتول قتلهم جميعا ، وعليهم أن يؤدّوا ما يفضل عن دية صاحبهم ، فان نقص ثمنهم عن ديته ، لم يكن لهم على مواليهم سبيل ، فان طلبوا الدية ، كانت على موالي العبيد بالحصص ، أو تسليم العبيد إليهم.

فإن كان قتلهم له خطأ محضا ، كان على مواليهم دية المقتول ، أو تسليم العبيد إلى أولياء المقتول ، يستعبدونهم ، وليس لهم قتلهم على حال ، لان المولى لا يعقل عن عبده.

وإذا قتل رجل رجلين أو أكثر منهما ، وأراد أولياء المقتولين القود ، فليس لهم الا نفسه ، ولا سبيل لهم (5) على ماله ، لان اللّه تعالى « قال ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) » وما قال المال بالنفس ، ولا لهم أيضا سبيل على ورثته ولا على عاقلته ، فإن أرادوا الدية ، وأراد هو أيضا ذلك على ما قدمناه وحررناه فيما مضى ، كان لهم عليه عن كل مقتول ، دية كاملة على الوفاء ، فان كان قتله لهم خطأ محضا ، كان على عاقلته دياتهم على الكمال.

فان قتل رجلا وامرأة ، أو رجالا ونساء ، أو امرأتين أو نساء ، كان الحكم

ص: 348


1- الوسائل ، الباب 34 ، من أبواب القصاص في النفس ، ح 2 ، باختلاف يسير وعدم الذيل فراجع
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب الواحد يقتل اثنين ..
3- الاستبصار ، الباب 170 من المجلد الرابع ، ص 286.
4- ج. بها.
5- ج. وليس لهم سبيل.

أيضا مثل ذلك سواء.

والمشتركون في القتل ، إذا رضي عنهم أولياء المقتول بالدية ، لزم كل واحد منهم الكفارة التي قدمنا ذكرها على الانفراد ، رجلا كان أو امرأة ، إلّا المملوك ، فإنه لا يلزمه أكثر من صيام شهرين متتابعين ، وليس عليه عتق ، ولا إطعام ، لأنه غير مخاطب بالمال.

وإذا أمر إنسان أخر بقتل رجل فقتله المأمور ، وجب القود على القاتل المباشر للقتل ، دون الآمر ، وكان على الامام حبس الآمر ما دام حيّا.

فإن أكره رجل رجلا على قتل رجل ، فقتله المكره ، كان على المكره الذي باشر القتل القود ، دون المكره ، لقوله تعالى « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » يعنى النفس القاتلة بالنفس المقتولة.

فإن أمر عبده بقتل غيره ، فقتله ، فقد اختلفت روايات أصحابنا في ذلك ، فروى (1) انه يقتل العبد ، ويستودع السيّد السجن ، وروى انه يقتل السيّد ، ويستودع العبد السجن (2).

والذي يقوى عندي في ذلك ، انه ان كان العبد عالما بأنه لا يستحق القتل (3) ، أو متمكنا من العلم ، فعليه القود ، دون السيّد ، وان كان صغيرا أو مجنونا ، فإنه يسقط القود ، ويجب فيه الدية على السيّد ، دون القود ، لانّه غير قاتل حقيقة ، وألزمناه الدية ، لقوله عليه السلام - لا يطل دم امرئ مسلم - فلو لم يلزمه الدية ، لاطللنا دمه ، ومعنى يطل ، يهدر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وان أمر عبده بقتل غيره ، فقتله ، وجب على العبد القود ، دون سيّده ، ويحبس المولى ما دام حيا ، ثم قال وقد روى (4) انه يقتل السيّد ، ويستودع العبد السجن ، والمعتمد على ما قلناه.

ص: 349


1- أورده في المستدرك الباب 14 ، من أبواب قصاص النفس عن الشيخ الطوسي في النهاية.
2- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب قصاص النفس ، ح 2.
3- ج. للقتل.
4- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب قصاص النفس ، ح 2.

هذا قوله في نهايته (1) وفي استبصاره (2).

وذهب في مسائل خلافه (3) الى ما اخترناه نحن ، وقوّيناه ، وهو الذي يقتضيه

وذهب شيخنا في مبسوطة الى ان العبد المأمور ، إذا كان عاقلا مميزا ، وجب عليه القود ، دون السيّد ، وان كان غير عاقل ولا مميز ، وجب على السيد الآمر القود ، دون العبد (4).

وهو قوي ، الّا ان ما اخترناه أقوى وأوضح وأظهر في الاستدلال.

باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار والمسلمين والكفّار

باب القود بين الرجال والنساء والعبيد

والأحرار (5) والمسلمين والكفّار

إذا قتل رجل امرأة عمدا ، وأراد أولياؤها قتله ، كان لهم ذلك ، إذا ردوا على الرّجل ، ما يفضل عن ديتها وهو نصف دية الرجل ، خمسة ألف درهم ، أو خمسمائة دينار ، أو خمسون من الإبل ، أو خمسمائة من الغنم ، أو مائة من البقر ، أو مائة من الحلل ، على ما قدّمناه ، فان لم يردّوا ذلك لم يكن لهم القود على حال.

فان طلبوا الدية ورضى بها القاتل كان لهم عليه دية المرأة على الكمال ، وهو أحد هذه الأشياء المقدم ذكرها.

وإذا قتلت امرأة رجلا واختار أولياؤه القود ، فليس لهم الّا نفسها يقتلونها بصاحبهم ، وليس لهم على مالها ولا أوليائها سبيل ، فان طلب أولياء المقتول الدية ورضيت هي بذلك كان عليها الدية كاملة دية الرجل ، ان كانت قتلته عمدا محضا ، أو خطأ شبيه العمد ، في مالها خاصّة على ما قدمناه ، وان كان قتله (6) خطأ محضا

ص: 350


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب الواحد يقتل اثنين ..
2- الاستبصار ، الباب 168 من المجلد الرابع ، ص 283.
3- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 30.
4- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الجراح ، ص 43 ، الظاهر ان العبارة منقولة بالمعنى.
5- ج. المسلمين.
6- ج. قتلها.

فعلى عاقلتها على ما بيّناه ، من قبل ، وحررناه.

واما الجراح فإنه يشترك فيها النساء والرجال ، السّن ، بالسّن ، والإصبع ، بالإصبع ، والموضحة ، بالموضحة ، الى ان يتجاوز المرأة ، ثلث دية الرجل ، فإذا جازت الثلث ، سفلت المرأة ، وتضاعف الرجل على ما نبينه فيما بعد إن شاء اللّه.

وإذا قتل الذمي مسلما عمدا دفع برمته هو وجميع ما يملكه ، إلى أولياء المقتول ، فإن أرادوا قتله ، كان لهم ذلك ، ويتولى ذلك عنهم السلطان ، وان أرادوا استرقاقه ، كان رقّا لهم ، فإن أسلم بعد القتل ، فليس عليه الّا القود ويكون إسلامه قبل خيرة الأولياء لرقة ، ودفعه إليهم ، فامّا ان اختاروا استرقاقه ، وأخذ جميع ماله ، ثم بعد ذلك أسلم ، فهو عبد لهم مسلم ، وما أخذوه منه لهم.

وذهب بعض أصحابنا إلى انه يدفع بجميع ماله وولده الصغار إلى أولياء المقتول المسلم.

والذي يقتضيه الدلالة ، ان الأولاد الصغار ، لا يدفع إليهم (1) ، لأن ماله إذا اختاروا استرقاقه فهو مال عبدهم ، ومال العبد لسيّده ، وأولاده أحرار قبل القتل ، فكيف يسترق الحرّ ، بغير دليل.

فامّا استرقاقه هو فإجماعنا دليل عليه ، وليس كذلك أولاده.

فان لم يختاروا استرقاقه بل اختاروا قتله ، فليس لهم على ماله أيضا سبيل ، لانه لا يدخل في ملكهم الّا باختيارهم استرقاقه.

ومعنى قولهم - برمته - اى بجملته وكماله ، لأن أصل ذلك ، ان رجلا اعطى ، رجلا جملا بجبله ، فصار كل من اعطى شيئا بكماله وجملته ، قيل أعطاه برمته ، لان الرمة الحبل على ما قدمناه.

فان كان قتله له خطأ فقد ذكر بعض أصحابنا ، ان الدية تكون عليه في ماله خاصة ، ان كان له مال ، فان لم يكن له مال كانت الدية على امام المسلمين ، لأنهم مماليكه ويؤدّون الجزية إليه ، كما يؤدى العبد ، الضريبة ، إلى سيّده ، وليس لهم

ص: 351


1- ج. لهم.

عاقلة ، غير الامام.

والصحيح ان الامام عاقلته على كل حال ، سواء كان له مال ، أو لم يكن.

وإذا قتل المسلم ذميا عمدا وجب عليه ديته ، ولا يجب عليه القود بحال.

وقد روى انه ان كان معتادا لقتل أهل الذمة.

فإن كان كذلك ، وطلب أولياء المقتول القود ، كان على الامام ان يقيده به ، بعد ان يأخذ من أولياء الذمي ما يفضل من دية المسلم ، فيرده عليه ، أو على ورثته ، فان لم يردّوه أو لم يكن معتادا ، فلا يجوز قتله به على حال (1).

ولا ينبغي ان يلتفت الى هذه الرّواية ، ولا يعرج عليها ، لأنها مخالفة للقرآن والإجماع ، وانما أوردها شيخنا في استبصاره (2) ، وتأويلها (3) على هذا.

ودية الرجل الذمي ثمانمائة درهم جيادا ، أو قيمتها ، من الذهب.

ودية نسائهم ، على النصف من دية ذكرانهم.

ودية المجوسي ودية الذّمي سواء ، لان حكمهم ، حكم اليهود والنصارى.

ودية ولد الزنا ، مثل دية اليهودي ، على ما ذهب اليه السيد المرتضى رضى اللّه عنه ولم أجد لباقي أصحابنا فيه قولا فأحكيه.

والذي يقتضيه الأدلّة التوقف في ذلك ، وان لا دية له ، لأن الأصل براءة الذمّة.

وإذا خرج أهل الذمّة عن ذمتهم ، بتركهم شرائطها ، من ارتكابهم الفجور ، والتظاهر بشرب الخمور ، وما يجرى مجرى ذلك ، ممّا ذكرناه ، فيما تقدم حلّ دمهم ، وبطلت ذمتهم ، غير انهم لا يجوز لأحد أن يتولى قتلهم إلا الإمام ، أو من يأمره الإمام به ، ويأذن له فيه.

وديات أعضاء أهل الذمّة وأروش جراحاتهم على قدر دياتهم سواء ، لا يختلف الحكم فيه.

ص: 352


1- الوسائل ، الباب 47 ، من أبواب القصاص في النفس.
2- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 157 ، من كتاب الديات ، ص 271.
3- ج. تأولها.

ودية جنين أهل الذمّة عشر دية آبائهم ، كما ان دية جنين المسلم كذلك على ما يأتي بيانه فيما بعد ان شاء اللّه تعالى.

وإذا قتل أهل الذمّة بعضهم بعضا أو تجارحوا قيد بينهم واقتص لبعضهم من بعض ، كما يقتص للمماليك بعضهم من بعض.

وديات رقيقهم ، قيمتهم ، ما لم يتجاوز قيمة (1) دية الحر الذميّ ، والأمة دية الحرة الذميّة ، فيرد إليهما.

وإذا قتل حر عبدا مسلما لم يكن عليه قود ، وكان عليه ديته ، وديته قيمة العبد يوم قتله ، الا ان تزيد على دية الحر المسلم ، فان زاد على ذلك ردّ إلى دية الحر ، وان نقص عنها لم يكن عليه أكثر من قيمته ، فان اختلفوا في قيمة العبد يوم قتله ، كان على مولاه البينة ، بأنّ قيمته كان كذا يوم قتل ، فان لم يكن له بينة ، كان القول ، قول القاتل ، مع يمينه ، لانه غارم ، ومدعى عليه ، وجاحد ، بان قيمته على ما ادعاه ، فان رد اليمين على مولى العبد ، كان ذلك أيضا جائزا ، وهو بالخيار في الردّ.

ودية الأمة المسلمة قيمتها ، ولا يتجاوز بقيمتها دية الحرائر من النساء ، فان زاد ثمنها على دية الحرة ، ردت الى ذلك ، وان كان أقل من دية الحرة ، لم يكن على قاتلها أكثر من ذلك ، وان قتله (2) خطأ محضا كانت الدية على عاقلته على ما بيّناه.

فان قتل عبد حرا عمدا كان عليه القتل ، ان أراد أولياء المقتول ذلك ، فان لم يطلبوا القود ، وطلبوا الدّية فليس لهم الأنفس المملوك ، وعلى السيّد تسليمه إليهم ، فإن شاءوا استرقوه ، وان شاءوا قتلوه ، فإن أرادوا قتله ، تولى ذلك عنهم السلطان أو يأذن لهم فيه ، وان اصطلح أولياء المقتول وسيّد العبد ، على أخذ الدية من مال السيّد ، كان ذلك جائزا ، وان لم يفعل السيد ذلك ، فلا شي ء عليه ، وعليه تسليمه إليهم فقط ، فان استرقوه ورضوا باسترقاقه دون قتله ، فليس لهم بعد ذلك قتله ، وصار عبدا لهم ، وليس لهم بعد العفو عن قتله واسترقاقه قتله بحال.

فان كان قتله للحر خطأ محضا فليس السيّد عاقلة له ، بل ان شاء ان يؤدي عنه

ص: 353


1- ل. قيمته.
2- ل. وان كان قتله ، والظاهر انه الصحيح.

الدية ، فعل ذلك ، وان شاء ان يسلمه إليهم يكون رقا لهم ، وليس لهم قتله على حال.

وللسلطان ان يعاقب من يقتل العبيد بما ينزجر عن مثله في المستقبل.

فإذا قتل العبيد بعضهم بعضا أو تجارحوا أقيد بينهم واقتص لبعضهم من بعض ، الا ان يتراضى مواليهم بدون ذلك ، من الدية أو الأرش.

وإذا قتل مدبر حرا ، كانت الدية على مولاه الذي دبّره إن شاء واختار ورضى أولياء المقتول ، واختاروا أيضا ذلك ، فان لم يصطلحوا على ذلك ، وجب على مولاه تسليمه برمته ، إلى أولياء المقتول ، فان شاءوا قتلوه ، ان كان قتل صاحبهم عمدا ، وان شاءوا استرقوه ، فان كان قتله خطأ استرقوه ، وليس لهم قتله.

وروى انه إذا مات الذي دبّره ، استسعى في دية المقتول ، وصار حرا (1).

ولا دليل على صحة هذه الرواية ، لأنها مناقضة للأصول ، وهو انه خرج من ملك من دبّره ، وصار عبدا لأولياء المقتول ، فمن أخرجهم من ملكهم بعد دخوله فيه ، يحتاج الى دليل ، ولا دليل على ذلك ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

ويمكن ان تحمل الرواية على انه كان التدبير عن نذر واجب لا يجوز الرجوع فيه ، فإذا كان كذلك ، وكان القتل خطأ فإنّه بعد موت من دبّره ، يصير حرا ويستسعى في الدية ، فاما إذا كان التدبير لا عن نذر ، فهو على ما قررناه وحررناه ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

والأقوى عندي في الجميع انه يسترق ، سواء كان عن نذر ، أو لم يكن ، لان السيّد ما رجع عن النذر ، وانما صار عبدا بحق.

ومتى قتل مكاتب حرا ، فان كان لم يؤد من مكاتبته شيئا ، أو كان مشروطا عليه وان ادى من مكاتبته شيئا فحكمه ، حكم المماليك سواء ، فان كان غير مشروط عليه وقد ادى من مكاتبته شيئا كان على مولاه من الدية بقدر ما بقي من

ص: 354


1- مستدرك الوسائل ، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس.

كونه رقا ، وعلى امام المسلمين بمقدار ما تحرر منه ، وان شاء سيّده الذي بقي له منه شي ء تسليم ما يخصه إليهم ، كان له ذلك ، ولا يجبر على ديته بمقدار ما بقي من كونه رقا.

ومتى قتل حر مكاتبا وكان قد أدى من مكاتبته شيئا كان عليه ، بمقدار ما قد تحرر منه ، من دية الحر وبمقدار ما قد بقي منه من قيمة المماليك ، وليس عليه أكثر من ذلك ، ولا يقاد قاتله به على حال.

وذهب شيخنا في استبصاره في الجزء الثالث ، الى ان المكاتب المطلق ، إذا أدى نصف مكاتبته ، فهو بمنزلة الحر ، في الحدود ، وغير ذلك من قتل أو غيره ، من ان حكمه حكم الأحرار ، يجب على قاتله القود (1) ، معتمدا على خبر شاذ فتأوّله.

والصحيح ما ذهب إليه في نهايته (2) ، لانه يعضده أصول مذهبنا.

وديات الجوارح والأعضاء وأروش جراحاتهم على قدر أثمانهم ، كما انها كذلك في الأحرار.

ويلزم قاتل العبد إذا كان العبد مسلما من الكفارة ما يلزم في قتل حر مسلم سواء ، من كفارة الجميع ، وهي عتق رقبة وصيام الشهرين المتتابعين وإطعام ستين مسكينا ، إذا كان قتله له عمدا.

فان كان خطأ كان عليه الكفارة الواحدة المرتبة ، على ما قدمناه في الحر سواء.

ومن قتل عبده متعمدا ، كان على الامام ان يعاقبه عقوبة تردعه عن مواقعة مثله في المستقبل ، ويغرمه قيمة العبد ، فيصدق بها على الفقراء ، وكان عليه بعد ذلك كفارة قتل العمد ، وهي كفارة الجمع المقدم ذكرها.

فان كان قتله له خطأ لم يكن عليه الّا الكفارة ، حسب ما قدمناه من أحد الأجناس الثلاثة ، على الترتيب.

ومتى جرح إنسان عبدا ، أو قطع شيئا من أعضائه مما يجب فيه قيمته على الكمال ، وجب عليه قيمته ، ولا يتجاوز بها دية الأحرار ، ويأخذ العبد ، يكون رقا له.

ص: 355


1- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 162 ، من كتاب الديات ، ص 277.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب القود بين الرجال والنساء ، والعبيد والأحرار ..

ولا يجوز للمولى ان يمسكه ويطالب بقيمته ، بل هو بالخيار بين ان يأخذ قيمته ويسلّمه إلى الجاني يكون رقا له وبين ان يمسكه ولا شي ء له ، لئلا يجمع بين البدل والمبدل.

وليس كذلك إذا جنى الحر على العبد ، بما هو دون ثمنه ، وديته التي هي قيمته ، فإنه عند هذه الحال لا يكون صاحبه في دفعه الى الجاني بالخيار ، بل له دية ما جرحه وقطعه ، ويمسك عبده.

فاما إذا قطع رجل يد عبد ، وقطع رجل أخر يده الأخرى ، فالذي يقتضيه مذهبنا وأصوله ، ان سيده لا يكون هاهنا بالخيار في إمساكه ، ولا شي ء له على القاطعين ، وبين تسليمه إليهما ، وأخذ قيمته منهما ، بل يكون له على كل واحد منهما نصف قيمته ، ولا يجب عليه تسليمه إليهما ، بل هو له.

وحمل ذلك على القاطع الواحد قياس ، ونحن لا نقول به ، بل نقف ونأخذ بعين ما ورد لنا في ذلك.

وقال شيخنا في مبسوطة وان قطع يدي عبد ، كان عليه كمال قيمته ، وتسليم العبد عندنا ، وإذا قطع رجل رجل عبد ، والأخر يده كان عليهما كمال قيمته ، على كل واحد منهما نصفه ، ويمسك المولى العبد هاهنا بلا خلاف ، وفي الأول خلاف وفيهم من سوى بين المسألتين فجعل العبد بين الجانيين وهو الأقوى هذا أخر كلامه (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ما قوّاه أضعف من التمام ، بل الأول ، الصحيح.

وقد روى انه متى قتل عبد حرين ، أو أكثر منهما ، أو جرحهما جراحة تحيط بثمنه ، واحدا بعد الأخر ، كان العبد لأولياء الأخير لأنه إذا قتل واحدا يصير لأوليائه ، وإذا قتل الثاني انتقل إلى أولياء الثاني ، ثم هكذا بالغا ما بلغ (2).

ص: 356


1- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الجراحات ، ص 108 ، والعبارة هكذا وان قطع يدي عبد أو رجليه كان عليه كمال قيمته ويسلم العبد عندنا وعند جماعة يمسكه مولاه ، إذا قطع رجل يد عبد والآخر يده الأخرى كان عليهما كمال قيمته ، على كل واحد منهما نصفه وتمسك المولى العبد هاهنا بلا خلاف ، وفي الأول خلاف ، وفيهم من سوّى بين المسألتين ، فجعل العبد بين الجانيين وهو الأقوى.
2- الوسائل ، الباب 45 من أبواب القصاص في النفس ، ج 3.

والوجه في هذه الرّواية ، ان يكون أولياء الأوّل اختاروا استرقاقه ورضوا بذلك ، وعفوا عن قتله ، فحينئذ يصير مملوكا لهم ، فإذا قتل الثاني ، صار مملوكا ، لأوليائه ان اختاروا ذلك ، والّا لهم قتله ، ولا يدخل في ملك واحد من القبيلين بغير اختياره ، فامّا إذا لم يختر أولياء الأول استرقاقه ، ولا عفوا عن قتله ، ثم قتل الثاني ، فمن سبق الى قتله ، كان له ذلك ، لقوله تعالى « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » (1) فليلحظ ذلك.

والى ما حررناه واخترناه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الثالث من الاستبصار (2) ، وعاد عما أطلقه ، في نهايته (3) ، وذهب اليه الا انه لما أورد الرّواية التي فيها انه لأولياء الأخير من المقتولين ، قال هذا الخبر ينبغي ان نحمله على انه انما يصير لأولياء الأخير ، إذا حكم بذلك الحاكم ، فاما قبل ذلك ، فإنه يكون بين أولياء الجميع.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه وأي فائدة وأثر في الحاكم وحكمه ، ان أراد رحمه اللّه بقوله - حكم الحاكم - ثبت (4) عنده ، فما يكون الاحكام الّا بعد ثبوتها ، وان أراد حكم الحاكم باسترقاق العبد القاتل ، فلا حكم للحاكم في ذلك ، ولا مدخل ولا قول ، بل الاختيار في ذلك الى الأولياء ، بين القتل والاسترقاق ، ولا مدخل للحاكم في ذلك (5).

ومتى قتلهما بضربة واحدة ، أو جناية واحدة ، كان بين أوليائهما على ما حررناه ، وليس على مولاه أكثر من تسليمه إليهما.

ومتى جرح عبد حرا فان شاء الحرّ أن يقتص منه ، كان له ذلك ، فان شاء أخذه ان كانت الجراحة تحيط برقبته ، وان كانت لا تحيط برقبته ، افتداه مولاه ، فان ابى مولاه ذلك ، كان للحر المجروح من العبد بقدر أرش جراحته ، والباقي لمولاه ، يباع العبد ، فيأخذ المجروح حقه ، ويرد الباقي على المولى.

ص: 357


1- سورة الإسراء ، الآية 33.
2- الإستبصار ، ج 4 ، الباب 159 ، من كتاب الديات ، ص 274.
3- النهاية ، كتاب الديات ، باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار ..
4- ج. انّه ثبت.
5- ج. في ذلك بلا خلاف.

وإذا قتل عبد مولاه ، قيد به ، على كل حال.

وإذا كان لإنسان مملوكان قتل أحدهما صاحبه ، كان بالخيار ، بين ان يقيده به ، أو يعفو عنه.

ولا قصاص بين المكاتب الذي أدّى من مكاتبته شيئا ، وبين العبد ، كما لا قصاص بين الحر والعبد ، ويحكم فيهما بالدية والأرش حسب ما يقتضيه حساب المكاتب على ما بيّناه.

وإذا قتل عبد حرا خطأ فأعتقه مولاه ، جاز عتقه ولزمه دية المقتول ، لانه عاقلته على ما بيّناه ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وقد قلنا نحن ان المولى لا يعقل عن عبده ، وانما مقصود شيخنا إذا أعتقه تبرعا ، فإنه مولاه ، وله ولاؤه ، وهو يعقل عنه بعد ذلك ، الّا انه في حال ما قتل الحر لم يكن السيّد عاقلته ، ولا يجب على السيد سوى تسليمه الى أولياء المقتول ، حسب ما قدمناه فإنه عبدهم ، وهم مستحقون له ، الّا ان يتبرع المولى ويفيده بالدية ، فإذا فداه وضمن عنه ما جناه ، جاز له حينئذ عتقه ، والتصرف فيه ، وقبل ذلك لا يجوز له شي ء من ذلك ، لانه قد تعلق به حق للغير ، فلا يجوز إبطاله ، الا ان يضمن عنه ، وكذلك لا يجوز بيعه ، قبل الضمان عنه ، ولا رهنه.

وشيخنا أبو جعفر قائل بذلك ، موافق عليه ، لانه قال في الجزء الثاني من مسائل خلافه في كتاب الرهن مسألة إذا جنى العبد جناية ثم رهنه بطل الرهن سواء كانت الجناية عمدا ، أو خطأ أو توجب القصاص ، أو لا توجبه ، ثم قال دليلنا على بطلانه إذا كان عمدا انه إذا كان كذلك فقد استحق المجني عليه العبد وان كان خطأ تعلق الأرش برقبته فلا يصح رهنه (2) هذا أخر كلامه رحمه اللّه.

فكيف يصح ما قاله في نهايته وإطلاق كلامه - بأنه عاقلته وانه يجوز عتقه قبل ضمان الدية عنه - فليلحظ ذلك ، فما يورده في نهايته في كتاب الديات ،

ص: 358


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار ..
2- الخلاف ، كتاب الرهن ، مسألة 28.

معظمه اخبار آحاد وقد بيّنا انها لا توجب علما ولا عملا ، وقد رجع عن أكثره في مبسوطة ومسائل خلافه.

باب من لا يعرف قاتله ، ومن لا دية له إذا قتل ، والقاتل في الحرم والشهر الحرام

من مات في زحام عبور على جسور ، أو زيارات قبور الأئمة عليهم السلام أو في أبواب الجوامع يوم الجمعات ، أو أبواب المشاهد ، أيام الزيارات ، ومقامات عرفات وما أشبه ذلك ، من المواضع التي يتزاحم النّاس فيها ، ولا يعرف قاتله ، ولا واكزه ، كانت ديته ، على بيت مال المسلمين ، ان كان له ولى يطلب ديته ، فان لم يكن له ولي ، فلا دية له.

ودية القتيل الموجود في القرية أو المحلة المتميّزة ، أو الدرب ، أو الدار ، أو القبيلة ، ولا يعرف له قاتل بإقرار ، أو بيّنة ، على أهل المحل الذي وجد فيه ، فان وجد بين القريتين ، أو الدارين ، أو المحلتين ، أو القبيلتين ، فديته على أقربهما إليه ، فإن كان وسطا ، فالدية نصفان.

وروى أصحابنا انه إذا كانت القريتان ، متساويتين إليه ، في المسافة كانت ديته ، على أهل الموضع الذي وجد فيه قلبه وصدره ، وليس على الباقين شي ء ، الّا ان يتهم اخرون ، فيكون حينئذ الحكم فيهم ، إما إقامة البينة (1) ، أو القسامة ، على الشرح الذي قدمناه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الثالث من الإستبصار في باب المقتول في قبيلة أو قرية ، أو رد ثلاثة اخبار بان على أهل القرية ، أو القبيلة ، الدية ، ثم قال قال محمّد بن الحسن الوجه في هذه الاخبار انه انما يلزم أهل القربة أو القبيلة إذا وجد القتيل بينهم ، متى كانوا متّهمين بالقتل ، وامتنعوا من القسامة حسب ما بيّناه ، في كتابنا الكبير ، فإذا لم يكونوا متهمين ، أو أجابوا إلى القسامة ، فلا دية

ص: 359


1- الوسائل ، الباب 8 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به.

عليهم ، وتؤدى ديته من بيت المال ، (1) هذا آخر كلامه.

والى هذا القول اذهب ، وبه أفتى ، لأن لوجود القتيل بينهم لوث ، فيقسم أولياؤه ، مع اللّوث وقد استحقوا ما يقسمون عليه ، وهذا الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

فإذا دخل صبيّ دار قوم ، فوقع في بئرهم فإن كانوا متّهمين بعداوة بينهم وبين اهله ، كانت عليهم ديته ، ان كان دخل عليهم بإذنهم ، ويجري ذلك مجرى اللّوث المقدم ذكره ، وتكون الدية المقدم ذكرها بعد القسامة منهم ، فان كانوا مأمونين ، أو دخل عليهم بغير اختيارهم ، لم يكن عليهم شي ء ، سوى اليمين ، انهم لم يقتلوه ، لان هذه دعوى عليهم محضة.

وقد روى انّه إذا وقعت فزعة بالليل فوجد فيهم قتيل ، أو جريح ، لم يكن فيه قصاص ، ولا أرش جراح ، وكانت ديته على بيت مال المسلمين (2).

هذا إذا لم يتّهم قوم فيه ويكون ثمّ لوث على ما بيّناه.

وإذا وجد قتيل في أرض فلاة كانت أيضا ديته على بيت المال.

وقد روى انه إذا وجد قتيل ، في معسكر ، - بفتح الكاف - أو في سوق من الأسواق ، ولم يعرف له قاتل ، كانت أيضا ديته على بيت مال المسلمين (3) ، الّا ان يكون هناك لوث على رجل بعينه ، أو قوم بأعيانهم ، فيجب على الأولياء القسامة ، حسب ما قدمناه.

والفرق بين القبيلة ، والقرية ، وبين المعسكر والسوق ، على هذه الرواية ، ان القرية متميزة ، وكذلك القبيلة لا يختلط بهم سواهم ، وليس كذلك السّوق والمعسكر ، يمكن ان يكون الوجه في هذه الرواية ، ما قدمناه.

ومن طلب إنسانا على نفسه ، أو ماله ، فدفعه عن نفسه ، فادى ذلك الى قتله ، فلا دية له ، وكان دمه هدرا.

ص: 360


1- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 163 ، من كتاب الديات ، ص 278.
2- الوسائل ، الباب 6 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به ، ح 3 - 4.
3- لا توجد الّا انها أوردها الشيخ قدس سره في النهاية ، كتاب الديات ، باب من لا يعرف قاتله.

وعلى هذا إذا أراد امرأة أو غلاما على فجور فدفعاه عن أنفسهما ، فقتلاه ، كان دمه هدرا.

ومن اطلع على قوم في دارهم ، أو دخل عليهم من غير إذنهم ، فزجروه ، فلم ينزجر ، فرموه بعد الزجر ، فادى الرمي الى قتله ، أو فقأوا (1) عينه ، لم يكن عليهم شي ء.

ومن قتله القصاص ، أو الحد ، فلا قود له ، ولا دية ، سواء كان الحد من حدود الآدميين ، أو من حقوق اللّه تعالى ، وحدوده ، لان الضارب للحد محسن بفعله ، وقد قال تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (2).

والى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

وذهب في استبصاره إلى انه ان كان الحد ، من حدود اللّه فلا دية له من بيت المال ، وإذا مات في شي ء من حدود الآدميين كانت ديته على بيت المال ، بعد ان أورد خبرين على الحلبي ، والأخر عن زيد الشحام ، بأنّ من قتله الحد ، فلا دية له ، ثم أورد خبرا ، عن الحسن بن صالح الزيدي ، فخص به الخبرين (4).

ولا خلاف بين المتكلمين في أصول الفقه ، ان اخبار الآحاد لا يخص بها العموم المعلوم ، وان كانت رواتها عدولا ، فكيف وراويه من رجال الزيديّة ، ثم انه مخالف للقرآن والإجماع.

ثم انه قال في خطبة استبصاره ، انه يقضى بالكثرة ، على القلة ، والمسانيد ، على المراسيل ، وبالرواة العدول ، على غير العدول ، فقد اخرم هذه القاعدة ، في هذا المكان ، في مواضع كثيرة من كتابه الذي فنّن (5) قاعدته.

ومن أخطأ عليه الحاكم بشي ء ، من الأشياء ، أو بزيادة ضرب على الحد ، أو غير ذلك ، فقتله ، أو جرحه ، فقد روى أصحابنا ، انه يكون على بيت مال

ص: 361


1- ج. ففى ء.
2- سورة التوبة ، الآية 91.
3- النهاية ، كتاب الدّيات ، باب من لا يعرف قاتله ومن لا دية له.
4- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 164 من كتاب الدّيات ، ص 278.
5- ل. قنّن.

المسلمين (1).

ومن حذّر فرمى فقتل ، فلا قصاص عليه ، ولا دية ، لما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال قد أعذر من حذّر (2).

ومن اعتدى على غيره فاعتدى عليه فقتل ، لم يكن له قود ، ولا دية.

وقد روى في شواذ الأخبار أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3) عن عبد اللّه بن طلحة ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال سألته عن رجل سارق دخل على امرأة ليسرق متاعها فلما جمع الثياب تابعته نفسه ، فكابرها فواقعها ، فتحرك ابنها فقام اليه ، فقتله بفأس كان معه فلما فرغ ، حمل الثياب وذهب ليخرج ، فحملت عليه بالفأس فقتلته ، فجاء اهله يطالبون بدمه من الغد ، فقال أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) اقض على هذا كما وصفت لك ، فقال يضمن مواليه الّذين طلبوا بدمه ، دم الغلام ، ويضمن السّارق ، فيما ترك أربعة ألف (4) درهم ، لمكابرتها على نفسها ، وفرجها (5) انه زان وهو في ماله غرامة وليس عليها في قتلها إياه شي ء ، لأنه سارق (6).

قال محمّد بن إدريس هذه الرواية مخالفة للأدلّة وأصول المذهب ، لأنا قد بيّنا ان قتل العمد ، لا تضمنه العاقلة ، والسارق المذكور قتل الابن عمدا فكيف يضمن مواليه دية الابن ، فاما قتلها له ، فلا قود عليها ، ولا دية في ذلك ، كما قال لانه قد استحق القتل من وجهين ، لمكان غصبه فرجها ، لان من غصب امرأة فرجها ، وجب عليه القتل ، والوجه الثاني لمكان قتله ولدها ، فإنها (7) يجب لها القود عليه ، وامّا إلزامه في ماله أربعة ألف (8) درهم. فلا دليل على ذلك.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انه يجب عليه مهر مثلها يستوفى من تركته ، ان كان

ص: 362


1- الوسائل ، الباب 7 ، من أبواب دعوى القتل وما يثبت به.
2- الوسائل ، الباب 26 ، من أبواب القصاص في النفس.
3- النهاية ، كتاب الديات ، باب من لا يعرف قاتله ومن لا دية له.
4- ج. آلاف.
5- ج. وانه.
6- الوسائل ، الباب 23 ، من أبواب قصاص النفس ، ح 2.
7- ل. فإنه.
8- ج. آلاف.

قد خلف تركة ، لا يجب أكثر من ذلك لانه لا دليل على أكثر من مهر المثل ، لأنه دية الفرج المغصوب ، وهو العقر - بضم العين غير المعجمة وتسكين القاف - وهو دية الفرج المغصوب ، عند أهل اللّغة والفقهاء.

وروى أيضا انه قال قلت رجل تزوج امرأة ، فلما كان ليلة البناء ، عمدت المرأة الى رجل صديق لها ، فأدخلته الحجلة ، - والحجلة بالتحريك واحدة حجال العروس وهو بيت يزيّن بالثياب والأسرّة والنمارق ، والستور ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصّحاح (1) ، فلا يظن ظان أن الحجلة السرير ويعضد قول الجوهري الحديث المروي المشهور وهو أعروهن يلزمن الحجال (2) ، ولا خلاف ان المراد بذلك البيوت ، دون الأسرّة - فلما دخل الرجل يباضع اهله ، ثار الصديق ، واقتتلا في البيت ، فقتل الزوج الصّديق ، فقامت المرأة فضربت الزوج ضربة فقتلته ، بالصّديق ، قال تضمن المرأة ، دية الصديق ، وتقتل بالزّوج (3) ، قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه اما قتلها بالزوج فصحيح ، واما إلزامها دية الصديق في مالها فلا دليل عليه ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل لا دية له ، ودمه هدر ، لان قتله مستحق ، لانه متعد بخصومة صاحب المنزل في منزله ، وعلى امرأته ، وانما هذه روايات واخبار آحاد توجد في المصنفات ، لا دليل على صحتها فلا يحلّ ولا يجوز الفتيا بها ، لأنها لا تعضدها الأدلة ، بل الأدلة بالضد منها.

ومن قتل غيره في الحرم ، أو أحد أشهر الحرم ، وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وأخذت منه الدّية ، صلحا على ما قدمناه ، كان عليه دية وثلث ، من أي أجناس الديات كانت ، لانتهاكه حرمة الحرم ، وأشهر الحرم ، فان طلب منه القود ، قتل بالمقتول.

فان كان انما قتل في غير الحرم ، ثم التجأ إلى الحرم ، ضيّق عليه في المطعم والمشرب ، بان لا يبايع ، ولا يخالط ، الى ان يخرج ، فيقام عليه الحد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وكذلك الحكم في مشاهد الأئمة

ص: 363


1- الصحاح : ج 4 ص 1667.
2- لم نعثر عليه.
3- الوسائل ، الباب 23 ، من أبواب قصاص النفس ، ح 3.

( عليهم السلام ) (1).

يريد بعطفه على الحرم في حكم واحد ، لا في جميع أحكام الحرم ، من انه إذا جنى في غير حرم الإمام الذي هو المشهد ، ثم التجأ إلى المشهد ، ضيّق عليه في المطعم والمشرب ، بان لا يبايع ، ليخرج فيقام عليه الحد ، الّا (2) انه إذا قتل فيه وأخذت منه الدّية وجبت عليه الدية وثلث لانه لا دليل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع.

باب ضمان النفوس وغيرها

روى أصحابنا ان من دعا غيره ليلا فأخرجه من منزله ، فهو له ضامن الى ان يرده إلى منزله ، أو يرجع هو بنفسه إليه ، فان لم يرجع الى المنزل ، أو لا يعرف له خبر ، كان ضامنا لديته ، فان وجد قتيلا كان على الذي أخرجه القود ، بعد القسامة من أوليائه على ما مضى شرحه ، أو يقيم البيّنة ، أنّه برئ من قتله ، فان لم يقم بيّنة ، وادعى ان غيره قتله ، ولم يقم بذلك بيّنة بقتل غيره له على ما ادعاه ، كان عليه الدّية ، دون القود على الأظهر في (3) ، الأقوال ، والرّوايات.

وقد روى ان عليه القود (4).

والأوّل هو الصّحيح ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (5).

ومتى أخرجه من البيت ثم وجد ميتا فادّعى انه مات حتف انفه ، روى ان عليه الدّية ، أو البيّنة ، على ما ادعاه (6).

والذي يقتضيه الأدلة انه إذا كان غير متهم عليه ، ولا يعلم بينهما الّا خير وصلح

ص: 364


1- النهاية ، كتاب الدّيات باب من لا يعرف قاتله ومن لا دية له.
2- ج. لانّه. ل ، لا انّه.
3- ج. ل. من الأقوال.
4- الوسائل ، الباب 18 من أبواب قصاص النفس ، ح 1.
5- النهاية ، كتاب الدّيات باب ضمان النفوس.
6- أوردها الشيخ قدس سره في النهاية كتاب الدّيات باب ضمان النفوس وفي الجواهر ج 43 ، ص 82 ، عن ابن إدريس ان به رواية.

فلا دية عليه بحال فاما إذا كان يعلم بينهما مخاصمة ، وعداوة ، فلأوليائه القسامة ، بما يدعونه من أنواع القتل ، فان ادّعوا قتله ، عمدا كان لهم القود ، وان ادعوا انه خطأ كان لهم الدّية ، لأن إخراجه والعداوة التي بينهما تقوم مقام اللوث ، مقدم ذكره ، فليلحظ ذلك.

وإذ استأجر إنسان ظئرا فأعطاها ولده ، فغابت بالولد سنين ، ثم جاءت بالولد ، فزعمت أمه انها لا تعرفه ، وزعم أهلها انهم لا يعرفونه ، فليس لهم ذلك ، وليقبلوه ، فإنّما الظئر مأمونة ، اللّهم ، الّا ان يحقّقوا العلم بذلك ، بالأدلة القاطعة للأعذار ، وانه ليس بولد لهم ، فلا يلزمهم حينئذ الإقرار به ، وكان على الظئر الدية ، أو إحضار الولد بعينه ، از من يشتبه الأمر فيه ، ولا يقبل قولهم بمجرده دون البيّنة على الظئر ، لأنها مأمونة ، ومدعى عليها ، وغارمة ، والقول ، قول الأمين ، والمدعى عليه بلا خلاف.

وإذا استأجرت الظئر ، ظئرا أخرى ، من غير اذن صاحب الولد ، فغابت به ، ولا يعرف له خبر ، كانت عليها الدية ، لأنها فرطت بتسليمه الى غيرها ، من غير اذن وليّه.

وقد روى انه متى تقلّبت (1) الظئر ، على الصبيّ في منامها ، فقتلته ، فان كانت انما فعلت ذلك للفقر والحاجة ، كانت الدية على عاقلتها ، وان كانت انّما طلبت المظاءرة ، للفخر والعز كان عليها الدّية في ما لها خاصة (2).

وروى ان من نام ، فانقلب على غيره فقتله ، كان ذلك ، شبيه العمد ، يلزمه الدية ، في ماله خاصة ، وليس عليه قود (3).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ان الدّية في جميع هذا على العاقلة ، لان النائم غير عامد في فعله ، ولا عامد في قصده ، وهذا حد قتل الخطأ المحض ، ولا خلاف ان دية قتل الخطأ المحض على العاقلة ، وانما هذه اخبار آحاد ، لا يرجع بها عن الأدلة.

والذي ينبغي تحصيله في هذا ، ان الدية على النائم نفسه ، لأن أصحابنا

ص: 365


1- ج. ل. انقلبت.
2- الوسائل ، الباب 29 ، من أبواب موجبات الضمان ، ح 1.
3- أوردها الشيخ قدس سره في النهاية ، كتاب الديات ، باب ضمان النفوس.

جميعهم ، يوردون ذلك في باب ضمان النفوس ، وذلك لا تحمله العاقلة بلا خلاف.

ومن قتل غيره متعمدا ، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقيدوه بصاحبهم ، فخلصه إنسان قهرا ، كان عليه رده ، فان لم يرده كانت عليه الدية.

وروى انه إذا أعنف الرجل بامرأته ، أو المرأة بزوجها ، فقتل أحدهما ، فإن كانا متهمين ، ألزما الدّية ، وان كانا مأمونين ، لم يكن عليهما شي ء (1).

والاولى وجوب الدية على المعنف منهما كيف ما دارت القضيّة ، الّا ان الحكم إذا كانا متهّمين ، فقد حصل لولي المقتول تهمة ، وهو اللوث ، فله ان يقسم ، ويستحق القود ، ان ادعى ان القتل عمد ، فاما إذا كانا مأمونين فالمستحقّ الدّية على المعنف فحسب ، ولا يستحق الولي القود هاهنا بحال. فهذا تحرير الفتيا في ذلك.

ومن طفر من علو فوق غيره قاصدا ، فقتله ، فهو قاتل عمد (2) ، وان كان لغرض غير ذلك ، فوقع عليه من غير قصد إليه ، فالدية على عاقلته ، وان كان يدفع غيره ، فالدية على الدافع ، وان كان بهبوب الرياح ، فالدية من بيت مال المسلمين.

ولا تعقل العاقلة صلحا ، ولا إقرارا ، ولا تعقل البهائم ، ولا ما وقع عن تعدّ كحدث (3) الطريق ، والدابة ، وكل مضمون من الأموال ، وبالجملة لا تعقل العاقلة الأسباب ، كمن حفر بئرا أو وضع حجرا ، أو نصب سكينا ، أو أضرم نارا ، وما أشبه ذلك.

فعلى التحرير (4) ، يتنوع القتل ستة أنواع.

عمد يوجب القود.

- وخطأ محض.

- وخطأ شبيه العمد - وهما جميعا يوجبان الدية دون القود.

ومضمون بالتعدي - وهو ما عدا الأنواع الثلاثة المعلوم إضافتها - ، وديته لازمة

ص: 366


1- الوسائل ، الباب 31 ، من أبواب موجبات الضمان ، ح 4 ، وفي الرواية ، فإن اتّهما ألزما اليمين باللّه انهما لم يردا القتل.
2- ج. ل. قاتل عمدا.
3- ج. لحدث.
4- ج. ل. هذا التحرير.

للمتعدى في ماله.

وقتل لا يعرف فاعله ، ويصح اضافة هذا القتل الى محل وجوده ، كالقرية والمحلّة وشبههما.

وقتل لا يعرف فاعله ، ولا يصح إضافته كقتل الزحام ونظائره ، فديته على بيت مال المسلمين.

ومن غشيته دابّة وخاف ان تطأه فزجرها عن نفسه ، فجنت على الراكب ، أو على غيره ، لم يكن عليه شي ء ، لأنه بفعله محسن ، لانه دفع الضرر عن نفسه ، وقد قال تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (1).

ومن ركب دابة فساقها ، فوطأت إنسانا أو كسرت شيئا ، كان ما تصيبه بيديها ورأسها ضامنا له ، دون ما تصيبه برجليها.

فان ضربها فرمحت ، فأصابت إنسانا أو شيئا ، كان عليه ضمان ما اصابته بيديها ، ورجليها معا.

وكذلك إذا وقف عليها ، كان عليه ضمان ما تصيبه بيديها ورجليها.

فان كان يسوقها سوقا غير معتاد ، فوطأت شيئا بيديها أو رجليها أو فمها ، كان ضامنا له.

وان كان يقودها فوطأت شيئا بيديها ، كان ضامنا له ، وكذلك يضمن ما تصيبه بفمها ، وليس عليه ضمان ما تصيبه برجلها (2) الّا ان يضربها ، فان ضربها فرمحت برجلها فأصابت شيئا ، كان ضامنا له.

ومن آجر دابته إنسانا ، فركبها وساقها وكان صاحبها معها يراعيها ، فوطأت شيئا بإحدى الأربع ، كان ضمان ما تطؤه على صاحب الدابّة ، دون الراكب ، فان لم يكن صاحبها معها ، وكان الراكب هو الذي يراعيها ، كان على راكبها ضمان ما تصيبه ، دون صاحبها بيديها ، ورأسها ، دون ما تصيبه برجليها ، إذا كان سوقه لها بمجرى العادة ، فإن كان خارجا عن المعتاد ، ضمن جميع ما تصيبه بإحدى الأربع ،

ص: 367


1- سورة التوبة ، الآية 91.
2- ج. ل. برجليها.

والرأس أيضا.

فإن رمت الدابة بالراكب ، لم يكن على الذي آجرها شي ء سواء كان معها أو لم يكن ، الّا ان يكون نفر بها ، فان نفر بها ، كان ضامنا لما يكون منها ، من جناية.

وحكم الدابة في جميع ما قلناه ، حكم سائر ما يركب من البغال ، والحمير ، والجمال ، على حد واحد ، لا يختلف الحكم فيه.

ومن حمل على رأسه متاعا ، بأجرة فكسّره ، وأصاب إنسانا به ، كان عليه ضمانه اجمع ، اللّهم الا ان يكون إنسان أخر دفعه ، فيكون حينئذ ضمان ذلك عليه.

ومن قتل مجنونا عمدا فان كان اراده فدفعه عن نفسه ، فادّى ذلك الى قتله ، لم يكن عليه شي ء ، لأنه محسن بفعله على ما قلناه فيما مضى ، وحررناه ، وكان دمه هدرا ، فان لم يكن المجنون اراده ، فقتله عمدا كان عليه ديته ، ولم يكن عليه قود ، لانه لا يقاد الكامل بالناقص ، وان كان قتله له خطأ كانت الدية على عاقلته.

وإذا قتل المجنون غيره ، كان عمده وخطأه واحدا ، تجب فيه الدية على عاقلته ، فان لم يكن له عاقلة ، كانت عاقلته الامام عليه السلام دون بيت المال ، لان ميراثه له ، اللّهم الّا ان يكون المجنون ، قتل من اراده ، فيكون حينئذ دم المقتول هدرا.

ومن قتل غيره وهو صحيح العقل ، ثم اختلط وصار مجنونا قتل بمن قتله ، ولا تكون فيه الدية.

وقد روى ان من قتل غيره ، وهو أعمى ، فإن عمدة وخطأه سواء ، وان فيه الدية على عاقلته (1).

والذي يقتضيه أصول المذهب ان عمد الأعمى عمد ، يجب فيه عليه القود ، لقوله تعالى « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » (2) وقوله تعالى « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » (3) فإذا لم يقتل الأعمى بمن قتله عمدا ، خرجت فائدة الآية ، فلا يرجع عن الأدلة القاهرة برواية شاذة وخبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا.

ص: 368


1- أوردها الشيخ قدس سره في النهاية ، كتاب الديات ، باب ضمان النفوس.
2- سورة المائدة ، الآية 45.
3- سورة البقرة ، الآية 179.

ومن قتل صبيّا متعمدا والصبي غير بالغ ، قتل به ، ووجب عليه القود ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ولقوله تعالى « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » وليس هذا كمن قتل مجنونا عمدا ، لأن الإجماع منعقد ، على انه لا قود على قاتل المجنون ، وليس معنا إجماع منعقد ، على انه ليس على قاتل الصبيّ غير البالغ قود ، وأيضا القياس عندنا باطل.

فان قتله خطأ كانت الدية على عاقلته.

وإذا قتل الصبي رجلا متعمدا كان عمده وخطأه واحدا سواء كان له دون عشر سنين ، أو أكثر من عشر سنين على الصحيح من الأقوال ، وما يقتضيه الأدلة القاهرة ، فإنه يجب فيه الدية على عاقلته.

وقال شيخنا في نهايته ، الى ان يبلغ عشر سنين ، أو خمسة أشبار ، فإذا بلغ ذلك ، اقتص منه ، وأقيمت عليه الحدود التامة (1).

وهذا القول غير مستقيم ولا واضح ، لانه مخالف للأدلّة العقلية ، والسمعية ، ولا يلتفت الى رواية شاذة ، وخبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وان كان شيخنا أورد الرّواية في نهايته ، فإنه أوردها إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد نظائرها مما لا يعمل عليه ، ولا يفتي به ولا يعرج عليه.

ورجع أيضا عن ذلك ، في مسائل خلافه ومبسوطة (2) على ما قدمناه فيما مضى وحكيناه (3) فإنه قال ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه : مسألة روى أصحابنا إن عمد الصبي والمجنون ، وخطأهما سواء.

فعلى هذا يسقط القود عنهما ، والدية على العاقلة مخففة.

ثم استدل ، فقال ، دليلنا إجماع الفرقة ، واخبارهم ولأن الأصل براءة الذمة ، وما ذكرناه مجمع على وجوبه ، وروى عن النبيّ ( صلى اللّه عليه وآله ) انه قال رفع القلم عن ثلاث أحدهم عن الصبيّ حتى يبلغ ، هذا أخر استدلاله رحمه اللّه وأخر مسألته (4).

ص: 369


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب ضمان النفوس.
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الجراح ، ص 15.
3- ص 325.
4- الخلاف كتاب الجنايات ، مسألة 39.

ومن وطأ امرأته قبل ان تبلغ تسع سنين ، فأفضاها - والإفضاء هو ان يصير مدخل الذكر ومخرج البول واحدا يخرق ما بينهما من الحاجز فيرفعه ، فيفضي ما بينهما - كان عليه ديتها ، والزم النفقة عليها ، الى ان تموت أو يموت هو ، لأنها لا تصلح للرجال ، على ما وردت به الاخبار (1) ، وتواترت (2) عن الأئمة الأطهار ، ويجب عليه أيضا مهرها ، لانه لا يدخل في ديتها ، وكل واحد منها ، لا يدخل في الأخر ، لأنه لا دليل عليه.

ومن أحدث في طريق المسلمين ، حدثا ليس له ، أو في ملك لغيره بغير اذنه ، من حفر بئر ، أو بناء حائط ، أو نصب خشبة أو كنيف ، وما أشبه ذلك ، مما ليس له احداثه ، ولا فعله ، فوقع فيه شي ء ، أو زلق به أو اصابه منه شي ء ، من هلاك ، أو تلف أو كسر شي ء ، من الأعضاء أو تلفها ، أو كسر شي ء من الأمتعة ، كان ضامنا لما يصيبه في ماله ، دون عاقلته ، على ما قدمناه ، قليلا كان أو كثيرا.

فإن أحدث في الطريق ماله احداثه ، وفعله ، ونصبه ، مثل الميازيب ، والرّواشن ، الغير (3) المضرّة بالمارة ، لم يكن عليه شي ء ، لأنه محسن بفعله واحداثه ، غير مسي ء ، وقد قال تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » فمن أوجب عليه شيئا خالف الآية ، وأوجب عليه ما لم يوجبه اللّه عليه ، وأيضا الأصل براءة الذمّة ، فمن شغلها بشي ء ، يحتاج الى دليل.

وشيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، ضمّن صاحب الميزاب.

ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع.

وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان قال في مقنعته ، ومن أحدث في طريق المسلمين شيئا ، لحق أحدا منهم به ضرر ، كان ضامنا لجناية ذلك عليه ، فان أحدث فيه ما أباحه اللّه تعالى إيّاه ، وجعله وغيره من النّاس فيه

ص: 370


1- الوسائل ، الباب 44 ، من أبواب موجبات الضمان ، والباب 45 من أبواب المقدمات وآداب النكاح ، ح 5 - 6 - 7 - 8 - 9.
2- ج. به الآثار.
3- ج. ل. غير المضرة.
4- النهاية ، كتاب الديات ، باب ضمان النفوس.

سواء ، فلا ضمان عليه ، لانه لم يتعد واجبا بذلك ، هذا آخر كلامه (1) بعينه.

ولا خلاف بين المسلمين في إباحة نصب الميازيب وجعلها ، لم ينكر أحد منهم ذلك بحال.

ومن أحرق دار قوم ، فهلك فيها أنفس ، وأموال ، كان عليه القود ، لمن قتل ، وغرم ما أهلكه بالإحراق من الأموال ، هذا إذا تعمد قتل الأنفس.

فاما إذا لم يتعمد قتل الأنفس ، لكن تعمّد إحراق الأموال والدار فحسب ، فإنه يجب عليه ضمان الأموال ، فامّا الأنفس فدياتها على عاقلته ، لانه غير عامد الى القتل ، لا بالفعل ، ولا بالقصد ، فهو خطأ محض ، لانه غير عامد في فعله الى القتل ، ولا عامد في قصده الى تناول النفس المقتولة وتلفها.

وذكر شيخنا في نهايته ، ان عليه ضمان ما أتلف من الأنفس ، وبعد ذلك عليه القتل (2).

وهذا غير واضح ، لأنه ان كان قتل العمد ، فليس عليه الّا القود ، فحسب ، وان كان قتل شبيه العمد ، أو الخطأ المحض ، فلا يجب عليه القود بحال ، فليلحظ ذلك ، فان لم يتعمد الإحراق ، لكنه أضرم نارا لحاجته فتعدّت النار ، باتصال مال غيره من الأحطاب إلى إحراق الدّار ، ومن فيها ، كانت دية الأنفس على العاقلة ، وغرم ما هلك بالنار ، من الأموال عليه ، في ماله ، ولا يجب عليه القود ، لان هذا غير قاصد الى القتل ، بل هذا خطأ محض ، لانه غير عامد في فعله بالجناية على الأنفس ، وغير عامد في قصده بإتلاف الأنفس ، وتناولها ، فليلحظ ذلك ، فانّ ما عداه اخبار آحاد ، أوردوها ووضعوها في كتبهم إيرادا ، لا اعتقادا للعمل بها.

فان كان اضرامه النّار ، في مكان له التصرف فيه بحق ملك أو إجارة على وجه لا يتعدى ، بان لا يتصل بالأملاك ولا بأحطاب الغير ، وكان ذلك على وجه معتاد ، فحملتها الريح إلى ملك قوم ، فاصابتهم معرّتها فلا ضمان عليه.

والبعير إذا اغتلم ، وجب على صاحبه حفظه وحبسه ، وان لم يفعل ذلك ، أو فرط

ص: 371


1- المقنعة ، باب ضمان النفوس ص 749.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب ضمان النفوس.

فيه ، فتعدى ضرره الى أحد ، ضمن صاحبه جنايته ، فان لم يعلم بهيجانه ، أو لم يفرط في حفاظه ، وأفلت بعد الحفاظ له ، فلا ضمان على صاحبه.

قال شيخنا في نهايته ، فان كان الذي جنى عليه البعير بعد هيجانه وعلم صاحبه به ، وتفريطه في حفظه ، ضرب البعير فقتله ، أو جرحه ، كان عليه بمقدار ما جنى عليه ، مما ينقص من ثمنه ، يطرح من دية ما كان جنى عليه البعير (1).

قال محمّد بن إدريس هذا غير واضح ، والذي يقتضيه أصل مذهبنا ، انه لا ضمان عليه ، بضرب البعير ، لانه بفعله محسن ، وقال اللّه تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ».

ومن هجمت دابته ، على دابة غيره ، في مأمنها فقتلتها ، أو جرحتها ، كان صاحبها ضامنا لذلك ، هذا مع تفريطه ، في حفاظها ، وعلمه باغتلامها.

فان دخلت عليها الدّابة إلى مأمنها ، فاصابتها بسوء لم يضمن صاحبها ذلك.

ومن أصاب خنزير ذمّي فقتله ، كان عليه قيمته ، عند مستحلّه (2) فان جرحه ، كان عليه قيمة ما نقص من ثمنه عند اهله.

ومن اركب مملوكا له غير بالغ دابة ، فجنت الدابة جناية ، كان ضمانها على مولاه ، لانه فرّط بركوبه له الدابة ، هذا إذا كان المملوك غير بالغ ، فاما إذا كان بالغا عاقلا فان كانت الجناية على بنى آدم ، فيؤخذ المملوك ، إذا كانت دية الجناية بقدر قيمته ، أو يفديه السيّد على ما شرحناه ، في قتل العبيد للأحرار ، وجناياتهم عليهم.

وان كانت الجناية على الأموال ، فلا يباع العبد في قيمة ذلك ، ولا يستسعى ، ولا يلزم مولاه ذلك ، لانه لا دليل عليه ، وحمله على الجناية على بنى آدم ، قياس ، فليلحظ ذلك.

ومن دخل دار قوم بغير إذنهم ، فعقره كلبهم ، لم يكن عليهم ضمانه ، فان كان دخلها بإذنهم ، كان عليهم ضمانه.

ص: 372


1- النهاية : كتاب الديات ، باب ضمان النفوس.
2- ج. ل. مستحلّيه.

وإذا أفلتت دابة فرمحت إنسانا فقتلته ، أو كسرت شيئا من أعضائه ، أو شيئا من الأموال ، لم يكن على صاحبها ضمان ذلك.

ومن وطئ امرأة في دبرها ، فالجّ (1) عليها قاهرا لها فماتت من ذلك ، كان عليه ديتها وكذلك إذا أعنف بها من الضم ، والعناق ، على وجه غير معتاد ، يجب عليه ديتها ، إذا ماتت من ذلك.

وكذلك الحكم فيها إذا أعنفت به.

ومن تطبب ، أو تبيطر فليأخذ البراءة من ولي من يطببه ، أو صاحب الدابة ، والّا فهو ضامن إذا هلك بفعله شي ء من ذلك.

هذا إذا كان الذي جنى عليه الطبيب غير بالغ ، أو مجنونا ، فاما إذا كان عاقلا مكلفا ، فأمر الطبيب بفعل شي ء ، ففعله على ما امره به ، فلا يضمن الطبيب ، سواء أخذ البراءة من الولي ، أو لم يأخذ ، والدليل على ما قلناه ، ان الأصل براءة الذمة ، والولي لا يكون الا لغير المكلف.

فاما إذا جنى على شي ء لم يؤمر بقطعه ، ولا بفعله ، فهو ضامن ، سواء أخذ البراءة من الولي ، أو لم يأخذها.

وإذا ركب اثنان دابة ، فجنت جناية على ما ذكرناه ، كان أرشها عليهما بالسوية.

وروى ان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ضمّن ختانا قطع حشفة غلام (2).

يريد بذلك انه فرط بان قطع غير ما أريد منه ، لأن الحشفة هاهنا ، ما فوق الختان ، وليست القلفة التي يجب قطعها فلأجل هذا ضمنه وسواء أخذ البراءة من وليّه ، أو لم يأخذ ، والرواية هذه صحيحة ، لا خلاف فيها.

باب الاشتراك في الجنايات

روى الأصبغ بن نباتة ، قال قضى أمير المؤمنين عليه السلام ، في جارية ، ركبت

ص: 373


1- ج. ل. فألحّ.
2- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب موجبات الضمان ، ح 2.

جارية ، فنخستها جارية أخرى ، فقمصت المركوبة يقال - قمص الفرس وغيره يقمص ويقمص قمصا وقماصا ، وهو ان يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجن برجله (1) يقال هذه دابة ، فيها قماص بكسر القاف ولا تقل قماص بضم القاف - فصرعت الراكبة فماتت ، قضى ان ديتها نصفان ، بين الناخسة والمنخوسة (2).

هذا اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (3).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، تستحق ثلثي الدية فحسب من القامصة ثلث ، ومن الناخسة ثلث ، وسقط ثلث ، لركوبها عبثا (4).

والأوّل أظهر ، في الرّواية وأليق بمذهبنا.

والذي يقتضيه الأدلة إن الدية جميعها على الناخسة ، دون المنخوسة ، لأنها الجانية ، والتي اضطرتها (5) للمركوبة ، حتى قمصت ، فاما إذا أمكنها ان لا تقمص ، وقمصت ، لا ملجأة فالدية عليها وحدها ، فليلحظ ذلك.

وروى عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال قضى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في أربعة شربوا خمرا فسكروا ، فأخذ بعضهم على بعض السلاح ، واقتتلوا فقتل اثنان ، وجرح اثنان ، فأمر بالمجروحين فضرب كل واحد منهما ، ثمانين جلدة ، وقضى بدية المقتولين ، على المجروحين ، وأمران تقاس جراحة المجروحين فترفع من الدية ، وان مات أحد من المجروحين ، فليس على أحد من أولياء المقتولين شي ء (6).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ان القاتلين ، يقتلان بالمقتولين ، فان اصطلح الجميع على أخذ الدية ، أخذت كملا من غير نقصان ، لأن في إبطال القود إبطال القرآن ، واما نقصان الدية ، فذلك على مذهب من تخير بين القصاص ، وأخذ الدية ،

ص: 374


1- ج. ل. رجليه.
2- الوسائل ، الباب 7 من أبواب موجبات الضمان ، ح 1.
3- النهاية ، كتاب الديات ، باب ضمان النفوس وغيرها.
4- المقنعة ، باب الاشتراك في الجنايات ص 750.
5- ج. ل. اضطرت المركوبة.
6- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان ، ح 1.

وذلك مخالف لمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لأنّ عندهم ، ليس يستحق غير القصاص فحسب.

وروى ان ستة غلمان ، كانوا في الفرات ، فغرق واحد منهم ، فشهد ثلاثة منهم ، على اثنين ، انهما غرقاه ، وشهد اثنان على الثلاثة ، أنهم غرقوه ، فقضى بالدية ثلاثة أخماس ، على الاثنين ، وخمسان على الثلاثة (1).

قال محمّد بن إدريس ان كان الغلمان غير بالغين ، وهذا هو الظاهر فشهادة الصبيان لا تقبل عندنا ، إلّا في الجراح ، والشجاج ، فحسب ، دون ما عداه ، وفيما تقبل فيه ، ان يكونوا قد بلغوا عشر سنين ، وجميع هذه الروايات ، اخبار آحاد ، فان عضدها كتاب ، أو سنة ، أو إجماع ، عمل بها ، والّا حكم بما يقتضيه أصول مذهبنا.

وروى عن أبي جعفر عليه السلام ، قال قضى أمير المؤمنين عليه السلام ، في أربعة نفر اطلعوا في زبية الأسد ، فخرّ أحدهم فاستمسك بالثاني واستمسك الثاني بالثالث ، واستمسك الثالث بالرابع فقضى بالأول فريسة الأسد وغرم اهله ثلث الدية لأهل الثاني ، وغرّم الثاني لأهل الثالث ثلثي الدّية ، وغرم الثالث لأهل الرّابع الدية كاملة ، لأنه قتل ، وما قتل ، وجذب وما جذب (2).

وعلى من تجب؟ قال قوم ، على الثالث وحده ، لانه هو الذي باشر جذبه ، وقال آخرون على الثالث ، والثاني ، والأوّل ، لأنهم كلهم جذبوه ، فعلى كل واحد منهم ثلث الدية ، وعلى هذا ابدا ، وان كثروا ، وهذا الذي يطابق ما رواه أصحابنا.

وقد روى المخالف عن سمّاك بن حرب عن حنبش الصنعاني ، انّ قوما من اليمن ، حفروا ، زبية الأسد ، واجتمع الناس على رأسها ، فهوى فيها واحد ، فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالثا ، ثم جذب الثالث رابعا ، فقتلهم الأسد ، فرفع ذلك الى علي ( عليه السلام ) فقال للأول ، ربع الدية ، لأنه هلك فوقه ثلاثة ، والثاني (3) ثلثا الدية ،

ص: 375


1- الوسائل ، الباب 2 من أبواب موجبات الضمان ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 4 من أبواب موجبات الضمان ، ح 2 ، والرواية تنتهي إلى كاملة وما بعدها ليس مذكورا في المصدر.
3- ج. وللثاني.

لأنه هلك فوقه اثنان ، والثالث (1) نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد والرابع (2) كمال الدية فبلغ ذلك رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ) فقال ، هو كما قال على ( عليه السلام ) (3).

قالوا : « وهذا حديث ضعيف ». والفقه ما بيّناه في الأربعة ، وروايتنا خاصّة ، مطابقة لما بيّناه أوّلا بعينه وفقهها على ما قلناه.

فاما إذا حصل رجل في بئر ، مثل ان وقع فيها أو نزل لحاجة فوقع فوقه أخر ، نظرت فان مات الأوّل ، فالثاني ، قاتل كما لو رماه بحجر فقتله ، إذ لا فرق بين ان يرميه بحجر فيقتله ، وبين ان يرمي نفسه عليه فيقتله ، فإذا ثبت ان الثاني قاتل ، نظرت في القتل ، فان كان عمدا محضا ، مثل ان وقع عمدا فقتله ، وكان مما يقتل غالبا لثقل الثاني ، وعمق البئر ، فعلى الثاني القود ، وان كان لا يقتل غالبا فالقتل عمد الخطأ ، فالدية عليه في ماله خاصّة ، عندنا ، ولا يجب عليه القود ، وان كان وقع الثاني خطأ فالقتل خطأ محض تجب الدية مخفّفة ، على العاقلة ، فان مات الثاني دون الأوّل ، كان دمه هدرا ، لانه رجل وقع في بئر ، فمات فيها ، والأول لا صنع له ، في وقوعه وغير مفرط في حقه فان ماتا معا فعلى الثاني الضمان ، على ما قلناه ، إذا مات الأول وحده ، ودم الثاني هدر ، كما لو مات الثاني وحده.

فان كانت بحالها ، وكانوا ثلاثة ، فحصل الأول في البئر ، ثم وقع الثاني ، ثم وقع الثالث ، بعضهم على بعض ، فان مات الأول فقد قتله الثاني والثالث معا لانه مات بقتلهما ، فالضمان عليهما نصفان ، فان مات الثاني وحده ، فلا شي ء على الأول ، والثالث هو الذي قتل الثاني ، فالضمان عليه وحده ، على ما مضى ، وان مات الثالث كان دمه هدرا لانه لا صنع لغيره في قتله ، فان ماتوا جميعا ، ففي الأول كمال الدية ، على الثاني ، والثالث ، وفي الثاني كمال الدية ، على الثالث وحده ، ودم الثالث هدرا فليلحظ ذلك.

ص: 376


1- ج. وللثالث وللرّابع.
2- ج. وللثالث وللرّابع.
3- راجع المسند لأحمد ج 1 ص 77 و 128 و 152.

وروي في حائط اشترك في هدمه ثلاثة نفر ، فوقع على واحد منهم ، فمات ، فان الباقيين يضمنان كمال ديته ، لان كل واحد منهم ، ضامن صاحبه (1).

والذي يقتضيه الأدلة ، ويحكم بصحته أصول المذهب انه مات بفعله وفعل الآخرين ، فيسقط ثلث الدية الذي ، قابل فعله ، ويستحق على الاثنين ، ثلثا الدية ، فحسب ، وهذه الرواية من اخبار الآحاد ، أوردها شيخنا في نهايته (2) ، على ما وجدها إيرادا.

وقد أورد شيخنا في مبسوطة ما يقتضي رجوعه عن هذه الرواية ، من قوله ، في رجال عشرة رموا بحجر المنجنيق فعاد الحجر على أحدهم فقتله ، فقال تضمن التّسعة ديته ، الّا قدر جنايته على نفسه (3).

باب ديات الأعضاء والجوارح والقصاص فيها

في ذهاب شعر الرأس الدية كاملة ، إذا لم ينبت ، فان نبت ورجع الى ما كان عليه ، كان عليه أرشه ، وهو ان يقوّم لو كان عبدا كم كانت قيمته ، قبل ان يذهب شعره ، وكم تكون قيمته بعد ذهاب شعره ، ويؤخذ ذلك بحساب دية الحرّ ، لان العبد أصل للحر ، فيما لا مقدّر فيه ، والحر أصل للعبد ، فيما فيه مقدّر منصوص عليه موظف فليلحظ ذلك ، ويعتمد عليه ، في كل جناية على الحر ، لا مقدّر فيها ، ولا دية موظفة منصوص عليها.

وان كانت امرأة ، كان عليه ديتها إذا لم ينبت شعرها ، فان نبت ، كان عليه مهر نسائها.

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته الى انّ في شعر الرأس ، إذا أصيب فلم ينبت ، مائة دينار ، وكذلك في شعر اللحية إذا لم ينبت (4).

ص: 377


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب الضمان ، ح 1.
2- النهاية ، كتاب الديات باب ضمان النفوس.
3- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 166.
4- المقنعة ، باب دية الأعضاء والجوارح والقصاص ص 756.

وما اخترناه هو الأظهر الذي يقتضيه أصل مذهبنا ، لأنه شي ء واحد في الإنسان ، وقد أجمعنا على ان كل ما يكون في بدن الإنسان منه واحد ، ففيه الدية كاملة.

وهو مذهب شيخنا أبي جعفر وخيرته في نهايته (1).

وفي الحاجبين إذا ذهب شعرهما خمسمائة دينار ، وفي كل واحد منهما ، مأتان وخمسون دينارا ، وهذا إجماع من أصحابنا ، وفي شفر العين الأعلى ، ثلثا دية العين ، وفي شفر العين الأسفل ، ثلث دية العين.

وقال شيخنا في نهايته ، وفي شفر العين الأعلى ثلث دية العين مائة وستة وستون دينارا وثلثا دينار ، وفي شفر العين الأسفل نصف دية العين مأتان وخمسون دينارا (2).

وهو اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (3).

الا ان شيخنا أبا جعفر رجع في مبسوطة الى ما اخترناه ، فقال في الأربعة أجفان (4) ، الدية كاملة ، وفي كل واحد منهما ، مائتان وخمسون دينارا ، وروى أصحابنا ان في السفلى ، ثلث ديتها ، وفي العليا ثلثيها (5) ، ومتى قلعت الأجفان والعينان معا ففي الكل ديتان ، فان جني على اهدابهما فاعدم إنباتها (6) ففيهما الدية ، وهو الذي يقتضيه (7) مذهبنا ، فان أعدم وأتلف الشعر والأجفان ، فيقتضي مذهبنا إن فيهما ديتين ، هذا أخر كلامه في مبسوطة (8) وخيرته في مسائل خلافه (9).

وهو الأظهر الأصح ، لأنه يقتضيه الأدلة ، ويحكم بصحته أصول المذهب إلّا في قوله اهداب العينين في ذلك الدية كاملة.

والذي يقتضيه الأدلة والإجماع ، ان الأهداب وهو الشعر النّابت على الأجفان ، لا دية فيه مقدّرة ، لأن أصحابنا جميعهم لم يذكروا في الشعور ، مقدّرا سوى شعر

ص: 378


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.
3- المقنعة ، باب دية الأعضاء والجوارح والقصاص. ص 755.
4- ج. الأجفان.
5- لم نتحققه وفي الجواهر ، ج 43 ، كتاب الديات ، ص 182 ، لم نقف له على دليل.
6- ج. انباتهما.
7- ج. أصول مذهبنا.
8- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، دية الأجفان ، ص 130.
9- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 24.

الرأس واللحية ، وشعر الحاجبين ، فإلحاق غير ذلك به قياس ، ولم ترد بذلك أخبار جملة ولم يذكره أحد ، من أصحابنا في مصنف له ، بل قالوا في الأجفان ، الدية على تفصيلهم ، ولم يذكروا الشعر الذي عليها ، والأصل براءة الذّمّة فإذا أعدم ذلك جان مفردا عن الأجفان ، كان فيه حكومة ، فإذا اعدمه مع الأجفان ، كان في الجميع ، دية الأجفان فحسب ، لان الأهداب ، تتبع الأجفان ، كما لو قطع اليد ، وعليها شعر ، فليلحظ ذلك.

وشيخنا لم يذكر ذلك إلا في فروع المخالفين ، المبسوط ومسائل الخلاف ، وباقي كتبه وتصنيفاته الاخبارية المسندة ، والمصنفة لم يتعرض بذلك ، لانه لم يرد شي ء من الاخبار به ، ولا ذكر ظريف بن ناصح ، في كتابه كتاب الديات ، فإنه عندي ، ولا غيره من المشيخة المتقدمة ، ولا أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب تهذيب الاحكام ، وكتاب الاستبصار ، فيما اختلف من الاخبار شيئا ، من ذلك جملة.

فقوله رحمه اللّه في مبسوطة - والذي يقتضيه مذهبنا ، ان في أهداب العينين الدية كاملة - أيّ أصل لنا يقتضي ذلك ، لا إجماع ولا اخبار ، بل الذي يقتضيه مذهبنا ، انه لا مقدّر في ذلك ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والتقدير يحتاج الى دليل.

وفي العينين الدية كاملة ، وفي كل واحد منهما نصف دية النفس ، وفي نقصان ضوئها بحساب ذلك.

فان ادّعى النقصان ، في إحدى العينين ، اعتبر ، مدى ما يبصر بها ، من اربع جوانب ، بعد أن تشد الأخرى ، فإن تساوى ، صدق ، وان اختلف ، كذّب ثم يقاس ذلك ، الى العين الصحيحة ، فما كان بينهما ، من النقصان اعطى بحساب ذلك ، بعد ان يستظهر عليه بالأيمان حسب ما قدمناه في باب القسامة.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة وروى في أخبارنا ، ان عينيه ، - تقاسان الى عين من هو في سنه ، ويستظهر عليه بالأيمان ، فاما إذا نقص ضوء إحديهما ، أمكن اعتباره ، بالمسافة ، وهو ان تعصّب العليلة وتطلق الصحيحة وينصب له شخص على نشز أو تل أو ربوة في مستوى من الأرض ، فكلّما ذكر أنه يبصره ، فلا يزال يباعد عليه

ص: 379

حتى ينتهي إلى مدى بصره ، فإذا قال ، قد انتهى غيّر ما عليه لون الشخص ، حتى يعلم صدقه ، من كذبه ، لان قصده ان يبعد المدى فإنه كلما بعد ، وقصر مدى بصر العليلة ، كان أكثر لحقه ، فلهذا غيّرنا الشخص فإذا عرفنا قدر المسافة ذرعا عصبنا الصحيحة ، وأطلقنا العليلة ونصبنا له شخصا ولا يزال يباعد عليه ، حتى يقول لا أبصره بعد هذا ، وقصده هاهنا تقليل المسافة ، لتكثير حقّه ، فإذا فعل هذا ادرنا الشخص من ناحية ، وكلفناه ان ينظر إليه ، فإن اتفقت المسافتان ، علم صدقه ، وان اختلفا ، علم كذبه فلا يزال معه حتى تسكن النفس إلى صدقة ، فتمسح المسافة هاهنا ، وينظر ما بين المسافتين فيؤخذ بالحصة من الدية مثل السمع سواء هذا أخر كلامه في مبسوطة (1).

وعندي ان هذا يمكن الاعتماد عليه ، والاعتبار به ، فإنه قوى.

فان ادعى النقصان في العينين جميعا ، قيس عيناه إلى عيني من هو من أبناء سنه ، والزم ضاربه ما بينهما ، من التفاوت ، ويستظهر عليه بالأيمان ، ولا يقاس عين في يوم غيم ، ولا في أرض مختلفة الجهات في الضوء والظلمة بل يقاس في أرض مستقيمة.

ومن ادعى ذهاب بصره وعيناه مفتوحتان ، صحيحتان ، ولم يعلم صدق قوله ، استظهر عليه بالأيمان.

وروى انه يستقبل بعينيه عين الشّمس ، فان كان كما قال ، بقيتا مفتوحتين في عين الشمس ، فان لم يكن كما قال ، غمضهما (2).

وفي العين العوراء ، الدية كاملة ، إذا كانت خلقة ، أو قد ذهبت بآفة من جهة اللّه تعالى فان كانت قد ذهبت وأخذ ديتها ، أو استحق الدية ، وان لم يأخذها ، كان فيها ثلث (3) الدية ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4) ومسائل خلافه (5).

ص: 380


1- المبسوط ، كتاب الديات ، ج 7 ، ص 128 - 129.
2- الوسائل ، الباب 4 من أبواب ديات المنافع ، ح 1.
3- وفي المصدر ، نصف الدية.
4- المبسوط ، كتاب الديات ، ج 7 ، ص 146 ، ولا يخفى ان ما في المصدر خلاف ما نقله عنه ، فراجع.
5- الخلاف كتاب الديات مسألة 22 ، والعبارة هكذا ، في العين العوراء إذا كانت خلقة أو ذهبت بآفة من جهة اللّه ، الدية كاملة.

وذهب في نهايته إلى ان فيها نصف الدية (1).

والأول الذي اخترناه هو الأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ولأن الأصل براءة الذمة ، فيما زاد على الثلث ، فمن ادعى زيادة عليه ، يحتاج الى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا يرجع في مثل ذلك الى اخبار الآحاد.

والأعور ، إذا فقأ عين صحيح ، قلعت عينه ، وان عمى فان الحقّ أعماه ، فإن قلعت عينه ، كان بالخيار ، بين ان يقتص من احدى عينيه ، أو يأخذ تمام دية كاملة ألف دينار هذا إذا كانت ، قد ذهبت بآفة من اللّه تعالى ، فان كانت قد قلعت عينه ، فأخذ ديتها أو استحقها ولم يأخذها ففي العين الأخرى نصف الدية فحسب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والأعور إذا فقأ عين صحيح ، قلعت عينه وان عمى فان الحق أعماه فإن قلعت عيناه كان مخيّرا بين ان يأخذ الدية كاملة ، أو يقلع إحدى عيني صاحبه ، ويأخذ نصف الدية (2).

وما اخترناه نحن أولا هو اختياره في مسائل خلافه (3) ، فإنه رجع عما ذكره في نهايته ، وهو الذي يقتضيه الأدلة ، ويحكم بصحته ظاهر التنزيل ، لان اللّه تعالى قال « الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ » (4) ولم يقل العين بالعين ونصف الدية ، ولأن الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بنصف الدية ، يحتاج الى دليل.

وفي العين القائمة إذا خسف بها ثلث ديتها صحيحة ، وكذلك في العين العوراء التي أخذت ديتها ، أو استحقها صاحبها ، ولم يأخذها ثلث ديتها صحيحة على ما بيّناه أولا ، وحررناه.

وشيخنا أبو جعفر في نهايته ، فرّق بينهما ، بان قال إذا قلع العين العوراء التي أخذت ديتها ، أو استحقت الدية ولم تؤخذ نصف الدية يعنى ديتها ، فان خسف بها ، ولم يقلعها ، ثلث ديتها (5).

ص: 381


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.
3- الخلاف ، كتاب الديات 58.
4- سورة المائدة ، الآية 45.
5- النهاية ، لم نتحققها فيها.

والأولى عندي ان في القلع والخسف ثلث ديتها.

فاما إذا كانت عوراء والعور من اللّه تعالى بلا خلاف بين أصحابنا ان فيها ديتها ، كاملة خمسمائة دينار.

وقال المخالفون لأصحابنا ديتها مأتان وخمسون دينارا.

وفي الأذنين ، الدية كاملة ، وفي كل واحدة منهما نصف الدية ، وفيما قطع منهما ، بحساب ذلك.

وفي شحمة الأذن ثلث دية الاذن ، وفي خرمها ، ثلث ديتها ، يعني في خرم الشحمة ، ثلث دية الشحمة ، وهو ثلث الثلث الذي هو دية الشحمة.

وفي ذهاب السّمع ، دية كاملة ، وفيما نقص منه ، بحساب ذلك.

ويعتبر نقصانه بان يضرب الجرس ، في أربع جهات وينظر الى مدى ما يسمع منه ، فان تساوى ، صدق ، واستظهر عليه بالأيمان ، وان اختلف كذّب.

ومن ادعى ذهاب سمعه كله ، ومعه لوث ، كانت عليه القسامة ، حسب ما قدمناه ولا يقاس الاذن ، في يوم الريح ، بل يقاس في يوم ساكن الهواء.

وفي الأنف ، إذا استوصلت ، واستوعبت جدعا - بالدال غير المعجمة وهو القطع - الدية كاملة ، وكذلك إذا قطع مارنها فحسب ، كان فيه الدية أيضا - والمارن ما لان منها ، ونزل عن الخياشيم - وفيما نقص منه بحساب ذلك.

وكذلك في ذهاب الإحساس بها كلها الدية كاملة.

وروى عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال يعتبر ذلك ، بان يحرق الحراق ، ويقرب منه فان دمعت عينه ونحى انفه كان كاذبا وان بقي على ما كان صدق (1).

وينبغي ان يستظهر عليه بالأيمان حسب ما قدمناه.

وفي الشفتين جميعا الدية كاملة ، وفي العليا منهما ، ثلث الدية ، وفي السفلى ثلثاها.

ص: 382


1- أوردها الشيخ قدس سره في النهاية وقريب منها ما رواه في المستدرك الوسائل الباب 4 من أبواب ديات المنافع ، ح 1.

وقال شيخنا في نهايته في العليا منهما أربعمائة دينار ، وفي السفلى منهما ستة مائة دينار (1).

الا انه رجع في مبسوطة الى ما اخترناه فإنه قال ، وفي الشفتين الدية كاملة وفي السفلى عندنا ثلثاها ، وفي العليا ثلث الدية (2).

وهذا هو الأظهر ولا يرجع في مثل ذلك الى اخبار آحاد لا توجب علما ، ولا عملا.

وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه في مقنعته (3).

وذهب بعض أصحابنا إلى أنهما متساويتان في الدية فيهما جميعا ، الدية كاملة ، وفي إحديهما نصف الدية ، وهو ابن أبي عقيل في كتابه ، وهو قول قوي ، الا ان يكون على خلافه ، إجماع ، ولا شك ان الإجماع منعقد ، على تفضيل السفلى ، والاتفاق حاصل على الستمائة دينار ، والأصل براءة الذمة مما زاد عليه ، وبهذا القول الأخير اعمل ، وافتى ، وهو خيرة شيخنا في الاستبصار (4).

وفيما نقص منهما بحساب ذلك ، يقاس بالخيط ، ونحوه.

وفي الشفتين ، القود ، إذا قطعهما متعمدا بلا خلاف لأنّ لهما حدا تنتهي اليه.

وحد الشفة السفلى عرضا ما تجافى عن الأسنان ، واللثة - بكسر اللام وتخفيف الثاء - ما ارتفع عن جلد الذقن ، وحد عرض العليا ، ما تجافى عن الأسنان ، إلى اتصاله بالمنخرين ، والحاجز بينهما والطول حد طول الفم ، الى جانبيه ، وليست حاشية الشدقين منهما.

فان قطع بعض ذلك ، ففيه الدية بحسابه على ما قلناه تعتبر بالمساحة.

وفي لسان صحيح الحاسة والنطق ، الدية كاملة ، بلا خلاف ، فان جنى على اللسان المقدم ذكره ، فذهب نطقه فيه أيضا كمال الدية ، فإن ذهب ذوقه ، ففيه

ص: 383


1- النهاية ، كتاب الديات باب ديات الأعضاء والجوارح ..
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 132.
3- المقنعة ، باب دية الأعضاء والجوارح ص 755.
4- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 171 من أبواب ديات الأعضاء ، ص 288.

أيضا الدية.

فان جنى على ذلك فذهب بعض كلامه ، فالصحيح عندنا ، وعندهم ، انه يعتبر بحروف المعجم كلها ، وهي ثمانية وعشرون حرفا ، ولا تعدّ - لا - فيها لانه قد ذكر فيها الالف واللام.

فان كان النصف منها ، ففيه نصف الدية ، وما زاد أو نقص فبحسابه.

إذا جنى عليه ، فذهب من الحروف ، حرف ، تزول معه الكلمة بزواله ، مثل ان أعدم الحاء ، فصار مكان محمّد ، ممد ، ومكان أحمد ، أمد ، فعليه دية الحاء وحدها ، ولا دية عليه في حروف باقي الكلمة ، وان كان قد ذهب معناها ، لانه ما أتلفها.

وان ذهب من كل كلمة ، حرف ، وقام مقامه غيره فصار يقول مكان محمد ، محمّد ، فجعل مكان الحاء خاء ، فعليه دية الحاء وحدها ، لانّه ما أذهب غيرها.

فان قطع بعض اللّسان نظرت ، فان قطع ربعه ، فذهب ربع الكلام ، أو نصفه ، فذهب نصف الكلام ، ففيه من الدية بحساب ذلك ، لانه وافق القطع والكلام معا.

وإذا قطع ربع اللسان ، فذهب نصف الكلام ، أو نصف اللّسان ، فذهب ربع الكلام ، كان فيه نصف الدية ، بلا خلاف ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (1).

والذي يقتضيه الأدلة ، ان اللسان الصحيح ، الاعتبار فيه بحروف المعجم ، لا بقطع أبعاضه ، فإذا قطع نصف اللسان ، فذهب ربع الكلام ، فعليه ربع الدية ، اعتبارا بالكلام ، دون نصف اللسان ، وكذلك إذا قطع ربع اللسان ، فذهب نصف الكلام ، كان عليه نصف الدية ، اعتبارا بالكلام ، فلو كان الاعتبار بالأبعاض من اللسان ، لكان عليه ، ربع الدية ، لأنه ما قطع هاهنا ، سوى ربع اللسان ، فليلحظ ذلك.

وقد رجع شيخنا ، في موضع آخر من مبسوطة ، فقال ، فاما اللسان ، فالاعتبار

ص: 384


1- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 134.

عندنا بالحروف ، لا غير (1). فاما في نهايته (2) ، فوافق لما اخترناه ، فاما ما ذكره أولا بمذهب (3) المخالفين ، وتعليلاتهم ، وقياساتهم.

إذا قطع لسان صبي ، فإن كان قد بلغ حدا ينطق بكلمة ، بعد كلمة ، مثل قوله - بابا وماما - ونحوه ، فقد علم انه لسان ناطق ، فان قطعه قاطع فعليه الدية كاملة كلها ، كلسان الكبير الناطق ، وان كان طفلا لا نطق له بحال ، كمن له شهر ، وشهران ، وكان يحرّك لسانه ، لبكاء أو لغيره ، مما يعيّر (4) فيه اللسان ، ففيه الدية لأن الظاهر انه لسان ناطق ، فان اماراته ، لا تخفى ، فان بلغ حدا ينطق ، فلم (5) ينطق ، فقطع لسانه ، فهو كلسان الأخرس.

وعندنا في لسان الأخرس ، ثلث دية اللسان الصحيح ، واللسان يذكر ويؤنث.

فإن قطع بعض لسان الأخرس ، اعتبر بالمساحة ، وأخذ على حسابه ، لانه لا كلام له ، فيعتبر به ، بل الاعتبار فيه ، بمقاديره ، فهذا فرق ما بين لسان الصحيح ، ولسان الأخرس.

وفي الأسنان كلّها ، الدية كاملة.

والتي تقسم عليها الدية ، ثمانية وعشرون سنا ، ستة عشر منها ، في مآخير الفم ، واثنتي عشرة في مقاديمه.

فالتي هي في مآخير الفم لكل سنّ منها خمسة وعشرون دينارا فذلك أربعمائة دينار ، والتي (6) في مقاديم الفم ، لكل سنّ منها خمسون دينارا ، فذلك ستّمائة دينار والجميع الف دينار ، وما زاد على ما ذكرناه في العدد فليس له دية مخصوصة ، بل فيه حكومة ، بأن تقوّم ان لو كان عبدا ويعطى بحساب ذلك من دية الحر ، على ما بيناه ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه (7).

وذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته الى أنّ ما زاد على ما ذكرناه في العدد فليس له

ص: 385


1- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 135.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح ..
3- ج. ل. فمذهب.
4- ل. يعبّر.
5- ج. فلا.
6- ج. ل. التي هي.
7- في المقنعة ، باب دية الأعضاء والجوارح ص 756.

دية مخصوصة ، إلّا إذا قلعت مفردة ، فإن قلع السن الزائد مفردا كان فيه ثلث دية السن الأصليّ (1).

وهذا المذهب قوىّ ، وبه أخبار (2) كثيرة معتمدة.

وفي السن الأسود ثلث دية السن الصحيحة ، وروى (3) ربع دية السنّ الصحيح.

وإذا ضربت السن فلم تسقط ، لكنها اسودّت أو انصدعت (4) ففيها ثلثا دية سقوطها.

ومن ضرب سن صبي فسقط انتظر به ، فان نبتت لم يكن فيها قصاص ، وكان فيها الأرش ، ينظر فيما ينقص من قيمته بذلك وقت سقوطها أن لو كان مملوكا ، ويعطى بحساب ذلك على الاعتبار الذي قدمناه.

فإذا قلع السن بسنخها ، فالسن ما شاهدته زائدا على اللثة - بكسر اللام ، وتشديدها ، وفتح الثاء المنقطة ثلاث نقط ، وتخفيفها - والسنخ أصلها المدفون في اللثة ، فإذا قلعها من أصلها ففيها خمس من الإبل ، لأن أصلها كأصل الإصبع.

فإن قطع منها ظاهرها كله دون سنخها ففيها دية سن ، كما لو قطع إصبعا من أصلها الذي هو الكفّ.

فان جنى آخر فقلع سنخها ، كان فيه حكومة ، كما لو قطع رجل إصبع رجل ثم جنى (5) آخر فقلع أصلها إلى الكوع كان على قاطعها دية إصبع ، وعلى قاطع ما تحتها حكومة.

ص: 386


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح ..
2- لم نتحققها وفي الجواهر ج 43 ، ص 234 نقلا عن نكت النهاية في الرد على ابن إدريس نحن لا ندري قوته من اين عرفها ، ولا الاخبار التي أشار إليها أين وجدها لا الكثرة من اين حصلها ونحن مطالبوه بدعواه « راجع نكت النهاية ، في نكتها على باب ديات الأعضاء والجوارح. من النهاية » ص 367 من الجوامع الفقهية.
3- الوسائل ، الباب 40 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 3.
4- ج. ل. تصدّعت.
5- ج. جاء.

فاما سن المثغر - يقال في اللغة ، ثغر الغلام فهو مثغور إذا سقطت اللبن منه ، واثغر ، واثغر ، إذا نبتت بعد سقوطها ، ويقال : ثغرت الرّجل ، إذا كسرت سنة - فإذا ثبت هذا فإذا قلع سن إنسان لم يخل من أحد أمرين : إمّا أن يكون سن صغير لم يسقط بعد ، أو سن كبير ، فان كان سن صغير لم يسقط بعد ، وهي سن اللبن ، فقد قلنا ما عندنا فيه ، وهو مذهب شيخنا المفيد (1) وشيخنا أبي جعفر في نهايته (2).

وذهب في مبسوطة الى ان قال : فالذي رواه أصحابنا أن في كل سن بعيرا ولم يفصّلوا (3).

والذي قاله في نهايته هو مذهب أصحابنا اجمع ، وما قاله في مبسوطة لم يذهب أحد من أصحابنا اليه ، ولا أفتى به ، ولا وضعه في كتابه على ما أعلمه.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : مسألة : إذا قلع سن مثغر كان له قلع سنة ، فإذا قلعه ثم عاد سن الجاني كان عليه أن يقلعه ثانيا ابدا (4).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا قول الشافعي ، اختاره شيخنا.

ثم استدل شيخنا بما يضحك الثكلى ، فقال : « دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم » يا سبحان اللّه من اجمع معه على ذلك؟! وأي أخبار لهم فيه؟! وانما أجمعنا في الاذن لأمور : أحدها أنها ميتة ، فلا يجوز الصّلاة له ، لأنه حامل نجاسة فيجب زوالها ، والثاني إجماعنا على ذلك وتواتر أخبارنا ، فمن عدّاه الى غيرها فقد قاس ، والقياس عندنا باطل ، وأيضا فالسن هبة مجددة من اللّه تعالى ، خلقه ، لا هي تلك المقلوعة نفسها ، فكيف تقلع ابدا ، وهذا منه « رحمه اللّه » إغفال في التصنيف ، فإنه قد رجع عن ذلك في مبسوطة (5).

ص: 387


1- في المقنعة ، باب دية الأعضاء والجوارح ص 757.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح ..
3- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 138.
4- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 77.
5- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الجراح ، ص 99 الّا ان كلامه فيه موافق لخلافه والعبارة هكذا ، فله قلعها ابدا حتى يعدم إنباتها وهو الذي يقتضيه مذهبنا.

وفي اللّحية إذا حلقت فلم تنبت ، الدية كاملة ، وان نبتت كان فيها ثلث الدية.

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته (1) إلى أن في شعر الرأس إذا أصيب فلم ينبت مائة دينار ، وفي شعر اللحية كذلك ، إذا ذهب فلم ينبت.

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر (2) وهو الأظهر الأصحّ.

وفي العتق إذا كسر فصار الإنسان منه أصور الدية كاملة.

وفي اليدين جميعا الدية كاملة ، وفي كل واحدة منهما نصف الدية ، وفي أصابع اليدين الدية كاملة ، وفي كل واحدة منهما عشر الدية.

وهذا مذهب شيخنا في نهايته (3) وهو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، وتعضده الأدلة والاعتبار.

وقد روى (4) أن في الإبهام ثلث دية اليد ، وفي الأربع أصابع ثلثي ديتها ، بينها بالسّوية.

والى هذه الرّواية يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (5) ، متأولا للرّواية الشاذّة.

والصحيح ما ذهب اليه واختاره في نهايته ، لما قدمنا من الأدلة.

وفي كلّ أنملة ثلث دية الإصبع ، إلا في الإبهام ، فان في كل أنملة منها نصف ديتها ، لان لها مفصلين.

وفي الإصبع الزائدة ثلث دية الإصبع الصحيحة.

وفي الظفر إذا قلع ولم يخرج عشرة دنانير ، فان خرج أسود فثلثا ديته ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : « جميع ديته » (6).

وما ذكرناه أولى ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ، وأيضا

ص: 388


1- المقنعة ، باب دية الأعضاء والجوارح ص 756.
2- في النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.
3- في النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.
4- الوسائل ، الباب 12 من أبواب ديات الأعضاء ، ج 1.
5- الاستبصار ، ج 4 الباب 175 من أبواب ديات الأعضاء ، ص 292.
6- في النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.

فليس خروجه اسود كلا خروجه بالكليّة.

فإن خرج أبيض فخمسة دنانير ، على ما روى (1).

والمرأة تساوى الرجل في جميع ما قدمناه من ديات الأعضاء والجوارح ، حتى تبلغ ثلث دية الرجل ، فإذا بلغتها رجعت الى النصف من ديات الرجال.

