شرح الحلقة الثّالثة

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی الله عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 528

 المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الأول

مباحث الألفاظ

الدليل الشرعي اللفظي

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

الإهداء

إلى سيّدي ومولاي الحجّة الغائب ( عجّل اللّه فرجه ) أهدي ثواب هذا العمل ، راجيا منه القبول وأعتذر إليه عن كلّ تقصير أو نقص فيه ، وأرجوه أن ينظر إليّ نظرة يتطلّع إليها كلّ محبّ.

ص: 5

ص: 6

المقدمة

تعتبر حلقات الأصول خطوة انتقالية في الدراسة الأصولية على مختلف المستويات ، فمن الناحية العلمية حافظت الحلقات بسلسلتها الثلاثية - مضافا إلى التدرّج وعرض الفكرة وتعميقها - على مضمونها العلمي المتين الذي تميّز بالدقة والتحقيق وقوّة الاستدلال ، بل والتجديد في تقديم أفكار علمية مبنية على أسس ثابتة.

وخير دليل على ذلك استناده في كثير من المسائل الأصولية وبنائها بناء جديدا على أسس علمية جديدة ، من قبيل التواتر والإجماع والشهرة والسيرة ، حيث أقام صرحها وشيدها على أساس المبنى العلمي المسمّى ب- : ( حساب الاحتمالات ). وهذا لا يعني أنّه ألغى أو لا يعتقد بالمبنى الذي كانت قائمة عليه ومؤسّسة على طبقه ، بل بمعنى أنّه يمكن بناؤها على ركائز أخرى أيضا لتقديمها أكثر قوّة ومتانة ودقة ، على أنّه توجد آثار وفوارق بين المبنيين إن من ناحية عملية وإن من ناحية علمية كما هو مبين في محله.

ومن الناحية المنهجية فإنّ الحلقات تتميّز عن غيرها بالترتيب في المسائل الأصولية ترتيبا يختلف بعض الشيء - أو كثيرا - عن غيرها ، بحيث إنّ بعض المسائل قد أدرجت فيها تحت عنوان بينما هي كانت مدرجة فى غيرها من الكتب تحت عنوان آخر. والملاحظ هنا يجد أنّ الترتيب الذي جاء به السيد الشهيد رحمه اللّه أفضل وأنسب.

وكذلك الأسلوب الذي أسمح لنفسي أن أطلق عليه السهل الممتنع ، فإنّ سهولة التعبير والصياغة والعرض واستعمال الكلمات والعبارات المتداولة والواضحة يتضمّن العمق العلمي والدقة الاستدلالية وقوّة الفكرة.

ص: 7

ومن هنا كانت الحلقات لطالب العلم ضرورية لدراسة علم الأصول واستيعاب ما يحتويه من قواعد ومسائل ، فإنّها تؤمّن له هذه الحاجة وتختصر له الطريق للوصول إلى الهدف.

ولذلك كان لا بدّ من الاعتناء بها دراسة وشرحا وتعليقا ، وإعطائها المكانة التي تستحقها في هذا الفنّ.

وقد قام بعض الفضلاء من العلماء - جزاهم اللّه خيرا - بتقديم شروحات لها ، وخاصة الحلقة الثالثة منها التي تمثل المرحلة الأخيرة من هذه الحلقات والتي تتميّز بالشمولية والدقة أكثر ، وهذه الشروحات ركز كل واحد منها على جهة ما.

ووجدت أنّ الطالب الدارس لهذه الحلقات يحتاج أيضا إلى الشرح المقطعي الذي اعتيد عليه في كثير من الكتب الدراسية ، وهذا الشرح يمتاز عن غيره بأنّه يتناول كل فقرة وكل عبارة بالشرح والتوضيح ، ويزيل كل الغموض والخفاء الذي قد يكون موجودا ، ويبرز النكات والفكرة التي يريدها الكاتب من وراء كلماته أو من خلال تعبيراته.

وإن كان قد يؤاخذ على الشرح المقطعي بأمور لعلها صحيحة أيضا ولكنّها لا تشكّل مانعا من القيام به وتقديمه للقارئ سواء كان طالبا أم أستاذا لهذه المادة ، فإنّ الفائدة المرجوّة تشملهما معا.

على أنّه حاولت في هذا الشرح أن تكون الأمثلة التي تحتاجها الفكرة الأصولية المعروضة في هذا الكتاب مستخرجة من واقع الفقه مهما أمكن ؛ لأنّ العلاقة بين الأصول والفقه هي علاقة التطبيق فعند ما عيّنا المثال فقهيا تقترب الفكرة إلى الذهن الفقهي ويعتاد على التطبيق أكثر.

مضافا إلى أنّني قد ذكرت بعض التعليقات على بعض المسائل في الهامش دون إدراجها في الشرح ؛ لئلا يقع الخلط والإيهام بين ما يريده الكاتب وما يراه الشارح. ولذلك كان الترتيب في هذا الشرح هو الاحتفاظ بالمتن ثم عرض الشرح ثم ذكر التعليق في الهامش.

وأخيرا أرجو أن يكون هذا العمل الذي جاء استجابة لدوافع واقعية ونفسية مقبولا عند اللّه - عزّ وجلّ - خدمة لدينه ولمن سلك هذا الطريق ، على أنّ النقص وعدم

ص: 8

الكمال والتمام هما من صفات البشر العاديين أمثالي ، فكل نقص وجد فهو منّي ، وكل ما يمكن أن يكون كمالا فهو من اللّه تعالى.