مثال ذلك : أن في إصبع الرجل إذا قطعت عشرا من الإبل ، وكذلك في إصبع المرأة ، وفي إصبعين من أصابع الرجل عشرون من الإبل ، وفي إصبعين من أصابع المرأة كذلك ، وفي ثلاث أصابع الرجل ثلاثون من الإبل ، وكذلك ثلاث أصابع المرأة سواء ، وفي أربع أصابع من يد الرجل أو رجله أربعون من الإبل ، وفي أربع أصابع المرأة عشرون من الإبل ، لأنها زادت على الثلث ، فرجعت بعد الزيادة إلى أصل دية المرأة ، وهي النصف من ديات الرجال ، ثم على هذا الحساب ، كلّما زادت أصابعها وجوارحها وأعضاؤها على الثلث رجعت الى النصف ، فيكون في قطع خمس أصابع لها خمس وعشرون من الإبل ، وفي خمس أصابع الرجل خمسون من الإبل.

بذلك ثبتت السنة عن نبيّ الهدى عليه السلام ، وبه تواترت الاخبار (2) عن الأئمة من آله الاطهار عليهم السلام وقد روى محمّد بن أبي عمير ، عن عبد اللّه بن الحجاج ، عن أبان بن تغلب ، قال : قلت للصادق عليه السلام : ما تقول في رجل قطع إصبع امرأة كم فيها؟ قال : عشر الدية ، أو عشر من الإبل ، قال : قلت : اثنين؟ قال : خمس الدية ، أو عشرون من الإبل ، قلت : ثلاث أصابع؟ قال : ثلاثون من الإبل ، قال : قلت : أربع أصابع (3) قال : عشرون ، قلت : سبحان اللّه : يقطع ثلاثا فيكون ثلاثين من الإبل ، ويقطع أربعا فيكون فيها عشرون! هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ، فنتبرّأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : فمهلا يا أبان! هذا حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، انّ المرأة تعاقل الرّجل الى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف ، يا أبان! إنك أخذت بالقياس ، والسنة إذا قيست أبطلت

ص: 389


1- الوسائل ، الباب 41 ، من أبواب ديات الأعضاء ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 44 ، من أبواب ديات الأعضاء.
3- ج. ل. قطع أربع أصابع.

الدّين (1).

ومثل هذا رواه المخالفون عن سعيد بن المسيّب ، فقال له السّائل كلما عظمت مصيبتها ، قل عقلها ، فقال له سعيد ، هكذا السنّة (2).

ولا فرق بين ان يكون الجاني على المرأة امرأة ، أو رجلا في ان الجناية ديتها ، دية جارحة الرجل ما لم تبلغ ثلث الدية ، لأن الأخبار عامة بان ديات أعضاء النساء ، وجوارحهن تتساوى في ديات أعضاء الرجال ، وجوارحهم ، وان دية جارحة المرأة مثل دية جارحة الرجل ، ما لم تبلغ ثلث دية الرجل ، فمن خصّ ذلك ، فعليه الدليل.

وروى المخالف ، ان ربيعة ، قال لسعيد بن المسيّب كم في إصبع المرأة ، قال عشر ، قلت ففي إصبعين ، قال عشرون ، قلت ففي ثلاث ، قال ثلاثون ، قلت ففي أربع ، قال عشرون ، فقلت له انه لمّا عظمت مصيبتها ، قلّ عقلها ، قال هكذا السنة (3).

قوله هكذا السنة دال على انه أراد سنة النبي صلى اللّه عليه وآله وإجماع الصحابة والتابعين على هذا (4) الحكم مخصوص إذا كان الجاني عليها واحد ولم تبلغ جنايته ، ثلث ديات الرجال ، أو بلغتها ، كان الاعتبار ما قدمناه.

فامّا إذا اختلف الجناة ، ولم تبلغ جناية كل واحد منهم ، ثلث الدية ، وان كانت جناياتهم بمجموعها ، تبلغ ثلث ديات الرجال ، فإنها لا تنقص المرأة ، بل يجب لها على كل واحد وجان القصاص ، أو دية عضو الرجل ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل ، فإنه غامض.

وسواء كانت الجناة رجالا أو نساء ، على ما قدمناه وحررناه من قبل ، وبيّناه.

والمرأة تقاصص (5) الرجل فيما تساويه في ديته من الأعضاء ، والجوارح ،

ص: 390


1- الوسائل ، الباب 44 من أبواب ديات الأعضاء ، ح 1 وفي المصدر ، إذا قيست محق الدين.
2- سنن البيهقي ، كتاب الديات ، باب ما جاء في جراح المرأة ، الحديث 4 ( ج 8 ، ص 96 ) فيه. « إنّها السنّة ».
3- سنن البيهقي ، كتاب الديات ، باب ما جاء في جراح المرأة ، الحديث 4 ( ج 8 ، ص 96 ) فيه. « إنّها السنّة ».
4- ج. وهذا الحكم. ل. وإجماع الصحابة والتابعين ، هذا الحكم.
5- ج. تقاصّ.

والأسنان ، ولا قصاص بينهما وبينه فيما زاد على ذلك ، لكنها تستحق به (1) الأرش والديات ، هكذا أورده شيخنا المفيد في مقنعته (2).

والذي يقتضيه الأدلة ، ويحكم بصحته أصول مذهبنا ان لها القصاص ، فيما تساويه ، وفيما لا تساويه ، غير ان فيما تساويه ، لا تراد (3) ، إذا اقتصت ، وفيما لا تساويه ، تردّ فاضل الدية ، وتقتص حينئذ لأن إسقاط القصاص ، بين الأحرار المسلمين ، يحتاج الى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، بل القرآن ، والإجماع منعقد ، على ثبوته.

والى ما حررناه يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الثالث ، من استبصاره في باب حكم الرجل ، إذا قتل امرأة (4).

وهو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة ولم يخالف فيه سوى من ذكرته ، وهو معلوم العين.

وفي الظّهر إذا كسر ، ثم صلح ، ثلث الدية ، فإن أصيب ، حتى صار بحيث لا ينزل في حال الجماع ، كان فيه الدية كاملة.

وكذلك إذا صار محدودبا منه الإنسان ، كان فيه الدية كاملة.

وكذلك ان صار بحيث لا يقدر على القعود ، كانت فيه الدية كاملة.

وفي النخاع إذا انقطع ، الدية كاملة ، وقد بينا حقيقة النخاع في باب الذبائح ، فلا وجه لإعادته.

وإذا كسر بعصوص الإنسان ، أو عجانه - والعجان ما بين الخصية والفقحة فلم يملك بوله ، أو غائطه ، ففيه الدية كاملة ، وإن اصابه سلس البول ، ودام الى الليل ، فما زاد عليه كان فيه الدية كاملة وان كان الى الظهر ، ثلثا الدية ، وان كان الى ضحوة ثلث الدية ، ثم على هذا الحساب.

وفي ذكر الرجل إذا قطعت حشفته ، فما زاد عليها الدية كاملة ، فإن كان ذكر

ص: 391


1- ج. ل. بها الأرش.
2- المقنعة ، باب الحوامل والحمول وجوارح النساء ص 764.
3- ج. ل. لا ترد.
4- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 154 من كتاب الديات ، ص 266.

عنين ، ففيه ثلث الدية في جميعه ، وما قطع منه فبحساب ذلك ، يمسح ويعرف ذلك بالاعتبار والمقدار.

ويقطع ذكر الفحل بذكر من قد سلت بيضتاه.

وفي فرج المرأة ، دية كاملة.

والأسكتان مكسورا الأوّل مسكّن السين غير المعجمة مفتوح الكاف بالتاء المنقطة نقطتين من فوقها تثنية اسكت ، وهما غير الشفرين عند أهل اللغة ، وهما اللحم المحيط بمشق الفرج ، والشفران بضم الشين حاشية الأسكتين ، كما ان للعينين جفنين ينطبقان عليهما ، وشفرهما في الحاشية التي ينبت فيها اهداب العين ، والأسكتان ، كالأجفان ، والشفران ، كشفري العين.

قال الزجاج ، في خلق الإنسان في باب الحرّ يقال له الحر والقبل ، والفرج والحياء وفيه الأسكتان ، وهما جانباه.

وقال أبو هلال العسكري في كتاب خلق الإنسان الأسكت على وجهين أحدهما مما يلي الشفرين من فرج المرأة ، وهما اسكتان.

قال جرير :

ترى برصا بأسفل إسكتيها *** كعنفقة الفرزدق حين شابا

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، - الأسكتان والشفرتان عبارة عن شي ء واحد وهما اللحم المحيط بالفرج إحاطة الشفتين بالفم وهما عند أهل اللغة عبارة (1) عن شيئين - هذا أخر كلام شيخنا (2).

والصحيح ما قاله أهل اللغة فالمرجع في ذلك إليهم.

فإذا ثبت هذا فمتى جنى عليهما فقطع ذلك منها ، فعليه ديتها كاملة.

الرتق انسداد في الفرج.

والقرن - بفتح القاف وسكون الراء وهو عظم داخل الفرج يمنع الجماع - فإذا قطع قاطع شفريهما ، ففيهما ديتها ، لان العيب ، داخل الفرج ، فهما بمنزلة شفتي

ص: 392


1- ج. عبارتان.
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 149.

الأخرس ، ولو كان أخرس ، كان في شفتيه ، الدية كاملة.

فإن قطع الركب - بفتح الراء والكاف - معهما ففي الركب حكومة - والركب هو الجلد الثاني فوق الفرج وهو منها بمنزلة موضع شعرة الرجل - ففي الركب حكومة.

والإفضاء أن يجعل مدخل الذكر ، وهو مخرج المنى والحيض والولد ومخرج البول ، واحدا ، فان مدخل الذكر ، ومخرج الولد واحد ، وهو أسفل الفرج ، ومخرج البول من ثقبة كالاحليل ، في أعلى الفرج ، وبين المسلكين حاجز رقيق ، فالافضاء ازالة ذلك الحاجز.

وقد يتوهم كثير من الناس ، ان الإفضاء ، أن يجعل مخرج الغائط ، ومدخل الذكر ، واحدا.

وهذا غلط عظيم.

ففي الإفضاء الدية كاملة ، على ما قدمناه ، فان كانت بكرا ، وجب المهر ، والدية معا ، وقال قوم لا يجب أرش البكارة ، فإنه يدخل في دية الإفضاء ، ومنهم من قال يجب أرش البكارة ، وهو مذهبنا ، لانه لا دليل على دخوله في أرش الإفضاء.

وفي الأنثيين معا الدية كاملة ، وفي كل واحد منهما نصف الدية.

وقد روى ان في اليسرى منهما ، ثلثي الدية ، لأن الولد يكون من اليسرى (1).

ولا دليل يعضد هذه الرواية.

وفي أدرة الخصيتين - بضم الألف وسكون الدال غير المعجمة وبفتح الراء غير المعجمة وهي انتفاخ الخصيتين لان الأدرة من الرجال الضخم الخصية من فتق أو غيره.

قال الجوهري ، في كتاب الصحاح الأدرة نفخة في الخصية ، يقال رجل آدر بيّن الأدرة (2).

فإذا ثبت ذلك وتحققت لغتها ، ففيها أربع مائة دينار.

فان فحج فلم يقدر على المشي ، أو مشى شيئا لا ينتفع به ، كان فيه ثمانمائة دينار ،

ص: 393


1- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب ديات الأعضاء ، ح 2.
2- ل ، بين الأدرة والأدر.

ومن تزوج بصبية فوطئها قبل ان تبلغ تسع سنين ، فأفضاها ، كان عليه ديتها على ما قدمناه ، ومهرها أيضا ، ويلزم نفقتها الى ان يفرق اللّه بينهما بالموت ، فإن وطأها بعد تسع سنين فأفضاها لم يكن عليه شي ء سوى مهرها.

ومن افتض جارية بإصبعه ، فذهب بعذرتها كان عليه مهر نسائها ، سواء كان الفاعل رجلا أو امرأة إذا كانت المفعول بها صغيرة لا تعقل ، أو كبيرة ومكرهة على ذلك وكذلك ان زنى بها فأذهب (1) بعذرتها.

وفي ثديي المرأة ، ديتها ، لأنهما من أصل الخلقة ، وفي أحدهما نصف الدية ، فإن قطعهما مع شي ء من جلدة الصدر ، ففيهما ديتها ، وحكومة ، في الجلدة.

إذا قطع من الثديين ، الحلمتين ، وهما اللتان ، كهيئة الزّر (2) في رأس الثدي يلتقمهما الطفل ، ففيهما الدية.

فاما حلمتا الرجل ، قال قوم فيهما الحكومة ، وقال آخرون ، فيهما الدية ، وهو مذهبنا.

وفي الرجلين معا الدية كاملة ، وفي كل واحدة منهما ، نصف الدية.

وفي أصابع الرجلين معا ، الدية كاملة ، وفي كل واحدة منهما ، عشر الدية.

وحكم المرأة ، حكم الرجل ، على ما قدمناه في اليدين سواء.

وقد روى ان في الإبهام منها ، ثلث الدية ، والثلثين في الأربع الأصابع (3) كما ذكرناه في اليدين سواء.

والأول هو المعوّل عليه ، لان هذه الرواية ، ما يعضدها دليل يوجب العلم ، واخبار الآحاد ، لا يعمل بها في الشرعيات عندنا.

وكل شي ء من الأعضاء في الإنسان ، منه واحد ففيه الدية كاملة إذا قطع من أصله إلا ما خرج بدليل من الحشفة ، وهي الكمرة ، وهي طرفه ، بفتح الكاف والميم والدال (4) غير المعجمة وهي الفيشة ، والفيشة ، من ذكر الصحيح ، دون ذكر العنّين

ص: 394


1- ج فذهب.
2- الزّر بالكسر ، الحبّة تجعل في العروة.
3- الوسائل ، الباب 12 من أبواب ديات الأعضاء ، ح 1.
4- ج. ل. الراء ، ولا يخفى تناقض ضبط الكلمة مع هجائها في النسخة الأصلية الّا ان كمدة وكمرة بمعنى واحد كما في لغة دهخدا وفي مجمع البحرين كمر بالتحريك حشفة الذكر ..

وفيما كان من الأعضاء في الإنسان ، منه اثنان ففيهما جميعا الدية ، إلا ما خرج بدليل من الحاجبين ان كان ذكرا حرا مسلما ، فبحساب ديته ، على ما تقدم ذكره الف دينار ، وان كانت امرأة مسلمة حرّة فديتها خمسمائة دينار.

وقد بيّنا القول ، في دية العبد ، والذمي ، بما اغنى عن تكراره في هذا المكان ، فدية أعضاء هؤلاء المذكورين ، بحساب دياتهم ، في اليد ، إذا استوصلت من الزند نصف الدية ، وفي اليدين جميعا الدية كاملة ، كذلك وفي الذراع ، والذراعين ، والعضد ، والعضدين ، فان قطع قاطع ، اليد من نصف الذراع ، كان عليه في اليد ، القود ، لان لها مفصلا ينتهى اليه ، وعليه دية نصف الذراع ، نصف الدية ، يعتبر ذلك بالمساحة ، ولا قود فيه بحال ، لان فيه تغريرا بالنفس ، وأيضا لا مفصل له ينتهى اليه ، فليلحظ ذلك.

واليد إذا ضربت فشلّت ولم تنفصل من الإنسان ، كان فيها ثلثا دية انفصالها.

ومن كسر يد إنسان ، ثم برأت ، وصلحت ، لم يكن فيها قصاص ، ويجب فيها الأرش على ما بيّناه من الاعتبار.

وفي اليد الشلاء ، إذا قطعت ثلث ديتها صحيحة.

وفي كل عضو ، ومفصل ، إذا ضربه ضارب فشل ، ولم ينفصل عن محله ، ففيه ثلثا ديته ، فان قطعه قاطع ، بعد شلله ، ففيه ثلث ديته.

ومن رعد قلبه ، فطار ، كان فيه الدية كاملة.

وفي إعدام الشم ، الدية كاملة على ما بيّناه.

وفي إعدام السمع الدية أيضا كاملة.

وقد روى ان من داس بطن إنسان حتى أحدث كان عليه ، أن يداس بطنه حتى يحدث ، أو يفتديه بثلث الدية (1).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، خلاف هذه الرواية ، لأن هذا فيه التغرير بالنفس ، فلا قصاص في ذلك بحال.

ص: 395


1- الوسائل ، الباب 20 ، من أبواب قصاص الطرف ، ح 1.

وقد روى ان من ضرب امرأة مستقيمة الحيض على بطنها ، فارتفع حيضها ، فإنه ينتظر بها سنة ، فان رجع طمثها الى ما كان ، والا استحلفت ، وغرم ضاربها ، ثلث ديتها.

ومن قطع أنف إنسان وأذنيه ، وقلع عينيه ، ثم قتله ، اقتص منه أولا ، ثم يقاد به ، سواء فرق ذلك به في ضربات أو كان قد ضربه ضربة واحدة ، فحنت الضربة هذه الجنايات.

قال بعض أصحابنا اقتص منه أوّلا ، ثم يقاد به إذا كان قد فرّق ذلك به وان كان قد ضربه ضربة واحدة فجنت الضربة هذه الجنايات وأدت إلى القتل ، لم يكن عليه أكثر من القود ، أو الدية ، وهذا قول شيخنا أبي جعفر في نهايته (1).

وما اخترناه اختياره في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3) ، وهو الأظهر ، والأصح عند محصلي أصحابنا ، ويعضده ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (4) - وقوله تعالى « وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ » (5) لانه لا يدخل قصاص الطرف ، في قصاص النفس ، ويدخل دية الطرف ، في دية النفس ، فهذا الفرق بين الموضعين.

ومن ضرب إنسانا على رأسه ، فذهب عقله ، انتظر به سنة ، فان مات فيما بينه وبين سنة من ألم الضربة قيد به ، وان لم يمت ولم يرجع اليه عقله ، كان عليه جميع الدية ، فإن رجع عليه عقله ، كان عليه أرش الضربة.

فإن أصابه مع ذهاب العقل ، اما موضحة ، أو مأمومة ، أو غيرهما من الجراحات ، لم يكن فيه أكثر من الدية ، إذا مات من الضّرب.

ومن قطع يمين رجل قطعت يمينه بها ، فان لم يكن له يمين وكان له يسار ، قطعت

ص: 396


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح .. وفي المصدر فجنت عليه الضربة.
2- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 89 ، الا انه مخالف مع المسألة 23 ، والعبارة هكذا ، يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس .. فراجع.
3- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الجراح ، ص 113.
4- سورة البقرة ، الآية 194.
5- سورة المائدة ، الآية 45.

بها ، فان لم يكن له يدان ، فلا يقطع رجله ، باليد لانه لا دليل عليه ، وكان عليه الدية ، لما قطع.

وقد روى ، انه إذا لم يكن له يدان قطعت رجله ، فان لم يكن له يدان ، ولا رجلان ، كان عليه الدية ، لا غير (1).

وروى انه إذا قطع أبدى جماعة قطعت يداه بالأوّل فالأوّل والرجل بالآخر فالآخر ، ومن يبقى بعد ذلك ، كان له الدية ، لا غير (2).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وهو انه لا تقطع الرجل باليد بحال ، ووجب للباقين الدية.

إذا قطع مسلم يد نصرانيّ له ذمة ، ثم أسلم وسرت الجناية إلى نفسه ، وهو مسلم ، فمات ، أو قطع حر عبدا ثم أعتق العبد ، وسرت الجناية إلى نفسه ، سواء في انه لا قود ، في ذلك ، لان التكافؤ إذا لم يكن حاصلا في وقت القطع ، وكان موجودا في وقت السراية ، لم يثبت القود في القطع ، ولا السراية ، فإذا كان كذلك ولم يلزم فيما ذكرناه قود ، كان فيه الدية ، لأن الجناية إذا وقعت مضمونة كان الاعتبار بأرشها في حال الاستقرار ، يدل على ذلك انه إذا قطع يدي مسلم ، ورجليه ، كان فيه ديتان ، فان سرى ذلك ، الى نفسه كان فيه دية واحدة ، ويعتبر القصاص بحال الجناية ، والمال بحال الاستقرار.

وإذا قطع يد مرتد ، ثم أسلم ، ومات أو يد حربي ، فأسلم ، ثم مات ، وكان القطع في حال كفره ، والسراية في حال إسلامه ، لم يجب هاهنا قود ، لما تقدم ذكره ، والدية أيضا لا تجب هاهنا ، لأن الجناية إذا لم تكن مضمونة ، لم تكن سرايتها مضمونة.

قد قلنا ان في الحشفة وحدها ، الدية كاملة ، لأن الجمال والمنفعة بها ، كالأصابع في اليد ، فان قطع قاطع ما بقي ، ففيه حكومة ، كما لو قطع الكفّ بلا أصابع

ص: 397


1- الوسائل ، الباب 12 ، من أبواب قصاص الطرف ، ح 1 - 2 والظاهر انها مضمون الروايتين.
2- الوسائل ، الباب 12 ، من أبواب قصاص الطرف ، ح 2.

عليها ، فان قطع بعض الحشفة ، فعليه ما يخصّه من الدية ، وفي اعتبارها قال قوم من كل ذكر ، لأنها منه ، وقال اخرون من الحشفة ، لأن الدية تجب بها فكان الاعتبار ، بها دون غيرها ، وهذا هو الأظهر الأقوى ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه (1).

إذا كان المجني عليه عبدا ، ففيه ما نقص من قيمته ، فيقال كم قيمته ، وليس هذه الجناية به؟ قالوا مائة ، قلنا وكم قيمته وبه هذا الشين ، قالوا تسعون ، قلنا قد نقص عشر القيمة ، فيوجب فيه ما نقص ، وعلى هذا كل الحكومات في المملوكات أرش الجنايات عليها ما نقصت على ما فصلناه.

فان كان حرا لم يمكن تقويمه ، لكنه يقدّر بالعبد ، فيقال لو كان عبدا وليس به هذه الجناية ، كم قيمته؟ قالوا مائة ، قلنا وبه هذه الجناية ، قالوا تسعون ، قلنا فقد نقص عشر قيمته ، فيجب في الحر عشر ديته ، فالعبد أصل للحر فيما ليس فيه مقدر ، والحر أصل للعبد ، فيما فيه أرش مقدّر ، فليلحظ ذلك ، فإنه أصل يعتمد عليه.

وقلنا ان في الأنف ، الدية ، فإذا ثبت ذلك ، فإنما الدية في المارن منه - وهو ما لان وهو دون قصبة الأنف ، وذلك هو المنخران ، والحاجز بينهما إلى القصبة - فإن قطع كل المارن ، ففيه الدية كاملة ، فإن قطع بعضه ، ففيه بالحصّة مساحة ، كما قلناه في غير ذلك.

فان شق الحاجز بين المنخرين ، ففيه حكومة ، سواء اندمل أو بقي منفرجا ، على الاعتبار الذي قدمناه من قيمة العبد في حساب دية الحرّ.

فان قطع احدى المنخرين ، ففيه نصف الدية ، لأنه ذهب نصف المنفعة ، ونصف الجمال ، وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2).

إذا قطع يدي الرجل ورجليه ومضت مدة يدمل فيها ، ثم مات ، فقال الجاني مات بالسّراية ، فعليّ دية واحدة ، وقال الوليّ بغير سراية ، وجب ان يكون القول ، قول الولي ، لأن الظاهر وجوب ديتين ، حتى يعلم غيره.

ص: 398


1- في المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 152.
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 131.

إذا اصطدم الفارسان : فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما ، نصف دية صاحبه ، والباقي هدر ، هذا إذا كان خطأ محضا فاما ان كان عمدا محضا فعلى كل واحد منهما ، في تركته ، نصف دية صاحبه حالة مغلظة.

فاما ان مات الفرسان ، فعلى كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه ، فان كان القيمتان سواء تقاصّا ، وان اختلفا فإنهما يتقاصان ، ويترادّان الفضل ، ولا يكون ضمان القيمة على العاقلة ، لأن العاقلة لا تعقل البهائم ، سواء كان القتل عمدا ، أو خطأ محضا.

إذا سلّم ولده الى السّابح ، ليعلمه السباحة ، فغرق ، ضمنه ، لانه تلف بالتعليم ، فهو كما لو ضرب المعلّم الصبي ، على التعليم ، فمات ، ولانه فرّط ، في حفاظه ، واحكام شكوته وملازمة رجله ، فقد فرط ، فعليه الضمان ، وهو عندنا عمد الخطأ ، تكون الدية في ماله عندنا مؤجلة سنتين.

فان كان المتعلّم للسباحة كبيرا ، رشيدا ، فإنه لا ضمان على المعلّم ، بحال ، لان البالغ العاقل متى غرق في تعلم السباحة ، فهو الذي ترك الاحتياط في حق نفسه ، فلا ضمان على غيره.

العين القائمة ، واليد الشلاء والرجل الشلاء ، واللسان الأخرس ، والذكر الأشل العنين ، كل هذا وما في معناه ، يجب فيه ثلث ديته صحيحة وكل عضو فيه ، مقدر ، إذا جنى عليه ، فصار أشل ، وجب فيه ثلثا ديته.

وكل جرح له مقدّر إذا كان في الرأس ، والوجه ، على ما تبينه فيما بعد ان شاء اللّه فإذا كانت في الجسد ، ففيها بحساب ذلك من الرأس ، منسوبا الى العضو الذي هي فيه ، الا الجائفة ، فإن فيها مقدرا في الجوف ، وهو ثلث الدية.

مثال ذلك الموضحة ، إذا كانت في الرأس ، أو الوجه ، فيها نصف عشر الدية ، فإن كانت في اليد ، ففيها نصف عشر دية اليد فإن كانت في الإصبع ففيها نصف عشر دية الإصبع وهكذا باقي الجراح.

إذا اصطدمت السفينتان من غير تفريط من القائم بهما ، في شي ء من أسباب التفريط ، بل بالريح ، فهلكتا وما فيهما من الأموال ، والأنفس ، كان ذلك هدرا ،

ص: 399

لا يلزم واحدا منهما شي ء لصاحبه ، لأن الأصل براءة الذمة.

إذا جنى الرجل على نفسه جناية خطأ محضا ، كان هدرا لا يلزم العاقلة ديته.

المولى من أسفل ، لا يعقل عن المولى من فوق شيئا بحال ، - ومعنى المولى من فوق ، هو المنعم بالعتق على العبد ، ومعنى المولى من أسفل ، هو المنعم عليه بالعتق.

إذا بنى حائطا مستويا في ملكه ، فمال الى الطريق ، أو الى دار جاره ، ثم وقع فأتلف نفسا وأموالا فلا ضمان عليه ، ولا قود ، ولا دية ، لأن الأصل براءة الذمة ، وليس هاهنا دليل قاطع ، على وجوب الضمان بحال.

إذا سقط حائط إلى طريق المسلمين ، فعثر إنسان بترابه ، فمات ، لم يلزم ضمانه صاحب الحائط لمثل ما قلناه.

إذا شرع جناحا الى شارع المسلمين ، أو الى درب نافذ أو أراد إصلاح ساباط على وجه ، لا يضر بأحد من المارة ، فليس لأحد معارضته ، ولا منعه منه ، لأنّ الأصل الجواز ، والمنع يحتاج الى دليل ، ولأن أحدا لم ينكر هذا ، والنبيّ صلى اللّه عليه وآله فعله ، وأقرّه ، ولان هذه الأجنحة ، والساباط والسقائف سقيفة بني النجار ، وسقيفة بني ساعدة ، وغير ذلك كانت موجودة ، لم ينكرها أحد من المسلمين ، لا في زمان الرسول صلى اللّه عليه وآله ولا بعده والى يومنا هذا لم ينقل ان أحدا اعترض فيها ، ولا أزيلت باعتراض معترض عليها ، ثبت ان إقرارها جائز ، بإجماع المسلمين وكل الميازيب.

فإذا ثبت هذا ، فان وقع على أحد ، لا شي ء على صاحبه على ما قدمناه ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ، وقوله تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (1) وهذا محسن بوضعه غير آثم على ما قدمناه.

دية الجنين التام ، مائة دينار ، سواء كان ذكرا أو أنثى.

إذا ضرب بطنها ، فألقت جنينا فإن ألقته قبل وفاتها ، ثم ماتت ففيها ديتها ، وفي الجنين قبل ان تلجه الرّوح ، مائة دينار ، وان كان بعد ان ولجته الرّوح ، فالدية

ص: 400


1- سورة التوبة ، الآية 91.

كاملة سواء ألقته حيا ، ثم مات أو ألقته ميتا ، إذا علم قبل إلقائه ، انه كان حيّا.

فان مات الولد في بطنها ، وكان تامّا حيّا قد علم وتحقق حياته ، روى في بعض الأخبار أن ديته ، نصف دية الذكر ، ونصف دية الأنثى (1).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا استعمال القرعة ، ولا يلتفت الى اخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ، ولا عملا ، والقرعة مجمع عليها ، انها تستعمل في كل أمر مشكل ، وهذا من ذاك ، بغير خلاف.

وكل موضع أوجبنا دية الجنين ، فإنه لا يجب فيه كفارة القتل بحال.

ودية الجنين موروثة عندنا ، ولا تكون لأمّه خاصّة.

دية جنين اليهودي ، والنّصراني ، والمجوسي ، عشر ديته ، ثمانون درهما.

وفي جنين الأمة المملوك ، عشر قيمتها ، وعندنا يعتبر قيمتها في حال الجناية ، دون حال الاسقاط.

قد قلنا عند ذكرنا أحكام القسامة ، انه إذا كان مع المدّعى للقتل ، لوث ، وهو التهمة ، للمدّعى عليه ، بأمارات ظاهرة ، بدئ به في اليمين بحلف خمسين يمينا في قتل العمد ، خمسا وعشرين يمينا في قتل الخطأ على ما قلناه.

ويثبت اللّوث ، بأشياء بالشاهد الواحد ، في قتل العمد ، وبوجود القتيل في دار قوم ، وفي قريتهم التي لا يدخلها غيرهم ، وكذلك محلتهم.

ولا يثبت اللوث ، بقول المقتول عند موته - دمي عند فلان.

وإذا كان المقتول مشركا والمدعى عليه مسلما ، لم تثبت القسامة.

إذا قتل عبد ، وهناك لوث فلسيّده القسامة ، وإذا لم يكن لوث ، وتكون دعوى محضة مجردة من الأمارات ، فاليمين في جنبة المدّعى عليه ، بلا خلاف ، ولا يلزمه أكثر من يمين واحدة.

إذا ادعى رجل على رجل انه قتل وليا له ، وهناك لوث ، وحلف المدعى ، القسامة ، واستوفى الدية ، فجاء آخر ، فقال انا قتلته ، وما قتله ذلك كان الولي

ص: 401


1- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب ديات النفس ، ح 1 والباب 19 ، من أبواب ديات الأعضاء ح 1

بالخيار ، بين ان يصدّقه ويكذّب نفسه ، ويردّ الدية ، ويستوفى منه حقه ، وبين ان يكذب المقر ، ويثبت على ما هو عليه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه مسألة إذا كان الرجل متلفّفا في كساء ، أو في ثوب ، فشهد شاهدان ، على رجل انه ضربه فقدّه باثنين ، ولم تشهد (1) الجناية غير الضرب ، واختلف الولي والجاني ، فقال الولي ، كان حيّا حين الضرب ، وقد قتله الجاني ، وقال الجاني ، ما كان حيا حين الضرب ، كان القول ، قول الجاني ، مع يمينه (2) ، واستدّل بما يربأ (3) الإنسان بذكره عنه.

والذي يعول عليه ، ويعمل به ، ويسكن اليه ، قبول قول الشّاهدين وقول الولي مع يمينه ، ولا يلتفت الى إنكار الجاني الحياة ، لأنه مدّع للموت بغير جناية ، والأصل الحياة ، وشهادة العدلين بالجناية ، وانما كان الإنسان يفزع الى دليل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ، قبل قيام الدليل بشغلها ، وانما هذا مذهب أبي حنيفة ، لا مذهب جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام ، اختاره شيخنا هاهنا الا تراه ، ما استدلّ بإجماع الفرقة ، ولا بأخبارنا ، فلا حاجة بنا الى القول بمذهب أبي حنيفة ، وتصحيحه.

باب القصاص وديات الشجاج والجراح

من قطع شيئا من جوارح الإنسان ، وجب ان يقتص منه ، ان أراد ذلك ، وكان مكافئا له في الإسلام ، والحرّيّة وسلامة العضو المجني عليه ، وان جرحه جراحة ، فمثل ذلك ، الا ان يكون جراحة يخاف في القصاص منها على هلاك النفس ، فإنه لا يحكم فيها بالقصاص ، وانما يحكم فيها بالأرش ، وذلك مثل المأمومة ، والجائفة ، وما أشبه ذلك ، وكسر الأعضاء التي ، يرجى انصلاحها ، بالعلاج ، فلا قصاص أيضا فيها بل يراعى حتى ينجبر الموضع ، اما مستقيما ، أو على عثم - بالعين غير المعجمة والثاء المنقطة من فوقها ثلاث نقط وهو الفساد والعيب - فيحكم حينئذ بالأرش ،

ص: 402


1- ج. ل. ولم يشهد الجناية.
2- لم نتحقق هذه المسألة في كتاب الخلاف.
3- ج. ببراءة ذمة الإنسان.

فإن كان ذلك شيئا لا يرجى صلاحه ، فإنه يقتص من جانبه ، على كل حال.

والقصاص النفس بالنفس والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والاذن بالاذن ، والسّن بالسّن ، والجروح ( قِصاصٌ ) .

ولا قصاص بين الحر والعبد ، ولا بين المسلم والذمي ، ولا بين الكامل والناقص ، بل يقتص للكامل ، من الناقص ، ولا يقتص لناقص العضو ، من السليم الكامل العضو.

فان جرح عبدا حر ، كان عليه أرشه بمقدار ذلك من ثمنه ، وكذلك الحكم في سائر أعضائه ، فإن كانت الجناية قيمته (1) ، كان عليه القيمة ، ويأخذ العبد ، والسيد بالخيار بين ان يمسكه ولا شي ء له ، وبين ان يسلّمه ويأخذ كمال قيمته ، هذا إذا كانت الجناية تحيط بثمنه.

فان كانت لا تحيط بقيمته ، فليس لمولاه سوى الأرش.

وان جرح عبد حرا كان على مولاه ، ان يسلّمه الى المجروح ، يسترقه بمقدار ما لزمه ، أو يفديه بمقدار ذلك ، فان استغرق أرش الجراحة ثمنه ، لم يكن لمولاه فيه شي ء ، فان لم يستغرق ، كان له منه بمقدار ما يفضل من أرش الجراح.

فان جرح ذمّي ، مسلما ، أو قطع شيئا من جوارحه ، كان عليه ان يقطع جارحته ، ان كان قطع ، أو يقتص منه ، ان كان جرح ، ويرد مع ذلك فضل ما بين الديتين.

فان جرحه المسلم ، كان عليه أرشه بمقدار ديته التي ذكرناها.

وروى انه ان كان معتادا لذلك ، جاز للإمام ان يقتص منه لأولياء الذمي ، بعد ان يردوا عليه فضل ما بين الديتين (2).

ويقتص للرجل من المرأة وللمرأة من الرجل ، ويتساوى جراحتهما ما لم تتجاوز ثلث الدية ، فإن بلغ ثلث الدية ، نقصت المرأة ، وزيد الرجل.

وإذا جرح الرجل المرأة بما يزيد على الثلث ، وأرادت المرأة ، ان تقتصّ منه ، كان لها ذلك ، إذا ردت عليه فضل ما بين جراحتيهما.

ص: 403


1- ج. تحيط بقيمته.
2- الوسائل ، الباب 47 ، من أبواب القصاص في النفس ، ح 1 - 6 - 7.

وان جرحت المرأة الرجل ، وأراد أن يقتص منها لم يكن له عليها ، أكثر من جراحة مثلها ، أو المطالبة بالأرش على التمام من ديته ، مع تراضيهما لذلك ، والّا فلا يستحق عليها سوى القصاص.

ومن لطم إنسانا على وجهه ونزل الماء في عينيه ، وعيناه صحيحتان ، وأراد القصاص ، فإنه تؤخذ مرآة - بكسر الميم وسكون الراء ومدّ الألف - محماة بالنار ، ولا يجوز أن يقال محميّة على ما وضعه شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، لانه يقال أحميت الحديدة في النّار ، فهي محماة ، فلا يقال حميتها ، فهي محميّة ، ويؤخذ كرسف ، مبلول ، وهو القطن ، فيجعل على أشفار عينيه على جوانبها ، لئلا تحترق اشفاره ، ثم يستقبل عين الشمس بعينيه ، وتقرب منهما المرآة ، فإنه يذوب الناظر ويصير اعمى وتبقى العين ، ويقال الناظرة على ما وضعه شيخنا في نهايته (2) فإنه قال ، وتذوب الناظرة وذلك صحيح ليس بخطإ.

ومن قطعت أصابعه فجاءه رجل فأطار كفه ، فأراد القصاص ، من قاطع الكف ، فروى انه يقطع يده من أصله ويردّ عليه دية الأصابع (3).

أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، وهي مخالفة لأصول المذهب ، لانه لا خلاف بيننا إنه لا يقتص من العضو الكامل ، للناقص ، والأولى ، الحكومة في ذلك ، وترك القصاص ، وأخذ الأرش ، على الاعتبار الذي قدمناه فمن قيمته ان لو كان عبدا ثم يؤخذ من دية الحر ، بحساب ذلك.

ومن قتل إنسانا مقطوع اليد ، وأراد أولياؤه القود ، فان كانت يده قطعت في جناية جناها على نفسه ، أو قطعت فأخذ ديتها ، أو استحقها (5) قتلوا قاتله ، بعد ان يردوا إلى أوليائه دية اليد ، فان كانت يده قطعت في غير جناية ولم يأخذ ديتها ، وكان ذلك من قبل اللّه تعالى ، قتلوا قاتله ، وليس عليهم شي ء.

ومن شجّ غيره موضحة أو غيرها من الجراح ، فعفى صاحبها عن قصاصها أو

ص: 404


1- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج ، والعبارة هكذا يؤخذ مرآة محميّة.
2- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج ، والعبارة هكذا يؤخذ مرآة محميّة.
3- الوسائل ، الباب 10 ، من أبواب قصاص الطرف ، ح 1.
4- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج ، والعبارة هكذا يؤخذ مرآة محميّة.
5- ل. أو استحقها ولم يأخذ ديتها.

أرشها ، ثم رجعت عليه وسرت اليه ، فمات منها ، كان على جارحه ديته ، إلّا دية الجرح الذي عفى عنه ، فإن أرادوا القود ، ردّوا على قاتله دية الجرح الذي عفى عنه صاحبه.

ومن قطع شحمة أذن إنسان ، فطلب منه القصاص ، فاقتص له منه ، فعالج الجاني اذنه حتى التصق المقطوع بما انفصل عنه ، كان للمقتص منه ان يقطع ما اتصل من شحمة اذنه ، حتى تعود الى الحال التي استحق بها القصاص ، وهكذا حكم المجني عليه ، سواء كان ظالما أو مظلوما ، جانيا أو مجنيا عليه ، لانّه حامل نجاسة ، وليس إنكاره ومطالبته بالقطع مخصوصا بأحدهما ، بل جميع الناس.

وكذلك القول فيما سوى ذلك من الجوارح والأعضاء ، إذا لم يخف على الإنسان منها تلف النفس ، أو المشقة العظيمة ، ووجب على السلطان ذلك ، لكونه حاملا للنجاسة فلا تصحّ منه الصّلاة حينئذ ، وكذلك إذا جبّر عظمه بعظم نجس العين ، ولم يكن في قلعه خوف على النفس ، ولا مشقة عظيمة ، يجب إجباره على قطعه ، ولا تصح معه صلاته ، فاما ان خاف من قلعه على نفسه ، فلا يجب قلعه ، ولا يجوز إجباره على ذلك ، وتكون صلاته صحيحة ، لموضع الضرورة ، لقوله عليه السلام - لا ضرر ولا إضرار - (1).

ومن قتل غيره ، فسلّمه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه ، فضربه الولي ضربات ، وجرحه جراحات عدة ، وتركه ظنا منه انه مات ، وكان به رمق ، والرمق بقية الحياة ، فحمل ودوي فصلح ، ثم جاء الولي فطلب منه القود ، كان له ذلك ، وعليه ان يرد عليه دية الجراحات التي جرحه ، أو يقتص منه بمثل الجراحات ، هذا إذا لم يكن جرح المجني عليه المقتول الأول جراحات عدّة ، بل قتله بضربة واحدة ، فاما ان كان جرحه جراحات عدة ، فللولي أن يقتص منه بعد ذلك ، ويقتله.

وكذلك ان قطع بعض أطرافه ، ثم قتله بعد ذلك ، كان للولي أن يقطع ، ثم يقتل بعد ذلك.

ص: 405


1- الوسائل ، الباب 12 ، من أبواب إحياء الموات ، ح 3 - 4 - 5.

ولا يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس بحال على ما قدمناه ، وتدخل دية الطرف في دية النفس ، فهذا الفرق بين الموضعين ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (1) ، وان كان مذهبه في نهايته (2) بخلاف ذلك.

وما ذهب إليه في خلافه هو الصحيح ، لان ظاهر القرآن يعضده.

قال شيخنا في مسائل خلافه ، مسألة ، إذا قطع يد رجل ، ثمّ قتله ، كان لولي الدّم ان يقطع يده ثم يقتله ، وبه قال أبو حنيفة والشّافعي ، وقال أبو يوسف ومحمّد ليس له القصاص في الطرف ، كما لو سرى الى النفس ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (3).

ومن جرح غيره جراحة في غير مقتل ، أو ضربه كذلك ، فمرض المجروح ، أو المضروب ، ثم مات ، فإنه يعتبر حاله ، فان علم انه مات من الجراح أو الضرب أو من شي ء جنياه ، أو من سرايتهما ، كان عليه القود أو الدية على الكمال مع التراضي على ما بيّناه ، فان كان مات بغير ذلك من الأمراض الحادثة من قبل اللّه تعالى ، أو لجناية جان آخر ، أو اشتبه الأمر فيه ، فلا يعلم انه مات منه ، أو من غيره ، لم يكن عليه أكثر من القصاص ، فامّا إذا لم يزل من يوم جرحه أو ضربه ، ضمنا - بفتح الضاد وكسر الميم - متألّما من الجرح والضرب ، فإنه يجب عليه القود.

الجراحات

أوّلها الحارصة - بالحاء غير المعجمة ، والصاد غير المعجمة - وهي التي تحرص الجلد ، يعنى تشقّه قليلا ، ومنه قيل حرص القصار الثوب ، إذا شقه.

ثم الدامية ، وهي التي تشق اللحم بعد الجلد.

ثم المتلاحمة ، وهي التي أخذت في اللحم ، ولم تبلغ السمحاق.

ثم السمحاق - بالسين غير المعجمة ، وكسرها ، وسكون الميم ، والحاء غير المعجمة ، وفتحها ، والقاف - وهي التي بينها وبين العظم قشيرة رقيقة ، وكل قشرة رقيقة فهي

ص: 406


1- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 23 ، الّا ان كلامه فيها موافق لما في نهايته ، فراجع.
2- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج.
3- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 89.

سمحاق ، ومنه قيل في السماء سماحيق من غيم ، وعلى ثرب الشاة سماحيق من شحم.

ثم الموضحة ، وهي التي تبدي وضح العظم ، وتقطع القشيرة الرقيقة التي سميت سمحاقا.

ثم الهاشمة ، وهي التي تهشم العظم.

ثم المنقلة - بكسر القاف - وهي التي تخرج منها فراش العظام ، وفراش الرأس - بفتح الفاء ، والراء غير المعجمة ، المفتوحة ، والشين المعجمة - وهي عظام رقاق تلي القحف ، وتحوج الى نقله من موضع الى موضع.

ثم الآمة وهي المأمومة بعبارة الفقهاء ، وهي التي تبلغ أم الرأس ، وأمّ الرأس ، الخريطة التي فيها الدماغ ، وهو المخ ، لان الدماغ في خريطة من جلد رقيق.

والدّامغة تزيد على المأمومة ، بان تخرق الخريطة ، وتصل الى جوف الدماغ ، فالواجب فيهما سواء ، وهو ثلث الدية بلا خلاف.

ففي الأولى بعير ، وفي الثانية بعيران ، وفي الثالثة ثلاثة أبعرة ، وفي الرابعة أربعة أبعرة ، وفي الخامسة خمسة أبعرة ، وفي السّادسة عشرة (1) أبعرة ، وفي السابعة خمسة عشر بعيرا ، وفي الثامنة ثلث الدية دية النفس ، وهي ثلاث وثلاثون بعيرا فحسب ، بلا زيادة ولا نقصان ، ان كان من أصحاب الإبل ، ولم يلزمه أصحابنا ثلث البعير الذي يتكمل به ثلث المائة بعير التي هي دية النفس ، لان رواياتهم هكذا مطلقة ، وكذلك تصنيفاتهم ، وقول مشايخهم وفتاويهم ، وإجماعهم منعقد على هذا الإطلاق ، أو ثلث الدية من العين ، أو الورق على السّواء ، لان ذلك يتحدد فيه الثلث ، ولا يتحدد في الإبل والبقر والغنم ، وما حررناه واخترناه اختيار السيّد المرتضى وتحريره في جوابات المسائل الناصريات (2) التي هي الطبريات.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، دية المأمومة ثلث دية النفس ، ثلاثة وثلاثون

ص: 407


1- ج. ل. ستة أبعرة. الّا ان الصحيح عشرة أبعرة.
2- الناصريات ، كتاب الديات ، المسألة الخامسة والثمان والمائة.

بعيرا (1) ، ولم يقل وثلث بعير.

وهكذا قول شيخنا أبي جعفر في نهايته (2).

والمعنى والتحرير ما ذكرناه.

وكذلك في الدامغة على ما بيّناه.

وخمس منهن يثبت فيهن القصاص ، وما عدا ذلك لا يثبت فيه القصاص ، وفيه الدية ، لأن في ذلك تغريرا بالنّفس.

وجميعها تحملها العاقلة ، ان كان الفعل خطأ محضا ، على الصحيح من المذهب ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (3).

وقال في نهايته ، لا تحمل عليها العاقلة لا الموضحة فصاعدا (4).

والذي اخترناه نحن هو الظاهر ، وتعضده الأدلّة ، وجميع الظواهر تشهد بصحته.

ثم قال في نهايته ، والقصاص ثابت في جميع هذه الجراح ، إلّا في المأمومة خاصة ، لأن فيها تغريرا بالنفس ، فليس فيها أكثر من ديتها (5).

الّا انه رجع في مسائل خلافه (6) ومبسوطة (7) الى ما اخترناه.

وهو الأصح ، لأن تعليله في نهايته لازم له في الهاشمة والمنقلة.

وما كان في الرأس والوجه يسمى شجاجا ، وما كان منه في البدن يسمى جراحا ، وهذه الشجاج والجراح في الوجه والرأس سواء في الدية والقصاص ، فاما إذا كانت في البدن ففيها بحساب ذلك من الرأس منسوبا الى العضو التي هي فيه ،

ص: 408


1- المقنعة ، باب ديات الشجاج وكسر العظام ص 766.
2- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج.
3- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 84.
4- النهاية ، كتاب الديات ، أقسام القتل وما يجب فيه من القود فيه من القود والدية.
5- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج.
6- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 57 - 58.
7- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 121 ، وعبارته هكذا ، وان كانت عمدا محضا ففي الإيضاح القصاص ، ولا قصاص فيما زاد عليه من الهشم وغيره بلا خلاف وأيضا عبارته في ص 123 بعد ذكر دية المنقلة والمأمومة والدامغة ودية الخارصة والباضعة هكذا وايها كان فلا قصاص في شي ء منها عندهم ..

الّا الجائفة ، فإن فيها مقدّرا في الجوف ، وهو ثلث الدية.

مثال ذلك في الموضحة إذا كانت في الرأس أو الوجه ، فيها نصف عشر الدية ، فإن كانت الموضحة في اليد ، ففيها نصف عشر دية اليد ، فان كانت في الإصبع ، ففيها نصف عشر دية الإصبع ، وهكذا باقي الجراح على ما قدمناه فيما مضى ، وبيّناه.

فعلى ما حررناه ، الجراحات عشرة ، وقال شيخنا في نهايته (1) الجراحات ثمانية.

أو لها الخارصة وهي الدامية ، ثم الباضعة ، ثم المتلاحمة ، ثم السّمحاق.

والذي اخترناه مذهب الجلّة من المشيخة من أصحابنا ، مثل السيّد المرتضى فإنه قال في انتصاره مسألة ، ومما انفردت به الإماميّة ، القول بان في الشجاج التي هي دون الموضحة ، مثل الحارصة والدامية والباضعة والسّمحاق ، دية مقدرة ، ففي الحارصة وهي الخدش الذي يشق الجلد ، بعير واحد ، وفي الدامية ، وهي التي تصل الى اللحم ويسيل بها الدم ، بعيران ، وفي الباضعة وهي التي تقطع اللحم وتزيد في الجناية على الدامية ، ثلاثة أبعرة ، وفي السّمحاق ، وهي التي تقطع اللحم حتى يبلغ إلى الجلدة الرقيقة المتغشية للعظم ، أربعة أبعرة ، هذا أخر كلام السيّد المرتضى رضى اللّه عنه (2).

والى هذا يذهب شيخنا المفيد (3) رحمه اللّه ، والفقيه سلار (4) في رسالته ، وهو قول جماعة اللغويين مثل الأصمعي ، وأبي عبيد القسم بن سلام ، قد ذكره في غريب المصنف ، وابن قتيبة ذكره في أدب الكتاب.

وشيخنا أبو جعفر جعل الحارصة هي الدامية ، وجعل مكان الدامية الباضعة ، وجعل مكان الباضعة (5) المتلاحمة ، وبعدها السمحاق ، وجميع أصحابنا جعلوا الرابعة من الشجاج السمحاق (6) بلا خلاف.

ص: 409


1- النهاية ، كتاب الديات ، أحكام الشجاج.
2- الانتصار ، في القصاص والديات.
3- في المقنعة ، باب ديات الشجاج وكسر العظام ص 765 - 766.
4- في المراسم ، في الجنايات.
5- ج. ل. وجعل مكان الدامية الباضعة والمتلاحمة.
6- ج. ما جعلوا الرابعة من الشجاج الّا السمحاق.

وفي لطمة الوجه إذا احمرّ موضعها دينار واحد ونصف ، فإن اخضرّ أو اسودّ ، ففيها ثلاثة دنانير ، وكذلك الحكم في الرأس ، وأرشها في الجسد على النصف من أرشها في الوجه ، بحساب ما ذكرناه.

وقال شيخنا في نهايته ، وفي اللطمة في الوجه إذا اسود أثرها ستة دنانير ، فإن اخضرّ فثلاثة دنانير ، فإن احمرّ فدينار ونصف (1).

وهذا اختياره في مسائل خلافه (2).

وما اخترناه مذهب السيّد المرتضى (3) ، وشيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في مقنعته (4) وهو الأظهر الأصح ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها بما زاد على ما ذكرناه يحتاج الى دليل ، لأنّ ما قلناه مجمع على لزومه.

وفي كسر عظم من عضو خمس دية ذلك العضو ، وفي موضحته ربع دية كسره.

وإذا كسر عظم فجبر على غير عثم ولا عيب ، كانت ديته أربعة أخماس دية كسره.

وفي كسر الصّلب الدية كاملة ، فإن جبر فبرئ على غير عثم ، ففيه مائة دينار ، عشر دية كسره.

وفي الأنف إذا كسرت ففسدت ، الدية كاملة ، وكذلك إذا استوعب واستوصل قطعها ، أو قطع المارن على ما قدمناه ، فان جبرت فبرأت على غير عثم ، كان فيها مائة دينار.

وفي روثة الأنف - بالرّاء غير المعجمة ، المفتوحة ، والواو المسكنة ، والثاء المنقطة ثلاث - نقط ، قال صاحب كتاب الصحاح الروثة طرف الأرنبة ، وقال شيخنا أبو جعفر (5) روثة الأنف الحاجز بين المنخرين - إذا قطع فاستوصل ، خمسمائة دينار ، وهو قول شيخنا المفيد في مقنعته (6).

ص: 410


1- النهاية ، كتاب الديات ، احكام الشجاج.
2- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 74.
3- في الانتصار ، في القصاص والديات.
4- المقنعة ، باب ديات الشجاج وكسر العظام والجنايات في الوجوه .. ص 766 و 767.
5- في النهاية ، في أحكام الشجاج.
6- المقنعة ، باب ديات الشجاج وكسر العظام والجنايات في الوجوه .. ص 766 و 767.

فان نفذت في الأنف نافذة لا تنسد ، فديتها ثلث دية النفس ، فان عولجت فصلحت وانسدت ، فديتها خمس دية الأنف ، مائتا دينار.

فان كانت النافذة في إحدى المنخرين (1) الى الخيشوم ، فعولجت فبرأت والتأمت ، فديتها عشر دية الأنف ، المائة دينار.

وفي إحدى المنخرين نصف دية الأنف ، وقال قوم فيه ثلث دية الأنف ، وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ، واستدل ، بان قال لانه ذهب بنصف المنفعة ، ونصف الجمال.

وإذا انشقت الشفتان حتى بدت الأسنان منهما ، ولم تبرأ ، فدية شفتها ثلث دية النفس ، فان عولجت فبرأت والتأمت ، فديتها خمس دية النفس ، مائتا دينار ، وفي شق إحديهما بحساب ذلك ، فإن التأمت وصلحت ، ففيها خمس ديتها.

والعظم إذا رضّ ، كان فيه ثلث دية العضو الذي هو فيه ، فان صلح على غير عيب ، فديته أربعة أخماس دية رضّه.

فان فك عظم من عضو ، فتعطل به العضو ، فديته ثلثا دية العضو ، فان جبر وصلح والتأم ، فديته أربعة أخماس دية فكّه.

وفي نقل عظام الأعضاء لفسادها ، مثل ما في نقل عظام الرأس بحساب دية العضو ، وكذلك في غيرها من الجراحات.

وفي الشلل في اليدين والرجلين ، ثلثا دية اليد والرجل ، وكذلك كل عضو ضرب فتعطل ولم ينفصل ، فيجب ثلثا ديته على الجاني.

وفي اليد الشّلاء والرجل الشّلاء والعضو المعطل الأشل إذا قطع ، ثلث ديته صحيحا وكذلك الحكم في الأصابع ، وفي جميع الجوارح والأعضاء ، وفي العين العوراء لا المخلوقة (3) خلقة على ما قدمناه.

وفي كل ضلع خمسة وعشرون دينارا.

وقد وردت روايات في أحكام الديات ، وأحاديث كثيرة مختلفة ومتفقة ، آحاد

ص: 411


1- ج. في الخيشوم.
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 131.
3- ل. العوراء المخلوقة.

وشواذ ، أثبتها بعض مشيختنا في مصنفات ، تتضمن تفصيل احكام الديات ، وقد جنح فيها القول ، وبسط على استقصاء فيها لا يراد الروايات منها كتاب ظريف بن ناصح - بالظاء المعجمة - ، وهذا الكتاب عندي طالعته ، فما رأيته طائلا يورد فيه ما لا يجوز العمل به ، ويضاد ما الإجماع عليه ، وكتاب على بن رئاب - بهمز الياء المنقطة من تحتها بنقطتين - وغيرهما من المشيخة الفقهاء ، لا يحتمل كتابنا هذا إيراد ذلك كله ، لانه لا يوجب علما ولا عملا.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا انه إذا لم يكن إجماع على الرواية ، ولا هي متواترة ، ان نحكم في الجناية والدية بالاعتبار الذي قدمناه من التقويم ، وان يجعل العبد أصلا للحرّ فيما لا مقدر فيه ، ولا موظف مجمع عليه ، ثم يحكم بذلك على المثال الذي كررناه وذكرناه فيما مضى ، وحررناه في جميع ما يرد على الإنسان من الاحكام والفتاوى ، وفيما أثبتناه منه مقنع في معرفة ما أردنا بيانه ان شاء اللّه.

ولا ينبغي للحاكم ان يحكم في شي ء من الجراحات وكسر الأعضاء حتى يبرأ ، ثم ينظر في ذلك ، ويرجع فيه الى أصحاب الخبرة ، فيحكم حسب ما تقتضيه الجناية.

ومن أراد القصاص ، فلا يقتص بنفسه ، وانّما يقتص له الناظر في أمر المسلمين ، أو يأذن له في ذلك ، فان اذن له ، جاز له حينئذ الاقتصاص (1) ، فان بادر واقتص ، أخطأ ولم يجب عليه قود ولا قصاص.

والأطراف كالأنفس ، فكل نفسين جرى القصاص بينهما في الأنفس ، جرى بينهما في الأطراف ، سواء اتفقا في الدية أو اختلفا فيها ، كالحرين والحرتين ، والحر والحرة والعبدين والأمتين والعبد والأمة ، والكافرين والكافرتين ، والكافر والكافرة ويقطع أيضا الناقص بالكامل ، دون الكامل بالناقص ، وكل شخصين لا يجرى القصاص بينهما في الأنفس كذلك في الأطراف ، كالحر والعبد ، والكافر والمسلم ، طردا وعكسا الّا انه إذا اقتص للحرة من الرجل الحر في الأطراف ، ردت فاضل الدية على ما قدمناه فيما مضى ، وشرحناه.

ص: 412


1- ج. الاقصاص.

إذا قتل واحد مثلا عشرة أنفس ، ثبت لكل واحد من أولياء المقتولين القود ، لا يتعلق حقه بحق غيره ، فان قتل بالأول سقط حق الباقين لا الى بدل ، وان بدر واحد منهم فقتله سقط حق كل واحد من الباقين ، ولا تتداخل حقوقهم ، لقوله تعالى « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » (1) ، فمن قال يتداخل ، فعليه الدلالة ، فاما إثبات البدل ، فالأصل براءة الذمة ، وإثبات الدية يحتاج الى دليل ، على انا قد بيّنا ان الدية لا تثبت إلا بالتراضي ، وذلك مفقود هاهنا وأيضا قوله تعالى « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » (2) ولم يقل نفس بأنفس ولا نفس بمال.

إذا قطع رجل يد رجل ، فقطع المجنا (3) عليه يد الجاني ، ثم انه اندمل المجني عليه ، وسرى القطع الى نفس الجاني ، كان هدرا ، فان عاش الجاني الظالم ، ومات المجني عليه ، وجب على الجاني القود.

إذا قتل اثنان رجلا وكان أحدهما لو انفرد بقتله قتل به دون الآخر ، لم يخل من أحد أمرين ، امّا ان يكون القود لم يجب على أحدهما لمعنى فيه ، أو في فعله ، فان كان لمعنى فيه ، مثل ان يشارك أجنبيّا في قتل ولده ، أو نصرانيا في قتل نصراني ، أو عبدا في قتل عبد ، فعلى شريكه القود دونه ، وان كان القود لم يجب عليه لمعنى في فعله ، مثل ان يكون عمدا محضا يشارك من قتله خطأ ، أو عمد الخطأ ، فالقود على العامد منهما.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه لا قود على العامد المحض إذا شاركه من قتله (4) خطأ (5).

وهذا مذهب الشافعي ، دون الإمامي ، لأن اللّه تعالى قال « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » (6) وهذا قد قتل ظلما فوجب ان يكون لوليّه سلطان.

وإجماع أصحابنا منعقد على ان القتل إذا كان عمدا محضا يوجب القود ، فمن أسقطه هاهنا يحتاج الى دليل.

ص: 413


1- سورة الإسراء ، الآية 33.
2- سورة المائدة ، الآية 45.
3- ج. ل. المجني عليه.
4- ج. في قتله.
5- الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة 51.
6- سورة الإسراء ، الآية 33.

إذا قطع يدي غيره ورجليه ، وأذنيه ، لم يكن له ان يأخذ دياتها كلها في الحال ، بل يأخذ دية النفس في الحال ، وينتظر حتى تندمل ، فان اندملت ، كان له دياتها كلها كاملة مع التراضي ، على ما قلناه ، وان سرت الى النفس ، كان له دية واحدة مع التراضي أيضا ، والأولى أيضا عندي انّه لا يستحق دياتها ، ولا دية واحدة في الحال ، لأن الدية عندنا لا تثبت ولا تستحق الا مع التراضي ، فاما القصاص فله ان يقتص في الحال.

إذا جرح غيره ثم ان المجروح قلع من موضع الجرح لحما ، فان كان ميتا ، فلا بأس ، والقود على الجاني بلا خلاف ، وان كان لحما حيا ، ثم سرى الى نفسه ، كان على الجاني القود أيضا ، وعلى أولياء المقتول ان يردّوا نصف الدية على الجاني أو أوليائه.

وكذلك لو شارك السّبع في قتل غيره ، أو جرحه غيره وجرح هو نفسه ، فمات.

يقطع ذكر الفحل بذكر الفحل الخصي إذا سلّت بيضتاه ، وبقي ذكره لقوله تعالى « وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ » (1).

اجرة من يقيم الحدود ويتقص للناس ، من بيت المال.

في العقل دية كاملة ، فان جنى جناية ذهب عقله فيها لم يدخل أرش الجناية في دية العقل ، سواء كان مقدّرا أو حكومة ، وسواء كان أرش الجناية أقل من دية العقل أو أكثر منها أو مثله ، سواء ضربه ضربة واحدة أو ضربتين ، وقد كنّا قلنا من قبل. فان كان اصابه مع ذهاب العقل اما موضحة أو مأمومة أو غيرهما من الجراحات ، لم يكن فيه أكثر من الدية كاملة ، اللّهم الّا ان يكون ضربه ضربتين أو ثلاثا بحيث (2) كل ضربة منها جناية ، كان عليه حينئذ ديتها ، فأوردناه على ما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

الّا ان هذا أظهر من ذاك ، وشيخنا فقد رجع عمّا أورده في نهايته ، وقال بما

ص: 414


1- سورة المائدة ، الآية 45.
2- ج. ل. فجنت.
3- النهاية ، كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء والجوارح.

اخترناه الان في مسائل خلافه (1) ، وهو الصحيح ، لان تداخل الديات إذا لم يمت المجني عليه يحتاج الى دليل.

القصاص فيما دون النفس شيئان ، جرح يشق ، وعضو يقطع ، فاما العضو الذي يقطع ، فكل عضو ينتهي إلى مفصل ، كاليد والرجل ، ففي كلها القصاص ، لان لها حدا ينتهى اليه ، وانما يجب القصاص فيها بثلاثة شروط ، التساوي في الحرية ، أو يكون المجني عليه أكمل ، والثاني الاشتراك في الاسم الخاص ، يمين بيمين ، ويسار بيسار ، فإنه لا تقطع يمين بيسار ، ولا يسار بيمين ، والثالث السّلامة ، فإنا لا نقطع اليد الصحيحة باليد الشّلاء.

فاما غير الأطراف من الجراح (2) التي فيها القصاص ، وهو ما كان في الرأس والوجه ، لا غير ، فان القصاص يجب فيها بشرط واحد ، وهو التكافؤ في الحرية ، أو يكون المجني عليه أكمل.

وأما التّساوي في الاسم الخاص ، فهذا لا يوجد في الرأس ، لأنه ليس له رأسان ، ولا السّلامة من الشلل ، فان الشلل لا يكون في الرأس.

والقصاص في الأطراف والجراح في باب الوجوب سواء ، وانما يختلفان من وجه آخر ، وهو انا لا نعتبر المماثلة في الأطراف بالقدر من حيث الكبر والصغر ، ونعتبره في الجراح بالمساحة ، والفصل بينهما انا لو اعتبرنا المماثلة في الأطراف في القدر والمساحة ، أفضى إلى سقوط القصاص فيها ، لانه لا يكاد يدان يتفقان في القدر ، وليس كذلك الجراح ، لانه يعرف عرضه وطوله وعمقه ، فيستوفيه بالمساحة ، فلهذا اعتبرناها بالمساحة ، فبان الفصل بينهما.

وجملته انا نعتبر في القصاص المماثلة ، وتنظر الى طول الشجّة وعرضها فامّا الأطراف فلا نعتبر فيها الكبر والصغر ، بل تؤخذ اليد الغليظة بالدقيقة ، والسمينة بالهزيلة ، ولا يعتبر المساحة لما تقدم ، وانما يعتبر الاسم مع السلامة ، ومع التكافؤ في الحرية ، قال اللّه تعالى« وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ

ص: 415


1- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 20.
2- ج. الجوارح.

 بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ » (1) فاعتبر الاسم فقط ، فلهذا راعيناه.

فإذا ثبت ذلك فالقصاص يجوز من الموضحة قبل الاندمال عند قوم ، وقال قوم لا يجوز الّا بعد الاندمال وهو الأحوط ، والذي وردت الاخبار به عندنا ، لأنها ربما صارت نفسا.

إذا قطع يد رجل فيها ثلاث أصابع سليمة وإصبعان شلاوان ويد القاطع لا شلل بها ، فلا قود على القاطع ، لأنا نعتبر التكافؤ في الأطراف ، والشلاء لا تكافئ الصحيحة ، فإذا ثبت انه لا قود عليه ، فان رضي الجاني ان يقطع يده بتلك اليد ، لم يجز قطعها بها ، لان القود إذا لم يجب في الأصل ، لم يجز استيفاؤه بالبدل ، كالحر إذا قتل عبدا ، ثم قال القاتل قد رضيت أن يقتلني السيّد به ، لم يجز قتله.

باب دية الجنين والميت إذا قطع رأسه أو شي ء من أعضائه

الجنين الولد ما دام في البطن ، وأول (2) ما يكون نطفة ، وفيها بعد وضعها في الرحم الى عشرين يوما ، عشرون دينارا ، ثم بعد العشرين يوما ، لكل يوم دينار إلى أربعين يوما ، أربعون دينارا ، وهي دية العلقة ، فهذا معنى قولهم وفيما بينهما بحساب ذلك ، ثم يصير مضغة ، وفيها ستون دينارا ، وفيما بين ذلك بحسابه.

[ ثم يصير عظما ، وفيه ثمانون دينارا وفيما بين ذلك بحسابه ] (3) ثم يصير مكسوا عليه اللحم ، خلقا سويا شق له العينان ، والأذنان والأنف قبل ان تلجه الروح ، وفيه عندنا مائة دينار ، سواء كان ذكرا أو أنثى ، على ما قدمناه ، وفيما بين ذلك بحسابه.

وذهب شيخنا في مبسوطة ، الى ان دية الجنين الذكر مائة دينار ، ودية الجنين الأنثى خمسون دينارا (4).

ص: 416


1- سورة المائدة ، الآية 45.
2- ج. وأقلّ.
3- هذا على نسخة ل امّا على نسخة الأصل أعني ( ق ) ونسخة ج فلا يوجد فيهما والظاهر انه سقط منهما.
4- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الديات ، ص 194.

وهذا مذهب بعض المخالفين ، فاما أصحابنا الإمامية ما خالف أحد منهم في ان دية الجنين الحر المسلم مائة دينار ، ولم يفصلوا ، بل أطلقوا وعمّموا ، وشيخنا أبو جعفر في جميع كتبه الاخبارية موافق على ذلك ، ومسلم مع أصحابه ، وانما يورد في هذا الكتاب يعنى المبسوط مقالة المخالفين ، لانه كتاب فروع المخالفين ، فقال في هذا الكتاب ، ان كان الجنين عبدا ففيه عشر قيمته ، ان كان ذكرا وكذلك عشر قيمته ان كان أنثى (1).

والذي عليه إجماع أصحابنا ، أن في جنين الأمة والمملوك ، عشر دية أمّه ، بلا خلاف بين أصحابنا ، وانما أورد شيخنا مقالة المخالفين.

وقال في هذا الكتاب أيضا إذا ضرب بطن امة ، فألقت جنينا ميّتا مملوكا ، ففيه عشر قيمة امّه ذكرا كان أم أنثى ، وعند قوم غرّة تامّة ، مثل جنين الحرة ، وهذا الذي رواه أصحابنا ، هذا آخر كلامه (2).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب رحمه اللّه هاهنا يحسن قول اقلب تصب ، بل رواية أصحابنا ما قدمه رحمه اللّه وقد قدمنا بيان ذلك ، وهو ان لكلّ يوم دينارا الى ان يصل الى الدية المقدرة ، ثم تلجه الروح ، وفيه الدية كاملة.

وقد روى انه إذا قتلت المرأة وهي حامل متم ، ومات الولد في بطنها ، ولا يعلم اذكر هو أم أنثى ، حكم فيه بديتها كاملة مع التراضي ، وفي ولدها بنصف دية الرجل ونصف دية المرأة (3).

والاولى استعمال القرعة في ذلك ، هل هو ذكر أم أنثى ، لأن القرعة مجمع عليها في كل أمر مشكل ، وهذا من ذلك ، هذا إذا تحقق حياته في بطنها وعلم.

وروى محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن صالح بن عقبة عن سليم (4) بن صالح ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في النطفة

ص: 417


1- المبسوط ، ج 7 كتاب الديات ، ص 197.
2- المبسوط ، ج 7 كتاب الديات ، ص 205.
3- الوسائل ، الباب 21 من أبواب ديات النفس ، ح 1.
4- ج. ل. سليمان وكذلك في المصدر.

عشرون دينارا ، وفي العلقة أربعون دينارا ، وفي المضغة ستون دينارا ، وفي العظم ثمانون دينارا ، فإذا كسى اللحم مائة دينار ، ثم هي مائة حتى يستهل ، فإذا استهل فالدية كاملة (1).

والرّواية الأولى رواها على (2) بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن عبد اللّه بن مسكان ، عمن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

وكلتا الروايتين أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب (3) الاحكام ، الّا ان الاولى مرسلة ، والأخيرة مسندة ، ويقتضيها أصول مذهبنا ، والأصل براءة الذمّة.

وفي قطع جوارح الجنين وأعضائه ، الدية من حساب ديته ، مائة دينار.

والمرأة إذا شربت دواء لتلقى ما في بطنها ، ثم القت ، كان عليها الدية بحساب ما ذكرناه لورثة المولود دونها ، لأن دية الجنين عندنا موروثة لورثته ، وانما حرمت الام هاهنا ، لأنها بمنزلة القاتلة ، والقاتل عندنا لا يرث من الدية شيئا بحال ، سواء كان قاتل عمد أو قاتل خطأ.

ومن أفزع امرأة ، وضربها (4) فألقت شيئا مما ذكرنا فكان عليه ديته حسب ما قدمناه.

ولا كفارة على قاتل الجنين بحال.

ودية جنين الذمي عشر ديته ، وما يكون من أعضائه بحساب ذلك.

ومن أفزع رجلا ، وهو على حال الجماع ، فعزل عن امرأته ، كان عليه دية ضياع النطفة ، عشرة دنانير ، فامّا ان وضع النطفة في الرحم ، ثم أفزع أفزع (5) المرأة ، فألقتها ، فديتها عشرون دينارا على ما قدمناه (6).

وقد روى انه إذا عزل الرجل عن زوجته الحرّة بغير اختيارها ، كان عليه عشر دية الجنين ، يسلم إليها (7) ، وهذه رواية شاذة لا يعوّل عليها ، ولا يلتفت إليها ، لأن

ص: 418


1- الوسائل ، الباب 19 ، من أبواب ديات الأعضاء ، ح 3.
2- ج. محمّد بن إبراهيم.
3- التهذيب ، ج 7 ، الباب 25 ، من أبواب القصاص ، ص 281 ، ح 1 - 2.
4- ج. ل. أو ضربها.
5- ج. ل. ثم أفزع فازع.
6- في ص 416.
7- الوسائل ، الباب 19 ، من أبواب ديات الأعضاء ، ح 1.

الأصل براءة الذمة ، ولأنا قد بيّنا ان العزل عن الحرة مكروه ، ليس بمحظور.

قال شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، مسألة ، دية الجنين إذا تم خلقه ، مائة دينار ، وإذا لم يتم ، فغرة عبد أو امة ، وعند الفقهاء غرة عبد أو امة على كل حال ، الّا ان هذه الدية يرثها سائر المناسبين ، وغير المناسبين (1).

قال محمّد بن إدريس ، لا خلاف بيننا ، ان دية الجنين التام مائة دينار ، وغير التام بحسابه ، من النطفة والعلقة وغير ذلك.

فاما الغرة ، فما أحد من أصحابنا ذهب الى ذلك ، وانما هذا مذهب المخالفين لأهل البيت عليهم السلام فليلحظ دليله رحمه اللّه في المسألة ، فهو قاض عليه ، وانما أردت تنبيه من يقف على المسألة التي في خلافه ، وهو الجز الثاني ، بحيث لا يعتقد انّ ذلك مذهب أصحابنا.

وحكم الميت حكم الجنين ، وديته ديته ، سواء ، فمن فعل بميت فعلا لو فعله بالحيّ لكان فيه تلف نفسه ، كان عليه ديته مائة دينار ، وفيما بفعل به من كسر يدا أو قطعها ، أو قلع عين ، أو جراحة ، فعلى حساب ديته ، كما تكون دية هذه الأعضاء في الحي كذلك لا يختلف الحكم فيه.

والفرق بين الجنين والميت ، ان دية الجنين تستحقها ورثته على ما قدمناه ، ودية الميت لا يستحقها أحد من ورثته ، بل تكون له ، يتصدّق بها عنه ، على ما ذهب شيخنا أبو جعفر إليه في نهايته (2).

وقال السيّد المرتضى يكون لبيت المال (3).

وهو الذي يقوى في نفسي ، لأن ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر لا دليل عليه ، وهذه جناية يأخذها الامام على طريق العقوبة والردع ، فيجعلها في بيت المال.

ودية جنين الأمة المملوك عشر قيمة امّه وقت الضرب.

ودية جنين البهيمة ، والدواب ، والحيوان ، عشر دية امّه ، لإجماعنا على ذلك ،

ص: 419


1- الخلاف ، كتاب الفرائض ، مسألة 126.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب دية الجنين والميّت.
3- في الانتصار في القصاص والديات.

وتواتر أخبارنا (1) وفي ذلك الحجة.

باب الجنايات على الحيوان وغير ذلك

من أتلف حيوانا لغيره مما لا يقع عليه الذكاة ، كان عليه قيمته يوم أتلفه ، وذلك مثل الكلب.

وقال شيخنا في نهايته ، وذلك مثل الفهد ، والبازي (2).

وعندنا ان الفهد يقع عليه الذكاة ، ويحل بيع جلده بعد ذكاته بلا خلاف بيننا ، ويحل أيضا استعماله بعد دباغه في جميع

الأشياء ، ما عدا الصلاة ، على ما بيّناه في كتاب الصلاة (3) ، وانما مقصود شيخنا بقوله مالا يوكل لحمه ، الّا انه لا بد أن يراعى ان يكون مما يجوز للمسلمين تملّكه.

فإن أتلف عليه ما لا يحل للمسلمين تملكه ، وكان من بيده ذلك مسلما ، لم يكن عليه شي ء ، سواء كان الجاني مسلما أو ذميّا.

فإن أتلف شيئا من ذلك على ذمي وجب عليه قيمته عند مستحليه.

ومتى أتلف شيئا على مسلم مما يقع عليه الذكاة على وجه يمكنه الانتفاع به ، فلا يجب عليه كمال قيمته ، بل الواجب عليه ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، مثال ذلك أن يذبح شاة إنسان ذباحة شرعية ، فالواجب عليه ما بين قيمتها حية ومذبوحة.

وقال شيخنا في نهايته ، يجب عليه قيمته يوم أتلفه ، ويسلم اليه ذلك الشي ء ، أو يطالبه بقيمته ما بين كونه متلفا وكونه حيّا (4).

وما ذكرناه هو الأصح وشيخنا فقد رجع عن ذلك في مبسوطة (5).

ص: 420


1- التهذيب ، ج 10 ، الباب 25 ، من كتاب الديات ، ص 288 ، ح 1120 / 22 وفي الجواهر ج 43 ، ص 392 بعد نقله كلام السرائر ، وان كنت لم أتحقق شيئا منهما.
2- النهاية ، كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان.
3- في الجزء الأوّل ، ص 262.
4- النهاية ، كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان.
5- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 30 ، والعبارة هكذا ، إذا نقب ودخل الحرز فذبح شاة فعليه ما بين قيمتها حيّة ومذبوحة.

فإن أتلفه على وجه لا يمكنه لصاحبه الانتفاع به على وجه ، كان عليه قيمته بغير خلاف. كقتله للشاة بالحجارة والخشب ، وخنقه ، أو ذبحه بيد كافر ، أو تغريقه وغير ذلك.

ودية كلب الصيد ، سواء كان سلوقيا أو غير ذلك إذا كان معلما للصيد ، أربعون درهما.

وشيخنا قال في نهايته ، ودية كلب السلوقي أربعون درهما (1) ، وأطلق ذلك.

والاولى تقييده بكلب الصيد ، لأنه إذا كان غير معلّم على الصيد ، ولا هو كلب ماشية ولا زرع ولا حائط فلا دية له ، وان كان سلوقيّا ، إنما أطلق ذلك لان العادة والعرف ان الكلب السلوقي الغالب عليه انه يصطاد ، والسلوقي منسوب الى سلوق ، وهي قرية باليمن.

ودية كلب الحائط والماشية عشرون درهما ، والمراد بالحائط البستان ، لأن في الحديث ان فاطمة عليها السلام وقفت حوائطها بالمدينة (2) ، المراد بذلك بساتينها.

وفي كلب الزرع قفيز من طعام ، وإطلاق الطعام في العرف يرجع الى الحنطة.

وليس في شي ء من الكلاب غير هذه الأربعة دية على حال.

ويجوز اجارة هذه وبيعها ، والديات لهذه الكلاب مقدرة موظفة ، وان كانت قيمتها أكثر من ذلك.

فان غصب إنسان أحد هذه الكلاب ، وكانت قيمته مثلا مائة دينار ، ثم مات عنده قبل رده على المغصوب منه ، أو قتله قبل رده ، فالواجب عليه قيمته ، وهي المائة دينار ، لا ديته الموظفة المقدرة ، لأنه بالغصب قد ضمن قيمته ، وصارت في ذمته ، كمن غصب عبد غيره ، وقيمة العبد ألفا دينار ، ثم مات عند الغاصب قبل رده الى المغصوب ، أو قتله الغاصب قبل رده ، فالواجب عليه ضمان قيمته ، وهي ألفا دينار ، وان كان قتله قبل غصبه إياه ، لم يلزمه أكثر من ديته ، ولا يتجاوز بها دية الحر ، وهي ألف دينار ، فليلحظ ذلك ، وقد ذكرنا في كتاب الغصب (3) شيئا من هذا ، وفيه

ص: 421


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان.
2- الكافي : ج 7 ، ص 48 ح 5 نقلا بالمعنى.
3- الجزء الثاني ، ص 492.

كفاية ومقنع وتنبيه لذوي الفهم والتأمل.

والقول في جراح البهائم وكسر أعضائها وقطع أطرافها ، انه يستحق صاحبها على الجاني من الأرش ما بين قيمتها صحيحة ومعيبة ، وليس له خيار في أخذ قيمته وتسليمه الى الجاني ، وان كانت الجناية تحيط بقيمته كما ذكرنا ذلك في إتلاف أطراف العبيد وأعضائهم.

وقول شيخنا في نهايته ، ان كان الحيوان مما يتملك ، ففيه أرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وان كان مما لا يتملك ، فحكم جراحه وكسره حكم إتلاف نفسه (1).

المراد بذلك انّه ان كان الحيوان بيد مسلم ، وهو مما لا يجوز للمسلمين تملكه ، فحكم جراحه وكسره حكم إتلاف نفسه ، اى لا شي ء على جارحه وكاسره ، كما لا شي ء عليه في إتلاف نفسه ، لأنا قد بيّنا فيما مضى (2) ان من أتلف على مسلم ما لا يحل للمسلمين تملكه من الخنازير وغيرها ، فلا شي ء عليه ، فهذا مقصوده ومراده رضى اللّه عنه لانه لو أتلف ذلك على ذميّ ، وجب عليه قيمته عند مستحليه ، فان جرحه أو كسره ، وجب عليه من الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، فليلحظ ذلك ، فان فيه غموضا على وضع شيخنا في نهايته ، وإطلاق القول ، فإنه ما أشبع الكلام في هذا الباب ولا استوفاه ، وانما لوح تلويحا ببعض ما ذكره شيخنا المفيد في مقنعته (3) ، فان شيخنا المفيد أشبع القول في ذلك واستوفاه ، وشيخنا في نهايته أخذه ليلخصه فعمّاه.

قال شيخنا المفيد والإتلاف لا نفس الحيوان على ضربين ، أحدهما يمنع من الانتفاع به بعده ، والثاني لا يمنع من ذلك ، فالضرب الذي يمنع من الانتفاع قتل ما يقع عليه الذكاة على غير وجه الذكاة ، كقتله بالحجارة والخشب ، وتقطيعه بالسيوف ، قبل تذكيته بالذبح ، أو النحر ، أو قتله بالماء ، أو إمساك النفس منه ، أو

ص: 422


1- النهاية ، كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان.
2- في ص 420.
3- المقنعة ، باب الجنايات على الحيوان من البهائم وغيرها ، ص 769 و 770.

منعه من العلف أو الماء ، أو ذبحه بيد كافر لا يقع بذبحه الذكاة ، وقال رحمه اللّه ومن ذلك قتل ما لا يقع عليه الذكاة ، ولا يحل اكله مع الاختيار ، كالبغال والحمير الأهلية ، والهجن من الدواب ، والسباع ، من الطير وغيره ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مقنعته (1).

قال محمّد بن إدريس اما قوله - ومن ذلك قتل ما لا يقع عليه الذكاة ، ولا يحل اكله (2) ، كالبغال والحمير الأهلية أو الهجن من الدواب والسباع من الطير وغيره ، فغير واضح ، ولا صحيح ، اما البغال والحمير والخيل سواء كانت عرابا (3) هجنا ، فإنها على الأظهر والأصح من أقوال أصحابنا وفتاويهم ومناظراتهم ، مأكولة اللحم يقع عليه الذكاة ، وقد قدمنا ذلك في كتاب (4) الذبائح والأطعمة ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، واختيار السيّد المرتضى في انتصاره (5) ، يناظر المخالف عليه ، ورأى الجلة المشيخة من أصحابنا ، حتى انك لو ادعيت الإجماع منهم على المسألة ، لما دفعك دافع ، ومن يخالف منهم فمعروف الاسم ، والنسب.

فاما السباع من الطير وغيره ، فعندنا ان اسئارها طاهرة ، وهي طاهرة ، ويقع عليه الذكاة عندنا بغير خلاف ، وانما لا يقع الذكاة على الكلب والخنزير ، فاما السباع فيقع عندنا عليها الذكاة ، ويحل بيع جلودها بعد ذكاتها ، واستعمالها بعد دباغها ، في جميع الأشياء ما عدا الصلاة على ما قدمناه (6).

فإذا أتلف إنسان حيوان غيره على وجه لا يحصل معه الانتفاع به ، كان عليه قيمته حيا يوم أتلفه ، فإن أتلف ما يحصل مع تلف نفسه لصاحبه الانتفاع به على وجه من الوجوه ، فعليه لصاحبه ما بين قيمته حيا وبين قيمته وتلك الجناية فيه.

وقال شيخنا المفيد ، كان صاحبه مخيرا بين ان يأخذ قيمته حيا يوم أتلفه ، ويدفعه اليه ، أو يأخذ منه أرش إتلافه ، وهو ما بين قيمته حيا ومتلفا ، وينتفع هو

ص: 423


1- المقنعة ، باب الجنايات على الحيوان من البهائم وغيرها.
2- ج. ل. اكله مع الاختيار.
3- ج. ل. أو هجنا.
4- الجزء الثالث ، ص 98.
5- الانتصار ، في كتاب الصيد والذبائح.
6- في ص 420.

به (1).

وما قدمناه هو الأظهر الأصح.

والمسلم لا يملك شيئا محرّما عليه ، كالخمر والخنزير ، وقال شيخنا المفيد (2) ، والقرد والدب.

قال محمّد بن إدريس لا ارى بتملك الدب بأسا ، لانه سبع ، ويجوز بيع جلده بعد ذكاته ، والانتفاع به بعد دباغه ، لانه سبع بغير خلاف.

ومن أتلف على مسلم شيئا من سباع الطير وغيرها ، مما قد جعل للمسلمين الانتفاع به ، كالبازي والصقر ، والفهد ، وما أشبه ذلك ، كان عليه غرم قيمته حيا.

والحكم فيما يتملكه الإنسان من آلات اللّهو المحظورة في الإسلام ، كالحكم في الخمور والخنازير.

فإذا جنت بهيمة الإنسان على بهيمة غيره ، أو ملك له من الأشياء ، فهو على ضربين ، ان كانت الجناية منها بتفريط وقع منه في حفظها ، ومنعها من الجناية ، أو بتعد في استعمالها ، فهو ضامن لما أفسدته بجنايتها ، وان كان بغير ذلك ، لم يكن عليه ضمان.

فإذا ثبت ذلك فإن الماشية إذا أفسدت زرعا لقوم ، فليس يخلو امّا ان تكون يد صاحبها عليها ، أو لا تكون ، فان كانت يده عليها ، فعليه ضمان ما أتلفت ، لأنّ جنايتها كجنايته ، وفعلها كفعله ، وان لم تكن يد صاحبها عليها ، لم يخل امّا ان يكون ذلك ليلا أو نهارا ، فان كان نهارا بغير سبب منه ، فلا ضمان على مالكها إجماعا ، لقوله عليه السلام - جرح العجماء جبار (3) ، والجبار الهدر ، وان أفسدت ليلا ، فان لم يكن من صاحب البهيمة تفريط في حفظها ، بان آواها الى مبيتها ، وأغلق عليها الباب فوقع الحائط ، أو نقب لصّ نقبا ، فخرجت وأفسدت فلا ضمان على مالكها

ص: 424


1- المقنعة ، باب الجنايات على الحيوان من البهائم ص 769.
2- المقنعة ، باب الجنايات على الحيوان من البهائم ص 769.
3- البخاري ، الباب 27 من كتاب الديات ( الرقم 6498 ) أبو داود ، في أواخر كتاب الديات ، ( الرقم 4593 ، ج 4 ، ص 196 ). ابن ماجة ، الباب 27 من كتاب الديات ( الرقم7 - 2673 ). واللفظ « العجماء جرحها جبار ».

لأنه غير مفرط ، وإن كان التفريط منه ، بأن أرسلها نهارا ، وأوصله بالليل ، أو أطلفها ابتداء ليلا ، فأفسدت الزرع فعلى مالكها الضمان.

وكذلك إذا كان لإنسان كلب عقور ، فلم يحفظه ، فأتلف شيئا كان عليه ضمانه لأنه مفرط في حفظه.

وكذلك لو كانت له سنور معروفة بأكل الطيور وغير ذلك من أموال الناس ، فعليه حفظها ، فإن لم يفعل ، وأتلفت شيئا فعليه ضمانه.

فاما ان كان في دار رجل كلب عقور ، فدخل رجل داره بغير امره ، فعقره ، فلا ضمان عليه ، لان الرجل مفرّط في دخول داره بغير إذنه ، فاما ان دخلها باذنه فعقره الكلب ، فعليه ضمانه.

والبعير إذا صال ، وعلم به صاحبه ، فقتل أو كسر أو جرح ، كان صاحبه ضامنا لجنايته ، لانه يجب عليه حبسه ومنعه من الفساد.

وقد روي ان أمير المؤمنين عليه السلام قضى في بعير كان بين أربعة شركاء ، فعقل أحدهم يده ، فتخطى إلى بئر ، فوقع فاندق ، انّ على الشركاء الثلاثة غرم الربع من قيمته لشريكهم (1) ، لانه حفظ حقه ، وضيعة عليه الباقون بترك اعقال حقوقهم ، وحفظه بذلك من الهلاك.

وقد قدّمنا انّ من أتلف على مسلم شيئا من الملاهي ، مثل العود ، والطنابير ، والدفوف والمزامير ، والطبول ، والمعازف ، والرباب ، وما أشبه ذلك ، لم يكن عليه شي ء.

فان أتلف ذلك على ذمي في حرزه ، كان عليه ضمانه ، فإن أتلفه عليه وكان قد أظهره ، لم يكن عليه شي ء على حال ، وهذا باب من عرف الحكم فيما ذكرناه منه على التفصيل أغناه عن تعداد ما في معناه ، واطالة الخطب فيه.

قال شيخنا في مبسوطة في الجزء السادس ، في كتاب الدفع عن النفس ، فإنه ذكر الوهق ، فقال من عصا أو وهق ، أو قوس ، أو سيف ، وغير ذلك (2).

ص: 425


1- الوسائل ، الباب 39 ، من أبواب موجبات الضمان ، ح 1 ، الظاهر انها منقولة بالمعنى.
2- المبسوط ، لم نتحققه في مظانّه.

قال محمّد بن إدريس ، الوهق بالواو المفتوحة ، والهاء المفتوحة ، والقاف ، حبل كالطول ، فيه انشوطة ، قال الشاعر :

لها حر تستعير وقدته *** من قلب صب وصدر ذي حنق

كأنما حرّه لخابره *** ما ألهبته في حشاه من حرق

يزداد ضيقا على المراس كما *** يزداد ضيقا انشوطة الوهق

ص: 426

كتاب الحدود

اشارة

ص: 427

كتاب الحدود

باب مائية الزنا وما به يثبت ذلك

الزنا الموجب للحد ، هو وطي من حرم اللّه تعالى وطيه من غير عقد ولا شبهة عقد ، ويكون الوطي في الفرج ، سواء كان قبلا أو دبرا ، بلا خلاف ، ويكون الواطى بالغا كاملا (1) ، سواء كان حرا أو عبدا.

فاما العقد ، فهو ما ذكرناه في كتاب النكاح من اقسامه ، مما قد أباحه اللّه تعالى في شريعة الإسلام.

واما شبهة العقد ، فهو ان يعقد الرجل على ذي محرم له من أم ، أو بنت ، أو أخت ، أو عمة ، أو خالة ، أو بنت أخ ، أو بنت أخت ، وهو لا يعرفها ، ولا يتحققها ، أو يعقد على امرأة لها زوج ، وهو لا يعلم ذلك ، أو يعقد على امرأة وهي في عدة لزوج لها ، اما عدة طلاق رجعي ، أو باين ، أو عدة فسخ ، وان لم يكن طلاقا ، أو عدة المتوفّى عنها زوجها وهو جاهل بحالها ، أو يعقد عليها وهو محرم ، أو هي محرمة ، وهو حلال ناسيا أو جاهلا بان ذلك لا يجوز ، ثم علم شيئا من ذلك ، فإنه يدرأ عنه الحد ، ولم يحكم فيه بالزنا لقوله عليه السلام ، ادرءوا الحدود بالشبهات (2).

فان عقد على واحدة ممن ذكرنا عالما أو متعمدا ثم وطأها ، كان حكمه حكم الزنا سواء ، بل هو أغلظ منه ، وليس علمه بالمحرم شبهة ، واستحلاله ما حرمه اللّه عليه مما يدرأ به الحدود ، على ما ظنه بعض المخالفين لمذهب أهل البيت عليهم السلام ويجب عليه ما يجب على الزاني على حد واحد.

ص: 428


1- ج. كامل العقل.
2- الوسائل ، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود .. ، ح 4.

ويثبت حكم الزنا بشيئين أحدهما إقرار الفاعل العاقل الحر بذلك على نفسه ، من غير إكراه ولا إجبار أربع مرات في أربعة أوقات ، دفعة بعد أخرى ، فإذا أقر أربع مرات على ما قدمناه ، وكان حرا بالوطي في الفرج ، حكم له بالزنا ، ووجب عليه ما يجب على فاعله.

فإن أقر أقل من ذلك ، أو أقر أربع مرات بوطي ما دون الفرج المقدم ذكره ، لم يحكم له بالزنا ، وكان عليه التعزير حسب ما يراه الامام ، ولا يتجاوز بذلك أكثر من تسعة وتسعين سوطا ، على ما يأتي بيانه ان شاء اللّه تعالى.

والثاني قيام البيّنة بالزنا ، وهو ان يشهد أربعة رجال عدول ، على رجل انه وطي امرأة ليس بينه وبينها عقد ولا شبهة عقد ، وشاهدوه وطأها في الفرج ، بان ادخل العضو في العضو ، مثل الميل في المكحلة ، فإذا شهدوا كذلك ، قبلت شهادتهم ، وحكم عليه بالزنا ، سواء كان حرا أو عبدا ، إذا كان كامل العقل ، ووجب عليه ما يجب على فاعله على ما نبيّنه فيما بعد ان شاء اللّه تعالى.

فان شهد الأربعة بالزنا ، ولم يشهدوا عليه بالمعاينة ، كان على كل واحد منهم حد الفرية.

فإن شهد عليه أقل من الأربعة ، وادعوا المشاهدة ، كان عليهم اجمع حد الفرية.

فإن شهد الأربعة ، واختلفوا في شهادتهم ، فبعضهم شهد بالمعاينة ، وبعضهم شهد بغير ذلك ، كان أيضا عليهم حد الفرية.

فإن شهد الأربعة باجتماع الرجل مع امرأة في إزار واحد مجردين من ثيابهما ، أو شهدوا بوطي ما دون الفرج ، قبلت شهادتهم ، ووجب على فاعل ذلك التعزير.

وإذا شهد الشهود على امرأة بالزنا ، وادعت انها بكر ، أمر أربع من ثقات النساء ان ينظرن إليها ، فإن كانت كما ذكرت ، لم يكن عليها حد ، وان لم تكن كذلك أقيم عليها الحد.

وهذا الحكم لا يصح الّا بان يكون شهادة الشهود بالوطي في القبل دون الدبر ، فأمّا إذا شهدوا بالوطي في الدبر ، لم ينفعها دعواها البكارة ، ولا شهادة النساء

ص: 429

لها بذلك ، فليلحظ ، فان شيخنا أبا جعفر أطلقه في نهايته (1) إطلاقا ، وان كان مراده ما ذكرناه.

فاما الشهود الأربعة فلا يحدّون حد القاذف ، لانه لا دليل عليه ، ولان شهادتهم ظاهرها الصحة.

والى هذا القول ذهب شيخنا في المبسوط (2) ولم يذكر في النهاية شيئا.

وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزنا أحدهم زوجها ، فان شهد الزوج ابتداء من غير ان يتقدم منه القذف لها مع الثلاثة المذكورة ، قبلت شهادتهم ، ووجب على المرأة الحد ، فان كان قد رمى الزوج المرأة بالزنا أولا ، ثم شهد مع الثلاثة المذكورة عليها به ، فلا تقبل شهادته ، لانه يدفع بها ضررا ، وكل من يدفع بشهادته ضررا عن نفسه فلا تقبل شهادته ، وأيضا فهو خصم في هذه الحال ، فلا تقبل شهادته ، ويجب عليه اما لعانها ليدرأ عن نفسه الحد ، أو حد الفرية ، وان لم يلاعن ، والثلاثة يحدون حد الفرية.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وإذا شهد أربعة نفر على امرأة بالزنا أحدهم زوجها وجب عليها الحد.

وقد روى ان الثلاثة يحدون حد المفتري ويلاعنها زوجها (3). وهذه الرواية محمولة على انه إذا لم تعدل الشهود أو اختلفوا في إقامة الشهادة ، أو اختل بعض شرائطها ، فاما مع اجتماع شرائط الشهادة ، فإن الحكم ما قدمناه ، هذا أخر كلامه في نهايته (4).

الا انه قيده في مسائل خلافه ، فقال مسألة ، إذا شهد الزوج ابتداء من غير ان يتقدم منه القذف مع ثلاثة على المرأة بالزنا ، قبلت شهادتهم ، ووجب على المرأة الحد ، وهو الظاهر من أحاديث أصحابنا ، وبه قال أبو حنيفة ، وقد روى أيضا ان

ص: 430


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب مائية الزنا وما به يثبت ذلك.
2- المبسوط ، ج 8 ، كتاب الحدود ، ص 10.
3- الوسائل ، الباب 12 ، من أبواب اللعان ، ح 2 - 3 ، والظاهر انها منقولة بالمعنى.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب مائية الزنا ..

الثلاثة يحدون ، ويلاعن الزوج ، هذا أخر كلامه في مسائل خلافه (1).

وما حققه في مسائل خلافه ، هو الأصح الأظهر الذي تقتضيه الأدلة وظاهر القران ، والمتواتر من الاخبار ، ونحمل الرواية الشاذّة على ان الزوج تقدم منه قبل شهادته ، الرمي بالقذف للمرأة ، لقوله تعالى « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ » (2) وهذا قد رمى زوجته ولم يكن له شهداء الا نفسه ، لأن شهادة الثلاثة غير معتد بها الّا بانضمام شهادة الرابع ، فكأنها لم تكن في الحكم فاما إذا لم يتقدم منه رمى الزوجة بالزنا ، فلم تتناوله هذه الآية ، وتناولها الظواهر ، مثل قوله تعالى « وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ » (3).

ولم يفرق بين ان يكون الزوج واحدا منهم أولا يكون ، وهذا خطاب للحكام.

ولا تقبل شهادة الشهود على الزنا إلّا إذا حضروا في وقت واحد ، فان شهد بعضهم وقال الان يجي ء الباقون ، جلد حد المفتري ، لأنه ليس في ذلك تأخير.

ولا تقبل في الزنا شهادة النساء على الانفراد.

فان شهد ثلاثة رجال وامرأتان ، قبلت شهادتهم في الزنا ، ويجب بشهادتهم الرجم ان كان المشهود عليه محصنا ، وسنبين المحصن ان شاء اللّه.

فان شهد رجلان واربع نسوة لم يجب بشهادتهم الرجم ، ويجب بها أحد الذي هو مائة سوط.

فان شهد رجل وستة نساء أو أكثر أو أقل ، لم تقبل شهادتهم ، وكان على كل واحد منهم حد الفرية.

وإذا شهد أربعة رجال على رجلين (4) وامرأتين أو ألف ، قبلت شهادتهم ، وأقيم على الذين شهدوا عليهم الحد.

وإذا رأى الامام أو الحاكم من قبله تفريق الشهود أصلح في بعض الأوقات ، بعد ان يكونوا حضروا لإقامة الشهادة في وقت واحد ، كان ذلك جائزا.

ص: 431


1- الخلاف ، كتاب اللعان ، مسألة 59.
2- سورة النور ، الآية 4.
3- سورة النساء ، الآية 15.
4- ج. رجل.

وحكم المرأة حكم الرجل في جميع ما ذكرناه على حدّ واحد في انه يحكم عليها بالزنا ، إمّا بالإقرار أو البيّنة ، ويدرأ عنها الحد في الموضع الذي يدرأ فيه الحد عن الرجل ، لا يختلف الحكم في ذلك الّا ما نبينه فيما بعد ان شاء اللّه.

وإذا أخذ رجل وامرأة فادعيا الزوجية ، درئ عنهما الحد.

وإذا شاهد الامام من يزني ، أو يشرب الخمر ، كان عليه ان يقيم الحد عليه ، ولا ينتظر مع مشاهدته قيام البيّنة ، ولا الإقرار ، وكذلك النائب من قبله ، لأنا قد بيّنا في كتاب القضاء (1) ان للحاكم ان يحكم بعلمه في جميع الأشياء بغير خلاف بين أصحابنا ، ولأن علمه أقوى من الإقرار والبيّنة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ليس ذلك لغير الامام ، بل هو مخصوص به ، وغيره إن شاهد يحتاج أن تقوم له بيّنة أو إقرار من الفاعل على ما بيناه (2).

وهذا ذكره في كتاب الحدود ، وإن كان موافقا في غير هذا الموضع ، على أن للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء ، وإذا كان إجماعنا منعقدا على ذلك فلا يرجع عنه باخبار الآحاد.

واما القتل والسرقة والقذف وما يجب من حقوق الآدميين من الحد والتعزير ، فليس له ان يقيم الحد الّا بعد مطالبة صاحب الحق بحقه ، وليس يكفى فيه (3) مشاهدته إياه ، فإن طلب صاحب الحق اقامة الحد ، كان عليه إقامته ، ولا ينتظر مع علمه البيّنة أو الإقرار.

إذا شهد عليه أربعة شهود ، فكذبهم ، أقيم عليه الحد بلا خلاف ، وكذلك ان صدقهم.

إذا شهد أربعة شهود على رجل بالزنا ، فشهد اثنان أنه أكرهها ، والآخران انها طاوعته ، فإنه يجب عليه الحد ، ولا يجب على المرأة الحد ، لأنها غير زانية ، والرجل زان بغير خلاف ، لأنه إذا كان مكرها لها كان زانيا ، وكذلك إذا طاوعته ، وفي الحالين معا يكون زانيا.

ص: 432


1- ج 2 ص 179.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب مائية الزنا ..
3- ج. منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه لا حد عليه ، وهو قول الشافعي (1) اختاره ووافقه عليه بغير دليل ، لان هذه المسألة غير منصوصة لنا ، والأصول تقتضيه (2) ان عليه الحد ، لانه زان بغير خلاف.

واحتج شيخنا بأن الأصل براءة الذمة (3).

وانما يستقيم له هذا الاستدلال قبل ورود الشرع ، بان على الزاني الذي شهد عليه أربعة شهود بالزنا الحد ، فاما بعد ذلك فكيف يصح الاستدلال بأن الأصل براءة الذمّة.

ثم قال رضي اللّه عنه وأيضا فإن الشهادة لم تكمل بفعل واحد ، وانما هي شهادة على فعلين ، لان الزنا طوعا غير الزنا كرها (4).

وهذا استدلال يرغب الإنسان ان يذكره مناظرا لخصمه ، لأن الشهادة كملت بالزنا ، لان من شهد بالإكراه ، فقد شهد بالزنا ، ومن شهد بالمطاوعة ، فقد شهد أيضا بالزنا ، فالفعل واحد ، وان كانت أسبابه مختلفة ، فما شهد الأربعة إلّا بالإيلاج في وقت واحد ، والإيلاج منه حينئذ حرام زنا بغير خلاف ، وأيضا الظواهر من القرآن تتناول ذلك ، فمن اخرج هذا منها فعليه الدليل.

إذا ملك رجل ذات محرم من نسب أو رضاع ، فوطأها مع العلم بتحريم الوطي عليه ، لزمه القتل على كل حال عندنا بعد حدّ الزنا.

وقال بعض أصحابنا عليه القتل ، وأطلق الكلام ولم يذكر الحد ، ولا دليل على سقوطه ، لقوله تعالى « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (5) وهذا زان بغير خلاف.

إذا استأجر امرأة للوطي لزمه الحد بلا خلاف بيننا.

إذا وجد الرجل امرأة على فراشه ، فظنها زوجته ، فوطأها ، لم يكن عليه الحد ،

ص: 433


1- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 24.
2- ج. ل. تقتضي ، والظاهر انه هو الصحيح.
3- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 24.
4- الخلاف ، كتاب الحدود ، في دليل مسألة 24.
5- سورة النور ، الآية 2.

لقوله عليه السلام ادرءوا الحدود بالشبهات (1) ولأنّ الأصل براءة الذمة.

وقد روى في بعض الرّوايات أنّ عليه الحد سرا ، وعليها الحد جهرا (2).

أورد ذلك شيخنا في نهايته (3) ، ورجع عنه في مسائل خلافه (4).

وهو الصحيح الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ولا يرجع الى اخبار الآحاد في ذلك ، فان شيخنا رجع عن الخبر الذي أورده في نهايته ، وعمل بالأدلة القاهرة في مسائل خلافه.

إذا تكامل شهود الزنا أربعة وشهدوا به ، ثم ماتوا أو غابوا ، جاز للحاكم ان يحكم بشهادتهم ، ويقيم الحد على المشهود عليه ، لقوله تعالى « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (5) وهذا زان بغير خلاف.

إذا تكامل شهود الزنا ، فقد ثبت الحكم بشهادتهم ، سواء شهدوا في مجلس واحد ، أو في مجالس (6) ولا يعتبر حضور الشهود لأداء الشهادة في وقت واحد ، الّا هاهنا ، فاما التحمل لها فلا نعتبره هاهنا ان يكون في وقت واحد ، بل شهادة الطلاق تحملها يكون في وقت واحد على ما بيّناه في كتاب الشهادات (7).

إذا حضر أربعة ليشهدوا بالزنا ، فشهد واحد أو ثلاثة ، ولم يشهد الرابع ، لم يثبت على المشهود عليه الزنا ، لأن الشهادة ما تكاملت بلا خلاف ، ومن لم يشهد لا شي ء عليه أيضا بلا خلاف ، ومن شهد فعليه حد القذف ، وقصّة المغيرة مشهورة ، فإنه استخلفه عمر بن خطاب على البصرة ، وكان نازلا في أسفل الدار ، ونافع وأبو بكرة وكانا أخا زياد لأمّه سمية ، جارية للحارث بن كلدة ، وشبل بن معبد ، وزياد في علوها ، فهبّت ريح ففتحت باب البيت ، ورفعت الستر ، فرأوا المغيرة بين رجلي امرأة من بنى هلال ، فلما أصبحوا تقدم المغيرة ليصلي ، فقال له أبو بكرة تنح عن مصلانا ،

ص: 434


1- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.
2- الوسائل ، الباب 38 من أبواب حد الزنا ، ح 1.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
4- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 20.
5- سورة النور ، الآية 2.
6- ج. مجالس متعددة.
7- ج 2 ، ص 665.

فبلغ ذلك عمر ، فكتب ان يرفعوا اليه ، وكتب الى المغيرة قد تحدث عنك بما ان كان صدقا فلو كنت مت قبله لكان خيرا لك ، فاشخصوا إلى المدينة ، فشهد نافع وأبو بكرة وشبل بن معبد ، فقال عمر أؤدي المغيرة الأربعة ، فجاء زياد ليشهد ، فقال عمر هذا رجل لا يشهد الّا بالحق ان شاء اللّه فقال اما بالزنا فلا اشهد ، ولكني رأيت أمرا قبيحا ، فقال عمر : اللّه أكبر ، وجلد الثلاثة ، فحلف أبو بكرة ان لا يكلم أخاه زيادا ابدا ، فمات وما كلّمه « رحم اللّه أبا بكرة » فقال أبو بكرة بعد جلده (1) اشهد ان المغيرة زنى ، فهم عمران يجلده ، فقال له أمير المؤمنين على عليه السلام : « ان جلدته فارجم صاحبك » (2) يعني المغيرة ، ومعنى قول على عليه السلام - ان جلدته فارجم صاحبك - فان معناه ان كانت هذه شهادة غير الاولى ، فقد كملت الشهادة أربعة ، فارجم صاحبك ، يعني إنما أعاد ما شهد به ، فلا تجلده بإعادته.

وكان أبو بكرة رجلا صالحا من خيار الصحابة ، ويعد في موالي رسول اللّه عليه السلام واسمه نفيع ، واخوه نافع بن الحرث بن كلدة الثقفي ، طبيب العرب ، وأخوهما زياد ، كلهم من سميّة ، وكل منهم ينسب الى رجل.

وقال يزيد بن مفرّغ الحميري ، جد السيد الحميري يهجو زيادا (3).

ان زيادا ونافعا وأبا *** بكرة عندي من أعجب العجب

ان رجالا ثلاثة خلقوا *** في رحم أنثى وكلهم لأب

ذا قرشي كما يقول وذا *** مولى وهذا بزعمه (4) عربي

إذا شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، فردت شهادة واحد منهم ، فان ردت بأمر ظاهر لا يخفى على أحد ، فإنه يجب على الأربعة حد القذف ، وان ردت بأمر خفي لا يقف عليه الّا الآحاد ، فإنه يقام على المردود الشهادة الحد ، والثلاثة لا يقام عليهم الحد ، لأن الأصل براءة الذمة ، وأيضا فإنهم غير مفرطين في إقامتها ، فإن أحدا لا يقف على بواطن الناس ، فكان عذرا في إقامتها فلهذا لأحد ، ويفارق إذا كان الرد بأمر ظاهر ، لان التفريط كان منهم ، فلهذا حدوا.

ص: 435


1- ج. بعد ما جلد.
2- سنن البيهقي ، كتاب الحدود ، ج 8 ، ص 2345.
3- ج. لعنه اللّه.
4- ج. ل. يزعمه.

إذا شهد أربعة رجال ، ثم رجع واحد منهم ، فلا حد على المشهود عليه بلا خلاف ، وعلى الراجع الحد بلا خلاف ، وامّا (1) الثلاثة فلا حد عليهم ، لأن الأصل براءة الذمة ، ورجوعه لا يؤثر في التعدي إليهم.

فإن رجم المشهود عليه ، ثم رجع واحد منهم أو الأربعة ، وقال الراجع عمدت قتله ، كان عليه الحد والقود عندنا ، ولا يسقط أحدهما الآخر.

إذا استكره امرأة على الزنا ، فلا حد عليها بلا خلاف ، وعليه الحد ، ولها مهر المثل عندنا ، وهو العقر الذي رواه (2) أصحابنا انه دية الفرج المغصوب.

وقال أبو حنيفة لا مهر لها ، واختاره شيخنا أبو جعفر في كتاب الحدود من مسائل خلافه (3).

الا انه رجع عنه في مبسوطة (4) ، وفي موضع آخر من مسائل خلافه (5).

واستدل شيخنا (6) أبو جعفر على سقوطه بقول النبيّ عليه السلام انه نهى عن مهر البغي (7) ، وقال البغيّ الزانية.

وهذا الاستدلال يرغب عن ذكره هل هذه المكرهة بغيّ حتى يستشهد بهذا الحديث على نفى مهرها.

روى أصحابنا ان للسيّد أن يقيم الحد على ما ملكت يمينه بغير اذن الامام ، سواء كان ذلك باعترافه ، أو البينة ، أو بعلمه ، وسواء كان السيّد فاسقا أو عدلا ، رجلا أو امرأة (8).

ص: 436


1- ج. ل. فأما.
2- الوسائل ، الباب 45 من أبواب المهور ، ح 2 والباب 3 من أبواب النكاح المحرّم ، ح 3.
3- الخلاف كتاب الحدود ، مسألة 36 وكتاب الغصب مسألة 16.
4- المبسوط ، ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 73 ، الّا انه مناف لكلامه في ج 8 كتاب الحدود ، ص 10.
5- الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة 67.
6- الخلاف كتاب الحدود ، مسألة 36 وكتاب الغصب مسألة 16.
7- الوسائل ، الباب 5 ، من أبواب ما يكتسب به ، ح 13 - 14.
8- الوسائل الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود.

إذا شهد أربعة رجال على رجل انّه زنى بها في هذا البيت ، وأضاف كل واحد منهم شهادته إلى زاوية منه مخالفة للأخرى ، فإنه لأحد على المشهود عليه ، ويحدون.

وكذلك ان شهد اثنان على زاوية ، وآخران على زاوية أخرى لا يختلف الحكم فيه.

ليس من شرط إحصان الرجم الإسلام ، بل من شرطه الحرية والبلوغ وكمال العقل ، والوطي في نكاح صحيح دائم ، أو ملك يمين ، فإذا وجدت هذه الشروط فقد أحصن إحصان رجم.

باب أقسام الزناة

الزناة على ثلاثة أقسام ، منهم من يجب عليه القتل على كل حال ، ومنهم من يجب عليه الجلد والرجم معا ، ومنهم من يجب عليه الحد والنفي إلى بلد غير بلده الذي زنى فيه سنة.

فاما من يجب عليه القتل على كل حال ، سواء كان محصنا أو غير محصن ، حرا كان أو عبدا ، مسلما كان أو كافرا ، شيخنا كان أو شابا ، فهو كل من وطئ ذات محرم له ، امّا أو بنتا ، أو أختا ، أو بنتيهما ، أو بنت أخيه ، أو عمته ، أو خالته ، فإنه يجب عليه القتل على كل حال بعد جلده حد الزاني ، لأنه لا دليل على سقوطه عنه ، لقوله تعالى « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (1) ولا منافاة بين جلده وبين قتله بعد الجلد ، وليس إطلاق قول أصحابنا يجب عليه القتل على كل حال ، دليلا على رفع حد الزنا عنه.

وكذلك الذمي إذا زنى بامرأة مسلمة ، فإنه يجب عليه القتل على كل حال ، وكان على المسلمة الحد ، امّا الجلد أو الرجم على ما يستحقه من الحد.

فإن أسلم الذمي لم يسقط بذلك عنه الحد بالقتل ، ووجب قتله على كل حال.

وكذلك من غصب امرأة فرجها ، فإنه يجب عليه ذلك.

ص: 437


1- سورة النور ، الآية 2.

وكذلك من زنى بامرأة أبيه أو ابنه ، وجب عليه أيضا القتل والحد معا على كل حال ، محصنا كان أو غير محصن.

والذي يجب تحصيله في هذا القسم ، وهو الذي يجب عليه القتل على كل حال ، ان يقال ان كان محصنا فيجب عليه الجلد أولا ثم الرجم ، فيحصل امتثال الأمر في الحدين معا ، ولا يسقط واحد منهما ، ويحصل أيضا المبتغى الذي هو القتل ، لأجل عموم أقوال أصحابنا واخبارهم (1) ، لأن الرجم يأتي على القتل ، ويحصل الأمر بحد الرجم ، وان كان غير محصن فيجب الجلد ، لانه زان ثم القتل بغير الرجم ، فليلحظ ذلك.

واما القسم الثاني : فهو من زنى وهو محصن ، والمحصن عندنا من كان بالغا كامل العقل ، له فرج ، اما ملك يمين ، أو زوجة بعقد دوام ، متمكن من وطئه ، يغدو اليه ويروح من يومه ، ويكون قد دخل بامرأته ، فإذا وجدت هذه الشروط فقد أحصن إحصان رجم على ما قدمناه.

فإذا ثبت ذلك وزنى هذا العاقل ببالغة ، وجب عليه الجلد أولا ضرب مائة سوط أشد ما يكون من الضرب ، بسوط وسيط (2) لا جديد ولا عتيق ، لما روى عن الرسول عليه السلام انه اتى بسوط جديد ، فلم يضرب به ، واتى بسوط خلق ، فلم يضرب به ، واتى بسوط وسيط (3) ، قد ركب به ، فضرب به (4).

وروى عن زيد بن أسلم ان رجلا اعترف عند النبيّ عليه السلام ، بالزنا فدعا له رسول اللّه عليه السلام ، فاتى (5) بسوط مكسور ، فقال غير هذا ، فاتى بسوط جديد لم يقطع ثمرته - بالثاء المنقطة من فوقها ثلاث نقط ، وفتحها ، والميم وفتحها ، والراء غير المعجمة وفتحها ، وهي طرفه ، لأن ثمرة السياط أطرافها ، فقال

ص: 438


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب حد الزنا ، ح 8 - 9 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15.
2- ج. ل. وسط.
3- ج. ل. وسط.
4- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من المصادر.
5- ج. بسوط فأتى.

بين هذين ، فاتى بسوط قد ركب به ولان ، قال : فأمر به فجلد ، هذا لفظ الحديث (1) فإذا جلد المائة ، رجم بعد ذلك ، سواء كان شيخنا أو شابا.

وروى أصحابنا انه يترك بعد ضربه الجلد حتى يبرأ جلده ، ويرجم بعد ذلك (2).

والقسم الثالث : من عدا من ذكرناه من العقلاء الأحرار ، فإنه يجب عليه الجلد مائة سوط ، وتغريب عام من مصره ، إذا كان رجلا وجز شعره على ما رواه أصحابنا (3).

ولا نفي ولا جز على المرأة ، لما رواه عبادة بن الصامت ، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة ، ثم الرجم.

فالبكر عندنا عبارة عن غير المحصن ، والثيب عبارة عن المحصن.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، الزناة على خمسة أقسام ، قسم منهم يجب عليه الحد بالقتل على كل حال ، والثاني يجب عليه الجلد ثم الرجم ، والثالث يجب عليه الرجم وليس عليه جلد ، والرابع يجب عليه الجلد ثم النفي ، والخامس يجب عليه الجلد ولا يجب عليه النفي ، فاما من يجب عليه القتل على كل حال ، سواء كان محصنا أو غير محصن ، حرا كان أو عبدا ، مسلما كان أو كافرا ، شيخا كان أو شابا على كل حال ، فهو كل من وطئ ذات محرم له ، امّا ، أو بنتا أو أختا ، أو بنتهما ، أو بنت أخيه ، أو عمته ، أو خالته ، فإنه يجب عليه القتل على كل حال ، وكذلك الذمي إذا زنى بامرأة مسلمة ، فإنه يجب عليه القتل على كل حال ، وكان على المسلمة الحد ، اما بالرجم أو الجلد ، على ما تستحقه من الحد ، فإن أسلم الذمي ، لم

ص: 439


1- موطإ مالك الباب 2 من كتاب الحدود الرقم 12 ج 2 ص 825.
2- الوسائل الباب 13 ، من أبواب مقدمات الحدود ، ح 6.
3- الوسائل ، الباب 13 ، والباب 24 ، والباب 7 من أبواب حد الزنا ، ح 7 - 8.

يسقط بذلك عنه الحد بالقتل ، ووجب قتله على كل حال ، ومن غصب امرأة فرجها فإنه يجب عليه القتل على كل حال ، محصنا كان أو غير محصن ، ومن زنى بامرأة أبيه ، وجب أيضا عليه القتل على كل حال ، محصنا كان أو غير محصن ، وامّا القسم الثاني وهو من يجب عليه الجلد ثم الرجم ، فهو الشيخ والشيخة ، إذا زنيا وكانا محصنين ، كان على كل واحد منهما جلد مائة ، ثم الرجم ، يقدم الجلد ، ثم بعده الرجم ، والقسم الثالث ، وهو من يجب عليه الرجم ، ولا يجب عليه الجلد فهو كل محصن أو محصنة ليسا بشيخين ، فإنهما إذا زنيا كان على كل واحد منهما الرجم ، وليس عليهما الجلد (1).

وقد قلنا نحن ما عندنا في ذلك ، وهو الصحيح الأظهر الذي يعضده ظاهر التنزيل ، انه يجب عليه الجلد والرجم معا لقوله تعالى « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (2) فمن نسخ هذه الآية ، وترك العمل بها يحتاج الى دليل ، والّا فقد عطل حدا من حدود اللّه تعالى بغير دليل ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وما اخترناه مذهب السيّد المرتضى (3) واختيار شيخنا المفيد (4) والجلة من المشيخة الفقهاء من أصحابنا.

وروى ان عليا عليه السلام جلد سراحة يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، فقيل له تحدّها حدين ، فقال حددتها بكتاب اللّه ، ورجمتها بسنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (5).

وشيخنا أبو جعفر رحمه اللّه فقد رجع في التبيان فقال ، يجلد الزاني والزانية إذا لم يكونا محصنين ، كل واحد منهما مائة جلدة ، وإذا كانا محصنين أو أحدهما (6).

ص: 440


1- النهاية : كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
2- سورة النور ، الآية 2.
3- في الانتصار ، كتاب الحدود.
4- في المقنعة ، باب الحدود والآداب ص 775 و 776.
5- مسند احمد بن حنبل ، ج 1 ، ص 116. فيه : « اتى على عليه السلام بمولاة لسعيد بن قيس محصنة قد فجرت ، قال : فضربها مائة ثمّ رجمها ثم قال : جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ». راجعه.
6- ج. ل. أحدهما محصن.

كان على المحصن الرجم بلا خلاف ، وعندنا انه يجلد أولا مائة جلدة ، ثم يرجم ، وفي أصحابنا من خص ذلك بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين ، فاما إذا كانا شابين محصنين ، لم يكن عليهما غير الرجم ، وهو قول مسروق ، وفي ذلك خلاف (1) ذكرناه في الخلاف (2).

ثم قال (3) وحد الإحصان في الرجل هو ان يكون له فرج متمكن من وطئه ، ويكون مالكا له ، سواء كان بالعقد أو ملك اليمين ، ويراعى في العقد ان يكون مالكا له على جهة الدوام ، دون نكاح المتعة ، فإن المتعة لا تحصن ، فاما العقد الدائم فلا فرق بين ان يكون على حرة ، أو امة ، أو يهودية ، أو نصرانيّة ، فإن جميع ذلك يحصن الرجل ، وملك اليمين أيضا يحصن على ما قلناه ، وإذا لم يكن متمكنا من الوطي ، بأن يكون غائبا عن زوجته ، لا يمكنه الوصول إليها ، أو يكون مع كونه حاضرا غير متمكن من وطئها ، بان يكون محبوسا وما أشبه ذلك ، أو لا يكون قد دخل بها بعد ، فان جميع ما ذكرناه يخرجه من كونه محصنا ، والإحصان في المرأة مثل الإحصان في الرجل سواء ، وهو ان يكون لها زوج يغدو إليها ويروح ، مخلا بينه وبينها ، غير غائب عنها ، وكان قد دخل بها ، حرا كان أو عبدا ، وعلى كل حال ، والقسم الرابع ، وهو من يجب عليه الجلد ثم النفي ، وهو البكر والبكرة ، والبكر هو الذي قد أملك على امرأة ولا يكون قد دخل بها بعد ، ثم زنى ، فإنه يجب عليه الجلد مائة ، ونفى سنة عن مصره الى مصر أخر ، بعد ان يجز رأسه ، والبكرة تجلد مائة ، وليس عليها جز الشعر ، ولا النفي على حال (4).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، الّا ان شيخنا رجع عن هذا التفسير في مسائل خلافه ، وقال مسألة : البكر عبارة عن غير المحصن ، فإذا زنى البكر جلد مائة ، وغرب عاما ، واستدل على ذلك بإجماع الفرقة واخبارهم (5).

ص: 441


1- التبيان ، ج 7 ، ص 359 ، ذيل الآية الشريفة ، « الزّانِيَةُ وَالزّانِي ».
2- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 2.
3- تتمة لكلامه قدس سره في النهاية.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
5- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 3.

وهو الصحيح الذي اخترناه ، ومن فسر البكر بما فسره شيخنا في نهايته ، يحتاج الى دليل ، وليس عليه دليل من إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، بل حقيقة البكر في لسان العرب من ذكرناه ، وفي عرف الشرع ما أثبتناه وحكيناه ، ولقوله عليه السلام البكر بالبكرة جلد مائة (1) ، وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة (2) ثم الرجم ، (3) فقسّم الزناة قسمين كما ترى لا ثالث لهما.

ثم قال والخامس وهو من يجب عليه الجلد وليس عليه أكثر من ذلك ، فهو كل من زنى وليس بمحصن ، ولا بكر ، فإنّه يجب عليه جلد مائة (4) وليس عليه أكثر من ذلك ، رجلا كان أو امرأة ، ثم قال ومن هذه صورته إذا زنى ، فجلد ثم زنى ثانية ، فجلد ، ثم زنى ثالثة ، فجلد ، ثم زنى رابعة كان عليه القتل (5).

قال محمّد بن إدريس ، والأظهر من أقوال أصحابنا ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انه يقتل في الثالثة ، لإجماعنا ان أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة ، وهذا منهم بغير خلاف.

ومن عدا المحصن من الزناة إذا زنى ثلاث مرات أو أكثر من ذلك ، ولم يقم عليه فيها الحد ، فليس عليه أكثر من مائة جلدة.

وجميع هذه الأقسام والاحكام التي ذكرناها خاصة في الحر والحرّة. إلّا القسم الأول ، فإنه يشترك فيه العبيد والأحرار ، فأما ما عدا ذلك ، فحكم المملوك غير حكم الحر ، فحكم المملوك والمملوكة إذا زنيا ان يجب على كل واحد منهما خمسون جلدة ، زنيا بحرّ أو بحرّة ، أو مملوك أو مملوكة ، لا يختلف الحكم فيه ، شيخين كانا أو شابين ، محصنين أو غير محصنين ، بكرين أو غير بكرين ، وعلى كل حال ، وليس عليهما أكثر من ذلك ، غير انهما إذا زنيا سبع مرات ، فأقيم عليهما الحدّ في ذلك ، ثم زنيا الثامنة ، كان عليهما القتل ، على ما رواه (6) أصحابنا.

ص: 442


1- ج. مائة جلدة.
2- ج. مائة جلدة.
3- سنن ابن ماجة ، ج 2 ، كتاب الحدود ص 852 باب 7 ، ح 2550.
4- ج. مائة جلدة.
5- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
6- الوسائل : الباب 32 من أبواب حد الزنا ، ج 2 ، وفي الفقيه باب حد المماليك في الزنا ح 1 / 5051 ، ج 4 ، ص 44.

وذهب بعضهم إلى انهما لا يقتلان الّا ان يزنيا ثماني مرّات ، ويقام عليهما الحد في ذلك ، ثم زنيا التاسعة ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (1).

وما اخترناه مذهب ابن بابويه ، وغيره من أصحابنا ، وبذلك وردت أكثر الأخبار (2).

فان لم يقيم عليهما الحد في شي ء من ذلك ، وكان أكثر من ثماني مرات ، لم يجب عليهما أكثر من خمسين جلدة ، حسب ما قدمناه.

وزنا الرجل الحر بالحرة المسلمة ، والأمة المسلمة ، إذا كانت لغيره ، سواء كانت لزوجته أو لوالديه ، أو غيرهما من الأجانب على حد واحد ، لا يختلف الحكم فيه.

وكذلك حكم المرأة ، لا فرق بين ان تزني بحر أو بعبد ، ملك لها أو لغيرها ، فان لحكم في ذلك لا يختلف.

وقد روى انه إذا زنى الرجل بصبيّة لم تبلغ ولا مثلها قد بلغ ، لم يكن عليه أكثر من الجلد ، وليس عليه رجم (3).

فإن أفضاها أو عابها كان ضامنا لعيبها ، وعليه مهر نسائها ، وكذلك المرأة ، إذا زنت بصبي لم يبلغ ، لم يكن عليها رجم ، وكان عليها جلد مائة ، وعلى الصبي والصبية التأديب.

وهذا مذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (4).

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته ان على الرجل وعلى المرأة الحد (5).

وأطلق كلامه وهو الصحيح عندي ، لأن الإحصان والزنا وجدا معا ، وهما الموجبان للحدّ والرجم.

ولا يبلغ بالتأديب أكثر من عشرة أسواط.

ص: 443


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
2- الظاهر ان مراده منها الأخبار التي تدل على ان حد المملوك نصف حد الحرّ فراجع الوسائل الباب 31 ، و 32 من أبواب حد الزنا.
3- الوسائل ، الباب 9 من أبواب حد الزنا ، ح 4.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
5- المقنعة ، باب الحدود والآداب ص 779.

وروى ان الرجل إذ زنى بمجنونة ، لم يكن عليه (1) رجم إذا كان محصنا ، وكان عليه جلد مائة ، وليس على المجنونة شي ء بحال ، لا جلد ولا رجم ، ولا تعزير (2).

فان زنى مجنون بامرأة عاقلة ، لم يكن عليه أيضا شي ء بحال ، ووجب على المرأة الحدّ تاما.

وقد روى في بعض الاخبار أن على المجنون إذا كان فاعلا الحد تاما جلد مائة ، أو الرجم (3).

أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (5).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ما قدمناه ، انه لا حدّ على المجنون والمجنونة ، لأنهما غير مخاطبين بالتكاليف والاحكام ، ولا قام دليل على ذلك فيهما ، والأصل براءة الذمّة ، وثبوت ذلك عليهما يحتاج الى شرع ، ولا يرجع في مثل ذلك الى اخبار آحاد ، أو إيراد مصنف في كتابه ، أو فتياه ، لان جميع ذلك لا يوجب علما ولا عملا.

ومن زنى وتاب قبل قيام البيّنة عليه بذلك ، درأت التوبة عنه الحد ، فان تاب بعد قيام الشهادة عليه ، وجب عليه الحد ، ولم يجز للإمام العفو عنه ، سواء كان حده جلدا أو رجما.

فان كان (6) أقر على نفسه وهو عاقل حر ، عند الامام ، ثم أظهر التوبة ، كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه ، حسب ما يراه من المصلحة في ذلك ، هذا إذا كان الحد رجما يوجب تلف نفسه ، فاما إذا كان الحد جلدا فلا يجوز العفو عنه. ولا يكون الحاكم بالخيار فيه ، لأنا أجمعنا على انه بالخيار في الموضع الذي ذكرناه ، ولا إجماع على غيره ، فمن ادعاه وجعله بالخيار ، وعطل حدا من حدود اللّه فعليه الدليل.

ص: 444


1- ج. ل. رجم.
2- لم نتحققها إلّا في النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
3- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب حد الزنا ، ح 2.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
5- المقنعة ، باب الحدود والآداب ص 779.
6- ج. يراه الامام.

إذا وجد الرجل مع امرأته رجلا يفجر بها ، وهما محصنان ، كان له قتلهما وكذلك إذا وجده مع جاريته أو غلامه ، فان وجده ينال منها دون الفرج ، كان له منعه منها ، ودفعه عنها ، فان أبي الدفع عليه ، فهو هدر فيما بينه وبين اللّه تعالى ، فاما في الحكم ، فإن أقام البيّنة على ذلك ، فلا شي ء عليه ، فان لم يكن له بينة ، فالقول قول ولى الدم ، انهم لا يعلمون ذلك منه ، ولهم القود.

وإذا زنى اليهودي أو النصراني بأهل ملته ، كان الامام مخيرا بين اقامة الحد عليه بما تقتضيه شريعة الإسلام ، وبين تسليمه الى أهل دينه ، أو دين المرأة ، ليقيموا عليهما الحدود على ما يعتقدونه ، لقوله تعالى « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ » (1) وأو في لسان العرب بغير خلاف للتخيير.

ومن عقد على امرأة في عدتها ، ودخل بها عالما بذلك ، وجب عليه الحد تاما ، فان كان عدّتها عدة الطلاق الرجعي ، كان عليها الرجم ، لأنها محصنة عندنا ذات بعل ، فان كانت التطليقة بائنة لا رجعة للبعل عليها فيها ، أو كانت عدة فسخ ، أو عدة المتوفّى عنها زوجها ، كان عليها الجلد دون الرجم ، لأنها غير محصنة ، فإن ادعيا انهما لم يعلما ان ذلك لا يجوز في شرع الإسلام ، وكانا قريبي العهد بالإسلام ، فإنه يدرأ الحد عنهما. لقوله عليه السلام - ادرءوا الحدود بالشبهات - (2) وهذه شبهة بغير خلاف ، فاما إذا كانا بخلاف ذلك ، لم يصدقا فيه ، وأقيم عليهما الحد ، لان هذا شائع ذائع بين المسلمين ، لا يختص بعالم دون عامي جاهل ، فلا شبهة لهما في ذلك ، فليلحظ الفرق بين الموضعين.

وشيخنا أبو جعفر أطلق ذلك في نهايته (3) إطلاقا.

والاولى ما فصلناه ، لأنه الذي يقتضيه الأدلة القاهرة ، من الإجماع وغيره.

والمكاتب إذا زنى ، وكان مشروطا عليه ، فحكمه حكم المماليك سواء ، وان كان غير مشروط عليه ، وقد أدى من مكاتبته شيئا ، جلد بحساب ما ادى حد الحر من

ص: 445


1- سورة المائدة الآية 42.
2- الوسائل ، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.

مائة جلدة ، وبحساب ما بقي من جلد المملوك من خمسين جلدة ، وليس عليه الرجم إلّا في الموضع الذي يجب الرجم على المملوك في الدفعة الثامنة ، أو بعد أن تنقضي مكاتبته ، فيصير حكمه حكم الأحرار ، ويطأ بعد ذلك زوجته وهو حر ، فإذا زنى بعد ذلك وجب عليه حينئذ الرجم.

وكذلك المملوك المحصن ، إذا أعتق ثم زنى ، فان كان قد وطئ امرأته بعد العتق وقبل الزنا ، كان عليه الرجم ، وان لم يكن وطأها بعد العتق ، وان كان قد دخل بها قبل ذلك ، كان عليه الجلد فحسب ، لانه بحكم من لم يدخل بزوجته من الأحرار.

ومن كان له جارية يشركه فيها غيره ، فوطأها مع علمه انه لا يجوز له وطؤها ، وله فيها شريك ، كان عليه الحد بحساب ما لا يملك منها ، ويدرأ عنه الحد بحساب ما يملكه منها ، فاما ان اشتبه الأمر عليه ، وادعى الشبهة عليه في ذلك ، فإنه يدرأ عنه الحد ، لقوله عليه السلام ادرءوا الحدود بالشبهات (1).

ومن وطئ جارية من المغنم قبل ان تقسّم ، وادعى الشبهة في ذلك ، فإنه يدرأ عنه الحد ، للخبر المذكور المجمع عليه ، وهو ما قدمناه (2).

وقد روى انها تقوم عليه ، ويسقط عنه من قيمتها بمقدار ما يصيبه منها ، والباقي بين المسلمين ، ويقام عليه الحد ، ويدرأ عنه بمقدار ما كان له منها (3).

والاولى ما ذكرناه ، لان الاشتباه في ذلك حاصل بلا خلاف.

وأيضا فإنه يظن ان سهمه أكثر منها ومن قيمتها.

وأيضا الأصل براءة الذمة ، والحد يحتاج الى دليل ، وقوله عليه السلام المجمع عليه - ادرءوا الحدود بالشبهات - (4) يعضد ذلك.

والمرأة إذا زنت ، فحملت من الزنا ، فشربت دواء ، فأسقطت ، أقيم عليها الحد

ص: 446


1- الوسائل ، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.
2- الوسائل ، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 22 من أبواب حد الزنا ، ح 3 - 6.
4- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدمات الحدود ح 4.

للزنا ، وعزرها الامام على جنايتها بسقوط الحمل ، حسب ما يراه.

ومن زنى في شهر رمضان نهارا ، أقيم عليه الحد ، وعوقب زيادة عليه ، لانتهاكه حرمة شهر رمضان ، والزم الكفارة للإفطار.

فإن زنى ليلا ، كان عليه الحد والتعزير ، دون القضاء والكفارة.

ومن زنى في حرم اللّه أو حرم رسوله أو حرم أحد من الأئمّة عليهم السلام كان عليه الحد للزنا ، والتعزير لانتهاكه حرمة حرم اللّه وأوليائه.

وكذلك إذا فعل شيئا يوجب الحد أو التعزير (1).

وفيما يوجب (2) التعزير تغليظ العقوبة.

ومن زنى في الأوقات الشريفة ، مثل ليالي الجمع ، أو ليلة النصف من شعبان ، أو ليالي الأعياد ، أو أيام هذه الليالي ، أو يوم سبعة وعشرين من رجب ، أو ليلته ، أو خمسة وعشرين من ذي القعدة ، أو ليلة سبعة عشر من شهر ربيع الأوّل ، أو يوم الغدير ، أو ليلته ، أو ليلة عاشوراء ، أو يومه ، أو يوم عرفة وغير ذلك من الأوقات المباركات ، فإنه تغلظ عليه العقوبة.

وإذا أقر الإنسان على نفسه بالزنا ، كان عليه الحد على ما بيّناه ، فإن أقرّ أنه زنى بامرأة بعينها ، كان عليه حد الزنا وحد القذف مع مطالبة المقذوفة له بالحد ، لانه من حقوق الآدميين.

وكذلك حكم المرأة إذا قالت زنى بي فلان.

والسكران إذا زنى أقيم عليه الحدّ للزنا والسكر معا ، ولا يسقط عنه واحد منهما لسكره.

وكذلك متى ارتد (3) ، أو أسلم حكم بإسلامه وارتداده عندنا ، فاما عقوده فلا تصح ، ولإطلاقه ولا عتاقه ، وسيجي ء الكلام عليه في موضعه ان شاء اللّه تعالى.

والأعمى إذا زنى وجب عليه الحد ، كما يجب على البصير ، ولا (4) يسقط عنه

ص: 447


1- ل. أو التعزير في مسجد أو موضع عبادة فإنه يجب عليه مع الحد التعزير.
2- ج. الحد والتعزير.
3- ج. ل. وأسلم.
4- ج. ل. لم يسقط.

الحد لعماه ، فان ادعى انه اشتبه عليه الأمر فظن ان التي وطأها كانت زوجته أو أمته ، وكانت الحال شاهدة بما ادعاه ، بان تكون على فراشه نائمة ، قد تشبهت بزوجته أو أمته ، فإنه يدرأ عنه الحد للشبهة ، وان كان شاهد الحال بخلاف ذلك ، فإنه لا يصدّق ، وأقيم عليه الحد.

وقد روى ان امرأة تشبهت لرجل بجاريته ، واضطجعت على فراشه ليلا ، فظنها جاريته فوطأها من غير تحرز ، فرفع خبره الى أمير المؤمنين عليه السلام فأمر بإقامة الحد على الرجل سرا واقامة الحد على المرأة جهرا (1).

أورده هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، الّا انه رجع عنها في مسائل خلافه فقال. مسألة : إذا وجد الرجل امرأة على فراشه فظنها زوجته ، فوطأها ، لم يكن عليه الحد ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة عليه الحد ، وقد روى ذلك أيضا أصحابنا ، دليلنا ان الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج الى دليل ، هذا أخر المسألة من كلامه رحمه اللّه (3).

وما ذهب إليه في مسائل خلافه هو الصحيح الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ويعضد استدلال شيخنا قوله عليه السلام المتفق عليه - ادرءوا الحدود بالشبهات - (4) وهذه شبهة بلا خلاف.

وأيضا فالرجل غير زان ، ولو جاءت بولد ألحق به بلا خلاف ، لانه وطئ شبهة ، فكيف يكون عليه الحد ، فلا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ولو كان شيخنا أبو جعفر الطوسي يعمل باخبار الآحاد على ما يدعى عليه ، لأجل ما يلوح بذلك في بعض كلامه ، لزمه ان يوجب عليه الحد سرا ، لأنه قال على ما رواه أصحابنا ، وأورد الرواية في نهايته ، الا انه دفعها في مسائل خلافه ، وعمل

ص: 448


1- الوسائل ، الباب 38 ، من أبواب حد الزنا ، ح 1.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
3- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 20.
4- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدّمات الحدود .. ح 4.

بما يوجب اليقين ، وثلج الصدر ويقطع العذر.

ولا يحد من ادعى الزوجيّة ، الّا ان تقوم البيّنة بخلاف دعواه ، ولا حد أيضا مع الإلجاء والإكراه ، وانما يجب الحد بما يفعله الإنسان مختارا.

ومن افتض جارية بكرا بإصبعه فإن كانت امة ، روى انه يغرم عشر ثمنها ، ويجلد من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا عقوبة ، لما جناه (1).

والاولى انه يغرم ما بين قيمتها بكرا وثيبا.

وان كانت الجارية حرة غرم عقرها ، وهو مهر مثل نسائها بلا نقصان.

فان كان قد زنى بالحرة وهي عاقلة فذهب بعذرتها ، لم يكن لها عليه شي ء من المهر ، لان العقر قد ذكرنا انه دية الفرج المغصوب ، وهذا ما غصبها عليه.

وجملة الأمر في ذلك وعقد الباب انه إذا زنى الرجل بامرأة فلا يخلو اما ان تكون المرأة جارية لغيره ، أو حرة ، فإن كانت جارية ، فلا يخلو ان تكون ثيّبا أو بكرا ، فان كانت ثيّبا ، فلا يخلو اما ان تكون مكرهة أو مطاوعة ، فإن كانت مطاوعة فلا شي ء لمولاها على الزاني بها ، فإنه لا يستحق عليه مهرا ، لأن الرسول عليه السلام نهى عن مهر البغي (2) فإن كانت مكرهة ، فيجب على الزاني لمولاها مهر أمثالها.

وذهب بعض أصحابنا ، الى ان عليه نصف عشر ثمنها.

والأول هو الصحيح ، لان هذا ورد فيمن اشترى جارية ووطأها ، فكانت حاملا ، وأراد ردّها ، فإنه يردها ويرد معها نصف عشر ثمنها ، والقياس عندنا باطل.

فامّا ان كانت بكرا فلا يخلو ان تطاوع أو تكره على الفعال ، فان كانت مكرهة ، فعليه مهر أمثالها وعليه ما نقص من قيمتها قبل افتضاضها ، وهو أرش البكارة ، تجمع بين الشيئين معا بين المهر وما نقص من القيمة ، لأن أحدهما لا يدخل في الآخر ، ألزمناه المهر لأنها هاهنا مكرهة غير بغى ، ولم ينه عليه السلام الّا عن مهر

ص: 449


1- الوسائل ، الباب 39 من أبواب حد الزنا ، ح 5 ، ولكن عبارة يجلد من ثلاثين .. من كلام ابن إدريس قده كما قال في الجواهر ، ج 1. ص 371 ، في المقام هكذا وعن الشيخ من ثلاثين إلى سبعة وتسعين وعن ابن إدريس إلى تسعة وتسعين.
2- الوسائل ، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به ، ح 13 - 14.

البغي ، وهذه حينئذ ليست بغيا وألزمناه ما نقص من القيمة بأخذ (1) بكارتها ، لأنها جناية على مال الغير ، فيجب ان يلزم بأرش ما جناه وأتلفه.

فإن كانت مطاوعة فلا يلزمه المهر ، لأنّها بغي ، بل يجب عليه ما نقص من قيمتها فحسب ، والمهر لا يلزمه ، لأنها بغي ، والرّسول عليه السلام نهى عن مهر البغي.

فاما أن كانت المزني بها حرة ، فإن كانت ثيبا ، وكانت مطاوعة عاقلة ، فلا شي ء لها على الزاني بها ، وان كانت مكرهة فيجب عليه عقرها ، وهو مهر أمثالها ، لأنها غير بغي.

فإن كانت بكرا وكانت مطاوعة ، فلا شي ء لها ، لأنها زانية ، وبكارتها ذهبت باختيارها ، فان كانت مكرهة ، فلها مهر نسائها فحسب ، دون أرش البكارة ، ولا يجمع بينهما معا فليلحظ ذلك ويتأمل.

ومن زوج جاريته من رجل ، ثم وقع عليها ، ولم يدّع شبهة في ذلك ، وجب عليه الحد كاملا ، فان كان شاهد حاله انه لا يعلم ذلك ، وادعى جهالته ، درئ عنه الحد ، لقوله (2) عليه السلام ادرءوا الحدود بالشبهات (3).

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه مسألة إذا أمكنت (4) العاقلة المجنون من نفسها ، فوطأها ألزمها الحد. وان وطئ المجنونة العاقل ، لزمه الحد ولم يلزمها (5).

وقد حكينا عنه (6) ما ذهب أيضا إليه في نهايته ، وهو أن قال : وان زنى مجنون بامرأة كان عليه الحد تاما جلد مائة ، أو الرجم.

ثم قال في مسائل خلافه بعد تلك المسألة التي حكيناها في مسائل خلافه مسألة : ليس من شرط إحصان الرجم الإسلام ، بل من شرطه الحرية والبلوغ ، وكمال العقل ، والوطي في نكاح صحيح ، فإذا وجدت هذه الشروط فقد أحصن

ص: 450


1- ج. بأرش بكارتها. والظاهر صحة المتن.
2- ج. لقول النبي.
3- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 4.
4- ج. ل. مكنت.
5- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 6.
6- في ص 444. أورده عن النهاية في كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.

إحصان رجم ، وهكذا إذا وطئ المسلم امرأته الكافرة ، فقد أحصنها (1).

وقال في مبسوطة قد بيّنا شرائط الإحصان عندنا ، وانها أربعة أشياء ، ان يكون بالغا عاقلا حرا له فرج يغدو اليه ويروح ، ويكون قد دخل بها ، وعندهم ان يطأ وهو حر بالغ في نكاح صحيح ، ولا يعتبر الإسلام عندنا ، ثم قال والوطي في النكاح الفاسد لا يحصن (2).

وهذا الذي قاله ، وذهب إليه في مبسوطة ، ومسائل خلافه ، في المسألة الأخيرة ، هو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة القاهرة ، من ان النواهي والأوامر لا تتوجه الّا الى العقلاء ، وقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة ، عن المجنون حتى يفيق (3).

إذا أقر الأخرس بالزنا بإشارة معقولة ، لزمه الحد ، وكذلك إذا أقر بقتل العمد ، لزمه القود ، لا نفي على العبد ، ولا على الأمة في الموضع الذي يجب النفي فيه على الحر ، وكذلك لا يجز شعرهما في ذلك الموضع بحال.

باب كيفية إقامة الحد في الزنا وما يتعلق بذلك من الأحكام

إذا كان الإنسان قد زنى وكان ممن يجب عليه الجلد والرجم معا ، وهو المحصن على ما ذكرناه ، وحررناه ، حد أولا الجلد ، ثم بعده الرجمّ.

وقد روى أصحابنا انه لا يرجم حتى يبرأ جلده ، فإذا بري ء رجم (4).

والاولى حمل الرواية على جهة الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، لأن الغرض في الرجم إتلافه وهلاكه.

وإذا أراد الإمام رجمه ، وكانت البيّنة قد قامت عليه بالزنا ، فليأمر بأن يحفر له حفيرة ، ويدفن فيها الى حقويه ، ثم يرجم بعد ذلك ، وكذلك يفعل بالمرأة ، الّا انها

ص: 451


1- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 46.
2- المبسوط ، ج 8 ، كتاب الحدود ، ص 13 - 14.
3- الوسائل : الباب 8 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 1 - 2 والباب 4 من أبواب مقدّمات الطهارة ، ح 10.
4- الوسائل ، الباب 13 من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 6.

تدفن في الحفيرة إلى صدرها ، ثم ترجم.

فان فر واحد منهما من الحفيرة ، رد إليها حتى يستوفى منه الحد بالرجم.

فان كان الرجم وجب عليهما بإقرارهما على أنفسهما ، فعل بهما مثل ما تقدم ذكره ، الّا انه إذا أصاب واحدا منهما الرجم ، وفر من الحفيرة ، لم يرد إليها ، بل يترك يمضى حيث شاء ، فان كان فراره قبل ان يصيبه شي ء من الأحجار رد إلى الحفيرة على كل حال ، وانما لم يرد إذا اصابه شي ء منها ، وكان الحد قد وجب عليه بإقراره دون البيّنة ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي (1).

وذهب شيخنا المفيد ، في مقنعته ، إلى انهما إذا فرّا لم يردّا ، سواء أصابهما الحجر أو لم يصيبهما (2).

ولي في ذلك نظر.

والذي يجب الرجم عليه إذا كانت البيّنة قد قامت عليه ، كان أوّل من يرجمه الشهود ، ثم الامام ، ثم الناس ، فان ماتوا أو غابوا ، كان أوّل من يرجمه الامام ، ثم الناس ، وإن كان الرجم وجب عليه بإقراره على نفسه ، كان أوّل من يرجمه الامام ، ثم النّاس.

وينبغي ان تكون أحجار الرجم صغارا ، ولا تكون كبارا ، ويكون الرجم من خلف المرجوم وورائه ، لئلا يصيب وجهه شيئا منه.

فامّا الذي يجب عليه الجلد دون الرجم ، يجب ان يجلد قائما مائة جلدة ، أشد ما يكون من الضرب ، ويجلد على الحال (3) التي يوجد عليها ، ان وجد عريانا ، ضرب عريانا ، وان كان عليه ثياب ، جلد وهي عليه ما لم يمنع من إيصال شي ء من ألم الضرب اليه.

ويضرب جميع جسده إلا رأسه ووجهه وفرجه.

فان مات لم يكن له قود ، ولا دية ، لا من بيت المال ، ولا من الحاكم ، ولا من

ص: 452


1- في النهاية ، كتاب الحدود ، باب كيفية إقامة الحد في الزنا.
2- المقنعة ، باب الحدود والآداب ، ص ولا يخفى انه قدس سره فصّل بين اقامة الشهود فيردّ الى الحفيرة والإقرار بالزنا فيترك ولا يردّ ، فراجع كلامه قدس سره ص 775 و 776.
3- ج. الحالة.

عاقلته بحال.

وإذا أريد جلد المرأة جلدت كما يجلد الرجل ، وضربت كما يضرب ، الّا انّها تضرب جالسة ، ولا تكون قائمة في هذه الحال ، وتربط عليها ثيابها ، لئلا تنهتك عورتها ، فان جميعها عورة.

وإذا فر من يقام عليه الحد بالجلد ، رد وأعيد حتى يستوفى الحد منه ، سواء كان قد وجب عليه الحد بإقراره ، أو البيّنة.

وإذا أريد إقامة الحد على الزاني بالجلد أو الرجم ، فينبغي للإمام ان يعلم الناس بالحضور ، فانّ في ذلك انزجارا عن مواقعة مثله ، ولطفا للعباد ، ثم يحدّ بمحضر منهم ، لينزجروا ، ولا يحضر عند اقامة الحد على الزاني إلّا خيار الناس.

وروي ان أقل من يحضر واحد (1) ، وهو قول الفراء من أهل اللغة ، فإنه قال الطائفة يقع على الواحد.

واليه ذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، فإنه أورد الرواية.

الّا انه رجع عنها في مسائل خلافه ، فقال مسألة يستحب ان يحضر عند اقامة الحد على الزاني طائفة من المؤمنين بلا خلاف ، لقوله تعالى « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » (3) وأقل ذلك عشرة ، وبه قال الحسن البصري ، وقال ابن عباس أقله واحد ، وروى ذلك أيضا أصحابنا ، وقال عكرمة اثنان ، وقال الزهري ثلاثة ، وقال الشافعي أربعة ، دليلنا طريقة الاحتياط ، لأنه إذا حضر عشرة دخل الأقل فيه ، ولو قلنا بأحد ما قالوه ، لكان قويا ، لان لفظ « طائفة » يقع على جميع ذلك ، هذا أخر المسألة (4).

قال محمّد بن إدريس ، الذي أذهب اليه ان الحضور واجب ، لقوله تعالى « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما » (5) ولا خلاف انه أمر ، والأمر عندنا يقتضي الوجوب.

ص: 453


1- الوسائل ، الباب 11 من أبواب حد الزنا ، ج 5 ، وفي مجمع البيان ، ج 7 ، ص 124 ، وقيل أقله رجل واحد عن ابن عباس والحسن ومجاهد وإبراهيم وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام ..
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب كيفية إقامة الحد في الزنا.
3- سورة النور ، الآية 2.
4- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 11.
5- سورة النور ، الآية 2.

ثم الذي أقول في الأقل ، انه ثلاثة نفر ، لانه من حيث العرف دون الوضع ، والعرف إذا طرأ ، وصار الحكم له ، دون الوضع الأصلي ، وشاهد الحال يقتضي ذلك أيضا ، وألفاظ الاخبار ، لان الحد ان كان قد وجب بالبيّنة ، فالبيّنة ترجمة وتحضره ، وهم أكثر من ثلاثة ، وان كان الحد باعترافه ، فأول من يرجمه الامام ، ثم الناس مع الامام ، وان كان المراد والمعنى حضور غير الشهود والامام ، فالعرف والعادة اليوم ان أقل ما يقال جئنا في طائفة من الناس ، أو جاءتنا طائفة من الناس ، المراد به الجماعة عرفا وعادة ، وأقل الجمع ثلاثة ، وشاهد الحال يقتضي انه أراد تعالى الجميع ، وفيه الاحتياط.

فاما خيرة شيخنا في مسائل خلافه ، ان أقل ذلك عشرة ، فلا وجه له ، فأما الرّواية ، فمن اخبار الآحاد ، وقد بينا ما في ذلك وكررناه.

وروى انه لا يرجمه الا من ليس لله سبحانه في جنبه حد ، وهذا غير متعذر ، لانه يتوب فيما بينه وبين اللّه تعالى ، ثمّ يرميه.

وإذا وجب اقامة الحد على الزاني بالرجم ، أقيم ذلك عليه ، صحيحا كان أو مريضا.

والذي يجب عليه الجلد إذا كان مريضا ، لم يقم الجلد عليه حتى يبرأ ، فإذا بري ء أقيم الحد عليه فان رأى الامام إقامة الحد عليه ، بان تقتضيه المصلحة بان ينزجر الغير ، قدمه وأخذ عرجون فيه مائة شمراخ ، أو ضغثا فيه مائة عود ، أو ما جرى مجرى ذلك ، ويضرب به ضربة واحدة ، وقد أجزي ذلك في استيفاء الحد منه ، سواء وصلت جميعها على جسده ، ووقعت عليه ، أو لم تقع ، يعضد ذلك قوله تعالى « وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ » (1).

إذا زنت امرأة وهي حامل ، لم يقم عليها حد بجلد ولا رجم ، وهي كذلك فإذا وضعت ولدها ، وخرجت من نفاسها ، ووجد من يرضعه ، أقيم عليها الحد ، فاما إذا لم يوجد من يرضعه ، فلا يقام عليها الحد حتى يستغنى عنها ، وهذه قضية أمير المؤمنين

ص: 454


1- سورة ص ، الآية 44.

عليه السلام في المرأة التي جاءت إليه بالكوفة ، فقالت له يا أمير المؤمنين طهرني فاني زنيت ، وانا محصنة ، ثم أقرت أربعة مرات في أربع دفعات ، فقال لها امضى فارضعى ولدك ، فإذا استغنى عنك فانا أقيم الحد عليك (1).

وإذا اجتمع على إنسان حدود فيها قتل وغيره ، بدأ أوّلا بما لا يكون قتلا من الحدود ، ثم يقتل بعد ذلك مثال ما ذكرناه ان يقتل ويسرق ويزني ، وهو غير محصن ، فإنه يجلد أولا للزنا ، ثم يقطع للسرقة بكسر الراء ، ثم يقتل للقود بعد ذلك.

إذا وجب على رجل الحد وهو صحيح العقل ، ثم اختلط عقله بعد ذلك ، وكانت البينة قد قامت عليه به أقيم عليه الحد على كل حال.

ومن يجب نفيه عن البلد الذي زنى فيه ، فإنّه ينفي إلى بلد أخر سنة.

فأما نفي القوّاد ، وهو الجامع بين الرجال والنساء للفجور ، فإنه ينفي من بلده الى بلد آخر ، الّا انه لا يكون نفيه سنة.

واما نفى المحارب فابدا الى ان يتوب ويراجع الحق ، وينيب الى اللّه تعالى على ما نبينه عند المصير اليه ان شاء اللّه تعالى.

ومن أقر على نفسه بحد ، ثم أنكر ذلك ، لم يلتفت الى إنكاره ، إلّا الرجم ، فإنه إذا أقر بما يوجب عليه الحد بالرجم ، ثم جحد ذلك قبل ان يرجم ، خلّي سبيله ، ولا يكون الامام هاهنا مخيرا في تخلية سبيله بل يجب عليه ذلك ، فاما إذا لم يجحد ، كان الامام بالخيار في إقامة الحد عليه ، أو تخليته على ما يراه من المصلحة في الحال له وللأمّة بشرط إظهاره التوبة بعد الإقرار عند الإمام ، فامّا إذا لم يتب فلا يجوز للإمام تخليته ، ولا يكون مخيرا.

ومن أقر على نفسه بحد ولم يبينه ، ضرب أعلى الحدود ، وهي المائة ، الّا ان ينهى (2) هو عن نفسه من دونها ، وبعد تجاوز الحد الذي هو الثمانون فان نهى (3) عن نفسه قبل بلوغ الثمانين سوطا ، الذي هو حد شارب الخمر ، فلا يقبل منه ، وضرب الى

ص: 455


1- الوسائل ، الباب 16 من أبواب حد الزنا ، ح 1 - 5. ربما يكون ما ذكره مضمون الرواية.
2- ج. ينفى.
3- ج. نفى.

ان يبلغه ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

وقد روى انه يضرب حتى ينهى (1) هو عن نفسه الحد (2).

وإذا كانت المرأة مستحاضة لم يقم عليها الجلد ان كان حدها جلدا ، وان كان رجما أقيم عليها ، لان الغرض قتلها ، ولا يقام عليها الجلد حتى ينقطع دمها ، لأنها عليلة ، لأن دم الاستحاضة دم علة.

ويقام على الحائض الجلد ، لانه دم جبلّة ، وليس بدم علة.

إذا وجب على إنسان جلد ، لم يقم عليه في الساعات الشديدة الحر ، ولا الشديدة البرد ، بل ان كان في الشتاء ، يترك حتى تطلع الشمس ويحمى النهار ، ويذهب برد أوّله ، وان كان في الصيف ، يترك حتى يبرد النهار ، ولا يضرب في السبرات الباردة ، ولا الهواجر ، بل يقام عليه في الأوقات المعتدلة.

فإذا فرغ من رجم المرجوم ، دفن في الحال ، ولم يترك على وجه الأرض ، واحكامه بعد موته احكام غيره من الأموات ، إلّا في الغسل ، فإنه يؤمر بالاغتسال أولا ، والتكفين ، ثم يقام الحد عليه ، فإذا مات ، كان بعد ذلك احكامه احكام غيره ، فإنه يصلى عليه ، ويدفن ، ويجب على من مسه الغسل ، على ما ذكرناه في باب تغسيل الأموات ، وكتاب الطهارات (3).

وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في كتاب الحدود ، قال إذا رجم رجل وصلى عليه ، فحكمه بعد الرجم حكم المسلم إذا مات ، وحكم من يقتل قصاصا ، يغسّل ، ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين بلا خلاف ، وروى أصحابنا انه يؤمر بالاغتسال قبل الرجم ، والتحنيط (4) و (5) ، وكذلك من وجب عليه القصاص ، فإذا قتل ، صلي عليه ، ودفن ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (6).

الا ترى الى قوله - فحكمه بعد الرجم حكم المسلم إذا مات - ولا خلاف ان من

ص: 456


1- ج. ينفى.
2- الوسائل ، الباب 11 ، من أبواب مقدّمات الحدود .. ح 1.
3- في الجزء الأول ، ص 167.
4- الوسائل ، الباب 17 ، من أبواب غسل الميّت ، ح 1.
5- ج. ل. التحنط.
6- المبسوط ، ج 8 ، كتاب الحدود ، ص 4.

جملة أحكام المسلم إذا مات ، ومما يتعلق به ، انه إذا مسه إنسان بعد موته وقبل غسله الذي هو بعد موته ، يجب عليه الاغتسال ، فليلحظ ذلك ، وقد أشبعنا القول في الموضع الذي ذكرناه (1).

ولا يقام الحد أيضا في أرض العدوّ لئلا تحمّل المحدود الحمية والغضب على اللحوق بأعداء الدين.

وإذ التجأ إلى حرم اللّه سبحانه ، أو حرم رسوله ، أو أحد الأئمة عليهم السلام ، لم يقم عليه الحد فيه ، بل يضيّق عليه في المطعم والمشرب وبان لا يبايع ، ولا يشارى ، ولا يعامل حتى يخرج منه ، فإذا خرج أقيم عليه الحد.

وإذا أحدث وهو في الحرم ما يوجب اقامة الحد عليه ، أقيم عليه ذلك فيه ، وقد قدمنا (2) ذكر ذلك وكذلك ان قتل فيه ، أو جنى ، قتل فيه ، وأقيم عليه الحد فيه ، لانه انتهك حرمة الحرم ، فعوقب بجنايته فيه.

إذا أقر رجل بالزنا اربع مرات ، بأنه زنى بهذه المرأة ، واكذبته المرأة ، أو قالت أكرهني ، كان عليه الحد ، دونها ، فإن أقرّت المرأة أربع مرات بان هذا الرجل زنى بها ، فاكذبها الرجل ، كان عليها حد الزنا دونه ، وحد القذف أيضا إذا طالبها به الرجل ، فان صدّقها مرّة واحدة ، أو أكثر منها ، ما لم يبلغ اربع مرات ، كان عليها حد الزنا دون حد القذف ، فإن أقر أربع مرات مصدقا لها ، وجب عليه حد الزنا أيضا.

ومن وجب عليه الرجم ، أقيم عليه على كل حال ، عليلا كان أو صحيحا ، لان الغرض إتلافه وقتله على ما قدمناه (3).

باب الحد في اللواط وما يتعلق بذلك

اللواط هو الفجور بالذكران ، وهو على ضربين ، أحدهما إيقاع الفعل في الدبر بالإيقاب ، كالميل في المكحلة ، والآخر بإيقاع الفعل فيما عدا ذلك من بين الفخذين ، أو ما لا يكون بالإيقاب في الدبر.

ص: 457


1- في الجزء الأول ص 167.
2- في الجزء الأول ص 644.
3- في ص 455.

ويثبت ذلك على فاعله بأمرين ، أحدهما إقراره على نفسه بذلك اربع مرات ، وهو كامل العقل حرّ مختار ، كما قدمناه في باب حد الزنا (1) ، سواء كان فاعلا أو مفعولا ، فان أقر دون ذلك ، لم يجب عليه الحد ، وكان على الحاكم تعزيره ، لإقراره على نفسه بالفسق.

والضرب الثاني البيّنة ، وهي أربعة شهود يشهدون بذلك ، كما ذكرناه في شهادتهم بالزنا (2) ، ويذكرون المشاهدة للفعل ، كالميل في المكحلة ، فان لم يشهدوا كذلك كان عليهم حد الفرية ، الّا ان يشهدوا بإيقاع الفعل فيما دون الدبر ، فتقبل شهادتهم ، ويجب بها الحد على ما نبينه فيما بعد ان شاء اللّه.

وإذا شاهد الحاكم بعض الناس على هذا الفعل ، كان له اقامة الحد عليه به ، ولا يحتاج مع علمه ومشاهدته الى غير ذلك ، مثل الزنا سواء.

فإذا ثبت على اللائط حكم اللواط بالإيقاب ، كان حده القتل ، الّا انّ الامام بالخيار في كيفية قتل اللائط ، اما ان يرمى من حائط عال ، أو يرمي عليه جدار (3) ، أو يدهدهه من جبل ، ومعنى يدهدهه اى يدحرجه ، أو يضرب عنقه بالسيف ، أو يرجمه الامام والناس ، أو يحرق بالنار ، والامام مخير في ذلك ، أي شي ء أراد فعله منه كان له ذلك ، بحسب ما يراه صلاحا ، فإن أقام عليه حدا بغير النار ، كان له إحراقه بعد ذلك.

والفاعل لما يخالف الإيقاب فاعلا أو مفعولا يجب عليه الجلد مائة جلدة ، دون القتل والرجم ، سواء كان محصنا أو غير محصن ، على الأظهر من أقوال أصحابنا.

وقد ذهب بعضهم إلى انه على ضربين ، أحدهما ان يكون محصنا ، والأخر غير محصن ، فان كان محصنا ، كان عليه الرجم ، وان كان غير محصن ، كان عليه الحدّ مائة جلدة ، سواء كان فاعلا أو مفعولا به ، حرا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا.

وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (4) ، والأول مذهب شيخنا

ص: 458


1- في ص 429 - 428.
2- في ص 429.
3- ج. الحائط.
4- النهاية : كتاب الحدود ، باب الحد في اللواط.

المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان (1) ، والسيد المرتضى (2) ، وغيرهما من الجلة المشيخة رحمهم اللّه.

وهو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة القاهرة ، لأن الأصل براءة الذمة ، وإدخال الضرر على الحيوان قبيح ، عقلا وسمعا الّا ما خرج بالدليل ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار شاذة لا يعضدها كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، لأنا قد بينا ان الإجماع غير حاصل ، ولا منعقد على ذلك.

فاما التلوط بالإيقاب ، فلا خلاف بين أصحابنا ان حدّه ما ذكرناه ، سواء كان الفاعل والمفعول ، حرا أو عبدا ، مسلما أو كافرا ، محصنا أو غير محصن ، وعلى كل حال بعد ان يكون عاقلا.

وإذا تلوط رجل عاقل بصبي لم يبلغ ، كان عليه الحد كاملا وعلى الصبي التأديب ، فان كان الصبي هو الفاعل بالرجل ، كان على الصبي التأديب أيضا ، وعلى الرجل المفعول به الحد كاملا.

وإذا تلوط صبي بصبي مثله ، أدّبا جميعا ، ولم يجب على واحد منهما الحد.

وإذا كان لرجل عبد ، فتلوط به ، كان عليه وعلى العبد جميعا الحد كاملا ، فان ادعى العبد على سيّده انه أكرهه على ذلك ، درئ الحدّ عنه ، وأقيم على سيّده ، لان هاهنا شبهة الرق ، وقد قال عليه السلام - ادرءوا الحدود بالشبهات - (3).

فان زنى مملوك بمولاته ، أقيم عليهما جميعا الحد ، فان ادعى الإكراه منها له على الفعال ، فلا يقبل منه ولا يصدق ، ولا يدرأ الحدّ عنه ، لان ما هاهنا شبهة ، وليس هذا كالأول.

إذا تلوط عاقل بمجنون ، أقيم الحد عليه ، ولم يكن على المجنون شي ء ، فان لاط مجنون بعاقل ، كان على العاقل الحد كاملا ، وليس على المجنون شي ء بحال ، سواء كان فاعلا أو مفعولا به.

ص: 459


1- في المقنعة ، باب الحد في اللواط ص 785.
2- في الانتصار ، كتاب الحدود.
3- الوسائل ، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 4.

وذهب بعض أصحابنا إلى انه إن كان المجنون فاعلا ، فيجب عليه الحد كاملا ، وان كان مفعولا به ، فلا يجب عليه شي ء.

وهو الذي ذكره شيخنا في نهايته (1).

وليس عليه دليل من كتاب ، ولا سنة متواترة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، فمن علق عليها شيئا ، يحتاج الى دليل. والأحكام الشرعية من الحدود وغيرها متوجهة إلى العقلاء ، دون غيرهم من المجانين والأطفال ، فلا ينبغي ان يترك الأدلة القاطعة للأعذار ، ويرجع الى خبر واحد أو قول مصنف قاله في كتابه ، وأودعه في تصنيفه ، ولا يحل تقليده في ذلك بحال.

وإذا لاط كافر بمسلم ، قتل على كل حال.

وإذا لاط بكافر مثله ، كان الامام مخيرا بين ان يقيم الحد عليهما بما توجبه شريعة الإسلام ، وبين ان يدفعه الى أهل ملته ، ليقيموا الحد عليه على ما يرونه عندهم.

ومتى وجد رجلان في إزار واحد مجردين ، أو رجل وغلام ، وقامت عليهما بذلك بيّنة ، وهي رجلان عدلان ، أو أقرا بفعله ، ضرب كل واحد منهما تعزيرا من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا ، بحسب ما يراه الإمام ، فإن عادا الى مثل ذلك ، ضربا مثل ذلك (2) ، فان عادا أقيم عليهما الحد ، بان يضرب كل واحد منهما مائة جلدة ، على ما روى (3).

وإذا لاط رجل ، ثم تاب قبل قيام البيّنة ، لم يكن للإمام ولا غيره اقامة الحد عليه ، فان تاب بعد ان شهد عليه بالفعل ، لم يسقط عنه التوبة هاهنا الحدّ ووجب على الإمام إقامته عليه ، فان كان تائبا عند اللّه تعالى ، عوضه اللّه تعالى بما يناله من ألم الحد ، ولم يجز العفو عنه على كلّ حال.

وان كان اللائط أقر عند الامام على نفسه باللواط اربع مرات ، ثم تاب ، وعلم

ص: 460


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في اللواط.
2- ج. ل. فان عادا الى ذلك ضربا مثل ذلك.
3- الوسائل ، الباب 10 من أبواب حد الزنا ، ح 25.

الامام منه ذلك ، جاز له ان يعفو عنه ، ويجوز له أيضا إقامة الحد عليه حسب ما يراه من المصلحة وشاهد الحال ، ومتى لم يظهر التوبة منه ، لم يجز له العفو عنه بحال.

ومن قبّل غلاما ، ليس بمحرم له ، على جهة الالتذاذ والشّهوة وميل النفس ، وجب عليه التعزير.

فان فعل ذلك وهو محرم بحج أو عمرة ، غلّظ عليه تأديبه ، كي ينزجر عن مثله في مستقبل الأحوال.

وقد روى انه إذا قبّل الرجل غلاما بشهوة ، لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وملائكة الرحمة ، وملائكة الغضب ، وأعدّ له جهنم ، وساءت مصيرا (1).

وفي حديث آخر ، من قبل غلاما بشهوة ، ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار (2).

فان كان التقبيل للغلام أو الرجل على غير ذلك الوجه ، اما لأمر ديني ، أو صداقة دنياوية ، ومودة اصلاحية ، وعادة عرفية ، فلا حرج في ذلك ، ولا إثم ، فإنه قد روى (3) استحباب تقبيل القادم من مكة بغير خلاف.

وانما يحرم من ذلك ما يقصد به الريبة والشهوة والفسوق ، وهذا شي ء راجع الى النيات والعقائد ، فقد قال عليه السلام الاعمال بالنيّات ، وانما لامرئ ما نوى (4).

وفي ألفاظ الاخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام تقييد التحريم من ذلك ما يكون بالشهوة ، أورد ذلك ابن بابويه في رسالته (5) ، وقيده في كلامه.

والمتلوط بما دون الإيقاب الذي يجلد مائة جلدة ، فإذا أقيم عليه الحد ثلاث مرّات ، يقتل في الرابعة ، مثل الزاني.

والأولى عندي انه يقتل هو والزاني في الثالثة ، لقولهم عليهم السلام ، المجمع

ص: 461


1- مستدرك الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب نكاح المحرّم ، ح 3.
2- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب نكاح المحرّم ، ح 1.
3- الوسائل ، الباب 55 من أبواب آداب السفر ، ح 7.
4- الوسائل ، الباب 5 ، من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 6 - 7.
5- لم نتحققه في رسالة ابن بابويه.

عليه ، ان أصحاب الكبائر يقتلون في الدفعة الثالثة (1) وهؤلاء بلا خلاف أصحاب كبائر.

وشيخنا أبو جعفر ذهب في نهايته إلى انه يقتل في الرابعة (2) ، وذهب في مسائل خلافه انه يقتل في الخامسة (3) وجعل ما ذهب إليه في نهايته رواية فقال مسألة إذا جلد الزاني الحر البكر البالغ أربع مرات قتل في الخامسة وكذلك في القذف يقتل في الخامسة ، والعبد يقتل في الثامنة (4).

وقال في نهايته ، يقتل في التاسعة (5).

ثم قال متمّما للمسألة ، وقد روى ان الحر يقتل في الرابعة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، وقالوا عليه الحد بالغا ما بلغ ، دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، هذا أخر مسألته (6).

وما اخترناه أولا هو الأظهر بين الطائفة.

قال محمّد بن إدريس أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في الجزء الثالث من كتابه الإستبصار ، في باب الحد في اللواط ، خبرا عن على بن إبراهيم عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب عن ابن رئاب ، عن مالك بن عطية ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام فيمن أوقب على غلام ، قال قال أمير المؤمنين عليه السلام انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حكم فيه ثلاثة أحكام ، اما ضربة بالسيف في عنقه بالغة ما بلغت ، أو إهداء من جبل مشدود اليدين والرجلين ، أو إحراق بالنار (7).

وجدناه لما عارضت كتابي بخط المصنف رحمه اللّه.

إهداء بألف في اوله ، وألف في أخره ، وصوابه دهداء ، بدال في اوله ، وأظن الدال الأولة كانت قصيرة المدة التحتانية ، وطويلة المدة الفوقانية ، فاعتقدها

ص: 462


1- الوسائل ، الباب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 1.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في اللواط.
3- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 55.
4- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 55.
5- النهاية : كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.
6- الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة 55.
7- الإستبصار ، ج 4 ، الباب 126 من كتاب الحدود ص 220 ح 5 / 822 ، وفي المصدر ، إهدارا.

النساخ الناقلون ألفا مستقيمة ، فوقع الرّهق (1) والغلط لذلك ، لانه مصدر تدهدأ الحجر وغيره ، تدهدؤا ودهديته انا ادهديه دهدأة ودهداء.

قال ذو الرمة :

ادنى يقاذفه التقريب أو خبب (2)

كما تدهدى من العرض الجلاميد

وهذا مما يبدل من الهاء ياء ، قال الجوهري ، في الصحاح دهدهت الحجر فتدهده ، اي دحرجته فتدحرج ، وقد يبدل من الهاء ياء فيقال تدهدى الحجر وغيره تدهديا ، ودهديته انا ، ادهديه دهدأة ودهداء إذا دحرجته ، وانشد بيت ذي الرمة المقدّم ذكره ، وانما أومأت الى هذا المكان لئلا يجرى تصحيف في الخبر الذي في الاستبصار.

باب الحد في السحق

السحق بضم السين الاسم ، وبفتحها المصدر ، وهو عبارة في عرف الشرع عن فعل الأنثى بالأنثى ، كما أنّ اللواط عبارة عن فعل الرجال بالرجال ، الذكران بالذكران ، والزنا عبارة عن فعل الرجال بالنساء.

فإذا ثبت ذلك ، فالبيّنة على الجميع واحدة ، وهي شهادة أربع عدول بتحقيق ذلك ومعاينته على ما قدمناه ، أو إقرار الفاعل أو المفعول على نفسه اربع مرات في أربع دفعات وأوقات.

فإذا ثبت ذلك وساحقت المرأة أخرى ، وجب على كل واحدة منهما الحد ، جلد مائة ، سواء كانتا محصنتين أو غير محصنتين.

وقال بعض أصحابنا ان كانتا محصنتين وجب على كل واحدة منهما الرجم ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (3).

والأول اختيار شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في مقنعته (4) والسيّد

ص: 463


1- ج. الزهق.
2- ج. جنب.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.
4- المقنعة ، باب الحدود والآداب ص 787 و 788.

المرتضى (1) وغيرهما من أصحابنا.

وهو الأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ولأن الأصل براءة الذمة ، وحقن الدّماء ، وترك إدخال الضرر على الحيوان الا بدليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنة متواترة ، ولا إجماع.

وإذا ساحقت المرأة جاريتها ، وجب على كل واحدة منهما الحدّ كاملا ، وهو جلد مائة ، ولا ينتصف في حق الإماء مثل حد الزنا ، بل حد الحرة والأمة في السحق سواء ، لانه ليس بزنا ، والقياس عندنا باطل.

فان ذكرت الجارية انها أكرهتها ، درئ عنها الحد ، للشبهة في ذلك ، وأقيم (2) على مولاتها.

وإذا ساحقت المجنونة ، لا يجب عليها الحد ، سواء كانت فاعلة أو مفعولة بها.

وقال شيخنا أبو جعفر بي نهايته : وإذا ساحقت المجنونة ، أقيم عليها الحد ، فان فعل بها ذلك ، لم يكن عليها الحد (3).

وما ذهبنا اليه هو الذي يقتضيه أصول المذهب ، ولا يرجع في ذلك الى خبر واحد ، أو مسطور يوجد لبعض المصنفين ، إذا لم يعضده كتاب اللّه ، أو إجماع ، أو اخبار متواترة.

وإذا ساحقت المسلمة الكافرة ، وجب على كل واحدة منهما الحد ، وكان الامام مخيّرا في الكافر بين اقامة الحد عليها ، وبين إنفاذها ودفعها الى أهل ملتها ، ليعملوا بها ما يقتضيه مذهبهم.

وإذا ساحقت المرأة العاقلة صبية غير بالغة ، أقيم على العاقلة الحد ، وأدبت الصبيّة.

فان تساحقت صبيّتان غير بالغتين ، أدّبتا ، ولم يقم على واحدة منهما الحد كاملا.

ص: 464


1- في الانتصار ، كتاب الحدود.
2- ج. ل. أقيم الحد.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.

وروى انّه إذا وطئ الرجل امرأته ، فقامت المرأة فساحقت جارية بكرا ، فألقت ماء الرجل في رحمها ، وحملت الجارية ، وجب على المرأة الرجم ، وعلى الجارية إذا وضعت مائة جلدة ، والحق الولد بالرجل ، وألزمت المرأة المهر للجارية ، لأن الولد لا يخرج منها الّا بعد ذهاب عذرتها (1).

فان عضد هذه الرواية دليل من كتاب ، أو سنة متواترة ، أو إجماع ، والّا السلامة التوقف فيها ، وترك العمل بها ، والنظر في دليل غيرها ، لأنا قد قلنا ان جلّ أصحابنا لا يرجمون المساحقة ، سواء كانت محصنة أو غير محصنة ، واستدللنا على صحة ذلك ، فكيف نوجب على هذه الرجم.

وإلحاق الولد بالرجل ، فيه نظر يحتاج الى دليل قاطع ، لانه غير مولود على فراشه ، والرّسول عليه السلام قال - الولد للفراش - (2) وهذه ليست بفراش للرجل ، لان الفراش عبارة في الخبر عن العقد ، وإمكان الوطء ، ولا هو من وطئ شبهة بعقد (3) الشبهة.

وإلزام المرأة المهر أيضا فيه نظر ، ولا دليل عليه ، لأنها مختارة غير مكرهة ، وقد بيّنا ان الزاني إذا زنى بالبكر الحرة البالغة ، لا مهر (4) عليه إذا كانت مطاوعة ، والبكر المساحقة هاهنا مطاوعة ، قد أوجبنا عليها الحد ، لأنها بغي ، والنبيّ عليه السلام - نهى عن مهر البغي - (5) فهذا الذي يقال على هذه الرواية ، فإن كان عليها دليل غيرها من إجماع وغيره ، فالتسليم للدليل دونها ، فليلحظ ما نبهنا عليه ويتأمل ، ولا ينبغي في الديانة أن يقلد اخبار الآحاد ، وما يوجد في سواد الكتب.

وإذا افتضت امرأة بكرا بإصبعها ، فذهبت بعذرتها ، لزمها مهرها ، إذا كان ذلك بغير اختيارها ، وكانت البكر عاقلة بالغة فان أمرتها بذلك ، فلا شي ء على المرأة الفاعلة من المهر بحال ، وكذلك الرجل إذا ذهب بعذرة البكر ، حرفا فحرفا ،

ص: 465


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب حد السحق والقيادة ، ح 1 - 2 - 3 - 4 - 5.
2- الوسائل ، الباب 56 ، من أبواب إنكاح العبيد والإماء ، ح 1.
3- ج. يعتقد الشبهة.
4- ج. لا مهر لها عليه.
5- الوسائل ، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به ، ح 13 - 14.

فان كانت البكر غير بالغ ، فيجب على من ذهب بعذرتها بإصبعه أو غير إصبعه المهر على ما قدمناه وحررناه.

فان كانت الجارية البالغة امة للغير ، فالمهر لا يجب ، بل يجب ما بين قيمتها بكرا أو غير بكر ، لانه مال الغير أتلفه ، سواء كانت الأمة مختارة أو مكرهة.

وإذا وجدت امرأتان في إزار واحد مجردتين من ثيابهما ، وليس بينهما رحم ، ولا أحوجهما الى ذلك ضرورة من برد وغيره ، كان على كل واحدة منهما التعزير ، من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا ، حسب ما يراه الإمام ، أو الوالي (1) والحاكم من قبله ، ولا يبلغ بذلك الحد.

وقد يوجد في بعض المواضع التعزير من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين.

والوجه في ذلك : انه كان الفعال مما يناسب الزنا واللواط والسحق ، فان الحد في هذه الفواحش مائة جلدة ، فيكون التعزير دونها ولا يبلغها ، فللحاكم أن يعزّر من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين ، فينقص عن المائة سوطا ، فاما إذا كان التعزير على ما يناسب ويماثل الحد الذي هو الثمانون ، وهو حد شارب الخمر عندنا ، وحد القاذف ، فيكون التعزير لا يبلغه ، بل من

ثلاثين إلى تسعة وسبعين ، فهذا معنى ما يوجد في بعض المواضع من الكتب ، تارة تسعة وتسعون ، وتارة تسعة وسبعون.

قال شيخنا أبو جعفر ، في الجزء الثالث من مسائل الخلاف ، في كتاب الأشربة ما ينبهك على ما قلناه ، قال مسألة لا يبلغ بالتعزير حد كامل ، بل يكون دونه ، وادنى الحدود في جنية الأحرار ، ثمانون ، والتعزير فيهم تسعة وسبعون جلدة ، هذا آخر كلامه (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا وأخبارنا ، ان التعزير لا يبلغ الحد الكامل الذي هو المائة ، ايّ تعزير كان ، سواء كان ما يناسب الزنا أو القذف ، وانما هذا الذي لوح به شيخنا من أقوال المخالفين ، وفرع من فروع بعضهم ، ومن اجتهاداتهم وقياساتهم الباطلة ، وظنونهم العاطلة.

ص: 466


1- ل. أو الوالي أو الحاكم.
2- الخلاف ، كتاب الأشربة ، مسألة 14.

فإن عادتا الى مثل ذلك ، نهيتا ، وأدّبتا ، فإن عادتا ثالثة ، أقيم عليهما الحد كاملا مائة جلدة ، على ما روى (1).

أورده شيخنا في نهايته (2) وقال فان عادتا رابعة ، كان عليهما القتل.

قال محمّد بن إدريس ان قتلهما في الرابعة ، لقولهم عليهم السلام أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة ، فالصحيح (3) انهم يقتلون في الثالثة.

وإذا ساحقت المرأة وأقيم عليها الحد ثلاث مرات ، قتلت في الرابعة ، مثل الزانية سواء.

وقد قلنا ما عندنا في الزانية ، وان الأظهر عند أصحابنا ، والذي يقتضيه أصول مذهبهم ، القتل في الثالثة.

وإذا تابت المساحقة قبل ان ترفع الى الامام ، سقط عنها الحد ، فان قامت بعد ذلك عليها البيّنة ، لم يقم عليها الحد ، فان قامت البيّنة عليها ، ثم تابت بعد ذلك ، أقيم عليها الحد على كل حال ، ولم يجز للحاكم العفو عنها ، فان كانت أقرت بالفعل عند الحاكم ، ثم أظهرت التوبة ، كان للإمام العفو عنها ، وله اقامة الحد عليها ، حسب ما يراه أصلح في الحال ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (4).

والأظهر انه لا يجوز له العفو ، لان هذا الحد لا يوجب القتل وانما ذلك في الإقرار الذي يوجب القتل.

باب وطي الأموات والبهائم والاستمناء بالأيدي وما يتعلق بذلك من الاحكام

من وطأ امرأة ميتة ، فان حكمه حكم من وطأها وهي حيّة ، لقولهم عليهم السلام - حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا. (5).

ص: 467


1- لم نتحققها بعينها الّا ما أوردها في الوسائل الباب 2 من أبواب حد السحق والقيادة ، ح 1 - 2.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.
3- ج. الصحيح.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.
5- الوسائل ، الباب 2 من أبواب نكاح البهائم ووطي الأموات .. ح والباب 19 من أبواب حد السرقة ، ح 6، ولفظه هكذا ، حرمة الميّت ، وحرمة الميتة كحرمة الحية.

فإذا ثبت ذلك ، فإنه يجب عليه الرجم ان كان محصنا ، والجلد ان لم يكن كذلك ويضرب (1) زيادة على الحد تعزيرا ، لانتهاكه حرمة الأموات ، والجرأة على ذلك ، فان كانت الموطوءة زوجته أو أمته ، وجب عليه التعزير دون الحد ، للشبهة الداخلة عليه في ذلك.

ويثبت الحكم في ذلك بإقرار الفاعل على نفسه مرتين ، أو شهادة عدلين ، هذا ما روى (2) في اخبار الآحاد.

والذي تقتضيه الأدلة وأصول مذهبنا ، ان الإقرار أربع مرات ، والشهادة أربع رجال ، لأنا أجمعنا انه زان وزنا ، والزنا بإجماع المسلمين لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال ، أو إقرار الفاعل اربع مرات ، والإجماع فغير منعقد على تخصيص ذلك ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار الآحاد ، ولا كتاب مصنف ، وان كان قد أورد ذلك شيخنا في نهايته (3) إيرادا لا اعتقادا كما أورد أمثاله من اخبار الآحاد.

وحكم المتلوط بالأموات ، حكم المتلوط بالاحياء على السواء ، لا يختلف الحكم في ذلك ، بل تغلظ عقوبته ، لانتهاكه حرمة الأموات.

ومن وطأ بهيمة ، كان عليه التعزير حسب ما يراه الحاكم من الصلاح في الحال ، ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها ان لم تكن له ، إذا كانت مما يركب ظهرها في الأغلب ، كالخيل والبغال والحمير ، وان كان يقع على هذه الأجناس الذكاة ، وتؤكل عندنا لحومهنّ ، الّا انه غير غالب عليهن ، بل ركوب ظهورها هو الأغلب ، واتخاذها لذلك هو المقصود الأشهر ، وأخرجت من البلد الذي فعل بها ما فعل الى بلد أخر ، وبيعت هناك لئلا يعير صاحبها بها ، على ما روى (4) في الاخبار هذا التعليل ، فإذا بيعت ، كان الثمن لمن غرمناه ثمنها ، لان صاحبها قد أخذ ثمنها ، وصارت

ص: 468


1- ج. ويعزّر.
2- الوسائل ، الباب 3 من أبواب حد السرقة ، ح 1 - 4 - 6 ، والباب 49 من أبواب الشهادات ، ج 1 - 2 ، والباب 5 من أبواب كيفية الحكم ..
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب من نكح بهيمة أو وطي ميتة.
4- الوسائل ، الباب 1 ، من أبواب نكاح البهائم ، ح 1 - 4.

للواطئ فلا يعطى صاحبها غير ثمن واحد ، وهو الذي غرمه (1) له ، ولا يجمع له الثمنين معا ، لانه لا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، بل قد وردت اخبار (2) عن الأئمة الأطهار عليهم السلام بما قلناه.

فان كانت ملك الواطي ، لم يكن عليه شي ء سوى التعزير ، ولا يجب عليه غرم ثمنها ، لان ثمنها له ، فلم يغرم.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، يتصدق بثمنها على المساكين والفقراء ، سواء كانت لصاحبها أو لغيره ، إذا غرم ثمنها وبيعت ، وتصدق بالثمن الثاني (3).

فإن كانت البهيمة الموطوءة مما لا يركب ظهرها ، بل في الأغلب يكون للأكل والنحر والذبح ، ذبحت وأحرقت بالنار ، لان لحمها قد حرم ، ولحم ما يكون من نسلها.

فان اختلطت بغيرها من البهائم ، ولم تميّز ، قسم القطيع ، وأقرع بينهما ، فما وقعت عليه القرعة ، قسّم من رأس ، وأقرع بينهما ، الى ان لا تبقى إلّا واحدة ، ثم تؤخذ وتحرق بالنار ، بعد أن تذبح ، وليس ذلك على جهة العقوبة لها ، لكن لما يعلمه اللّه تعالى من المصلحة في ذلك للعباد ، ودفع العار بها عن صاحبها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن نكح بهيمة ، كان عليه التعزير بما دون الحد ، حسب ما يراه الإمام في الحال ، ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها إن لم تكن له ، فان كانت له لم يكن عليه شي ء ، وان كانت البهيمة مما يقع عليها الذكاة ، ذبحت وأحرقت بالنار ، لان لحمها قد حرم ولحم جميع ما يكون من نسلها ، فان اختلطت البهيمة الموطوءة بغيرها من البهائم ولم تتميّز قسم القطيع الذي فيه تلك البهيمة ، وأقرع بينهما ، فما وقعت عليه القرعة ، قسم من الرأس ، وأقرع بينهما ، الى ان لا تبقى إلّا واحدة ، ثم تؤخذ وتحرق بالنار بعد ان تذبح ، وليس ذلك على جهة العقوبة لها ، لكن لما يعلمه اللّه تعالى من المصلحة في ذلك ، ولدفع العار بها عن صاحبها ، فان كانت

ص: 469


1- ج. غرمناه له.
2- الوسائل ، الباب 1 ، من أبواب نكاح البهائم ، ح 1 - 4.
3- المقنعة : باب الحد في نكاح البهائم والاستمناء بالأيدي ص 790.

البهيمة مما لا تقع عليها الذكاة ، أخرجت من البلد الذي فعل بها ما فعل الى بلد أخر ، وبيعت هناك لئلا يعيّر صاحبها بها. هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

قال محمّد بن إدريس اما قوله رحمه اللّه في أوّل الكلام وهو - فان كانت البهيمة ممّا يقع عليها الذكاة ، ذبحت وأحرقت - ، فالمراد به ما قلناه ونبّهنا عليه ، من انها تصلح للذبح في الغالب ، دون ركوب الظهر ، واما قوله في آخر الكلام - فان كانت البهيمة مما لا تقع عليها الذكاة ، أخرجت من البلد مراده بذلك ما قلناه ، وهو أنها تصلح للركوب ، لا للذبح في الغالب ، وان كانت عندنا أيضا يقع عليها الذكاة ، لأن الخيل والبغال والحمير تقع عليها الذكاة ، ويؤكل لحمها عندنا ، الّا انّها ما تراد لذلك ، ولا الغالب فيها الذبح ، ولا قنيتها واتخاذها للأكل والذبح ، فليلحظ ذلك.

وقد نبّه شيخنا المفيد ولوّح في مقنعته على شي ء من ذلك ، قال فان كانت البهيمة مما يقع عليها الذكاة ، كالشاة ، والبقرة ، والبعير ، وحمر الوحش ، والغزلان ، ذبحت وحرّقت (2) بالنار ، ثم قال بعد ذلك ، وان كانت مما لا يقع عليها الذكاة ، كالدواب والبغال والحمر الأهلية وأشباه ذلك ، أخرجت من البلد (3).

فهذا تنبيه على ما أشرنا اليه واعتمدنا عليه.

قوله رحمه اللّه من الرأس ، لا ينبغي ان يكون بألف ولام ، بل عند أهل اللغة يقال من رأس ، ويعدون ما خالف ذلك مما تغلط فيه العامة ، فينبغي ان يتجنبه الإنسان ويثبت الحكم بذلك امّا بالإقرار من الفاعل مرّتين ، أو بشهادة عدلين ، لا أكثر من ذلك.

ومتى تكرر الفعل من واطئ البهيمة والميتة ، وكان قد أدّب وحدّ ، وجب عليه القتل في الثالثة.

وقال شيخنا في نهايته (4) : في الرابعة.

ص: 470


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب من نكح بهيمة أو وطي ميّتة.
2- ج. أحرقت.
3- المقنعة ، باب الحد في نكاح البهائم والاستمناء بالأيدي ص 789.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب من نكح بهيمة أو وطئ ميتة ..

ومن استمنى بيده حتى انزل ، كان عليه التعزير والتأديب بما دون الحد الكامل.

وقد روى أن أمير المؤمنين عليه السلام ضرب يد من فعل ذلك ، حتى احمرت ، وزوّجه من بيت المال ، واستتابه من ذلك الفعال.

ويثبت الفعل بذلك بإقرار الفاعل مرتين ، أو شهادة عدلين مرضيين.

باب الحد في القيادة

الجامع بين النساء والرجال ، أو الرجال والغلمان للفجور إذا شهد عليه عدلان ، أو أقر على نفسه وهو عاقل مرتين ، فإنه يجب عليه ثلاثة أرباع حد الزاني الحر ، وهو خمس وسبعون جلدة ، ويحلق رأسه ، ويشهر في البلد ، وينفى عنه الى غيره من الأمصار من غير تحديد لمدة نفيه ، سواء كان حرا أو عبدا لأن الأخبار عامة مطلقة ، خالية من تخصيص ، فهي عامة في هذا الحكم ، ويجب العمل بالعموم حتى يقوم دليل الخصوص ، فليلحظ ذلك.

وشيخنا المفيد يفعل به ما قلناه في الدفعة الأولى إلّا النفي ، فإنه لا ينفيه إلّا إذا عاد دفعة ثانية ، بل في الدفعة الأولى لا ينفيه ، بل يحلق رأسه ويشهره في البلد ، ويضربه العدد الذي ذكرناه ، ولا ينفيه إلّا في الثانية (1).

والأوّل اختيار شيخنا أبي جعفر (2) في نهايته.

والمرأة إذا فعلت ذلك ، فعل بها ما يفعل بالرجل من الجلد فحسب ، ولا تحلق ولا تشهر ولا تنفى بحال.

ومن رمى غيره بالقيادة ، فقال له يا قواد ، كان عليه التعزير بما دون الحد ، لئلا يعود إلى أذى المسلمين ، فان قال له يا قائد ، لم يكن عليه تعزير لأنّ لفظ القائد ، ما أفاد لفظ قوّاد ، لأن بالعرف صار قبيحا ، دون لفظ قائد.

ص: 471


1- المقنعة ، باب الحد في القيادة ص 791.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحدّ في القيادة ..

باب الحد في شرب الخمر والمسكر من الشراب والفقاع وغير ذلك من الأشربة والمآكل المحظورة ما يتعلق بذلك من الأحكام

الخمر محرّمة بالكتاب والسنّة والإجماع ، قال اللّه تعالى « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » (1) فأخبر تعالى ان في الخمر إثما كبيرا ، وأخبر أن فيهما منافع للناس ، ثم قال وإثمهما أكبر من نفعهما ، فثبت انهما محرمان.

وقال تعالى « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » (2) والإثم في الآية ، المراد به الخمر بلا خلاف.

قال الشاعر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وقال تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » (3) الى آخر الآيتين.

وفيهما أدلة.

أولها ان اللّه تعالى افتتح الأشياء المحرمات ، فذكر الخمر والميسر ، وهو القمار ، والأنصاب ، وهي الأصنام ، والأزلام ، وهي القداح ، فلما ذكرها مع المحرمات ، وافتتح المحرمات بها ، ثبت انها آكد المحرمات.

ثم قال رجس من عمل الشيطان ، فسمّاها رجسا ، والرجس الخبيث ، والرجس النجس ، والرجس الحرام ، ثبت ان الكل حرام.

ثم قال من عمل الشيطان ، وعمل الشيطان حرام.

ثم قال فاجتنبوه ، فأمر باجتنابه ، والأمر عندنا يقتضي الوجوب.

ثم قال لعلكم تفلحون ، يعنى باجتنابها ، وضد الفلاح الفساد.

ص: 472


1- سورة البقرة ، الآية 219.
2- سورة الأعراف ، الآية 33.
3- سورة المائدة ، الآية 90.

ثم قال « إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ » (1) وما يوقع العداوة حرام.

ثم قال « وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ ، وَعَنِ الصَّلاةِ » (2) وما يصد عنهما أو أحدهما حرام ثم قال « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » ، وهذا نهى ومنع منها ، لانه يقال أبلغ كلمة في النهي ان تقول أنت (3) منته ، لانه تضمن معنى التهديد ان لم تنته عنه ، ففي الآية عشرة أدلّة ، على ما ترى (4).

وروى عن النبيّ عليه السلام انه قال كل شراب ، أسكر ، فهو حرام (5).

وروى عنه عليه السلام انه قال الخمر شر الخبائث ، من شربها لم يقبل اللّه له صلاة أربعين يوما ، فان مات وهي في بطنه ، مات ميتة جاهلية (6).

وروى عنه عليه السلام انه قال لعن اللّه الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وبائعها ، ومشتريها ، وحاملها ، والمحمولة اليه ، وساقيها ، وشاربها ، وأكل ثمنها (7).

فإذا ثبت تحريمها ، فمن شربها ، عليه (8) الحد ، قليلا (9) شرب أو كثيرا بلا خلاف ، فإذا ثبت هذا فان شرب ، ثم شرب فتكرر ذلك منه ، وكثر قبل ان يقام عليه الحد ، حد للكل حدا واحدا ، لأنّ حدود اللّه إذا توالت تداخلت.

فان شرب فحد ، ثم شرب فحد ، ثم شرب فحد (10) ، قتل في الثالثة على الأظهر من أقوال أصحابنا.

وهو الذي يقتضيه أصول المذهب ، وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (11).

ص: 473


1- سورة المائدة ، الآية 91.
2- سورة المائدة ، الآية 91.
3- ج. أأنت.
4- هذه على ما تراها ثمانية أدلّة الّا ان نحسب ذكر الخمر في سياق المحرمات دليلا على حدة فلا تتم أيضا ، أو ان نحسب الرجس على حسب ما فسره بالنجس والحرام والخبيث ثلاثة أدلة.
5- سنن أبي داود باب النهي عن المنكر ، ج 3 ، ص 328 ، ح 3682.
6- المبسوط : ج 8 ، ص 58. ولم نعثر عليه في مصدر آخر.
7- الوسائل ، الباب 34 ، من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 1 - 2 - 4 بتقديم بعض الألفاظ وتأخيرها.
8- ج. فعليه.
9- ج. قليلا كان.
10- ل. ثم شرب قتل في الثالثة.
11- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.

واختياره في مسائل خلافه (1) ومبسوطة (2) انه يقتل في الرابعة.

فأما عند مخالفي أهل البيت عليهم السلام فإنه لا يقتل بل يضرب أبدا.

فأما بيان الأشربة المسكرة وأنواعها ، فالخمر مجمع على تحريمها ، وهو عصير العنب النبيّ (3) الذي اشتدّ وأسكر ، وفي المخالفين من قال إذا أسكر واشتد وأزبد ، فاعتبر أن يزبد.

والأول مذهبنا ، فهذا حرام نجس ، يحد شاربها (4) سكر أو لم يسكر ، بلا خلاف بين المسلمين.

واما ما عداها من الأشربة ، وهو ما عمل من العنب ، فمسه طبخ ، أو من غير العنب ، مسه طبخ أو لم يمسه. وكل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ، وكل هذا عند أهل البيت عليهم السلام خمر حرام نجس يحد شاربه ، سكر أو لم يسكر ، كالخمر سواء ، وسواء عمل من تمر ، أو زبيب ، أو عسل ، أو حنطة ، أو شعير ، أو ذرّة ، فالكل واحد نقيعه ومطبوخه ، هذا عندنا وعند جماعة من المخالفين وفيه خلاف.

فإذا ثبت ان كل مسكر حرام ، فإنها غير معللة عندنا ، بل محرمة بالنص ، لان التعليل للقياس عليه ، وذلك عندنا باطل ، ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن الخليطين (5) والخليطان نبيذ يعمل من لونين ، تمر وزبيب ، أو تمر وبسر ، ونحو هذا ، فكل ما يعمل من شيئين يسمى خليطين ، والنهى عن ذلك نهى كراهة إذا كان حلوا قبل ان يشتد.

واما النبيذ في الأوعية في أي وعاء كان ، إذا كان زمانا لا تظهر الشدة فيه ،

ص: 474


1- الخلاف ، كتاب الأشربة ، مسألة 1.
2- المبسوط ، ج 7 ، كتاب الأشربة ، ص 59.
3- النيئ ، الشي ء الذي لم تمسه النار ولم ينضج.
4- ج. فهذا حرام يجب ان يحد شاربها.
5- سنن أبي داود الباب 8 من كتاب الأشربة ( ج 3 ، ص 333 ، ح 3704 ) ، فيه : « من أبي قتادة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله انه نهى عن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط البسر والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب ».

وقد ذكرنا ما يحتاج إليه في كتاب الأشربة (1) ، فلا وجه لإعادته.

وحد شارب الخمر عندنا ثمانون جلدة.

وحد المفتري سواء كان مسلما أو كافرا حرا كان أو عبدا رجلا كان أو امرأة لا يختلف الحكم فيه ، الا ان المسلم يقام عليه ذلك على كل حال شربه عليها ، والكافر لا يحد الّا بان يظهر شرب ذلك بين المسلمين ، أو يخرج بينهم سكران ، فان استسرّ بذلك فشربه في بيته ، أو كنيسته ، أو بيعته ، لم يجز أن يحد.

والحد يقام على شارب الخمر ، وكل مسكر من الشراب ، قليلا كان ما شرب منه ، أو كثيرا ، لان القليل منه يوجب الحد ، كما يوجبه الكثير ، لا يختلف الحكم في ذلك على ما قدمناه.

ويثبت الحكم فيما ذكرناه بشهادة شاهدين عدلين ، أو بالإقرار بذلك مرتين.

فان شهد أحد الشاهدين بالشرب ، وشهد الآخر بالقي ء ، قبلت شهادتهما ، ووجب بها الحد ، على ما رواه (2) أصحابنا ، واجمعوا عليه.

وكذلك إن شهدا جميعا بأنه قاء خمرا اللّهم الّا ان يدعي من قاءها انّه شربها مكرها عليها غير مختار لذلك ، فيدرأ الحدّ عنه ، لمكان الشّبهة.

فإن قيل كيف يعمل برواية أصحابنا وإجماعهم الذي ذكرتموه.

قلنا يمكن ان يعمل بذلك ، وهو انه لا يدعي الذي قاءها انه شربها مكرها ، وانما خصصنا ما بيناه ، لئلا يتناقض الأدلة ، فإنه قال عليه السلام وروته الأمة ، وأجمعت عليه ، بغير خلاف ادرءوا الحدود بالشبهات (3).

فان ادعى انه أكره على شرب ما قاءه ، يمكن صدقه ، فصار شبهة ، فامّا إذا لم يدع ذلك ، فقد شهد عليه بالشرب ، لأنه إذا قاءها ، فما قاءها الّا بعد ان شربها ، ولم يدع شبهة في شربها ، وهو الإكراه ، فيجب عليه اقامة الحد فصحّ العمل برواية أصحابنا ، وبالرواية الأخرى المجمع عليها ، إذ لا تناقض بينهما على ما حررناه ،

ص: 475


1- في ص 128.
2- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب حد المسكر ، ح 1.
3- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدّمات الحدود .. ح 4.

فليلحظ.

ولا تقبل شهادة على شهادة في شي ء من الحدود.

ولا يجوز أيضا ان يكفل من وجب عليه الحد ، بل ينبغي ان يقام عليه الحد على البدار.

ولا تجوز الشفاعة في إسقاط حد من الحدود ، لا عند الامام ، ولا عند غيره من الحكام النواب عنه.

ويثبت أيضا بإقرار الشارب على نفسه مرتين ، ويجب به الحد ، كما يجب بالبيّنة سواء ، على ما قدمناه.

ومن شرب الخمر مستحلّا لها ، حل دمه ، ووجب على الامام ان يستتيبه ، فان تاب ، قام عليه الحد للشرب (1) ان كان شربه ، ولن لم يتب قتله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

والاولى والأظهر : انه يكون مرتدا ، ويحكم فيه بحكم المرتدين ، لانه قد استحل ما حرمه اللّه تعالى ، ونص عليه في محكم كتابه.

وليس المستحل لما عدا الخمر من المسكرات يحل دمه ، وللإمام ان يعزره ، والحدّ في شربه لا يختلف على ما بيّناه ، لان الخمر مجمع على تحريمه ، منصوص في كتاب اللّه تعالى ، وليس كذلك باقي المسكرات ، لأنّ لها شبها وتأويلات.

وشارب الخمر وسائر الأشربة المسكرة يضرب عريانا على ظهره وكتفيه ، ولا يضرب على وجهه وفرجه على حال.

ولا يجوز أكل طعام فيه شي ء من الخمر ، ولا شي ء من المسكر ، ولا الاصطباغ بشي ء فيه من ذلك ، قليل ولا كثير (3) ، ولا استعمال دواء فيه شي ء منه.

فمن أكل شيئا مما ذكرناه ، أو شرب ، كان عليه ثمانون جلدة ، فإن أكل ذلك أو شرب ، وهو لا يعلم ان فيه خمرا لم يكن عليه شي ء.

ولا ينبغي للمسلم ان يجالس شرّاب (4) شي ء من المسكرات ، ولا ان يجلس على

ص: 476


1- ج. ل. حد الشرب.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.
3- ج. قليل أو كثير. ل. قليلا أو كثيرا.
4- ج. شارب. والشرّاب جمع شارب.

مائدة يشرب عليها شي ء من ذلك ، خمرا كان أو غيره ، وكذلك الحكم في الفقاع ، فمتى فعل ذلك ، كان عليه التأديب ، حسب ما يراه الامام.

ولا يقام الحد على السكران في حال سكره ، بل يمهل حتى يفيق ، ثم يقام عليه الحد.

وشارب الخمر إذا أقيم عليه الحد مرتين ، ثم عاد ثالثة ، وجب عليه القتل فيها.

وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (1).

وذهب في مسائل خلافه : إلى انه لا يقتل إلّا في الرابعة ، أو الخامسة (2).

والأول هو الذي يقتضيه أصول المذهب ، لقولهم عليهم السلام أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة.

ومن باع الخمر أو الشراب المسكر ، أو اشتراه ، كان عليه التأديب ، فان فعل ذلك مستحلا له ، استتيب ، فان تاب والّا وجب عليه ما يجب على المرتدين.

وحكم الفقاع في شربه ، ووجوب الحد على من شربه ، وتأديب من اتجر فيه ، وتعزير من استعمله ، حكم الخمر على السواء ، بما ثبت (3) عن أهل البيت (4) عليهم السلام وإجماعهم عليه.

ومن استحل الميتة ، أو الدم ، أو لحم الخنزير ، ممن هو مولود على فطرة الإسلام ، فقد ارتد بذلك عن الدين ، ووجب عليه القتل بالإجماع.

وكذا ينبغي ان يكون حكم من استحل شرب الخمر من غير استتابة للمولود (5) على فطرة الإسلام.

وما قلناه من استتابته ، فمحمول على غير المولود على فطرة الإسلام ، بل على من كان كافرا ثم أسلم ثم استحل ذلك ، فهذا يستتاب ، فان تاب ، والّا ضربت عنقه ،

ص: 477


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.
2- الخلاف ، كتاب الأشربة ، مسألة 1 وهي تدل على القتل في الرابعة.
3- ج بما ثبت عليهم.
4- الوسائل ، الباب 13 من أبواب حد المسكر والباب 27 - 28 من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح 1 - 2.
5- ج. ل. المولود.

لان المرتد عندنا على ضربين على ما يأتي بيانه فيما بعد ان شاء اللّه تعالى.

ومن تناول شيئا من ذلك محرما له ، كان عليه في الخمر والمسكر الحد ثمانون جلدة ، فإن كان ذلك ميتة ، أو لحم خنزير ، أو دما ، كان عليه التعزير ، فان عاد بعد ذلك (1) عزر وغلظ عقابه ، فان تكرر منه ذلك دفعات وأقلها ثلاث ، قتل ليكون (2) عبرة لغيره.

ومن أكل الربا بعد الحجة عليه في تحريمه عوقب على ذلك حتى يتوب ، فان استحل ذلك وكان مولودا على فطرة الإسلام ، وجب قتله من غير استتابة ، فإن كان قد تقدمه كفر استتيب ، فان تاب ، والا وجب قتله.

والتجارة في السموم القاتلة محظورة ، ووجب على من اتجر في شي ء منها العقاب والتعزير ، فان استمر على ذلك ولم ينته ، وجب عليه القتل.

ويعزر آكل الجري ، والزمار ، والمارماهي ، ومسوخ السمك كلها ، والطحال ، ومسوخ البر ، وسباع الطير ، وغير ذلك مما لا يؤكل لحمه من المحرمات ، فان عاد أدب ثانية ، فان استحل شيئا من ذلك ، وجب عليه القتل.

ومن تاب من شرب الخمر أو غيره من المسكرات التي توجب الحد ، وكذلك الفقاع ، لان حكمه عند أهل البيت عليهم السلام ، حكم الخمر سواء ، على ما ذكرناه ، أو تاب مما يوجب التأديب قبل قيام البيّنة عليه ، سقط عنه الحد ، فان تاب بعد قيام البيّنة عليه ، لم تسقط التوبة الحد ، وأقيم عليه على كل حال.

فان كان أقر على نفسه وتاب بعد الإقرار ، قبل ان يرفع الى الامام أو الحاكم ، درأت التوبة أيضا عنه الحد ، فان كان قد أقر عند الحاكم أو الإمام ، ثم تاب بعد إقراره عندهما ، فإنه يقام الحد عليه ، ولا يجوز إسقاطه ، لأن هذا الحد لا يوجب القتل بل الجلد ، وقد ثبت ، فمن أسقطه يحتاج الى دليل ، وحمله على الإقرار بما يوجب القتل في الرجم قياس لا نقول به ، لانه عندنا باطل.

وقال شيخنا في نهايته : فان كان أقر على نفسه وتاب بعد الإقرار ، جاز للإمام

ص: 478


1- ج. عاد بذلك. ل. عاد الى ذلك.
2- ج. ليكون ذلك.

العفو عنه ، ويجوز له اقامة الحد عليه (1).

الّا انه رجع عن ذلك في مسائل خلافه (2) ومبسوطة (3) ، وقال كل حد لا يوجب القتل وأقر به من جناه ، فلا يجوز للإمام العفو عنه ، ووجب عليه إقامته.

وهذا هو الظاهر من أقوال أصحابنا ، بل ما أظن أحدا خالف فيه ، لان شيخنا رجع عما ذكره في نهايته.

ومن شرب الخمر والمسكر في شهر رمضان ، أو في موضع شريف ، مثل حرم اللّه ، أو حرم رسوله أو المشاهد والمساجد ، أقيم عليه الحد في الشرب ، وأدب بعد ذلك لانتهاكه حرمة اللّه تعالى ، وحرمة أوليائه ، وكذلك من فعل شيئا من ذلك في الأوقات الشريفة.

إذا عزر الإمام أو الحاكم من قبله إنسانا فمات من التعزير ، فلا دية له لا في (4) بيت المال ، ولا على الحاكم ، ولا على عاقلته بحال ، لقوله تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (5) وهذا محسن بتعزيره ، ولا كفارة أيضا عليه ولقول أمير المؤمنين عليه السلام من أقمنا عليه حدا من حدود اللّه ، فمات ، فلا ضمان (6) ، وهذا حد ، وان كان غير معين.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، الذي يقتضيه مذهبنا ، انه يجب الدية في بيت المال (7).

ولا دليل على ما قاله من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وانما ورد ان الدية في بيت المال فيما أخطأت فيه الحكّام ، وهذا ما أخطأ فيه بحال.

إذا أقام الحاكم على شارب الخمر الحد بشاهدين ، فمات فبان انهما فاسقان ، فالضمان على الحاكم ، لان عليه البحث عن حال الشهود ، فإذا لم يفعل فقد فرّط ، فعليه الضمان ، واين يضمن عندنا من بيت المال ، لان هذا من خطأ الحكّام.

ص: 479


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.
2- الخلاف ، لم نجده فيه بل المسألة 13 من كتاب قطّاع الطريق ربما تدل على خلافه فراجع.
3- المبسوط : ج 8 كتاب الحدود ، ص 4.
4- ج. فلا دية له في بيت المال.
5- سورة التوبة ، الآية 91.
6- الوسائل ، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4 ، باختلاف في الألفاظ.
7- المبسوط ، ج 8 كتاب الأشربة ، ص 63.

وقال قوم من المخالفين على عاقلته.

إذا ذكرت عند الحاكم امرأة بسوء ، فأرسل إليها فأجهضت ، اى أسقطت ما في بطنها فزعا منه ، فخرج الجنين ميتا ، فعلى الحاكم الضمان ، لما روى (1) من قصة المجهضة ، واين يكون على ما مضى ، وقلنا ان ما أخطأت فيه الحكّام فعلى بيت المال ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا أن دية الجنين على عاقلة الامام والحاكم ، لان هذا بعينه قتل الخطأ المحض ، وهو ان يكون ، غير عامد في قصده (3) ، فكذلك هذا ، لانه لم يقصد الجنين بفعل ، ولا قصد قتله ، وانما قصد شيئا أخر ، وهي أمّة ، فإذا تقرر ذلك فالدية على عاقلته ، والكفارة في ماله.

والمسألة منصوصة لنا ، قد وردت في أخبارنا ، وفتوى أمير المؤمنين عليه السلام لعمر بن الخطاب ، في قصّة المجهضة ، معلومة شايعة عندنا وعند المخالفين ، قد أوردها شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي رضى اللّه عنه في كتابه الإرشاد ، في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام في امرة عمر بن الخطاب ، بحضور جماعة من الصحابة ، فسألهم عمر عن ذلك ، فاخطأوا وأمير المؤمنين جالس فقال له عمر ، ما عندك في هذا يا أبا الحسن ، فتنصّل من الجواب ، فعزم عليه ، فقال له ان كان القوم قد قاربوك ، فقد غشوك ، وان كانوا ارتاءوا ، فقد قصروا ، الدية ، على عاقلتك ، لان قتل الصبيّ خطأ ، تعلق بك فقال أنت واللّه نصحتني من بينهم ، واللّه لا تبرح حتى تجري الدية على بنى عدي ، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام (4) وانما نظر (5) شيخنا ما ذكره المخالفون ، فقد اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا.

قال شيخنا أبو جعفر في كتاب الأشربة من الجزء السادس من مبسوطة ، الختان

ص: 480


1- الوسائل ، الباب 30 من أبواب موجبات الضمان ، ح 1 ، باختلاف في الألفاظ.
2- المبسوط ، ج 8 ، كتاب الأشربة ، ص 64 ، وكلامه قدس سره فيه يتم على ما مضى.
3- ج. غير عامد في فعله ، غير عامد في قصده.
4- الإرشاد ، قضايا أمير المؤمنين عليه السلام ، ص 98 ، ط سنة 1377.
5- ج. سطر ، ل. ينظر.

فرض عند جماعة في حق الرجال والنّساء ، وقال قوم هو سنّة يأثم بتركها ، وقال بعضهم واجب وليس بفرض ، وعندنا انه واجب في الرجال ، ومكرمة في النّساء ، فإذا ثبت انه واجب ، فالكلام في قدر الواجب منه ، فالواجب في الرجال ان تقطع الجلدة التي تستر الحشفة ، حتى تنكشف الحشفة ، فلا يبقى منها ما كان مستورا ، ويقال لمن لم يختن الأقلف والأغلف والأغرل والارغل والاعرم ، ويقال عذر الرجل فهو معذور وأعذر فهو معذر ، واما المرأة فيقال خفضت فهي مخفوضة والخافضة الخاتنة ، والخفض الختان ، فإذا ثبت هذا فيجب على الإنسان ان يفعله بنفسه قبل (1) بلوغه ان لم يكن قد ختن ، فان لم يفعل امره السلطان به فان فعل ، والّا أجبره على فعله ، وفعله السلطان ، فان فعل ذلك به فمات ، فلا دية له ، سواء كان الزمان معتدلا أو غير معتدل. وكذلك ان قطع في السرقة في شدة حر أو برد ، وكذلك في حد الزنا ، لانه مات من قطع واجب ، وحد واجب ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (2).

وكان مقصوده في إيراده في باب الأشربة ، انه إذا مات من الحد وفعل الواجب به ، لا دية له بحال ، والأغرل والارغل بالغين المعجمة فيهما جميعا ، والراء غير المعجمة فيهما أيضا جميعا ، وهو الأقلف الذي لم يختن ، وهي القلفة والغرلة ، وعذر الإنسان وأعذر بالعين غير المعجمة ، والذال المعجمة المكسورة ، والراء غير المعجمة ، بالثلاثى والرباعي ، كل ذلك إذا ختن ، ومنه العذار ، وهي دعوة الختان ، الدعوة بالفتح الى الطعام ، وبكسر الدال في النسب.

وقال ابن بابويه في رسالته ، ولا بأس ان يصلى في ثوب فيه خمر (3).

قال محمّد بن إدريس ، هذا غير صحيح (4) ، والصلاة غير جائزة فيه حتى يغسل الخمر منه.

وقال أيضا ابن بابويه ، فان خاط خيّاط ثوبك وبل الخيط بريقه وهو شارب خمر ،

ص: 481


1- ج. بعد بلوغه.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الأشربة ، ص 67 ، والعبارة فيه هكذا ، الأغلف والاعذر ، والارغل ، والاغرم.
3- رسالة ابن بابويه.
4- ج. غير واضح.

فان كان يشربها غبّا ، فلا بأس به ، وان كان مدمنا بشربها (1) كل يوم ، فان للفم وضرا ، بالواو المفتوحة ، والضاد المعجمة المفتوحة ، والراء غير المعجمة وهو الدرن والدسم قال الشاعر :

سيغني أبا الهندي عن وطب سالم *** أباريق لم يعلق بها وضر الزبد

فأما الاعرم فإنه بالعين والراء غير المعجمتين.

جميع حدود الجلد بالسوط ، حد الزنا ، وحد القذف ، وحد شارب الخمر.

ولا يقام الحدود في المساجد.

باب الحد في السرقة وما يتعلق بذلك ويلحق به من الاحكام

قال اللّه تعالى « وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » (2) وروى عن ابن مسعود ، انه كان يقرأ - فاقطعوا إيمانهما.

والقدر الذي يقطع به السارق عندنا ربع دينار ، أو ما قيمته ربع دينار ، من ايّ جنس كان ، وجملته متى ما سرق ما قيمته ربع دينار ، فعليه القطع سواء سرق ما هو محرز بنفسه ، كالثياب والأثمان والحبوب اليابسة ونحوها ، أو غير محرز بنفسه ، وهو ما إذا ترك فسد ، كالفواكه الرطبة بعد أخذها من الشجر ، وإحرازها كلها من الثّمار ، والخضراوات كالقثاء والبطيخ ، أو كان من الطبيخ كالهريسة وسائر الطبائخ ، أو كان لحما طريا أو مشويا الباب واحد ، هذا عندنا وعند جماعة.

وقال قوم من المخالفين ، انما يجب القطع فيما كان محرزا بنفسه فأما ما لم يكن محرزا بنفسه وهي الأشياء الرطبة والطبيخ ، فلا قطع عليه بحال.

وكل جنس يتمول في العادة ، فيه القطع ، سواء كان أصله الإباحة أو غير الإباحة ، فما لم يكن على الإباحة ، كالثياب والأثاث ، وما أصله الإباحة من ذلك ، الصيود على اختلافها ، وكذلك الخشب كله الحطب وغيره ، وكذلك الطين وجميع ما يعمل منه (3) ، وكذلك كل ما يستخرج من المعادن ، ووافقنا على هذا القول

ص: 482


1- ج. ل. يشربها.
2- سورة المائدة ، الآية 38.
3- ج. يعمل به.

الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، ما لم يكن أصله الإباحة مثل قولنا ، وما كان أصله الإباحة في دار الإسلام فلا قطع فيه ، وقال لا قطع في الصيود كلها ، والجوارح والخشب جميعه لا قطع فيه ، الّا ما يعمل منه آنية ، كالجفان والقصاع ، والأبواب ، فيكون في معموله القطع الا الساج ، فان فيه القطع معموله أو غير معموله ، لانه ليس من دار الإسلام.

فإذا ثبت ما قلناه ، فلا قطع الّا على من سرق ربع دينار ، أو ما قيمته ربع دينار ، ويكون عاقلا ، كاملا ، ولا يكون والدا من ولده ، ولا عبدا من سيده ، ولا ضيفا من مضيفه ، وان يسرقه من حرز (1) على جهة الاستخفاء ، لأن حقيقة السرقة أخذ الشّي ء على جهة الاستخفاء ، والحرز هو ما يكون مقفلا عليه أو مغلقا ، أو مدفونا ، أو مراعى بعين صاحبه ، أو من يجرى مجرى صاحبه ، على ما يذهب اليه شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ان الحرز ما كان مقفلا ، أو مغلقا أو مدفونا ، دون ما عدا ذلك ، لأنّ الإجماع حاصل على ما قلناه ، ومن اثبت ما عداه حرزا يحتاج الى دليل ، من كتاب ، أو إجماع ، أو سنة مقطوع بها.

وكل موضع ، كان حرزا لشي ء من الأشياء ، فهو حرز لجميع الأشياء.

فإن سرق الإنسان من غير حرز لم يجب عليه القطع ، وان زاد على المقدار المقدم ذكره ، بل يجب عليه (4) التعزير.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : الحرز هو كل موضع لم يكن لغير المتصرف فيه الدخول اليه الّا بإذنه ، أو يكون مقفلا عليه ، أو مدفونا ، فاما المواضع التي يطرقها الناس كلهم وليس يختص بواحد دون غيره ، فليست حرزا ، وذلك مثل الخانات والحمامات والمساجد والأرحية ، وما أشبه ذلك من المواضع ، فان كان الشي ء في

ص: 483


1- ج. حرزه.
2- الخلاف كتاب السرقة ، مسألة 6.
3- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 22 - 24 ، والعبارة متخذة من كلامه في المبسوط وليست بعينه.
4- ج. بل عليه التعزير.

أحد هذه المواضع مدفونا ، أو مقفلا عليه ، فسرقه إنسان ، كان عليه القطع ، لانه بالقفل وبالدفن ، قد أحرزه إلى هاهنا كلامه رضى اللّه عنه (1).

اما حدّه للحرز بما حدّه ، فغير واضح لانه قال - والحرز هو كل موضع لم يكن لغير المتصرف فيه الدخول اليه الّا باذنه - ، وهذا على إطلاقه غير مستقيم لان دار الإنسان إذا لم يكن عليها باب ، أو يكون عليها باب ولم تكن مغلقة ولا مقفلة ، ودخلها إنسان وسرق منها شيئا ، لا قطع عليه بلا خلاف ، ولا خلاف انه ليس لأحد الدخول إليها إلّا بإذن مالكها ، فلو كان الحد الذي قاله مستقيما لقطعنا من سرق (2) في هذه الدار ، لانه ليس لأحد دخولها إلّا بإذن صاحبها فهي حرز على حده رضى اللّه عنه.

فأما باقي ما أورده فصحيح ، لا استدراك عليه فيه.

وقوله والأرحية جمع رحى ، لان بعض الناس يصحفها الارحبة جمع رحبة (3) وهو خطأ محض.

وإذا نقب الإنسان نقبا ، ولم يخرج متاعا ولا مالا ، وان جمعه وكورة وحمله ، لم يجب عليه قطع ، الّا ان يخرجه ، بل وجب تعزيره ، وانما يجب القطع إذا أخرجه من الحرز.

فإذا أخرج المال من الحرز وجب عليه القطع ، الّا ان يكون شريكا في المال الذي سرقه ، أو له حظ في المال الذي سرقه ، بمقدار ما ان طرح من المال المسروق ، كان الباقي أقل من النصاب الذي يجب فيه القطع ، فان كان الباقي قد بلغ المقدار الذي يجب فيه القطع ، كان عليه القطع على كل حال ، الّا ان يدعي الشبهة في ذلك ، وانه حسبه بمقدار حصته ، فيسقط حينئذ أيضا القطع ، لحصول الشبهة هاهنا لانه قال عليه السلام ادرءوا الحدود بالشبهات (4) وهذه شبهة.

وكذلك لو تنازع إنسان وغيره ، وقد خرج بالمتاع من داره ، فقال له سرقت هذا

ص: 484


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.
2- ج. ل. من هذه الدار.
3- ج. الأرحية جمع رحية.
4- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدّمات الحدود .. ح 4.

منى ، فقال له بل أنت أعطيتني إياه ، لما وجب عليه القطع ، للشبهة في ذلك فان شهد عليه شاهدان بأنه فتح بابه ، واخرج المتاع من منزله ، لانه صار حدا متنازعا فيه ، وكل حد متنازع فيه يسقط ، للشبهة في ذلك.

ومن سرق من مال الغنيمة قبل ان يقسّم (1) مقدار ما يصيبه منها ، لم يكن عليه قطع وكان عليه التأديب ، لإقدامه على ما أخذه قبل قسمته.

فان سرق ما يزيد على نصيبه بمقدار ما يجب فيه القطع ، وزائدا عليه ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب القطع عليه ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انه لا قطع عليه بحال إذا ادعى الاشتباه في ذلك ، وانه ظن ان نصيبه يبلغ ما أخذه ، لأن الشّبهة بلا خلاف حاصلة فيما قال وادعى ، ولأن الأصل ان لا قطع ، فمن ادّعاه فقد ادّعى حكما شرعيّا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة ولا إجماع على هذا الموضع.

وأيضا قول الرّسول عليه السلام المجمع عليه - ادرءوا الحدود بالشبهات - وهذه شبهة بلا خلاف ، وقد قلنا انه إذا أخرج المال من الحرز ، فأخذ ، وادعى ان صاحب المال أعطاه إياه ، درئ عنه القطع ، وكان على من ادعى عليه السرقة البيّنة بأنه سارق.

ومتى سرق من ليس بكامل العقل ، بان يكون مجنونا أو صبيّا لم يبلغ ، وان ثقب وفتح وكسر القفل ، لم يكن عليه القطع.

وقد روى انّه ان كان صبيّا عفى عنه أول مرّة ، فإن عاد أدّب ، فإن عاد ثالثة حكّت أصابعه ، حتى تدمى ، فإن عاد رابعة قطعت أنامله ، فإن عاد بعد ذلك ، قطع أسفل من ذلك ، كما يقطع الرجل سواء (3).

ويثبت وجوب القطع بقيام البيّنة على السّارق ، وهي شهادة نفسين عدلين ، يشهدان عليه بالسرقة ، فان لم يقم بيّنة ، وأقر السّارق على نفسه مرتين بالسرقة ، كان عليه أيضا القطع ، اللّهم الا ان يكون عبدا ، فإنه لا يقبل إقراره على نفسه بالسرقة ،

ص: 485


1- ج. ل. بمقدار.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة ، باختلاف يسير مع المتن.
3- الوسائل ، الباب 28 ، من أبواب حد السرقة ، ح 1 - 2 - 4 - 7 - 15 - 16.

ولا بالقتل ، لأن إقراره على نفسه إقرار على مال الغير ليتلفه ، والإنسان لا يقبل إقراره في مال غيره ، فان قامت عليه البيّنة بالسرقة ، قطع كما يقطع الحر سواء.

فاما حكم الذمي فحكم المسلم سواء إذا كان حرا في وجوب القطع عليه ، إذا ثبت انه سارق ، إمّا بالبيّنة أو إقراره.

وحكم المرأة في جميع ذلك حكم الرجل سواء ، في وجوب القطع عليها ، إذا سرقت.

فاما إذا شهد شاهد واحد بالسرقة ، فلا يجب القطع ، بل يجب رد المال إذا حلف الخصم مع شاهده ، لان بالشاهد الواحد ويمين المدعي يثبت المال عندنا ، أو المقصود منه المال.

وهكذا الحكم إذا أقر مرة واحدة.

ويقطع الرجل إذا سرق من مال والديه ، ولا يقطع إذا سرق من مال ولده.

فامّا إذا سرقت الام من مال ولدها ، قطعت على كل حال ، لان الوالد له شبهة في ذلك ، وهي لا شبهة لها بحال ، فهذا الفرق بينهما ممكن مع ورود الشرع به ، والإجماع منعقد عليه.

ويقطع الرجل إذا سرق من مال امرأته ، إذا كانت قد أحرزته دونه ، وكذلك تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها ، إذا كان قد أحرزه دونها.

ولا يقطع العبد إذا سرق من مال مولاه على ما قدمناه.

وإذا سرق عبد الغنيمة من المغنم ، فلا قطع عليه أيضا.

وروى ان الأجير إذا سرق من مال المستأجر ، لم يكن عليه قطع ، وكذلك الضيف إذا سرق من مال مضيفه ، لا يجب عليه قطع ، على ما رواه (1) أصحابنا.

يقال ضفت فلانا إذا ملت اليه ونزلت به ، وأضفته فانا أضيفه ، إذا أملته إليك ، وأنزلته عليك.

ويمكن حمل الرواية في الضيف والأجير على انهما لا قطع عليهما إذا لم يحرزه

ص: 486


1- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب حد السرقة.

صاحبه من دونهما ، وأدخلهما حرزه ، وفتح لهما بابه ، ثم سرقا ، فلا قطع عليهما ، لأنهما دخلا باذنه وسرقا من غير حرز ، فاما ما قد أحرزه دونهما ، فنقباه وسرقاه ، أو فتحاه وسرقاه ، أو كسراه وسرقاه ، فعليهما القطع ، لدخولهما تحت عموم قوله تعالى « وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » (1) وهما إذ ذاك سارقان لغة وشرعا فأعطينا ظاهر الرواية حقها ، فمن أسقط الحد عنهما فيما صوّرناه ، فقد أسقط حدا من حدود اللّه تعالى بغير دليل من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فاما الإجماع على ظاهر الرّواية ، فقد وفينا الظاهر حقه.

فان قيل فأي فرق على تحريركم وقولكم بين الضّيف وغيره.

قلنا غير الضيف لو سرق من الموضع الذي إذا سرقه الضيف الذي لم توجب على الضيف بسرقته القطع ، قطعناه ، لانه غير مأذون له في دخول الحرز الذي دخله ، والضيف مأذون له في دخوله اليه فلا قطع عليه ، فافترق الأمران.

وشيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، قال لا قطع على الضيف ، وأطلق الكلام ، ولم يقيّده وقال في مسائل خلافه مسألة ، إذا سرق الضيف من بيت مقفل أو مغلق ، وجب قطعه ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، لا قطع عليه ، دليلنا الآية والخبر ، ولم يفصّلا ، هذا أخر المسألة (3).

وقال في مبسوطة : فإن نزل برجل ضيف ، فسرق الضّيف شيئا من مال صاحب المنزل ، فان كان من البيت الذي نزل فيه ، فلا قطع ، فان كان من بيت غيره من دون غلق وقفل ونحو ذلك ، فعليه القطع ، وقال قوم لا قطع على هذا الضيف ، وروى (4) أصحابنا انه لا قطع على الضيف ، ولم يفصلوا ، وينبغي ان يفصل مثل الأول ، فإن أضاف هذا الضيف ضيفا آخر بغير اذن صاحب الدار ، فسرق الثاني ، كان عليه القطع على كل حال ، ولم يذكر هذه أحد من الفقهاء ، هذا

ص: 487


1- سورة المائدة ، الآية 38.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.
3- لم نتحقق هذه المسألة في كتاب الخلاف.
4- الوسائل : الباب 14 ، ح 4 - 5 والباب 17 من أبواب حد السرقة ، ح 1.

أخر كلامه (1) رحمه اللّه ونعم ما قال وحقق.

قال محمّد بن إدريس والذي ينبغي تحصيله في هذه المسألة ويجب الاعتماد عليه ، هو ان الضيف لا قطع عليه ، سواء سرق من حرز أو غير حرز ، من غير تفصيل ، لإجماع أصحابنا المنعقد من غير خلاف بينهم ، ولا تفصيل من أحد منهم ، واخبارهم (2) المتواترة العامة ، في ان الضيف لا قطع عليه إذا سرق من مال مضيفه ، فمن خصّصها بأنه إذا سرق من غير حرز يحتاج الى دليل.

وأيضا فلا معنى إذا أراد ذلك ، لإجماعهم ولا لعموم اخبارهم ، لان غير الضيف في ذلك الحكم مثل الضيف سواء ، فلا معنى لقولهم عليهم السلام واستثنائهم وتخصيصهم انه لا قطع على الضيف ، لان غيره ممن ليس بضيف إذا سرق من غير حرز لا قطع عليه.

ولم يذهب الى تفصيل ذلك سوى شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (3) ، ومسائل (4) خلافه ، وهو موافق لباقي أصحابنا في نهايته (5).

فاما الضيفن الذي هو ضيف الضيف ، إذا سرق من حرز في الدار ، فإنه يقطع بخلاف الضيف ، على ما رواه (6) أصحابنا ، واجمعوا عليه ، فبان الفرق بين الأمرين وظهر ، والّا فلا فرق بينهما على ما حكيناه عن شيخنا أبي جعفر فليلحظ ذلك ، ففيه لبس وغموض ، واللّه الموفق للصواب.

فامّا الأجير فإنّه يقطع.

ومن أوجب (7) عليه القطع ، فإنه تقطع يده اليمنى من أصول الأصابع الأربع ، ويترك له الراحة والإبهام.

فإن سرق بعد قطع يده من حرز ، المقدار الذي قدّمنا ذكره ، قطعت رجله

ص: 488


1- المبسوط ، ج 7 ، كتاب السرقة ، ص 33.
2- الوسائل ، الباب 17 ، ح 1 والباب 14 ، من أبواب حد السرقة ، ح 5 - 4.
3- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 33.
4- لم نتحققه في كتاب الخلاف.
5- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.
6- الوسائل ، الباب 17 من أبواب حد السرقة ، ح 1 - 2.
7- ج. وجب.

اليسرى من مفصل المشط ، ما بين قبة القدم واصل الساق ، ويترك بعض القدم الذي هو العقب (1) يعتمد عليها في الصّلاة ، وهذا إجماع أهل البيت عليهم السلام منعقد عليه.

فان اعترض بقوله تعالى « فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ».

قلنا الأصابع تسمى يدا ، لقوله تعالى « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ » (2) ولا خلاف ان الكاتب ما يكتب إلّا بأصابعه ، فقد وفينا الظاهر حقه ، وما زاد عليه يحتاج الى دليل ، لانه مبقى (3) على ما في العقل من حظر ذلك ، لأنه إدخال ضرر وتألم بالحيوان لا يجوز عقلا ولا سمعا الا بدليل قاطع للعذر.

فان سرق بعد ذلك ، خلّد السجن.

فان سرق في الحبس من حرز القدر الذي ذكرناه ، قتل عندنا بلا خلاف.

ومن وجب عليه قطع اليمين وكانت شلاء ، قطعت ولا يقطع يساره.

وكذلك من وجب عليه قطع رجله اليسرى ، وكانت كذلك شلاء ، قطعت ولا تقطع رجله اليمنى بحال ، لان على من نقل القطع من عضو الى عضو الدليل ، والأصل براءة الذمة.

وروى ان من سرق وليس له اليمنى ، فان كانت قطعت في قصاص أو غير ذلك وكانت له اليسرى ، قطعت اليسرى ، فان لم تكن له أيضا اليسرى ، قطعت رجله اليمنى ، فان لم تكن له رجل لم يكن عليه أكثر من الحبس على ما بيّناه ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (4).

وقال رحمه اللّه في المسائل الحلبية ، في المسألة الخامسة ، المقطوع اليدين والرجلين ، إذا سرق ما يوجب القطع ، وجب ان نقول الامام مخير في تأديبه وتعزيره ، ايّ نوع أراد ، فعل ، لانه لا دليل على شي ء بعينه ، وان قلنا يجب ان يحبس أبدا ، لأن القطع لا يمكن هاهنا ولا يمكن غير ما ذكرناه ، وتركه مخالفة (5) إسقاط الحدود ،

ص: 489


1- ل. الكعب.
2- سورة البقرة ، الآية 79.
3- ج. مبتقى ، ل. منفي.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.
5- ج. وإسقاط.

كان قويا ، هذا أخر المسألة (1).

قال محمّد بن إدريس ، الأقوى عندي ان من ذكر حاله ، لا يجوز حبسه أبدا إذا سرق أول دفعة ، بل يجب تعزيره ، لان الحبس هو حد من سرق في الثالثة بعد تقدم دفعتين قد أقيم عليه الحدّ فيهما ، فكيف يفعل به ما يفعل في حد الدفعة الثالثة في حد الدفعة الاولى.

وإذا قطع السارق وجب عليه مع ذلك ردّ السرقة بعينها ، ان كانت العين باقية ، وان كان أهلكها أو استهلكت ، وجب عليه ان يغرمها ، امّا بالمثل ان كان لها مثل ، أو بالقيمة ان لم يكن لها مثل ، فان كان قد تصرّف فيها بما نقص من ثمنها ، وجب عليه أرشها ، فان لم يكن معه شي ء ، كانت في ذمته يتبع بذلك ، إذا أيسر.

ولا يجب القطع ، ولا ردّ السرقة على من أقرّ على نفسه تحت ضرب أو خوف ، وانما يجب ذلك إذا قامت البيّنة ، أو أقرّ مختارا ، فإن أقرّ تحت الضرب بالسرقة ، وردها بعينها ، وجب أيضا القطع على ما روى (2) وذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي يقوى عندي ، انه لا يجب عليه القطع ، لأنا قد بيّنا ان من أقر تحت ضرب ، لا يعتد بإقراره في وجوب القطع ، وانما بيّنة القطع شهادة عدلين ، أو إقرار السارق مرتين مختارا ، وهذا ليس كذلك ، والأصل ان لا قطع ، وإدخال الألم على الحيوان قبيح ، إلّا ما قام عليه دليل.

ومن أقر بالسرقة مختارا ، ثم رجع عن ذلك ، قطع والزم السرقة ، ولم ينفعه رجوعه إذا كان إقراره بذلك مرتين ، فان كان إقراره مرة واحدة ، الزم السرقة ، ولا يجب عليه القطع ، لان المال يثبت بإقراره دفعة واحدة ، والقطع بإقرار مرتين ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا في نهايته : ومن أقر بالسرقة مختارا ، ثم رجع عن ذلك ، الزم السرقة ،

ص: 490


1- لم تتوفّر لدينا هذه المسائل.
2- الوسائل ، الباب 7 من أبواب حد السرقة ، ح 1.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.

وسقط عنه القطع (1).

وهذا غير واضح ، لانه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل مخالف لكتاب اللّه تعالى وتعطيل (2) لحدوده ، ولا يرجع في مثل ذلك الى خبر شاذ ، ان كان قد ورد.

ومن تاب من السرقة قبل قيام البينة عليه ، ثم قامت عليه البيّنة ، سقط عنه القطع ، ووجب عليه رد السرقة ، فإن تاب بعد قيام البيّنة عليه ، لم يجز للحاكم العفو عنه بحال فان كان قد أقر على نفسه مرتين عند الحاكم ، ثم تاب بعد الإقرار ، وجب عليه القطع ، ولم يجز للإمام والحاكم العفو عنه بحال ، لانه تعطيل لحدود اللّه تعالى ، وخلاف لكتابة وأوامره سبحانه.

وحمل ذلك على الإقرار بالزنا الموجب للرجم قياس ، والقياس عندنا باطل ، لا نقول به.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فان كان قد أقرّ على نفسه ، ثم تاب بعد الإقرار ، جاز للإمام العفو عنه ، واقامة الحد عليه ، حسب ما يراه ، أردع في الحال ، فاما ردّ السرقة فإنه يجب عليه على كل حال (3).

وكذا قال في مسائل خلافه (4).

الا انه رجع عن ذلك جميعه في مبسوطة ، فقال إذا ادعى على رجل انه سرق منه نصابا من حرز مثله (5) ، وذكر النصاب ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يعترف أو ينكر ، فان اعترف المدعى عليه بذلك مرتين عندنا ، ثبت إقراره ، وقطع ، وعند قوم لو أقر مرة ثبت وقطع ، ومتى رجع عن اعترافه سقط برجوعه عندهم ، الّا ابن أبي ليلى ، فإنه قال لا يسقط برجوعه ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، وحمله على الزنا قياس لا نقول به ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (6).

ص: 491


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.
2- ج. معطّل.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.
4- الخلاف ، كتاب السرقة ، المسألة 41.
5- ل. مقفّلة.
6- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 40.

وهو الصحيح الذي لا يجوز العدول عنه ، لان فيه الحجة ، وانما شيخنا يورد في نهايته اخبار آحاد إيرادا لا اعتقادا على ما كررنا القول في ذلك ، واعتذرنا له فيما يورده في نهايته ، فإذا حقق النظر تركها وراء ظهره ، وافتى بما تقتضيه الأدلة وأصول المذهب على ما قاله هاهنا ، اعنى مبسوطة.

فان سرق إنسان شيئا من كم غيره ، أو جيبه ، وكانا باطنين ، وجب عليه القطع ، على ما رواه (1) أصحابنا ، فإن كانا ظاهرين ، لم يجب عليه القطع ، وكان عليه التأديب والعقوبة ، بما يردعه عن مواقعة مثله في مستقبل الأوقات.

ومن سرق حيوانا يجوز تملكه ، ويكون قيمته ربع دينار فصاعدا ، وجب عليه القطع ، كما يجب في سائر الأموال على ما قدمناه.

إذا سرق نفسان فصاعدا ربع دينار ، أو ما قيمته ربع دينار ، سواء كان من الأشياء الخفيفة أو الثّقيلة ، لا يجب عليهم القطع على الأظهر من أقوال أصحابنا ، لأنه قد نقص عن مقدار ما يجب فيه القطع في حق كلّ واحد منهم ، فاما ان انفرد كل واحد منهم ببعضه ، لم يجب عليهم القطع بلا خلاف عندنا هاهنا ، لانه قد نقص عن مقدار ما يجب فيه القطع ، وكان عليهم التعزير.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا سرق نفسان فصاعدا ما قيمته ربع دينار ، وجب عليهما القطع (2).

الّا انه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال مسألة إذا نقب ثلاثة ، ودخلوا واخرجوا بأجمعهم ، فبلغ نصيب كل واحد منهم نصابا ، قطعناهم بلا خلاف ، وان كان أقل من نصاب ، فلا قطع ، سواء كانت السرقة ثقيلة أو خفيفة ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ، وقال مالك : ان كانت السرقة ثقيلة فبلغت قيمة نصاب ، قطعناهم كلهم ، وان كانت خفيفة ، ففيه روايتان ، إحديهما كقولنا ، والثانية كقوله في الثقيلة ، وروى أصحابنا ، انه إذا بلغت السرقة نصابا ، وأخرجوها

ص: 492


1- الوسائل ، الباب 13 ، من أبواب حد السرقة ، ح 2.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السرقة.

بأجمعهم ، وجب عليهم القطع ، ولم يفصّلوا ، والأول أحوط ، دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، وأيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع به ، وما ذكروه ليس عليه دليل ، والأصل براءة الذمّة (1).

وهكذا أيضا قوله في مبسوطة ، الّا انه قال بعد ان قال بما قاله في مسائل خلافه ، وقال قوم من أصحابنا ، إذا اشترك جماعة في سرقة نصاب ، قطعوا كلهم (2).

يريد بذلك السيّد المرتضى ، فإنه يذهب في انتصاره (3) الى ما ذهب شيخنا في نهايته.

والأظهر ما اخترناه ، لان هذا حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، والإجماع حاصل منعقد على انه إذا بلغ نصيب كل واحد منهم مقدار ما يجب فيه القطع قطعوا ، وليس كذلك إذا نقص ، فان فيه خلافا ، والأصل براءة الذمّة ، وترك إدخال الألم على الحيوان.

ومن سرق شيئا من الثمار والفواكه ، وهي بعد في الشجر ، لم تؤخذ من أغصانها وأعذاقها ، لم يكن عليه قطع ، بل يؤدّب تأديبا ، ويحل له ما يأكل منها ، ولا يحمله معه على حال على ما قدمناه (4) في كتابنا هذا.

فاما إذا سرق شيئا منها بمقدار ما يجب فيه القطع بعد أخذها من الشجر ، ويكون في حرز ، وجب عليه القطع كما يجب في سائر الأموال.

وإذا تاب السارق ، فليرد السرقة على صاحبها ، فان كان قد مات فليردها على ورثته ، فان لم يكن له وارث ، ولا مولى نعمة ، ولا ضامن جريرة ، فليردها على امام المسلمين ، لأنها مال من أمواله ، وداخلة في ميراث من لا وارث له ، فهو له عليه السلام فإذا فعل ذلك فقد برئت ذمته.

وإذا سرق السارق ولم يقدر عليه ، ثم سرق مرة ثانية ، فأخذ ، وجب عليه القطع

ص: 493


1- الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة 8.
2- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 28 - 29.
3- الانتصار ، كتاب الحدود.
4- في ص 483.

بالسرقة الأخيرة ، ويطالب بالسرقتين معا ، لان حدود اللّه تعالى إذا توالت تداخلت على ما قدمناه (1) ، لأنها مبنية على التخفيف.

وكذلك إذا شهد الشهود على سارق بالسرقة دفعتين ، لم يكن عليه أكثر من قطع اليد ، فان شهدوا عليه قطع رجله بالسرقة الأخيرة ، على ما بيّناه ، هذا عند بعض أصحابنا برواية رويت (2) أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (3) ، وقوّاها في مسائل خلافه (4) ، وضعّفها.

الّا انّه رجع عن ذلك كله في مبسوطة ، فقال إذا تكررت منه السرقة ، فسرق مرارا من واحد أو من جماعة ، ولم يقطع ، فالقطع مرة واحدة ، لأنه حدّ من حدود اللّه ، فإذا ترادفت تداخلت ، كحد الزنا وشرب الخمر ، فإذا ثبت ان القطع واحد ، فان اجتمع المسروق منهم وطالبوه بأجمعهم ، قطعناه وغرم لهم ، وان سبق واحد منهم فطالب بما سرق منه وكان نصابا غرم وقطع ، ثم كل من كان بعده من القوم فطالب بما سرق منه غرمناه ، ولم نقطعه ، لأنا قد قطعناه بالسرقة ، فلا يقطع قبل ان يسرق مرة أخرى ، هذا آخر كلامه في المبسوط (5).

وهو الذي يقوى في نفسي ، واعمل عليه ، لأن الأصل براءة الذمة ، ولقوله تعالى « وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » (6) وقد قطعنا وامتثلنا المأمور به ، وتكراره يحتاج الى دليل ، ولم يسرق بعد قطعنا له دفعة ثانية حتى نقطعه بسرقة الثانية ، فيتكرر المأمور بتكرر سببه ، ولا يلتفت في مثل هذا إلى رواية واخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا.

وشيخنا قال في مسائل خلافه عندها قال المخالف (7) لا يقطع قال : وهذا قوي ، غير ان الرواية ما قلناه (8) ، فجعلها رواية لا دراية.

ص: 494


1- في ص 473.
2- الوسائل ، الباب 9 ، من أبواب حد السرقة ، ح 1.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب حد السرقة.
4- الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة 36.
5- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 38.
6- سورة المائدة ، الآية 38.
7- ج. عند ما قال.
8- الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة 36.

وروى أصحابنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام ، انه قال : لا قطع على من سرق شيئا من المأكول في عام مجاعة (1).

الحقوق على ثلاثة أضرب ، حق لله محض ، وحق للآدمي محض ، وحق لله ويتعلق بحق للآدميّين (2).

فاما حقوق اللّه المحضة ، فكحد الزنا والشرب ، فإنه يقيمه الامام من غير مطالبة آدمي.

واما حقوق الآدميين المحضة المختصة بهم ، فلا يطالب بها الإمام إلا بعد مطالبتهم إياه باستيفائها.

فاما الحق الذي لله ويتعلق به حق الآدمي ، فلا يطالب به أيضا ولا يستوفيه الّا بعد المطالبة من الآدمي ، وهو حدّ السارق ، فمتى لم يرفعه اليه ويطالب بماله ، لا يجوز للحاكم اقامة الحد عليه بالقطع.

فعلى هذا التحرير ، إذا قامت عليه البيّنة بأنه سرق نصابا من حرز لغائب ، وليس للغائب وكيل يطالب بذلك ، لم يقطع حتى يحضر الغائب ويطالب ، فامّا ان قامت عليه البيّنة ، أو أقرّ بأنّه قد زنى بأمة غائب ، فإن الحاكم يقيم الحدّ عليه ، ولا ينتظر مطالبة آدمي لأن الحق لله تعالى محضا.

ولهذا قال شيخنا في مسائل الخلاف مسألة : إذا سرق عينا يجب فيها القطع فلم يقطع حتى ملك السرقة بهبة ، أو شراء ، لم يسقط القطع عنه ، سواء ملكها بعد ان ترافعا الى الحاكم أو قبله ، بل ان ملكها قبل الترافع ، لم يقطع ، لا ان القطع سقط ، لكن لانه لا مطالب له بها ، ولا قطع بغير مطالبة بالسرقة ، فهذا آخر كلامه رحمه اللّه (3) ونعم ما قال :

قد قلنا انه لا قطع الا على من سرق من حرز ، فيحتاج الى شرطين ، السرقة والحرز ، فان سرق من غير حرز فلا قطع وان انتهب من حرز فلا قطع أيضا ، وكذلك

ص: 495


1- الوسائل ، الباب 25 من أبواب حد السرقة.
2- ج. ويتعلق به حق الآدميين.
3- الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة 17.

ان خان في وديعة عنده ، لأن الخائن غير السارق لغة وشرعا ، لأن الخائن من خان إنسانا في وديعته عنده ، والسارق آخذ الشي ء على جهة الاستخفاء من حرزه.

ولا قطع أيضا على الغاصب ، لان الغاصب غير الخائن وغير السارق ، وهو الذي يأخذ الشي ء قهرا وجهرا ، ولا على المختلس لما رواه جابر ، ان النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع (1) الإبل إذا كانت مقطرة ، وكان سائقا لها ، فهي في حرز بشرط المراعاة لها ، بلا خلاف ، وان كان قائدا لها فلا تكون في حرز ، الّا التي زمامها في يده ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، من ان هذا مختلس ولا قطع على المختلس ، ولقوله عليه السلام لما سئل عن حريسة الجبل ، قال ليس في الماشية قطع الا ان يؤديها المراح (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، حريسة الجبل بالجيم لا بالخاء المعجمة ، وقال أبو عبيد (4) ، ليس فيما يسرق من الماشية بالجبل قطع ، حتى يؤديها المراح ، والتفسير الآخران يكون الحريسة هي المحروسة ، فيقول ليس فيما يحرس بالجبل قطع ، لانه ليس بموضع حرز وان حرس ، والإبل لا قطع فيها ، سواء كانت مقطرة أو غير مقطرة ، راعاه بعينه وساقها ، أو غير ذلك ، الا ان تكون في حرز.

ص: 496


1- سنن أبي داود ، الباب 13 ، من كتاب الحدود ، الحديث 1 و 2 و 3 ( الرقم 3 - 4391 ، ج 4 ، ص 138 ) الترمذي ، الباب 18 ، من كتاب الحدود ( ج 4 ، ص 52 ، الرقم 1448 ). النسائي : باب ما لا قطع فيه من كتاب السارق ، ج 1. ص 88 ، 89.
2- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 45 هذا خلاف ما ذكره عنه ، والعبارة هكذا ، وان كان يسوق قطارا من الإبل أو يقودها ويكثر الالتفات إليها فكلها في حرز .. بل هو مذكور في خلافه كتاب السرقة المسألة 7.
3- النسائي ، كتاب قطع السارق ، الثمر يسرق بعد ان يؤديه الجرين ، الحديث 2 ، ج 8 ، ص 86.
4- ج. أبو عبيدة.

وما قاله يقطع إذا ساقها وراعا بلا خلاف ، فهو قول المخالفين.

إذا نقب ثلاثة ، ودخلوا واخرجوا بأجمعهم متاعا ، فبلغ نصيب كل واحد منهم نصابا قطعناهم بلا خلاف ، وان كان أقل من نصاب فلا قطع على ما قدمناه (1).

فإذا ثبت ذلك ونقب الثلاثة وكوروا المتاع ، واخرج واحد منهم دون الباقين ، فالقطع على من اخرج المتاع دون من لم يخرج.

فان نقب اثنان معا ، فدخل أحدهما فأخذ نصابا وأخرجه بيده الى رفيقه ، ولم يخرج هو من الحرز ، أو رمى به من داخل ، فأخذه رفيقه من خارج ، أو اخرج يده الى خارج الحرز والسرقة فيها ، ثم رده (2) الى الحرز فالقطع في هذه المسائل الثلاث على الداخل دون الخارج.

فان نقبا معا ودخل أحدهما فقرّب المتاع الى باب النقب من داخل ، فادخل الخارج يده فأخذه من جوف الحرز ، فعليه القطع دون الداخل.

قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، وقلّده ابن البراج في جواهر فقهه ، إذا نقبا معا ودخل أحدهما فوضع السرقة في بعض النقب ، فأخذها الخارج ، قال قوم لا قطع على واحد منهما ، وقال اخرون عليهما القطع ، لأنهما اشتركا في النقب ، والإخراج معا ، فكانا كالواحد المنفرد بذلك ، بدليل انهما لو نقبا معا ودخلا وأخرجا معا ، كان عليهما الحد كالواحد ، ولأنا لو قلنا ان لا قطع ، كان ذريعة إلى سقوط القطع بالسرقة ، لأنه لا يشاء شيئا (3) إلا شارك غيره فسرقا هكذا ، ولا قطع ، والأول أصح لأن كل واحد منهما لم يخرجه من كمال الحرز ، فهو كما لو وضعه الداخل في بعض النقب ، فاجتاز مجتاز فأخذه من النقب ، فإنه لا قطع على واحد منهما ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب ، الذي يقتضيه أصول مذهبنا أنّ القطع على الآخذ الخارج ، لانه نقب وهتك الحرز واخرج المال منه ، ولقوله

ص: 497


1- ص 492 و 493.
2- ج. ردّها.
3- ل. لا إنسان إلّا شارك.
4- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 26 - 27.

تعالى ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) ، وهذا سارق ، فمن أسقط القطع عنه ، فقد أسقط حدّا من حدود اللّه تعالى بغير دليل بل بالقياس والاستحسان ، وهذا من تخريجات المخالفين وقياساتهم على المجتاز.

وأيضا فلو كنا عاملين بالقياس ما ألزمنا هذا ، لان المجتاز ما هتك حرزا ولا نقب ، فكيف يقاس الناقب عليه.

وأيضا فلا يخلو الداخل من انه اخرج المال من الحرز ، أو لم يخرجه ، فان كان أخرجه فيجب عليه القطع ، ولا أحد يقول بذلك ، فما بقي الّا انه لم يخرجه من الحرز ، وأخرجه الخارج من الحرز الهاتك له ، فيجب عليه القطع ، لانه نقب واخرج المال من الحرز ، ولا ينبغي ان تعطل الحدود بحسن العبارات وتزويقاتها وثقلها وتوريقاتها ، وهو قولهم ما أخرجه من كمال الحرز أيّ شي ء هذه المغلطة (1) ، بل الحق ان يقال أخرجه من الحرز أو من غير الحرز ، لا عبارة عند التحقيق سوى ذلك ، وما لنا حاجة الى المغالطات بعبارات كمال الحرز.

فان نقب إنسان وحده ، ودخل فاخرج ثمن دينار ، ثم عاد من ليلته أو من الليلة الثانية ، فاخرج ثمن دينار ، فكمل النصاب ، فإنه يجب عليه القطع.

ولو قلنا انه لا قطع عليه لكان قويا ، لانه ما اخرج من الحرز في دفعة واحدة ربع دينار ، ولا قطع على من سرق أقل منه.

ودليل الأوّل ان النبيّ عليه السلام قال من سرق ربع دينار فعليه القطع ، ولم يفصل ، وقوله تعالى « وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » وهذا سارق لغة وشرعا ، وبهذا افتى وعليه أعمل.

فإن نقب ودخل الحرز فذبح شاة ، فعليه ما بين قيمتها حية ومذبوحة ، فإن أخرجها بعد الذبح ، فان كانت قيمتها نصابا ، يجب فيه القطع ، فعليه القطع ، وان كانت أقل من نصاب فلا قطع عليه.

فان نقب ودخل الحرز ، وأخذ ثوبا فشقّه ، فعليه ما نقص بالخرق ، فإن أخرجه ،

ص: 498


1- ج. ل. المغالطة.

فإن بلغت قيمته نصابا ، فعليه القطع ، والّا فلا قطع عليه.

إذا سرق ما قيمته نصاب ، فلم يقطع حتى نقصت قيمته لنقصان السوق ، فصارت القيمة أقل من نصاب ، فعليه القطع.

إذا سرق عبدا صغيرا لا يعقل ، انه لا ينبغي ان يقبل الّا من سيّده ، وجب عليه القطع ، فان سرق حرا صغيرا ، فلا قطع عليه من حيث السرقة ، لأن السارق هو من يسرق مالا مملوكا قيمته ربع دينار ، والحر لا قيمة له ، وانما يجب عليه القطع لانه من المفسدين في الأرض ، على ما روى (1) في أخبارنا لا على انه سارق.

إذا سرق ما فيه القطع من المملوكات مع ما لا يجب فيه القطع ، وجب قطعه إذا كان المال قدر ربع دينار عندنا.

ومن سرق من ستارة الكعبة ما قيمته ربع دينار ، وجب قطعه ، دليلنا الآية والخبر الذي رواه أصحابنا ، ان القائم عليه السلام إذا قام قطع أيدي بني شيبة ، وعلق أيديهم على البيت ، ونادى مناديه هؤلاء سراق اللّه (2) ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي (3).

والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، أن الأصل براءة الذمّة ، وليس الستارة في حرز والآية فمخصوصة بلا خلاف ، والخبر ليس فيه ما يقتضي ان القائم عليه السلام يقطعهم على انهم سرقوا ستارة الكعبة ، بل لا يمتنع انهم سرقوا من مال الكعبة الذي هو محرز تحت قفل وغلق ، أو يقطعهم لأمر آخر وسرقة أخرى من مال اللّه تعالى.

وعلى هذا التحرير لا قطع على من سرق بواري المسجد إذا لم تكن محرزة بغلق أو قفل وقد ذهب شيخنا أبو جعفر ، الى ان من سرقها يجب عليه القطع (4).

ص: 499


1- الوسائل ، الباب 20 ، من أبواب حد السرقة ، والباب 28 من أبواب حد الزنا ، ح 1 - 2 ، وفي الوسائل ، ذكر الشيخ ان قطع اليد هنا ليس للسرقة لأنها مخصوصة بما يملك والحرّ لا يصح تملكه ، بل انّما وجب القطع من حيث كان مفسدا في الأرض والامام مخيّر فيه.
2- الوسائل ، الباب 22 ، من أبواب مقدّمات الطواف ، ح 3 - 9 - 13.
3- في المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 33 ، وفي الخلاف كتاب السرقة ، المسألة 22.
4- الخلاف ، كتاب السرقة المسألة 28.

وهذه جميعها تخريجات المخالفين وفروعهم ، وليس لأصحابنا في ذلك نص ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وحقن الدماء.

إذا استعار إنسان بيتا من آخر وجعل متاعه فيه ، ثم ان المعير نقب البيت وسرق المتاع ، وجب قطعه.

إذا اكترى دارا وجعل متاعه فيها ، فنقب المكري وسرق المتاع ، فعليه القطع.

إذا نقب المراح بفتح الميم فحلب من الغنم ما قيمته ربع دينار ، فأخرجه ، وجب قطعه.

إذا سرق شيئا موقوفا مثل دفتر أو ثوب أو ما أشبههما وكان نصابا من حرز ، وجب عليه القطع ، لقوله تعالى « وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » ولان الوقف ينتقل الى ملك الموقوف عليه ، لانه يضمن بالغصب.

وكل عين قطع السارق بها مرة فإنه إذا سرقها مرة ثانية ، قطعناه ، حتى لو تكرر ذلك منه اربع مرات ، قتلناه في الرابعة.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه مسألة إذا قامت عليه البيّنة بأنه سرق نصابا من حرز لغائب ، وليس للغائب وكيل يطالب بذلك ، لم يقطع حتى يحضر الغائب ، وكذلك ان قامت عليه البيّنة بأنه زنى بأمة غائب ، لم يقم عليه الحد حتى يحضر الغائب ، وان أقر بالسرقة أو بالزنا أقيم عليه الحد فيهما (1).

قال محمّد بن إدريس اما قوله رحمه اللّه في القطع ، فصحيح ، لانه لا مطالب له ، وقد قلنا ان القطع لا يجب الا بعد المطالبة من المسروق منه ، وهاهنا لا مطالب له ، فلأجل ذلك لم يقطع لأنّه حق من حقوق الآدميين ، فلا يقام الا بعد مطالبتهم به على ما قدمناه ، فأما إقامة حد الزنا فلا وجه لتركه بحال ، لانه حق لله محض ، الا ان يدعى الزاني بالأمة المذكورة ان مولاها أباحه نكاحها ، فيصير شبهة ، فلا يقام لأجل ذلك ، لا لأجل غيبة سيدها ، بل لقوله عليه السلام ، ادرءوا الحدود بالشبهات (2).

ص: 500


1- الخلاف ، كتاب السرقة ، المسألة 42.
2- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 4.

فأمّا قوله رحمه اللّه فإن أقر بالسرقة أو الزنا أقيم عليه الحد ، فغير مستقيم ولا واضح ، بل نقول في القطع في السرقة لا يقطع ، كما قلناه في إقامة البيّنة ، لأنه لا مطالب له أيضا هاهنا ، فلا فرق في هذا بين البينة والإقرار في انه لا يقام عليه الحدّ الذي هو القطع ، فاما حد الزنا فإنه يقام على كل حال ، لأنه أقر بالزنا ، وما ادعى الإباحة من مولاها ، بخلاف إقامة البينة ثم يدعى الزاني الإباحة ، فتصير شبهة كما قلناه ، فليلحظ ما قاله رحمه اللّه ، وما نبهنا عليه وحررناه ، فإنه واضح للمتأمل المحصل غير المقلد للرجال.

إذا ترك الأحمال والأجمال في مكان واحد ، وانصرف في حاجة ، وكانت في غير حرز هي وكلّ ما معها من متاع وغيره ، فلا قطع فيها ولا في شي ء منها ، لأنها في غير حرز بمجرى العادة ، وما ذكرناه لا يعده أحد حرزا ، لان من ترك إجماله كذلك وماله قيل انه قد ضيّعه.

إذا سرق سارق باب دار رجل ، قلعه وأخذه ، أو هدم من حائطه آجرا فبلغ قيمته نصابا يجب فيه القطع ، قطع ، فان الباب والآجر في الحائط في حرز ، وكذلك من أخذ حلقة الباب ، يقطع ، لان كلّما كان حرزا لغيره فهو في نفسه حرز ، فاما حلقة الباب ، فهي في حرز ، لان الحلقة بتسكين اللام هكذا تحرز ، بان تسمر في الباب على ما جرت به العادة ، فإن قلعها قالع وبلغت نصابا قطع ، على ما قدمناه ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر واختاره في مبسوطة (1) ، ومسائل خلافه (2) ، وهو من تخريجات المخالفين وفروعهم.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا : انه لا قطع على من أخذ ذلك بحال ، لان الحرز عندنا القفل والغلق والدفن ، وليست هذه الأشياء في حرز ، والأصل براءة الذمة ، وقبح إدخال الضرر على بنى آدم ، والإجماع من أصحابنا فغير منعقد عليه ، بل ما ذهب منهم سوى شيخنا أبي جعفر ومن تابعه اليه فحسب ، وما وردت به عن الأئمة عليهم السلام اخبار لا آحاد ولا متواترة ، والعمل يكون تابعا للعلم ، فلا يجوز ان يقطع

ص: 501


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 25.
2- الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة 53.

إلا بدليل قاهر مزيل للعذر.

إذا كان باب الدار مغلقا فكل ما فيها وفي جوانبها في حرز ، فان كان باب الدار مفتوحا وأبواب الخزائن مفتوحة ، فليس شي ء منها في حرز ، فان كان باب الدار مفتوحا وأبواب الخزائن مغلقة ، فما في الخزائن في حرز ، وما في جوف الدار في غير حرز ، هذا كله إذا لم يكن صاحبها فيها ، فان كان صاحبها فيها والأبواب مفتحة ، فليس شي ء في حرز الّا ما يراعيه ببصره ، مثل من كان بين يديه متاع ، كالميزان بين يدي الخبّازين والثياب بين يدي البزّازين فحرز ذلك نظره إليه ، فإن سرق من بين يديه وهو ينظر اليه ففيه القطع ، وان سها أو نام عنه زال الحرز وسقط القطع.

وهكذا الحكم إذا استحفظ إنسان حمّاميّا ثيابه ، فان راعاها الحمامي فهي في حرز ، وان سها عنها أو نام ، فليست في حرز ، فاما إذا لم يستحفظه إياها ولا أودعه ، فليست في حرز ، ولا يجب على الحمامي الضمان لها ولا الغرم بحال ، هذا على ما أورده شيخنا في مبسوطة (1).

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك من ان الحرز القفل والغلق والدفن ، وما عداه لا دليل عليه من كتاب ولا إجماع (2) وليس على من سرق من ذلك شيئا القطع ، سواء راعاه ببصره أو لم يراعه ، نظر اليه أو لم ينظر بين يديه ، كان أولا بين يديه ، الّا ان يكون في حرز ، وهذه كلها تخريجات المخالفين واستحساناتهم.

إذا نقب واحد وحده ودخل الحرز ، وأخذ المتاع ، فرمى به من جوف الحرز الى خارج الحرز ، أو رمى به من فوق الحرز ، أو سدّه (3) في حبل ، ثم خرج عن الحرز ، فجرّه وأخرجه ، أو أدخل خشبة معوجة من خارج الحرز أو سدّه في حبل ، ثم خرج عن الحرز فجرّه وأخرجه ، فعليه القطع في كل هذا ، لأنه أخرجه من الحرز ، بآلة (4).

فإن كان في الحرز ماء (5) يجرى ، فجعله في الماء ، فخرج مع الماء ، فعليه أيضا

ص: 502


1- المبسوط ، ج 8 ، كتاب السرقة ، ص 36 - 37.
2- ج. ولا سنّة ولا إجماع.
3- ج. ل. شدّه ، وكذا فيما بعده.
4- ج. ل. وان كان بآلة.
5- ج. فان كان الحرز ماء يجرى.

القطع ، لانه قد أخرجه بآلة ، كما لو رمى به.

فان كان معه دابة ، فوضع المتاع عليها ، وخرجت به ، فإنه يجب عليه القطع ، سواء ساقها أو قادها أو لم يسقها ، سارت بنفسها أو لم تسر بنفسها.

فاما ان دخل الحرز ، فأخذ جوهرة ، فابتلعها ، ثم خرج وهي في جوفه ، فان لم تخرج منه فعليه ضمانها ، ولا قطع عليه ، لأنه أتلفها في جوف الحرز ، بدليل ان عليه ضمانها ، كما لو كان ذلك طعاما فأكله ، وخرج ، فإنه لا قطع عليه بلا خلاف ، كذلك هاهنا وان خرجت الجوهرة بعد خروجه من جوفه ، قال قوم عليه القطع ، لأنه أخرجها في وعاء ، فهو كما لو جعلها في جراب ، أو جبب ، وقال آخرون لا قطع عليه ، لأنه أخرجها معه مكرها على إخراجها ، غير مختار لذلك ، لانه (1) لو أراد بعد ابتلاعها ان لا يخرجها معه من الحرز ، ما قدر على ذلك ، فهو كالمحمول على إخراجها ذلك الوقت ، بدليل انه ما كان يمكنه تركها ، والخروج دونها ، فهو كما لو نقب واكره على إخراج المتاع ، فإنه لا قطع عليه ، كذلك هاهنا.

واما الذي يقوى في نفسي ، وجوب القطع عليه ، لعموم الآية ، ولانه (2) نقب واخرج النصاب ولم يستهلكه في الحرز ولا خارج الحرز ، وليس كذلك المسألة الأولى ، لأنه إذا لم يخرج منه ، ولا يقدر على إخراجها لا في الحرز ولا خارجه ، فقد صار ضامنا لها ، فهي كالمستهلكة في الحرز ، والمسألة الثانية إذا كان قادرا على إخراجها خارج الحرز بمجرى العادة ، فهي بمنزلة جعله لها في جراب معه أو وعاء وإخراجها فيه ، وقياس ذلك على المأكول (3) ، فإنه باكله قد استهلكه في الحرز ، وأيضا القياس عندنا باطل ، وهذا تخريج المخالفين.

فان نقب ومعه صبي صغير لا تمييز له ، فأمره أن يدخل الحرز ويخرج المتاع ، فقبل ، فالقطع على الآمر ، لأنه كالآلة ، كما لو أدخل خشبة أو شيئا فأخذ به المتاع ، فان عليه القطع.

إذا كان إنسان نائما على متاعه فسرق هو والمتاع معا ، فلا قطع ، لان يد مالكه

ص: 503


1- ج. من انه.
2- ج. وانّه.
3- ل. على المأكول غير جار.

عليه ، وكذلك إذا كان نائما على حمل (1) ، فسرق الجمل وهو عليه ، فان كان النائم على المتاع عبدا فسرقه والمتاع معا ، فعليه القطع ، لان العبد مال وهو لو سرق العبد وحده قطعناه ، فبأن نقطعه هاهنا اولى.

وإذا كان لرجل مال وديعة أو عارية عند إنسان ، فجعلها ذلك الإنسان في حرز ، فجاء (2) أجنبي فهتك الحرز وسرقها ، فعليه القطع ، لان صاحبه قد رضي بهذا المكان حرزا لماله.

إذا كان لإنسان قبل رجل دين ، فنقب صاحب الدين ، وسرق من مال من عليه الدين قدر دينه ، فان كان من عليه الدين مانعا له من ذلك ، فلا قطع عليه ، وان كان باذلا له غير مانع ، فعليه القطع.

فان قامت البيّنة على رجل انه سرق من حرز رجل نصابا ، فقال السارق المال لي وملكي ، وقال صاحب الحرز المال ملكي ، فالقول قول صاحب المنزل والحرز ، لانه قد ثبت أنه أخذه منه ، فإذا حلف فلا قطع على السارق ، لانه صار خصما ، وصار شبهة لوقوع التنازع في المال ، والحد لا يجب مع الشبهة.

وهكذا لو وجد مع امرأة فادعى أنّه زوجها ، فأنكرت وحلفت ، لأحد عليه ، لانه صار متنازعا فيه ، فكان شبهة في سقوط الحد ، فلهذا لم يقطع.

إذا قطعت يد سارق حسمت ، والحسم أن يغلي الزيت حتى إذا قطعت اليد ، جعل موضع القطع في الزيت المغلي ، حتى تنسد أفواه العروق وينحسم خروج الدم ، فالزيت واجرة القاطع من بيت المال ، فان لم يفعل الامام ذلك ، لم يكن عليه شي ء لأن الذي عليه ، اقامة الحد ، لا مداواة المحدود.

إذا وجب الحد على شخص ، فأقامه الإمام أو الحاكم في شدة حرّ أو برد ، فمات المحدود ، فلا دية له بحال ، لان تجنب الإقامة في ذلك الوقت مستحب ، دون ان يكون ممنوعا منه بكل حال على ما قدّمناه (3).

ص: 504


1- ج. ل. حمل فسرق الحمل ، والظاهر صحة الجمل.
2- ج. فجاز.
3- في ص 456.

إذا أمره الإمام بجلد القاذف ثمانين ، فزاد الجلاد سوطا ، فمات المحدود ، فعلى الجلاد الضمان.

وكم يضمن؟ قال قوم نصف الدية ، وهو الذي يقوى عندي ، وقال قوم عليه جزء واحد من واحد وثمانين جزء من الدية لأنها تتقسط على عدد الضرب.

وما اخترناه هو خيرة شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) وهو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأن الدية أو القود على عدد الجناة لا الجنايات.

باب حد المحاربين وهم قطّاع الطريق والنبّاش والمختلس والخناق والمبنّج والمحتال

قال اللّه تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ » (2) ولا خلاف بين الفقهاء ان المراد بهذه الآية قطاع الطريق ، وعندنا كل من شهر السلاح لإخافة النّاس في برّ كان ، أو في بحر ، في العمران والأمصار ، أو في البراري والصحاري ، وعلى كل حال.

فإذا ثبت ذلك فالإمام مخيّر فيه بين أربعة أشياء ، كما قال تعالى ، بين ان يقطع يده ورجله من خلاف ، أو يقتل ، أو يصلّب ، أو ينفي ، هذا بنفس شهرة السّلاح واخافة النّاس.

والنفي عندنا ان ينفيه من الأرض ، وكلّما قصد بلدا نفاه منه ، فان قصد بلد الشرك كاتبهم بان يخرجوه ، فان لم يفعلوا قاتلهم ، فلا يزال يفعل معه كذلك الى ان يتوب ويرجع عما هو عليه.

فاما إذا قتل ، فإنه يتحتم (3) عليه القتل ، سواء قتل مكافئا له ، أو غير مكاف ، أو من يجوز ان يقاد به ، أو لا يجوز ، وسواء عفى عنه ولى المقتول أو لم يعف ، لان قتله

ص: 505


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الأشربة ، ص 65.
2- سورة المائدة ، الآية 33.
3- ج. ينحتم.

يتحتم (1) ، ومثاله ان يقتل الوالد ولده في المحاربة ، أو المسلم الكافر ، أو الحر العبد ، فإنه يقتل بمن قتله على كل حال للآية وكذلك ان عفى ولى المقتول فإنه يقتل للمحاربة ، ويتحتم (2) على ما قلناه ، وليس للإمام نفيه هاهنا دون قتله.

فإن أخذ المال قطع ، سواء أخذ ما يجب فيه قطع السارق أو أقل منه ، من حرز أخذه أو من غير حرز ، فإنه يقطع في القليل والكثير.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : المحارب هو الذي يجرّد السلاح ، ويكون من أهل الريبة ، في مصر كان أو في غير مصر ، في بلاد الشرك كان أو في بلاد الإسلام ، ليلا كان أو نهارا ، فمتى فعل ذلك كان محاربا ، ويجب عليه ان قتل ولم يأخذ المال ان يقتل على كل حال ، وليس لأولياء المقتول العفو عنه ، فإن عفوا عنه وجب على الامام قتله ، لانه محارب ، وان قتل وأخذ المال ، وجب عليه أولا ان يرد المال ، ثم يقطع بالسرقة ، ثم يقتل بعد ذلك ويصلّب ، وان أخذ المال ولم يقتل ولم يجرح ، قطع ثم نفي عن البلد (3) ، وان جرح ولم يأخذ المال ولم يقتل ، وجب ان يقتص منه ، ثم ينفى بعد ذلك من البلد الذي فعل فيه ذلك الى غيره وكذلك إن لم يجرح ولم يأخذ المال ، وجب عليه أن ينفى من البلد الذي فعل فيه ذلك الفعل الى غيره ، ثم يكتب الى أهل ذلك المصر بأنه منفي محارب ، فلا تؤاكلوه ، ولا تشاربوه ، ولا تبايعوه ، ولا تجالسوه ، فان انتقل الى غير ذلك من البلدان كوتب أيضا أهلها بمثل ذلك ، فلا يزال يفعل به ذلك حتى يتوب ، فان قصد بلاد الشرك ، لم يمكّن من الدخول إليها ، وقوتلوا هم على تمكينهم من دخولها (4) هذا آخر كلامه رحمه اللّه (5).

وهو اختياره في مسائل خلافه (6) ، ومبسوطة (7) المبسوط ، ج 8 ، كتاب قطاع الطريق ، ص 48.(8) ، فجعل احكامه على طريق الترتيب على ما حكيناه عنه ، ولم يخيّر الامام والحاكم في أيّ الأحكام المذكورة في الآية ، فعل به بما يختاره.

ص: 506


1- ج. ينحتم.
2- ج. ينحتم.
3- ج. البلدان.
4- ج. على تمكينه من دخولها.
5- النهاية ، كتاب الحدود ، باب حد المحارب.
6- الخلاف ، كتاب قطاع الطريق ، مسألة 3.
7-
8-

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، وأهل الدعارة - بالدال غير المعجمة ، قال الجوهري صاحب كتاب الصحاح ، الدعر بالتحريك الفساد ، والدعر أيضا مصدر قولك دعر العود بالكسر ، يدعر دعرا ، فهو عود دعر اى ردي كثير الدّخان ، ومنه أخذت الدعارة وهي الفسق والخبث ، يقال هو خبيث داعر ، بيّن الدعر والدعارة ، هذا آخر كلام الجوهري ، عدنا الى قول شيخنا المفيد ، قال وأهل الدعارة إذا جردوا السلاح في دار الإسلام ، وأخذوا الأموال ، كان الامام مخيّرا فيهم ان شاء قتلهم بالسيف ، وان شاء صلبهم حتى يموتوا ، وان شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وان شاء نفاهم عن المصر الى غيره ، ووكّل بهم من ينفيهم عنه الى ما سواء ، حتى لا يستقرّ بهم مكان الّا وهم منفون (1) عنه ، مبعدون ، الى ان تظهر منهم التوبة والصلاح ، فان قتلوا النفوس مع إشهارهم السلاح ، وجب قتلهم على كلّ حال بالسيف أو الصّلب ، ولم يتركوا على وجه الأرض أحياء ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (2) وهو الأظهر الأصح ، لأنه يعضده ظاهر التنزيل ، فلا يرجع عن هذا الظاهر باخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، لأن أو حقيقتها في لسان العرب التخيير ، ولأجل ذلك اخترنا في كفارة الصيد التخيير دون الترتيب.

واللصّ حكمه عندنا حكم المحارب ، فإذا دخل على إنسان ، جاز له ان يقاتله ويدفعه عن نفسه ما دام مقبلا عليه ، فان أدّى الدفع الى قتل اللّص ، لم يكن على قاتله شي ء من قود ، ولا دية ، ولا كفارة ، لأنه محسن ، وقد قال تعالى - ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) » (3) فاما إذا أدبر عنه اللصّ ، فلا يجوز له رميه ولا قتله ، لانه ساغ له ذلك لأجل دفعه عنه ، فإذا أدبر فلا يجوز له رميه ولا قتله في حال إدباره ، فإن ضربه في حال إقباله عليه ضربة قطع بها يده ، فأدبر عنه ، ثم ضربه في حال إدباره ضربة أخرى قطع اليد الأخرى منه ، فإنه يجب عليه في اليد الأخيرة (4) المقطوعة القصاص ، أو الاصطلاح على ديتها ، ولا شي ء عليه في قطع اليد الاولى بحال.

ص: 507


1- ج. منفيون.
2- المقنعة ، باب الخلسة ونبش القبور .. والفساد في الأرضين ، ص 805.
3- سورة التوبة ، الآية 91.
4- ج. الأخرى.

وحكم النساء في أحكام المحاربة حكم الرجال في انهن يقتلن ، ويعمل بهن ما يعمل بالرجال ، لعموم قوله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ » الآية بخلاف المرتدة ، فإنها لا تقتل بالردة ، بل تحبس ابدا ، هذا اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي ، في مسائل خلافه (1) ومبسوطة (2) وهذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين ، وهو قول بعضهم ، اختاره رحمه اللّه ، ولم أجد لأصحابنا المصنّفين قولا في قتل النساء في المحاربة.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ان لا يقتلن الا بدليل قاطع ، فاما تمسكه بالآية فضعيف ، لأنها خطاب للذكران دون الإناث ، ومن قال تدخل النساء في خطاب الرجال على طريق التبع ، فذلك مجاز ، والكلام في الحقائق ، والمواضع التي دخلن في خطاب الرّجال فبالإجماع دون غيره ، فليلحظ ذلك.

فأما كيفية صلب المحارب فشيخنا أبو جعفر يذهب في مسائل خلافه ، إلى انه لا يجوز صلبه حيّا بل يقتل ثم يصلب بعد قتله ، ولا ينزل إلى ثلاثة أيام (3).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، يصلب حيّا وينزل من خشبته بعد ثلاثة أيام ، ويغسّل ويكفّن ويحنط ويصلّى عليه ، لانه قتل حدا لا قودا (4).

وشيخنا أبو جعفر الطوسي ، قال في مبسوطة على ما قدمناه (5) قتله قودا (6) ، فكان يلزمه انّه يؤمر أولا بالاغتسال والتكفين ، ثم يصلب ، وهو لا يرى غسله الّا بعد نزوله من خشبته (7).

ص: 508


1- الخلاف ، كتاب قطاع الطريق ، مسألة 15.
2- المبسوط ، كتاب قطاع الطريق ، ص 56.
3- الخلاف ، كتاب قطاع الطريق ، مسألة 5 ، وفي المصدر ، وينزل بعد ثلاثة أيام.
4- المقنعة ، باب الخلسة ونبش القبور ، والعبارة هكذا ، وجب قتلهم على كل حال بالسيف أو الصلب حتى يموتوا وفي باب تلقين المحتضرين .. العبارة هكذا ولا يجوز ترك المصلوب في ظاهر الأرض أكثر من ثلاثة أيام وينزل بعد ذلك من جثّته فتوارى جثّته بالتراب ص 805.
5- في ص 506.
6- المبسوط ، ج 8 ، كتاب قطاع الطريق ، ص 49.
7- كما في المبسوط ، ج 8 ، كتاب قطاع الطريق ، ص 48 ، والعبارة هكذا ، وإذا قتل غسل وكفّن وصلّى عليه كسائر الأموات.

والصّحيح ما ذهب اليه شيخنا المفيد ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنه الذي يقتضيه ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى « أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا » فجعل تعالى الصلب غير القتل ، وخيّر في ذلك بقوله أو ، وهي تقتضي التخيير في لسان العرب على ما قدمناه (1) ، فعلى هذا كان يلزم المخالف لنا ان يصلّبه حيّا ولا يقتله ، بل ينزله حيا أيضا بعد صلبه ، لانه تعالى قد جعل الصلب غير القتل ، وعندنا ان الجميع يقتضي القتل ، الا انه ليس كل قتل صلبا.

وإذا قطع جماعة الطريق ، وأقروا بذلك ، كان حكمهم ما ذكرناه ، فان لم يقروا قامت عليهم بذلك بينة ، وهي شهادة عدلين ، كان الحكم في ذلك مثل ما ذكرناه من الإقرار سواء.

فان شهد قطاع الطريق أو اللصوص بعضهم على بعض لم تقبل شهادتهم ، لأنهم فساق.

وكذلك ان شهد الذين أخذت أموالهم بعضهم لبعض ، لم تقبل شهادتهم ، لأنهم خصوم ، وانما تقبل شهادة غيرهم لهم ، أو يحكم بإقرار اللصوص على أنفسهم.

لا يجب احكام المحارب على الطليع والرد بالنظر لهم ، وانما يجب على من باشر القتل ، أو أخذ المال ، أو جمع بينهما ، أو شهر سلاحه لإخافة الناس.

إذا جرح المحارب جرحا يجب فيه القصاص في حد غير المحاربة ، مثل قطع اليد أو الرجل ، أو قلع العين وغير ذلك ، وجب عليه القصاص بلا خلاف ، ولا يتحتم ، بل للمجروح العفو (2).

وإذا قطع المحارب يد رجل ، وقتله في المحاربة ، قطع ثم قتل ، وهكذا لو وجب عليه القصاص فيما دون النفس ، ثم أخذ المال ، اقتص منه ، وقطع من خلاف ، ويأخذ المال صاحبه.

والمحارب إذا وجب عليه حد من حدود اللّه تعالى لأجل المحاربة ، مثل انحتام القتل ، أو قطع الرجل واليد من خلاف ، والصّلب (3) عند من رتب الاحكام ،

ص: 509


1- في ص 505 - 506.
2- ج. العفو عنه.
3- ل. أو الصلب. والظاهر انه الصحيح.

وعند من لم يرتبها ، ثم تاب قبل القدرة عليه وقبل قيام الحد ، سقط الحد بلا خلاف ، وان تاب بعد القدرة عليه لا يسقط بلا خلاف ، وما يجب عليه من حقوق الآدميين وحدودهم فلا يسقط ، كالقصاص والقذف وضمان الأموال ، وما يجب عليه من حدود اللّه التي لا يختص بالمحاربة ، كحد الزنا والشرب واللواط فإنها تسقط عندنا بالتوبة قبل رفعه الى الحاكم والقدرة عليه.

وكذلك كل من وجب عليه حدّ من حدود اللّه تعالى ، من شرب الخمر ، أو الزنا من غير المحاربين ، ثم تاب قبل قيام البيّنة عليه بذلك ، فإنها بالتوبة تسقط.

إذا اجتمع حد القذف وحد الزنا وحد السرقة ، ووجوب القطع ، قطع اليد والرجل بالمحاربة ، وأخذ المال فيها ، ووجب عليه القود بقتل في غير المحاربة ، فاجتمع حدان عليه وقطعان وقتل ، فإنه يستوفى منه الحدود كلها ، ثم يقتل ، ولا يتداخل بعضها في بعض ، لان الظواهر تقتضي إقامتها كلها ، فمن ادعى تداخلها فعليه الدلالة.

قد قلنا ان احكام المحاربين يتعلّق بالرجال والنّساء سواء ، على ما فصلناه (1) من العقوبات ، لقوله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ » الآية ولم يفرق بين النّساء والرجال ، فوجب حملها على عمومها.

إذا مات قطاع الطريق قبل اقامة الحد عليهم ، لا يصلّبون ، لانه قد فات بالموت ، ولله فيهم المشية.

إذا شهد شاهدان ان هؤلاء قطعوا الطريق علينا وعلى القافلة ، وقاتلونا وأخذوا متاعنا ، لم تقبل هذه الشهادة في حق

أنفسهما ، لأنهما شهدا لأنفسهما ، ولا تقبل شهادة الإنسان لنفسه ، ولا تقبل شهادتهما أيضا للقافلة على ما قدمناه ، لأنهما قد أبانا العداوة والخصومة ، وشهادة العدوّ والخصم لا تقبل على عدوه وخصمه.

وهكذا لو شهدا على رجل فقالا هذا قذفنا وقذف زيدا ، لم تقبل شهادتهما

ص: 510


1- في ص 508. وص 509 الّا انه قال هذا اختيار الشيخ ( رحمه اللّه ) في كتابي الخلاف والمبسوط واعترض عليه شديدا وردّ كلامه فراجع.

لأنفسهما ولا لزيد ، لما مضى.

فان شهدا بأن هؤلاء قطعوا الطريق على هؤلاء وهذا قذف زيدا ، قبلت الشهادة ، لأنهما شهدا بالحق مطلقا على وجه لا ترد به شهادتهما.

وليس للحاكم ان يسأل الشهود هل قطعوا الطّريق عليكم مع هؤلاء أم لا؟

وهل قذفكما هذا مع قذفه زيدا أم لا؟ لان الحاكم لا يبحث عن شي ء مما تشهد به الشهود الا ما يكون مجملا من قولهم مما لا يمكنه الحكم به الّا بعد مساءلتهم عنه ، كشهادتهم ان زيدا قتل عمروا فإنه يجب عليه ان يبحث عن صفة هذا القتل ، هل هو عمد محض أو خطأ محض؟ أو خطأ شبيه العمد؟ لان القتل مجمل ، وهو على ثلاثة أضرب ، فلا يؤمن في حكومته ان يكون القتل بخلاف الجنس الذي يحكم به ، فيخطى على المشهود عليه أو المشهود لهم.

وجملته ان كل شهادة كانت بأمرين فردت في أحدهما هل ترد في الآخر أم لا؟ نظرت ، فان كان الرد لأجل العداوة ، ردّت في الآخر ، وان كان لأجل التهمة فهل ترد في الآخر أم لا؟ قال قوم ترد ، وقال آخرون لا ترد ، وهو الأقوى عندي ، لأن التهمة موجودة في حق نفسه دون حق غيره ، والعداوة في الشهادتين حاصلة ، فبان الفصل بينهما.

فان شهدوا فقالوا هؤلاء عرضوا لنا ، وقطعوا الطريق على غيرنا ، قبلت هذه الشهادة ، لأن العداوة ما ظهرت لهم ، فلهذا سمعت وعمل بها.

والخنّاق يجب عليه القتل ، ويسترجع منه ما أخذ ، فيرد على صاحبه ، فان لم يوجد بعينه اغرم قيمته أو مثله ان كان له مثل ، أو أرش ما لعلّه نقص (1) من ثمنه ، الّا ان يعفو صاحبه عنه.

ومن بنّج غيره أو أسكره بشي ء احتال عليه في شربه أو أكله ، ثم أخذ ماله ، عوقب على فعله ذلك بما يراه الإمام أو الحاكم من قبله ، واسترجع منه ما أخذه ، فان جنى البنج أو الإسكار عليه جناية كان المبنّج ضامنا لما جنياه.

ص: 511


1- ج. أرش ما نقص. ل. أرش ما لعمله نقص.

والمحتال على أموال الناس بالمكر والخديعة وتزوير الكتب ، والرسالات الكاذبة ، والشهادات بالزور ، وغير ذلك من الأكاذيب ، يجب عليه العقوبة والتعزير والتأديب ويغرّم ما أخذ بذلك على الكمال ، وينبغي للحاكم أن يشهره بالعقوبة لكي يرتدع غيره عن فعل مثله في مستقبل الأوقات ، وينهكه ضربا.

والمختلس هو الذي يسلب الشي ء ظاهرا لا قاهرا من الطرقات والشوارع ، من غير شهر لسلاح ولا قهرا ، بل استلابا واختلاسا ، فإنه يجب عليه العقاب المردع ، والضرب الموجع ، ولا قطع عليه ، لانه ليس بسارق ولا قاطع طريق.

ومن نبش قبرا وسلب الميت كفنه ، وأخرجه من القبر ، وكان قيمته ربع دينار ، فإنه يجب عليه القطع ، ويكون المطالب بذلك الورثة ، لأنه على حكم ملكهم ، بدلالة انه لو أكل الميّت سبع ، أو أخذه سيل ، وبقي الكفن فإنه يكون للورثة دون غيرهم ، ويجب عليه مع القطع التأديب المردع.

فان كان قد نبش القبر ولم يأخذ شيئا ، أو أخذ وكان الكفن دون ربع دينار ، فإنه لا قطع عليه ، بل يجب عليه العقوبة المردعة.

فان نبش ثانية ، فإنه يجب عليه القطع إذا أخذ الكفن ، سواء كان قيمته ربع دينار أو أقل من ذلك ، ولا يراعى في مقدار الكفن النصاب إلّا في الدفعة الاولى فحسب ، لقولهم عليهم السلام ، سارق موتاكم كسارق احيائكم (1).

ولا خلاف ان من سرق من حيّ دون ربع دينار عندنا لا يجب عليه القطع ، فان قيل فهذا يلزم في الدفعة الثانية؟

قلنا لمّا تكرر منه الفعل صار مفسدا ساعيا في الأرض فسادا فقطعناه لأجل ذلك ، لا لأجل كونه سارقا ربع دينار ، ولهذا روى (2) أصحابنا انه من سرق حرا صغيرا ، فباعه ، وجب عليه القطع ، قالوا لانه من المفسدين في الأرض ، وأيضا

ص: 512


1- الوسائل ، الباب 19 من أبواب حد السرقة ، ح 4 ، الّا ان لفظ الحديث هكذا ، يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء.
2- الوسائل ، الباب 20 من أبواب حد السرقة والباب 28 من أبواب حد الزنا ، ح 1 - 2 فراجع كلام الشيخ ( قدس سره ) في المقام ص 499. من هذا الكتاب.

فالاخبار مختلفة في ذلك ، فبعضها يوجب عليه القطع مطلقا ، وبعضها يوجب عليه التعزير ، ولا يوجب عليه القطع ، فحملنا ما يوجب القطع منها.

إذا سرق الكفن وأخرجه من القبر ، وكان قيمته ربع دينار قطع لقولهم عليهم السلام ، سارق موتاكم كسارق احيائكم على ما قدمناه ، أو على من يتكرر منه ذلك وكان معتادا لفعل ذلك ، وان لم تبلغ قيمة الكفن ربع دينار ، وان لم يأخذ كفنا أيضا ، على ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر في كتابه الاستبصار (1).

وحملنا منها ما يوجب التعزير والعقوبة ، إذا نبش أوّل مرّة ولم يكن له عادة بذلك ، ولم يكن قيمة الكفن تبلغ ربع دينار ، أو كونه لم (2) يأخذ الكفن ، وقد عمل بجميعها ، وكان لكل منها وجه يقتضيه الأدلة.

وقال شيخنا أبو جعفر في استبصاره ، لما اختلفت عليه الاخبار ، فإنه أورد جملة منها بوجوب القطع ، ثم أورد جملة أخرى بالتعزير فحسب ، فقال فهذه الأخبار الأخيرة كلها تدل على انه انما يقطع النباش إذا كان ذلك له عادة ، فاما إذا لم يكن ذلك عادته نظر ، فان كان نبش وأخذ الكفن ، وجب قطعه ، وان لم يأخذ ، لم يكن عليه أكثر من التعزير ، قال وعلى هذا تحمل الأخبار التي قدمناها ، هذا جملة ما أورده رحمه اللّه في استبصاره متوسطا بين الاخبار (3).

قال محمّد بن إدريس بقي عليه رحمه اللّه انه أسقط جميع الأخبار التي رويت في ان سارق موتاكم كسارق احيائكم ، لأنه رحمه اللّه لم يراع النصاب في شي ء منها في وساطته بينها ، فقد سقطت جملة ، وهذا بخلاف عادته ، وخرم لقاعدته في وساطته بينها.

وقال في نهايته من نبش قبرا وسلب الميت كفنه ، وجب عليه القطع كما يجب على السارق سواء ، فان نبش ولم يأخذ شيئا أدب تغليظ العقوبة ، ولم يكن عليه قطع

ص: 513


1- الاستبصار ، الباب 145 من كتاب الحدود ، ص 245 ، ج 4.
2- ج. ل. أو انّه لم.
3- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 145 من كتاب الحدود ، ص 247.

على حال ، فان تكرر منه الفعل وفات الامام تأديبه ، كان له قتله كي يرتدع غيره عن إيقاع مثله في مستقبل الأوقات ، هذا آخر كلامه في نهايته (1).

وما اخترناه من مراعاة المقدار الذي يجب فيه القطع في أوّل مرّة مذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، فإنه قال ويقطع النباش إذا سرق من الأكفان ما قيمته ربع دينار ، كما يقطع غيره من السراق إذا سرقوا من الإحراز ، وإذا عرف الإنسان بنبش القبور ، وكان قد فات السلطان ثلاث مرات ، كان الحاكم فيه بالخيار إن شاء قتله.

وان شاء قطعه وعاقبه والأمر في ذلك اليه ، يعمل فيه بحسب ما يراه أزجر للعصاة وأردع للجناة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (2).

ونعم ما قال فإنه الذي يقتضيه أصول المذهب ، وتحكم بصحته أعيان الآثار عن الأئمة الأطهار عليه السلام ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، فمن قطعه في غير المتفق عليه يحتاج الى دليل.

وشيخنا أبو جعفر يفوح من فيه استدلاله في مسائل خلافه ، الى اعتبار النصاب ، لانه قال مسألة ، النباش يقطع إذا أخرج الكفن من القبر الى وجه الأرض ، ثم استدل فقال دليلنا قوله ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ ) ، وهذا سارق ، فان قالوا لا نسلّم انه سارق ، قلنا السارق هو من أخذ الشي ء مستخفيا متفزعا (3) ، قال اللّه تعالى « ( إِلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) (4) » وقالت عائشة - سارق موتانا كسارق احيائنا - (5) وقال عليه السلام - القطع في ربع دينار - ولم يفصّل الى هاهنا كلامه رحمه اللّه (6).

الا ترى الى استدلاله بالاية والخبر عنه عليه السلام من قوله القطع في ربع دينار فأستدل بهذا الخبر ، وفيه مقدار النصاب ، واستدل بالاية ، ولا خلاف انه لا يقطع السارق إلّا إذا سرق من حرز ربع دينار ، على ما بيّناه وحرّرناه.

والذي أعتمد عليه بعد (7) هذا كله وافتى به ، ويقوى في نفسي ، قطع النباش

ص: 514


1- النهاية ، كتاب الحدود ، باب حد المحارب.
2- المقنعة ، باب الخلسة ونبش القبور ص 804.
3- ل. متفرغا.
4- سورة الحجر : الآية 18.
5- لم نعثر عليه.
6- الخلاف ، كتاب السرقة ، مسألة 28.
7- ج. ل. فغير.

إذا أخرج الكفن من القبر الى وجه الأرض ، وسلب الميت ، سواء كان قيمة الكفن ربع دينار أو أقل من ذلك ، أو أكثر ، في الدفعة الأولى أو الثانية ، لإجماع أصحابنا وتواتر اخبارهم بوجوب قطع النباش من غير تفصيل ، وفتاويهم وعملهم على ذلك ، وما ورد في بعض الاخبار وأقوال بعض المصنفين بتقييد ، وتفصيل ذلك بالمقدار في الدفعة الاولى ، فمثل ذلك لا يخصّص العموم ، لان تخصيص العموم يكون دليلا قاهرا مثل العموم في الدّلالة.

باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير والتأديب وما يلحق بذلك من الاحكام

قال اللّه تعالى « إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » (1) وروى حذيفة ان النبيّ عليه السلام قال قذف محصنة يحبط عمل مائة سنة (2) ولا خلاف بين الأمة ان القذف محرّم.

فان قذف إنسان مكافئا ، أو أعلى منه ، وجب عليه الجلد ثمانون جلدة ، حرا كان القاذف أو عبدا ، رجلا أو امرأة ، مسلما أو كافرا ، لقوله تعالى « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » (3).

وروى ان النبيّ عليه السلام لما نزل براءة ساحة عائشة ، صعد المنبر وتلا الآيات ، ثم نزل فأمر بجلد الرّجلين والمرأة (4).

فالرجلان حسّان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة مسطح بكسر الميم ، والسين غير المعجمة المسكنة ، والطاء غير المعجمة المفتوحة ، والحاء غير المعجمة ، - والاثاثة - بضم الالف ، والثاءين المنقطة كل واحدة بثلاث نقط ، والمرأة حمية بنت جحش ، بسكون

ص: 515


1- سورة النور ، الآية 23.
2- مستدرك الوسائل ، الباب 1 من أبواب حد القذف ، ح 8 ، باختلاف يسير.
3- سورة النور ، الآية 4.
4- سنن أبي داود ، الباب 35 من كتاب الحدود ، الحديث 1 و 2 ( ج 4 ، ص 162 ، الرقم 4474 و 4475 ).

الميم ، وفتح الحاء غير المعجمة.

فإذا ثبت ان موجب القذف الجلد ، فإنما يجب ذلك بقذف محصنة أو محصن ، لقوله تعالى « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ».

وشرائط الإحصان خمسة أشياء ، ان يكون المقذوف حرا ، بالغا ، عاقلا ، مسلما ، عفيفا عن الزنا ، فإذا وجدت هذه الخصال ، فهو المحصن الذي يجلد قاذفه ، وهذه الشروط معتبرة بالمقذوف لا بالقاذف ، لقوله تعالى - ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) - فوصف المقذوف بالإحصان.

فمتى وجدت الشرائط ، وجب الحد على قاذفه مع مطالبته له.

ومتى اختلت أو واحدة منها فلا حد على قاذفه ، واختلالها بالزنا أو بالوطي الحرام على ما يأتي بيانه ان شاء اللّه.

واما القاذف فلا يعتبر فيه الحصانة ، وانما الاعتبار بان يكون عاقلا ، سواء كان حرا أو عبدا عندنا ، فإن أصحابنا رووا وأجمعوا ان عليه الحدّ كاملا هاهنا ، وفي شرب الخمر والمسكر سواء كان حرا أو عبدا.

فاما الكلام الذي يكون قذفا يوجب الحد الذي هو الثمانون على قائله ، فهو ان يقول يا زاني ، يا لائط ، أو يا منكوحا في دبره ، أو قد زنيت ، أو لطت ، أو نكحت ، أو ما معناه معنى هذا الكلام بأي لغة كانت ، بعد ان يكون القائل عارفا بها وبموضوعها ، وفائدة اللفظة (1) في عرفه وعادته ولغته ، وان لم يكن المقول له عارفا بذلك ، بل الاعتبار بمعرفة القائل فائدة اللفظ ، لا المقول له ، وجب عليه حد القاذف ، وهو ثمانون.

فان قال له شيئا من ذلك ، وكان غير بالغ ، أو المقول له كان غير بالغ ، لم يكن عليه حد القذف ، وروى (2) ان عليه التعزير.

فان قال له شيئا من ذلك ، وهو لا يعلم فائدة تلك اللفظة ولا تلك اللغة ، ولا موضوع

ص: 516


1- ج. ل. اللفظ.
2- لم نتحققها الّا أنّه أوردها الشيخ قدس سره في النهاية ، كتاب الحدود باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

الألفاظ في عادته وعرفه ، لم يكن عليه شي ء ، وكذلك إذا قال لامرأة أنت زانية ، أو قد زنيت ، أو يا زانية ، كان أيضا عليه حد القاذف ثمانون جلدة ، لا يختلف الحكم فيه.

فان قال لكافر أو كافرة ، أو عبد أو أمة شيئا من ذلك ، لم يجب عليه الحد ، ويجب عليه التعزير ، لئلا يوذي أهل الذمة والعبيد.

وإذا قال لغيره يا ابن الزّانية ، أو يا ابن الزاني ، أو قد زنت بك أمك ، أو ولدتك أمّك من الزّنا ، وجب أيضا عليه الحد ، وكان المطالبة في ذلك الى امه ، إلّا في قوله يا ابن الزاني فإن المطالبة في ذلك الى أبيه.

فإن عفت عنه ، جاز عفوها ، لان ذلك من حقوق الآدميين ، ولا يجوز عفو غيرها مع كونها حية وان كانت ميتة ، ولم يكن لها ولى غير المقذوف كان إليه المطالبة والعفو ، فان كان لها وليان أو أكثر من ذلك ، وعفى بعضهم أو أكثرهم كان لمن بقي ممن لم يعف المطالبة واقامة الحد عليه على الكمال ، ولا يسقط منه بقدر حقوقهم وعفوهم شي ء على حال على ما بيّناه في باب الشركة وأوضحناه (1).

ومن كان له العفو ، فعفى في شي ء من الحدود التي تختص بالآدميين ، لم يكن له بعد ذلك المطالبة ولا الرجوع فيه.

فان قال له يا ابن الزاني ، أو زنى بك أبوك ، أو لاط أو ولدك من حرام ، كان عليه الحد لأبيه دون امه ودونه ، لأن أباه المقذوف هاهنا فان كان حيا ، كان له المطالبة والعفو ، وان كان ميتا ، كان لأوليائه الذين هم وراثه سوى الزوج والزوجة حسب ما ذكرناه في الأم سواء.

وشيخنا أبو جعفر قال في نهايته فان قال له ولدت من الزنا ، وجب عليه الحد ، وكان المطالبة في ذلك الى امه (2).

وهذا غير واضح ، لانه محتمل (3) اما ان تكون الأم هي الزّانية ، أو يكون الأب هو الزاني دون الام ، فمع الاحتمال كيف يختص بالأم دون الأب ، ووجه

ص: 517


1- الجزء الثاني ص 398.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.
3- ج. ل. يحتمل.

احتماله انه قد تكون الام غير زانية من هذه الولادة والأب زانيا منها ، بان تكون مكرهة على الزنا غير مطاوعة ، والأب يكون زانيا بان يكرهها على الزنا فيكون هو الزاني دونها ، وقد تكون هي الزانية دون الواطى ، بان لا تعلم ان لها زوجا فتقول لمن يريد نكاحها لا زوج لي ، وانا خلو من الأزواج ، فيتزوّجها فتكون هي زانية ، والواطى غير زان في هذه الولادة.

فإذا ثبت ذلك وتقرر الاحتمال لما قلناه ، كيف يختص الحد بها مع هذا الاحتمال ، بل على ما حررناه يختص بواحد منهما المطالبة بالحد ، بان يقول ولدك أبوك من الحرام ، أو من زنا ، فيكون المطالب بإقامة الحد الأب دون الأم ، فإن قال ولدتك أمك من حرام أو من زنا ، فيكون المطالبة بإقامة الحد عليه الام (1) دون الأب ، فليلحظ ذلك.

فان قال له يا ابن الزانيين أو أبواك زانيان ، أو زنى بك أبواك ، كان عليه حدان ، حد للأب وحد للأم ، فان كانا حيين ، كان لهما المطالبة أو العفو ، وان كانا ميتين ، كان لورثتهما ذلك حسب ما قدمناه.

فان قال له أختك زانية ، أو أخوك زان ، كان عليه الحد لأخته أو لأخيه إذا كانا حيين ، فان كانا ميتين كان لورثتهما وأوليائهما ذلك على ما رتبناه.

وحكم العم والعمة والخال والخالة ، وسائر ذوي الأرحام حكم الأخ والأخت ، في ان الاولى بهم يقوم بمطالبة الحد ، ويكون له العفو على ما بيّناه.

فان قال له ابنك زان ، أو لائط ، أو ابنتك زانية ، أو قد زنت ، كان عليه الحد ، وللمقذوف المطالبة بإقامته عليه ، سواء كان ابنه أو بنته ، حيين أو ميّتين ، وكان إليه أيضا العفو ، الّا ان يسبقه الابن أو البنت الى العفو ، فان سبقا الى ذلك ، كان عفوهما جائزا على ما روى (2) أصحابنا ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

ص: 518


1- ج. للأم.
2- لم نجد الرواية في خصوص المورد ، ولعله مستفاد من موثقة سماعة ، الباب 20 من أبواب حد قذف الوسائل ، الحديث 3.
3- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

والذي يقتضيه المذهب ، انهما ان كانا حيين غير مولى عليهما ، فالحق لهما وهما المطالبان به ، ولا يجوز لأحد العفو عنه دونهما ، ولهما العفو عنه ، لان حد القذف حدّ من حقوق الآدميين يستحقه صاحبه المقذوف به دون غيره ، فليلحظ ذلك.

فان قال لغيره يا زان فأقيم عليه الحدّ ، ثم قال له ثانيا يا زان ، كان عليه حدّ ثان ، فان قال ان الذي قلته لك كان صحيحا ، لم يكن عليه حد ، وكان عليه التعزير ، لانه ما صرح بالقذف في قوله ان الذي قلته لك كان صحيحا.

فان قال له يا زان دفعة بعد اخرى مرات كثيرة ، ولم يقم عليه فيما بينها (1) الحد بشي ء من ذلك ، لم يكن عليه أكثر من حدّ واحد.

ومن أقيم عليه الحد في القذف ثلاث مرّات قتل عند أصحابنا في الرابعة ، أو في الثالثة على ما روى عنهم عليهم السلام ، ان أصحاب الكبائر يقتلون في الثوالث (2) ، وهو الصحيح وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في استبصاره (3).

فإن قذف جماعة رجال أو نساء أو رجالا ونساء نظرت ، فان قذف واحدا بعد واحد كل واحد منهم بكلمة مفردة ، فعليه لكل واحد منهم حد القذف ، سواء جاءوا به متفرقين أو مجتمعين فان قذفهم بكلمة واحدة فقال زنيتم أو أنتم زناة ، فالذي رواه أصحابنا واجمعوا عليه ، انه ان جاءوا به متفرقين ، كان لكل واحد منهم حد كامل وان جاءوا به مجتمعين ، كان عليه حد واحد لجماعتهم فحسب ، ومخالفونا اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا.

ومن قال لغيره من الكفار أو المماليك يا ابن الزاني ، أو يا ابن الزانية ، وكان أبواه مسلمين أو حرين ، كان عليه الحد كاملا لان الحد لمن لو واجهه بالقذف لكان له (4) الحدّ تاما ، ولان الحر أو المسلم المقذوف ، والحد يستحقه المقذوف دون غيره.

وروى (5) ان من قال لمسلم أمك زانية ، أو يا ابن الزانية ، وكانت امه كافرة أو

ص: 519


1- ج. ل. بينهما.
2- الوسائل ، الباب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ، والباب 11 من أبواب حد المسكر.
3- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 123 من كتاب الحدود ، ص 212.
4- ج. لكان الحد له.
5- الوسائل ، الباب 17 من أبواب حد القذف ، ح 6.

امة ، كان عليه الحد تاما لحرمة ولدها المسلم الحر.

والأصل مراعاة التكافؤ للقاذف ، أو علو المقذوف كما قدمناه أوّلا في صدر الباب.

وإذا تقاذف أهل الذمة أو العبيد أو الصبيان بعضهم لبعض ، لم يكن عليهم حد ، وكان عليهم التعزير.

وإذا قال لغيره قد زنيت بفلانة ، وكانت المرأة ممن يجب لها الحد كاملا ، وجب عليه حدان ، حد للرجل ، وحد للمرأة ، مع مطالبتهما جميعا بإقامة الحد عليه.

وكذلك إذا قال لطت بفلان كان عليه حدان ، حد للمواجه ، وحد لمن نسبه إليه.

فإن كانت المرأة أو الذكر غير بالغين ، أو مع كونهما بالغين لم يكونا حرين ، أو لم يكونا مسلمين ، كان عليه الحد تامّا للمواجه ، لأجل قذفه إياه ، ويجب مع ذلك عليه التعزير لنسبته له إلى هؤلاء.

والذي يقتضيه الأدلة ، انه لا يجب على قائل ذلك سوى حد واحد ، وان كان المقول لهما بالغين حرين ، لأنه إذا قال له زنيت بفلانة ، أو لطت بفلان ، فقد قذفه بلا خلاف ، واما المرأة والرجل فليس بقاذف لهما ، لانه قد لا تكون المرأة زانية ، بأن تكون مكرهة على الزنا ، وكذلك الرجل قد لا يكون مختارا ، بل يكون مكرها على اللواط ، فالزنا واللواط متحققان في جهة المقول لهما ، وغير متحقق في جنبة من فعل به ذلك ، فالشبهة حينئذ حاصلة بغير خلاف وبالشبهة لا يحدّ لقوله عليه السلام المجمع عليه ، ادرءوا الحدود بالشبهات (1) وهذا القول الواقع به الفعل من أعظم الشبهات ، فليلحظ ذلك.

وانما أورد شيخنا ذلك في نهايته (2) إيرادا ، لا اعتقادا كما أورد أمثاله.

وإذا قال له زنت زوجتك ، أو يا زوج الزانية ، وجب عليه الحد لزوجته ، وكان

ص: 520


1- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب مقدّمات الحدود والتعزير ، ح 4.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

إليها المطالبة والعفو دون زوجها ، فان كانت ميتة ، كان ذلك لأوليائها دون الزوج ، لأن الأزواج عندنا لا يرثون من الحد شيئا.

وجملة القول وعقد الباب ان حد القذف يورث ، ويرثه من يرث المال ، الرجال والنساء من ذوي الأنساب ، فاما ذوو الأسباب فلا يرثون منه شيئا ، والمراد بذوي الأسباب هاهنا ، الزوج والزوج والزوجة دون من عداهما من ذوي الأسباب ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، فإذا ثبت ذلك فإنهم يستوجبونه ويستحقونه وكلّ واحد منهم حتى لو عفا الكلّ أو ماتوا الّا واحدا ، كان لذلك الواحد ان يستوفيه ، فهو بمنزلة الولاية في النكاح عند المخالف ، هو (1) لكل الأولياء ولكل واحد منهم.

ومن قال لولد الملاعنة يا ابن الزانية ، أو زنت بك أمك ، كان عليه الحد لأمّه كاملا تاما.

فان قال لولد الزنا الذي أقيم على امه الحد بالزنا ، يا ولد الزنا ، أو زنت بك أمك ، لم يكن عليه الحد تاما ، وكان عليه التعزير.

فان قال له يا بن الزانية ، وكانت امه قد تابت وأظهرت التوبة ، كان عليه الحد تاما ، لأنها بعد توبتها صارت محصنة عفيفة.

ويثبت الحد بالقذف بشهادة عدلين ، أو إقرار القاذف على نفسه مرتين بأنه قذف معلوم العين محصنا ، فإذا ثبت ذلك أقيم عليه الحد بعد مطالبة المقذوف أو وارثه بإقامته عليه ، وليس للحاكم اقامة الحد قبل المطالبة ، لأنه من حقوق الآدميين على ما أسلفنا القول فيه وحررناه (2).

ولا يكون الحد فيه كما هو في شرب الخمر والزنا في الشدة ، بل يكون دون ذلك.

ويجلد القاذف من فوق الثياب ، ولا يجرد على حال.

وليس للإمام ان يعفو عن القاذف ، بل ذلك الى المقذوف على ما بيّناه (3) ، سواء كان أقر بالقذف على نفسه ، أو قامت به عليه البينة ، أو تاب القاذف أو

ص: 521


1- ج. هذا. ل. فهو.
2- في ص 517 - 519.
3- في ص 517 - 519.

لم يتب ، فان العفو في جميع هذه الأحوال إلى المقذوف.

وذهب شيخنا أبو جعفر في الجزء الثالث من الإستبصار ، الى انّ المقذوف بعد رفعه القاذف الى الامام وثبوت القذف عليه ، ليس له ان يعفو عنه (1).

والصحيح ان للمقذوف العفو على كل حال ، لان ذلك من حقوق الآدميين ، والى هذا ذهب في نهايته (2) فليلحظ ذلك.

ومن قذف محصنا أو محصنة ، لم تقبل شهادته بعد ذلك الّا ان يتوب ويرجع ويصلح عمله ، ولا تقبل شهادته بمجرد توبته ، الّا بعد إصلاح العمل على ما قلناه في كتاب الشهادات (3) فانا بلغنا فيه الى أبعد الغايات.

فاما كيفية التوبة من القذف ، فان الناس اختلفوا في ذلك ، فالذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول مذهبنا ، ان يقول القذف باطل حرام ، ولا أعود الى ما قلت ، لأنه إذا قال كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز ان يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله لا أعود الى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن قذف محصنا أو محصنة ، لم تقبل شهادته بعد ذلك ، الّا ان يتوب ويرجع ، وحد التوبة والرجوع عما قذف ، هو ان يكذّب نفسه في ملإ من الناس ، في المكان الذي قذف فيه فيما قاله ، فان لم يفعل ذلك لم يجز قبول شهادته بعد ذلك (4).

الّا انه رجع عن ذلك في مبسوطة ، في الجزء السادس في كتاب الشهادات فقال فصل في شهادة القاذف ، إذا قذف الرجل رجلا أو امرأة ، فقال زنيت أو أنت زان ، لم يخل من أحد أمرين ، امّا ان يحقق قذفته (5) ، أولا يحققه ، فان حققه نظرت.

ص: 522


1- الاستبصار ، ج 4 ، الباب 133 ، من كتاب الحدود ، ص 232.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية ..
3- في الجزء الثاني : ص 116.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية ..
5- ج. ل. قذفه.

فان كان المقذوف أجنبيّا حققه بأحد أمرين ، اما ان يقيم البيّنة أنّه زنى ، أو يعترف المقذوف بالزنا ، فان كان المقذوف زوجته ، فإنّه يحقّق قذفه بأحد ثلاثة أشياء البينة ، أو اعترافها ، أو اللعان ، فمتى حقق قذفه ، وجب على المقذوف الحد ، وبان انه لم يكن قاذفا ولأحد عليه ، ولا ترد شهادته ، ولا يفسق.

واما ان لم يحقق قذفه ، فقد تعلق بقذفه ثلاثة أحكام ، وجوب الجلد ورد الشهادة والتفسيق لقوله « ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الى قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » ، فان تاب القاذف ، لم يسقط الجلد بالتوبة ، وزال فسقه بمجرد التوبة بلا خلاف ، وهل تسقط شهادته ابدا فلا تقبل أم لا؟ فعندنا وعند جماعة لا تسقط ، بل تقبل بعد ذلك وعند قوم لا تقبل.

فاما كيفية التوبة ، فجملتها انه إذا قذفه ، تعلق بقذفه ثلاثة أحكام ، الجلد ورد الشهادة والفسق الذي تزول له ولايته على الأطفال والأموال ، وترد به شهادته.

ثم لا يخلو من أحد أمرين : اما ان يحقق قذفه أو لا يحققه ، فان حقق القذف ، امّا بالبيّنة أو باعتراف المقذوف ان كان غير زوجة ، أو بهما ، أو باللّعان ان كانت زوجة ، فمتى حقق القذف فلا جلد عليه ، وهو على العدالة والشهادة ، لأنه صح صدقه ، وثبت صحة قوله ، واما المقذوف فقد ثبت زناه بالبيّنة ، أو اللعان ، أو الاعتراف ، فيقام عليه الحدّ.

فاما ان لم يحققه ، فالحد واجب عليه ، ورد الشهادة قائم ، والفسق بحاله.

والكلام بعد هذا فيما يزيل ذلك عنه ، اما الحد فلا يزول عنه الّا بأحد أمرين استيفاء أو إبراء ، واما الفسق والشهادة فهما متعلقان بالتوبة.

والتوبة ضربان باطنة وحكمية ، فالباطنة توبته فيما بينه وبين اللّه ، وهي تختلف باختلاف المعصية.

وجملته ان المعصية لا تخلو من أحد أمرين ، اما ان يجب بها حق أو لا يجب ، فان لم يجب بها حق مثل ان قبّل أجنبيّة ، أو لمسها بشهوة ، أو وطأها فيما دون الفرج ، فتوبته هاهنا الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، فإذا فعل هذا فقد تاب لقوله تعالى « وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ

ص: 523

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ » (1) فإذا اتى بالاستغفار وترك الإصرار ، صحت توبته وغفر اللّه ذنبه.

فأما ان كانت المعصية مما يجب بها حق ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يكون حقا على البدن أو في مال ، فان كانت في مال كالغصب والسرقة والإتلاف ، فتوبته الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، والخروج من المظلمة بحسب الإمكان ، فإن كان موسرا بها متمكنا من دفعها الى مستحقها ، خرج اليه منها ، فان كانت قائمة ردّها ، وان كانت تالفة رد مثلها ان كان لها مثل ، وقيمتها ان لم يكن لها مثل ، وان كان قادرا غير انه لا يتمكن من المستحق لجهله ، أو كان عارفا غير انه لا يقدر على الخروج اليه منها ، فالتوبة بحسب القدرة وهي العزم على انه متى تمكن من ذلك فعل ، وكذلك إذا منع الزكاة مع القدرة عليها ، فهي كالدين والمظالم ، وقد بيّناه.

هذا إذا كانت المعصية حقا في مال ، فاما ان كانت المعصية حقا على البدن ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان تكون لله أو للآدميين ، فان كان للآدميين فهو القصاص وحد القذف ، فالتوبة الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، والتمكين من الاستيفاء من حد أو قصاص ، كالأموال سواء.

واما ان كان حقا لله كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر ، لم يخل من أحد أمرين امّا ان يكون مشتهرا أو مكتوما ، فان كان مكتوما لا يعلم به الناس ، ولم يشتهر ذلك عليه ، فالتوبة الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، والمستحب له ان يستر على نفسه ، ويكون على الكتمان ، لقوله عليه السلام من اتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر (2) يستر اللّه فانّ من أبدى لنا صفحته ، أقمنا عليه حد اللّه (3) ، وقال صلى اللّه عليه وآله لهزال بن شرجيل ، حين أشار على ماعز بن مالك ان يعترف بالزنا ، هلا

ص: 524


1- سورة آل عمران ، الآية 135 - 136.
2- ج. فليستر يستر اللّه عليه.
3- موطإ مالك ، الباب 2 من كتاب الحدود ، الحديث 1 ( ج 2 ، ص 825 ) وفيه : « من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه فإنّه من يبدى لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه ».

سترته بثوبك يا هزال (1) ، فان خالف وجاء واعترف بذلك ، لم يحرم ذلك عليه ، لما روى ان الغامدية (2) وماعز بن مالك اعترفا عند النبيّ عليه السلام بالزنا ، فلم ينكر ذلك ، بل رجم كل واحد منهما (3).

وامّا ان كان مشتهرا شائعا بين الناس ، فالتوبة الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، وان يأتي الإمام فيعترف به عنده ليقيم عليه الحدود.

والفصل بينهما انه إذا لم يكن مشتهرا كان في ستره فائدة ، وهو ان لا يشتهر به ، ولا يضاف اليه ، وليس كذلك هاهنا ، لأنه إذا كان مشتهرا ظاهرا ، فلا فائدة في ترك إقامته عليه.

وعندي انه لا يجوز له ان يشتهر به ، ولا يعترف ، وان يتوب فيما بينه وبين اللّه ، ويقلع عمّا كان ويتوفر على الاعمال الصّالحات ، لعموم الخبر الذي تقدم.

هذا كلّه في حدود اللّه قبل ان يتقادم عهدها أو يقادم عهدها وقيل لا يسقط بتقادم العهد ، فاما من قال يسقط بتقادم العهد ، فلا يعترف بذلك بحال ، لأنه لأحد عليه ، فمتى اعترف كان اعترافا بغير حق هذا الكلام في التوبة الباطنة.

فاما الكلام في التوبة الحكمية ، وهي التي تقضى له بها بالعدالة ، وقبول الشهادة ، فلا تخلو المعصية من أحد أمرين ، اما ان تكون فعلا أو قولا ، فان كانت فعلا كالزنا والسرقة واللواط والغصب وشرب الخمر ، فالتوبة هاهنا ان يأتي بالضدّ مما كان عليه ، وهو صلاح عمله لقوله تعالى « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ » (4) فإذا ثبت انها صلاح عمله ، فمدته التي تقبل بها شهادته سنة ، ومن الناس من قال يصلح عمله ستة أشهر.

فاما ان كانت المعصية قولا لم يخل من أحد أمرين ، اما ان تكون ردة أو قذفا ، فان كان ردّة فالتوبة الإسلام ، وهو ان يأتي بالشهادتين اشهد ان لا إله إلّا اللّه ، وان

ص: 525


1- سنن أبي داود ، الباب 6 من كتاب الحدود ، الحديث ( الرقم 4377. ج 1. ص 134 ) وفيه : وقال لهزّال : « لو سترته بثوبك كان خيرا لك ».
2- ل. العامرية.
3- راجع الباب 24 و 25 من كتاب حدود سنن أبي داود. ( ج 3. ص 145 .. 152 ).
4- سورة الفرقان ، الآية 70.

محمّدا رسول اللّه ، وأنّه بري ء من كل دين خالف الإسلام ، فإذا فعل هذا فقد صحت توبته ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يعتبر بعد التوبة مدة يصلح فيها عمله ، لأنه إذا فعل هذا فقد اتى بضدّ المعصية.

واما ان كانت المعصية قذفا لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يكون قذف سب ، أو قذف شهادة ، فإن كانت قذف سب ، فالتوبة هي اكذابه نفسه ، لما روى عن النبيّ عليه السلام في قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا » (1) قال النبيّ عليه السلام توبته اكذابه نفسه (2) فإذا تاب قبلت شهادته.

فإذا ثبت ان التوبة اكذابه نفسه ، فاختلفوا في كيفيته ، قال قوم ان يقول القذف باطل حرام ، ولا أعود الى ما قلت ، وقال بعضهم التوبة اكذابه نفسه وحقيقة ذلك ان يقول كذبت فيما قلت ، وروى ذلك في أخبارنا (3) والأوّل أقوى ، لأنه إذا قال كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز ان يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله لا أعود الى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه.

فإذا ثبت صفة التوبة فهل تفتقر عدالته التي تقبل بها شهادته الى صلاح العمل أم لا؟ قال قوم مجرد التوبة يجزيه ، وقال قوم لا بدّ من صلاح العمل ، وهو الأقوى ، لقوله « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا » (4) فمن قال لا يفتقر الى صلاح العمل ، فلا كلام ، ومن قال يفتقر اليه ، فصلاح العمل مدة سنة على ما مضى هذا الكلام في قذف السب.

واما قذف الشهادة فهو ان يشهد بالزنا دون الأربعة ، فإنهم فسقة ، وقال قوم يحدون ، وقال آخرون لا يحدون ، فالتوبة هاهنا ان يقول قد ندمت على ما كان مني ،

ص: 526


1- سورة النور ، الآية 5.
2- تفسير الدرّ المنثور ، في تفسير سورة النور ، ج 5 ، ص 20 ، وفيه : « توبتهم اكذابهم أنفسهم ، فإن كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم ».
3- الوسائل : الباب 36 من أبواب الشهادات ، ح 1 - 4 - 5.
4- سورة النور ، الآية 5.

ولا أعود الى ما اتهم فيه ، لا يقول ولا أعود الى ما قلت ، لأن الذي قاله شهادة ، فيجزيه ان يقول لا أعود الى ما اتهم فيه ، فإذا قال هذا ، زال فسقه ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يراعى صلاح العمل.

والفرق بين هذا وبين قذف السب ، هو ان قذف السب ، ثبت فسقه بالنص ، وهذا بالاجتهاد عندهم ، ويجوز للإمام عندنا ان يقول تب اقبل شهادتك ، فقال بعضهم لا اعرف هذا ، وانما قلنا ذلك ، لان النبيّ عليه السلام أمر بالتوبة (1).

هذا آخر الفصل الذي من كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه أوردته على جهته ، من غير مداخلة مني له بشي ء من الكلام ، فإنه سديد في موضعه إلّا في قوله وحده صلاح العمل لسنة أو ستة أشهر ، فإن هذا مذهب الشافعي ، فأما نحن معشر شيعة أهل البيت عليهم السلام فلا نعتبره بزمان ولا مدة ، بل صلاح عمله ، ولو عرف ذلك منه في ساعة واحدة ، لأن ما خالف ذلك لا دليل عليه.

وقد رجع شيخنا عن ذلك في مسائل خلافه فقال مسألة إذا أكذب نفسه وتاب ، لا تقبل (2) شهادته حتى يظهر منه العمل الصالح ، وهو أحد قولي الشافعي الّا انه اعتبر ذلك سنة ، ولم نعتبره نحن ، لانه لا دليل عليه ، هذا آخر كلامه في مسائل خلافه (3).

فانظر أرشدك اللّه الى قوله في مبسوطة ، وجعل ما ذكره وأورده في نهايته (4) رواية واعتمد على ما اخترناه ، لوضوحه عنده وموافقته الأدلة ، فلا يرجع عن ذلك باخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ومن قذف مكاتبا ضرب بحساب ما عتق منه حدّ الحر ويعزّر بالباقي الذي كان رقا.

ص: 527


1- المبسوط ، ج 8 كتاب الشهادات ، ص 176 - 179.
2- ج. فلا تقبل.
3- الخلاف ، كتاب الشهادات ، مسألة 13.
4- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية .. والعبارة هكذا ، وحد التوبة والرجوع عما قذف هو ان يكذب نفسه في ملإ من الناس في المكان الذي قذف فيه وقال في كتاب الشهادات وحد توبته من القذف ان يكذب نفسه فيما ادعى وكان قذف به .. وكيف كان ليس في كلامه قدس سره في الموردين اعتبار العمل الصالح. فراجع.

وإذا قال الرجل لامرأته يا زانية ، أنا زنيت بك ، كان عليه حد القاذف ، لقذفه ايّاها ، ولم يكن عليه لإضافة الزنا الى نفسه شي ء الّا ان يقر اربع مرات ، فإن أقر أربع مرات ، كان عليه حد الزنا مع ذلك على ما بيّناه ، فان كان إقراره أقل من ذلك ، لم يجب عليه حد الزنا ، ووجب عليه التعزير ، لإضافة الفاحشة إلى نفسه.

وإذا قال الرّجل لولده يا زاني أو قد زنيت ، لم يكن عليه حدّ ، فان قال يا ابن الزانية ولم ينتف منه ، كان عليه الحد لزوجته أم المقذوف ، ان كانت حرة مسلمة حية ، فان كانت ميتة وكان وليها ووارثها أولاده ، لم يكن لهم المطالبة له بالحد ، فان كان لها أولاد من غيره أو وارث سوى أولادها ممن يشارك الأولاد في الميراث ، كان لهم المطالبة بالحد على الكمال ولا يسقط من حيث أن الأولاد ليس لهم أن يطالبوا الأب بحقهم من الحد ، وكذلك لو عفا جميع الورّاث الا واحدا كان له المطالبة بإقامة الحد على الكمال ، على ما حررناه فيما مضى (1) وبيناه.

فان انتفى من ولده ، كان عليه ان يلاعن امه على ما بيّناه في باب اللّعان (2) ، فان انتفى منه بعد ان كان أقرّ به ، وجب عليه الحد ، وكذلك ان قذفها بعد انقضاء اللعان ، كان عليه الحد.

وإذا تقاذف نفسان بما يجب فيه الحد ، سقط عنهما الحد ، وكان عليهما جميعا التعزير ، لئلا يعود الى مثل ذلك ، على ما رواه (3) أصحابنا واجمعوا عليه.

وإذ قال الإنسان لغيره يا قرنان ، أو يا كشحان ، أو يا ديوث ، وكان متكلما باللغة التي تفيد فيها هذه اللفظة رمى الإنسان بزوجة أو أخت ، وكان عالما بمعنى اللفظة ، عارفا بها ، كان عليه الحد ، كما لو صرح بالقذف بالزنا على ما بيّناه ، فان لم يكن عارفا بمعنى اللفظة ، لم يكن عليه حد القاذف ، ثم ينظر في عادته وعرفه في استعماله هذه اللفظة ، فإن كان قبيحا غير انه لا يفيد القذف ، أدّب وعزّر ، وان كان يفيد غير القذف وغير القبح في عرفه وعادته ، لم يكن عليه تعزير.

ص: 528


1- في ص 517.
2- في الجزء الثاني ، ص 702.
3- الوسائل ، الباب 18 من أبواب حد القذف ، ح 1 - 2.

ومن قال لغيره يا فاسق ، أو يا خائن ، أو يا سارق ، أو يا شارب خمر ، أو شيئا من أسباب الفسق ، وهو على ظاهر العدالة ، لم يكن عليه حد القاذف ، وكان عليه التعزير.

وإذا قال له أنت ولد حرام ، فهو كقوله أنت ولد زنا ، وقد قدمنا (1) احكام ذلك فلا وجه لا عادته ، إذ لا فرق بينهما في العرف وعادة الناس وما يريدونه بذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا قال له أنت ولد حرام ، أو حملت بك أمك في حيضها ، لم يكن عليه حدّ الفرية ، وكان عليه التعزير (2).

وما ذهبنا اليه هو الظاهر في الاستعمال ، والمتعارف في هذه اللفظة ، فأما ما ذكره من قوله حملت بك أمك في حيضها ، فلا يجب به حد القذف ، بل فيه التعزير.

وشاهد الزور يجب عليه التعزير بما دون الحد ، وينبغي للسلطان ان يشهره في المصر ، ليعرفه الناس ، فلا يسمع منه قول ، ولا يلتفت إليه في شهادة ، ويحذره المسلمون.

وقول القائل للمسلم أنت خسيس ، أو وضيع ، أو رقيع ، أو نذل ، أو ساقط ، أو بخيل ، أو نجس ، أو كلب ، أو خنزير ، أو حمار ، أو ثور ، أو مسخ ، وما أشبه ذلك ، يوجب التعزير والتأديب ، وليس فيه حد محدود ، فان كان المقول له بذلك مستحقا للاستخفاف ، لضلاله عن الحق ، لم يجب على القائل له تأديب ، وكان باستخفافه به مأجورا.

وقد قلنا ان من قال لغيره يا فاسق وهو على ظاهر الإسلام والعدالة ، وجب عليه التعزير ، فان قال له ذلك وهو على ظاهر الفسق ، فقد صدق عليه ، وأجر في الاستخفاف به والإهانة.

فإن قال له يا كافر وهو على ظاهر الايمان ، ضرب ضربا وجيعا تعزيرا له بخطابه على ما قال ، فان كان المقول له جاحدا لفريضة عامة من فرائض الإسلام ،

ص: 529


1- في ص 517 - 518.
2- النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

فقد أحسن المكفّر له ، وأجر بالشهادة بترك الايمان.

وإذا واجه إنسان غيره بكلام يحتمل السب له ، ويحتمل غيره من المعاني والأغراض ، كان عليه الأدب بذلك ، الّا ان يعفو عنه الإنسان المخاطب ، كما قدمناه.

ومن عيّر إنسانا بشي ء من بلاء اللّه ، وأظهر عنه ما هو مستور من البلايا والأمراض ، وجب عليه بذلك التأديب ، وان كان محقا فيما قال ، لاذاه وإيلامه المسلمين بما يشق عليهم ويؤلمهم من الكلام ، فان كان المعيّر بذلك ضالا كافرا مخالفا لأهل الايمان ، لم يستحق المعيّر له بذلك أدبا ولا عقوبة على كل حال.

وكل شي ء يؤذي المسلمين من الكلام ، دون القذف بالزنا واللواط ، ففيه التعزير على ما يراه سلطان الإسلام ، أو المنصوب من قبل السلطان.

وقد روى ان رجلا قال لآخر أني احتلمت البارحة في منامي بأمك ، فاستعدى عليه الى أمير المؤمنين عليه السلام ، وطلب اقامة الحد عليه ، فقال له أمير المؤمنين ان شئت ضربت لك ظله ، ولكني أحسن أدبه ، لئلا يعود بعدها إلى أذى المسلمين ، ثم أوجعه ضربا على سبيل التعزير (1).

ولم يرد أمير المؤمنين عليه السلام بقوله ان شئت ضربت لك ظله ، ان ضرب الظل واجب ، أو شي ء ينتفع به ، وانما أراد أن الحلم لا يجب به حد وحلم النائم في البطلان ، كضرب الظل الذي لا يصل ألمه إلى الإنسان ، فنبهه عليه السلام على تجاهله بالتماس الحدود على الحلم في المنام ، وضرب له في فهم ما أراد تفهيمه إياه هذا المثال.

وإذا قذف ذمي ذميّا بالزنا واللواط ، وترافعا الى سلطان الإسلام ، أدّب القاذف ، ولم يجلده كحد قاذف أهل الإسلام.

فإن تسابّ أهل الذمة بما سوى القذف بالزنا واللواط بما يوجب فعله الحدود ، ادّبوا على ذلك كما يؤدّب أهل الإسلام ، فإن تسابوا بالكفر والضلال ، أو تنابزوا

ص: 530


1- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب حد القذف ، ح 1 - 2.

بالألقاب ، أو عيّر بعضهم بعضا بالبلايا ، لم يؤدّب أحد منهم على ذلك ، الّا ان يثمر فسادا في البلاد فيدبر أمرهم حينئذ بما يمنع من الفساد.

وإذا قامت البيّنة على إنسان بأنه اغتاب مسلما ، أو نبزه بلقب مكروه ، أدّب على ذلك بما دون الحد.

وإذا تساب الصبيان ، أدبوا على ذلك بما يردعهم من بعد عن السباب ، وقد قدمنا ان القذف بالزنا واللواط يوجب الحد على القاذف بهما بأيّ اللّسان كان به قاذفا ، وبأي لغة قذف وافترى.

وفي التعريض بالقذف دون التصريح به التعزير دون الحد.

وإذا تواضع أهل بلد أو لغة على لفظ يفيد ما أفاده القذف بالزنا واللواط على التصريح ، فاستعمله إنسان منهم ، كان قاذفا وجب عليه الحد تاما به كما يجب على القاذف بالتصريح في اللغة العربيّة واللّسان.

وقلنا (1) إذا قال الإنسان لغيره يا قرنان ، وكان هذا اللّفظ موضوعا بين أهل الوقت أو الناحية على قذف الزوجة بالزنا ، حكم عليه بما يحكم على من قال لصاحبه زوجتك زانية ، وكذلك إذا قال له يا ديوث ، وإذا قال له يا كشحان ، وقصد بذلك على عرفه رمي أخته بالزنا ، كان قاذفا ووجب عليه له ، كما يجب عليه إذا قال له أختك زانية ، فإن تلفظ بهذه الألفاظ من لا يعرف التواضع عليها لما ذكرناه ، وكانت عنده موضوعة لغير ذلك من الأغراض ، لم يكن بها قاذفا ولم يجب عليه بها حد المفتري ، ولكن ينظر في معناها على عادته ، فان كان جميلا حسنا من القول عنده ، لم يكن بذلك عليه تبعة ، وان كان قبيحا لا حقا بالسباب الذي لا يفيد القذف بالزنا واللواط ، عزر عليها وأدب تأديبا يردعه عن العود إلى أذى المسلمين.

وقد قلنا ان شهود الزور يعزرون ويشهرون في مصرهم ، وكيفية ذلك ان ينادى عليهم في محلتهم أو قبيلتهم ، هؤلاء شهود زور ، فاجتنبوهم واحذروهم ، ويغرمون ما شهدوا به ان كان (2) قد أتلفوا بشهادتهم شيئا ، على ما بيّناه في كتاب الشهادات.

ص: 531


1- في ص 528.
2- ج. كانوا.

وإذا قال الرجل لامرأته بعد ما دخل بها لم أجدك عذراء ، قاصدا وهنها ، كان عليه بذلك التعزير.

ومن هجا غيره من أهل الإسلام ، كان عليه بذلك التأديب ، فإن هجا أهل الحرب دون من بيننا وبينهم ذمة ، لم يكن عليه شي ء على حال ، فان حسان بن ثابت امره الرسول عليه السلام بهجاء مشركي قريش وقال عليه السلام انه شر عليهم من النبل (1).

ومن سب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أو واحدا من الأئمة عليهم السلام صار دمه هدرا ، وحلّ لمن سمع ذلك منه قتله ما لم يخف على نفسه الضرر ، أو على غيره من أهل الايمان ، أو ماله ، فان خاف على نفسه أو على أحد من المؤمنين ضررا في الحال ، أو في مستقبل الأوقات ، فلا يجوز له التعرض به على حال.

ومن ادعى انه نبيّ ، حلّ دمه ووجب قتله ، ومن قال لا أدري النبيّ صلى اللّه عليه وآله صادق أم كاذب ، وانا شاك في ذلك ، وجب قتله ، الّا ان يقرّ به هذا في حق من كان على ظاهر الإسلام.

ومن أفطر في شهر رمضان يوما متعمدا ، وجب عليه التعزير والعقوبة المردعة ، فإن أفطر ثلاثة أيام سئل هل عليك في ذلك شي ء أم لا؟ فان قال لا ، وجب قتله ، فان قال نعم زيد في عقوبته بما يرتدع معه عن مثله ، فان لم يرتدع وجب قتله ، وكذلك تارك الصّلاة عن غير عذر ، يعزر في أوّل دفعة وثاني دفعة ، ويقتل في الثالثة ، لقولهم عليهم السلام - أصحاب الكبائر يقتلون في الثوالث - (2).

والمرتد عن الإسلام على ضربين ، مرتد كان ولد على فطرة الإسلام ، فهذا يجب قتله على كل حال من غير ان يستتاب ، ومرتد كان قد أسلم عن كفر ثم ارتد ، يجب ان يستتاب ، فان تاب ، والّا ضربت عنقه.

والمرتدة عن الإسلام لا يجب عليها القتل ، بل ينبغي أن تحبس أبدا ، ويضيّق عليها

ص: 532


1- سنن البيهقي ، ج 10 ص 238 ، نقلا بالمعنى.
2- الوسائل ، الباب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث 1 ، والباب 11 من أبواب حدّ المسكر.

في المأكول والملبوس ، وتضرب في أوقات الصّلوات من ايّ الضربين كانت ، سواء كانت ارتدت عن فطرة الإسلام ، أو عن إسلام تعقبه كفر (1).

وروى ان من تزوج بامة على حرة من غير اذنها ، فرق بينهما ، وكان عليه اثنى عشر سوطا ونصف ، ثمن جلد الزاني (2).

وكيفية ضرب نصف السوط أن يأخذ الجلاد بنصف السوط ، ويضربه بالنصف الباقي في يده.

وروى انّ من اتى امرأته وهي حائض في قبلها ، كان عليه خمسة وعشرون سوطا (3).

ومن وطي امرأته في شهر رمضان نهارا متعمدا ، كان عليه خمسة وعشرون سوطا ، وعلى المرأة أيضا مثل ذلك ان طاوعته على ذلك ، فان كان أكرهها (4) ، كان عليه خمسون جلدة ، وعليه كفارة واحدة ، وعليها أيضا مثل ذلك ان كانت مختارة ، فان كانت مكرهة كان على الرجل كفارتان.

ومن قامت عليه البينة بالسحر ، وكان مسلما وجب عليه القتل ، فان كان كافرا لم يكن عليه الّا التأديب والعقوبة المردعة ، لان ما هو عليه من الكفر أعظم من السحر.

ولا حقيقة للسحر ، وانما هو تخيل وشعبذة ، وعند بعض المخالفين ان له حقيقة ، ولا خلاف بينهم انّ تعليمه وتعلمه وفعله محرم ، لقوله تعالى « وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ » (5) فذم على تعليم السحر.

وروى عن ابن عباس انه قال : ليس منا من سحر أو سحر له ، وليس منا من تكهن أو تكهن له ، وليس منا من تطير أو تطير له (6).

ص: 533


1- ج. عقيب كفر. ل. يعقبه كفر.
2- الوسائل ، كتاب النكاح ، الباب 47 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 2.
3- الوسائل ، الباب 28 من أبواب الحيض ، ح 6 من زيادة وإن أتاها في آخر أيّام حيضها فعليه ان يتصدّق بنصف دينار ويضرب اثنتي عشرة جلدة ونصفا.
4- ج. ل. فإن أكرهها.
5- سورة البقرة ، الآية 102.
6- الدر المنثور ، ذيل قوله تعالى في سورة البقرة « فَلا تَكْفُرْ » ج 1 ص 103.

والرّسول عليه السلام ما سحر (1) عندنا بلا خلاف ، لقوله تعالى « وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ » (2) وعند بعض المخالفين انه سحر ، وذلك بخلاف التنزيل المجيد.

التعريض بالقذف ليس بقذف ، مثل ان تقول لست بزان ، ولا أمي زانية ، وكقوله يا حلال بن الحلال ، ونحو هذا كله ليس بقذف ، سواء كان هذا منه في حال الرضا ، أو في حال الغضب.

والذي يضرب الحدود إذا زاد على المقدار المستحق ، وجب ان يستقاد منه.

والصبي والمملوك إذا أخطأ أدّبا وضرب (3) ضرب أدب ، ولا يزاد على عشرة أسواط ، وروى (4) انه لا يزاد على خمس ضربات الى ستّ. وروى انه ان ضرب إنسان عبده بما هو حدّ ، كان عليه ان يعتقه كفارة لفعله (5) ، وذلك على الاستحباب (6) دون الفرض والإيجاب.

وإذا قذف ذميّ مسلما ، قتل لخروجه عن الذمة بسبّ أهل الايمان.

وقد قلنا ان المعتبر في كنايات القذف عرف القاذف دون المقذوف ، وقد قلنا انه إذا كانت الولاية في القذف لاثنين فما زاد عليهما ، فلكل واحد منهما المطالبة بالحد ، فإن أقيم له سقط حق الباقين ، وان عفى بعضهم سقط حقه ، وكان لمن لم يعف المطالبة بالحد واستيفاؤه والعفو عنه ، فان مات المقذوف وليس له ولى ، فعلى سلطان الإسلام الأخذ بحقّه ، لانه وليه ووارثه.

وتوبة القاذف قبل رفعه الى الحاكم أو بعده ، لا تسقط عنه القذف ، سواء قامت به عليه بيّنة ، أو كان قد أقربه دفعتين عندنا.

ولا يسقط ذلك الا بعفو المقذوف أو وليّه أو وارثه من ذوي الأنساب على ما قدمناه وحررناه (7) والتعزير تأديب تعبدا لله سبحانه به لردع المعزر وغيره من المكلفين ، وهو

ص: 534


1- ج. ما سحر له.
2- سورة المائدة ، الآية 67.
3- ج. ل. أخطأ أدّبا وضربا.
4- الوسائل ، الباب 8 من أبواب بقية الحدود ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 27 ، من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 1.
6- ج. على طريق الاستحباب.
7- في ص 517.

مستحق بكلّ إخلال بواجب ، وإتيان كلّ قبيح لم يرد الشرع بتوظيف الحد عليه ، وحكمه يلزم بالإقرار مرتين ، أو شهادة عدلين ، فمن ذلك ان يخل ببعض الواجبات العقلية ، كرد الوديعة وقضاء الدين ، أو الفرائض الشرعية ، كالصّلاة والزكاة والصوم والحج الى غير ذلك من الواجبات ، والفرائض المبتدأة أو المسبّبة والمشترطة فيلزم سلطان الإسلام أو نائبه تأديبه بما يردعه وغيره عن الإخلال بالواجب ، ويحمله وسواه على فعله ، ومن ذلك أن يفعل بعض القبائح.

وحكم تعريض الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد ، أو لكل منهم بتعريض يخصّه ، ما قدمناه (1) في حكم القذف الصّريح على ما اختاره شيخنا المفيد في مقنعته (2).

والأولى عندي ان يعزر لكلّ واحد منهم فإنه قد ألّمه وحمل ذلك على القذف الصريح في الجماعة بكلمة واحدة ، قياس لا نقول به ، وشيخنا أبو جعفر غير قائل بما قاله شيخنا المفيد في هذه الفتيا.

وإذا قذف الإنسان ولده أو عبده أو أمته عزر.

ويعزر من سرق ما لا يوجب القطع ، لاختلال بعض الشرائط كسرقة العبد من سيده ، والوالد من ولده ، ومن يجب نفقته ممن تجب عليه ، والشريك من شريكه ، وما نقص عن ربع دينار ، إذا سرقه السارق من حرز ، وما بلغ ربع دينار فما فوقه من غير حرز ، أو من حرز مأذون فيه أو منه أو اختلس ، أو أسكر ، أو بنج ، أو مكر ، أو زوّر ، أو طفّف في كيل.

ويعزر من أكل ، أو شرب ، أو باع ، أو ابتاع ، أو تعلّم أو علّم ، أو نظر ، أو سعى ، أو بطش ، أو أصغى ، أو أجر ، أو استأجر ، أو أمر ، أو نهى ، على وجه يقبح ، ومعظم هذا ما قدمناه (3) فيما مضى مجملا ومفصّلا ، وأعدناه ، وزدنا عليه للبيان والإيضاح.

والتعزير لما يناسب القذف من التعريض ، والنبز والتلقيب من ثلاثة أسواط الى

ص: 535


1- في ص 519.
2- المقنعة ، باب الحد في الفرية والسب والتعريض بذلك ص 796 و 797.
3- في ص 478.

تسعة وسبعين سوطا ، وكذلك ما يناسب حد الشرب ، من أكل الأشياء المحرمة وشربها ، ولما يناسب الزنا ، واللواط من وطي البهائم ، والاستمناء بالأيدي ، ووجود الرجل والمرأة لا عصمة بينهما في إزار واحد ، الى غير ذلك من ضم ، أو تقبيل ، أو نظر مكرّر غير مباح ، وكذلك حكم الرّجلين في شعار واحد مجرّدين ، وكذلك حكم المرأتين والرّجل والصبيّ مع الريبة ، على كل حال الى غير ذلك ، من ضم وتقبيل.

ومن افتض بكرا بإصبعه ، ومالك الأمة إذا أكرهها على البغاء ، وما شاكل هذه الأفاعيل ، ممّا يناسب الزنا واللواط من ثلاثة أسواط إلى تسعة وتسعين (1) على ما قدّمناه وحررناه من قبل (2).

والذي يجب تحصيله في ذلك ، ويعتقد صحته ، ان الحاكم يعمل في ذلك ما يرى فيه المصلحة للمكلّفين ، ويعزّر على كل قبيح من فعل قبيح ، أو ترك واجب ما لم يبلغ أعلى الحدود ، وهو حد الزنا الذي هو مائة جلدة ، سواء كان ذلك مما يناسب القذف وأشباهه أو ناسب الزنا وأشباهه ، لأن ذلك موكول الى ما يراه الحاكم صلاحا.

وانما ذكرنا ما فصّلناه أوّلا على ما لوّح به شيخنا في مسائل خلافه (3) ومبسوطة (4) ، وذلك فروع المخالفين وتخريجاتهم ، واحد من أصحابنا ما تعرض لذلك بتفصيل.

والذي أعمل عليه وافتى به ، ان التعزير إذا كان للأحرار ، فلا يبلغ به أدنى حدودهم ، وهو (5) تسعة وسبعون ، وان كان في حق العبيد ، خمسون الّا واحدا لان حده في الزنا على النصف من حد الحرّ فليلحظ ذلك.

ص: 536


1- ج. تسعين سوطا.
2- في ص 466.
3- الخلاف ، لا يوجد فيه ما نسبه اليه بل في كتاب الأشربة مسألة 13 يقول هكذا ، التعزير الى الامام بلا خلاف إلخ فراجع.
4- المبسوط ولا يوجد أيضا فيه ما نسبه اليه بل قوله في ج 8 ، كتاب الأشربة المسكرة ص 69 هكذا ، والتعزير موكول الى الامام لا يجب عليه ذلك إلخ فراجع.
5- ج. وهي.

فصل في تنفيذ الاحكام وما يتعلق بذلك ممن له اقامة الحدود والآداب

المقصود في الأحكام المتعبد بها ، تنفيذها ، وصحة التنفيذ يفتقر إلى معرفة من يصح حكمه ، ويمضى تنفيذه ، فإذا ثبت ذلك فتنفيذ الأحكام الشرعية ، والحكم بمقتضى التعبد فيها (1) من فروض الأئمة عليهم السلام المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوا لذلك ، فان تعذر تنفيذها بهم عليهم السلام وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب ، لم يجز لغير شيعتهم المنصوبين لذلك من قبلهم عليهم السلام تولى ذلك ، ولا التحاكم اليه ، ولا التوصّل بحكمه إلى الحقّ ، ولا تقليد الحكم مع الاختيار ، ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الامام عليه السلام في الحكم من شيعته ، وهي العلم بالحق في الحكم المردود اليه ، والتمكن من إمضائه على وجهه ، واجتماع العقل والرأي ، والحزم (2) ، والتحصيل ، وسعة الحلم ، والبصيرة بالوضع ، والتواتر بالفتيا ، والقيام بها ، وظهور العدالة والتدين بالحكم ، والقوة على القيام به ، ووضعه مواضعه.

ومنعنا عن صحة الحكم لغير أهل الحق ، لضلالهم عنه ، وتعذر العلم عليهم بشي ء منه لأجله ، وتدينهم بالباطل ، وتنفيذه ، وفقد الاذن من ولى الحكم بالحق فيما يحكمون به منه ، وذلك مقتض لاختلال معظم الشروط فيهم ، ولبعض ذلك حرّم على من لم يتكامل شروط الحكم فيه من أوليائهم ، النيابة في تنفيذ بعض الاحكام ، وتقليده ذلك ، والتحاكم اليه.

واعتبرنا العلم بالحكم ، لما بيناه من وقوف صحة الحكم على العلم ، لكون الحاكم مخبرا بالحكم عن اللّه تعالى ، ونائبا في إلزامه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وقبح الأمرين من دون العلم.

واعتبرنا التمكن من إمضائه على وجهه ، من حيث كان تقليد الحكم بين الناس

ص: 537


1- ج. التعبد بها.
2- ج. ل. الجزم.

مع تعذر تنفيذ الحق ، يقتضي الحكم بالجور (1) ، مع كونه كذلك ينافي الحكم بغير علم واعتبرنا اجتماع العقل والرأي ، لشديد (2) حاجة الحكم إليهما ، وتعذره صحيحا من دونهما.

واعتبرنا سعة الحلم ، لتعرضه بالحكم بين الناس للبلوى بسفهائهم ، فيسعهم بحلمه.

واعتبرنا البصيرة بالوضع ، من حيث كان الجهل بلغة المتحاكمين اليه يسد طريق العلم بالحكم عنه (3) ويمنع من وضعه موضعه.

واعتبرنا الورع ، من حيث كان انتفاؤه لا يؤمن معه الحيف في الحكم لعاجل رجاء أو خوف من غيره سبحانه.

واعتبرنا الزهد لئلا تطمح نفسه (4) ما لم يؤته اللّه تعالى ، فيبعثه ذلك على تناول أموال الناس ، لقدرته عليها ، وانبساط يده بالحكم فيها.

واعتبرنا التدين ، من حيث كان تقليد الحكم رئاسة دنيوية ، أو الاستعلاء على النظراء ، أو للمعيشة لا يؤمن معه جوره ، ولا يتقى (5) ضرره.

واعتبرنا القوة وصدق العزيمة في تنفيذ الاحكام ، من حيث كان الضعف مانعا من تنفيذ الحكم على موجبه ، ومقصرا بصاحبه عن القيام بالحق ، لصعوبته وعظيم المشقة في تحمله.

فمتى تكاملت هذه الشّروط ، فقد اذن له في تقلّد الحكم ، وان كان مقلّده ظالما متغلبا.

وعليه متى عرض لذلك ان يتولّاه لكون هذه الولاية أمرا بمعروف ، ونهيا عن منكر ، تعين غرضهما بالتعريض للولاية عليه ، وهو ان كان في الظّاهر من قبل المتغلّب ، فهو في الحقيقة نائب عن ولى الأمر عليه السلام في الحكم ، ومأهول له لثبوت الاذن منه ومن آبائه عليهم السلام لمن كان بصفته في ذلك ، فلا يحلّ له

ص: 538


1- ج. بالجور وفيه مر. ل. بالجور فيه وهو مع.
2- ج. ل. لشدة.
3- ج. عنده.
4- ج. ل. نفسه الى ما لم.
5- ج. ل. لا ينفى.

القعود عنه ، وان لم يقلد من هذه حاله النظر بين الناس ، فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة الأمر عليهم السلام وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم ، وحمل حقوق الأموال (1) اليه ، والتمكن من أنفسهم لحدّ ، أو تأديب ، تعيّن عليهم ، ولا يحل لهم الرغبة عنه ، ولا الخروج عن حكمه ، وأهل الباطل محجوجون بوجود من هذه صفته ، ومكلّفون الرجوع اليه ، وان جهلوا حقه ، لتمكّنهم من العلم به ، لكون ذلك حكم اللّه سبحانه الذي تعبّد بقبوله ، وحظر خلافه ، ولا يحلّ له مع الاختيار وحصول الأمن من مضرة أهل الباطل ، الامتناع من ذلك ، فمن رغب عنه ولم يقبل حكمه من الفريقين ، فعن دين اللّه رغب ، ولحكمه سبحانه ردّ ، ولرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خالف ، ولحكم الجاهلية ابتغى ، والى الطاغوت تحاكم.

وقد تناصرت الرّوايات عن الصّادقين عليهم السلام بمعاني ما ذكرناه ، فروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام انّه قال ، أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق ، فدعاه الى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ، فأبى الا ان يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة الذين قال اللّه عزوجل « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » (2) و (3) وعنه صلوات اللّه عليه انه قال إياكم ان يخاصم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فاني قد جعلته قاضيا ، فتحاكموا اليه (4).

وروى عن عمر بن حنظلة ، قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فيتحاكمان الى السّلطان ، والى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ فقال من تحاكم الى الطاغوت ، فحكم له ، فإنما يأخذ سحتا ، وان كان حقه ثابتا ، لأنه أخذ بحكم الطاغوت ، وقد أمر اللّه وعزوجل ان

ص: 539


1- من هنا سقط من نسخة الأصل.
2- سورة النساء ، الآية 60.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب صفات القاضي ، ح 2 - 5.
4- الوسائل ، الباب 1 من أبواب صفات القاضي ، ح 2 - 5.

يكفر بها ، قلت كيف يصنعان ، قال انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فلترضوا به حكما ، فانى قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا ، فلم يقبله منه ، فإنما بحكم اللّه استخف ، وعلينا ردّ والراد علينا كالراد على اللّه تعالى ، وهو على حد الشرك باللّه (1).

واعلم ان فرض هذا التحاكم ، مشترط بوجود عارف من أهل الحق ، وكون المتنازعين من أهله ، فاما ان فقد العارف المحصل ، وكان الخصم الدّافع للحق مخالفا ، جاز التوصّل بحكم المنصوب من قبل الظالمين الى المستحق ، فلا يحل ذلك بين أهل الباطل مع وجود العارف المفتي ، فإن فقد العارف بالحكم من إخوانهم في مصرهما ، فليرحلا اليه ، أو يصطلحا.

وروى عن أمير المؤمنين عليه السلام ، انه قال لشريح القاضي قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصي أو شقي (2).

يعني عليه السلام بالشقي من جلس بغير اذن من اللّه ورسوله وولى الأمر من بعده ، لأن المأذون له في الحكم ، بحكم اللّه يحكم ، فمجلسه للحكم مجلسهما.

وروى عن أبي جعفر عليه السلام ، انه قال الحكم حكمان ، حكم اللّه وحكم الجاهلية ، وقد قال اللّه تعالى « وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » (3) واشهد على زيد بن ثابت ، لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم اللّه ، حكم بحكم الجاهلية (4).

وروى عن أبي جعفر عليه السلام انه قال من افتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه ، لعنته ملائكة الرضاء وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من يعمل بفتياه (5).

وروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، انه قال من أفتى في درهمين بغير ما انزل اللّه

ص: 540


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب صفات القاضي ، ح 4 ، وتمامه في التهذيب ، ج 6 ، كتاب القضاء والاحكام ، ح 6.
2- الوسائل ، الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، ح 2 ، وفيه أو وصىّ نبيّ.
3- سورة المائدة ، الآية 50.
4- الوسائل ، الباب 4 ، من أبواب صفات القاضي ، ح 1 - 8.
5- الوسائل ، الباب 4 ، من أبواب صفات القاضي ، ح 1 - 8.

فهو كافر باللّه العظيم (1) ، وقد قال اللّه عزوجل « ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ ) (2) ( هُمُ الْكافِرُونَ ) (3) و ( الْفاسِقُونَ ) (4) و ( الظّالِمُونَ ) » (5).

وروى عن الرضا عليه السلام ليه السلام انه قال من أفتى في درهمين فأخطأ في أحدهما كفر (6).

وروى عن الصادق جعفر بن محمّد عليهم السلام انه قال إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه وعن يساره ما ترى ما تقول ، فعلى ذلك لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين ، الّا يقوم من مجلسه ويجلسهما مكانه (7).

فمقتضى هذا الحديث ظاهر ، لان الحاكم إذا كان مفتقرا إلى مسألة غيره ، كان جاهلا بالحكم ، وقد بيّنا قبح الحكم بغير علم ، وجواب من يسأله لا يقتضي حصول العلم له بالحكم بغير شبهة ، فلهذا حقت عليه اللعنة ، ولانه عند مخالفينا ان كان من أهل الاجتهاد ، فهو مستغن عن غيره ، ولا يحل له تقليده ، وان كان عاميا لم يحل له تقلّد الحكم بين الناس ، فقد حقت لعنته بإجماع الّا ان في المخالفين من يجوّز للقاضي أن يستفتي العلماء ويقضى بين الناس.

وروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام انه قال القضاة أربعة ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة ، رجل قضى بجور وهو يعلم انه جور فهو في النّار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم انه جور فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم انه حق فهو في النّار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم انه حق فهو في الجنة (8).

وهذا صريح بوقوف الحكم على العلم ووجوبه ، واستحقاق العالم به الثواب ، وفساده من دونه ، واستحقاق الحاكم من دونه النار ، وقد تجاوز التحريم بالحكم بالجور والتحاكم الى حكامه ، الى تحريم مجالسة اهله.

ص: 541


1- الوسائل ، الباب 5 ، من أبواب صفات القاضي ، ح 2.
2- الى هنا ينتهى سقط نسخة الأصل.
3- سورة المائدة ، الآية 44.
4- سورة المائدة ، الآية 47.
5- سورة المائدة ، الآية 45.
6- الوسائل ، الباب 5 من أبواب صفات القاضي ، ح 5 ، الّا انه مروي عن أبي جعفر عليه السلام مع تفاوت يسير.
7- الوسائل ، الباب 4 من أبواب آداب القاضي ، الحديث 1.
8- الوسائل ، الباب 4 ، من أبواب صفات القاضي ، ح 6.

فروى عن محمّد بن مسلم الثقفي ، انه قال مر بي الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السلام وانا جالس عند قاضي المدينة ، فدخلت عليه من الغد ، فقال لي ما مجلس رأيتك فيه بالأمس ، قلت جعلت فداك ، ان هذا القاضي لي مكرم ، فربما جلست اليه ، فقال لي عليه السلام وما يؤمنك أن تنزل اللعنة فتعم جميع من في المجلس (1).

فلفظ هذا الحديث ومعناه مطابق لما تقرّر الشرع به ، من وجوب إنكار المنكر وقبح الرّضا به والحكم بالجور من أعظم المنكرات ، فمجالس الحكام به لغير الإنكار والتقية ، راض بما يجب إنكاره من الجور ، فاستحقا اللعنة معا ، وإذا كانت هذه حال الجليس ، فحال الحاكم بالجور ومقلده النظر والتحاكم اليه ، والآخذ بحكمه ، أغلظ ، لارتفاع الريب في رضاء هؤلاء بالقبيح.

فإذا ثبت وتقرر ذلك فإنه لا يصح الحكم إيجابا ، ولا حظرا ، ولا تمليكا ، ولا منعا ، ولا إلزاما ، ولا إسقاطا ، ولا إمضاء ، ولا فسخا ، إلّا عن علم بما يقتضي ذلك ، أو إقرار المدعى عليه ، أو ثبوت البيّنة بالدعوى ، أو يمين المدعى عليه ، أو المدعي مع نكول المدّعى عليه ، دون ما عدا ذلك.

فإذا ثبت ذلك ، فعلم الحاكم بما يقتضي تنفيذ الحكم كاف في صحته ، ومغن عن إقرار وبيّنة ويمين ، سواء علم ذلك في حال تقلد الحكم أو قبلها ، لسكون نفس العالم الى ما علمه في حال حكمه بمقتضاه ، سواء كان علمه حادثا في الحال ، أو باقيا إليها ، أو متولدا عن أمثاله المعلومة المسطورة ، أو حادثا ، حالا بعد حال في كيفية التعلق بالمعلوم على حد واحد ، وانتفاء الشبهة عنه في صحته ، وعدم السكون بصحة الدّعوى مع الإقرار أو البينة أو اليمين ، وانتفاء الثقة بشي ء من ذلك ، وانما يعلم الحاكم مع الإقرار أو الشهادة أو اليمين ، صحة التنفيذ متى علم التعبد ، دون صدق المدعي مع ذلك ، أو المدعى عليه مع يمينه ، وهو مع العلم عالم بالأمرين ، صدق المدعي في الدعوى ، وصحة الحكم بها.

ص: 542


1- الوسائل ، الباب 6 ، من أبواب آداب القاضي ، ح 1 ، باختلاف يسير.

ولا شبهة على متأمل في ان الظن لا حكم له مع إمكان العلم ، فكيف بثبوته ، وكيف يتوهم عاقل صحة الحكم مع ظن الصدق ، وفساده مع العلم به ، وهو تفرّق يفرق بين حالتي العالم والظان.

وأيضا فصحّة الحكم بالإقرار والبيّنة أو اليمين ، فرع للعلم بالإقرار وقيام البيّنة ، وحصول اليمين ، وثبوت التعبد بالتنفيذ ، فلو كان العلم بصحة الدعوى أو الإنكار غير متعبّد به ، لم يصح حكم بإقرار ولا بيّنة ولا يمين ، لوقوف صحته على العلم الذي لا يعتد به ، لان العلم بالشي ء ان اعتد به في موضع ، فهذا حكمه في كل موضع ، وان القى حكمه في موضع ، فهذه حاله في كل موضع ، وذلك خروج عن الحق جملة ، إذ لا برهان عليه له يميز من الباطل غير العلم.

وأيضا فلو لم يلزم الحاكم الحكم بما علمه من غير توقيف (1) على إقرار أو بيّنة أو يمين ، لاقتضى ذلك الحكم بما يعلم خلافه ، إذا حصل به إقرار أو بيّنة أو يمين ، من تسليم ما يجب المنع منه ، والمنع مما يجب تسليمه ، وقتل وقطع من علم عدم استحقاقه لهما ، وإلحاق نسب من يعلم براءة منه ، الى غير ذلك مما لا شبهة في فساده.

وأيضا فلو لم يكن الحكم بالعلم معتبرا لم يصح للحاكم تنفيذ ما تقدم الإقرار به أو الشهادة ، لضمان التنفيذ ، لأنه ان حكم في هذه الحالة ، فإنما يحكم لعلمه بماضي الإقرار والبيّنة ، فإذا كان الحكم بالعلم لا يصح ، لم يصح هاهنا ، والمعلوم خلاف ذلك ، إذ لا فرق بين ان يحكم (2) للعلم بالإقرار والبيّنة وبين العلم بصحة الدعوى أو الإنكار ، بل الثاني أظهر.

وأيضا فلو كان المعتبر في الحكم الإقرار والبيّنة واليمين دون العلم ، لم يجز إبطال ذلك متى علم الحاكم كذب المقر أو الشهود أو الحالف ، والإجماع بخلاف ذلك.

فثبت كون العلم أصلا في الاحكام ، وسقط قول من منع من تنفيذها به.

وليس لأحد ان يمنع من الحكم بالعلم لنهى عنه ، أو فقد تعبد بمقتضاه ، من حيث كان ما قدمناه من الأدلة على صحة الحكم به ، وكونه غير مستند الى علم

ص: 543


1- ج. ل. توقف.
2- ج. ان يحكم العالم.

أصلا فيها ، وتعذر الحكم فيها من دونه مسقطا لهاتين الدعويين ، وكيف يشتبه فسادهما على عارف بالتكليف الموقوف صحته في الأصول والفروع على العلم وحصول اليقين ، بفساد (1) حكم الظن فيهما (2) ، مع إمكان العلم ، وبالظن مع تعذّر العلم بالمظنون (3) غير مستند الى علم ، وكيف يجتمع له اعتقاد ذلك مع علمه بصحة الحكم مع ظن صدق المدعى أو المنكر ، ونفى الحكم مع العلم بصدق أحدهما ، لو لا جهل الذاهب الى ذلك بمقتضى التكليف ، وطريق صحة العمل فيه ، وتعويله على استحسان فاسد ، ورأى فايل (4) ، أو ليس العلم حاصلا لكل سامع للأخبار ، بإمضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الحكم بالعلم لخزيمة بن ثابت الأنصاري ، وسمّاه لذلك ذا الشهادتين (5).

وأيضا ما حكم به أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام في قضاء الأعرابي والناقة ، لعلمهما بصدقه صلوات اللّه عليه وعلى آله بالمعجز (6).

مع ما ينضاف الى ذلك من مشهور إنكار أمير المؤمنين عليه السلام على شريح القاضي لما طالبه بالبينة على ما ادعاه عليه السلام في درع طلحة ، ويلك أو ويحك خالفت السنة بمطالبة إمام المسلمين ببيّنة ، وهو مؤتمن على أكثر من هذا (7) ، فأضاف الحكم بالعلم إلى السنة على رءوس الجمع من الصّحابة والتابعين ، فلم ينكر عليه منكر.

وهذا مع ما تقدّم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، برهان واضح على جهل طالب البيّنة مع العلم ، وكونه مقدما عليهما.

وليس للمخالف فيما نصرناه ان يمنع منه لظنه ان الحكم بالعلم ، يقتضي تهمة الحاكم ، لان ذلك رجوع عن مقتضى الأدلة استحسانا ، ولا شبهة في فساده.

على ان ذلك لو منع من الحكم بالعلم ، لمنع من الحكم بالشهادة والإقرار

ص: 544


1- ج. وفساد.
2- ج. فيها.
3- ج. والمظنون.
4- ل. قابل.
5- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب كيفية الحكم ، ح 1 - 3.
6- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب كيفية الحكم ، ح 1 - 3.
7- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب كيفية الحكم ، ح 6 ، باختلاف في الألفاظ.

الماضيين ، إذ كان الحكم في المجلس الثاني بالإقرار الحاصل في المجلس الأوّل ، أو البيّنة مستندا الى العلم ، وإذا لم تمنع التهمة هاهنا من الحكم بالعلم ، فكذلك هناك.

وبعد فحسن الظن بالحاكم المتكامل للشروط ، يقتضي البخوع لحكمه بالعلم ، ويمنع من تهمته كالإقرار والبيّنة ، لو لا ذلك لم يستقر له حكم ، ولم يسمع قوله أقر عندي بكذا ، وقامت البيّنة بكذا ، وثبت عندي بكذا ، وصح عندي الّا ان يكون حصول الإقرار أو البيّنة بمحضر من لا يجوز عليه الكذب ، وهذا يقتضي نقض نظام الاحكام بغير اشكال ، وإذا كان علمه بكون المدعى عليه مقرا أو مشهودا عليه ، أو له ، أو حالفا أو محلوفا له موجبا عليه الحكم ، وان لم يعلم ذلك أحد سواه ، ولا يحلّ له الامتناع لخوف التهمة ، فكذلك يجب ان يحكم متى علم صدق المدعى أو المنكر بأحد أسباب العلم ، من مشاهدة ، أو تواتر ، أو نصّ صادق ، أو ثبوت امامة ، أو نبوة ، الى غير ذلك من طرق العلم ، لعدم الفرق ، بل ما نوزعنا فيه أولى.

فإن قيل لو شاهد الإمام أو الحاكم رجلا يزني أو يلوط ، أو سمعه يقذف غيره ، أو يقر بطلاق زوجته ، أو يظاهر منها ، أو يعتق عبده ، أو يبيع غيره شيئا ، كان يحكم بعلمه أم يبطل ذلك؟

قيل ان كان ما علمه الإمام أو الحاكم عقدا ، أو إيقاعا شرعيّا ، حكم بعلمه ، وان كان بخلاف ذلك ، لاختلال بعض الشروط كعلمه بغيره ناطقا بكنايات الطلاق ، أو صريحة في الحيض ، أو بغير شهادة ، أو بغير شهادة ، أو إظهار بغير لفظه ، أو بغير إشهاد عليه ، أو قصد إليه ، الى غير ذلك ، لم يحكم لفقد ما معه يصح الحكم ، من صحة العقد أو الإيقاع.

فأما ما يوجب الحدود ، فالصحيح من أقوال طائفتنا ، وذوي التحصيل من فقهاء عصابتنا ، لا يفرقون بين الحدود وبين غيرها من الاحكام الشرعيات ، في ان للحاكم النائب من قبل الامام ان يحكم فيها بعلمه كما ان للإمام ذلك ، مثل ما سلف في الاحكام التي هي غير الحدود ، لأنّ جميع ما دلّ هناك ، هو الدليل هاهنا ، وللفرق بين الأمرين مخالف مناقض في الأدلة.

ص: 545

وذهب بعض أصحابنا الى ان ما يوجب الحدود فان كان العالم بما يوجبه الامام ، فعليه الحكم بعلمه ، لكونه معصوما مأمونا ، وان كان غيره من الحكام الذين يجوز عليهم الكذب ، لم يجز له الحكم بمقتضاه ، وتمسك بان قال : لأن إقامة الحد أولا ليست من فروضه ، ولانه بذلك شاهد على غيره بالزنا واللواط أو غيرهما ، وهو واحد ، وشهادة الواحد بذلك قذف يوجب الحد ، وان كان عالما يوضح ذلك انه لو علم ثلاثة نفر غيرهم زانيا ، لم يجز لهم الشهادة عليه ، فالواحد أحرى ان لا يشهد عليه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب ، وما اخترناه أولا هو الذي يقتضيه الأدلّة ، وهو اختيار السيد المرتضى في انتصاره (1) واختيار شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (2) ، وغيرهما من الجلّة المشيخة وما تمسك به المخالف لما اخترناه ، فليس فيه ما يعتمد عليه ، ولا ما يستند إليه ، لأن جميع ما قاله وأورده يلزم في الإمام مثله حرفا فحرفا.

قاما قوله اقامة الحدود ليست من فروضه ، فعين الخطأ المحض عند جميع الأمة ، لأن الحكام جميعهم هم المعنيّون (3) بقوله تعالى « وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » (4) وكذلك قوله تعالى « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (5) الى غير ذلك من الآيات.

أيضا كان يؤدى إلى أن جميع الحكام في جميع البلدان النواب عن رئيس الكل (6) ، لا يقيم أحد منهم حدا في عمله ، بل ينفذ المحدود الى البلد الذي فيه الرئيس المعصوم ، ليقيم الحدّ عليه ، وهذا خروج عن أقوال جميع الأمة (7) ، بل المعلوم السائغ (8) المتواتر ان للحكام إقامة الحدود في البلد الذي كل واحد منهم نائب فيه من غير توقف في ذلك (9).

ص: 546


1- الانتصار ، كتاب القضاء ، مسائل القضاء والشهادات ..
2- الخلاف ، كتاب آداب القضاء ، مسألة 41.
3- ج. ل. المعينون.
4- سورة المائدة ، الآية 38.
5- سورة النور ، الآية 2.
6- ج. رئيس لكل منهم.
7- ج. جميع الأئمة.
8- ج. ل. الشائع.
9- ج. وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

المستطرفات

اشارة

ص: 547

ص: 548

باب الزيادات وهو آخر أبواب هذا الكتاب مما استنزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنفين والرواة المحصلين

وستقف على أسمائهم إن شاء اللّه تعالى.

فمن ذلك ما أورده موسى بن بكر الواسطي في كتابه عنه عن حمران قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ ( لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) قَالَ هِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ قُلْتُ أَفْرِدْ لِي إِحْدَاهُمَا قَالَ وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ فِي اللَّيْلَتَيْنِ هِيَ إِحْدَاهُمَا (1).

عَنْهُ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ ( لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) وَقَالَ إِنِّي أُخْبِرُكَ بِهَا بِمَا لَا أُعْمِي عَلَيْكَ هِيَ لَيْلَةُ أَوَّلِ السَّبْعِ وَقَدْ كَانَتْ تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ (2) وَعَنْهُ عَنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ إِنَّ فُلَاناً وَفُلَاناً ظَلَمَانَا حَقَّنَا وَقَسَمَاهُ بَيْنَهُمْ فَرَضُوا بِذَلِكَ مِنْهُمَا وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا مَنَعَهُمْ وَاسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ غَضِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ (3).

وَعَنْهُ عَنِ الْفُضَيْلِ قَالَ عَرَضْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَصْحَابَ الرَّدَّةِ فَكُلَّمَا سَمَّيْتُ إِنْسَاناً قَالَ اعْزُبْ حَتَّى قُلْتُ حُذَيْفَةَ قَالَ اعْزُبْ قُلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ اعْزُبْ ثُمَّ قَالَ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الَّذِينَ لَمْ يُدْخِلْهُمْ شَيْ ءٌ فَعَلَيْكَ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أَبُو الذَّرِّ وَالْمِقْدَادُ وَسَلْمَانُ (4).

وَعَنْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَوَجَدْتَهُ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ غَيْرُ أَثَرِ سَهْمِكَ وَتَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ غَيْرُ سَهْمِكَ فَكُلْ تَغِيبُ عَنْكَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّبْ عَنْكَ (5).

ص: 549


1- الوسائل: الباب 32 ، من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 17 - 18.
2- الوسائل: الباب 32 ، من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 17 - 18.
3- البحار ، ج 8 ، ص 351 ، الطبع القديم.
4- البحار ، ج 22 ، ص 113 ، ط الحديث.
5- الوسائل ، الباب 18 من كتاب الصيد والذبائح ، ح 5 ، باختلاف يسير.

وَسُئِلَ عَنِ السِّوَاكِ فَقَالَ إِنِّي لَأَسْتَاكُ بِالْمَاءِ وَأَنَا صَائِمٌ (1).

وَعَنْهُ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ مَا حَرَّمَ اللّهُ شَيْئاً إِلَّا وَقَدْ عُصِيَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ تَزَوَّجُوا أَزْوَاجَ رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مِنْ بَعْدِهِ فَخَيَّرَهُنَّ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ الْحِجَابِ وَلَا يَتَزَوَّجْنَ أَوْ يَتَزَوَّجْنَ فَاخْتَرْنَ التَّزْوِيجَ فَتَزَوَّجْنَ قَالَ زُرَارَةُ وَلَوْ سَأَلْتَ بَعْضَهُمْ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَبَاكَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ أَتَحِلُّ لَكَ إِذًا لَقَالَ لَا وَهُمْ قَدِ اسْتَحَلُّوا أَنْ يَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ (2).

مُوسَى عَنْ زُرَارَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَرَأَيْتَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَالَ تُنْزَعُ مِنْهُ رُوحُ الْإِيمَانِ قَالَ قُلْتُ فَحَدِّثْنِي بِرُوحِ الْإِيمَانِ قَالَ هُوَ شَيْ ءٌ ثُمَّ قَالَ هَذَا أَجْدَرُ أَنْ تَفْهَمَهُ أَمَا رَأَيْتَ الْإِنْسَانَ يَهُمُّ بِالشَّيْ ءِ فَيَعْرِضُ بِنَفْسِهِ الشَّيْ ءَ يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْهَاهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ هُوَ ذَلِكَ (3).

مُوسَى بنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ عليه السلام قَالَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله لَا تَصْلُحُ الصَّنِيعَةُ إِلَّا عِنْدَ ذِي حَسَبٍ أَوْ دِينٍ (4).

مُوسَى بنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ عليه السلام قَالَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ وَالرِّفْقُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَمَا عَالَ امْرُؤٌ فِي اقْتِصَادِهِ (5).

مُوسَى بنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ عليه السلام قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله يُنْزِلُ اللّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ وَيُنْزِلُ اللّهُ الصَّبْرَ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ (6).

مُوسَى بنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله قِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ

ص: 550


1- الوسائل ، الباب 28 ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 16 ، وفيه لأستاك.
2- الوسائل ، الباب 2 ، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ذيل ح 4 ، إلا أنه ليس بعينه.
3- الوسائل ، الباب 45 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 9 ، من دون ذيله.
4- الوسائل ، الباب 4 ، من أبواب فعل المعروف.
5- الوسائل ، الباب 29 ، من أبواب أحكام العشرة ، ح 3.
6- الوسائل ، الباب 14 من أبواب فعل المعروف ، ح 11.

الْيَسَارَيْنِ (1).

مُوسَى عَنْ الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مَلَّاحاً وَحَمَّلَهُ طَعَاماً لَهُ فِي سَفِينَةٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ قَالَ إِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ قُلْتُ فَرُبَّمَا زَادَ قَالَ يَدَّعِي أَنَّهُ زَادَ فِيهِ قُلْتُ لَا قَالَ هُوَ لَكَ (2).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب موسى بن بكر الواسطي ( وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (3).

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار (4)

قَالَ قُلْتُ لَهُ رَجُلَانِ دَخَلَا الْمَسْجِدَ جَمِيعاً افْتَتَحَا الصَّلَاةَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَلَا هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ دُعَائِهِ وَدَعَا هَذَا فَكَانَ دُعَاؤُهُ أَكْثَرَ مِنْ تِلَاوَتِهِ ثُمَّ انْصَرَفَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَقَالَ كُلٌّ فِيهِ فَضْلٌ وَحُسْنٌ قَالَ قُلْتُ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ كُلًّا حَسَنٌ وَأَنَّ كُلًّا فِيهِ فَضْلٌ قَالَ فَقَالَ الدُّعَاءُ أَفْضَلُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللّهِ ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (5) هِيَ وَاللّهِ أَفْضَلُ هِيَ وَاللّهِ أَفْضَلُ هِيَ وَاللّهِ أَفْضَلُ أَلَيْسَ هِيَ الْعِبَادَةَ أَلَيْسَتْ أَشَدَّ هِيَ وَاللّهِ أَشَدَّ هِيَ وَاللّهِ أَشَدَّ هِيَ وَاللّهِ أَشَدَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (6).

قَالَ وَقُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يَجْعَلُ الْحُلِيَّ لِأَهْلِهِ مِنَ الْمِائَةِ دِينَارٍ وَالْمِائَتَيْ دِينَارٍ قَالَ وَأَرَانِي قَدْ قُلْتُ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ قَالَ فَقَالَ إِنْ كَانَ إِنَّمَا جَعَلَهُ لِيَفِرَّ بِهِ (7) فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا جَعَلَهُ لِيَتَجَمَّلَ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ (8).

وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ

ص: 551


1- البحار ، ج 104 ، ص 72.
2- الوسائل ، الباب 27 من أبواب أحكام الإجارة ، ح 1.
3- إلى هنا انتهت نسخة جامعة طهران التي رمز لها ب (ج).
4- ومن هنا نقابل مع نسخة السيد الجليل الطبسي أيضا. ونرمز لها ب ( ط ).
5- سورة غافر ، الآية 60.
6- الوسائل ، الباب 6 ، من أبواب التعقيب ، ح 1 ، باختلاف يسير.
7- ل. به من الزكاة.
8- الوسائل ، الباب 9 ، من أبواب زكاة الذهب والفضة ، ح 6 ، باختلاف يسير.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ أَنْ ( أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (1) فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ أَنْ يُؤَذِّنُوا بِأَعْلَى أَصْوَاتِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ هَذَا فَعَلِمَ بِهِ حَاضِرُو الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْعَوَالِي وَالْأَعْرَابُ فَاجْتَمَعُوا لِحَجِّ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَإِنَّمَا كَانُوا تَابِعِينَ يَنْتَظِرُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ فَيَتَّبِعُونَهُ أَوْ يَصْنَعُ شَيْئاً فَيَصْنَعُونَهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فِي أَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ وَزَالَتِ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى مَسْجِدَ الشَّجَرَةِ فَصَلَّى عِنْدَهُ الظُّهْرَ وَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ مُفْرِداً وَخَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْدَاءِ عِنْدَ الْمِيلِ الْأَوَّلِ فَصَفَّ لَهُ النَّاسُ سِمَاطَيْنِ فَلَبَّى بِالْحَجِّ مُفْرِداً وَمَضَى وَسَاقَ لَهُ سِتّاً وَسِتِّينَ بَدَنَةً أَوْ أَرْبَعاً وَسِتِّينَ بَدَنَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ فِي السِّلَاحِ لِأَرْبَعٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ وَقَدْ كَانَ اسْتَلَمَهُ فِي أَوَّلِ طَوَافِهِ ثُمَّ قَالَ ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ) (2) فَابْدَأْ بِمَا بَدَأَ اللّهُ بِهِ وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْ ءٌ وَضَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَصَنَعَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يَحِلُّوا إِلَّا سَائِقَ الْهَدْيِ فَقَالَ رَجُلٌ أَنُحِلُّ وَلَمْ نَفْرُغْ مِنْ مَنَاسِكِنَا وَهُوَ عُمَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ نَعَمْ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ وَلَكِنْ سُقْتُ الْهَدْيَ فَلَا يُحِلُّ سَائِقُ الْهَدْيِ ( حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) فَقَالَ لَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ لَا بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ (3) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ دَخَلْتُ الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (4).

ص: 552


1- سورة الحج ، الآية 27.
2- سورة البقرة الآية 158.
3- ط. ل. بل الأبد.
4- الوسائل ، الباب 2 ، من أبواب أقسام الحج ، ح 5 ، باختلاف يسير.

قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ فِي كِتَابِهِ فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْفِرَ انْتَهَيْتَ إِلَى الْحَصْبَةِ وَهِيَ الْبَطْحَاءُ (1) فَشِئْتَ أَنْ تَنْزِلَ بِهَا قَلِيلاً فَإِنَّ أَبَا عَبْدِ اللّهِ قَالَ إِنَّ أَبِي كَانَ يَنْزِلُهَا ثُمَّ يَرْتَحِلُ فَيَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنَامَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ نَزَلَهَا حِينَ بَعَثَ عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ لِمَكَانِ الْعِلَّةِ الَّتِي أَصَابَتْهَا لِأَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ تَرْجِعُ نِسَاؤُكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعاً وَأَرْجِعُ بِحِجَّةٍ فَأَرْسَلَ بِهَا عِنْدَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَخَلَتْ مَكَّةَ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ وَصَلَّتْ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَعَتْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَارْتَحَلَ مِنْ يَوْمِهِ (2).

تمت الأحاديث التي من كتاب معاوية بن عمار.

ومن ذلك ما استطرفته

ومن ذلك ما استطرفته (3)

من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي

صاحب الرضا عليه السلام بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة والزاء المعجمة والنون والطاء غير المعجمة وهو موضع نسب إليه ومنه الثياب البزنطية.

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الْوُضُوءِ فَقَالَ لِي مَا كَانَ وُضُوءُ عَلِيٍّ عليه السلام إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً (4).

أَحْمَدُ عَنِ الْمُثَنَّى عَنْ زُرَارَةَ وَأَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام مِثْلَ حَدِيثِ جَمِيلٍ فِي الْوُضُوءِ إِلَّا أَنَّهُ فِي حَدِيثِ الْمُثَنَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَسَحَ (5) رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضْلَ فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَنْ زَادَ عَلَى ثِنْتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ (6).

قَالَ أَحْمَدُ وَحَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ

ص: 553


1- ط. فإن شئت.
2- الوسائل ، الباب 2 ، من أبواب أقسام الحج ، ح 5 باختلاف يسير.
3- ط. ل. ما استطرفناه.
4- الوسائل ، الباب 31 ، من أبواب الوضوء ، ح 7.
5- ل. فمسح بها.
6- الوسائل ، الباب 31 ، من أبواب الوضوء ، باختلاف يسير.

عليه السلام ، وَإِذَا بَدَأْتَ بِيَسَارِكَ قَبْلَ يَمِينِكَ وَمَسَحْتَ رَأْسَكَ وَرِجْلَيْكَ ثُمَّ اسْتَيْقَنْتَ بَعْدُ أَنَّكَ بَدَأْتَ بِهَا غَسَلْتَ يَسَارَكَ ثُمَّ مَسَحْتَ رَأْسَكَ وَرِجْلَيْكَ وَإِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْ ءٍ مِنَ الْوُضُوءِ وَقَدْ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ شَكُّكَ بِشَيْ ءٍ إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي الشَّيْ ءِ وَلَمْ تَجُزْهُ (1).

قَالَ أَحْمَدُ وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ أَتَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَجْنَبْتُ اللَّيْلَةَ وَلَمْ يَكُنْ مَعِي مَاءٌ قَالَ كَيْفَ صَنَعْتَ قَالَ طَرَحْتُ ثِيَابِي وَقُمْتُ عَلَى الصَّعِيدِ فَتَمَعَّكْتُ فِيهِ فَقَالَ هَكَذَا يَصْنَعُ الْحِمَارُ إِنَّمَا قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (2) فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ ضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ مَسَحَ بِجَبِينِهِ ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى الْأُخْرَى مَسَحَ (3) بِالْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى وَالْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى (4).

أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَصَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ وَكُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا الْعَصْرَ فَعَدَدْنَا لَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً وَقَالَ أَحَدُهُمَا وَبِحَمْدِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَوَاءً (5).

ومعنى ذلك واللّه أعلم أنه كان يعلم أن القوم كانوا يحبون أن يطول بهم في الصلاة ففعل لأنه ينبغي للإمام إذا صلى بقوم أن يخفف بهم.

أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (6) قَالَ دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَغَسَقُ اللَّيْلِ انْتِصَافُهُ وَقُرْآنُ الْفَجْرِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ (7).

ص: 554


1- الوسائل ، الباب 35 ، والباب 42 ، من أبواب الوضوء.
2- سورة النساء ، الآية 43.
3- ط. ثم مسح. ل. فمسح.
4- الوسائل ، الباب 11 من أبواب التيمم ، ح 9.
5- الوسائل ، الباب 6 من أبواب الركوع ، ح 2 ، باختلاف يسير.
6- سورة الاسراء ، الآية 78.
7- الوسائل ، الباب 10 من أبواب المواقيت ، ح 10.

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي زَاوِيَةِ الْحُجْرَةِ وَامْرَأَتُهُ أَوِ ابْنَتُهُ تُصَلِّي بِحِذَائِهِ فِي الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى (1) قَالَ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا شِبْرٌ (2) فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شِبْرٌ (3) أَجْزَأَهُ (4).

قَالَ وَقُلْتُ لَهُ إِنَّ طَرِيقِي إِلَى الْمَسْجِدِ فِي زُقَاقٍ يُبَالُ فِيهِ فَرُبَّمَا مَرَرْتُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيَّ حِذَاءٌ فَيَلْصَقُ بِرِجْلِي مِنْ نَدَاوَتِهِ (5) فَقَالَ أَلَيْسَ تَمْشِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ يَابِسَةٍ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَلَا بَأْسَ أَنَّ الْأَرْضَ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً قُلْتُ فَأَطَأُ عَلَى الرَّوْثِ الرَّطْبِ قَالَ لَا بَأْسَ أَنَا وَاللّهِ رُبَّمَا وَطِئْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ أُصَلِّي وَلَا أَغْسِلُهُ (6).

وَعَنْهُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْجُنُبِ يَحْمِلُ الرَّكْوَةَ وَالتَّوْرَ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِيهِ فَقَالَ إِنْ كَانَتْ يَدُهُ قَذِرَةً فليهريقه [ فَلْيُهَرِقْهُ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ يُصِبْهَا قَذَرٌ فَلْيَغْتَسِلْ بِهِ هَذَا مِمَّا قَالَ اللّهُ جَلَّ وَعَلَا ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (7) و (8).

عَنْهُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُيَسِّرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ الْجُنُبِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي الطَّرِيقِ فَيُرِيدُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ يَغْرِفُ بِهِ وَيَدَاهُ قَذِرَتَانِ قَالَ يَضَعُ يَدَهُ فِيهِ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ (9) هَذَا مِمَّا قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وَسَأَلَ عَنِ الْجُنُبِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي الطَّرِيقِ فَيُرِيدُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ وَالْمَاءُ فِي وَهْدَةٍ فَإِنْ هُوَ اغْتَسَلَ رَجَعَ غُسْلُهُ فِي الْمَاءِ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ يَنْضِحُ بِكَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَفٍّ خَلْفَهُ وَكَفٍّ عَنْ يَمِينِهِ وَكَفٍّ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ (10).

وَعَنْهُ عَنْ عَلِيٍّ (11) عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقْرَأُ الرَّجُلُ .

ص: 555


1- في هامش نسخة الأصل: خطه زاوية في الموضعين.
2- ط. ل. ستر.
3- ط. ل. ستر.
4- الوسائل ، الباب 8 من أبواب مكان المصلي ح 3.
5- ط. نداوته.
6- الوسائل الباب 32 ، من أبواب النجاسات ، ح 9.
7- سورة الحج ، الآية 78.
8- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، ح 11.
9- لا يكون قوله ( ثم يغتسل ) في نسخة ل.
10- الوسائل ، الباب 10 ، من أبواب الماء المضاف ، ح 2. (11) ل. وعنه ، عن الحلبي.

السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ يَسْجُدُ إِذَا كَانَتْ مِنَ الْعَزَائِمِ (1).

وَعَنِ الرَّجُلِ يَخْطُو أَمَامَهُ فِي الصَّلَاةِ خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَالَ نَعَمْ لَا بَأْسَ وَعَنِ الرَّجُلِ يُقَرِّبُ نَعْلَهُ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ نَعَمْ (2).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ كُنْتُ عِنْدَهُ جَالِساً وَعِنْدَهُ حَفْنَةٌ مِنْ رُطَبٍ فَجَاءَهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ يُوَسِّعُ اللّهُ عَلَيْكَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَجُلاً لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَلَاثِينَ أَلْفاً أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفاً شَاءَ أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْ ءٌ إِلَّا قَسَمَهُ فِي حَقٍّ فَعَلَ فَيَبْقَى لَا مَالَ لَهُ فَيَكُونُ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ يُرَدُّ دُعَاؤُهُمْ قَالَ قُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَنْ هُمْ قَالَ رَجُلٌ رَزَقَهُ اللّهُ مَالاً فَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيُقَالُ لَهُ أَوَلَمْ أَرْزُقْكَ وَرَجُلٌ دَعَا عَلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ ظَالِمٌ لَهَا فَيُقَالُ لَهُ أَوَلَمْ أَجْعَلْ أَمْرَهَا بِيَدِكَ وَرَجُلٌ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَتَرَكَ الطَّلَبَ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيَقُولُ أَوَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ السَّبِيلَ إِلَى الطَّلَبِ (3) لِلرِّزْقِ (4).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ إِطَالَةِ الشَّعْرِ فَقَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مُشْعِرِينَ يَعْنِي الطَّمَّ (5).

وَقَالَ أَخَّرَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللّهُ فَجَاءَ عُمَرُ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ نَامَتِ النِّسَاءُ نَامَتِ الصِّبْيَانُ ذَهَبَ اللَّيْلُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله فَقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُونِي وَلَا تَأْمُرُونِي إِنَّمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا (6).

ص: 556


1- الوسائل ، الباب 2 من أبواب قرائة القرآن ، ح 6.
2- الوسائل ، الباب 30 ، من أبواب قواطع الصلاة ، ح 1.
3- ل. إلى طلب الرزق.
4- الوسائل ، الباب 23 من أبواب الصدقة ، ح 1 باختلاف يسير.
5- الوسائل ، الباب 60 ، من أبواب آداب الحمام ، ح 4.
6- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب المواقيت ذيل ، ح 1 ، عن التهذيب 9.

وَقَالَ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ يَسْجُدُ (1).

وَقَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قُلْتُ لَهُ أَيُّمَا أَفْضَلُ أُقَدِّمُ الرَّكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ فَقَالَ تُصَلِّيهِمَا (2) بَعْدَ الْفَرِيضَةِ (3).

وَذُكِرَ أَيْضاً عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ أَمَّا أَنَا فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ بَدَأْتُ بِالْفَرِيضَةِ (4).

قال صاحب الكتاب وهو أحمد بن أبي نصر صاحب الرضا عليه السلام والقنوت في الصلاة ليس بموقت وقد وصفت القنوت في أول الكتاب. ومن أراد أن يصلي الجمعة فليأتها بما وصفناه بما ينبغي للإمام أن يفعل فإذا زالت الشمس قام المؤذن فأذن وخطب الإمام وليكن من قوله في الخطبة وأورد دعاء تركت ذكره لأن المقصود في غيره.

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبَوْلِ يُصِيبُ الْجَسَدَ قَالَ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّمَا هُوَ مَاءٌ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ قَالَ اغْسِلْهُ مَرَّتَيْنِ (5).

وَعَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِذَا كُنْتَ شَاكّاً فِي الزَّوَالِ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا اسْتَيْقَنْتَ أَنَّهَا قَدْ زَالَتْ بَدَأْتَ بِالْفَرِيضَةِ (6).

وَعَنِ الرَّجُلِ يَخْرُجُ بِهِ الْقَرْحُ لَا يَزَالُ يُدْمِي كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ يُصَلِّي وَإِنْ كَانَتِ الدِّمَاءُ يَسِيلُ (7).

وَسَأَلْتُهُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قَالَ إِذَا أَوْلَجَهُ أُوجِبَ الْغُسْلُ .

ص: 557


1- الوسائل ، الباب 42 ، من أبواب قراءة القرآن ، ح 5 - 15.
2- ل. قال صلها.
3- الوسائل ، الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 14.
4- الوسائل ، الباب 42 ، من أبواب قراءة القرآن ، ح 5 - 15.
5- الوسائل ، الباب 1 من أبواب النجاسات ، ح 7.
6- الوسائل ، الباب 58 من أبواب المواقيت ، ح 1.
7- الوسائل ، الباب 22 من أبواب النجاسات ، ح 4.

وَالْمَهْرُ وَالرَّجْمُ (1).

عَنْهُ عَنْ عَلَاءٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يَرَ فِي مَنَامِهِ شَيْئاً فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا هُوَ بِبَلَلٍ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ (2).

وَقَالَ إِنَّ صَاحِبَ الْقَرْحَةِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا رَبْطَهَا وَلَا حَبْسَ دَمِهَا يُصَلِّي وَلَا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ (3).

وَقَالَ يُكَبِّرُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ قُلْتُ لَهُ كَمْ قَالَ كَمْ شِئْتَ إِنَّهُ لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ (4).

وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَنْسَى فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدُ قَالَ يَسْجُدُ إِذَا كَانَتْ مِنَ الْعَزَائِمِ وَالْعَزَائِمُ أَرْبَعٌ الم تَنْزِيلٌ وَحم السَّجْدَةُ وَالنَّجْمُ وَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) قَالَ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام يُعْجِبُهُ أَنْ يَسْجُدَ فِي كُلِّ سُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ (5).

عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) (6) الْآيَةَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَطَ عَلَى النَّاسِ وَشَرَطَ لَهُمْ فَمَنْ وَفَى لِلَّهِ وَفَى اللّهُ لَهُ قُلْتُ فَمَا الَّذِي شَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قَالَ أَمَّا الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ قَالَ ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (7).

وَأَمَّا الَّذِي شَرَطَ لَهُمْ فَإِنَّهُ قَالَ ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى ) (8) وَيَرْجِعُ لَا ذَنْبَ لَهُ (9).

ص: 558


1- الوسائل ، الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 8.
2- الوسائل ، الباب 10 ، من أبواب الجنابة ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 22 من أبواب النجاسات ، ح 2 ، الفروع والتهذيب مع اختلاف.
4- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب صلاة العيد ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 44 ، من أبواب قرائة القرآن ، ح 2.
6- سورة البقرة ، الآية 197.
7- سورة البقرة ، الآية 197.
8- سورة البقرة ، الآية 203.
9- الوسائل ، الباب 32 ، من أبواب تروك الاحرام ، ح 2 ، باختلاف يسير.

فَقُلْتُ أَرَأَيْتَ مَنِ ابْتُلِيَ بِالرَّفَثِ وَالرَّفَثُ هُوَ الْجِمَاعُ مَا عَلَيْهِ قَالَ يَسُوقُ الْهَدْيَ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ حَتَّى يَقْضِيَا الْمَنَاسِكَ وَحَتَّى يَعُودَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَا فِيهِ مَا أَصَابَا فَقُلْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ أَرَادَا أَنْ يَرْجِعَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ الَّذِي أَقْبَلَا فِيهِ قَالَ فَلْيَجْتَمِعَا إِذَا قَضَيَا الْمَنَاسِكَ (1).

قَالَ قُلْتُ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْفُسُوقِ وَالْفُسُوقُ الْكَذِبُ مَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدّاً وَقَالَ يَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَيُلَبِّي (2) قَالَ قُلْتُ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْجِدَالِ وَالْجِدَالُ قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاللّهِ وَبَلَى وَاللّهِ مَا عَلَيْهِ قَالَ إِذَا جَادَلَ فَوْقَ مَرَّتَيْنِ فَعَلَى الْمُصِيبِ دَمُ شَاةٍ وَعَلَى الْمُخْطِئِ بَقَرَةٌ (3).

عَنْهُ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُهُ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ فَيَقُولُ لَهُ صَاحِبُهُ وَاللّهِ لَا تَعْمَلْهُ فَيَقُولُ وَاللّهِ لَأَعْمَلَنَّهُ فَيُحَالِفُهُ مِرَاراً هَلْ عَلَى صَاحِبِ الْجِدَالِ شَيْ ءٌ قَالَ لَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إِكْرَامَ أَخِيهِ إِنَّمَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ (4).

جَمِيلٌ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْمُتَمَتِّعِ مَا يَحِلُّ لَهُ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ قَالَ كُلُّ شَيْ ءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ قُلْتُ فَالْمُفْرِدُ قَالَ كُلُّ شَيْ ءٍ إِلَّا النِّسَاءَ قَالَ ثُمَّ قَالَ وَآلُ عُمَرَ تَقُولُ الطِّيبُ وَلَا نَرَى ذَلِكَ شَيْئاً (5).

عَنْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ دَجَاجِ السِّنْدِيِّ أَتُخْرَجُ مِنَ الْحَرَمِ قَالَ نَعَمْ إِنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِالطَّيَرَانِ إِنَّهَا تَدُفُّ دَفِيفاً (6).

وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الْبَقَّةَ وَالْبَرَاغِيثَ إِذَا أَذَاهُ قَالَ نَعَمْ (7).

ص: 559


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع ، ح 15.
2- الوسائل ، الباب 2 من أبواب بقية كفارات الاحرام ، ح 2 باختلاف يسير.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب بقية كفارات الحرام ، 1 باختلاف يسير.
4- الوسائل ، الباب 32 ، من أبواب تروك الاحرام ، ح 7.
5- الوسائل ، الباب 14 من أبواب الحلق والتقصير ، ح 4.
6- الوسائل ، الباب 40 من أبواب كفارات الصيد وتوابعها ، ح 3.
7- الوسائل ، الباب 78 من أبواب تروك الاحرام ، ح 7.

عَنْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى ثَوْبٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا قَبَاءٌ فَلْيَنْكُسْهُ وَلْيَجْعَلْ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَيَلْبَسُهُ (1).

وَعَنِ الصَّرُورَةِ أَيُحِجُّهُ الرَّجُلُ مِنَ الزَّكَاةِ قَالَ نَعَمْ (2).

وَعَنِ الْمُتَمَتِّعِ كَمْ يُجْزِيهِ قَالَ شَاةٌ وَعَنِ الْمَرْأَةِ تَلْبَسُ الْحَرِيرَ قَالَ لَا (3) قُلْتُ فَرَجُلٌ طَافَ فَلَمْ يَدْرِ سَبْعاً (4) طَافَ أَمْ ثَمَانِياً قَالَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْتُ فَإِنْ طَافَ ثَمَانِيَةَ أَشْوَاطٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهَا سَبْعَةٌ قَالَ فَقَالَ إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ إِذَا طَافَ ثَمَانِيَةَ أَشْوَاطٍ ضَمَّ إِلَيْهَا سِتَّةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ يُصَلِّي الرَّكَعَاتِ بَعْدُ.

وَسُئِلَ عَنِ الرَّكَعَاتِ كَيْفَ يُصَلِّيهِنَّ أَيَجْمَعُهُنَّ أَوْ مَا ذَا قَالَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِلْفَرِيضَةِ (5) ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا رَجَعَ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ لِلْأُسْبُوعِ الْآخَرِ (6). وَعَنْهُ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ قُلْتُ لَهُ اشْتَكَى ابْنٌ لِي فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ هُوَ بَرَأَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى مَكَّةَ مَاشِياً وَخَرَجْتُ أَمْشِي حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْعَقَبَةِ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَخْطُوَ فَرَكِبْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى إِذَا أَصْبَحْتُ مَشَيْتُ حَتَّى بَلَغْتُ فَهَلْ عَلَيَّ شَيْ ءٌ قَالَ لِي اذْبَحْ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ أَيُّ (7) شَيْ ءٍ هُوَ لِي لَازِمٌ أَمْ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِي قَالَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئاً فَبَلَغَ فِيهِ مَجْهُودَهُ فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ (8).

قَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَيْضاً سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئاً فَبَلَغَ فِيهِ مَجْهُودَهُ فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ أَعْذَرَ لِعَبْدِهِ (9).

وَسُئِلَ عَمَّنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ طَوَافِ الْفَرِيضَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ وَجَدَ خَلْوَةً مِنَ .

ص: 560


1- الوسائل ، الباب 44 ، من أبواب تروك الاحرام ، ح 8.
2- الوسائل ، الباب 42 ، من أبواب المستحقين للزكاة ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 33 من أبواب الاحرام ، ح 8.
4- ل. أسبعا.
5- ل. ركعتي الفريضة.
6- الوسائل ، الباب 35 و 34 من أبواب الطواف ح 16 - 3.
7- ل. اشئ.
8- الوسائل ، الباب 34 ، من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، ح 6 ، بزيادة وكان اللّه أعذر لعبده.
9- الوسائل ، الباب 34 ، من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، ح 7.

الْبَيْتِ فَدَخَلَهُ قَالَ قَدْ نَقَضَ طَوَافَهُ وَخَالَفَ السُّنَّةَ فَلْيُعِدْهُ (1).

وَقَالَ الْحَلَبِيُّ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فَاخْتَصَرَ شَوْطاً وَاحِداً فِي الْحِجْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ يُعِيدُ ذَلِكَ الطَّوَافَ الْوَاحِدَ (2).

عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ قُلْتُ لَهُ لِمَ جُعِلَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ قَالَ إِنَّ اللّهَ حَيْثُ أَخَذَ مِيثَاقَ بَنِي آدَمَ دَعَا الْحَجَرَ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَمَرَهُ فَالْتَقَمَ الْمِيثَاقَ فَهُوَ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ بِالْوَفَاءِ.

قَالَ قُلْتُ لِمَ جُعِلَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللّهُ تَرَاءَى لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَسَعَى إِبْرَاهِيمُ مِنْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَكَانَ مَنَازِلَ الشَّيْطَانِ (3).

قَالَ قُلْتُ فَلِمَ جُعِلَتِ التَّلْبِيَةُ قَالَ لِأَنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ ) (4) فَصَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى تَلٍّ فَنَادَى فَأَسْمَعُ فَأُجِيبُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (5).

قُلْتُ فَلِمَ سُمِّيَتِ التَّرْوِيَةُ قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَاتٍ مَاءٌ وَإِنَّمَا كَانُوا يَحْمِلُونَ الْمَاءَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً تَرَوَّيْتُمْ فَسُمِّيَتِ التَّرْوِيَةَ (6).

وَقَالَ وَسَأَلْتُهُ الْمَشْيُ أَفْضَلُ أَوِ الرُّكُوبُ فَقَالَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُوسِراً فَمَشَى لِيَكُونَ أَقَلَّ لِلنَّفَقَةِ فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ (7).

وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَاشِي مَتَى يَنْقَضِي مَشْيُهُ قَالَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَلْيَرْجِعْ رَاكِباً فَقَدِ انْقَضَى مَشْيُهُ وَإِنْ مَشَى فَلَا بَأْسَ (8).

وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَخَّرَ الزِّيَارَةَ إِلَى يَوْمِ النَّفْرِ قَالَ لَا بَأْسَ وَلَا تَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ .

ص: 561


1- الوسائل ، الباب 31 من أبواب الطواف ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 13 من أبواب الطواف ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب السعي ، ح 12.
4- سورة الحج ، الآية 27.
5- الوسائل ، الباب 36 من أبواب الاحرام ، ح 1 باختلاف يسير.
6- علل الشرائع ، الباب 171 ، ج 1 ، ص 435.
7- الوسائل ، الباب 33 ، من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، ح 10 باختلاف يسير.
8- الوسائل ، الباب 35 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، ح 5.

حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ وَيَطُوفَ طَوَافَ النِّسَاءِ (1).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ طَوَافَ النِّسَاءِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ يُرْسِلُ فَيُطَافُ عَنْهُ فَإِنْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يُطَافَ عَنْهُ طَافَ عَنْهُ وَلِيُّهُ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنِ اعْتَمَرَ مِنَ التَّنْعِيمِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَنْظُرُ إِلَى الْمَسْجِدِ (2).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ) (3) قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتَخِرُونَ بِمِنًى إِذَا كَانَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَيَقُولُونَ كَانَ أَبُونَا كَذَا وَكَانَ أَبُونَا كَذَا فَيَذْكُرُونَ فَضْلَهُمْ فَقَالَ ( فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ ) قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ لَبَّدَ شَعْرَهُ أَوْ عَطَفَهُ (4) فَلَيْسَ لَهُ التَّقْصِيرُ وَعَلَيْهِ الْحَلْقُ وَمَنْ لَمْ يُلَبِّدْ فَمُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ قَصَّرَ وَإِنْ شَاءَ حَلَقَ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْحِجْرِ قَالَ إِنَّكُمْ تُسَمُّونَهُ الْحَطِيمَ وَإِنَّمَا كَانَ لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا دَفَنَ فِيهِ أُمَّهُ وَكَرِهَ أَنْ يُوطَأَ قَبْرُهَا فَحَجَّرَ عَلَيْهِ وَفِيهِ قُبُورُ أَنْبِيَاءَ قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبَرْصَاءِ قَالَ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا وَهِيَ بَرْصَاءُ إِنَّ لَهَا الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنَّ الْمَهْرَ عَلَى الَّذِي زَوَّجَهَا وَإِنَّمَا صَارَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ دَلَّسَهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ (5) دَخِيلَةَ (6) أَمْرِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ وَكَانَ الْمَهْرُ يَأْخُذُهُ مِنْهَا (7).

وَقَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ إِلَى رَجُلٍ بِنْتاً لَهُ مِنْ مَهِيرَةٍ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ دُخُولِهَا عَلَى زَوْجِهَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ ابْنَةً لَهُ أُخْرَى مِنْ أَمَةٍ قَالَ تُرَدُّ عَلَى أَبِيهَا وَتُرَدُّ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيَكُونُ مَهْرُهَا عَلَى أَبِيهَا (8).

قَالَ وَحَدَّثَنِي حَمَّادٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ .

ص: 562


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب زيارة البيت ، ح 11.
2- الوسائل ، الباب 58 ، من أبواب الطواف ، ح 11.
3- سورة البقرة ، الآية 200.
4- ل. عقصه.
5- ل. وهو لا يعرف.
6- ط دخلة.
7- الوسائل ، الباب 2 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2.
8- الوسائل ، الباب 7 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 7.

إِنَّ صَدَاقَ رَسُولِ اللّهِ (1) صلى اللّه عليه وآله كَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشّاً وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَماً وَالنَّشُّ نِصْفُ الْأُوقِيَّةِ (2).

تمت الأحاديث المنتزعة من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي.

ومن ذلك ما أورده أبان بن تغلب صاحب الباقر والصادق عليهم السلام في كتابه

قَالَ أَبَانٌ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عُرْوَةَ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام مَا تَقُولُ فِي قَتْلِ الذَّرِّ قَالَ فَقَالَ اقْتُلْهُنَّ آذَيْنَكَ أَوْ لَمْ يُؤْذِينَكَ (3).

قَالَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ الْحَلَبِيُّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ النَّمْلِ آذَيْنَكَ أَوْ لَمْ يُؤْذِينَكَ (4).

قَالَ وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مِسْمَعٍ كِرْدِينٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا الْكَلْبَ (5).

ص: 563


1- ل. صداق بنت رسول اللّه.
2- الوسائل ، الباب 4 من أبواب المهور ، ح 7. هنا تعليقة على الكتاب علقها السيد الأستاذ العلامة الحاج السيد موسى الشبيري الزنجاني دامت إفاضاته لا بأس بذكرها قال : الكتاب بقرينة إسناده ليس لأبان بن تغلب المتوفى سنة 140 أو 141، بل الكتاب لمن هو من محدثي أواسط القرن الثالث ، ولعل مؤلفه هو أبان بن محمد البجلي المعروف بسندي البزاز ابن أخت صفوان بن يحيى ، وهو يروي عن صفوان بن يحيى وعلي بن الحكم ، وكذا عن محمد بن الوليد على بعض نسخ التهذيب ، وقد روي عن هؤلاء الثلاثة هنا ، ولعل الكتاب المأخوذ منه هو نوادر أبان البجلي الذي رواه عنه جماعة منهم أحمد بن أبي عبد اللّه ومحمد بن علي بن محبوب ، وإنما خلط المؤلف ( قدس سره ) بين أبانين ، وعلى كل حال فمؤلف الكتاب ليس هو أبان بن تغلب.
3- الوسائل ، الباب 47 من أحكام الدواب ، ح 3.
4- الوسائل ، الباب 47 من أحكام الدواب ، ح 4.
5- الوسائل ، الباب 36 من أحكام الدواب ، ح 5.

قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ أَسْبَاطٍ عَنِ الْحَجَّالِ عَنْ حَمَّادٍ أَوْ دَاوُدَ شَكَّ (1) أَبُو الْحَسَنِ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَالَتْ إِنَّمَا أَبْكِي أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ غَرِيبٌ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ هُوَ بِغَرِيبٍ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ (2).

قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي الْحَرْثِ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالُوا لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ فَضَّلْتَ الْأَشْرَافَ كَانَ أَجْدَرَ أَنْ يُنَاصِحُوكَ قَالَ فَغَضِبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ الْعَدْلَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَاللّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ وَمَا رَأَيْتُ فِي السَّمَاءِ نَجْماً وَاللّهِ لَوْ كَانَ مَالِي دُونَهُمْ لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ كَيْفَ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُمْ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَثَنَاءُ الْجُهَّالِ فَإِنْ زَلَّتْ بِصَاحِبِهِ النَّعْلُ فَشَرُّ خَدِينٍ وَشَرُّ خَلِيلٍ (3).

قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ إِنَّا لَنُحِبُّ الدُّنْيَا وَلَا نُعْطَاهَا خَيْرٌ لَنَا وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا كَانَ نَقَصَ لِحَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّا لَنُحِبُّ الدُّنْيَا فَقَالَ لِي تَصْنَعُ بِهَا مَا ذَا قَالَ قُلْتُ أَتَزَوَّجُ مِنْهَا وَأَحُجُّ وَأُنْفِقُ عَلَى عِيَالِي وَأُنِيلُ إِخْوَانِي وَأَتَصَدَّقُ قَالَ لِي لَيْسَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا هَذَا مِنَ الْآخِرَةِ (4).

قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَسْبَاطٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نَجْرَانَ وَابْنُ بِنْتِ إِلْيَاسَ حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ ابْنُ بِنْتِ إِلْيَاسَ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَشَّاءُ بَعْضُ رُوَاةِ أَصْحَابِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ أَوْ عَنْ زُرَارَةَ وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ شَكٌّ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ (5) قَالَ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ .

ص: 564


1- ل. سئل.
2- البحار الطبع الحديث ، ج 47 ، ص 345 ، ح 38.
3- الوسائل ، الباب 39 ، من أبواب جهاد العدو ح 6 أورد قطعة منه مع اختلاف.
4- مستدرك الوسائل ، الباب 5 من مقدمات التجارة ، ح 3 ، مع اختلاف.
5- الظاهر أن المراد به علي بن أسباط ، فإنه المكنى بأبي الحسن.

مِنَ النَّبِيِّينَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السلام وَذَلِكَ لِمَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا (1).

عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنَّا نَأْتِي هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ فَتَسْمَعُ [ فَنَسْمَعُ ] مِنْهُمُ الْحَدِيثَ يَكُونُ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ قَالَ فَقَالَ لَا تَأْتِهِمْ وَلَا تَسْمَعْ عَنْهُمْ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَعَنَ مِلَّتَهُمُ (2) الْمُشْرِكَةَ (3).

مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَطِيَّةَ أَخِي أَبِي الْعِرَامِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ إِنَّا لَنُحِبُّ الدُّنْيَا وَلَا نُؤْتَاهَا خَيْرٌ لَنَا وَمَا أُوتِيَ عَبْدٌ مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا كَانَ أَنْقَصَ لِحَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَلَا خَمْسُونَ أَلْفاً وَلَا أَرْبَعُونَ أَلْفاً وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ ثَلَاثُونَ أَلْفاً لَقُلْتُ وَمَا جَمَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ حِلِّهَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ دَرَاهِمُ (4).

قَالَ أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِنَّ رَسُولَ اللّهِ زَوَّجَ مُنَافِقَيْنِ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ (5).

وَقَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ دُرُسْتَ عَنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْعَطَّارِ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إِنَّمَا يُحِبُّنَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَهْلُ الْبُيُوتَاتِ وَذَوُو الشَّرَفِ وَكُلُّ مَوْلُودٍ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا يُبْغِضُنَا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلُّ مُدَنَّسٍ مُطَّرِدٍ (6).

قَالَ وَحَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ أَتَى مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْأَكْبَرَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْكَذَّابَ أَرَاهُ يَكْذِبُ عَلَى اللّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَالُ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَا ابْنَ أَخِي أَتَاكَ بِهَذَا مَنْ تَصَدَّقَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ .

ص: 565


1- البحار الطبع الحديث ، ج 14 ، ص 74 ، ح 16.
2- ط. ل. مللهم.
3- الوسائل ، الباب 84 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 4 مع الاختلاف.
4- البحار ، ج 72 ، ص 66 ، ح 21.
5- الوسائل ، الباب 13 ، من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه من كتاب النكاح.
6- البحار ، ج 27 ، الباب 5 من كتاب الإمامة ، ح 14 ، ص 149.

فَارْوِ عَنِّي لَا أَقُولُ هَذَا وَأَنِّي أَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ مَنْ عِنْدَهُ دَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَامْرَأَتُهُ أَوْ سُرِّيَّتُهُ فَقَالا لَهُ إِنَّمَا أَتَاكَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بِهَذَا إِنَّهُ حَسَدَكَ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ إِلَيْكَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا تَرْوِ عَلَيَّ شَيْئاً فَإِنَّكَ إِنْ رَوَيْتَ عَلَيَّ شَيْئاً قُلْتُ لَمْ أَقُلْهُ (1).

قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا حَنَانُ بْنُ سَدِيرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّهِ أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَذُكِرَ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ قَالَ وَبَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِشَيْ ءٍ فَقَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ أَمَا إِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْهُ وَجَدْتُمُوهُ لِغَيَّةٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْكُوفَةَ سَأَلْتُ عَنْ مَنْزِلِهِ فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ فَأَتَيْنَا مَنْزِلَهُ فَإِذَا دَارٌ كَبِيرَةٌ فَسَأَلْنَا عَنْهُ فَقَالُوا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ فَدَلَّنَا عَلَيْهَا سِنِينَ كَثِيرَةً فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا وَقُلْنَا لَهَا نَسْأَلُكِ عَنْ كَثِيرٍ أَبِي إِسْمَاعِيلَ قَالَتْ وَمَا حَاجَتُكُمْ إِلَى أَنْ تَسْأَلُوا عَنْهُ قُلْتُ لِحَاجَةٍ لِعِلَّةٍ قَالَتْ لَنَا وُلِدَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ سَادِسُ سِتَّةٍ مِنَ الزِّنَاءِ (2) قال محمد بن إدريس رحمه اللّه هذا كثير النواء الذي تنتسب البترية من الزيدية إليه لأنه كان أبتر اليد.

قال محمد بن إدريس يحسن هاهنا أن يقال كان مقطوع اليد.

هَارُونُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ قَالَ قُلْتُ هَؤُلَاءِ الْمُصَابُونَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَقَالَ لِي لَا الَّذِينَ يَتَغَافَلُونَ عَمَّا يَكْرَهُونَ يَتَبَالَهُونَ عَنْهُ (3).

قَالَ حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ خَلَّادٍ عَنِ الرِّضَا قَالَ كَانَ فُلَانٌ إِذَا أُتِيَ بِمَالٍ أَخَذَ مِنْهُ وَقَالَ هَذَا لِطَوْقِ عَمْرٍو فَلَمَّا كَبِرَ عَمْرٌو قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَبِرَ عَمْرٌو عَنِ الطَّوْقِ (4).

قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَاحِيَةَ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي زُرْعَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَرَّ رَسُولُ اللّهِ بِشَفِيرِ النَّارِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ فَيَصِيحُ صَائِحٌ مِنَ النَّارِ .

ص: 566


1- البحار ، ج 42 ، الباب 120 ، من تاريخ أمير المؤمنين ، ح 17 ، ص 89.
2- البحار ، ج 47 ، الباب 33 من تاريخ الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، ح 39 ، ص 345.
3- أورد صدره في البحار ، ج 5 ، الباب 3 ، من كتاب العدل والمعاد ، ص 128.
4- البحار ، طبع كمپاني ، ج 8 ، ص 217 نحوه.

يَا رَسُولَ اللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَغِثْنِي قَالَ فَلَا يُجِيبُهُ قَالَ فَيُنَادِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثاً أَغِثْنِي فَلَا يُجِيبُهُ قَالَ فَيُنَادِي يَا حَسَنُ يَا حَسَنُ يَا حَسَنُ أَغِثْنِي قَالَ فَلَا يُجِيبُهُ قَالَ فَيُنَادِي يَا حُسَيْنُ يَا حُسَيْنُ يَا حُسَيْنُ أَغِثْنِي أَنَا قَاتِلُ أَعْدَائِكَ قَالَ فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ قَدِ احْتَجَّ عَلَيْكَ قَالَ فَيَنْفَضُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عُقَابٌ كَاسِرٌ قَالَ فَيُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ قَالَ فَقُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ وَمَنْ هَذَا جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ الْمُخْتَارُ قُلْتُ لَهُ وَلِمَ عُذِّبَ بِالنَّارِ وَقَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ قَالَ إِنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُمَا شَيْ ءٌ وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ لَوْ أَنَّ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ كَانَ فِي قبلهما [ قَلْبِهِمَا شَيْ ءٌ لَأَكَبَّهُمَا اللّهِ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمَا (1).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب أبان بن تغلب وكان جليل القدر عند الأئمة.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب جميل بن دراج

قَالَ جَمِيلٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ الصَّبِيَّةَ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَلَا يَحْمِلُ مِثْلُهَا وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوِ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ وَارْتَفَعَ طَمْثُهَا وَلَا يَلِدُ مِثْلُهَا قَالَ لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا (2).

جَمِيلٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى بَعْضِ حَاجَتِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ (3).

جَمِيلٌ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي رَجُلٍ صَادَ حَمَاماً أَهْلِيّاً قَالَ إِذَا مَلَكَ جَنَاحَهُ (4) فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ (5).

جَمِيلٌ عَنْ حُسَيْنٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ غُسْلُ يَوْمِكَ

ص: 567


1- البحار ، 45 الباب 49 من تاريخ الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ، ج 5 ، ص 339.
2- الوسائل ، الباب 2 من أبواب العدد ، ج 3.
3- الوسائل ، الباب 50 من أبواب الاحرام ، ح 11.
4- ط. جناحيه.
5- الوسائل ، الباب 37 من كتاب الصيد والذبائح ، ح 11.

يُجْزِيكَ لِلَيْلَتِكَ وَغُسْلُ لَيْلَتِكَ يُجْزِيكَ لِيَوْمِكَ (1).

جَمِيلٌ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ مُسَافِرٍ نَسِيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي السَّفَرِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلَهُ قَالَ قَالَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ.

وَقَالَ لِمَنْ نَسِيَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَهُوَ مُقِيمٌ حَتَّى يَخْرُجَ قَالَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَفَرِهِ وَقَالَ إِذَا دَخَلَ عَلَى الرَّجُلِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَفَرِهِ (2).

تمت الأحاديث المأخوذة من كتاب جميل بن دراج.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب السياري واسمه أبو عبد اللّه صاحب موسى والرضا عليه السلام

قَالَ السَّيَّارِيُّ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (3).

وَعَنْهُ عليه السلام قَالَ وَكَانَ عُثْمَانُ إِذَا أُتِيَ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْفَيْ ءِ فِيهِ ذَهَبٌ عَزَلَهُ وَقَالَ هَذَا لِطَوْقِ عَمْرٍو فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ كَبِرَ عَمْرٌو عَنِ الطَّوْقِ فَجَرَى بِهِ الْمَثَلُ (4).

قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله وَهُوَ فِي مَنْزِلِ عَائِشَةَ فَأُعْلِمَ بِمَكَانِهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ فَصَافَحَهُ وَضَحِكَ فِي وَجْهِهِ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ ثُمَّ خَرَجْتَ إِلَيْهِ فَصَافَحْتَهُ وَضَحِكْتَ فِي وَجْهِهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله إِنَّ فِي (5) أَشْرَارِ النَّاسِ مَنِ اتُّقِيَ لِسَانُهُ وَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَدْ كَنَّى اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي

ص: 568


1- الوسائل ، الباب 9 من أبواب الاحرام ، ح 6.
2- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب صلاة المسافر ، ح 13 - 14.
3- الوسائل ، الباب 5 ، من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح 8.
4- البحار ، طبع كمپاني ، ج 8 ص 217.
5- لفظا ( أن في ) ليسا في نسخة ل و ط.

الْكِتَابِ عَنِ الرَّجُلِ فَسَمَّاهُ ( فُلاناً ) وَهُوَ ذُو الْقُوَّةِ وَذُو الْعِزَّةِ فَكَيْفَ نَحْنُ (1).

أَبُو عَبْدِ اللّهِ السَّيَّارِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ ذُكِرَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام مَنْ خَرَجَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ عليه السلام لَا أَزَالُ أَنَا وَشِيعَتِي بِخَيْرٍ مَا خَرَجَ الْخَارِجِيُّ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ وَلَوَدِدْتُ أَنَّ الْخَارِجِيَّ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ خَرَجَ وَعَلَيَّ نَفَقَةُ عِيَالِهِ (2).

وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِنَّ الْكَرُوبِيِّينَ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِنَا مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ جَعَلَهُمُ اللّهُ خَلْفَ الْعَرْشِ لَوْ قُسِمَ نُورُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَكَفَاهُمْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا سَأَلَ بِهِ مَا سَأَلَ أَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْكَرُوبِيِّينَ فَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَ- ( جَعَلَهُ دَكًّا ) (3).

أَبُو عَبْدِ اللّهِ السَّيَّارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ قَالَ مَنْ شَرِبَ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ تَبَرُّكاً بِهِ خَلَقَ اللّهُ بَيْنَهُمَا مَلَكاً لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ (4).

وَقَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبْدَ مُتَفَقِّداً لِذُنُوبِ النَّاسِ نَاسِياً لِذُنُوبِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ (5).

وَقَالَ وَقُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مُتَطَبِّبٍ نَصْرَانِيٍّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَدْعُو لَهُ قَالَ نَعَمْ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ دُعَاؤُكَ (6).

وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ قَالَ مَلَكٌ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ اللّهُمَّ بَارِكْ فِي الْخَلَّالِينَ وَالْمُتَخَلِّلِينَ وَالْخَلُّ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يَدْعُو لِأَهْلِ الْبَيْتِ بِالْبَرَكَةِ (7).

فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَا الْخَلَّالُونَ وَالْمُتَخَلِّلُونَ قَالَ الَّذِينَ فِي بُيُوتِهِمُ الْخَلُّ .

ص: 569


1- مستدرك الوسائل ، ج 2 ، الباب 70 من أبواب جهاد النفس ، ح 5.
2- الوسائل ، الباب 13 ، من أبواب جهاد العدو ، ح 12.
3- الوسائل ، الباب 18 من أبواب الأشربة المباحة ، ح 2.
4- الوسائل ، الباب 18 من أبواب الأشربة المباحة ، ح 2 باختلاف يسير.
5- الوسائل ، الباب 36 من أبواب جهاد النفس ، ح 9.
6- الوسائل ، الباب 46 من أبواب الدعاء ، ح 1.
7- الوسائل ، الباب 104 من كتاب الأطعمة والأشربة ، ح 11 مع الاختلاف.

وَالَّذِينَ يَتَخَلَّلُونَ فَإِنَّ الْخَلٌالَ نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مَعَ الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ السَّمَاءِ.

قَالَ وَقَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ أَنَّ امْرَأَتَهُ نَازَعَتْهُ فَقَالَتْ لَهُ يَا سَفِلَةُ فَقَالَ لَهَا إِنْ كَانَ سَفِلَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ تَتَّبِعُ الْقُصَّاصَ وَتَمْشِي فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَتَأْتِي أَبْوَابَ السُّلْطَانِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْكَ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام لَيْسَ كَمَا قُلْتَ إِلَيَّ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ ائْتِهِ فَاسْمَعْ مَا يُفْتِيكَ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ لَا يُبَالِي بِمَا قَالَ وَمَا قِيلَ فِيكَ فَأَنْتَ سَفِلَةٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْكَ (1).

وَقَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي قَوْمٌ مِنْ مَوَالِيكَ يَجْتَمِعُونَ فَتَحْضُرُ الصَّلَاةُ فَيَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ فَيُصَلِّي جَمَاعَةً فَقَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي يَؤُمُّ بِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ طَلِبَةٌ فَلْيَفْعَلْ (2).

قَالَ وَقُلْتُ لَهُ مَرَّةً أُخْبِرْتُ (3) أَنَّ الْقَوْمَ مِنْ مَوَالِيكَ يَجْتَمِعُونَ فَتَحْضُرُ الصَّلَاةُ فَيُؤَذِّنُ بَعْضُهُمْ وَيَتَقَدَّمُهُمْ (4) أَحَدُهُمْ فَيُصَلِّي بِهِمْ فَقَالَ إِنْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ كُلُّهَا وَاحِدَةً فَلَا بَأْسَ وَمَنْ (5) لَهُمْ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ قَالَ فَدَعُوا الْإِمَامَةَ لِأَهْلِهَا (6).

وَعَنْهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا أَصَبْتَ مَعْنَى حَدِيثِنَا فَأَعْرِبْ عَنْهُ بِمَا شِئْتَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا بَأْسَ إِنْ نَقَصْتَ أَوْ زِدْتَ أَوْ قَدَّمْتَ أَوْ أَخَّرْتَ إِذَا أَصَبْتَ الْمَعْنَى وَقَالَ هَؤُلَاءِ يَأْتُونَ بِالْحَدِيثِ مُسْتَوِياً كَمَا يَسْمَعُونَهُ وَإِنَّا رُبَّمَا قَدَّمْنَا وَأَخَّرْنَا وَزِدْنَا وَنَقَصْنَا فَقَالَ ذَلِكَ ( زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) إِذَا أَصَبْتَ الْمَعْنَى فَلَا بَأْسَ (7).

وَقَالَ نَزَلَ بِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام أَضْيَافٌ فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّحِيلَ قَعَّدَ عَنْهُمْ غِلْمَانَهُ فَقَالُوا لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ لَوْ أَمَرْتَ الْغِلْمَانِ فَأَعَانُوا عَلَى رِحْلَتِنَا فَقَالَ .

ص: 570


1- الوسائل ، الباب 14 ، من أبواب كيفية الحكم ، ح 20 مع الاختلاف.
2- الوسائل ، الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 12.
3- ط. أخرى.
4- ط. ل. يتقدم.
5- ط. قال. ل. قلت ومن.
6- الوسائل: الباب 27 ، من أبواب صلاة الجماعة ، ح 4 باختلاف يسير.
7- الوسائل ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 88.

عليه السلام لَهُمْ أَمَا وَأَنْتُمْ تَرْحَلُونَ عَنَّا فَلَا (1).

قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ عليه السلام إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَلْدَةً فَهُوَ ضَيْفٌ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ حَتَّى يَرْحَلَ عَنْهُمْ وَلَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ مُضِيفِهِ لِكَيْلَا يَعْمَلُوا لَهُ الشَّيْ ءَ فَيَفْسُدَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا إِلَّا بِإِذْنِ ضَيْفِهِمْ لِئَلَّا يَحْشَمُوهُ (2) فَيَشْتَهِيَ الطَّعَامَ فَيَتْرُكَهُ لِمَكَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ نَزَلْتَ فَأَخْبَرْتُهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ إِذَا هُوَ قَدْ بَكَّرَ عَلَيَّ وَمَعَهُ خَادِمَةٌ لَهُ عَلَى رَأْسِهَا خِوَانٌ عَلَيْهِ ضُرُوبٌ مِنَ الطَّعَامِ فَقُلْتُ مَا هَذَا رَحِمَكَ اللّهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ أَلَمْ أَرْوِ لَكَ الْحَدِيثَ بِالْأَمْسِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ثُمَّ انْصَرَفَ (3).

وَقَالَ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا رَفَعُوهُ قَالَ إِنَّ أَفْضَلَ فَضَائِلِ شِيعَتِنَا أَنَّ الْعَوَاهِرَ لَمْ تَلِدْنَهُمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ وَالْمَعَادِنِ وَالْحَسَبِ الصَّحِيحِ (4).

عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ عَنْ بَشِيرٍ (5) الدَّهَّانِ عَنْ السَّكُونِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ لَا يُحِبُّنَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَهْلُ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ وَالْمَعْدِنِ وَالْحَسَبِ الصَّحِيحِ وَلَا يُبْغِضُنَا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إِلَّا كُلُّ دَنَسٍ مُلْصَقٍ (6).

وَعَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ فِي قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (7) قَالَ سُقُوطُ الشَّفَقِ (8).

وَعَنْهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مَحْمُودٍ قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَقَالَ لَهُ مَا بَالُ أَخِيكَ يَشْكُوكَ قَالَ فَقَالَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ يَشْكُونِي أَنِّي اسْتَقْصَيْتُ (8) عَلَيْهِ .

ص: 571


1- الوسائل ، الباب 62 من أبواب آداب السفر إلى الحج ، ح 1.
2- ل. يحتشموه.
3- أخرج صدره في الوسائل ، الباب 9 ، من أبواب الصوم المحرم والمكروه ، ح 1 وفي العلل أيضا ص 384. الباب 115 ، ح 2.
4- البحار ، ج 27 ، الباب 5 ، من كتاب الإمامة ، ح 15 - 16 ، ص 149.
5- ل. ياسر.
6- البحار ، ج 27 ، الباب 5 ، من كتاب الإمامة ، ح 15 - 16 ، ص 149.
7- سورة البقرة ، الآية 187. (8) الوسائل ، الباب 52 ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 8.
8- ل. بالضاد المعجمة في المواضيع الأربعة.

حَقِّي قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَاسْتَوَى جَالِساً ثُمَّ قَالَ تَرَى أَنَّكَ إِذَا اسْتَقْصَيْتَ حَقَّكَ لَمْ تُسِئْ إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ ( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) (1) أَتَرَاهُمْ خَافُوا مِنَ اللّهِ أَنْ يَظْلِمَهُمْ لَا وَاللّهِ وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَقْصِيَ عَلَيْهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ نَعَمْ مَنِ اسْتَقْصَى فَقَدْ أَسَاءَ ثَلَاثاً (2).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب السياري.

ومن ذلك ما استطرفناه من جامع البزنطي صاحب الرضا عليه السلام

قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمْسَحُ جَبْهَتَهُ مِنَ التُّرَابِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ لَا بَأْسَ (3).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ هَلْ يَقْطَعُ ذَلِكَ صَلَاتَهُ قَالَ إِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةَ وَالْتَفَتَ إِلَى خَلْفِهِ فَقَدْ قَطَعَ صَلَاتَهُ فَيُعِيدُ مَا صَلَّى وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَلَا يَقْطَعُ ذَلِكَ صَلَاتَهُ وَلَكِنْ لَا يَعُودُ (4).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ اشْتَرَى ثَوْباً مِنَ السُّوقِ لَبِيساً لَا يَدْرِي لِمَنْ كَانَ يَصْلُحُ (5) لَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ قَالَ إِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِنِ اشْتَرَاهُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ فَلَا يَلْبَسُهُ وَلَا يُصَلِّي فِيهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ (6).

وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَسْجُدُ ثُمَّ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ هَلْ (7) يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ هَلْ يَصْلُحُ (8) لَهُ ذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي الصَّلَاةِ (9).

وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ مِائَةَ آيَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي نَافِلَةٍ فَيَتَخَوَّفُ أَنْ يَضْعُفَ وَكَسِلَ هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَقْرَأَهَا وَهُوَ جَالِسٌ قَالَ لَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِمَا أَحَبَّ ثُمَّ

ص: 572


1- سورة الرعد ، الآية 21.
2- البحار ج 103 ص 152 ح 19.
3- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب السجود ، ح 5.
4- الوسائل ، الباب 3 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 8.
5- ل: يصح.
6- الوسائل ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، ح 1.
7- ل. بل.
8- ط هل يصح. ل. أيصح.
9- الوسائل ، الباب 25 ، من أبواب السجود ، ح 1.

لْيَنْصَرِفْ فَلْيَقْرَأْ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِمَّا أَرَادَ قِرَاءَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ مَكَانَ قِرَاءَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَلْيَقْرَأْ فَلَا بَأْسَ (1).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَا حَدُّهُ قَالَ إِذَا قَامَتِ الشَّمْسُ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا زَالَتْ فَصَلِّ الْفَرِيضَةَ سَاعَةَ تَزُولُ فَإِذَا زَالَتِ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تُصَلِّهِمَا وَابْدَأْ بِالْفَرِيضَةِ وَاقْضِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ.

وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَكْعَتَيِ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَ الْأَذَانِ (2).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ مَا حَدُّهُ قَالَ مَتَى أَحَبَّ وَيَقْرَأُ مَا أَحَبَّ غَيْرَ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَيَرْكَعُ وَيَقْرَأُ وَيَرْكَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ يَسْجُدُ فِي الْخَامِسَةِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ (3).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَهَلْ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ إِذَا خَتَمْتَ سُورَةً وَبَدَأْتَ بِأُخْرَى فَاقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَإِنْ قَرَأْتَ سُورَةً فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَلَا تَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ حَتَّى تَخْتِمَ السُّورَةَ وَلَا تَقُولُ سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي شَيْ ءٍ مِنْ رُكُوعِكَ إِلَّا الرَّكْعَةَ الَّتِي تَسْجُدُ فِيهَا (4).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ هَلْ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا قَضَاءٌ قَالَ إِذَا فَاتَتْكَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ قَضَاءٌ (5).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ الْغَنَمُ يَقْطَعُ مِنْ أَلَيَاتِهَا وَهِيَ أَحْيَاءٌ أَيَصْلُحُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا قَطَعَ قَالَ نَعَمْ يُذِيبُهَا وَيُسْرِجُ بِهَا وَلَا يَأْكُلُهَا وَلَا يَبِيعُهَا (6).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكْتُبُ الْمُصْحَفَ بِالْأَجْرِ قَالَ لَا بَأْسَ (7).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِرَجُلٍ فَاحْتَاجَ إِلَيْهَا هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ .

ص: 573


1- الوسائل ، الباب 60 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1 باختلاف يسير.
2- الوسائل ، الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 16 - 17.
3- قرب الاسناد ، ص 99.
4- الوسائل ، الباب 7 من أبواب صلاة الكسوف ، ح 12 - 13.
5- الوسائل ، الباب 10 ، من أبواب صلاة الكسوف ، ح 11.
6- الوسائل ، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، ح 6.
7- قرب الاسناد ، ص 115.

يَأْخُذَ مِنْهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا قَالَ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ وَيَرُدَّ (1).

قال محمد بن إدريس لا يلتفت إلى هذا الحديث ولا إلى الحديث الذي قبله بحديث لأنهما وردا في نوادر الأخبار والأدلة بخلافهما وهو الإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر غير الباغي والعادي وكذلك الإجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير إذن ملاكها فلا يرجع عما يقتضيه العلم إلى ما يقتضيه الظن وبعد هذا فأخبار الآحاد لا يجوز العمل بها على كل حال في الشرعيات على ما بيناه.

وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ مَسْجِدٌ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ أَوْ دَارِهِ هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَجْعَلَهُ كَنِيفاً قَالَ لَا بَأْسَ (2).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ فِي الْيُمْنَى؟ (3) قَالَ إِنْ شِئْتَ فِي الْيُمْنَى (4) وَإِنْ شِئْتَ فِي الشِّمَالِ (5). قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ فِيهِ الْفِضَّةُ أَيُرْكَبُ بِهِ قَالَ إِنْ كَانَ مُمَوَّهاً لَا يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهِ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ وَإِلَّا فَلَا يُرْكَبُ بِهِ (6).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ قَالَ أَمَّا مِنْ عَارِضَيْهِ فَلَا بَأْسَ وَأَمَّا مِنْ مُقَدَّمِهَا فَلَا (7).

قَالَ قَالَ عَلِيٌّ وَسَمِعْتُ أَخِي يَقُولُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَاناً حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا (8) ثَبَتَ اللّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ (9).

إِسْحَاقُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام الطَّيْرُ يَقَعُ فِي الدَّارِ فَنَصِيدُهُ وَحَوْلَنَا لِبَعْضِهِمْ حَمَامٌ فَقَالَ إِذَا مَلَكَ جَنَاحَهُ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ قَالَ قُلْتُ فَيَقَعُ عَلَيْنَا .

ص: 574


1- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الوديعة ، ح 2.
2- الوسائل ، الباب 10 من أبواب أحكام المساجد ، ح 4.
3- ل. اليمين.
4- ل. اليمين.
5- الوسائل ، الباب 48 من أبواب أحكام الملابس ، ح 6.
6- الوسائل ، الباب 67 من أبواب النجاسات ، ح 6.
7- الوسائل ، الباب 63 من أبواب آداب الحمام ، ح 5.
8- ل. إبلاغها إليه.
9- قرب الاسناد ص 122.

فَنَأْخُذُهُ وَقَدْ نَعْرِفُ لِمَنْ هُوَ قَالَ إِذَا عَرَفْتَهُ فَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ (1).

قَالَ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ الشَّعْرَ عَلَى الرَّأْسِ إِذَا طَالَ ضَعُفَ الْبَصَرُ وَذَهَبَ بِضَوْءِ نُورِهِ وَطَمَّ الشَّعْرِ يُجَلِّي الْبَصَرَ وَيَزِيدُ فِي نُورِهِ (2).

وَشَعْرَ الْجَسَدِ إِذَا طَالَ قَطَعَ مَاءَ الصُّلْبِ وَأَرْخَى الْمَفَاصِلَ وَوَرَّثَ الضَّعْفَ وَالسِّلَّ وَإِنَّ النُّورَةَ تَزِيدُ فِي مَاءِ الصُّلْبِ وَتُقَوِّي الْبَدَنَ وَتَزِيدُ فِي شَحْمِ الْكُلْيَتَيْنِ وَسَمْنِ الْبَدَنِ (3).

زُرَارَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وَأَبَا عَبْدِ اللّهِ مِنْ بَعْدِهِ عليه السلام يَقُولَانِ حَجَّ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله عِشْرِينَ حِجَّةً مُسْتَسِرَّةً مِنْهَا عَشَرَةُ حِجَجٍ أَوْ قَالَ (4) سَبْعَةٌ الْوَهْمُ مِنَ الرَّاوِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ (5).

وَقَدْ كَانَ صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ وَهُوَ مَعَ أَبِي طَالِبٍ فِي أَرْضِ بُصْرَى وَهُوَ مَوْضِعٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّجِرُ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ.

هِشَامُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْقِيَ إِلَيْكُمُ الْأُصُولَ وَعَلَيْكُمْ أَنْ تُفَرِّعُوا (6).

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرضا عليه السلام قَالَ عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ إِلَيْكُمْ وَعَلَيْكُمُ التَّفَرُّعُ (7).

سُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ مَا مِنْ شَيْ ءٍ وَلَا مِنْ آدَمِيٍّ وَلَا إِنْسِيٍّ وَلَا جِنِّيٍّ وَلَا مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ إِلَّا وَنَحْنُ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَمَا خَلَقَ اللّهُ خَلْقاً إِلَّا وَقَدْ عَرَضَ وَلَايَتَنَا عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِنَا عَلَيْهِ فَمُؤْمِنٌ بِنَا وَكَافِرٌ .

ص: 575


1- الوسائل ، الباب 37 من أبواب الصيد والذبائح ح 6.
2- الوسائل الباب 60 من أبواب آداب الحمام ، ح 9.
3- الوسائل الباب 28 من أبواب آداب الحمام ، ح 4.
4- ل. تسعة.
5- الوسائل ، الباب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، ح 33.
6- الوسائل ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 52 - 51.
7- الوسائل ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 52 - 51.

جَاحِدٌ حَتَّى ( السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ) الْآيَةَ (1).

صَدَقَةُ الْأَحْدَبُ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِذَا لَقِيتَ أَخَاكَ وَقَدِمَ مِنَ الْحَجِّ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَسَّرَ سَبِيلَكَ وَهَدَى دَلِيلَكَ وَأَقْدَمَكَ بِحَالِ عَافِيَةٍ قَدْ قَضَى الْحَجَّ وَأَعَانَ عَلَى السَّفَرِ تَقَبَّلَ اللّهُ مِنْكَ وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ نَفَقَتَكَ وَجَعَلَهَا لَكَ حِجَّةً مَبْرُورَةً وَلِذُنُوبِكَ طَهُوراً (2).

قَالَ سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام عَنِ السَّفِلَةِ فَقَالَ السَّفِلَةُ الَّذِي يَأْكُلُ فِي الْأَسْوَاقِ (3).

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ لَا لَوْمَ عَلَى مَنْ أَحَبَّ قَوْمَهُ وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً فَقُلْتُ لَهُ يَقُولُ اللّهُ ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (4) الْآيَةَ فَقَالَ لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّهُ يُبْغِضُهُ فِي اللّهِ وَلَا يَوَدُّهُ وَيَأْكُلُهُ وَلَا يُطْعِمُهُ غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ (5).

ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الْجَنَازَةَ مِنْ جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ وَهُوَ مِمَّا يَلِي يَسَارَكَ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى مُؤَخَّرِهِ وَتَدُورُ عَلَيْهِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى مُقَدَّمِهِ (6).

صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى وَدَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِنَّ لِلشَّاهِدِ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِتَصْحِيحِهَا بِكُلِّ مَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَالتَّفْسِيرِ فِي الشَّهَادَةِ مَا بِهِ يَثْبُتُ الْحَقُّ وَيَصِحُّ وَلَا يُوجَدُ هَوَادَةٌ (7) عَلَى الْحَقِّ مِثْلَ أَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْمُجَاهِدِ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ (8).

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ سَمِعْتُ مَنْ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ .

ص: 576


1- البحار ج 27 الباب 15 من كتاب الإمامة ص 46 ح 7.
2- الوسائل الباب 55 من أبواب آداب السفر ، ح 9.
3- الوسائل الباب 87 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 1.
4- سورة المجادلة ، الآية 22.
5- الوسائل ، الباب 17 من أبواب الأمر والنهي ، ح 18.
6- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الدفن ، ح 2.
7- ط. لا تؤخذ هوادة. ل. ولا يؤخذ هواده.
8- الوسائل الباب 4 من أبواب الشهادات ، ح 1 مع اختلاف في الألفاظ.

عليه السلام وَأَنَا حَاضِرٌ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ وَهَؤُلَاءِ الْقُضَاةُ لَا يَقْبَلُونَ الشَّهَادَاتِ إِلَّا عَلَى تَصْحِيحِ مَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَإِنِّي إِذَا أَقَمْتُ الشَّهَادَةَ احْتَجْتُ أَنْ أُغَيِّرَهَا بِخِلَافِ مَا أُشْهِدْتُ عَلَيْهِ وَأَزِيدُ فِي الْأَلْفَاظِ مَا لَمْ أُشْهَدْ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ فِي قَضَائِهِمْ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَا أُشْهِدْتُ عَلَيْهِ أَفَيَحِلُّ لِي ذَلِكَ فَقَالَ إِي وَاللّهِ وَلَكَ أَفْضَلُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فَصَحِّحْهَا بِكُلِّ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِمَّا يَرَوْنَ التَّصْحِيحَ بِهِ فِي قَضَائِهِمْ (1).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ بَيْعُ الشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ سُحْتٌ وَاتِّخَاذُهَا كُفْرٌ وَاللَّعِبُ بِهَا شِرْكٌ وَالسَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا مَعْصِيَةٌ وَكَبِيرَةٌ مُوبِقَةٌ وَالْخَائِضُ يَدَهُ فِيهَا كَالْخَائِضِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَلَا صَلَاةَ لَهُ حَتَّى يَغْسِلَ يَدَهُ كَمَا يَغْسِلُهَا مِنْ مَسِّ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا كَالنَّاظِرِ فِي فَرْجِ أُمِّهِ وَاللَّاهِي بِهَا وَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا فِي حَالِ مَا يُلْهَى بِهَا وَالسَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا فِي حَالَتِهِ تِلْكَ فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَمَنْ جَلَسَ عَلَى اللَّعِبِ بِهَا فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَكَانَ عَيْشُهُ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ اللَّاهِي الْمَغْرُورِ بِلَعِبِهَا فَإِنَّهُ مِنَ الْمَجَالِسِ الَّتِي قَدْ بَاءَ أَهْلُهَا ( بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ ) يَتَوَقَّعُونَهُ كُلَّ سَاعَةٍ فَيَعُمُّكَ مَعَهُمْ (2).

قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَعْدِلُ سَبْعِينَ رَكْعَةً وَمَنْ قَالَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الْأَوْصِيَاءِ الْمَرْضِيِّينَ بِأَفْضَلِ صَلَوَاتِكَ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ بِأَفْضَلِ بَرَكَاتِكَ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ كَانَ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ عَمَلِ الثَّقَلَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (3).

وَعَنْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُعَالَجُ بِالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ لِتُحَوَّلَ خَلًّا فَقَالَ لَا بَأْسَ بِمُعَالَجَتِهَا قُلْتُ فَإِنِّي عَالَجْتُهَا وَطَيَّنْتُ رَأْسَهَا ثُمَّ كَشَفْتُ .

ص: 577


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب الشهادات ، ح 2.
2- الوسائل ، الباب 103 من أبواب ما يكتسب به ، ح 3 باختلاف يسير.
3- الوسائل ، الباب 48 من أبواب صلوة الجمعة ، ح 7.

عَنْهَا فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَوَجَدْتُهَا خَمْراً أَيَحِلُّ لِي إِمْسَاكُهَا فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِنَّمَا إِرَادَتُكَ أَنْ تَتَحَوَّلَ الْخَمْرُ خَلًّا وَلَيْسَ إِرَادَتُكَ الْفَسَادَ (1).

وَعَنْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام قَالَ قَالَ عَلِيٌّ عليه السلام قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله نِعْمَ الرَّجُلُ الْفَقِيهُ فِي الدِّينِ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ نَفَعَ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ نَفَعَ نَفْسُهُ (2).

عَنْهُ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَالْبَيْتُ غَاصٌّ فَقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ (3) يُحْسِنْ صُحْبَةَ مَنْ صَحِبَهُ وَمُرَافَقَةَ مَنْ رَافَقَهُ وَمُمَالَحَةَ مَنْ مَالَحَهُ وَمُخَالَفَةَ مَنْ خَالَفَهُ (4).

وَعَنْهُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ خَرَجْنَا إِلَى مَكَّةَ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ رَجُلاً فَكُنْتُ أَذْبَحُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ شَاةً فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَقَالَ لِي يَا حُسَيْنُ وَتُذِلُّ (5) الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْتُ أَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّكَ كُنْتَ تَذْبَحُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ شَاةً فَقُلْتُ مَا أَرَدْتُ (6) إِلَّا اللّهَ فَقَالَ أَمَا كُنْتَ تَرَى أَنَّ مِنْهُمْ (7) مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ فَعْلَتَكَ فَلَا يَبْلُغُ مَقْدُرَتُهُمْ ذَلِكَ فَتَقَاصَرُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَقُلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَلَا أَعُودُ (8).

عَنْهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ فَقَالَ رَحِمَهُ اللّهُ وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ كَانَ وَاللّهِ مَأْمُوناً عَلَى الْحَدِيثِ (9).

يُونُسُ بْنُ ظَبْيَانَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَهُوَ رَمِدٌ شَدِيدُ الرَّمَدِ فَاغْتَمَمْنَا لِذَلِكَ ثُمَّ أَصْبَحْنَا مِنَ الْغَدِ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا لَا رَمَدٌ بِعَيْنِهِ وَلَا بِهِ قَلَبَةٌ فَقُلْنَا جُعِلْنَا فِدَاكَ هَلْ عَالَجْتَ عَيْنَيْكَ بِشَيْ ءٍ فَقَالَ نَعَمْ بِمَا هُوَ مِنَ الْعِلَاجِ فَقُلْنَا .

ص: 578


1- الوسائل ، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 11.
2- البحار ، ج 1 الباب 6 ح 29 ص 216.
3- ط. ليس يحسن.
4- مستدرك الوسائل ، الباب 2 من أبواب أحكام العشرة ، ح 2.
5- ل. أو تذل.
6- ط ما أردت بذلك.
7- ط. ل. ان فيهم.
8- الوسائل ، الباب 33 من أبواب آداب السفر إلى الحج ، ح 6.
9- البحار ، ج 47 الباب 33 من تاريخ الإمام جعفر الصادق عليه السلام ص 346 ح 40.

وَمَا هُوَ قَالَ عُوذَةٌ قَالَ فَكَتَبْنَاهَا وَهِيَ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِقُوَّةِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِقُدْرَةِ اللّهِ (1) وَأَعُوذُ بِعَظَمَةِ اللّهِ (2) وَأَعُوذُ بِجَلَالِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِجَمَالِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِبَهَاءِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِجَمْعِ اللّهِ قُلْنَا مَا جَمْعُ اللّهِ قَالَ بِكُلِّ اللّهِ وَأَعُوذُ بِعَفْوِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِغُفْرَانِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِرَسُولِ اللّهِ وَأَعُوذُ بِالْأَئِمَّةِ وَسَمَّى (3) وَاحِداً فَوَاحِداً ثُمَّ قَالَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ اللّهُمَّ أَنْتَ رَبُّ الطَّبَقَيْنِ (4) و (5).

وَعَنْهُ عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِنَّ مِنَ الْحِشْمَةِ عِنْدَ الْأَخِ إِذَا أَكَلَ عَلَى خِوَانِ أَخِيهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْلَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَا تَقُلْ لِأَخِيكَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ أَكَلْتَ الْيَوْمَ شَيْئاً وَلَكِنْ قَرِّبْ إِلَيْهِ مَا عِنْدَكَ فَإِنَّ الْجَوَادَ كُلَّ الْجَوَادِ مَنْ بَذَلَ مَا عِنْدَهُ (6).

قَالَ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام اتَّقُوا مَوَاقِفَ الرِّيَبِ وَلَا يُفِضْ أَحَدُكُمْ مَعَ أُمِّهِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُهَا (7).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ تَكَفَّلَ بِنَفْسِ الرَّجُلِ إِلَى أَجَلٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَعَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَماً قَالَ إِنْ جَاءَ بِهِ إِلَى أَجَلٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَالٌ وَهُوَ كَفَلَ بِنَفْسِهِ أَبَداً إِلَّا أَنْ يَبْدَأَ بِالدَّرَاهِمِ فَهُوَ لَهَا ضَامِنٌ إِنْ لَمْ يَأْتِ (8) بِهِ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ (9).

وَعَنْهُ عَنِ الْحَرْثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سِتَّةٌ لَا تَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِ الْعُسْرُ وَالنَّكَدُ وَاللَّجَاجَةُ وَالْكَذِبُ وَالْحَسَدُ وَالْبَغْيُ (10).

وَعَنْهُ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ الْكُوفِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِيهِ دُعَابَةٌ قُلْتُ وَمَا الدُّعَابَةُ قَالَ الْمِزَاحُ (11).

ص: 579


1- وبعده: أعوذ بنور اللّه في نسخة ل.
2- ط. بعصمة اللّه.
3- ل. يسمى.
4- ط الطبعين. ل. الطيبين.
5- البحار ج 95 ص 87 ح 6 و ج 75 ص 455 ح 28.
6- البحار ج 95 ص 87 ح 6 و ج 75 ص 455 ح 28.
7- الوسائل ، الباب 19 من أبواب أحكام العشرة ، ح 5.
8- ط. بها.
9- الوسائل ، الباب 10 من أبواب الضمان ، ح 2.
10- الوسائل ، الباب 49 من أبواب جهاد النفس ، ح 23.
11- الوسائل ، الباب 80 من أحكام العشرة ، ح 3.

وَعَنْهُ عَنْ عَنَانٍ مَوْلَى سَدِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ وَذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ قَالَ إِنَّ فُطْرُسَ مَلَكٌ كَانَ يُطِيفُ بِالْعَرْشِ فَتَلَكَّأَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فَقَصَّ جَنَاحَهُ وَرَمَى بِهِ عَلَى جَزِيرَةٍ (1) فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ هَبَطَ جَبْرَئِيلُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله تَهْنِئَةً (2) بِوِلَادَةِ الْحُسَيْنِ فَمَرَّ بِهِ فَعَاذَ بِجَبْرَئِيلَ فَقَالَ قَدْ بُعِثْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ أُهَنِّئُهُ بِمَوْلُودٍ وُلِدَ لَهُ فَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتُكَ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ شِئْتُ فَحَمَلَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ وَبَصْبَصَ بِإِصْبَعِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ امْسَحْ جَنَاحَكَ بِحُسَيْنٍ فَمَسَحَ جَنَاحَهُ بِحُسَيْنٍ فَعُرِجَ (3).

وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَضْمَنُ الصَّبَّاغَ وَالْقَصَّارَ وَالصَّائِغَ احْتِيَاطاً عَلَى أَمْتِعَةِ النَّاسِ وَكَانَ لَا يُضَمِّنُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالشَّيْ ءِ الْغَالِبِ (4).

فَإِذَا غَرِقَتِ السَّفِينَةُ وَمَا فِيهَا فَأَصَابَهُ النَّاسُ فَمَا قَذَفَ بِهِ الْبَحْرُ عَلَى سَاحِلِهِ فَهُوَ لِأَهْلِهِ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَمَا قَاصَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَأَخْرِجُوهُ وَقَدْ تَرَكَهُ صَاحِبُهُ فَهُوَ لَهُمْ (5).

وَعَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْبَصْرِيِّ قَالَ نَزَلَ بِنَا أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام بِالْبَصْرَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ فَوْقَ سَطْحٍ مِنْ سُطُوحِنَا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ اللّهُمَّ الْعَنِ الْفَاسِقَ بْنَ الْفَاسِقِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قُلْتُ لَهُ أَصْلَحَكَ اللّهُ مَنْ هَذَا الَّذِي لَعَنْتَهُ فِي سُجُودِكَ فَقَالَ هَذَا يُونُسُ مَوْلَى ابْنِ يَقْطِينٍ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُ قَدْ أَضَلَّ خَلْقاً مِنْ مَوَالِيكَ إِنَّهُ كَانَ يُفْتِيهِمْ عَنْ آبَائِكَ عليهم السلام أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ فَقَالَ كَذَبَ لَعَنَهُ اللّهُ عَلَى أَبِي أَوْ قَالَ عَلَى آبَائِي وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ عَبْدٍ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ (6).

ص: 580


1- ط. ل. جزيرة من جزاير البحر.
2- ج. ل. يهنيه.
3- البحار ، ج 43 ، الباب 11 من تاريخ الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام ، ص 250 ، ح 27.
4- الوسائل ، الباب 29 ، من أبواب الإجارة ، ح 6.
5- الوسائل ، الباب 11 من أبواب اللفظة ، ح 1.
6- الوسائل ، الباب 38 ، من أبواب الوقت ، ح 14 ، باختلاف يسير.

وَعَنْهُ عَنْهُمْ عليهم السلام مَنْ لَبِسَ سَرَاوِيلَهُ مِنْ قِيَامٍ لَمْ تُقْضَ لَهُ حَاجَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (1).

تمت الأحاديث المنتزعة من جامع البزنطي.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال

ومكاتباتهم مولانا (2) أبا الحسن

علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام والأجوبة عن (3) ذلك.

رِوَايَةُ أَبِي عَبْدِ اللّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبَّاسٍ (4) الْجَوْهَرِيِّ وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ مَسَائِلِ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَاتِبْ فُلَاناً وَقُلْ لَهُ إِنَّ اللّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً إِذَا عُوتِبَ قَبِلَ (5).

أَيُّوبُ بْنُ نُوحٍ قَالَ كَتَبَ مَعِي بِشْرُ بْنُ بَشَّارٍ جُعِلْتُ فِدَاكَ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ فَارَقَهَا مَتَى يَجِبُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ فَكَتَبَ لَهُ إِذَا صَارَ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَهُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَلَهُ (6).

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ قُلْنَا (7) لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَوْتِ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام إِنَّ رَجُلاً مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى بِحِجَّةٍ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَقَالَ (8) بَعْضُهُمْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنَ الْوَقْتِ فَهُوَ أَوْفَرُ لِلشَّيْ ءِ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ فَقَالَ عليه السلام يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ (9).

ص: 581


1- الوسائل ، الباب 68 ، من أبواب أحكام الملابس ، ح 5.
2- ط. إلى مولانا.
3- ل. من ذلك.
4- ل. عياش.
5- الوسائل ، الباب 7 من أبواب أحكام العشرة ، ح 9.
6- الوسائل ، الباب 81 ، من أبواب أحكام الأولاد ، ح 7.
7- ل. قلت.
8- ل. فقال.
9- الوسائل ، الباب 2 ، من أبواب النيابة في الحج ، ح 9.

مِنْ مَسَائِلِ عَلِيِّ بْنِ الرَّيَّانِ (1) وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يَكُونُ فِي الدَّارِ تَمْنَعُهُ حِيطَانُهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى حُمْرَةِ الْمَغْرِبِ وَمَعْرِفَةِ (2) مَغِيبِ الشَّفَقِ وَوَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ مَتَى يُصَلِّيهَا وَكَيْفَ يَصْنَعُ فَوَقَّعَ يُصَلِّيهَا إِنْ كَانَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ اشْتِبَاكِ النُّجُومِ وَالْمَغْرِبَ عِنْدَ قَصْرِ النُّجُومِ وَبَيَاضِ مَغِيبِ الشَّمْسِ (3).

وَمِنْ مَسَائِلِ دَاوُدَ الصَّرْمِيِّ قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَفْضَلُ فَقَالَ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه وآله (4).

قَالَ وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ بَشَّارٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْفَنَكِ وَالْفِرَاءِ وَالسَّمُّورِ وَالسِّنْجَابِ وَالْحَوَاصِلِ الَّتِي تَصْطَادُ (5) بِبِلَادِ الشِّرْكِ أَوْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَيُصَلَّى فِيهَا بِغَيْرِ تَقِيَّةٍ قَالَ صَلِّ فِي السِّنْجَابِ وَالْحَوَاصِلِ الْخُوارَزْمِيَّةِ فِي الثَّعَالِبِ وَالسَّمُّورِ (6).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عليه السلام عَنْ زِيَارَةِ الْحُسَيْنِ عليه السلام وَزِيَارَةِ آبَائِهِ عليهم السلام فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَنُسَافِرُ وَنَزُورُهُمْ فَقَالَ لِرَمَضَانَ مِنَ الْفَضْلِ وَعَظِيمِ الْأَجْرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ فَإِذَا دَخَلَ فَهُوَ الْمَأْثُورُ الصِّيَامُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ قَضَائِهِ وَإِذَا حَضَرَ رَمَضَانُ فَهُوَ مَأْثُورٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ (7) مَأْثُوراً (8).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ بُسْتَاناً أَيَأْكُلُ مِنَ الثَّمَرَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِ الْبُسْتَانِ فَقَالَ نَعَمْ (9).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ عَبْدٍ كَانَتْ تَحْتَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةٌ ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ آبِقٌ تُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ مِنْ أَجْلِ إِبَاقِهِ قَالَ نَعَمْ إِنْ أَرَادَتْ ذَلِكَ هِيَ قَالَ وَقَالَ لِي يَا دَاوُدُ لَوْ قُلْتُ لَكَ إِنَّ .

ص: 582


1- ل. السري.
2- ل. ووقت.
3- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب المواقيت ، ح 1.
4- الوسائل ، الباب 53 ، من أبواب أحكام المساجد ، ح 8.
5- ل. تصاد.
6- الوسائل ، الباب 3 من أبواب لباس المصلي ، ح 4.
7- ط. مأثورا.
8- الوسائل ، الباب 91 من أبواب المرار ، ح 2.
9- الوسائل ، الباب 8 ، من أبواب بيع التمار ، ح 11.

تَارِكَ التَّقِيَّةِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ لَكُنْتُ صَادِقاً (1).

عَلِيُّ بْنُ مَهْزِيَارَ قَالَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلُهُ عَنِ امْرَأَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَغَيْرَ وَلَدِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ وَهِيَ تُرْضِعُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهَا وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ أَتُرْضِعُ وَتُفْطِرُ وَتَقْضِي صِيَامَهَا إِذَا أَمْكَنَهَا أَوْ تَدَعُ الرَّضَاعَ وَتَصُومُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهَا اتِّخَاذُ مَنْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا فَكَيْفَ تَصْنَعُ فَكَتَبَ إِنْ كَانَتْ مِمَّا (2) يُمْكِنُهَا اتِّخَاذُ ظِئْرٍ اسْتَرْضَعَتْ لِوَلَدِهَا وَأَتَمَّتْ صِيَامَهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهَا أَفْطَرَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا وَقَضَتْ صِيَامَهَا مَتَى مَا أَمْكَنَهَا (3).

مَسَائِلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ (4) وَمُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى قَالَ كَتَبْتُ إِلَى الشَّيْخِ أَعَزَّهُ اللّهُ وَأَيَّدَهُ أَسْأَلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَبَرِ أَيْ أَصْوَافِهِ (5) أَصَلَحَ فَأَجَابَ لَا أُحِبُّ الصَّلَاةَ فِي شَيْ ءٍ مِنْهُ قَالَ فَرَدَدْتُ الْجَوَابَ أَنَا مَعَ قَوْمٍ فِي تَقِيَّةٍ وَبِلَادُنَا بِلَادٌ لَا يُمْكِنُ أَحَداً أَنْ يُسَافِرَ مِنْهُ (6) بِلَا وَبَرٍ وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ هُوَ نَزَعَ وَبَرَهُ فَلَيْسَ يُمْكِنُ النَّاسَ كُلَّهُمْ مَا يُمْكِنُ الْأَئِمَّةَ فَمَا الَّذِي تَرَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ فَرَجَعَ الْجَوَابُ تَلْبَسُ (7) الْفَنَكَ وَالسَّمُّورَ (8).

قَالَ وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلُهُ عَنِ النَّاصِبِ هَلْ أَحْتَاجُ فِي امْتِحَانِهِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ تَقْدِيمِهِ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ وَاعْتِقَادِ إِمَامَتِهِمَا فَرَجَعَ الْجَوَابُ مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا فَهُوَ نَاصِبٌ (9).

قَالَ وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلُهُ عَنِ الْعَمَلِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَأَخَذَ مَا أَتَمَكَّنُ (10) مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَلْ فِيهِ رُخْصَةٌ وَكَيْفَ الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَا كَانَ الْمَدْخَلُ فِيهِ بِالْجَبْرِ وَالْقَهْرِ فَاللّهُ قَابِلُ الْعُذْرِ وَمَا خَلَا ذَلِكَ فَمَكْرُوهٌ وَلَا مَحَالَةَ قَلِيلُهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِهِ .

ص: 583


1- الوسائل ، الباب 24 ، من أبواب الأمر والنهي ، ح 26.
2- ط. ل. ممن.
3- الوسائل ، الباب 17 ، من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 3.
4- ط. ل. أحمد بن محمد بن زياد.
5- ل. في أي أصنافه.
6- ط. منها. ل فيه.
7- ط. إلى بلبس.
8- الوسائل ، الباب 4 من أبواب لباس المصلي ، ح 3.
9- الوسائل ، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ح 14.
10- ط. ما يمكن.

وَمَا يُكَفِّرُ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مَنْ يَرْزُقُهُ وَيُسَبَّبُ عَلَى يَدَيْهِ مَا يَشْرَكُ (1) فِينَا وَفِي مَوَالِينَا قَالَ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي جَوَابِ ذَلِكَ أُعْلِمُهُ أَنَّ مَذْهَبِي فِي الدُّخُولِ فِي أَمْرِهِمْ وُجُودُ السَّبِيلِ إِلَى إِدْخَالِ الْمَكْرُوهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَانْبِسَاطِ الْيَدِ فِي التَّشَفِّي مِنْهُمْ بِشَيْ ءٍ أَنْ يَقْرُبَ (2) بِهِ إِلَيْهِمْ فَأَجَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَدْخَلُهُ فِي الْعَمَلِ حَرَاماً بَلْ أَجْراً وَثَوَاباً (3).

قَالَ وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَقْعُدُونَ فِي الطُّرُقَاتِ مِنَ الْجَزَائِرَةِ وَالسَّائِسِينَ وَغَيْرِهِمْ هَلْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ مَذْهَبَهُمْ فَأَجَابَ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى نَاصِبٍ فَصَدَقَتُهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ لَكِنْ عَلَى مَنْ تَعْرِفُ (4) مَذْهَبَهُ وَحَالَهُ فَذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْبَرُ (5) وَمِنْ بُعْدٍ فَمَنْ تَرَفَّقْتَ عَلَيْهِ وَرَحِمْتَهُ وَلَمْ يُمْكِنِ (6) اسْتِعْلَامُ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ بَأْسٌ إِنْ شَاءَ اللّهُ (7).

وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ عِنْدَنَا طَبِيخٌ يُجْعَلُ فِيهِ الْحِصْرِمُ وَرُبَّمَا جَعَلَ فِيهِ الْعَصِيرُ مِنَ الْعِنَبِ وَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُطْبَخُ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ فِي الْعَصِيرِ أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ عَلَى النَّارِ لَمْ يُشْرَبْ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ وَأَنَّ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْقِدْرِ مِنَ الْعَصِيرِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ وَقَدِ اجْتَنَبُوا أَكْلَهُ إِلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ مَوْلَانَا فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ بِخَطِّهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ (8).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا عَنْ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ صلوات اللّه عليهم قَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيهِ كَيْفَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِ أَوِ الرَّدُّ إِلَيْكَ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ فَكَتَبَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَوْلُنَا فَالْزِمُوهُ (9) وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَرُدُّوهُ إِلَيْنَا (10).

وَعَنْهُ عَنْ طَاهِرٍ قَالَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ مَالاً يَبِيعُهُ بِهِ شَيْئاً بِعِشْرِينَ دِرْهَماً ثُمَّ يَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَا (11) يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْ ءٌ فَيَبِيعُهُ شَيْئاً .

ص: 584


1- ط. ما يسرك.
2- ل. ان اتقرب.
3- الوسائل ، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به ، ح 9.
4- ل. لا يعرف.
5- ل. أكثر.
6- ط. لم تمكن.
7- الوسائل ، الباب 21 من أبواب الصدقة ، ح 8.
8- الوسائل ، الباب 4 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 1.
9- ط. فالتزموه.
10- الوسائل ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 36.
11- ل. ولا يكون.

آخَرَ فَأَجَابَنِي مَا تَبَايَعَهُ النَّاسُ حَلَالٌ وَمَا لَمْ يَتَبَايَعُوهُ فَرِبًا (1).

تمت الأخبار المنتزعة من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني

بالحاء غير المعجمة والراء غير المعجمة والراء المعجمة وهو من أجلة المشيخة.

قَالَ وَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً فَافْعَلْ سِتّاً بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَسِتّاً قَبْلَ الزَّوَالِ إِذَا تَعَالَتِ الشَّمْسُ وَافْصِلْ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ نَوَافِلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَسِتَّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْجُمُعَةِ (2).

وَقَالَ زُرَارَةُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام لَا تَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ الْمَفْرُوضَاتِ شَيْئاً إِمَاماً كُنْتَ أَوْ غَيْرَ إِمَامٍ قُلْتُ فَمَا أَقُولُ فِيهِمَا قَالَ إِنْ كُنْتَ إِمَاماً فَقُلْ سُبْحَانَ اللّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تُكَبِّرُ وَتَرْكَعُ (3).

وَإِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَلَا تَقْرَأُ شَيْئاً فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ وَلَا تَقُولَنَّ شَيْئاً فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (4) وَالْأُخْرَيَانِ تَبَعُ الْأُولَيَيْنِ (5) (6).

قَالَ زُرَارَةُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام كَانَ الَّذِي فَرَضَ اللّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الصَّلَاةِ عَشْراً فَزَادَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله سَبْعاً وَفِيهِنَّ السَّهْوُ وَلَيْسَ فِيهِنَّ

ص: 585


1- الوسائل ، الباب 20 ، من أبواب الربا ح 3 ، باختلاف يسير.
2- الوسائل ، الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 18.
3- الوسائل ، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1 باختلاف يسير.
4- سورة الأعراف ، الآية 204.
5- ل. والأخيرتان تبعا الأولتين.
6- الوسائل ، الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 3.

قِرَاءَةٌ فَمَنْ شَكَّ فِي الْأَوَّلَتَيْنِ أَعَادَ حَتَّى يَحْفَظَ وَيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ وَمَنْ شَكَّ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ عَمِلَ بِالْوَهْمِ (1).

قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام الْقُنُوتُ كُلُّهُ جِهَارٌ قَالَ قُلْتُ أَرَأَيْتَ مَنْ قَدِمَ بَلْدَةً مَتَى يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّراً أَوْ مَتَى يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتِمَّ قَالَ إِذَا دَخَلْتَ أَرْضاً فَأَيْقَنْتَ أَنَّ لَكَ فِيهَا مُقَامَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ تَدْرِ مَا مُقَامُكَ بِهَا تَقُولُ غَداً أَخْرُجُ (2) وَبَعْدَ غَدٍ فَقَصِّرْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ شَهْرٌ فَإِذَا تَمَّ شَهْرٌ فَأَتْمِمِ الصَّلَاةَ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ سَاعَتِكَ فَأَتْمِمْ (3).

قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَبَداً أَفْضَلُ فَتَعَجَّلِ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْتَ وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا دَامَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِنْ قَلَّ (4).

قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام لَا تُصَلِّ مِنَ النَّافِلَةِ شَيْئاً فِي وَقْتِ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّهُ لَا تُقْضَى نَافِلَةٌ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ فَرِيضَةٍ فَابْدَأْ بِالْفَرِيضَةِ (5).

وَقَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَدَمَانِ وَالْأَرْبَعُ (6) وَالذِّرَاعُ وَالذِّرَاعَانِ وَقْتاً لِمَكَانِ النَّافِلَةِ (7).

قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام لَا تَقْرِنَنَّ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الْفَرِيضَةِ فِي رَكْعَةٍ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ (8).

وَقَالَ لَا بَأْسَ بِالْإِقْعَاءِ فِيمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَلَا يَنْبَغِي الْإِقْعَاءُ فِي مَوْضِعِ التَّشَهُّدَيْنِ إِنَّمَا التَّشَهُّدُ فِي الْجُلُوسِ وَلَيْسَ الْمُقْعِي بِجَالِسٍ (9).

قَالَ وَقَالَ قُلْتُ لَهُ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُبَالَةَ صَاحِبِهِ قَالَ .

ص: 586


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 2.
2- ل. أو بعد.
3- الوسائل ، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر ، ح 9.
4- الوسائل ، الباب 27 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 11.
5- الوسائل ، الباب 35 من أبواب المواقيت ، ح 8.
6- ل. القدمان والذراع.
7- الوسائل ، الباب 8 من أبواب المواقيت ، ح 35.
8- الوسائل ، الباب 18 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 11.
9- الوسائل ، الباب 1 من أبواب التشهد ، ح 1.

نَعَمْ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرُ مَوْضِعِ رَجُلٍ (1).

قَالَ وَقَالَ زُرَارَةُ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُوَاقِفُ عَلَى وُضُوءٍ كَيْفَ يَصْنَعُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ قَالَ يَتَيَمَّمُ مِنْ لِبْدِ دَابَّتِهِ أَوْ سَرْجِهِ أَوْ مَعْرَفَةِ دَابَّتِهِ فَإِنَّ فِيهَا غُبَاراً (2).

قَالَ وَقَالَ زُرَارَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لَا قِرَانَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَلَا قِرَانَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ (3) فِي فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ وَلَا قِرَانَ بَيْنَ صَوْمَيْنِ وَلَا قِرَانَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ وَلَا قِرَانَ بَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ (4).

وَعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ يَغْفِرُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ خَلْقِهِ بِقَدْرِ شَعْرِ مَعْزِ بَنِي كَلْبٍ (5).

قَالَ وَقُلْتُ لَهُ رَجُلٌ بَالَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَاءٌ قَالَ يَعْصِرُ أَصْلَ ذَكَرِهِ إِلَى طَرَفِهِ ثَلَاثَ عَصَرَاتٍ وَيَنْتُرُ طَرَفَهُ فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْ ءٌ فَلَيْسَ (6) مِنَ الْبَوْلِ وَلَكِنَّهُ مِنَ الْحَبَائِلِ (7).

قَالَ وَقَالَ زُرَارَةُ قُلْتُ لَهُ الْمَرْأَةُ تُصَلِّي حِيَالَ زَوْجِهَا قَالَ تُصَلِّي بِإِزَاءِ الرَّجُلِ إِذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ مَا لَا يُتَخَطَّى أَوْ قَدْرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ فَصَاعِداً (8).

قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام وَإِنْ صَلَّى قَوْمٌ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا لَا يُتَخَطَّى فَلَيْسَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَهُمْ إِمَاماً (9).

قَالَ وَحَدَّثَنِي الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ قَالَ لِي يَا فُضَيْلُ بَلِّغْ مَنْ لَقِيتَ مِنْ مَوَالِينَا عَنَّا (10) السَّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ إِنِّي أَقُولُ إِنِّي لَا أُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً .

ص: 587


1- الوسائل ، الباب 5 من أبواب مكان المصلي ، ح 12.
2- الوسائل ، الباب 9 من أبواب التيمم ، ح 1.
3- في هامش النسخة ( سبوعين بخطه ).
4- الوسائل ، الباب 8 من أبواب القراءة و 36 من الطواف و 4 من الصوم المحرم و 3 من أبواب تكبيرة الاحرام ، ح 2.
5- الفقيه: ج 2 ص 94 باب ثواب صوم شهر شعبان ح 1830 وفيه عن زرارة عن أبي جعفر.
6- ط. فليس عليه ، ل. فليس الذي عليه.
7- الوسائل ، الباب 11 من أبواب أحكام الخلوة ، ح 2.
8- الوسائل ، الباب 5 من أبواب مكان المصلي ، ح 13.
9- الوسائل ، الباب 62 من أبواب الجماعة ، ح 4.
10- ل. عني.

إِلَّا بِوَرَعٍ فَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللّهَ يَقُولُ (1) ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ ) (2) (3).

قَالَ وَقَالَ إِنَّمَا فَرَضَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ صَلَاةٍ رَكْعَتَيْنِ وَزَادَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله سَبْعاً وَفِيهِنَّ الْوَهْمُ وَلَيْسَ فِيهِنَّ قِرَاءَةٌ (4).

قَالَ وَقَالَ الْفُضَيْلُ وَزُرَارَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قُلْنَا لَهُ أَيُجْزِي إِذَا اغْتَسَلْتَ بَعْدَ الْفَجْرِ لِلْجُمُعَةِ فَقَالَ نَعَمْ (5).

وَقَالَ زُرَارَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام إِذَا اغْتَسَلْتَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَكَ غُسْلُكَ ذَلِكَ لِلْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ وَعَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ وَالزِّيَارَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لِلَّهِ عَلَيْكَ حُقُوقٌ أَجْزَأَهَا عَنْكَ غُسْلٌ وَاحِدٌ قَالَ زُرَارَةُ قَالَ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يُجْزِيهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ لِجَنَابَتِهَا وَإِحْرَامِهَا وَجُمُعَتِهَا وَغُسْلِهَا مِنْ حَيْضِهَا وَعِيدِهَا (6).

قَالَ وَقَالَ زُرَارَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَإِذَا جَاءَ يَقِينٌ بَعْدَ حَائِلٍ قَضَاهُ وَمَضَى عَلَى الْيَقِينِ وَيَقْضِي الْحَائِلَ وَالشَّكَّ جَمِيعاً فَإِنْ شَكَّ فِي الظُّهْرِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ قَضَاهَا وَإِنْ دَخَلَهُ الشَّكُّ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ فَقَدْ مَضَتْ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِنَ لِأَنَّ الْعَصْرَ حَائِلٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ فَلَا يَدَعُ الْحَائِلَ لِمَا كَانَ مِنَ الشَّكِّ إِلَّا بِيَقِينٍ (7).

قَالَ وَقَالَ ابْنُ مُسْلِمٍ وَزُرَارَةُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صلوات اللّه عليه يَقُولُ مَنْ قَرَأَ خَلْفَ إِمَامٍ يَأْتَمُّ بِهِ فَمَاتَ بُعِثَ عَلَى غَيْرِ فِطْرَةٍ (8) (9).

ص: 588


1- ل. تعالى قال.
2- سورة البقرة الآية 45.
3- الوسائل ، الباب 119 من أبواب أحكام العشرة ، ح 22 ، باختلاف يسير.
4- الوسائل ، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 6 باختلاف يسير.
5- الوسائل ، الباب 11 من أبواب الأغسال المسنونة ، ح 1.
6- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ح 1.
7- الوسائل ، الباب 60 من أبواب المواقيت ، ح 2.
8- ل. على فطرة.
9- الوسائل ، الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 4.

تمت الأخبار المنتزعة من كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني رحمه اللّه وكتاب حريز أصل معتمد معول عليه.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المشيخة تصنيف الحسن بن محبوب السراد

صاحب الرضا عليه السلام وهو ثقة عند أصحابنا جليل القدر

كثير الرواية

أحد الأركان الأربعة في عصره

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجِبَالِ عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ مَالاً مِنْ أَعْمَالِ السُّلْطَانِ فَهُوَ يَتَصَدَّقُ مِنْهُ وَيَصِلُ قَرَابَتَهُ وَيَحُجُّ (1) لِيُغْفَرَ لَهُ مَا اكْتَسَبَ وَهُوَ يَقُولُ ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) قَالَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنَّ الْخَطِيئَةَ لَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ وَلَكِنَّ الْحَسَنَةَ تَحُطُّ الْخَطِيئَةَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنْ كَانَ خَلَطَ الْحَرَامَ حَلَالاً فَاخْتَلَطَ جَمِيعاً فَلَمْ يَعْرِفِ الْحَرَامَ مِنَ الْحَلَالِ فَلَا بَأْسَ (2).

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَحَدَهُمَا عليهما السلام عَنْ شِرَاءِ الْجِنَايَةِ (3) وَالسَّرِقَةِ قَالَ فَقَالَ لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَشْتَرِيهِ مِنْ مَتَاعِ السُّلْطَانِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ (4).

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُزَارِعُ بِبَذْرِهِ مِائَةَ جَرِيبٍ مِنَ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُزْرَعُ ثُمَّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَقُولُ لَهُ خُذْ مِنِّي نِصْفَ بَذْرِكَ وَنِصْفَ نَفَقَتِكَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَأُشَارِكُكَ قَالَ

ص: 589


1- ل. ويحج ويعطي الفقراء.
2- الوسائل ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2 ، باختلاف يسير.
3- ل. ط. الخيانة.
4- الوسائل ، الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 4.

لَا بَأْسَ بِذَلِكَ (1).

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبُنِّ نَجِدُهُ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي الرُّومِ أَنَأْكُلُهُ قَالَ فَقَالَ أَمَّا مَا عَلِمْتَ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ خَالَطَهُ الْحَرَامُ فَلَا تَأْكُلْهُ وَأَمَّا مَا لَمْ تَعْلَمْ فَكُلْهُ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ (2).

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْعُدَّةُ لِلْحَرْبِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ (3) أَيَبِيعُهَا وَيَنْفَعُهَا عَلَى عِيَالِهِ أَوْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ فَقَالَ يَبِيعُهَا وَيُنْفِقُهَا عَلَى عِيَالِهِ (4).

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ مِنَّا يَكُونُ عِنْدَهُ الشَّيْ ءُ يَتَبَلَّغُ (5) بِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَيُطْعِمُهُ عِيَالَهُ (6) حَتَّى يَأْتِيَهُ بِمَيْسَرَةٍ يَنْقَضِي (7) دَيْنَهُ أَوْ يَسْتَقْرِضُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي جَذَبِ (8) الزَّمَانِ وَشِدَّةِ الْمَكَاسِبِ أَوْ يَقْضِي بِمَا عِنْدَهُ دَيْنَهُ وَيَقْبَلُ الصَّدَقَةَ قَالَ يَقْضِي بِمَا عِنْدَهُ وَيَقْبَلُ الصَّدَقَةَ قَالَ لَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلَّا وَعِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ إِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) وَقَالَ مَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ إِلَّا وَعِنْدَهُ وَفَاءٌ بِذَلِكَ إِمَّا فِي عَقْدَةٍ أَوْ فِي تِجَارَةٍ وَلَوْ طَافَ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ فَيُزَوِّدُونَهُ بِاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ يَقْضِي دَيْنَهُ عَنْهُ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَيِّتٌ يَمُوتُ إِلَّا جَعَلَ اللّهُ لَهُ وَلِيّاً يَقُومُ فِي دَيْنِهِ فَيَقْضِي عَنْهُ دَيْنَهُ (9).

قَالَ قَالَ ابْنُ سِنَانٍ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَعُقْدَتِهِ قَالَ هُوَ التَّلْبِيَةُ إِذَا لَبَّى وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ (10).

ص: 590


1- الوسائل ، الباب 13 من أبواب المزارعة والمساقاة ، ح 1 ، باختلاف يسير.
2- الوسائل ، الباب 64 ، من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 1.
3- ل. يحتاج.
4- الوسائل ، الباب 10 من أبواب المستحقين للزكاة ، ح 1.
5- ل. يتبايع.
6- ل. على عياله.
7- ل. تنقضي دينه.
8- ل. جدب.
9- سورة النساء الآية 29. 9. ط. فيردونه.
10- الوسائل ، الباب 47 ، من أبواب المستحقين للزكاة ح 1. 10. الوسائل ، الباب 14 من أبواب الاحرام ، ح 15.

جَمِيلُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ أَمَا وَاللّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَأَكْتَمُهُمْ لِحَدِيثِنَا وَإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالاً وَأَمْقَتَهُمْ إِلَيَّ الَّذِي إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَعْقِلْهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ بِقَلْبِهِ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ وَبِمَنْ دَانَ بِهِ (1)وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وَإِلَيْنَا أُسْنِدَ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً مِنْ وَلَايَتِنَا (2).

قَالَ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي خَلَفٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ وُلْدِهِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ أَنْ يَرَاكَ اللّهُ تَعَالَى فِي مَعْصِيَةٍ نَهَاكَ عَنْهَا وَإِيَّاكَ أَنْ يَفْقِدَكَ اللّهُ تَعَالَى عِنْدَ طَاعَةٍ (3) أَمَرَكَ بِهَا وَعَلَيْكَ بِالْجِدِّ وَلَا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَةِ اللّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ فَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى لَا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَإِيَّاكَ وَالْمِزَاحَ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِنُورِ إِيمَانِكَ وَيَسْتَخِفُّ (4) مُرُوَّتَكَ وَإِيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْكَسَلَ فَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِكَ حَظَّكَ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (5).

إِبْرَاهِيمُ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله ثَلَاثَةٌ مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ الْمُتَغَوِّطُ فِي ظِلِّ النُّزَّالِ وَالْمَانِعُ الْمَاءَ الْمُنْتَابَ وَسَادُّ الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ (6).

أَبُو أَيُّوبَ الْخَرَّازُ (7) بِالرَّاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ لَا دِينَ لِمَنْ دَانَ بِطَاعَةِ مَنْ يَعْصِي اللّهَ وَلَا دِينَ لِمَنْ دَانَ بِفِرْيَةِ بَاطِلٍ عَلَى اللّهِ تَعَالَى وَلَا دِينَ لِمَنْ دَانَ بِجُحُودِ شَيْ ءٍ مِنْ آيَاتِ اللّهِ تَعَالَى (8).

قَالَ ابْنُ مَحْبُوبٍ فِي كِتَابِهِ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مِنَ الْمَدِينَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَدَخَلَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ .

ص: 591


1- ط. ل. كفر بمن دان به.
2- الوسائل ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 39.
3- ط. عن طاعة.
4- في الهامش: ( خطة ويسخف ).
5- الوسائل ، الباب 66 ، من أبواب أحكام الخلوة ، ح 4.
6- الوسائل ، الباب 15 ، من أبواب أحكام الخلوة ، ح 4.
7- ل. خرار.
8- البحار: ج 72 ص 123 ح 20.

عَقَبَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا (1).

ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِنْ رَأَيْتَ فِي ثَوْبِكَ دَماً وَأَنْتَ تُصَلِّي وَلَمْ تَكُنْ رَأَيْتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَتِمَّ صَلَاتَكَ فَإِذَا انْصَرَفْتَ فَاغْسِلْهُ قَالَ وَإِنْ كُنْتَ رَأَيْتَهُ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ فَلَمْ تَغْسِلْهُ ثُمَّ رَأَيْتَهُ بَعْدُ وَأَنْتَ فِي صَلَاتِكَ فَانْصَرِفْ فَاغْسِلْهُ وَأَعِدْ صَلَاتَكَ (2).

ابْنِ سِنَانٍ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ مَنْ سَبَّحَ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ عليها السلام مِنْكُمْ قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَهُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ غُفِرَ لَهُ (3).

قَالَ وَسَأَلْتُهُ أَنَّ لِي جِيرَاناً بَعْضُهُمْ يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ وَبَعْضُهُمْ لَا يَعْرِفُ وَقَدْ سَأَلُونِي أُؤَذِّنُ لَهُمْ وَأُصَلِّي بِهِمْ فَخِفْتُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُوَسَّعاً لِي فَقَالَ أَذِّنْ لَهُمْ وَصَلِّ بِهِمْ وَتَحَرَّ الْأَوْقَاتِ (4).

عَلَاءٍ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ بُكَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُقِيمُ فِي الْبِلَادِ الْأَشْهُرَ وَلَيْسَ فِيهَا مَاءٌ إِنَّمَا يُقِيمُ لِمَكَانِ الْمَرْعَى وَصَلَاحِ الْإِبِلِ قَالَ لَا (5).

عَلَاءٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي رَجُلٍ شَكَّ بَعْدَ مَا سَجَدَ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ فَقَالَ يَمْضِي عَلَى شَكِّهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ وَلَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ قَالَ فَإِنِ اسْتَيْقَنَ لَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا رَكْعَةَ مَعَهُمَا وَيُتِمُّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ (6) (7).

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ عَنِ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فَاعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ وَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ إِنَّ الزَّوْجَ الْغَائِبَ قَدِمَ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ فَقَالَ لَا سَبِيلَ لِلْأَخِيرِ .

ص: 592


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب مقدمات الطواف ، ح 3.
2- الوسائل ، الباب 43 ، من أبواب النجاسات ، ح 3.
3- الوسائل ، الباب 7 من أبواب التعقيب ، ح 5.
4- الوسائل ، الباب 7 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.
5- الوسائل ، الباب 28 من أبواب التيمم ، ح 1.
6- ل. ولا شئ عليه.
7- الوسائل ، الباب 11 من أبواب الركوع ، ح 2 باختلاف يسير.

عَلَيْهَا وَيُؤْخَذُ الصَّدَاقُ مِنَ الَّذِي شَهِدَ وَرَجَعَ فَيُرَدُّ عَلَى الْأَخِيرِ وَالْأَوَّلُ أَمْلَكُ بِهَا وَتَعْتَدُّ مِنَ الْأَخِيرِ وَلَا يَقْرَبُهَا الْأَوَّلُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا (1).

أَبُو وَلَّادٍ الْحَنَّاطُ قَالَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ نَصْرَانِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ زَنَتْ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُ قَالَ فَقَالَ يُلَاعِنُهَا قِيلَ لَهُ فَالْوَلَدُ مَا يُصْنَعُ بِهِ قَالَ هُوَ مَعَ أُمِّهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَداً (2).

الْهَيْثَمُ بْنُ وَاقِدٍ الْجَزَرِيُّ (3) قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ مَنْ أَخْرَجَهُ اللّهُ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إِلَى عِزِّ التَّقْوَى أَغْنَاهُ اللّهُ بِلَا مَالٍ وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ وَآنَسَهُ بِلَا بَشَرٍ وَمَنْ خَافَ اللّهَ أَخَافَ اللّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْ ءٍ وَمَنْ لَمْ يَخَفِ اللّهَ أَخَافَهُ اللّهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَمَنْ رَضِيَ مِنَ اللّهِ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَعَاشِ رَضِيَ اللّهُ مِنْهُ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ وَقَنِعَ بِهِ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ وَنَعَّمَ أَهْلَهُ وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ اللّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا وَأَخْرَجَهُ اللّهُ مِنَ الدُّنْيَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلَامِ (4).

أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ قَالَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام يَقُولُ ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَزَالُ (5) بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ وَمَا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِكَ وَمَا كَانَ الْخَوْفُ لَكَ شِعَاراً وَالْحُزْنُ لَكَ دِثَاراً ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَمَبْعُوثٌ وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ فَأَعِدَّ جَوَاباً (6).

الْهَيْثَمُ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنَّ عِنْدَنَا بِالْجَزِيرَةِ رَجُلاً رُبَّمَا أَخْبَرَ مَنْ يَأْتِيهِ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّيْ ءِ يُسْرَقُ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ أَفَنَسْأَلُهُ قَالَ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مَنْ مَشَى إِلَى سَاحِرٍ أَوْ كَاهِنٍ أَوْ كَذَّابٍ يُصَدِّقُهُ (7) بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ ( بِما أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتابٍ ) (8).

ص: 593


1- الوسائل ، الباب 13 من أبواب الشهادات ، ح 3.
2- الوسائل ، الباب 5 من أبواب اللعان ، ح 11.
3- ل. الحرزي.
4- أورد ذيله في البحار ، ج 2 الباب 9 من كتاب العلم ، ص 33 ، ح 27.
5- ل. لن تزال.
6- الوسائل ، الباب 96 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 3.
7- ط. ل. فصدقه.
8- الوسائل ، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به ، ح 3.

أَبُو أَيُّوبَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى ( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) (1) أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْذَنَ الْحَكَمَانِ فَقَالا لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَلَيْسَ قَدْ جَعَلْتُمَا أَمْرَكُمَا إِلَيْنَا فِي الْإِصْلَاحِ (2) وَالتَّفْرِيقِ فَقَالَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لَهُمَا نَعَمْ وَأَشْهِدُوا (3) بِذَلِكَ شُهُوداً عَلَيْهِمَا أَيَجُوزُ تَفْرِيقُهُمَا عَلَيْهِمَا قَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمَا إِلَّا عَلَى طُهْرٍ مِنَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ مِنَ الرَّجُلِ قِيلَ لَهُ أَفَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْآخَرُ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا قَالَ فَقَالَ لَا يَكُونُ لَهُمَا تَفْرِيقٌ حَتَّى يَجْتَمِعَا جَمِيعاً عَلَى التَّفْرِيقِ فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى التَّفْرِيقِ جَازَ تَفْرِيقُهُمَا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (4).

عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام مَا أَدْنَى النَّصْبِ قَالَ أَنْ تَبْتَدِعَ شَيْئاً فَتُحِبَّ عَلَيْهِ وَتُبْغِضَ عَلَيْهِ (5).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ إِنَّمَا شِيعَتُنَا الْخُرْسُ (6) (7).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ سِنَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ يَقُولُونَ تَنْقَادُ (8) وَلَا تَنْقَادُ (9) يَعْنِي أَصْحَابَ الْكَلَامِ أَمَا لَوْ عَلِمُوا كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْخَلْقِ وَأَصْلُهُ (10) مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ (11).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ كُلُّ شَيْ ءٍ يَكُونُ فِيهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ (12) فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ أَبَداً حَتَّى تَعْرِفَ مِنْهُ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ فَدَعْهُ (13).

ص: 594


1- سورة النساء ، الآية 35.
2- ط. الصلاح.
3- ط. واشهدا.
4- الوسائل ، الباب 13 من أبواب القسم والنشوز ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 40 ، من أبواب الأمر والنهي ، ح 4 ، إلا أنه أورده عن الفقيه.
6- ط. وفي نسخة ل. الأخرس.
7- الوسائل ، الباب ، 117 من أبواب أحكام العشرة. ح 7. إلا أنه أورده عن الأصول.
8- ط. ينقاد.
9- ط. ينقاد.
10- ط. لما اختلف.
11- البحار ، ج 2 ، الباب 17 ، من أبواب كتاب العلم ، ص 135 ، ح 34.
12- ط. ل. حرام وحلال.
13- الوسائل ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1.

صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي جَرِيرٍ الْقُمِّيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام قُلْتُ أُزَوِّجُ أَخِي مِنْ أُمِّي أُخْتِي مِنْ أَبِي قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام زَوِّجْ إِيَّاهُ إِيَّاهَا وَزَوِّجْ إِيَّاهَا إِيَّاهُ (1).

الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ قَالَ لِي أَبْلِغْ خَيْراً أَوْ قُلْ خَيْراً وَلَا تَكُونَنَّ إِمَّعَةً مَكْسُورَةُ الْأَلْفِ مُشَدَّدَةُ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ الْمُعْجَمَةِ قُلْتُ وَمَا الْإِمَّعَةُ قَالَ لَا تَقُولَنَّ أَنَا مَعَ النَّاسِ وَلَا أَنَا (2) كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ نَجْدُ خَيْرٍ وَنَجْدُ شَرٍّ فَمَا بَالُ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ (3).

عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ يُونُسَ بْنِ رِبَاطٍ (4) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله رَحِمَ اللّهُ مَنْ أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ قَالَ قُلْتُ وَكَيْفَ يُعِينُهُ عَلَى بِرِّهِ قَالَ فَقَالَ يَقْبَلُ مَيْسُورَهُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مَعْسُورِهِ وَلَا يُرْهِقُهُ وَلَا يَخْرَقُ بِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي حَدِّ عُقُوقٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ (5) ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله الْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ طَيَّبَهَا اللّهُ وَطَيَّبَ رِيحَهَا وَيُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفَيْ عَامٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ عَاقٌّ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا مُرْخِي الْإِزَارِ خُيَلَاءَ.

جَمِيلُ بْنُ دَرَّاجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ إِنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ مِنْكُمْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِ فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَعَلِّمُوهُ إِخْوَانَكُمْ كَمَا عَلَّمُوكُمُوهُ الْعُلَمَاءُ (6).

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام أَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجْتُ إِلَى طَبِيبٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَدْعُو لَهُ قَالَ نَعَمْ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ .

ص: 595


1- الوسائل ، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب ح 1.
2- ط. ل وأنا.
3- البحار ج 2 الباب 8 من كتب العلم ص 21 ح 62.
4- ل. يونس بن زياد.
5- الوسائل ، الباب 86 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 8 إلا أنه أورده عن الفروع ، ، وأورد ذيله عن السرائر في الباب 23 من أبواب الملابس.
6- البحار ، ج 1 الباب 1 من كتاب العلم ، ص 174 ، ح 36.

دُعَاؤُكَ (1).

عَلِيُّ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ أَبَاهُ وَعَمَّهُ وَجَدَّهُ فَقَالَ حَجَبَ الْأَبُ الْجَدَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَبِ دُونَ الْجَدِّ وَلَيْسَ لِلْعَمِّ وَلَا لِلْجَدِّ شَيْ ءٌ (2).

عَبْدُ الْعَزِيزِ الْقَنْدِيُّ (3) عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام مَا (4) يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْحُدُودِ التَّامَّةِ وَيُقَامَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِهَا فَقَالَ إِذَا خَرَجَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَأَدْرَكَ قُلْتُ فَلِذَلِكَ حَدٌّ بِهِ يُعْرَفُ (5) قَالَ إِذَا احْتَلَمَ أَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْعَرَ أَوْ أَنْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَأُخِذَ بِهَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ قُلْتُ وَالْجَارِيَةُ مَتَى يَجِبُ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَتُؤْخَذُ بِهَا وَتُؤْخَذُ لَهَا قَالَ فَإِنَّ (6) الْجَارِيَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْغُلَامِ إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا زُوِّجَتْ وَدُخِلَ بِهَا وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَدُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا وَجَازَ أَمْرُهَا فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَأُخِذَتْ بِهَا وَأُخِذَ لَهَا قَالَ وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يُشْعِرَ أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ (7).

أَبُو وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سِنَانٍ قَالا سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنَ إِخْوَانَهُ بِمَرَضِهِ فَيَعُودُوهُ (8) فَيُؤْجَرُ فِيهِمْ وَيُؤْجَرُونَ فِيهِ قَالَ فَقِيلَ لَهُ نَعَمْ وَهُمْ يُؤْجَرُونَ بِمَشْيِهِمْ (9) إِلَيْهِ فَهُوَ كَيْفَ يُؤْجَرُ فِيهِمْ قَالَ فَقَالَ بِاكْتِسَابِهِ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ فَيُؤْجَرُ فِيهِمْ فَيُكْتَبُ لَهُ بِذَلِكَ حَسَنَةٌ وَيُرْفَعُ لَهُ بِذَلِكَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ وَيُمْحَى عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ (10).

قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَيَنْبَغِي لِأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنُوا إِخْوَانَ .

ص: 596


1- الوسائل ، الباب 46 من أبواب الدعاء ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب ، 19 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ح 3.
3- ط. ل. العبدى.
4- ط. ل. متى.
5- ط. يعرف به.
6- ل. ط. ان.
7- الوسائل ، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 2.
8- ط. يعودونه.
9- ط. لمشيهم. (10) الوسائل ، الباب 8 من أبواب الاحتضار ، ح 1.

الْمَيِّتِ بِمَوْتِهِ فَيَشْهَدُوا جَنَازَتَهُ وَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُوا لَهُ فَيُكْتَسَبُ لَهُمُ الْأَجْرُ وَيُكْتَسَبُ لِمَيِّتِهِ الِاسْتِغْفَارُ وَيَكْسِبُ (1) هُوَ الْأَجْرَ فِيهِمْ وَفِيمَا اكْتَسَبَ لِمَيِّتِهِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ (2).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ غَالِبٍ عَنْ رَقَبَةَ الْعَبْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ السَّعْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ قَالَ سَبْعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِ رَبِّي صَاحِبُ سُلْطَانٍ عَادِلٌ مُقْتَصِدٌ وَذُو مَالٍ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا تَصَدَّقَ كَانَتْ صَدَقَتُهُ بِيَمِينِهِ يُحْفِيهَا عَنْ يَسَارِهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ جَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ ( إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا وَانْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ لِوَقْتِهَا وَرَجُلٌ أَدْرَكَ حِينَ أَدْرَكَ فَكَانَتْ قُوَّتُهُ وَشَبَابُهُ وَنَشَاطُهُ فِيمَا يُحِبُّ اللّهُ تَعَالَى وَيَرْضَى مِنَ الْأَعْمَالِ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّهَ تَعَالَى وَالْمَعَادَ إِلَيْهِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَرَجُلٌ لَقِيَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فَقَالَ أَنَا وَاللّهِ أُحِبُّكَ فِي اللّهِ فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ وَأَنَا وَاللّهِ أُحِبُّكَ فِي اللّهِ تَصَادَرَا (3) عَلَى ذَلِكَ (4) قَالَ وَحَدَّثَنِي هُذَيْلُ بْنُ حَنَانٍ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ أَخِيهِ جَعْفَرِ بْنِ حَنَانٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قُلْتُ لَهُ يَجِيئُنِي الرَّجُلُ فَيَشْتَرِي مِنِّي الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ فَأُخْرِجُ إِلَيْهِ بَدْرَةً فِيهَا عَشَرَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَنْظُرُ إِلَى الدَّرَاهِمِ وَأُقَاطِعُهُ عَلَى السِّعْرِ ثُمَّ أَقُولُ لَهُ قَدْ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ خَمْسَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِهَذَا السِّعْرِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ فَيَقُولُ قَدِ ابْتَعْتُهَا مِنْكَ وَرَضِيتُ فَيَدْفَعُ إِلَيَّ كِيساً فِيهِ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ فَأَقْبِضُهُ مِنْهُ وَيَقُولُ لِي لَكَ مِنْ هَذِهِ السِّتِّمِائَةِ دِينَارٍ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ ثَمَنُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقْبِضُ الْكِيسَ وَلَمْ يُوَازِنِّي وَيُنَاقِدْنِي الدَّرَاهِمَ وَلَمْ أُوَازِنْهُ وَلَمْ أُنَاقِدْهُ الدَّنَانِيرَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ يَجِيئُنِي بَعْدُ فَأُوَازِنُهُ وَأُنَاقِدُهُ.

قَالَ فَقَالَ أَلَيْسَ فِي الْبَدْرَةِ الَّتِي أَخْرَجْتَهَا إِلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْخَمْسَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَفِي الْكِيسِ الَّذِي دَفَعَ إِلَيْكَ الْوَفَاءُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ إِنَّ فِيهَا الْوَفَاءَ .

ص: 597


1- ط. ل. يكتسب.
2- الوسائل ، الباب 1 من أبواب صلاة الجنازة ، ح 1 باختلاف يسير.
3- ل. فتصادقا. وفي نسخة فتصادرا.
4- لم نعثر عليه بعينه إلا أنه ذكر في الخصال ، ج 2 ص 343 ، ح 7 و 8 عوالي اللئالي ج 1 ص 89 و 367. و ج 2 ص 71 مع اختلاف يسير.

وَفَضْلاً قَالَ فَقَالَ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا إِذًا (1).

الْحَارِثُ بْنُ الْأَحْوَلِ عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي الصَّلَاةِ كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ أَوْ طُولُ اللَّبْثِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَالَ فَقَالَ كَثْرَةُ اللَّبْثِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ أَمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (2) إِنَّمَا عَنَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ طُولَ اللَّبْثِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَالَ قُلْتُ فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ أَوْ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ فَقَالَ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ أَمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِ اللّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى اللّه عليه وآله ( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) (3) (4).

أَبُو مُحَمَّدٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ لَيْلاً فَقَالَ لِي يَا حَارِثُ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ أَمَا لَتُحْمَلَنَّ ذُنُوبُ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ ثُمَّ مَضَى قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ لِمَ قُلْتَ لَتُحْمَلَنَّ ذُنُوبُ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ فَقَدْ دَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقَالَ لِي نَعَمْ مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَهُ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهِ الْأَذَى وَالْعَيْبُ عِنْدَ النَّاسِ أَنْ تَأْتُوهُ فَتُؤَنِّبُوهُ وَتَعِظُوهُ وَتَقُولُوا لَهُ قَوْلاً بَلِيغاً فَقُلْتُ لَهُ إِذَنْ لَا يَقْبَلَ مِنَّا وَلَا يُطِيعَنَا قَالَ فَقَالَ فَإِذَنْ فَاهْجُرُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَاجْتَنِبُوا مُجَالَسَتَهُ (5).

صَالِحُ بْنُ رَزِينٍ عَنْ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا عَسُرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا فَاكْتُبْ لَهَا فِي رَقٍّ ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) (6) وَ ( قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (7) ثُمَّ ارْبِطْهُ بِخَيْطٍ وَشُدَّهُ عَلَى فَخِذِهَا الْأَيْمَنِ فَإِذَا وَضَعَتْ فَانْزِعْهُ (8).

ص: 598


1- الوسائل ، الباب 5 من أبواب الصرف ، ح 5.
2- سورة المزمل ، الآية 20.
3- سورة الفرقان ، الآية 77.
4- الوسائل ، الباب 26 من أبواب الركوع ، ح 3.
5- الوسائل ، الباب 7 من أبواب الأمر والنهي ، ح 3.
6- سورة الأحقاف ، الآية 35 ، والنازعات ، الآية 46.
7- سورة آل عمران ، الآية 35.
8- مستدرك الوسائل ، ج 2 ، الباب 79 من أحكام الأولاد ، ح 7.

قَالَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (1) فَقَالَ فِي الْكَسْبِ هُمْ قَوْمٌ كَسَبُوا مَكَاسِبَ خَبِيثَةً قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا فَلَمَّا أَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُمْ أَبْغَضُوا ذَلِكَ الْكَسْبَ الْخَبِيثَ وَجَعَلُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَأَبَى اللّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ إِلَّا بِأَطْيَبِ مَا كَسَبُوا وَقَوْلُهُ ( وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) فَقَالَ هِيَ تَمْرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْجُعْرُورُ عَظِيمَةُ النَّوَى قَلِيلَةُ اللِّحَاءِ وَتَمْرَةٌ أُخْرَى يُقَالُ لَهَا مِعَى فَأْرَةٍ وَهُمَا أَرْدَى التَّمْرِ فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا يُزَكُّونَ النَّخْلَ جَاءُوا مِنْ ذَلِكَ اللَّوْنَيْنِ مِنَ التَّمْرِ فَأَبَى اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله لَا تَخْرُصُوا هَاتَيْنِ النَّخْلَتَيْنِ وَلَا تُؤَدُّوا عَنْهُمَا شَيْئاً أَرَادَ أَنْ يَنْزِعَ عِلَّةَ مَنِ اعْتَلَّ وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤَدِّيهِمَا عَنِ التَّمْرِ الْجَيِّدِ وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) فَالْإِغْمَاضُ أَنْ يَكْسِرَ الشَّيْ ءَ فَيَأْخُذَهُ بِرُخْصٍ (2).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ سِنَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَلَا تَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَى أَكْتَافِكُمْ فَتَذِلُّوا إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ ( وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً ) ثُمَّ قَالَ عُودُوا مَرْضَاهُمْ وَاحْضُرُوا جَنَائِزَهُمْ وَاشْهَدُوا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَصَلُّوا مَعَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ حَتَّى يَكُونَ التَّمْيِيزُ وَتَكُونَ الْمُبَايَنَةُ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ (3).

خَالِدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ أَكَلَ الرِّبَا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهُ قَالَ فَقَالَ أَمَّا مَا مَضَى فَلَهُ وَلْيَتْرُكْهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَجُلاً أَتَى أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام فَقَالَ إِنِّي قَدْ وَرِثْتُ مَالاً وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ يُرَبِّي فِيهِ وَقَدْ سَأَلْتُ فُقَهَاءَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفُقَهَاءَ أَهْلِ الْحِجَازِ فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَكْلُهُ قَالَ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إِنْ أَنْتَ عَرَفْتَ مِنْهُ شَيْئاً .

ص: 599


1- سورة البقرة ، الآية 267.
2- الوسائل ، الباب 19 من أبواب زكاة الغلات ، ح 1 باختلاف يسير.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب أحكام العشرة ، ح 6.

مَعْزُولاً تَعْرِفُ أَهْلَهُ وَعَرَفْتَ أَنَّهُ رِبًا فَخُذْ رَأْسَ مَالِهِ وَدَعْ مَا سِوَاهُ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُخْتَلِطاً فَكُلْ هَنِيئاً مَرِيئاً فَإِنَّ الْمَالَ مَالُكَ وَاجْتَنِبْ مَا كَانَ يَصْنَعُ صَاحِبُهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله قَدْ وَضَعَ مَا مَضَى مِنَ الرِّبَا فَمَنْ جَهِلَهُ وَسِعَهُ أَكْلُهُ حَتَّى يَعْرِفَ فَإِذَا عَرَفَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ فَإِنْ أَكَلَهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى آكِلِ الرِّبَا (1).

جَمِيلٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ وَلَهُ مِنْهَا غُلَامٌ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى لَهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَكْثَرَ هَلْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَسْتَرِقُّوهَا قَالَ لَا بَلْ تُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِ الْمَيِّتِ وَتُعْطِي مَا أَوْصَى لَهَا بِهِ (2).

جَمِيلٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ رَجُلاً وَلَهَا زَوْجٌ فَقَالَ إِنْ كَانَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ مُقِيماً مَعَهَا فِي الْمِصْرِ الَّذِي هِيَ فِيهِ تَصِلُ إِلَيْهِ وَيَصِلُ إِلَيْهَا فَإِنَّ عَلَيْهَا مَا عَلَى الزَّانِيَةِ الْمُحْصَنَةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ غَائِباً عَنْهَا وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ فَإِنَّ عَلَيْهَا مَا عَلَى الزَّانِيَةِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَفْرِيقَ قُلْتُ فَمَنْ يَرْجُمُهَا أَوْ يَضْرِبُهَا الْحُدُودَ وَزَوْجُهَا لَا يُقَدِّمُهَا إِلَى الْإِمَامِ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ مِنْهَا فَقَالَ إِنَّ الْحَدَّ لَا يَزَالُ لِلَّهِ فِي بَدَنِهَا حَتَّى يَقُومَ بِهِ مَنْ قَامَ أَوْ تَلْقَى اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهَا قُلْتُ فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِمَا صَنَعَتْ فَقَالَ أَلَيْسَ هِيَ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَمَا مِنِ امْرَأَةٍ الْيَوْمَ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ زَوْجَيْنِ وَلَوْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا فَجَرَتْ قَالَتْ لَمْ أَدْرِ أَوْ جَهِلْتُ أَنَّ الَّذِي فَعَلْتُ حَرَامٌ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا حَدُّ اللّهِ إِذًا لَعُطِّلَتِ الْحُدُودُ (3).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب الحسن بن محبوب السراد الذي هو كتاب المشيخة وهو كتاب معتمد.

ص: 600


1- الوسائل ، الباب 5 من أبواب الربا ، ح 4.
2- الوسائل ، الباب 82 من أبواب الوصايا ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 27 من أبواب حد الزنا ، ح 2.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب نوادر المصنف

تصنيف محمد بن علي بن محبوب الأشعري الجوهري القمي

وهذا الكتاب كان بخط شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه مصنف كتاب النهاية رحمه اللّه فنقلت هذه الأحاديث من خطه من الكتاب المشار إليه.

أَحْمَدُ عَنِ الْحُسَيْنِ بنِ النَّضْرِ عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ قَالَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَلَا وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ فَلَا بَأْسَ (1).

الْعَبَّاسُ بْنُ مَعْرُوفٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ التَّثْوِيبِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَقَالَ مَا نَعْرِفُهُ (2).

وَعَنْهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَضَالَةَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ كَانَ أَبِي يُنَادِي فِي بَيْتِهِ بِالصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ وَلَوْ رَدَّدْتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ (3).

وَعَنْهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قُلْتُ يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بَعْدَ مَا تُقَامُ الصَّلَاةُ قَالَ لَا بَأْسَ (4).

وَعَنْهُ ، عَنْ جَعْفَرٍ بنِ الْحَسَنِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُقِيمُ أَوْ بَعْدَ مَا يُقِيمُ إِنْ شَاءَ (5).

الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله أُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْبُرَاقِ وَتُحْشَرُ فَاطِمَةُ ابْنَتِي عَلَى نَاقَتِي الْعَضْبَاءِ الْقَصْوَاءِ وَيُحْشَرُ هَذَا الْبِلَالُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ يُؤَذِّنُ

ص: 601


1- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 6.
2- الوسائل ، الباب 22 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 4 - 1.
3- الوسائل ، الباب 22 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 4 - 1.
4- الوسائل ، الباب 1 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 10 - 13.
5- الوسائل ، الباب 1 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 10 - 13.

أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللّهِ فَإِذَا نَادَى كُسِيَ حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ (1).

وَعَنْهُ عَنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ الْقَرَوِيِّ عَنْ أَبَانٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَغَسَقُ اللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوَالِ مِنَ النَّهَارِ (2).

أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِنَّمَا أَمَرْتُ أَبَا الْخَطَّابِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ حِينَ تَغِيبُ الْحُمْرَةُ مِنْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ عِنْدَ مَغْرِبِهَا فَجَعَلَهُ هُوَ الْحُمْرَةَ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ فَكَانَ يُصَلِّي حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ (3).

أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ لَا تَفُوتُ صَلَاةُ النَّهَارِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةُ اللَّيْلِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَلَا صَلَاةُ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ (4).

مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الصُّهْبَانِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ مِسْمَعٍ أَبِي سَيَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ يُجْزِيكَ مِنَ الْقَوْلِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ثَلَاثُ تَسْبِيحَاتٍ أَوْ قَدْرُهُنَّ مُتَرَسِّلاً وَلَيْسَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَ سُبْحَ سُبْحَ (5).

أَحْمَدُ عَنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ سَعْدٍ الْجَلَّابِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَبْرَأُ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَيَقُولُ بِحَوْلِ اللّهِ أَقُومُ (6) وَأَقْعُدُ (7). أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ .

ص: 602


1- الوسائل ، الباب 2 ، من أبواب الأذان والإقامة ، ح 24.
2- الوسائل ، الباب 55 من أبواب المواقيت ، ح 2.
3- الوسائل ، الباب 16 من أبواب المواقيت ، ح 10.
4- الوسائل ، الباب 10 ، من أبواب المواقيت ، ح 9.
5- الوسائل ، الباب 5 ، من أبواب الركوع ، ح 1.
6- ل. بحول اللّه وقوته أقوم.
7- الوسائل ، الباب 13 من أبواب السجود ، ح 7.

الْحَكَمِ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام مَا مِنْ كَلِمَةٍ أَخَفَّ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا أَبْلُغُ مِنْ سُبْحَانَ اللّهِ قُلْتُ فَيُجْزِي أَنْ أَقُولَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَكَانَ التَّسْبِيحِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللّهُ أَكْبَرُ قَالَ نَعَمْ كُلُّ ذَا ذِكْرُ اللّهِ (1).

وَعَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي عَلَى الثَّلْجِ قَالَ لَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَعَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُهُ مَطَرٌ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْجُدَ فِيهِ مِنَ الطِّينِ وَلَا يَجِدُ مَوْضِعاً جَافّاً قَالَ قَالَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ فَإِذَا رَكَعَ فَلْيَرْكَعْ كَمَا يَرْكَعُ إِذَا صَلَّى فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَلْيُومِ بِالسُّجُودِ إِيمَاءً وَهُوَ قَائِمٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَيَتَشَهَّدُ وَهُوَ قَائِمٌ وَيُسَلِّمُ (2).

الْعَبَّاسُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا قُمْتَ مِنَ السُّجُودِ قُلْتَ اللّهُمَّ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ أَقُومُ وَأَقْعُدُ وَأَرْكَعُ وَأَسْجُدُ (3).

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام وَالْعَمْرَكِيُّ الْبُوفَكِيُّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ رَحِمَهُ اللّهُ الْبُوفَكِيُّ بِالْبَاءِ الْمُنَقَّطَةِ تَحْتَهَا نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ الْمَضْمُومَةُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ الْمَفْتُوحَةُ وَالْكَافُ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بُوفَكَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَيْخٌ ثِقَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْبَرْقِيِّ وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَرْقِيُّ أَبُو عَبْدِ اللّهِ يُنْسَبُ إِلَى بَرْقَرُودَ قَرْيَةٌ مِنْ سَوَادِ قُمَّ عَلَى وَادٍ هُنَاكَ اتِّصَالُ حَدِيثِ الْبُوفَكِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ صَلَّى وَفَرْجُهُ خَارِجٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ هَلْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ أَوْ مَا حَالُهُ فَقَالَ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ (4).

ص: 603


1- الوسائل ، الباب 7 من أبواب الركوع ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 15 ، من أبواب مكان المصلي ، ح 5.
3- الوسائل ، الباب 13 ، من أبواب السجود ، ح 6.
4- الوسائل ، الباب 27 ، من أبواب لباس المصلي ، ح 1.

أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي كَهْمَسٍ (1) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلَتَيْنِ إِذَا جَلَسْتُ فِيهِمَا أَتَشَهَّدُ فَقُلْتُ وَأَنَا جَالِسٌ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللّهِ (2) انْصِرَافٌ هُوَ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ إِذَا قُلْتَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللّهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ الِانْصِرَافُ (3).

الْعَبَّاسُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام الرَّجُلُ لَا يَرَى أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئاً فِي الدُّعَاءِ وَفِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ لَا بَأْسَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ صَوْتاً بِالْقُرْآنِ وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يُسْمِعَهُ أَهْلَ الدَّارِ وَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ صَوْتاً بِالْقُرْآنِ وَكَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَقَرَأَ رَفَعَ صَوْتَهُ فَيَمُرُّ بِهِ مَارُّ الطَّرِيقِ مِنَ السَّقَّائِينَ (4) وَغَيْرِهِمْ فَيَقُومُونَ فَيَسْتَمِعُونَ إِلَى قِرَاءَتِهِ (5).

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ (6) بْنِ سَعِيدٍ عَنْ فَضَالَةَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عُثْمَانَ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ وَاسْمُ ابْنِ مُسْكَانَ الْحَسَنُ وَهُوَ ابْنُ أَخِي جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَرِيقُ الْوَلَايَةِ (7) لِأَهْلِ الْبَيْتِ عليهم السلام عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَوْمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكَ مُسْلِمٌ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ تَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَأَشِرْ إِلَيْهِ بِإِصْبَعِكَ (8).

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ غِيَاثٍ عَنْ جَعْفَرٍ عليه السلام فِي رَجُلٍ عَطَسَ فِي الصَّلَاةِ فَسَمَّتَهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ رَحِمَهُ اللّهُ التَّسْمِيتُ الدُّعَاءُ لِلْعَاطِسِ بِالسِّينِ وَالشِّينِ مَعاً قَالَ فَسَدَتْ صَلَاةُ ذَلِكَ الرَّجُلِ (9).

ص: 604


1- ط. كهمش.
2- ط. ورحمة اللّه وبركاته.
3- الوسائل ، الباب 4 من أبواب التسليم ، ح 2.
4- ط. فيحس به مار الطريق من الساقين.
5- الوسائل ، الباب 23 من أبواب قراءة القرآن ، ح 2.
6- ط. الحسن بن سعيد.
7- ط. ل. غريق في الولاية: أو الولاء.
8- الوسائل ، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 5.
9- الوسائل ، الباب 18 ، من أبواب قواطع الصلاة ، ح 5.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب ليس على فسادها دليل لأن الدعاء لا يقطع الصلاة (1).

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ثَعْلَبَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنَّ حَالَنَا قَدْ تَغَيَّرَتْ قَالَ فَادْعُ فِي صَلَاتِكَ الْفَرِيضَةِ قُلْتُ أَيَجُوزُ فِي الْفَرِيضَةِ فَأُسَمِّي حَاجَتِي لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا قَالَ نَعَمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله قَدْ قَنَتَ وَدَعَا عَلَى قَوْمٍ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَفَعَلَهُ عَلِيٌّ عليه السلام مِنْ بَعْدِهِ (2).

مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قُلْتُ الرَّجُلُ يَسْهُو عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلَتَيْنِ فَيَذْكُرُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ قَالَ أَتَمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَجْعَلَ آخِرَ صَلَاتِي أَوَّلَهَا (3).

عَلِيُّ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُصَدِّقِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا قَرَأَ الْعَزَائِمَ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ لَيْسَ فِيهَا تَكْبِيرٌ إِذَا سَجَدْتَ وَلَا إِذَا قُمْتَ وَلَكِنْ إِذَا سَجَدْتَ قُلْتَ مَا تَقُولُ فِي السُّجُودِ (4).

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى وَيَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي الْغَدَاةَ رَكْعَةً وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ (5) وَيَذْهَبُ وَيَجِي ءُ ثُمَّ يَذْكُرُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ إِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً قَالَ تُضِيفُ إِلَيْهَا رَكْعَةً (6).

وَعَنْهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بنِ النَّضْرِ عَنِ ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ زَكَاتِهِ فَيَقْسِمُ بَعْضَهَا وَيَبْقَى بَعْضٌ (7) يَلْتَمِسُ بِهَا .

ص: 605


1- يمكن أن يقال: إن دليل البطلان هو ما يقع عن المصلي في جواب من سمته كلام آدمي.
2- الوسائل ، الباب 17 ، من أبواب السجود ، ح 3 ، باختلاف يسير.
3- الوسائل ، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 1.
4- الوسائل ، الباب 46 من أبواب قراءة القرآن ، ح 3.
5- ط. لم ينصرف.
6- الوسائل ، الباب 6 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 4 ، باختلاف يسير.
7- ل. بعضا.

الْمَوَاضِعَ (1) فَيَكُونُ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ قَالَ لَا بَأْسَ (2).

وَعَنْهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُعْطِيَ زَكَاتَكَ قَبْلَ حَلِّهَا بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ فَلَا بَأْسَ وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُؤَخِّرَهَا بَعْدَ حَلِّهَا (3).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ لَيْسَ فِي الْأَكِيلَةِ وَلَا فِي الرُّبَّى وَالرُّبَّى الَّتِي تُرَبَّى اثْنَيْنِ وَلَا شَاةِ لَبَنٍ وَلَا فَحْلِ الْغَنَمِ صَدَقَةٌ (4).

أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ صَفْوِ الْمَالِ قَالَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ الرَّءُوفَةَ وَالْمَرْكَبَ الْفَارِهَ وَالسَّيْفَ الْقَاطِعَ قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ الْغَنِيمَةُ فَهَذَا صَفْوُ الْمَالِ (5).

وَعَنْهُ قَالَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي الرَّجُلِ يُهْدِي لَهُ مَوْلَاهُ وَالْمُنْقَطِعِ إِلَيْهِ هَدِيَّةٌ تَبْلُغُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ عَلَيْهِ فِيهَا الْخُمُسُ فَكَتَبَ عليه السلام الْخُمُسُ فِي ذَلِكَ.

وَعَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ فِي دَارِهِ الْبُسْتَانُ فِيهِ الْفَاكِهَةِ يَأْكُلُهَا الْعِيَالُ وَإِنَّمَا يَبِيعُ مِنْهُ الشَّيْ ءَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَماً هَلْ عَلَيْهِ الْخُمُسُ فَكَتَبَ أَمَّا مَا أُكِلَ فَلَا وَأَمَّا الْبَيْعُ فَنَعَمْ هُوَ كَسَائِرِ الضِّيَاعِ (6).

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ رَحِمَهُ اللّهُ خُنَيْسٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ وَالسِّينِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ خُذْ مَالَ النَّاصِبِ حَيْثُمَا وَجَدْتَهُ وَابْعَثْ إِلَيْنَا .

ص: 606


1- ل. الموضع.
2- الوسائل ، الباب 53 من أبواب المستحقين للزكاة ، ح 1.
3- الوسائل ، الباب 52 ، من أبواب المستحقين للزكاة ، ح 4.
4- الوسائل ، الباب 10 من أبواب زكاة الأنعام ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 1 من أبواب الأنفال ، ح 15.
6- الوسائل ، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ح 10.

بِالْخُمُسِ (1).

أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ خُذْ مَالَ النَّاصِبِ حَيْثُ وَجَدْتَهُ وَادْفَعْ إِلَيْنَا الْخُمُسَ (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه الناصب المعنى في هذين الخبرين أهل الحرب لأنهم ينصبون الحرب للمسلمين وإلا فلا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذمي على وجه من الوجوه.

وَعَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَالُ لِلْيَتَامَى فَلَا يَقْبِضُهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ فَيَأْتِيَهُ وَارِثُهُمْ أَوْ وَكِيلُهُ فَيُصَالِحُهُمْ عَلَى أَنْ يَضَعَ لَهُ بَعْضَهُ وَيَأْخُذَ بَعْضَهُ وَيُبْرِئَهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَيَبْرَأُ مِنْهُ قَالَ نَعَمْ (3).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ صَفْوَانَ عَنِ الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ مَالَ امْرَأَتِهِ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِ أَعَلَيْهَا زَكَاةٌ (4) فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الَّذِي مَنَعَهَا (5).

يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الصَّدَقَاتِ فَقَالَ اقْسِمْهَا فِيمَنْ قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تُعْطِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِنِدَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْئاً قُلْتُ وَمَا نِدَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ يَا لَبَنِي فُلَانٍ فَيَقَعُ بَيْنَهُمَا الْقَتْلُ وَالدِّمَاءُ فَلَا يُؤَدُّوا ذَلِكَ (6) مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَلَا الَّذِينَ يَغْرَمُونَ فِي مُهُورِ النِّسَاءِ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ وَلَا الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ مَا صَنَعُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ (7).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ .

ص: 607


1- الوسائل ، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ح 7 ، باختلاف يسير.
2- الوسائل ، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ح 7 ، باختلاف يسير.
3- الوسائل ، الباب 6 ، من أبواب الصلح ، ح 1.
4- ط. زكاته.
5- الوسائل ، الباب ، 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ، ح 5 ، باختلاف يسير.
6- ط. فلا يؤتوا. ل. فلا تودوا.
7- الوسائل ، الباب 48 من أبواب المستحقين للزكاة ، ح 1.

سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ وَلِأَبِيهِ مَئُونَةٌ أَيُعْطِي أَبَاهُ مِنْ زَكَاتِهِ يَقْضِي دَيْنَهُ قَالَ نَعَمْ وَمَنْ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ (1).

أَحْمَدُ عَنْ مُوسَى بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ذَكَرَ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنْجِ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ يَنْصَرِفُ وَيَسْتَنْجِي مِنَ الْخَلَاءِ وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ وَإِنْ ذَكَرَ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ (2).

قال محمد بن إدريس الواجب عليه الإعادة على كل حال لأنه عالم بالنجاسة ونسيها.

الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِسْكِينٍ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام إِنِّي أَبُولُ ثُمَّ أَتَمَسَّحُ بِالْأَحْجَارِ فَيَجِيئُنِي مِنَ الْبَوْلِ مَا يُفْسِدُ سَرَاوِيلِي قَالَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (3).

وَعَنْهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بنِ الْحَسَنِ عَنْ زُرْعَةَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الْقَلْسِ وَهِيَ الْجُشَاءُ فَيَرْتَفِعُ الطَّعَامُ مِنْ جَوْفِهِ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَيْئاً أَوْ هُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ قَالَ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ وَلَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ وَلَا يُفَطِّرُ صِيَامَهُ (4).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا عليهما السلام قَالَ إِذَا اغْتَسَلْتَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَكَ غُسْلُكَ ذَلِكَ لِلْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ وَعَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَالذَّبْحِ وَالزِّيَارَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَكَ وَعَلَيْكَ حُقُوقٌ أَجْزَأَهَا عَنْكَ غُسْلٌ وَاحِدٌ قَالَ ثُمَّ قَالَ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يُجْزِيهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ لِجَنَابَتِهَا وَإِحْرَامِهَا وَجُمُعَتِهَا وَغُسْلِهَا مِنْ حَيْضِهَا وَعِيدِهَا وَقَالَ زُرَارَةُ حُرَمٌ (5) اجْتَمَعَتْ فِي حُرْمَةٍ يُجْزِيكَ لَهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ (6).

ص: 608


1- الوسائل ، الباب 18 من أبواب المستحقين للزكاة ، ح 2.
2- الوسائل ، الباب 10 من أبواب أحكام الخلوة ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 4 الا أورده عن التهذيب.
4- الوسائل ، الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 7.
5- ط. وحرم.
6- الوسائل ، الباب 43 ، من أبواب الجنابة ، ح 1.

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ (1) عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ أَخِيهِ مُوسَى عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ الْمَاءَ فِي السَّاقِيَةِ أَوْ مُسْتَنْقَعاً فَيَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ السِّبَاعُ قَدْ شَرِبَتْ مِنْهَا يَغْتَسِلُ مِنْهُ لِلْجَنَابَةِ وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ لِلصَّلَاةِ إِذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ وَالْمَاءُ لَا يَبْلُغُ صَاعاً لِلْجَنَابَةِ وَلَا مُدّاً لِلْوُضُوءِ وَهُوَ مُتَفَرِّقٌ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ إِذَا كَانَتْ كَفُّهُ نَظِيفَةً فَلْيَأْخُذْ كَفّاً مِنَ الْمَاءِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ وَلْيَنْضَحْهُ خَلْفَهُ وَعَنْ أَمَامِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَإِنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ مَسَحَ جِلْدَهُ بِيَدِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ إِنْ شَاءَ اللّهُ (2).

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ فِي الرَّجُلِ يَأْتِي الْمَرْأَةَ فِي دُبُرِهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ قَالَ لَا يَنْقُضُ صَوْمَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ (3).

أَحْمَدُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَرِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام كَيْفَ جُعِلَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا رَأَتْ فِي النَّوْمِ أَنَّ الرَّجُلَ يُجَامِعُهَا الْغُسْلُ وَلَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إِذَا جَامَعَهَا دُونَ الْفَرْجِ فِي الْيَقَظَةِ فَأَمْنَتْ قَالَ لِأَنَّهَا رَأَتْ فِي مَنَامِهَا أَنَّ الرَّجُلَ يُجَامِعُهَا فِي فَرْجِهَا فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ وَالْآخَرُ إِنَّمَا جَامَعَهَا دُونَ (4) الْفَرْجِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْغُسْلُ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ وَلَوْ أَدْخَلَهُ فِي الْيَقَظَةِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ أَمْنَتْ أَمْ لَمْ تُمْنِ (5).

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُذَافِرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام مَتَى يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْغُسْلُ فَقَالَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ حِينَ يُدْخِلُهُ وَإِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَيَغْسِلَانِ فُرُوجَهُمَا (6).

الْعَبَّاسُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ سُؤْرَ الْحَائِضِ لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يُتَوَضَّأَ مِنْهُ إِذَا كَانَتْ .

ص: 609


1- ول. الحسين.
2- الوسائل ، الباب 10 من أبواب الماء المضاف ، ح 1.
3- الوسائل ، الباب 12 من أبواب الجنابة ، ح 3.
4- ل. فيما دون.
5- الوسائل ، الباب 7 من أبواب الجنابة ، ح 19.
6- الوسائل ، الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 9.

تَغْسِلُ يَدَيْهَا (1).

أَحْمَدُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَحْيَى الْكَاهِلِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْمَرْأَةِ يُجَامِعُهَا الرَّجُلُ فَتَحِيضُ وَهِيَ فِي الْمُغْتَسَلِ أَفَتَغْتَسِلُ أَمْ لَا (2) قَالَ قَدْ جَاءَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَلَا تَغْتَسِلُ (3).

الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقَنَازِعِ وَالْقُصَصِ وَنَقْشِ الْخِضَابِ وَقَالَ إِنَّمَا هَلَكَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قِبَلِ الْقُصَصِ وَنَقْشِ الْخِضَابِ (4).

وَعَنْهُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ إِذَا هِيَ حَاضَتْ أَنْ تَتَّخِذَ قُصَّةً وَلَا جُمَّةً (5).

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْخَزَّازِ عَنْ غِيَاثٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ لَا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ وَلَا تَسْجُدُ إِذَا سَمِعَتِ السَّجْدَةَ (6).

وَعَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ حَرِيزٍ قَالَ سَأَلَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَّا أَنْ أَسْتَأْذِنَ لَهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَاسْتَأْذَنْتُ لَهَا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَمَعَهَا مَوْلَاةٌ لَهَا فَقَالَتْ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) (7) مَا عَنَى بِهَذَا قَالَ عليه السلام أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ إِنَّ اللّهَ لَمْ يَضْرِبِ الْأَمْثَالَ لِلشَّجَرِ إِنَّمَا ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِبَنِي آدَمَ سَلِي عَمَّا تُرِيدِينَ قَالَتْ أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّوَاتِي مَعَ اللَّوَاتِي مَا حَدُّهُنَّ فِيهِ قَالَ حَدُّ الزِّنَاءِ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِهِنَّ فَأُلْبِسْنَ مُقَطَّعَاتٍ مِنْ نَارٍ وَقُنِّعْنَ بِمَقَانِعَ مِنْ نَارٍ وَسُرْوِلْنَ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلَ فِي أَجْوَافِهِنَّ إِلَى رُءُوسِهِنَّ أَعْمِدَةٌ مِنْ نَارٍ وَيُقْذَفُ بِهِنَّ فِي النَّارِ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ قَوْمُ لُوطٍ فَاسْتَغْنَى .

ص: 610


1- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الأسئار ، ح 6.
2- ل. أم لا تغتسل.
3- الوسائل ، الباب 14 من أبواب الجنابة ، ح 1.
4- الوسائل ، الباب 100 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 100 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 2.
6- الوسائل ، الباب 36 من أبواب الحيض ، ح 5.
7- سورة النور الآية 35.

الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ فَبَقِيَ النِّسَاءُ بِغَيْرِ رِجَالٍ فَفَعَلْنَ كَمَا فَعَلَ رِجَالُهُنَّ قَالَتْ أَصْلَحَكَ اللّهُ مَا تَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ تَحِيضُ فَتَجُوزُ أَيَّامُ حَيْضِهَا قَالَ إِنْ كَانَ أَيَّامُ حَيْضِهَا دُونَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ اسْتَظْهَرَتْ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ قَالَ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ قَالَتْ فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ كَيْفَ تَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ قَالَ تَجْلِسُ أَيَّامَ حَيْضِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاتَيْنِ قَالَتْ فَإِنَّ أَيَّامَ حَيْضِهَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهَا فَيَتَقَدَّمُ الْحَيْضُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَيَتَأَخَّرُ مِثْلَ ذَلِكَ فَمَا عِلْمُهَا بِهِ قَالَ إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ هُوَ دَمٌ حَارٌّ لَهُ حُرْقَةٌ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ دَمٌ فَاسِدٌ بَارِدٌ قَالَ فَالْتَفَتَتْ إِلَى مَوْلَاتِهَا فَقَالَتْ أَتَرَيْنَهُ كَانَ امْرَأَةً مَرَّةً (1).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ أَجْزَأَهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ (2).

أَحْمَدُ عَنِ الْحُسَيْنِ (3) عَنِ الْحَسَنِ عَنْ زُرْعَةَ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُهُ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ الْمَرْأَةَ فَتَحِيضُ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ قَالَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا وَاجِبٌ (4).

إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام كَانَ لَا يَرَى بَأْساً بِدَمِ مَا لَمْ يُذَكَّ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ فَيُصَلِّي فِيهِ الرَّجُلُ يَعْنِي دَمَ السَّمَكِ (5).

مُوسَى بْنُ عُمَرَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ بَوْلِ الْخَشَاشِيفِ يُصِيبُ ثَوْبِي فَأَطْلُبُهُ فَلَا أَجِدُهُ قَالَ اغْسِلْ ثَوْبَكَ (6).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ مَعَهُ أَهْلُهُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ يَأْتِي أَهْلَهُ فَقَالَ .

ص: 611


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب الحيض ، ح 3.
2- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ح 4 - 8.
3- ط أحمد بن الحسين.
4- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ح 4 - 8.
5- الوسائل ، الباب 23 من أبواب النجاسات ، ح 2.
6- الوسائل ، الباب 10 من أبواب النجاسات ، ح 4.

مَا أُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَبِقاً أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ يَطْلُبُ بِذَلِكَ اللَّذَّةَ قَالَ هُوَ حَلَالٌ قُلْتُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ عَنْ هَذَا فَقَالَ ائْتِ أَهْلَكَ تُؤْجَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَأُوجَرُ فَقَالَ كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ الْحَرَامَ أُزِرْتَ (1) فَكَذَلِكَ إِذَا أَتَيْتَ الْحَلَالَ أُجِرْتَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَتَى الْحَلَالَ أُجِرَ (2).

الْعُبَيْدِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُجْنِبُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَجِدُ إِلَّا الثَّلْجَ أَوْ مَاءً جَامِداً قَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورَةِ يَتَيَمَّمُ وَلَا أَرَى أَنْ يَعُودَ إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي تُوبِقُ دِينَهُ (3).

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفْوَانَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عليهما السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقِيمُ بِالْبِلَادِ الْأَشْهُرَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ مِنْ أَجْلِ الْمَرَاعِي وَصَلَاحِ الْإِبِلِ قَالَ لَا (4).

وَعَنْهُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِسْكِينٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنَّ فُلَاناً أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَهُوَ مَجْدُورٌ فَغَسَّلُوهُ فَمَاتَ قَالَ قَتَلُوهُ أَلَّا يَمَّمُوهُ أَلَّا سَأَلُوا إِنَّ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤَالُ (5).

وَعَنْهُ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ يُصِيبُنَا الدَّمَقُ وَالثَّلْجُ وَنُرِيدُ أَنْ نَتَوَضَّأَ فَلَا نَجِدُ مَاءً إِلَّا جَامِداً فَكَيْفَ أَتَوَضَّأُ أَدْلُكُ بِهِ جِلْدِي قَالَ نَعَمْ (6).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَةً عَلَى تَيَمُّمٍ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَمَعَهُ قِرْبَتَانِ مِنْ مَاءٍ قَالَ يَقْطَعُ .

ص: 612


1- ل. أو زرت.
2- الوسائل ، الباب 27 من أبواب التيمم ، ح 1 - 2.
3- الوسائل: الباب 9 من أبواب التيمم ، ح 9.
4- الوسائل ، الباب 28 من أبواب التيمم ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 5 من أبواب التيمم ، ح 1.
6- الوسائل ، الباب 10 من أبواب التيمم ، ح 2.

الصَّلَاةَ وَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ (1).

الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَسُئِلَ (2) عَنْ رَجُلٍ تَيَمَّمَ وَقَامَ فِي الصَّلَاةِ فَأُتِيَ بِمَاءٍ قَالَ إِنْ كَانَ رَكَعَ فَلْيَمْضِ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُصَلِّ (3).

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَلَوِيُّ عَنِ الْعَمْرَكِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ مُوسَى عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ الْجُنُبِ أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ مَاءٌ وَهُوَ يُصِيبُ ثَلْجاً وَصَعِيداً أَيُّهُمَا أَفْضَلُ أَيَتَيَمَّمُ أَوْ يَتَمَسَّحُ بِالثَّلْجِ وَجْهَهُ قَالَ الثَّلْجُ إِذَا بَلَّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ أَفْضَلُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ فَلْيَتَيَمَّمْ (4).

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام فِي طِينِ الْمَطَرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ نَجَّسَهُ شَيْ ءٌ بَعْدَ الْمَطَرِ وَإِنْ أَصَابَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ غَسَلَهُ فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ نَظِيفاً لَمْ يَغْسِلْهُ (5).

عَلِيُّ بْنُ السِّنْدِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنَّ عِيسَى بْنَ أَعْيَنَ شَكَّ فِي الصَّلَاةِ فَيُعِيدُهَا فَقَالَ هَلْ شَكَّ (6) فِي الزَّكَاةِ فَيُعْطِيهَا مَرَّتَيْنِ (7).

أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ الْفَرَّاءِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا الْوَقْتُ فِي يَوْمِ غَيْمٍ فَقَالَ تَعْرِفُ هَذِهِ الطُّيُورَ الَّتِي عِنْدَكُمْ بِالْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ الدُّيُوكُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِذَا .

ص: 613


1- الوسائل ، الباب 21 من أبواب التيمم ، ح 5.
2- ط. سئل رجل.
3- الوسائل ، الباب 21 من أبواب التيمم ح 2 باختلاف يسير.
4- الوسائل ، الباب 10 من أبواب التيمم ، ح 3.
5- الوسائل ، الباب 6 من أبواب الماء المطلق ، ح 6.
6- ط. يشك.
7- الوسائل ، الباب 29 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 2.

ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهَا وَتَجَاوَبَتْ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَصَلِّ (1).

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ زُرَارَةُ (2) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الْفَرِيضَةِ فَأَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَلَا بَأْسَ (3).

وَعَنْهُ عَنِ الْحُسَيْنِ بنِ الْقَرَوِيِّ (4) عَنْ أَبَانٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَقْرَأُ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ أَلَيْسَ يُقَالُ أَعْطِ كُلَّ سُورَةٍ حَقَّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقَالَ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ فَأَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (5).

الْعَبَّاسُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ لَا سَهْوَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِسَهْوٍ (6).

يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا هُوَ شَكَّ بَعْدَ مَا صَلَّى فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاثاً صَلَّى أَوْ أَرْبَعاً وَكَانَ يَقِينُهُ حِينَ انْصَرَفَ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ لَمْ يُعِدْ وَكَانَ حِينَ انْصَرَفَ أَقْرَبُ مِنْهُ لِلْحِفْظِ بَعْدَ ذَلِكَ (7).

الْعَبَّاسُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنِ الْفُضَيْلِ قَالَ ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام السَّهْوَ فَقَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ رُبَّمَا أَقْعَدْتُ الْخَادِمَ خَلْفِي عَلَيَّ يَحْفَظُ صَلَاتِي (8).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب نوادر المصنف.

ص: 614


1- الوسائل ، الباب 14 من أبواب المواقيت ح 5 باختلاف يسير.
2- ل. قال قال أبو جعفر.
3- الوسائل ، الباب 8 من أبواب القراء في الصلاة ، ح 6 - 5.
4- الوسائل ، الباب 8 من أبواب القراء في الصلاة ، ح 6 - 5.
5- ل. عن الهروي.
6- الوسائل ، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 8.
7- الوسائل ، الباب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3 باختلاف يسير.
8- الوسائل ، الباب 33 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 1.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب من لا يحضره فقيه تصنيف محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه

قَالَ رَوَى حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو وَأَنَسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ (1) عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام عَنِ النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظْهَا فَلَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا حَفِظْتَ وَصِيَّتِي.

يَا عَلِيُّ مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِمْضَائِهِ أَعْقَبَهُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْناً وَإِيمَاناً يَجِدُ طَعْمَهُ (2).

يَا عَلِيُّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهُمُّ بِظُلْمِ أَحَدٍ (3).

يَا عَلِيُّ مَنْ خَافَ النَّاسُ لِسَانَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

يَا عَلِيُّ شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ.

يَا عَلِيُّ شَرُّ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ (4).

يَا عَلِيُّ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْعُذْرَ مِنْ مُتَنَصِّلٍ صَادِقاً كَانَ أَوْ كَاذِباً لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي (5).

يَا عَلِيُّ مَنْ تَرَكَ الْخَمْرَ لِلَّهِ سَقَاهُ اللّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ (6).

يَا عَلِيُّ شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ (7).

يَا عَلِيُّ شَارِبُ الْخَمْرِ لَا يَقْبَلُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً (8).

يَا عَلِيُّ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَالْجُرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ (9).

ص: 615


1- ل: جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن.
2- الوسائل ، الباب 114 من أبواب أحكام العشرة ح 11.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب جهاد النفس ، ح 27.
4- الوسائل ، الباب 71 من أبواب جهاد النفس ، ح 11.
5- الوسائل ، الباب 125 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1.
6- الوسائل ، الباب 9 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 18.
7- الوسائل ، الباب 13 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 12.
8- الوسائل ، الباب 13 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 12.
9- الوسائل ، الباب 17 من أبواب الأشربة والمحرمة ح 10.

يَا عَلِيُّ جُعِلَتِ الذُّنُوبُ (1) فِي بَيْتٍ وَجُعِلَ مِفْتَاحُهَا شُرْبَ الْخَمْرِ (2).

يَا عَلِيُّ يَأْتِي عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ سَاعَةٌ لَا يَعْرِفُ فِيهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (3).

يَا عَلِيُّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِدِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي مُجَالَسَتِهِ وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ لَكَ فَلَا تُوجِبْ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ (4).

يَا عَلِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمُؤْمِنِ ثَمَانُ خِصَالٍ وَقَارٌ عِنْدَ الْهَزَاهِزِ وَصَبْرٌ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَشُكْرٌ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَقُنُوعٌ بِمَا رَزَقَهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَظْلِمُ الْأَعْدَاءَ وَلَا يَتَحَامَلُ لِلْأَصْدِقَاءِ بَدَنُهُ مِنْهُ فِي تَعَبٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ (5).

يَا عَلِيُّ أَرْبَعَةٌ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ إِمَامٌ عَادِلٌ وَوَالِدٌ لِوَلَدِهِ وَالرَّجُلُ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَالْمَظْلُومُ يَقُولُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْتَصِرَنَّ لَكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ (6).

يَا عَلِيُّ ثَمَانِيَةٌ إِنْ أُهِينُوا فَلَا يَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمُ الذَّاهِبُ إِلَى مَائِدَةٍ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا وَالْمُتَأَمِّرُ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ وَطَالِبُ الْخَيْرِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَطَالِبُ الْفَضْلِ مِنَ اللِّئَامِ وَالدَّاخِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي سِرٍّ لَمْ يُدْخِلَاهُ فِيهِ وَالْمُسْتَخِفُّ بِالسُّلْطَانِ وَالْجَالِسُ فِي مَجْلِسٍ لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ وَالْمُقْبِلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ (7).

يَا عَلِيُّ طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ (8).

يَا عَلِيُّ لَا تَمْزَحْ فَيَذْهَبَ بَهَاؤُكَ وَلَا تَكْذِبْ فَيَذْهَبَ نُورُكَ وَإِيَّاكَ وَخَصْلَتَيْنِ الضَّجَرَ وَالْكَسَلَ فَإِنَّكَ إِنْ ضَجِرْتَ لَمْ تَصْبِرْ عَلَى حَقٍّ وَإِنْ كَسِلْتَ لَمْ تُؤَدِّ حَقّاً (9).

يَا عَلِيُّ لَا وَلِيمَةَ إِلَّا فِي خَمْسٍ فِي عُرْسٍ أَوْ خُرْسٍ أَوْ عِذَارٍ أَوْ وِكَارٍ أَوْ رِكَازٍ.

ص: 616


1- ط. ل. الذنوب كلها.
2- الوسائل ، الباب 17 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 10.
3- الوسائل ، الباب 17 من أبواب الأشربة المحرمة ، ح 10.
4- الوسائل ، الباب 28 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 4 من أبواب جهاد النفس ، ح 9.
6- الوسائل ، الباب 52 من أبواب الدعاء ، ح 5.
7- الوسائل ، الباب 63 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ، ح 4.
8- الوسائل ، الباب 72 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 4.
9- الوسائل ، الباب 66 من أبواب جهاد النفس ، ح 2.

فَالْعُرْسُ التَّزْوِيجُ وَالْخُرْسُ النِّفَاسُ بِالْوَلَدِ وَالْعِذَارُ الْخِتَانُ وَالْوِكَارُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ وَالرِّكَازُ الرَّجُلُ يَقْدَمُ مِنْ مَكَّةَ (1).

قَالَ ابْنُ بَابَوَيْهِ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُ فِي مَعْنَى الْوِكَارِ يُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ عِنْدَ بِنَاءِ الدَّارِ وَشِرَائِهَا الْوَكِيرَةُ وَالْوِكَارُ مِنْهُ الطَّعَامُ (2) الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ يُقَالُ لَهَا النَّقِيعَةُ وَيُقَالُ لَهَا الرِّكَازُ أَيْضاً وَالرِّكَازُ الْغَنِيمَةُ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ فِي اتِّخَاذِ الطَّعَامِ لِلْقُدُومِ مِنْ مَكَّةَ غَنِيمَةً لِصَاحِبِهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ.

يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ وَتَحْلُمَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْكَ (3).

يَا عَلِيُّ بَادِرْ بِأَرْبَعٍ قَبْلَ أَرْبَعٍ شَبَابِكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سُقْمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ (4).

يَا عَلِيُّ آفَةُ الْحَسَبِ الِافْتِخَارُ (5).

يَا عَلِيُّ ثَمَانِيَةٌ لَا يَقْبَلُ اللّهُ لَهُمْ صَلَاةً الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَوْلَاهُ وَالنَّاشِزُ (6) وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ وَمَانِعُ الزَّكَاةِ وَتَارِكُ الْوُضُوءِ وَالْجَارِيَةُ الْمُدْرِكَةُ تُصَلِّي بِغَيْرِ خِمَارٍ وَإِمَامُ قَوْمٍ يُصَلِّي بِهِمْ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَالسَّكْرَانُ وَالزِّنِّينُ وَهُوَ الَّذِي يُدَافِعُ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ (7).

يَا عَلِيُّ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ بَنَى اللّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ مَنْ آوَى الْيَتِيمَ وَرَحِمَ الضَّعِيفَ وَأَشْفَقَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَرَفَقَ بِمَمْلُوكِهِ (8).

ص: 617


1- الوسائل ، الباب 33 من أبواب آداب المائدة ، ح 5.
2- ل. والطعام.
3- الوسائل ، الباب 4 من أبواب جهاد النفس ، ح 3.
4- الوسائل ، الباب 91 ، من أبواب جهاد النفس ح 1.
5- الوسائل ، الباب 75 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 6.
6- ل. والمرأة الناشز.
7- الوسائل ، الباب 8 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 6.
8- الوسائل ، الباب 19 من أبواب فعل المعروف ، ح 1.

يَا عَلِيُّ ثَلَاثَةٌ إِنْ أَنْصَفْتَهُمْ ظَلَمُوكَ السَّفِلَةُ وَأَهْلُكَ وَخَادِمُكَ (1) وَثَلَاثَةٌ لَا يَنْتَصِفُونَ مِنْ ثَلَاثَةٍ حُرٌّ مِنْ عَبْدٍ وَعَالِمٌ مِنْ جَاهِلٍ وَقَوِيٌّ مِنْ ضَعِيفٍ (2).

يَا عَلِيُّ لَعَنَ اللّهُ ثَلَاثَةً آكِلَ زَادِهِ وَحْدَهُ وَرَاكِبَ الْفَلَاةِ وَحْدَهُ وَالنَّائِمَ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ (3).

يَا عَلِيُّ ثَلَاثَةٌ مُجَالَسَتُهُمْ تُمِيتُ الْقَلْبَ مُجَالَسَةُ الْأَنْذَالِ وَمُجَالَسَةُ الْأَغْنِيَاءِ وَالْحَدِيثُ مَعَ النِّسَاءِ (4).

يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ عَمَلُهُ وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخُلُقٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ (5).

يَا عَلِيُّ أَنْهَاكَ عَنْ ثَلَاثٍ الْحَسَدِ وَالْحِرْصِ وَالْكِبْرِ (6).

يَا عَلِيُّ لِلْمُتَكَلِّفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ يَتَمَلَّقُ إِذَا حَضَرَ وَيَغْتَابُ إِذَا غَابَ وَيَشْمَتُ بِالْمُصِيبَةِ (7).

وَلِلْمُرَائِي ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ يَنْشَطُ إِذَا كَانَ عِنْدَ النَّاسِ وَيَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ (8).

يَا عَلِيُّ الْعَيْشُ فِي ثَلَاثَةٍ دَارٍ قَوْرَاءَ وَجَارِيَةٍ حَسْنَاءَ وَفَرَسٍ قَبَّاءٍ (9).

يَا عَلِيُّ الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ (10) مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ (11).

يَا عَلِيُّ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللّهِ (12).

ص: 618


1- من لا يحضره الفقيه ، ح 4 الباب 176 النوادر.
2- من لا يحضره الفقيه ، ح 4 الباب 176 النوادر.
3- الوسائل ، الباب 101 من أبواب المائدة ، ج 1 والفقيه ، ج 4 ص 359.
4- الوسائل ، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة ، ح 2 أورده عن الخصال والفقيه ، ج 4 ، ص 359.
5- الوسائل ، الباب 21 من أبواب جهاد النفس ، ذيل ح 15 والفقيه ، ج 4 ص 360.
6- الوسائل ، الباب 55 من أبواب جهاد النفس ، ح 9 والفقيه ، ج 4 ص 360.
7- الفقيه ، 4 ص 361 من وصايا النبي لعلي عليهما السلام.
8- الوسائل ، الباب 13 ، من أبواب مقدمة العبادات ، ح 1 والفقيه ، ج 4 ص 361.
9- الوسائل ، الباب 1 من أبواب أحكام المساكن ، ح 7 والفقيه ، ج 4 ص 361.
10- ط. سلم الناس.
11- الفقيه ، ج 4 ، ص 362 ، من وصايا النبي لعلي عليهما السلام.
12- الوسائل ، الباب 15 ، من أبواب الأمر والنهي ، ح 9 والفقيه ، ج 4 ، ص 362.

يَا عَلِيُّ مَنْ أَطَاعَ امْرَأَتَهُ أَكَبَّهُ (1) اللّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام وَمَا تِلْكَ الطَّاعَةُ قَالَ يَأْذَنُ لَهَا فِي الذَّهَابِ إِلَى الْحَمَّامَاتِ وَالْعُرُسَاتِ وَالنَّائِحَاتِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الرِّقَاقِ (2).

يَا عَلِيُّ إِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ بِالْإِسْلَامِ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِآبَائِهَا أَلَا إِنَّ النَّاسَ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ وَأَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاهُمْ (3).

يَا عَلِيُّ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيُجَادِلُ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ (4).

يَا عَلِيُّ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا وَهُوَ يَتَمَنَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ لَمْ يُعْطَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا قُوتاً (5).

يَا عَلِيُّ لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُهُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ (6).

يَا عَلِيُّ الْإِسْلَامُ عُرْيَانٌ فَلِبَاسُهُ الْحَيَاءُ وَزِينَتُهُ الْوَقَارُ (7) وَمُرُوَّتُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَعِمَادُهُ الْوَرَعُ وَلِكُلِّ شَيْ ءٍ أَسَاسٌ وَأَسَاسُ الْإِسْلَامِ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ (8).

يَا عَلِيُّ سُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ وَطَاعَةُ الْمَرْأَةِ نَدَامَةٌ .

يَا عَلِيُّ إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْ ءٍ فَفِي لِسَانِ الْمَرْأَةِ (9).

يَا عَلِيُّ نَجَا الْمُخِفُّونَ (10).

يَا عَلِيُّ السِّوَاكُ مِنَ السُّنَّةِ وَمَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَيُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُبَيِّضُ الْأَسْنَانَ وَيَذْهَبُ بِالْحَفْرِ وَيَشُدُّ اللِّثَةَ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَيَذْهَبُ بِالْبَلْغَمِ وَيَزِيدُ فِي

ص: 619


1- ط. كبه اللّه.
2- الوسائل ، الباب 16 من أبواب آداب الحمام ، ح 6 الفقيه: ج 4 ص 362.
3- الوسائل ، الباب 75 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 6 الفقيه: ج 4 ص 362.
4- الفقيه ، ج 4 ص 363 من وصايا النبي لعلي عليهما السلام.
5- الفقيه ، ج 4 ص 363.
6- الفقيه: ج 4 ص 364.
7- الفقيه ج 4 ص 363.
8- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 15 ، باختلاف يسير الفقيه ج 4 ص 364.
9- الوسائل ، الباب 25 ، من أبواب أحكام العشرة ، ذيل ح 1 الفقيد ج 4 ص 364.
10- الفقيه ، ج 4 ، ص 364 ، من وصايا لنبي لعلي عليهما السلام.

الْحِفْظِ وَيُضَاعِفُ الْحَسَنَاتِ وَتَفْرَحُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ (1).

يَا عَلِيُّ ثَلَاثَةٌ يُقَسِّينَ الْقَلْبَ اسْتِمَاعُ اللّهْوِ وَطَلَبُ الصَّيْدِ وَإِتْيَانُ بَابِ السُّلْطَانِ (2).

يَا عَلِيُّ لَيْسَ عَلَى زَانٍ عُقْرٌ وَلَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ وَلَا شَفَاعَةَ فِي حَدٍّ وَلَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ (3).

يَا عَلِيُّ نَوْمُ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْعَابِدِ (4) (5).

يَا عَلِيُّ رَكْعَتَانِ يُصَلِّيهِمَا الْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ يُصَلِّيهَا الْعَابِدُ (6) (7).

يَا عَلِيُّ الرِّبَا سَبْعُونَ جُزْءً فَأَيْسَرُهُ مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ فِي بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ

يَا عَلِيُّ تَارِكُ الْحَجِّ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ كَافِرٌ قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (8) .

يَا عَلِيُّ مَنْ سَوَّفَ الْحَجَّ حَتَّى يَمُوتَ بَعَثَهُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً (9).

يَا عَلِيُّ الصَّدَقَةُ تَرُدُّ الْقَضَاءَ الَّذِي قَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً (10).

يَا عَلِيُّ صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ (11).

يَا عَلِيُّ افْتَتِحْ بِالْمِلْحِ وَاخْتِمْ بِالْمِلْحِ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دَاءً (12).

يَا عَلِيُّ أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ (13) أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (14).

يَا عَلِيُّ الْعَقْلُ مَا اكْتُسِبَ بِهِ الْجَنَّةُ وَطُلِبَ بِهِ رِضَا الرَّحْمَنِ (15).

ص: 620


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب السواك ذيل ح 17 الفقيه ، ج 4 ص 365.
2- الوسائل ، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به ، ح 8 الفقيه ، ج 4 ص 366.
3- الوسائل ، الباب 19 من أبواب حد القذف ، ح 8 ، وأورد ذيله في الباب 10 من كتاب الايمان ، ح 3 الفقيه ، ج 4 ، ص 366.
4- ل. الجاهل.
5- الفقيه ، ج 4 ، ص 367 ، من وصايا النبي لعلي عليهما السلام.
6- ل الجاهل.
7- الفقيه: ج 4 ، ص 367.
8- سورة آل عمران ، الآية 97.
9- الوسائل ، الباب 7 من أبواب وجوب الحج ، ذيل ح 3 الفقيه ، ج 4 ، ص 8 - 367.
10- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الصدقة ، ح 4 الفقيه ، ج 4 ص 368.
11- الوسائل ، الباب 8 من أبواب الصدقة ، ح 4 الفقيه ، ج 4 ص 368.
12- الوسائل ، الباب 95 ، من أبواب آداب المائدة ، ح 7 الفقيه ، ج 4 ص 367.
13- الفقيه ، ج 4 ، ص 368 ط الحديث.
14- الفقيه ، ج 4 ، ص 369.
15- الفقيه ، ج 4 ، ص 369.

يَا عَلِيُّ إِنَّ أَوَّلَ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَقْلُ فَقَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي وَبِكَ أُثِيبُ وَبِكَ أُعَاقِبُ (1).

يَا عَلِيُّ لَا خَيْرَ فِي قَوْلٍ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ وَلَا فِي الْمَنْظَرِ إِلَّا مَعَ الْمَخْبَرِ وَلَا فِي الْمَالِ إِلَّا مَعَ الْجُودِ وَلَا فِي الصِّدْقِ إِلَّا مَعَ الْوَفَاءِ وَلَا فِي الْفِقْهِ إِلَّا مَعَ الْوَرَعِ وَلَا فِي الصَّدَقَةِ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَلَا فِي الْحَيَاةِ إِلَّا مَعَ الصِّحَّةِ وَلَا فِي الْوَطَنِ إِلَّا مَعَ الْأَمْنِ وَالسُّرُورِ (2).

يَا عَلِيُّ لَا تُمَاكِسْ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فِي شِرَى (3) الْأُضْحِيَّةِ وَالْكَفَنِ وَالنَّسَمَةِ وَالْكَرِيِّ إِلَى مَكَّةَ (4).

يَا عَلِيُّ أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا هُمْ رَكِبُوا السُّفُنَ فَقَرَءُوا ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (5) (6).

يَا عَلِيُّ أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ السَّرَقِ ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (7) (8).

يَا عَلِيُّ لَعَنَ اللّهُ وَالِدَيْنِ حَمَلَا وَلَدَهُمَا عَلَى عُقُوقِهِمَا (9).

يَا عَلِيُّ رَحِمَ اللّهُ وَالِدَيْنِ حَمَلَا وَلَدَهُمَا عَلَى بِرِّهِمَا (10).

يَا عَلِيُّ مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نَصْرَهُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ خَذَلَهُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (11).

يَا عَلِيُّ مَنْ كَفَى يَتِيماً (12) فِي نَفَقَتِهِ بِمَالِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ .

ص: 621


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 2 - 6 عن المحاسن باختلاف يسير.
2- الفقيه ، ج 4 ، ص 370.
3- ل. في شراء.
4- الوسائل ، الباب 36 ، من أبواب التكفين ، ح 1.
5- سورة هود ، الآية 41.
6- الفقيه ، ج 4 ، ص 370.
7- سورة الاسراء ، الآية 110.
8- الفقيه ، ج 4 ، ص 370.
9- الفقيه ج 4 ص 372.
10- الفقيه ج 4 ص 372.
11- الوسائل ، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1.
12- ل. في يتمه.

الْبَتَّةَ (1).

يَا عَلِيُّ مَنْ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ تَرَحُّماً لَهُ أَعْطَاهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ شَعْرَةٍ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2).

يَا عَلِيُّ لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ وَلَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ وَلَا وَحْدَة (3) أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ وَلَا عِبَادَةَ مِثْلُ التَّفَكُّرِ (4).

يَا عَلِيُّ آفَةُ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ وَآفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ وَآفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ وَآفَةُ الْجَمَالِ الْخُيَلَاءُ وَآفَةُ الْعِلْمِ الْحَسَدُ (5).

يَا عَلِيُّ أَرْبَعَةٌ يَذْهَبْنَ ضَيَاعاً الْأَكْلُ عَلَى الشِّبَعِ وَالسِّرَاجُ فِي الْقَمَرِ وَالزَّرْعُ فِي السَّبَخَةِ وَالصَّنِيعَةُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا (6).

يَا عَلِيُّ لَأَنْ أُدْخِلَ يَدِي فِي فَمِ التِّنِّينِ إِلَى الْمِرْفَقِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَسْأَلَ مَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ (7).

وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَوُضِعَتِ الْمَوَازِينُ فَتُوزَنُ دِمَاءُ الشُّهَدَاءِ مَعَ مِدَادِ الْعُلَمَاءِ فَيُرَجَّحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ (8).

وَعَنْهُ عليه السلام عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام خَرَجَ يَقْتَبِسُ لِأَهْلِهِ نَاراً فَكَلَّمَهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَجَعَ نَبِيّاً وَخَرَجَتْ مَلِكَةُ سَبَإٍ (9) فَأَسْلَمَتْ مَعَ سُلَيْمَانَ عليه السلام وَخَرَجَتْ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ لِفِرْعَوْنَ فَرَجَعُوا مُؤْمِنِينَ (10).

ص: 622


1- الوسائل ، الباب 19 من أبواب فعل المعروف ذيل ح 1 والفقيه ج 4 ص 372.
2- الوسائل ، الباب 19 من أبواب فعل المعروف ذيل ح 1 والفقيه ج 4 ص 372.
3- ط. ولا وحشة.
4- الفقيه ، ج 4 ص 372.
5- الفقيه ، ج 4 ، ص 373.
6- الوسائل ، الباب 5 من أبواب فعل المعروف ، ح 4 والفقيه ، ص 373 ، ج 4.
7- الوسائل ، الباب 32 ، من أبواب الصدقة ، ح 6 والفقيه ج 4 ص 373.
8- الفقيه ، ج 4 ، ص 398 ، موعظة 5853.
9- ط. أي بلقيس.
10- الوسائل ، الباب 14 من أبواب مقدمات التجارة ، ح 3 والفقيه ج 4 ص 399 موعظة 5854.

وَكَانَ الصَّادِقُ عليه السلام يَقُولُ الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ فَلَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَّا بُعْداً (1).

وَعَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله أَنَّهُ ذَكَرَ شِرَارَ النَّاسِ فَقَالَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ الَّذِي لَا يُقِيلُ عَثْرَةً وَلَا يَقْبَلُ مَعْذِرَةً وَلَا يَغْفِرُ ذَنْباً (2) ثُمَّ قَالَ عليه السلام إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تُحَدِّثُوا بِالْحِكْمَةِ الْجُهَّالَ فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَلَا تُعِينُوا الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ فَيَبْطُلَ فَضْلُكُمْ (3).

وَقَالَ عليه السلام لَا تَقَرَّبُوا (4) إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ بِتَبَاعُدٍ مِنَ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ شَيْ ءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ بِهِ عَنْهُ سُوءاً إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ إِنَّ طَاعَةَ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَجَاحُ كُلِّ خَيْرٍ يُبْتَغَى وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُتَّقَى وَإِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَعْصِمُ مَنْ أَطَاعَهُ وَلَا يَعْصِمُ مِنْهُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا يَجِدُ الْهَارِبُ مِنَ اللّهِ مَهْرَباً فَإِنَّ أَمْرَ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَازِلٌ بِإِذْلَالِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْخَلَائِقُ وَكُلَّمَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ مَا شَاءَ اللّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ( تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (5) (6).

وَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ الِاشْتِهَارُ بِالْعِبَادَةِ رِيبَةٌ إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله قَالَ أَعْبَدُ النَّاسِ مَنْ أَقَامَ الْفَرَائِضَ وَأَسْخَى النَّاسِ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ وَأَزْهَدُ النَّاسِ مَنِ اجْتَنَبَ الْحَرَامَ وَأَتْقَى النَّاسِ مَنْ قَالَ الْحَقَّ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ (7).

ص: 623


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 11.
2- الفقيه ، ج 4 ، ص 400 ، ضمن موعظة 5858.
3- الفقيه ، ج 4 ، ص 400 ، ضمن موعظة 5858.
4- ل. لا تنقربوا.
5- سورة المائدة ، الآية 2.
6- الفقيه ، ج 4 ، ص 400 ، ضمن موعظة 5868.
7- الفقيه ، ج 4 ، ص 394 ، موعظة 5840 وأورد صدره في الوسائل الباب 17 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 9.

وَقَالَ الرَّسُولُ صلى اللّه عليه وآله لَا تُحَقِّرُوا شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ وَإِنْ صَغُرَ فِي أَعْيُنِكُمْ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا شَيْئاً مِنَ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَإِنَّهُ لَا كَبِيرَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَ مَعَ الْإِصْرَارِ (1).

وَقَالَ عليه السلام وَمَنْ تَطَوَّلَ عَلَى أَخِيهِ فِي غِيبَةٍ سَمِعَهَا فِيهِ فِي مَجْلِسٍ فَرَدَّهَا عَنْهُ رَدَّ اللّهُ عَنْهُ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنْ هُوَ لَمْ يَرُدَّهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّهَا كَانَ عَلَيْهِ كَوِزْرِ مَنِ اغْتَابَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً (2).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب من لا يحضر الفقيه.

ومما استطرفناه من كتاب قرب الأسناد تصنيف محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري

قَالَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَوَّلَ عليه السلام وَهُوَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يُكَلِّمَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَرْقَطَ أَبَداً فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذَا يَأْمُرُ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَيَحْلِفُ أَنْ لَا يُكَلِّمَ ابْنَ عَمِّهِ أَبَداً قَالَ فَقَالَ هَذَا مِنْ بِرِّي بِهِ هُوَ لَا يَصْبِرُ أَنْ يَذْكُرَنِي وَيُعِيبُنِي فَإِذَا عَلِمَ النَّاسُ أَنْ لَا أُكَلِّمَهُ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ أَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِي فَكَانَ خَيْراً لَهُ (3).

وَقَالَ سَأَلَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ أَخَاهُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الْخَاتَمِ يَكُونُ فِيهِ نَقْشُ تَمَاثِيلِ سَبُعٍ أَوْ طَيْرٍ أَيُصَلَّى فِيهِ قَالَ لَا بَأْسَ (4).

وَعَنْهُ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام قَالَ قِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي ثُمَّ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي فَإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه وآله وَلَمْ يَقُلْ وَتَبَرَّأْ (5) مِنِّي فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ أَرَأَيْتَ إِنِ اخْتَارَ الْقَتْلَ دُونَ الْبَرَاءَةِ

ص: 624


1- الوسائل ، الباب 43 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 8.
2- الفقيه ، ج 4 ، ص 15 ، من حمل مناهي النبي صلى اللّه عليه وآله.
3- قرب الاسناد ، ص 124.
4- الوسائل ، الباب 45 ، من أبواب لباس المصلي ، ح 22.
5- ل. وتبرؤوا.

مِنْهُ فَقَالَ وَاللّهِ مَا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَمَا لَهُ إِلَّا مَا مَضَى عَلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ حَيْثُ أَكْرَهَهُ أَهْلُ مَكَّةَ ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (1) فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ ( إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله عِنْدَهَا يَا عَمَّارُ إِنْ عَادُوا فَعُدْ فَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَكَ فِي الْكِتَابِ وَأَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِنْ عَادُوا (2).

قَالَ وَحَدَّثَنِي مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيّاً قَالَ إِنَّ أَعْظَمَ الْعُوَّادِ أَجْراً عِنْدَ اللّهِ لَمَنْ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ خَفَّفَ الْجُلُوسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرِيضُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيُرِيدُهُ وَيَسْأَلُهُ ذَلِكَ (3).

وَعَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ لَمَّا حَصَرَ النَّاسُ عُثْمَانَ جَاءَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى عَائِشَةَ وَقَدْ تَجَهَّزَتْ لِلْحَجِّ فَقَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ عُثْمَانَ قَدْ حَصَرَهُ النَّاسُ فَلَوْ تَرَكْتِ الْحَجَّ وَأَصْلَحْتِ أَمْرَهُ كَانَ النَّاسُ يَسْمَعُونَ مِنْكِ فَقَالَتْ قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ وَشَدَدْتُ غَرَائِرِي فَوَلَّى مَرْوَانُ وَهُوَ يَقُولُ : حَرَّقَ قَيْسٌ عَلَيَّ الْبِلَادَ ، حَتَّى إِذَا اضْطَرَمَتْ أخذ ماء ، فَسَمِعَتْهُ عَائِشَةُ ، فَقَالَتْ تَعَالَ ، لَعَلَّكَ تَظُنُّ أَنِّي فِي شَكٍّ مِنْ صَاحِبِكَ وَاللّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ وَهُوَ فِي غَرَارَتَيْنِ مَخِيطٌ عَلَيْكُمَا تُغَطَّانِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى تَمُوتَا (4).

وَعَنْهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ قَالَ قَالَ لِخَيْثَمَةَ وَأَنَا أَسْمَعُ يَا خَيْثَمَةُ أَقْرِئْ مَوَالِيَنَا السَّلَامَ وَأَوْصِهِمْ بِتَقْوَى اللّهِ الْعَظِيمِ وَأَنْ يَعُودَ غَنِيُّهُمْ عَلَى فَقِيرِهِمْ وَقَوِيُّهُمْ عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَأَنْ يَشْهَدَ أَحْيَاؤُهُمْ جَنَائِزَ مَوْتَاهُمْ وَأَنْ يَتَلَاقَوْا فِي بُيُوتِهِمْ فَإِنَّ لُقِيَّهُمْ حَيَاةٌ لِأَمْرِنَا ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ فَقَالَ رَحِمَ اللّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا (5).

وَعَنْهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَبْلِغْ مَوَالِيَنَا عَنَّا السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّا لَنْ نُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِلَّا بِعَمَلٍ وَأَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا .

ص: 625


1- سورة النحل ، الآية 106.
2- الوسائل ، الباب 29 ، من أبواب الأمر والنهي ، ح 2 ، إلا أورده عن الكافي وقرب الاسناد.
3- الوسائل ، الباب 15 من أبواب الاحتضار ، ح 1 ، أورده عن الكافي وقرب الاسناد.
4- قرب الاسناد ، ص 14.
5- الوسائل ، الباب 98 ، من أبواب المزار ، ح 2 ، أورده عن الكافي والأمالي وقرب الاسناد.

وَلَايَتَنَا إِلَّا بِعَمَلٍ أَوْ وَرَعٍ وَأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلاً ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ (1).

وَعَنْهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ مَا زَارَ مُسْلِمٌ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي اللّهِ إِلَّا نَادَاهُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيُّهَا الزَّائِرُ طِبْتَ وَطَابَتْ لَكَ الْجَنَّةُ (2).

وَعَنْهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ قَالَ قَالَ لِفُضَيْلٍ تَجْلِسُونَ وَتُحَدِّثُونَ قَالَ نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ إِنَّ تِلْكَ الْمَجَالِسَ أُحِبُّهَا فَأَحْيُوا أَمْرَنَا يَا فُضَيْلُ فَرَحِمَ اللّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا يَا فُضَيْلُ مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ (3).

وَعَنْهُ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ الشَّحِيحُ أَعْذَرُ مِنَ الظَّالِمِ فَقَالَ كَذَبْتَ إِنَّ الظَّالِمَ يَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَيَرُدُّ الظُّلَامَةَ عَلَى أَهْلِهَا وَالشَّحِيحُ إِذَا شَحَّ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ وَإِقْرَاءَ الضَّيْفِ وَالنَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأَبْوَابَ الْبِرِّ وَحَرَامٌ عَلَى الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَهَا شَحِيحٌ (4).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب قرب الإسناد.

ومما استطرفناه من كتاب جعفر بن محمد بن سنان الدهقان

جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللّهِ عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مَا هَذَا فَقَالُوا عَلَّامَةٌ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ صلى اللّه عليه وآله وَمَا الْعَلَّامَةُ

ص: 626


1- قرب الاسناد ، ص 16.
2- الوسائل ، الباب 97 من أبواب المزار ، ح 2 ، أورده عن الكافي وثواب الأعمال وقرب الاسناد.
3- الوسائل ، الباب 66 ، من أبواب المزار ، ح 2 أورده عن قرب الاسناد وثواب الأعمال.
4- الوسائل ، الباب 5 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، ح 1 ، أورده عن الكافي وقرب الاسناد.

قَالُوا عَالِمٌ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله ذَلِكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ وَلَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ (1).

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مَنِ انْهَمَكَ فِي طَلَبِ النَّحْوِ سُلِبَ الْخُشُوعَ (2).

تم الحديثان المنتزعان من كتاب جعفر بن محمد بن سنان الدهقان.

ومما استطرفناه من كتاب معاني الأخبار من الجزء الثاني تصنيف ابن بابويه

قال باب معنى الحوأب والجمل الأذيب.

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ (3) أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِبَلْخَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِصَامُ (4) بْنُ قُدَامَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله أَنَّهُ قَالَ لِنِسَائِهِ لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَذْيَبِ الَّتِي تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ فَيُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَتْلَى كَثِيرَةٌ ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَ مَا كَادَتْ (5).

قال ابن بابويه مصنف كتاب معاني الأخبار الحوأب ماء لبني عامر والجمل الأذيب يقال الذيبة داء يأخذ الدواب يقال برذون مذءوب قال وأظن الجمل الأذيب مأخوذ من ذلك وقوله تنجو بعد ما كادت أي تنجو بعد ما كادت تهلك.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه وجدت في الغريبين للهروي هذا الحديث وهو في باب الدال غير المعجمة مع الباء المنقطة تحتها نقطة واحدة.

ص: 627


1- الوسائل ، الباب 105 من أبواب ما يكتسب به ، صدر ح 6 ، أورده عن الكافي.
2- الوسائل ، الباب 105 من أبواب ما يكتسب به ، ح 10.
3- ل. الحاكم.
4- ل. عاصم.
5- معاني الأخبار ، ص 305 ، باب معنى الحوأب والجمل الادبب.

قال أبو عبيد وَفِي الْحَدِيثِ لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَدْبَبِ تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ قيل أراد الأدب فأظهر التضعيف والأدب الكثير الوبر يقال جمل أدب إذا كان كثير الدبب والدبب كثرة شعر الوجه ودببه.

وأنشدني محمد بن موسى الأصفر الرازي قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري

يمشقن كل غصن مغلوس (1) *** مشق النساء دبب العروس

يمشقن يقطعن كل غصن كثير الورق كما ينتف النساء الشعر من وجه العروس.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ووجدت أيضا في مجمل اللغة لابن فارس مثل ما ذكره أبو عبيد صاحب الغريبين وقد أورد الحديث على ما ذكره وفسره على ما فسره ووضعه في باب الدال غير المعجمة مع الباء والاعتماد على أهل اللغة في ذلك فإنهم أقوم به.

وأظن شيخنا ابن بابويه تجاوز نظره هذا الحرف وزل فيه فأورده بالذال المعجمة والياء على ما في كتابه.

واعتقد أن الجمل الأذيب مشتق من الذيبة ففسره على ما فسره وهذا تصحيف منه.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب تهذيب الأحكام تصنيف شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه

مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي وَأَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ الْقَصِيرُ وَزِيَادُ الْأَحْلَامِ فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَرَأَى زِيَاداً قَدْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ فَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ قَالَ مِنَ الْكُوفَةِ قَالَ وَلِمَ أَحْرَمْتَ مِنَ

ص: 628


1- ل. معكوس.

الْكُوفَةِ فَقَالَ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِكُمْ أَنَّهُ قَالَ مَا بَعُدَ مِنَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ قَالَ مَا بَلَّغَكَ هَذَا إِلَّا كَذَّابٌ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي حَمْزَةَ مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ قَالَ مِنَ الرَّبَذَةِ قَالَ وَلِمَ ذَلِكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ أَنَّ قَبْرَ أَبِي ذَرٍّ بِهَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ لَا تَجُوزَهُ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي وَلِعَبْدِ الرَّحِيمِ مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتُمَا فَقَالا مِنَ الْعَقِيقِ فَقَالَ أَصَبْتُمَا الرُّخْصَةَ وَاتَّبَعْتُمَا السُّنَّةَ وَلَا يُعْرَضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعَنِيفِ (1).

مِسْمَعُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَحْكُمُ فِي زِنْدِيقٍ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مَرْضِيَّانِ عَدْلَانِ وَشَهِدَ لَهُ أَلْفٌ بِالْبَرَاءَةِ جَازَتْ شَهَادَةُ الرَّجُلَيْنِ وَأَبْطَلَ شَهَادَةَ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ دِينٌ مَكْتُومٌ (2).

عُمَرُ عَنْ خَالِدٍ (3) عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله عَنِ السَّاحِرِ فَقَالَ إِذَا جَاءَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ فَيَشْهَدَانِ عَلَيْهِ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ (4).

عَنْ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) (5) قَالَ هُوَ كَمَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ مَنْ يَأْكُلُ أَكْثَرَ مِنَ الْمُدِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُ أَقَلَّ مِنَ الْمُدِّ فَبَيْنَ ذَلِكَ فَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ لَهُمْ أُدْماً وَالْأُدْمُ أَدْنَاهُ الْمِلْحُ وَأَوْسَطُهُ الزَّيْتُ وَالْخَلُّ وَأَرْفَعُهُ اللَّحْمُ (6).

قَالَ كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام رَجُلٌ حَلَفَ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ اللّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ فَحَنِثَ مَا تَوْبَتُهُ وَكَفَّارَتُهُ فَوَقَّعَ عليه السلام يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَيَسْتَغْفِرُ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ (7).

عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ رَمَى صَيْداً وَهُوَ .

ص: 629


1- الوسائل ، الباب 11 من أبواب المواقيت ، ح 7 التهذيب ، ج 5 ص 52.
2- الوسائل ، الباب 51 من أبواب الشهادات ، ح 2 - 1 التهذيب ، ج 6 ص 283 - 278.
3- ل. عمر بن خالد.
4- الوسائل ، الباب 51 من أبواب الشهادات ، ح 2 - 1 التهذيب ، ج 6 ص 283 - 278.
5- سورة المائدة ، الآية 89.
6- الوسائل ، الباب 14 من أبواب الكفارات ، ح 3 التهذيب ، ج 8 ص 297.
7- الوسائل ، الباب 20 من أبواب الكفارات ، ح 1 التهذيب ج 8 ص 299.

عَلَى جَبَلٍ أَوْ حَائِطٍ فَيَخْرِقُ فِيهِ السَّهْمُ فَيَمُوتُ فَقَالَ كُلْ مِنْهُ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ مِنْ رَمْيَتِكَ فَمَاتَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ (1).

مُرَازِمٌ قَالَ دَخَلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَوْماً إِلَى مَنْزِلِ مُعَتِّبٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَتَنَاوَلَ لَوْحاً فِيهِ كِتَابٌ فِيهِ تَسْمِيَةُ أَرْزَاقِ الْعِيَالِ وَمَا يَخْرُجُ لَهُمْ فَإِذَا فِيهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِثْنَاءٌ فَقَالَ مَنْ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ كَيْفَ ظَنَّ أَنَّهُ يُتِمُّ ثُمَّ دَعَا بِالدَّوَاةِ فَقَالَ أَلْحِقْ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللّهُ فَأَلْحَقَ فِي كُلِّ اسْمٍ إِنْ شَاءَ اللّهُ (2).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ (3) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّ أَبَاهُ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ أَظُنُّهُ قَالَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ إِنَّ عِنْدَكَ امْرَأَةً تَبَرَّأُ مِنْ جَدِّكَ فَقَضَى لِأَبِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا فَادَّعَتْ عَلَيْهِ صَدَاقَهَا فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمَدِينَةِ تَسْتَعْدِيهِ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ يَا عَلِيُّ إِمَّا أَنْ تَحْلِفَ وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَهَا فَقَالَ لِي يَا بُنَيَّ قُمْ فَأَعْطِهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَهْ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَلَسْتَ مُحِقّاً قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أَجْلَلْتُ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَحْلِفَ بِهِ يَمِينَ صَبْرٍ (4) عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام فِي مَجُوسِيَّةٍ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا وَأَبَى زَوْجُهَا أَنْ يُسْلِمَ فَقَضَى عليه السلام لَهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَقَالَ لَمْ يَزِدْهَا الْإِسْلَامُ إِلَّا عِزّاً (5).

عَنْ زُرَارَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي رَجُلٍ كَتَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ بِطَلَاقِهَا وَكَتَبَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانُهُ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ لِسَانُهُ (6).

عَنْ سُلَيْمٍ الْفَرَّاءِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي قَالَتْ إِنِّي لَجَالِسَةٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَلَمَّا رَآنِي مَالَ إِلَيَّ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَا .

ص: 630


1- الوسائل ، الباب 26 من أبواب الصيد والذبائح ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 26 من أبواب الايمان ، ح 1.
3- ل. عن أبي محمد.
4- الوسائل ، الباب 2 من أبواب الايمان ، ح 1.
5- الوسائل ، الباب 9 من أبواب ما يحرم بالكفر ، ح 7.
6- الوسائل ، الباب 45 من أبواب العتق ، ح 1.

يُجْلِسُكِ هَاهُنَا فَقُلْتُ أَنْتَظِرُ مَوْلًى لَنَا قَالَتْ فَقَالَ لِي أَعْتَقْتُمُوهُ قُلْتُ لَا وَلَكِنَّا أَعْتَقْنَا أَبَاهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكِ بِمَوْلَاكُمْ هَذَا أَخُوكُمْ وَابْنُ عَمِّكُمْ إِنَّمَا الْمَوْلَى الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ فَإِذَا جَرَتْ عَلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ فَهُوَ ابْنُ عَمِّكِ وَأَخُوكِ (1).

عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى بَعْضِ وُلْدِهِ بِطَرَفٍ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ وُلْدِهِ قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَعَنِ الرَّجُلِ يَتَصَدَّقُ بِبَعْضِ مَالِهِ عَلَى بَعْضِ وُلْدِهِ وَيُبِينُهُ لَهُمْ أَلَهُ أَنْ يُدْخِلَ مَعَهُمْ مِنْ وُلْدِهِ غَيْرَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَبَانَهُمْ بِصَدَقَتِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ مَنْ وَلَدَ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَهُ (2).

مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ وَبَلَغْتَ مُؤَخَّرَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ بِحِذَاءِ الْمُسْتَجَارِ دُونَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِقَلِيلٍ فَابْسُطْ يَدَيْكَ عَلَى الْبَيْتِ وَأَلْصِقْ بَطْنَكَ وَخَدَّكَ بِالْبَيْتِ وَقُلِ اللّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ وَالْعَبْدُ عَبْدُكَ وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ ثُمَّ أَقِرَّ لِرَبِّكَ بِمَا عَمِلْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُقِرُّ لِرَبِّهِ بِذُنُوبِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ إِلَّا غَفَرَ اللّهُ لَهُ إِنْ شَاءَ اللّهُ (3).

مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا أَحْرَمْتَ فَعَقَصْتَ رَأْسَكَ أَوْ لَبَّدْتَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَلْقُ وَلَيْسَ لَكَ التَّقْصِيرُ (4).

وَعَنْهُ عَنْ صَفْوَانَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ عَقَصَ رَأْسَهُ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ فَقَضَى نُسُكَهُ وَحَلَّ عِقَاصَ رَأْسِهِ فَقَصَّرَ وَادَّهَنَ وَأَحَلَّ قَالَ عَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ (5).

وَقَالَ كَتَبَ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعُمْرَةِ الْمَبْتُولَةِ هَلْ عَلَى صَاحِبِهَا طَوَافُ النِّسَاءِ وَعَنِ الْعُمْرَةِ الَّتِي يُتَمَتَّعُ بِهَا إِلَى الْحَجِّ فَكَتَبَ أَمَّا .

ص: 631


1- الوسائل ، الباب 38 ، من أبواب العتق ، ح 9.
2- الوسائل ، الباب 5 من أبواب الوقوف والصدقات ، ح 1.
3- الوسائل ، الباب 26 من أبواب الطواف ، ح 9.
4- الوسائل ، الباب 7 من أبواب الحلق والتقصير ، ح 8 - 9.
5- الوسائل ، الباب 7 من أبواب الحلق والتقصير ، ح 8 - 9.

الْعُمْرَةُ الْمَبْتُولَةُ فَعَلَى صَاحِبِهَا طَوَافُ النِّسَاءِ وَأَمَّا الَّتِي يُتَمَتَّعُ بِهَا إِلَى الْحَجِّ فَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِهَا طَوَافُ النِّسَاءِ (1).

أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ فِي الْحَاجَةِ مِنَ الْحَرَمِ قَالَ إِنْ رَجَعَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ دَخَلَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَإِنْ دَخَلَ فِي غَيْرِهِ دَخَلَ بِإِحْرَامٍ (2).

مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُذَافِرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ مَنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَفَاهُ غُسْلُهُ إِلَى اللَّيْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْغُسْلُ وَمَنِ اغْتَسَلَ لَيْلاً كَفَاهُ غُسْلُهُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ (3).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب تهذيب الأحكام.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب عبد اللّه بن بكير بن أعين

عَنْهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي الرَّجُلِ يُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لِجَارِيَتِهِ قُولِي لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا قَالَ لَا بَأْسَ لَيْسَ بِكَذِبٍ عَنِيدٍ (4).

قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام الرَّجُلُ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ فَيُجَوِّدُ صَلَاتَهُ وَيُحَسِّنُهَا رَجَاءَ أَنْ يَسْتَجِرَّ بَعْضَ مَنْ رَآهُ إِلَى هَوَاهُ قَالَ عليه السلام لَيْسَ هَذَا مِنَ الرِّيَاءِ (5).

وَفِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ امْرَأَةَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام الشَّيْبَانِيَّةَ قَالَ فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تُعْجِبُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا ثَدْيٌ كَمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ (6).

وَعَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ ضَمَاناً ثُمَّ صَالَحَ عَلَى بَعْضِ مَا ضَمِنَ عَنْهُ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ (7).

ص: 632


1- الوسائل ، الباب 82 من أبواب الطواف ، ح 1.
2- الوسائل ، الباب 51 من أبواب الاحرام ، ح 4.
3- الوسائل ، الباب 9 من أبواب الاحرام ، ح 4.
4- الوسائل ، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة ، ح 8 ، باختلاف يسير.
5- الوسائل ، الباب 16 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 2.
6- لم نعثر عليه.
7- الوسائل ، الباب 6 من أبواب الضمان ، ح 1.

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ صَلَّيْتُ يَوْماً بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ وَالسَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةٌ وَانْصَرَفْتُ فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَإِذَا هِيَ حِينَ زَالَتْ (1) فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَا تُعِدْ وَلَا تَعُودَنَّ (2).

وَعَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي احْتِجَاجِ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي الْغَارِ فَقَالَ عليه السلام حَسْبُكَ بِذَلِكَ عَاراً أَوْ قَالَ شَرّاً إِنَّ اللّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ رَسُولَهُ صلى اللّه عليه وآله مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً وَإِنَّهُ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا خَصَّ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله دُونَهُ (3).

وَعَنْهُ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ أَوِ الْمُشْرِكُ فَقُلْ عَلَيْكَ (4).

وَعَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مُتْعَةً إِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ بَعْدَ النِّكَاحِ (5).

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ مَنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّي فَكُلْ مِنْ ذَبِيحَتِهِ (6).

وَعَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَعِنْدَهُ ابْنُ خَرَّبُوذَ فَأَنْشَدَنِي شَيْئاً فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحاً خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً فَقَالَ ابْنُ خَرَّبُوذَ إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ قَالَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَيْلَكَ أَوْ وَيْحَكَ قَدْ قَالَ ذَاكَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله (7).

وَعَنْهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ .

ص: 633


1- ل. زالت الشمس.
2- الوسائل الباب 4 من أبواب المواقيت ، ح 16 ، باختلاف يسير.
3- البحار ، ط كمپاني ج 8 ، ص 220.
4- الوسائل ، الباب 49 من أبواب أحكام العشرة ، ح 3.
5- الوسائل ، الباب 19 من أبواب المتعة ، ح 4.
6- البحار: ج 66 ص 25 ح 23.
7- الوسائل ، الباب 51 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 3.

عليه السلام رَجُلٌ قَالَ لَأَقْعُدَنَّ فِي بَيْتِي وَلَأُصَلِّيَنَّ وَلَأَصُومَنَّ وَلَأَعْبُدَنَّ رَبِّي فَأَمَّا رِزْقِي فَيَأْتِينِي (1) فَقَالَ هَذَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ قُلْتُ وَمَنِ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ قَالَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ يَدْعُو أَنْ يُرِيحَهُ (2) مِنْهَا وَيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَيُقَالُ لَهُ أَمْرُهَا بِيَدِكَ فَخَلِّ سَبِيلَهَا وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَى إِنْسَانٍ لَمْ يُشْهِدْ (3) فَيَدْعُو لِلَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ أَمَرْتُكَ أَنْ تُشْهِدَ (4) وَتَسْتَوْثِقَ فَلَمْ تَفْعَلْ (5).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب عبد اللّه بن بكير.

ومن ذلك ما استطرفناه من رواية أبي القاسم بن قولويه

رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ مَنْ مَشَى إِلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّهِ وَوَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِثْلُ أَعْمَالِهِمْ (6).

عَبْدُ اللّهِ بْنُ سِنَانٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام حِقْدُ الْمُؤْمِنِ مُقَامَهُ ثُمَّ يُفَارِقُ أَخَاهُ فَلَا يَجِدْ عَلَيْهِ شَيْئاً وَحِقْدُ الْكَافِرَ دَهْرَهُ (7).

عَنْ جَمِيلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ خَدَمٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَقُلْتُ وَكَيْفَ يَكُونُ خَدَمٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَقَالَ تَفْقِيهُهُمْ (8) بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (9).

قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مَوْتُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ جَاءَهُ خَبَرٌ آخَرُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَتَانَا خَبَرٌ ارْتَاعَ لَهُ إِخْوَانُكَ ثُمَّ جَاءَ تَكْذِيبُ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَأَنْعَمَ (10) ذَلِكَ أَنْ سُرِرْنَا وَإِنَّ السُّرُورَ وَشِيكُ الِانْقِطَاعِ مَبْلَغُهُ (11) عَمَّا قَلِيلٍ تَصْدِيقُ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَهَلْ أَنْتَ كَائِنٌ

ص: 634


1- ل. فيأتين.
2- ل. يريحه اللّه.
3- ط. ل. يشهد عليه.
4- ط. ل. يشهد عليه.
5- الوسائل ، الباب 50 من أبواب الدعاء ، ح 4.
6- الوسائل الباب 3 من أبواب الأمر والنهي ، ح 11.
7- بحار الأنوار: ج 75 ، باب 64 من كتاب العشرة ، ص 211 ، ح 7.
8- ط. ل. تفقههم.
9- البحار: ج 74 ، ص 226 ، ح 19.
10- ط. فانعمه.
11- ط. يبلغه.

كَرَجُلٍ قَدْ ذَاقَ الْمَوْتَ وَعَايَنَ (1) مَا بَعْدَهُ فَسَأَلَ الرَّجْعَةَ فَأَسْعَفَ بِطَلِبَتِهِ فَهُوَ مُتَأَهِّبٌ دَائِبٌ يَنْقُلُ مَا سَرَّهُ (2) مِنْ مَالِهِ إِلَى دَارِ قَرَارِهِ لَا يَرَى أَنَّ لَهُ (3) مَالاً غَيْرَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَمْ يَزَالا دَائِبَيْنِ فِي نَقْصِ الْأَعْمَارِ وَإِنْفَادِ الْأَمْوَالِ وَطَيِّ الْآجَالِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ صَبَّحَا (4) ( عاداً وَثَمُودَ ) (5) .. ( وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً ) فَأَصْبَحُوا قَدْ وَرَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَقَدِمُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ غَضَّانِ جَدِيدَانِ لَا تُبْلِيهِمَا مَا مَرَّا بِهِ مُسْتَعِدَّانِ لِمَنْ بَقِيَ بِمِثْلِ مَا أَصَابَا (6) بِهِ مَنْ مَضَى وَاعْلَمْ إِنَّمَا أَنْتَ نَظِيرُ إِخْوَانِكَ وَأَشْبَاهِكَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ الْجَسَدِ قَدْ نُزِعَتْ قُوَّتُهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حُشَاشَةُ نَفْسِهِ يَنْتَظِرُ الدَّاعِيَ فَنَعُوذُ بِاللّهِ مِمَّا نَعِظُ بِهِ ثُمَّ نَقْصُرُ عَنْهُ (7).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مَنْ أَمَّ قَوْماً وَفِيهِمْ أَعْلَمُ (8) مِنْهُ أَوْ أَفْقَهُ مِنْهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ فِي سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (9).

وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللّهِ حَتَّى يَرْجِعَ (10) مِنْهُ وَمَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إِمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً (11).

عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِلنَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَنَا نَجِدُ بِأَوْلَادِنَا مَا لَا يَجِدُونَ مِنَّا قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله لِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ (12) مِنْهُمْ.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله إِذَا رَأَيْتُمْ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا فِيهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا الرَّوْضَةُ فَقَالَ مَجَالِسُ الْمُؤْمِنِينَ (13).

ص: 635


1- ط. عاش بعده.
2- ل. باسره. ط. ميسره.
3- ط. له فيها.
4- ط. صحبا.
5- ط. وثمودا وأصحاب الرس.
6- ط. ما صحب فيه.
7- البحار ، ج 6 الباب 4 من كتاب العدل والمعاد ، ح 34 ، ص 134.
8- ل. من هو أعلم.
9- الوسائل ، الباب 26 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 1.
10- ط. يراجع.
11- البحار ، ج 2 الباب 24 ، من كتاب العلم ، ص 316 ، ح 84.
12- أمالي الصدوق ص 403 ح 9 بطريق آخر وفي البحار ج 104 ص 93 والفقيه: ج 3 ص 494 مثله.
13- الفقيه ، ج 3 ، ص 494 ، ح 4749.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ كُلُّ مَنِ اشْتَدَّ لَنَا حُبّاً اشْتَدَّ لِلنِّسَاءِ حُبّاً وَلِلْحَلْوَاءِ (1).

عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِنْ عِلْمِ الْآخِرَةِ لِيُرِيدَ بِهِ عَرَضاً مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ (2).

وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (3) عليه السلام قَالَ كَيْفَ (4) مَنِ انْتَحَلَ قَوْلَ الشِّيعَةِ وَأَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَوَ اللّهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللّهَ وَأَطَاعَهُ وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّخَشُّعِ وَالْإِنَابَةِ وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللّهِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَتَعَاهُدِ الْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْمَسْكَنَةِ وَالْغَارِمِينَ وَالْأَيْتَامِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وَكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ قَالَ جَابِرٌ فَضَحِكْتُ عِنْدَ آخِرِ كَلَامِهِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللّهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَداً بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ يَا جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ أَيَحْسَبُ الرَّجُلُ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَأَتَوَلَّاهُ ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللّهِ وَرَسُولُ اللّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ ثُمَّ لَا يَتَبِّعُ لِسِيرَتِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِهِ مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئاً اتَّقُوا اللّهَ وَاعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللّهِ لَيْسَ بَيْنَ اللّهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللّهِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ أَتْقَاهُمْ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ يَا جَابِرُ مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللّهِ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَمَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَلَا لَنَا عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ وَاللّهِ لَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ (5).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُحَلِّي أَهْلَهُ بِالذَّهَبِ قَالَ نَعَمْ النِّسَاءَ وَالجوار [ الْجِوَارِيَ فَأَمَّا الْغِلْمَانُ فَلَا (6).

ص: 636


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 12.
2- المستدرك ، ج 2 الباب 52 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 6.
3- عن أبي عبد اللّه عليه السلام.
4- ل. ليس منا.
5- الوسائل ، الباب 21 ، من أبواب جهاد النفس ، ح 17 ، قطعة منه.
6- الوسائل ، الباب 63 ، من أبواب أحكام الملابس ، ح 5.

عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْهَاشِمِيُّ قَالَ خَطَبَ النَّاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِيَوْمَيْنِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُغَالُوا بِصَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَضْلُ فِيهَا لَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله يَفْعَلُهُ كَانَ نَبِيُّكُمْ عليه السلام يُصْدِقُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ الْمَحْشُوَّةَ وَفِرَاشَ اللِّيفِ وَالْخَاتَمَ وَالْقَدَحَ الْكَثِيفَ وَمَا أَشْبَهَهُ ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَمَا أَقَامَ إِلَّا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَتَّى أَرْسَلَ فِي صَدَاقِ بِنْتِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفاً (1).

حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَقُلْتُ لَهُ أَوْصِنِي فَقَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ وَإِيَّاكَ وَالْمِزَاحَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ هَيْبَةَ الرَّجُلِ وَمَاءَ وَجْهِهِ وَعَلَيْكَ بِالدُّعَاءِ لِإِخْوَانِكَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَإِنَّهُ يَهِيلُ الرِّزْقَ يَقُولُهَا ثَلَاثاً (2).

مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام يَا مُحَمَّدُ لَوْ يَعْلَمُ السَّائِلُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا سَأَلَ أَحَدٌ أَحَداً وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُعْطِي مَا فِي الْعَطِيَّةِ مَا رَدَّ أَحَدٌ أَحَداً ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُ مَنْ سَأَلَ وَهُوَ يَظْهَرُ غِنًى لَقِيَ اللّهَ مَخْمُوشاً وَجْهُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3).

بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَجَاءُوهُ يَوْمَ وُلِدَ فِيهِ زَيْدٌ فَبَشَّرُوهُ بِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ عليه السلام أَيُّ شَيْ ءٍ تَرَوْنِي أَنْ أُسَمِّيَ هَذَا الْمَوْلُودَ قَالَ فَقَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَمِّهِ كَذَا وَسَمِّهِ كَذَا قَالَ فَقَالَ يَا غُلَامُ عَلَيَّ بِالْمُصْحَفِ قَالَ فَجَاءُوا بِالْمُصْحَفِ فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ قَالَ ثُمَّ فَتَحَهُ فَنَظَرَ إِلَى أَوَّلِ حَرْفٍ فِي الْوَرَقَةِ فَإِذَا فِيهِ ( وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (4) قَالَ ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ فَتَحَهُ ثَلَاثاً فَنَظَرَ فِيهِ فَإِذَا فِي أَوَّلِ وَرِقِهِ ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي .

ص: 637


1- الوسائل ، الباب 9 من أبواب المهور ، ح 5.
2- الوسائل ، الباب 80 من أبواب أحكام العشرة ، ح 6 ، وأورد ذيله في الباب 41 من أبواب الدعاء ، ح 7.
3- الوسائل ، الباب 32 من أبواب الصدقة ، ح 1 وأورد صدره في الباب 31 ، ح 4.
4- سورة النساء ، الآية 95.

بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ثُمَّ قَالَ هُوَ وَاللّهِ زَيْدٌ هُوَ وَاللّهِ زَيْدٌ فَسُمِّيَ زَيْداً (2).

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَقَالَ الْمَقْتُولُ فِي اللّهِ وَالْمَصْلُوبُ فِي أُمَّتِي وَالْمَظْلُومُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي سَمِيُّ هَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَقَالَ ادْنُ مِنِّي يَا زَيْدُ زَادَكَ اسْمُكَ عِنْدِي حُبّاً فَأَنْتَ سَمِيُّ الْحَبِيبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي (3).

عَنِ الْأَصْبَغِ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّاً عليه السلام يَقُولُ سِتَّةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَسِتَّةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَؤُمُّوا النَّاسَ وَسِتَّةٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَخْلَاقِ قَوْمِ لُوطٍ فَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَنْبَغِي السَّلَامُ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَصْحَابُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَأَصْحَابُ خَمْرٍ وَبَرْبَطٍ وَطُنْبُورٍ وَالْمُتَفَكِّهُونَ بِسَبِّ الْأُمَّهَاتِ وَالشُّعَرَاءُ (4).

وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَؤُمُّوا النَّاسَ فَوَلَدُ الزِّنَى وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيّاً بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالْعَهْدِ (5) وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَالْمَحْدُودُ (6).

وَأَمَّا الَّذِينَ مِنْ أَخْلَاقِ قَوْمِ لُوطٍ فَالْجَلَاهِقُ وَهُوَ الْبُنْدُقُ وَالْخَذْفُ وَمَضْغُ الْعِلْكِ وَإِرْخَاءُ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ وَالصَّفِيرُ وَحَلُّ الْأَزْرَارِ (7).

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام بِالْكُوفَةِ أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا اجْعَلْ لَنَا إِمَاماً يَؤُمُّنَا فِي رَمَضَانَ فَقَالَ لَهُمْ لَا وَنَهَاهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِيهِ فَلَمَّا أَمْسَوْا جَعَلُوا يَقُولُونَ ابْكُوا رَمَضَانَ وَا رَمَضَانَاهْ فَأَتَى الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ فِي نَاسٍ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ضَجَّ النَّاسُ وَكَرِهُوا قَوْلَكَ قَالَ فَقَالَ عليه السلام عِنْدَ ذَلِكَ دَعُوهُمْ وَمَا يُرِيدُونَ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ مَنْ شَاءُوا ثُمَّ قَالَ ( وَمَنْ .

ص: 638


1- سورة التوبة ، الآية 111.
2- البحار ، ج 46 ، الباب 11 من تاريخ علي بن الحسين عليهما السلام ح 57 و 58 ، ص 191 و 192.
3- البحار ، ج 46 ، الباب 11 من تاريخ علي بن الحسين عليهما السلام ح 57 و 58 ، ص 191 و 192.
4- أورد هذه القطعة في الوسائل الباب 28 من أبواب أحكام العشرة ، ح 6.
5- يحتمل النسخة أن اللفظة ( العهر ) بالراء المهملة بمعنى الزاني.
6- أورد هذه القطعة في الوسائل ، الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 6 ، بزيادة والأغلف.
7- وأورد هذه القطعة في الوسائل الباب 23 من أبواب أحكام الملابس ، ح 12.

يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) (1).

عَنْ عَنْبَسَةَ الْعَابِدِ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَوْصِنِي قَالَ أَعِدَّ جَهَازَكَ وَقَدِّمْ زَادَكَ وَكُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ وَلَا تَقُلْ لِغَيْرِكَ يَبْعَثُ إِلَيْكَ بِمَا يُصْلِحُكَ (2).

عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ يَكُونُ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَيَكُونُ فِي الْمِصْرِ أَوْرَعُ مِنْهُ (3).

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَخَالَفَنَا فِي أَعْمَالِنَا وَآثَارِنَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِأَعْمَالِنَا (4) وَلَكِنْ شِيعَتُنَا مَنْ وَافَقَنَا بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَاتَّبَعَ آثَارَنَا وَعَمِلَ بِأَعْمَالِنَا أُولَئِكَ شِيعَتُنَا (5).

عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَوْ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) فَلَا يَجْلِسْ فِي مَجْلِسٍ يُسَبُّ فِيهِ إِمَامٌ أَوْ يُغْتَابُ فِيهِ مُسْلِمٌ إِنَّ اللّهَ تَعَالَى يَقُولُ ( وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (6) (7).

تمت الأحاديث المنتزعة من رواية ابن قولويه.

ومما استطرفناه من كتاب أنس العالم تصنيف الصفواني

قَالَ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا أُحِبُّكَ وَأُحِبُّ فُلَاناً وَسَمَّى بَعْضَ أَعْدَائِهِ فَقَالَ عليه السلام أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ

ص: 639


1- الوسائل ، الباب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان ، ح 5.
2- البحار: ج 78 كتاب الروضة باب مواعظ الصادق عليه السلام ص 270 ، ح 111.
3- الوسائل ، الباب 21 من أبواب جهاد النفس ، ح 18.
4- ليس في نسخة ط ول هذه العبارة.
5- الوسائل ، الباب 21 من أبواب جهاد النفس ، ح 19.
6- سورة الأنعام ، الآية 68.
7- الوسائل ، الباب 38 من أبواب الأمر والنهي ، ح 21.

أَعْوَرُ (1) فَإِمَّا أَنْ تَعْمَى وَإِمَّا أَنْ تُبْصِرَ (2).

وَقِيلَ لِلصَّادِقِ عليه السلام إِنَّ فُلَاناً يُوَالِيكُمْ إِلَّا أَنَّهُ يَضْعُفُ (3) عَنِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَدُوِّكُمْ قَالَ هَيْهَاتَ كَذَبَ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّتَنَا (4) وَلَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ عَدُوِّنَا (4).

وَرُوِيَ عَنِ الرضا عليه السلام أَنَّهُ قَالَ كَمَالُ الدِّينِ وَلَايَتُنَا وَالْبَرَاءَةُ مِنْ عَدُوِّنَا (5).

ثم قال الصفواني واعلم يا بني أنه لا تتم الولاية ولا تخلص المحبة وتثبت المودة لآل محمد ( صلى اللّه عليه وآله ) إلا بالبراءة من عدوهم قريبا كان منك أو بعيدا فلا تأخذك به رأفة فإن اللّه عزوجل يقول ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) (6) الآية وعليك يا بني بالعلم وفقك اللّه له ورزقك روايته ومنحك درايته. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَوْلَانَا الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ خَبَرٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ تَرْوِيهِ (7). وَقَالَ عليه السلام فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَلَيْكُمْ بِالدِّرَايَاتِ لَا بِالرِّوَايَاتِ (8).

وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام رُوَاةُ الْكِتَابِ كَثِيرٌ وَرُعَاتُهُ قَلِيلٌ فَكَمْ مِنْ مُسْتَنْسِخٍ لِلْحَدِيثِ مُسْتَغِشٍّ (9) لِلْكِتَابِ وَالْعُلَمَاءُ تَحَرِّيهِمُ (10) الدِّرَايَةُ وَالْجُهَّالُ تَحَرِّيهِمُ (11) الرِّوَايَةُ (12).

قَالَ وَرُوِيَ أَنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ مُثْلَةٌ بِالشَّبَابِ (13) وَوَقَارٌ بِالشَّيْخِ (14).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب الصفواني

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المحاسن تصنيف أحمد بن أبي

عبد اللّه البرقي

( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي في خطبة كتابه .

ص: 640


1- ط. الأعور.
2- البحار ، ج 27 ، الباب 1 من كتاب الإمامة ، ص 58.
3- ط. ضيف. (4) ل. ولايتنا.
4- البحار ، ج 27 ، الباب 1 من كتاب الإمامة ، ص 58.
5- البحار ، ج 27 ، الباب 1 من كتاب الإمامة ، ص 58.
6- سورة المجادلة ، الآية 22.
7- البحار ، ج 2 ، الباب 26 ، من كتاب العلم ، ص 206 ح 96 و 97 و 98.
8- البحار ، ج 2 ، الباب 26 ، من كتاب العلم ، ص 206 ح 96 و 97 و 98.
9- ل. مستفتش.
10- ل. ط. تجزيهم.
11- ل. ط. تجزيهم.
12- البحار ، ج 2 ، الباب 26 ، من كتاب العلم ، ص 206 ح 96 و 97 و 98.
13- ط. بالشاب.
14- الوسائل ، الباب 60 من أبواب آداب الحمام ، ح 10.

الذي قد وسمه (1) بكتاب المحاسن أما بعد فإن خير الأمور أصلحها وأحمدها أنجحها (2) وأسلمها أقومها وأشدها (3) أعمها خيرا وأفضلها أدومها نفعا وإن قطب المحاسن الدين وعماد الدين اليقين والقول الرضي والعمل الزكي ولم نجد في وثيقة المعقول وحقيقة المحصول (4) عند المناقشة والمباحثة لذي المقايسة والموازنة خصلة أجمع لفضائل الدين والدنيا ولا أشد تصفية لإقذاء العقل ولا أقمع لخواطر الجهل ولا أدعى إلى اقتناء كل محمود ونفي كل مذموم من العلم بالدين وكيف لا يكون ذلك كذلك ما من اللّه عزوجل سببه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مستودعه ومعدنه وأولو النهى (5) تراجمته وحملته وما ظنك بشي ء الصدق خلته والذكاء والفهم آلته والتوفيق والحلم (6) قريحته (7) واللين والتواضع نتيجته وهو الشي ء الذي لا يستوحش معه صاحبه إلى شي ء ولا يأنس العاقل مع نبذه بشي ء ولا يستخلف منه عوضا يوازيه (8) ولا يعتاض منه بدلا يدانيه ولا تحول فضيلته ولا تزول منفعته وأنى لك بكنز (9) باق على الإنفاق لا يقدح فيه يد الزمان ولا تكلمه غوائل الحدثان وأقل خصاله الثناء له في العاجل مع الفوز برضوان اللّه في الآجل وأشرف بما صاحبه على كل حال مقبول وقوله وفعله محتمل محمول وسببه أقرب من الرحم الماسة وقوله أصدق وأوثق من التجربة وإدراك الحاسة وهو نجوة من تسليط التهم وتحاذير الندم وكفاك من كريم مناقبه ورفيع مراتبه أن العالم بما أدى من صدق قوله شريك لكل عامل به في فعله طوال المسند (10) وهو به ناظر ناطق صامت حاضر غائب حي ميت ووادع (11) نصب.

ص: 641


1- ط. سماه.
2- ط. أنجزها.
3- ط. أنشدها.
4- ط. وثيقة المحصول وحقيقة المعقول.
5- ل. وأولوا النبأ.
6- ل. والحكم.
7- ل. مربحته.
8- ل. يوازنه.
9- بكثير.
10- ل. السند المسند.
11- ط. وداع وصب. ل. ورادع نصب.

قال المصنف للكتاب :

باب محبة المسلمين والاهتمام بهم

الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ النَّوْفَلِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1).

فِي كَلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلاً (2).

قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله وَهُوَ يُرِيدُ بَعْضَ غَزَوَاتِهِ صلى اللّه عليه وآله فَأَخَذَ بِغَرْزِ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ عَلِّمْنِي شَيْئاً أَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِهِ فَقَالَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَأْتِيَهُ النَّاسُ إِلَيْكَ فَأْتِهِ إِلَيْهِمْ خَلِّ سَبِيلَ الرَّاحِلَةِ (3).

وَعَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُسْلِمْ بِقَلْبِهِ (4) لَا تَتَبَّعُوا عَثَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَثَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللّهُ عَثْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللّهُ عَثْرَتَهُ يَفْضَحُهُ (5).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يُوَاخِي الرَّجُلَ وَيَحْفَظُ (6) زَلَّاتِهِ لِيُعَيِّرَهُ (7) بِهَا يَوْماً مَا (8).

الْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوَّتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ أَخْرَجَهُ اللّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى

ص: 642


1- الوسائل ، الباب 18 من أبواب فعل المعروف ، ح 1 - 2 - 3 عن الكافي باختلاف يسير.
2- الوسائل ، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة ، ح 3 ، عن الكافي.
3- الوسائل ، الباب 35 من أبواب جهاد النفس ، ح 1 عن الكافي مع زيادة.
4- ل. لم يسلم قلبه.
5- الوسائل ، الباب 150 من أبواب أحكام العشرة ، ح 3 عن الكافي بزيادة ولو في بيته.
6- ل. وهو يحفظ.
7- ل. ليضره بها يوما.
8- الوسائل ، الباب 150 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1 عن الكافي والمحاسن باختلاف يسير.

وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ وَلَا يَقْبَلُهُ أَيْضاً الشَّيْطَانُ (1).

أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ مَنْ عَيَّرَ مُؤْمِناً بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَرْتَكِبَهُ (2).

أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً حَسَنَةً أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ أَوْ أَشَارَ بِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ وَمَنْ أَمَرَ بِسُوءٍ أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ بِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ (3).

سَالِمُ بْنُ مُكْرَمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ هَذِهِ الْحَمَامُ حَمَامُ الْحَرَمِ هِيَ (4) نَسْلُ حَمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام الَّتِي كَانَتْ لَهُ (5).

أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله أَحَبُّ الصَّحَابَةِ إِلَى اللّهِ تَعَالَى الْأَرْبَعَةُ وَمَا فاد [ زَادَ قَوْمٌ عَلَى سَبْعَةٍ إِلَّا كَثُرَ لَغَطُهُمْ (6) (7).

النَّوْفَلِيُّ بِإِسْنَادِهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله مِنَ السُّنَّةِ إِذَا خَرَجَ الْقَوْمُ فِي سَفَرٍ أَنْ يُخْرِجُوا نَفَقَتَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَطْيَبُ لِأَنْفُسِهِمْ (8) وَأَحْسَنُ لِأَخْلَاقِهِمْ (9).

حُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ خَرَجْنَا إِلَى مَكَّةَ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ رَجُلاً فَكُنْتُ أَذْبَحُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ شَاةً فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ وَاهاً يَا حُسَيْنُ وَتُذِلُّ الْمُؤْمِنِينَ قُلْتُ أَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّكَ كُنْتَ تَذْبَحُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ شَاةً قُلْتُ يَا مَوْلَايَ وَاللّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا اللّهَ تَعَالَى فَقَالَ عليه السلام أَمَا كُنْتَ تَرَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ فَعَالَكَ فَلَا تَبْلُغُ ذَلِكَ مَقْدُرَتُهُمْ فَتَقَاصَرُ إِلَيْهِ .

ص: 643


1- الوسائل ، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة ، ح 2 عن الكافي والمجالس وعقاب الأعمال.
2- الوسائل ، الباب 151 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1 ، عن الكافي باختلاف يسير.
3- مستدرك الوسائل ، الباب 1 من أبواب الأمر بالمعروف ، ح 3 عن الجعفريات والنوادر.
4- ط. نسل.
5- الوسائل ، الباب 31 من أبواب أحكام الدواب ، ح 9 عن الكافي.
6- ط. وما زاد فهو على سبعة الأكثر لفظهم.
7- الوسائل ، الباب 30 من أبواب آداب السفر إلى الحج ، ح 2 عن الكافي.
8- ط. أصون.
9- الوسائل ، الباب 32 من أبواب آداب السفر إلى الحج ، ح 1 ، عن الفقيه والمحاسن.

نَفْسُهُ قُلْتُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْكَ أَسْتَغْفِرُ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعُودُ (1).

عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام لَا تُصَلِّ فِي وَادِي الشُّقْرَةِ فَإِنَّ فِيهِ مَنَازِلَ الْجِنِّ (2).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ) (3) فَقِيلَ لَهُ مَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ فَقَالَ كَانَ لِرِشْدَةٍ (4) لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْحُجَجَ عليهم السلام لَا يَقْتُلُهُمْ إِلَّا أَوْلَادُ الْبَغَايَا (5).

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَمَظْلِمَتِهِ قُتِلَ شَهِيداً ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مَرْيَمَ وَتَدْرِي مَا مَظْلِمَتُهُ قُلْتُ نَعَمْ الرَّجُلُ يُرَادُ مَالُهُ فَيُقَاتِلُ عَنْهُ حَتَّى يُقْتَلَ قَالَ (6) نَعَمْ إِنَّ الْفِقْهَ عِرْفَانُ اللَّحْنِ (7) (8).

مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ رَفَعَهُ قَالَ مِنْ تَمَامِ الْعِبَادَةِ الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الرَّيْبِ (9).

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِذَا جَاهَرَ الْفَاسِقُ بِفِسْقِهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا غِيبَةَ (10).

طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً (11).

وَعَنِ النَّبِيِّ صلى اللّه عليه وآله قَالَ مَنْ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ (12).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِيَّاكَ وَخَصْلَتَيْنِ مُهْلِكَتَيْنِ أَنْ تُفْتِيَ النَّاسَ .

ص: 644


1- الوسائل ، الباب 33 من أبواب آداب السفر إلى الحج ح 6 وقد تقدم في ص 576 نحوه.
2- الوسائل ، الباب 24 من أبواب مكان المصلي ح 2.
3- سورة غافر: الآية 26.
4- ل. له شدة.
5- العلل ، ج 1 ص 57 مع اختلاف في السند والعبارة.
6- ل. فقال.
7- ل. الحق.
8- الوسائل ، الباب 46 من أبواب جهاد العدو ح 9 أورده عن الكافي.
9- البحار ج 75 ص 161 ، أخرجه عن بعض الأخبار.
10- الوسائل ، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 4.
11- الوسائل ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ح 11. أورده عن الكافي والمحاسن.
12- الوسائل ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ح 13. أورده عن الكافي.

بِرَأْيِكَ أَوْ تَقُولَ بِمَا لَا تَعْلَمُ (1).

مُوسَى بْنُ بَكْرٍ قَالَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ إِذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَعْلَمُ فَقُلْ لَا أَدْرِي فَإِنَّ لَا أَدْرِي خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ (3).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله أُفٍّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَا يَجْعَلُ لَهُ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ يَوْماً يَتَفَقَّهُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَيَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ (4).

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام اغْدُ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً (5) وَأَحْبِبْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَلَا تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ (6).

جَابِرٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ تَنَازَعُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَحَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي حَلَالٍ وَحَرَامٍ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا حَمَلَتْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (7) وَإِنْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (8) عَلِيٌّ عليه السلام لَيَأْمُرُ وُلْدَهُ بِقِرَاءَةِ الْمُصْحَفِ (9).

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ قَالَ لِي يَا جَابِرُ وَاللّهِ لَحَدِيثٌ تَعِيهِ (10) مِنْ حَاذِقٍ فِي حَلَالٍ وَحَرَامٍ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ (11).

فِي وَصِيَّةِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ تَفَقَّهُوا فِي .

ص: 645


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ح 3 أورده عن الكافي والمحاسن والخصال.
2- الوسائل ، الباب 7 من أبواب صفات القاضي ح 55 أورده عن عيون الأخبار.
3- البحار ، ج 2 الباب 16 ص 119 ح 28.
4- البحار ، ج 1 الباب 1 من أبواب العلم ص 176 ح 44.
5- ل. أو.
6- الكافي ، ج 1 باب أصناف الناس ، ص 43 ح 3.
7- سورة الحشر ، الآية 7.
8- ط. ولأن أمير المؤمنين عليه السلام كان ليأمر الخ ل. وكان أمير المؤمنين عليه السلام.
9- الوسائل ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 68 أورد صدره عن المحاسن والسرائر.
10- ط. أخذته من صادق.
11- الوسائل ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 69.

دِينِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَكُونُوا أَعْرَاباً فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللّهِ لَمْ يَنْظُرِ اللّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلاً (1).

كَانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقُولُ مِنْ حَقِّ الْعَالِمِ أَنْ لَا تُكْثِرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَلَا تَأْخُذَ بِثَوْبِهِ وَإِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً وَخُصَّهُ بِالتَّحِيَّةِ دُونَهُمْ وَاجْلِسْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا تَجْلِسْ خَلْفَهُ وَلَا تَغْمِزْ بِعَيْنَيْكَ وَلَا تُشِرْ بِيَدِكَ وَلَا تُكْثِرْ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ فُلَانٌ وَقَالَ فُلَانٌ خِلَافاً وَلَا تَضْجَرْ (2) بِطُولِ صُحْبَتِهِ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْعَالِمِ كَمَثَلِ الْغَيْمِ (3) تَنْتَظِرُهَا مَتَى يَسْقُطُ مِنْهَا شَيْ ءٌ وَالْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ (4) الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللّهِ وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ ثُلِمَ فِي الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيْ ءٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (5).

وَعَنْهُ عليه السلام قَالَ إِذَا أَنْتَ جَلَسْتَ إِلَى عَالِمٍ فَكُنْ إِلَى أَنْ تَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْكَ إِلَى أَنْ تَقُولَ وَتَعَلَّمْ حُسْنَ الِاسْتِمَاعِ (5) كَمَا تَعَلَّمُ حُسْنَ الْقَوْلِ وَلَا تَقْطَعْ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ (6).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ (7).

ابْنُ مُسْكَانَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِنِّي لَأَحْسَبُكَ إِذَا شُتِمَ عَلِيٌّ عليه السلام بَيْنَ يَدَيْكَ لَوْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْكُلَ أَنْفَ شَاتِمِهِ لَفَعَلْتُ فَقُلْتُ إِي وَاللّهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي لَهَكَذَا وَأَهْلَ بَيْتِي قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَوَ اللّهِ لَرُبَّمَا سَمِعْتُ مَنْ يَشْتِمُ عَلِيّاً عليه السلام وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا الْأُسْطُوَانَةُ فَأَسْتَتِرُ بِهَا فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي .

ص: 646


1- البحار ، ج 1 ، الباب 6 من كتاب العلم ، ص 214 ، ح 18.
2- ط. من القول قال فلان خلافا تضجره.
3- الغنيمة.
4- ط. والقائم في الليل. ولا يكون فيه الغازي الخ. (5) الوسائل ، الباب 123. من أبواب أحكام العشرة ، ح 1 وتمامه في المستدرك ، الباب 106 من تلك الأبواب ، ح 1.
5- ل. واحسن بالاسماع.
6- البحار ، ج 2 ، الباب 10 من كتاب العلم ، ص 43 ، ح 11.
7- الوسائل ، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي ، ح 29 ، أورده عن المحاسن.

فَأَمُرُّ بِهِ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأُصَافِحُهُ (1).

أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَأَيُّ سِجْنٍ جَاءَ مِنْهُ خَيْرٌ (2).

ابْنُ عَجْلَانَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَشَكَا إِلَيْهِ رَجُلٌ الْحَاجَةَ فَقَالَ لَهُ اصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ سَيَجْعَلُ لَكَ فَرَجاً قَالَ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ لَهُ أَخْبِرْنِي عَنْ سِجْنِ الْكُوفَةِ كَيْفَ هُوَ قَالَ أَصْلَحَكَ اللّهُ ضَيِّقٌ مُنْتِنٌ وَأَهْلُهُ بِأَسْوَإِ حَالٍ فَقَالَ لَهُ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي السِّجْنِ فَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ فِي سَعَةٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ (3).

باب الأيام التي يكره فيها السفر

أَبُو عَبْدِ اللّهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ لَا تُسَافِرْ (4) يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَلَا تَطْلُبْ (5) فِيهِ حَاجَةً (6).

وَعَنْهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْكِرَامِ قَالَ تَهَيَّأْتُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْعِرَاقِ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَأُوَدِّعَهُ فَقَالَ لِي أَيْنَ تُرِيدُ فَقُلْتُ الْعِرَاقَ فَقَالَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَكَانَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يَقُولُ النَّاسُ إِنَّهُ يَوْمٌ مُبَارَكٌ فِيهِ وُلِدَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله فَقَالَ وَاللّهِ مَا تَعْلَمُونَ أَيَّ يَوْمٍ وُلِدَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَيَوْمٌ مَشُومٌ فِيهِ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى اللّه عليه وآله وَانْقَطَعَ فِيهِ الْوَحْيُ وَلَكِنْ أُحِبُّ لَكَ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ عليه السلام إِذَا غَزَا (7).

ص: 647


1- الوسائل ، الباب 25 ، من أبواب الأمر والنهي ، ح 2 ، أورده عن جامع الأخبار والسرائر.
2- الكافي ، ج 2 ، باب ما أخذ اللّه على المؤمن من الصبر ، ص 250 ، ح 7.
3- الكافي ، ج 2 ، باب ما أخذ اللّه على المؤمن من الصبر ، ص 250 ، ح 6.
4- ل. لا تسافروا.
5- ل. لا تطلبوا.
6- الوسائل ، الباب 4 من أبواب آداب السفر ، ح 6 ، أورده عن المحاسن والفقيه.
7- الوسائل ، الباب 7 من أبواب آداب السفر ، ح 9 ، أورده عن المحاسن.

عُثْمَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ قَالَ أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ فَجِئْنَا نُسَلِّمُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ فَقَالَ كَأَنَّكُمْ طَلَبْتُمْ بَرَكَةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ وَأَيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ شُؤْماً مِنْ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ يَوْمٌ فَقَدْنَا فِيهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً صلى اللّه عليه وآله وَارْتَفَعَ فِيهِ الْوَحْيُ عَنَّا لَا تَخْرُجُوا فِيهِ وَاخْرُجُوا يَوْمَ الثَّلَاثَاءِ (1).

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ لَا بَأْسَ بِالْخُرُوجِ إِلَى السَّفَرِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ (2).

تمت الأخبار المنتزعة من كتاب المحاسن ويتلوها الأحاديث المنتزعة من كتاب العيون والمحاسن وهي آخر الكتاب.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب العيون والمحاسن

تصنيف المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رحمه اللّه وكان هذا الرجل كثير المحاسن حديد الخاطر جم الفضائل غريز العلوم وكان من أهل عكبري من موضع يعرف بسويقة بن البصري وانحدر مع أبيه إلى بغداد وبدأ بقراءة العلم على أبي عبد اللّه المعروف بالجعل بدرب رياح ثم قرأ من بعده على أبي ياسر غلام أبي الحيش بباب خراسان فقال له أبو ياسر لم لا تقرأ على علي بن عيسى الرماني الكلام وتستفيد منه فقال ما أعرفه ولا لي به أنس فأرسل معي من يدلني عليه ففعل ذلك وأرسل معي من أوصلني إليه فدخلت عليه والمجلس غاص بأهله وقعدت حتى انتهى بي المجلس فكلما خف الناس قربت منه فدخل إليه (3) داخل فقال بالباب إنسان يؤثر الحضور مجلسك وهو من أهل البصرة فقال هو من أهل العلم فقال غلامه لا أعلم إلا أنه يؤثر الحضور مجلسك فأذن له فدخل عليه فأكرمه وطال الحديث بينهما فقال الرجل لعلي بن عيسى ما تقول في يوم الغدير والغار فقال أما خبر الغار فدراية وأما خبر الغدير فرواية والرواية ما توجب

ص: 648


1- الوسائل ، الباب 4 من أبواب آداب السفر ، ح 1 ، أورده عن الفقيه والروضة والمحاسن.
2- الوسائل ، الباب 7 من أبواب آداب السفر ، ح 3 ، أورده عن الفقيه والمحاسن.
3- ل. عليه.

ما توجبه الدراية قال وانصرف البصري ولم يجر خطاب يورد البتة (1) قال المفيد رضي اللّه عنه قلت أيها الشيخ مسألة فقال هات مسألتك فقلت ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل فقال يكون كافرا ثم استدرك فقال فاسق (2) فقلت ما تقول في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال إمام قال قلت فما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير فقال تابا فقلت أما خبر الجمل فدراية وأما خبر التوبة فرواية فقال لي كنت حاضرا وقد سألني البصري فقلت نعم رواية برواية ودراية بدراية فقال بمن تعرف وعلى من تقرأ فقلت فقال موضعك ودخل منزله وخرج ومعه رقعة قد كتبها وألصقها - اعرف بابن المعلم واقرأ على الشيخ أبي عبد اللّه الجعل وقال (3) لي أوصل هذه الرقعة إلى أبي عبد اللّه فجئت بها إليه فقرأها ولم يزل يضحك هو ونفسه (4) ثم قال أيش جرى لك في مجلسه فقد وصاني بك ولقبك المفيد فذكرت له المجلس بقصته فتبسم وكان يعرف ببغداد بابن المعلم.

فَمَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ الْعُيُونِ وَالْمَحَاسِنِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام قَالَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ أُوَدِّعُهُ وَأَنَا أُرِيدُ الشُّخُوصَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ أَبْلِغْ مَوَالِيَنَا السَّلَامَ وَأَوْصِهِمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَنْ يَعُودَ صَحِيحُهُمْ مَرِيضَهُمْ وَلْيَعُدْ غَنِيُّهُمْ عَلَى فَقِيرِهِمْ وَأَنْ يَشْهَدَ حَيُّهُمْ جَنَازَةَ مَيِّتِهِمْ وَأَنْ يَتَلَاقَوْا فِي بُيُوتِهِمْ وَأَنْ يَتَفَاوَضُوا عِلْمَ الدِّينِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ حَيَاةً لِأَمْرِنَا رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا (5) وَأَعْلِمْهُمْ يَا خَيْثَمَةُ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِلَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَإِنَّ وَلَايَتَنَا لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْوَرَعِ فَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلاً ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ (6).

ص: 649


1- ل. ولم يحر خطابا يورد إليه.
2- ل. فاسقا.
3- ل. ط. فقال.
4- ل. بينه وبين نفسه.
5- ل. عبدا لا يأبي أمرنا.
6- الوسائل ، الباب 1 من أبواب أحكام العشرة ، ح 7.

وَعَنْهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ (1) أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَوْصِنِي فَقَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ وَالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ وَطُولِ السُّجُودِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ فَبِهَذَا جَاءَنَا مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه وآله صَلُّوا فِي عَشَائِرِكُمْ (2) وَعُودُوا مَرْضَاكُمْ وَاحْضُرُوا جَنَائِزَكُمْ وَكُونُوا لَنَا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا لَنَا شَيْناً حَبِّبُونَا إِلَى النَّاسِ وَلَا تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ جَرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ وَادْفَعُوا عَنَّا كُلَّ شَرٍّ فَمَا قِيلَ فِينَا مِنْ خَيْرٍ فَنَحْنُ أَهْلُهُ وَمَا قِيلَ فِينَا مِنْ شَرٍّ فَوَ اللّهِ مَا نَحْنُ كَذَلِكَ لَنَا حَقٌّ فِي كِتَابِ اللّهِ وَقَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله وَوِلَادَةٌ طَيِّبَةٌ فَهَكَذَا فَقُولُوا (3).

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْمُثَنَّى (4) عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ قَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وَنَحْنُ عِنْدَهُ نَظَرْتُمْ وَاللّهِ حَيْثُ نَظَرَ (5) اللّهُ وَاخْتَرْتُمْ مَنِ اخْتَارَ اللّهُ أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالاً وَقَصَدْتُمْ قَصْدَ مُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه وآله أَنْتُمْ وَاللّهِ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ فَأَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ (6) بِوَرَعٍ فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قَالَ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا عَرَفَهُ اللّهُ بِهَذَا الْأَمْرِ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ النَّاسُ بِهِ إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللّهِ (7).

وَقَالَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام لِرَجُلٍ يَا هَذَا لَا تُجَاهِدِ الطَّلَبَ جِهَادَ الْمُغَالِبِ وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى الْقَدَرِ اتِّكَالَ الْمُسْتَسْلِمِ فَإِنَّ ابْتِغَاءَ الْفَضْلِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَالَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْعِفَّةِ وَلَيْسَتِ الْعِفَّةُ بِدَافِعَةٍ رِزْقاً وَلَا الْحِرْصُ بِجَالِبٍ فَضْلاً فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ وَالْأَجَلَ مَوْقُوتٌ وَاسْتِعْمَالُ الْحِرْصِ يُورِثُ الْمَآثِمَ (8).

قَالَ وَأَتَى رَجُلٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فَقَالَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ .

ص: 650


1- ل. أبو العباس.
2- ل. صلوا عشائركم.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب الحكام العشرة ، ح 8 وتمامه مع في تحف العقول باختلاف يسير ، ص 518.
4- ط. حميد بن المثنى. ل. جميل بن المثنى.
5- ل. نظر الناس.
6- ل. بما في ذلك بورع واجتهاد.
7- أورد صدره في البحار ج 68 ص 89 عن المحاسن وذيله في بشارة المصطفى ، ص 274 بسند آخر نحوه.
8- الوسائل ، الباب 1 من أبواب مقدمات التجارة ، ح 8 باختلاف يسير.

لَا يَفْقِدُكَ اللّهُ حَيْثُ أَمَرَكَ وَلَا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ فَقَالَ لَهُ زِدْنِي فَقَالَ لَا أَجِدُ (1).

قَالَ وَقَالَ الْبَاقِرُ عليه السلام مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَشَكَرَهَا بِقَلْبِهِ إِلَّا اسْتَوْجَبَ الْمَزِيدَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ شُكْرَهُ عَلَى لِسَانِهِ (2).

قَالَ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي أَدَبِهِ لِأَصْحَابِهِ مَنْ قَصُرَتْ يَدُهُ بِالْمُكَافَاةِ فَلْيُطِلْ لِسَانَهُ بِالشُّكْرِ (3).

وَقَالَ عليه السلام مِنْ حَقِّ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَجْرَى تِلْكَ النِّعْمَةَ عَلَى يَدِهِ (4).

قَالَ وَقَالَ سَلْمَانُ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ أَوْصَانِي خَلِيلِي رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله بِسَبْعٍ لَا أَدَعُهُنَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي وَأَنْ أُحِبَّ الْفُقَرَاءَ وَأَدْنُوَ مِنْهُمْ وَأَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرّاً وَأَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ كَانَتْ مُدْبِرَةً وَأَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً وَأَوْصَانِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ (5).

قَالَ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عليه السلام مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا قَدْراً فَقَالَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ خَطَراً (6).

وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّه عليه وآله ثَلَاثَةٌ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ وَصِلَةُ مَنْ قَطَعَكَ وَالْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ (7).

تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب العيون والمحاسن.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب إلى هاهنا يحسن الانقطاع ويذعن بالتوبة والإقلاع من زلل إن كان فيه أو خلل ونقسم باللّه تعالى على من تأمله أن لا يقلدنا في .

ص: 651


1- الوسائل ، الباب 19 من أبواب جهاد النفس ، ح 14 ..
2- الوسائل ، الباب 8 من أبواب فعل المعروف ، ح 7 - 8 - 9.
3- الوسائل ، الباب 8 من أبواب فعل المعروف ، ح 7 - 8 - 9.
4- الوسائل ، الباب 8 من أبواب فعل المعروف ، ح 7 - 8 - 9.
5- الوسائل ، الباب 32 ، من أبواب الصدقة ، ح 12.
6- تحف العقول في مواعظ الإمام السجاد عليه السلام ، ص 200.
7- تحف العقول ، مواعظ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رقم 66 باختلاف يسير.

شي ء منه بل ينظر في كل شي ء منه نظر المستفتح المبتدئ مطرحا للأهواء المزينة للباطل بزينة الحق وحب المنشأ والتقليد فداؤهما لا يحسن علاجه جالينوس وتعظيم الكبراء وتقليد الأسلاف والأنس بما لا يعرف الإنسان غيره (1) يحتاج إلى علاج شديد وقد قال الخليل بن أحمد العروضي رحمه اللّه الإنسان لا يعرف خطأ معلمه (2) حتى يجالس غيره فالعاقل يكون غرضه الوصول إلى الحق من طريقه والظفر به من وجهه وتحقيقه ولا يكون غرضه نصرة الرجال فإن الذين ينحون هذا النحو قد خسروا ما ربحه المقلد من الراحة والدعة ولم يسلموا من هجنة التقليد وفقد الثقة بهم فهم لذلك أسوء حالا من المصرح بالتقليد وبئست الحال حال من أهمل دينه وشغل معظم دهره في نصرة غيره لا في طلب الحق ومعرفته ولا ينبغي لمن استدرك على من سلف وسبق إلى بعض الأشياء أن يرى لنفسه الفضل عليهم لأنهم إنما زلوا حيث زلوا لأجل أنهم كدوا أفكارهم وشغلوا زمانهم في غيره ثم صاروا إلى الشي ء الذي زلوا فيه بقلوب قد كلت ونفوس قد سئمت وأوقات ضيقة ومن يأت بعدهم فقد استفاد منهم ما استخرجوه ووقف على ما أظهروه من غير كدورة كلفة (3) وحصلت (4) له بذلك رياضة واكتسب قوة فليس يعجب إذا صار إلى حيث زل فيه من تقدم وهو من موفور القوى (5) متسع الزمان لم يلحقه ملل ولا خامره ضجر أن يلحظ ما لم يلحظوه ويتأمل ما لم يتأملوه ولذلك زاد المتأخرون على المتقدمين ولهذا كثرت العلوم بكثرة الرجال واتصال الزمان وامتداد الآجال فربما لم يشبع القول في المسألة (6) على ما أورده المتأخر (7) وإن

ص: 652


1- ل. والتقليد لمن لا يعرف الأنس بما لا يعرف الانسان غيره.
2- ط. والظفر من جهة تحقيقه.
3- ط. ل. من غير كد ولا كلفة.
4- ل. جعلت.
5- ل. وهو موفور القوى.
6- ل. لم يشبع المتقدم في الملة.
7- ل. المتأخرون.

كان بحمد اللّه بهم يقتدي وعلى أمثلتهم يحتذي وغفر اللّه ولهم ولنا ولجميع المؤمنين آمين رب العالمين.

قال المصنف تم الكتاب ولله المنة على بلوغ الأمل فيه (1) والفراغ منه (2) وذلك في صفر سنة تسع وثمانين وخمس مائة و ( حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وكتب مصنفه محمد بن إدريس العجلي الحلي حامدا مصليا معتذرا من زلله مستغفرا من خطئه ( وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) وصلى اللّه على سيد المرسلين وخيرة رب العالمين محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما.

ص: 653


1- ل. الآمال فيه.
2- هنا انتهت نسخة السيد اللاجوردي.

فهرس الموضوعات

كتاب العتق والتدبير والمكاتبة

شروط صحة العتق... 4

العتق في مرض الموت... 5

الوصية بالعتق... 5

إذا أعتق مملوكا وله مال... 6

من يجوز تملكه والتصرف فيه... 6

ملك القرابات... 7

حكم الرضاع في العتق... 8

لو ملك أحد الزوجين الآخر... 8

موارد انعتاق المملوك بغير اختيار مالكه... 8

مستحبات العتق... 9

عتق ولد الزنا... 9

لو كان العبد بين شريكين فأعتق أحد هما نصيبه... 10

لو أعتق مملوكه وشرط عليه شرطا... 11

إذا باع العبد وكان له مال... 11

النذر في العتق... 12

لو قال : كل عبد لي قديم فهو حر... 13

حكم أخذ المال من مملوك الغير لشرائه... 13

لو اشترى جارية ولم ينقد ثمنها فأعتقها وتزوجها ثم مات... 13

ص: 654

لو أعتق مملوكه عند موته وعليه دين... 14

لو كان العبد بين ثلاثة فأعتق بعضه... 15

لو أعتق ثلث عبيده وله جماعة... 16

لو خلف مملوكا شهد بعض الورثة له بالعتق... 17

عتق مملوك الابن... 17

عتق الآبق في الكفارة... 18

عتق العبد المديون... 18

التدبير... 18

أقسام التدبير... 19

حكم العتق بشرط أو يمين... 20

العتق عن الغير بإذنه... 20

باب أمّهات الأولاد

حكم بيع أم الولد... 21

لو جنت أم الولد جناية... 22

إذا كانت لذمي أم ولد منه فأسلمت... 22

باب الولاء

أقسام الولاء... 23

أحكام ولاء النعمة... 23

أحكام ولاء تضمن الجريرة... 25

أحكام ولاء الإمامة... 25

بيع الولاء وهبته... 25

باب المكاتبة

معنى المكاتبة وأقسامها... 26

لو مات المكاتب وخلف مالا وأولادا... 27

لو تزوجت المكاتبة بغير إذن مولاها... 28

ص: 655

إذا قال لمولاه خذ جميع ما كاتبتني عليه... 28

لو عجز غير المشروط عن توفية ثمنه... 29

مكاتبة الكافر... 29

حكم المكاتبة من حيث اللزوم والجواز... 29

كفارة المكاتب... 29

باب التدبير

معنى التدبير وأقسامه... 30

كيفية التدبير... 31

بيع المدبر... 31

تدبير الجارية الحبلى... 32

حكم المدبر إذا أبق... 33

هبة العبد بعد تدبيره... 34

التدبير بين الشريكين... 34

كتاب الايمان

باب ماهية الأقسام والايمان

اليمين الشرعية... 36

الضابط في اليمين الموجبة للكفارة بالحنث... 37

كفارة اليمين... 38

يمين الولد والعبد والزوجة... 39

اليمين بالبراءة... 39

لو قال : يا هناه ، ولا بل شانئك... 40

اليمين بالطلاق والعتاق والظهار ونحوه... 41

النية في اليمين... 41

الاستثناء في اليمين... 41

لو حلف الانسان غيره على مال له... 42

ص: 656

الايمان التي يؤجر الحالف عليها... 43

الحلف على فعل الواجب... 43

التورية في اليمين... 44

أيمان لا يجب في حنثها كفارة... 45

اليمين في الوديعة... 46

أيمان البيعة والكنيسة... 46

الحكم في أيمان متفرقة... 48

لو حلف لا يأكل البيض... 51

لو حلف أن لا يأكل لحما... 51

الضابط في المقام... 53

إذا حلف لا ذقت شيئا فأخذه بفيه... 54

إذا حلف لا وهبت عبدي ثم وهبه... 55

إذا حلف لا أتسرى... 56

إذا حلف لا يتكلم فقرأ القرآن... 57

باب النّذور والعهود وأقسام ذلك واحكامه

أقسام النذر... 57

أقسام الجزاء... 58

النذر المعلق بشرط أو وقت معين... 59

لو نذر صوم يوم فصادف العيد... 60

لو نذر التصدق بمال كثير... 61

لو نذر الحج ماشيا فعجز عنه... 61

لو نذر أن يخرج شيئا من ماله في سبل الخير... 62

لو نذر أن لا يبيع مملوكا له أبدا... 63

النذر الذي لا يجب الوفاء به... 64

أحكام العهد... 64

ص: 657

صيغة النذر... 64

صيغة المعاهدة... 66

أمثلة متنوعة في الباب... 67

حكم صيام يوم النذر عن الكفارة... 68

باب الكفارات

أقسام الكفارات... 69

بيان الاطعام والكسوة في الكفارة... 70

اجتماع الكفارات... 71

اعتبار اليسار في الكفارات المرتبة... 72

اعتبار الايمان في العتق... 72

عتق الموؤف والمدبر وأم الولد في الكفارة... 73

إذا مات وعليه حق لله... 73

فرض العبد في الكفارات... 74

إذا عجز عن الأجناس الثلاثة... 74

كفارات متنوعة... 75

كفارة شق الثوب ولطم الوجه... 78

كتاب الصيد والذّبائح

كتاب الصيد والذبايح الاستدلال على إباحة الصيد... 82

ما يجوز الاصطياد به... 82

شرائط كون الكلب معلما... 83

أحكام الصيد بالكلاب المرسلة... 84

الاصطياد بالآلة المغصوبة... 84

إذا شرب الكلب المعلم من دم الصيد... 85

حكم الصيد المجرد عن القصد... 85

إذا اصطاد المسلم بكلب علمه مجوسي... 86

ص: 658

إذا كان المرسل كتابيا أو مجوسيا أو وثنيا... 86

حكم التذكية بالسن والظفر... 86

ذكاة السمك... 87

ما يكره صيده... 91

أحكام صيد الطير... 91

أحكام صيد الوحشي... 92

شروط أكل ما يقتله الكلب... 93

شروط أكل ما يقتله السهم... 94

أحكام الصيد بالرمح والسيف... 95

حكم الصيد إذا أخذه جماعة... 96

باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح

ضروب الحيوان... 96

حد الجلال... 97

حكم الحيوان إذا شرب خمرا أو من خنزيرة... 97

حكم الخيل والبغال والحمير... 98

حكم الموطوء من الحيوان... 98

حكم الموطوء من الحيوان... 98

أحكام حيوان البحر... 98

أحكام حيوان البر... 101

أحكام الطير... 103

أحكام الحشرات... 105

باب الذبح وكيفيّة وجوب التسمية

حكم من يتولى الذباحة... 105

شروط اكل ذباحة المحق... 106

مكروهات الذباحة... 107

مستحبات الذباحة... 109

ص: 659

حكم سلخ الذبيحة... 110

حكم الجنين في بطن الذبيحة... 110

باب ما يحل من الميتة ويحرم من الذبيحة ، وحكم البيض والجلود

ما يحرم أكله من ذبيحة الغنم والبقر والإبل... 111

ما يحل من الميتة... 111

حكم الإنفحة... 112

إذا اختلط اللحم الذكي بلحم الميتة... 113

ما يحل أكله من البيض... 113

أقسام الجلود وأحكامها... 113

كتاب الأطعمة

باب الأطعمة المحظورة والمباحة

ما يحل أكله من الحيوان ومالا يحل... 118

حكم السباع... 118

حكم الحشرات والطيور... 119

حكم الطعام المخلوط بالخمر ونحوه... 120

حكم الطعام المخلوط بالميتة... 121

الاستصباح بالدهن النجس... 121

حكم مواكلة الكفار... 122

حكم أواني المسكر... 122

حكم أواني الذهب والفضة... 123

حكم أكل الطين... 124

حكم الألبان والأبوال... 125

أحكام المضطر... 126

حكم المارة... 126

أقسام الأعيان النجسة... 127

ص: 660

باب الأشربة المحظورة والمباحة... 128

حكم المسكر... 128

حكم عصير العنب والفضيخ والحنتم... 129

حكم العصير المغلي... 130

بيع العنب والتمر ممن يجعله خمرا أو نبيذا... 131

استعمال أواني الخمر... 132

حكم الخمر إذا صار خلا... 133

أخذ الأجرة على صناعة الأشربة... 134

باب آداب الأكل والشّرب

آداب المائدة... 135

كتاب الطّب

أحكام التداوي... 138

أفضل الدواء... 139

أخبار واردة في المقام... 141

الاستشفاء بفعل الخير والبر والتعوذ والرقى... 142

أخبار واردة في المقام... 143

كتاب السبق والرّماية

الاستدلال على جواز السبق والرمي... 146

ما يجوز المسابقة عليه ومالا يجوز... 147

اشتراط تعيين الابتداء والانتهاء في المسابقة... 148

المناضلة والرهان... 148

لزوم عقد المسابقة... 149

كتاب الوقوف والصدقات

تعريف الوقف... 152

الرجوع في الوقف... 153

ص: 661

ما يجوز وقفه من الأعيان... 154

شروط صحة الوقف... 155

الدليل على صحة الشروط... 157

الوقف على الأولاد... 157

الوقف على نسله أو عقبه أو ذريته أو العترة... 158

إذا وقف على ولده أو والديه... 159

الوقف على الكفار... 160

الوقف على المؤمنين... 161

الوقف على الشيعة... 162

الوقف على الامامية... 162

الوقف على الهاشميين والطالبيين والعلويين وأضرابهم... 163

الوقف على القوم والعشيرة... 163

الوقف على مستحقي الخمس أو الزكاة... 164

حكم الوقف إذا انقرض أربابه... 165

الوقف في وجوه البر... 166

الوقف على أهل الذمة... 166

وقف المساجد... 167

باب العمرى والرقبى والسّكنى والحبيس

أحكام العمرى... 167

أحكام الرقبى... 168

أحكام السكنى... 169

أحكام التحبيس... 169

إذا جعل خدمة عبده لغيره... 170

باب الهبات والنحل

ص: 662

الاستدلال على جواز الهبة... 171

حكم الرجوع فيه الهبة... 172

لزوم الهبة بالاقباض... 172

بيع الصدقة من معطيها... 174

تفضيل بعض الأولاد بالهبة... 174

الثواب في الهبة... 175

الهبة في مرض الموت... 176

الابراء بلفظ الهبة... 176

آداب الهدية... 177

كتاب الوصايا

معنى الوصية... 182

كيفية الوصية... 184

شروط صحة الوصية... 184

حكم الوصية المستحبة... 185

الوصية للوارث في المرض... 186

إذا أوصى بثلث ماله في البر... 186

إذا أوصى لقرابته... 187

الوصية بالمال الكثير... 188

باب الأوصياء

صفات الوصي... 188

الوصية إلى اثنين... 190

أحكام الموصى إليه... 191

استبدال الأوصياء... 192

إذا كان للوصي على الميت مال... 192

بيع الوصي المال من نفسه... 193

ص: 663

إذا مات الانسان من غير وصية... 193

باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ

حكم الوصية بأكثر من الثلث... 194

إذا أوصى بثلث ماله لشخص ثم أوصى به لغيره... 195

مخالفة الوصية... 197

إذا أوصى بوصية ثم قتل نفسه... 197

إذا أوصى لعبده بثلث ماله... 198

إذا أوصى بعتق مملوكه وكان عليه دين... 199

الوصية لعبد الغير والمكاتب المشروط وأم الولد... 199

الوصية بإخراج بعض الورثة من الميراث... 200

تصرف المريض في ما زاد على الثلث... 200

إذا وصى بأن يشترى بثلث ماله عبيد... 201

إذا أوصى لرجل بشئ ثم مات الموصي... 202

إذا أوصى بالتساوي بين الورثة رجالا ونساء... 203

الوصية بغير المعين... 204

باب شرائط الوصيّة

اشتراط العقل والحرية وثبوت العقل في الموصي... 206

حكم الاشهاد على الوصية... 207

باب الوصيّة المبهمة والوصيّة بالعتق والحج

إذا أوصى بجزء من ماله ولم يبينه... 207

إذا أوصى بثلث ماله في سبيل اللّه... 208

إذا أوصى بشئ وكان له توابع... 209

الوصية للأعمام والأخوال والأولاد والأقرباء... 210

الوصية للجيران والعشيرة والقوم والمسلمين... 211

الوصية للحمل... 211

ص: 664

أحكام الوصية بعتق العبيد... 212

أحكام الوصية بالحج عن الموصي... 214

باب الإقرار في المرض والهبة فيه وغير ذلك

إقرار المريض على نفسه... 217

إذا أقر بشئ لشخص ثم أوصى بتسليمه له... 218

إذا أقر المديون بان جميع ما في ملكه لبعض ورثته... 218

إذا أقر بعض الورثة بدين على الميت... 219

إذا قتل انسان وعليه دين... 220

إذا قال لوصيه اقض عني ديني... 220

حكم الهبة والبيع والنكاح والطلاق في حال المرض... 221

متى تمضي الوصية؟... 222

إذا مات صاحب الدين... 223

كتاب المواريث والفرائض

آيات وروايات الإرث... 226

أقسام الإرث... 228

إذا خلف من يحوز جميع المال ، وفيه أقسام ثلاثة... 228

ما يستحق به الميراث وما به يمتنع... 229

فصل في مقادير السهام... 230

ترتيب الوراث... 231

الخلاف في ميراث أولاد البنين والبنات... 232

دليل المختار... 236

إذا عدم الأبوان والولد... 240

حكم أولاد الإخوة والأخوات... 241

ميراث الأعمام والعمات والأخوال والخالات والأولاد منهم... 241

ص: 665

أحكام ميراث من له ولاء العتق أو ولاء تضمن الجريرة أو ولاء الإمامة... 242

أحكام ولد المعتق في الولاء... 244

أحكام ورثة المعتق في الولاء... 245

( فصل ) في تفصيل أحكام الوراث مع الانفراد والاجتماع... 246

معنى العول لغة... 250

كلام السيد المرتضى في العول... 251

فقهاء المدينة السبعة... 252

الفرق بين مسائل العول وبين الديون على التركة... 253

لو انفرد الولد من الأبوين وأحد الزوجين... 254

ميراث البنت إذا كان معها أخت... 254

اسم الولد يقع على ولد الولد وان نزلوا حقيقة... 257

ما يخص به الولد الأكبر من الميراث... 258

حكم ميراث الزوجة الرباع والمنازل ونحوها... 258

ميراث واحد الاخوة أو الأخوات أو الأجداد والجدات إذا انفرد أو اجتمع... 259

ميراث الكلالة... 260

بيان المراد من الطعمة... 261

أحكام أولاد الأعمام والعمات والخؤولة والخالات... 262

ولاء العتق... 262

ولاء ضمان الجريرة... 265

ولاء الإمامة... 265

أحكام التوارث بين أهل ملتين... 266

أحكام التوارث بين أهل الاسلام المختلفين في الآراء والمذاهب... 270

أحكام توارث المرتدين... 271

لو لم يكن للميت إلا وارث مملوك... 272

ص: 666

أحكام أم الولد إذا مات سيدها... 273

أحكام ميراث القاتل وولد الملاعنة... 274

ميراث ولد الزنا... 276

ميراث الخنثى... 277

توارث الزوجين الصغيرين... 283

التوارث بعد الطلاق الرجعي... 283

إذا انفرد الزوج بالميراث... 284

ميراث الحميل... 284

ميراث اللقيط والمشكوك فيه... 285

حكم التبري من المواريث... 286

ميراث المدبر والمكاتب... 286

فصل في ميراث المجوس... 287

العمل بأخبار الآحاد... 290

مناقشة المصنف للشيخ في ميراث المجوس... 292

ميراث ما عدا المجوس من الكفار... 297

أحكام مال المفقود... 298

ميراث من لا وارث له... 299

ميراث المهدوم عليهم والغرقى... 300

كلام الشيخ في المعاياة... 301

( فصل ) في ذكر جمل تعرف بها سهام الفرايض

وكيفية القسمة على الوراث... 303

فصل في ذكر جمل من استخراج المناسخات... 307

باب الإقرار بوارث

حكم الاقرار بالنسب... 308

إذا أقر بنسب على غيره... 309

ص: 667

لو مات المقر له... 310

إذا خلف ابنين أحدهما كافر والآخر مسلم... 311

إذا أقر ببنوة صبي... 311

إذا أقر بوارثين فصاعدا متساويين في الميراث... 312

إذا أقر ولد الميت بزوجة له... 313

فصل آخر في كيفيّة القسمة بين الورّاث... 314

كتاب الحدود والدّيات والجنايات

ما يترتب على قتل المؤمن خطا... 320

فصل في أقسام القتل وما يجب به من الديات... 321

تغليظ الدية وتخفيفها... 323

الحكم في العاقلة... 323

شروط القود... 324

تحديد الشيخ للقتل العمدي المحض... 325

اختلاف أولياء المقتول في طلب القود... 326

تحديد الشيخ لأولياء المقتول... 327

ميراث القصاص... 328

مقدار دية العمد... 329

ليس لأولياء المقتول إلا نفس القاتل... 329

إذا هلك القاتل قبل أن يستقاد منه... 330

حد توبة قاتل العمد... 330

دية قتل الخطأ... 331

بيان معنى العاقلة وأحكامها... 332

القدر الذي تحمله العاقلة... 334

دية الخطأ شبيه العمد... 335

ص: 668

من قتل عمدا وليس له ولي... 336

في قتل الوالد لولده أو بالعكس... 337

باب البيّنات على القتل وعلى قطع الأعضاء

في ما يثبت به القتل... 338

إذا لم يكن لأولياء المقتول بينة وكان معهم لوث... 338

أحكام القسامة... 339

البينة أو القسامة في الأعضاء... 340

الاقرار بالقتل... 341

لو اختلفت البينتان... 341

إذا عارض البينة إقرار بالقتل... 342

إذا تعارض الاقرار من شخصين... 343

أحكام أخرى متفرقة... 343

باب الواحد يقتل اثنين أو أكثر منهما

أو الاثنين والجماعة يقتلون واحدا

إذا قتل رجل حر ومملوك رجلا على العمد... 346

إذا قتلت امرأة وعبد رجلا على العمد... 347

إذا قتل رجل اثنين أو أكثر منهما... 348

جناية المأمور والمكره والعبد الذي أمره مولاه... 349

باب القود بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار والمسلمين والكفّار

إذا قتل رجل امرأة عمدا أو بالعكس... 350

أحكام الجراح... 351

إذا قتل الذمي مسلما... 351

دية المجوسي وولد الزنا... 352

ديات أعضاء أهل الذمة... 352

ص: 669

إذا قتل حر عبدا مسلما أو بالعكس... 353

إذا قتل مدبر أو مكاتب حرا... 354

حكم من قتل عبده متعمدا أو خطأ... 355

الجناية على أعضاء العبد... 356

إذا جرح عبد حرا... 357

إذا قتل عبد حرا خطا فأعتقه مولاه... 358

باب من لا يعرف قاتله ، ومن لا دية له إذا قتل

والقاتل في الشهر الحرام

إذا مات في الزحام... 359

دية المقتول في مكان متميز... 359

دية المقتول في معسكر أو سوق... 360

المقتول بالقصاص... 361

المقتول بخطأ الحاكم... 361

رواية مخالفة للأدلة وأصول المذهب... 362

إذا قتل شخصا في الحرم أو أحد أشهر الحرم... 363

باب ضمان النفوس وغيرها

إذا دعى غيره فأخرجه من منزله... 364

أحكام الظئر إذا أخذت صبيا... 365

إذا أعنف الرجل بامرأته أو المرأة بزوجها... 366

حكم عقل العاقلة للصلح والاقرار والأسباب... 366

أحكام جناية الدابة على الراكب أو غيره... 367

أحكام المجنون والأعمى في المقام... 368

أحكام الصبي في المقام... 369

حكم الافضاء... 370

ص: 670

حكم من أحدث حدثا في طريق المسلمين... 370

حكم من أحرق دار قوم فهلك فيها أنفس وأموال... 371

أحكام أخرى متعلقة بجناية الدابة... 372

ضمان الطبيب... 373

باب الاشتراك في الجنايات

أمثله لقضاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المقام... 373

إذا حصل رجل فوقع فوقه غيره فمات... 376

إذا اشترك ثلاثة في هدم حائط فوقع على واحد منهم فمات... 377

باب ديات الأعضاء والجوارح والقصاص فيها

دية ذهاب شعر الرأس... 377

دية ذهاب شعر الحاجبين والأجفان... 378

دية العينين... 379

دية العين العوراء... 380

دية الاذنين وشحمة الاذن وذهاب السمع... 382

دية الأنف والشفتين... 382

دية اللسان... 383

دية الأسنان... 385

دية اللحية إذا حلقت فلم تنبت... 388

دية العنق إذا كسر... 388

دية اليدين... 388

دية الأصابع والأنامل والظفر... 388

دية المرأة تعاقل دية الرجل إلى الثلث... 389

تقاصص المرأة للرجل فيما تساويه في ديته من الأعضاء... 390

دية الظهر إذا كسر... 391

دية ذكر الرجل إذا قطع... 391

ص: 671

دية فرج المرأة... 392

دية الافضاء... 393

دية الأنثيين... 393

دية ثديي المرأة... 394

دية ما كان في الانسان منه واحد... 394

دية شل الأعضاء أو قطعها أو إعدام منفعتها... 395

إذا قطع مسلم يد نصراني أو مرتد أو حربي ثم أسلم ومات... 397

إذا قطع عضو الرجل ومضت مدة يندمل فيها ثم مات... 398

إذا اصطدم الفارسان فماتا... 399

إذا جني على عضو فيه مقدر فصار أشل... 399

إذا شرع جناحا إلى شارع المسلمين فوقع على أحد... 400

دية الجنين... 400

في ما يثبت به اللوث... 401

باب القصاص وديات الشجاج والجراح

شرائط القصاص... 402

القصاص مثل بمثل... 403

بيان كيفية القصاص في موارد متعددة... 404

إذا لم يقتل الجاني في القصاص وطالب الولي القود منه... 405

حكم قصاص الطرف في قصاص النفس... 406

أقسام الجراحات... 406

دية الجراحات... 407

القصاص في الجراحات... 408

الفرق بين الشجاج والجراح... 408

دية الشجاج... 409

دية لطمة الوجه وكسر العظم والأنف وروثته... 410

ص: 672

دية الشفتين والعظام... 411

من يجوز له الاقتصاص... 412

القصاص في الأطراف... 412

إذا قتل اثنان رجلا وكان أحدهما لو انفرد بقتله قتل به دون الآخر... 413

دية العقل... 414

القصاص في ما دون النفس... 415

المماثلة في القصاص... 415

باب دية الجنين والميت إذا قطع رأسه أو شي ء من أعضائه

مقدار دية الجنين... 416

دية جنين الأمة... 417

إذا قتلت الحامل المتم ومات الولد في بطنها... 417

دية تعمد إلقاء ما في البطن... 418

دية العزل... 418

دية الميت... 419

الفرق بين الجنين والميت... 419

باب الجنايات على الحيوان وغير ذلك

أحكام إتلاف حيوان الغير... 420

دية الكلاب... 421

دية ما يتملك من الحيوان ومالا يتملك... 422

الاتلاف على ضربين : ما يحصل الانتفاع بعده... 422

مالا يحصل معه الانتفاع به... 423

إذا جنت بهيمة الانسان على بهيمة أو ملك الغير... 424

حكم إتلاف آلات اللّهو... 425

ص: 673

كتاب الحدود

باب مائية الزنا وما به يثبت ذلك

الزنا الموجب للحد... 428

ي ما يثبت به حكم الزنا... 429

أحكام الشهادة على الزنا... 429

إذا شاهد الامام من يزني أو يشرب الخمر... 432

إقامة الحدود مخصوص بالامام... 432

حد الزنا بذات محرم... 433

إذا مات الشهود بعد التكامل والأداء... 434

قصة المغيرة... 434

إذا ردت شهادة بعض الشهود... 435

إذا رجع أحد الشهود... 436

إذا استكره امرأة على الزنا... 436

باب أقسام الزناة

( الأول ) من يجب عليه القتل على كل حال... 437

( الثاني ) من يجب عليه الجلد والرجم... 438

( الثالث ) من يجب عليه الحد والنفي إلى غير بلدة... 439

كلام للشيخ في المقام... 439

إذا زنا عد المحصن ثلاث مرات أو أكثر... 442

أحكام العبيد في المقام... 442

أحكام زنا الصبي والصبية... 443

أحكام زنا المجنون والمجنونة... 444

من زنا وتاب قبل قيام البينة أو الاقرار... 444

إذا زنى اليهودي أو النصراني بأهل ملته... 445

من عقد على امرأة في عدتها ودخل بها... 445

ص: 674

حكم وطء الجارية المشتركة... 446

حكم من وطأ الجارية من المغنم قبل القسمة... 446

حكم الزنا في شهر رمضان وغيره من الأوقات الشريفة... 447

حكم زنا السكران والأعمى... 447

أحكام وطء الشبهة... 447

أحكام افتضاض البكارة... 449

إذا زنا مجنون بامرأة عاقلة... 450

باب كيفية إقامة الحد في الزنا وما يتعلق بذلك من الأحكام

كيفية الرجم... 451

كيفية الجلد... 452

استحباب الاشهاد على الحد... 453

إذا كان من يجب عليه الجلد مريضا... 454

إذا زنت امرأة وهي حامل... 454

إذا اجتمع على إنسان حدود فيها قتل وغيره... 455

أحكام نفي الزاني والقواد والمحارب... 455

من أقر على نفسه بحد ثم أنكره... 455

أحكام متفرقة... 456

باب الحد في اللواط وما يتعلق بذلك

معنى اللواط وأقسامه... 457

في ما يثبت به اللواط... 458

حد اللواط... 458

حكم التلوط بالصبي والعبد والمجنون... 459

في تلوط الكفار... 460

إذا تاب اللائط قبل البينة أو بعد الاقرار... 460

حكم تقبيل الغلام... 461

ص: 675

القتل في الدفعة الثالثة... 462

باب الحد في السحق

معنى السحق وحده... 463

إذا ساحقت المرأة جاريتها... 464

مساحقة الكافرة والصبية... 464

إذا ساحقت امرأة بكرا فألقت ماء زوجها في رحمها... 465

إذا افتضت امرأة بكرا بإصبعها... 465

إذا وجدت امرأتان في إزار واحد مجردتين من ثيابهما... 466

مقدار التعزير... 466

إذا تابت المساحقة قبل رفعها إلى الامام... 467

باب وطي الأموات والبهائم والاستمناء بالأيدي

وما يتعلق بذلك من الاحكام

حكم وطء الميتة... 467

حكم التلوط بالأموات... 468

حكم وطء البهيمة... 468

حكم تكرر الفعل من واطئ البهيمة والميتة... 470

باب الحد في القيادة

مقدار حد القيادة... 471

حكم من رمى غيره بالقيادة... 471

باب الحد في شرب الخمر والمسكر من الشراب

والفقاع وغير ذلك من الأشربة والمآكل

المحظورة وما يتعلق بذلك من الأحكام

آيات تحريم الخمر... 472

روايات تحريم الخمر... 473

بيان الأشربة المسكرة وأنواعها... 474

ص: 676

حد شارب الخمر وكيفية ثبوت الحكم به... 475

حكم الشارب للخمر أو غيره مستحلا لها... 476

حكم الفقاع... 477

حكم آكل الربا... 478

حكم آكل مسوخ السمك ومسوخ البر وسباع الطير... 478

في توبة شارب الحرام... 478

إذا مات المعزر في أثناء الحد... 479

قصة المجهضة... 480

أحكام الختان... 480

باب الحد في السرقة وما يتعلق بذلك ويلحق به من الاحكام

القدر الذي يقطع به السارق... 482

شروط إقامة حد السرقة... 483

حد الحرز وحكم السارق منه... 484

إذا كان السارق مجنونا أو صبيا لم يبلغ... 485

في ما يثبت به وجوب القطع... 485

في سرقة العبد والأجير والضيف... 486

حد السارق بعد قطع يده... 488

في رد السرقة بعد القطع... 490

حكم التائب من السرقة... 491

إذا سرق نفسان فصاعدا مقدارا يجب فيه القطع... 492

في سرقة الثمار والفواكه وهي بعد في الشجر... 493

الحد في تكرار السرقة... 494

أنواع الحقوق... 495

حكم الغاصب والمختلس... 496

الاشتراك في السرقة... 497

ص: 677

إذا كرر السرقة حتى بلغ النصاب... 498

في السرقة من ستارة الكعبة... 499

سرقة النصاب من الغائب... 500

إذا سرق الباب أو هدم من الحائط مقدار نصاب... 501

لو أخرج السرقة من الحرز بآلة... 502

لو بلع السرقة داخل الحرز ثم خرج منه... 503

لو اختلف السارق وصاحب المال... 504

باب حد المحاربين والنبّاش والمختلس والخناق والمبنّج والمحتال

تعريف المحارب وحده... 505

أحكام أهل الدعارة واللصوص... 507

حكم النساء في المحاربة... 508

كيفية صلب المحارب... 508

في جناية المحارب على غيره... 509

في شهادة الشاهدين لأنفسهما أو للقافلة... 510

حكم الخناق والمبنج غيره... 511

حكم المحتال والمختلس والنباش... 512

باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير والتأديب وما يلحق بذلك من الاحكام

حد القاذف... 515

شرائط الاحصان في المقذوف... 516

في ألفاظ القذف... 517

وراثة حد القذف... 521

في ما يثبت به حد القذف... 521

حكم شهادة القاذف قبل التوبة... 522

كيفية التوبة وأقسامها... 523

التوبة من قذف السب وقذف الشهادة... 526

ص: 678

إذا قال لغيره يا قرنان أو يا كشخان أو يا ديوث... 528

موارد متعددة توجب التعزير... 529

كيفية تعزير شهود الزور... 531

حكم ساب المعصوم ( عليه السلام )... 532

حكم المرتد وأقسامه... 532

حد الساحر... 533

المعتبر في كنايات القذف عرف القاذف... 534

حكم تعريض الواحد بالجماعة... 535

أحكام التعزير... 536

فصل في تنفيذ الاحكام وما يتعلق بذلك

ممن له اقامة الحدود والآداب

شرائط من يجوز له تنفيذ الاحكام... 537

الروايات الواردة في المقام... 539

صحة حكم الحاكم بعلمه... 542

صحة إقامة الحدود لنواب المعصوم (عليه السلام)... 546

المستطرفات

المستطرف من كتاب موسى بن بكر الواسطي... 549

المستطرف من كتاب معاوية بن عمار... 551

المستطرف من نوادر البزنطي... 553

المستطرف من كتاب ابان بن تغلب... 563

المستطرف من كتاب جميل بن دراج... 567

المستطرف من كتاب السياري... 568

المستطرف من جامع البزنطي صاحب الرضا ( عليه السلام )... 572

المستطرف من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم الرضا ( عليه السلام )... 581

المستطرف من كتاب السجستاني... 585

ص: 679

المستطرف من كتاب المشيخة للسراد... 589

المستطرف من كتاب نوادر المصنف للاشعري... 601

المستطرف من كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق... 615

المستطرف من كتاب قرب الاسناد للحميري... 624

المستطرف من كتاب جعفر بن محمد بن سنان الدهقان... 626

المستطرف من كتاب معاني الاخبار من الجزء الثاني... 627

المستطرف من كتاب تهذيب الاحكام للطوسي... 628

المستطرف من كتاب عبداللّه بن بكير بن اعين... 632

المستطرف من رواية أبي القاسم بن قولويه... 634

المستطرف من كتاب انس العالم للصفواني... 639

المستطرف من كتاب المحاسن للبرقي... 640

باب محبة المسلمين والاهتمام بهم

الروايات الواردة في المقام... 642

باب الأيام التي يكره فيها السفر

الروايات الواردة في المقام... 647

المستطرف من كتاب العيون والمحاسن للمفيد... 648

ص: 680

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.