نسأل اللّه تعالى القبول والتوفيق

حسن محمّد فياض حسين

ص: 9

ص: 10

تمهيد

اشارة

تعريف علم الأصول

موضوع علم الأصول

الحكم الشرعي وتقسيماته

تقسيم بحوث الكتاب

ص: 11

ص: 12

تعريف علم الأصول

عرّف علم الأصول بأنّه : ( العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ) (1).

المراد من العلم : هو حضور صورة الشيء في الذهن ، أو انطباع نفس ما هو موجود في الواقع الخارجي في الذهن ، بنحو يكون ما في الذهن حاكيا ومطابقا للخارج حكاية ومطابقة تامّة لا يشوبها شكّ ولا يعتريها ريب. ولا يخفى أنّ أخذ العلم في تعريف علم الأصول لا يخلو من مسامحة ؛ وإلا لزم الدور أو أخذ الشيء في تعريف نفسه.

والمراد من القواعد : هي الضوابط العامّة الكليّة التي يوجد تحتها المصاديق والجزئيّات المختلفة والمتنوّعة ؛ وذلك لأنّ القاعدة هي المفهوم الكلّي الذي يستنتج من مجموع المسائل الجزئيّة والمصاديق الخارجيّة.

والمراد من الممهّدة التي هي صفة للقواعد : هو التمهيد والتعبيد وتسهيل العبور إلى المقصود والهدف والغاية ؛ ليصبح الوصول إلى استنباط الحكم الشرعي أمرا سهلا لمن سلك هذه الطرق الممهّدة ، وهي القواعد الكليّة.

والمراد من الاستنباط : هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لأجل معرفة ما هو مجهول بمعنى إرادة الاستخراج.

والمراد من الحكم الشرعي : هو التكليف الإلهي الأعمّ من الأحكام الخمسة أي الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة ، فهذا الحكم هو التكليف الذي يريده الشارع ، والذي يحكم العقل بلزوم إطاعته والسير على وفقه ؛ لما فيه من الخير والصلاح للإنسان في الدنيا والآخرة.

ص: 13


1- انظر القوانين 1 : 5 ، وورد ما يقاربه في الفصول : 9 ، وهداية المسترشدين : 12.

وكلمة ممهّدة في هذا التعريف : إذا قرئت مبنيّة لاسم المفعول ، فهذا يعني أنّ هذه القواعد موصوفة بصفة التمهيد في مرحلة سابقة عن تدوينها في علم الأصول ، مع أنّ المراد من التعريف هو إعطاء الضابطة لمعرفة القاعدة الأصوليّة من غيرها ، والذي على أساسها يمكننا تمييز القواعد الأصوليّة عن غيرها. فإذا كانت هذه القواعد قد اكتسبت صفة التمهيد ، فنسأل عن هذا الضابط الذي بموجبه كانت أصوليّة. فالتعريف قاصر عن أداء ما هو مطلوب منه ، وهذا الإشكال ذكره السيّد الشهيد في الحلقة الثانية.

وأمّا إذا قرئت مبنيّة لاسم الفاعل فيرد عليه :

وقد لوحظ على هذا التعريف :

أوّلا بأنّه يشمل القواعد الفقهيّة كقاعدة أنّ ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ).

الملاحظة الأولى على هذا التعريف : أنّ القواعد الفقهيّة كالقاعدة المذكورة وغيرها تقع في طريق الاستنباط ، وتمهّد الطريق للوصول إلى الحكم الشرعي ؛ إذ قاعدة الضمان مثلا يستخدمها الفقيه في مختلف أبواب المعاملات كالبيع والإجارة ونحوهما ، فهذا التعريف ينطبق على مثل هذه القاعدة فتدخل على هذا في علم الأصول ؛ لأنّها قاعدة مهّدت لاستنباط الحكم الشرعي مع أنّه من المعلوم أنّها قاعدة فقهيّة وليست أصوليّة. وهذا يعني أنّ التعريف غير مانع من دخول الأغيار تحته ؛ لأنّ القاعدة الأصوليّة هي ما كانت لها الصلاحيّة لأن تجري في مختلف الأبواب الفقهيّة من دون استثناء ، وهذه القاعدة وأمثالها مختصّة ببعض الأبواب الفقهيّة ؛ لأنّها لا تجري في مثل باب الصلاة والصوم ونحوهما من أبواب العبادات.

وثانيا بأنّه لا يشمل الأصول العمليّة ؛ لأنّها مجرّد أدلّة عمليّة وليست أدلّة محرزة ، فلا يثبت بها الحكم الشرعي ، وإنّما تحدّد بها الوظيفة العمليّة.

الملاحظة الثانية على هذا التعريف : هي أنّه لا تدخل فيه الأصول العمليّة ؛ لأنّها ليست إلا أدلّة لتحديد الموقف العملي والوظيفة العمليّة للمكلّف اتّجاه الواقع المشكوك ، فالبراءة والاحتياط ونحوهما من الأصول العمليّة يستخدمها الفقيه عند الشكّ في الحكم الشرعي والجهل به ؛ لأجل تحديد الوظيفة والموقف أمام هذا الواقع المجهول ، فلا يستنبط منها حكم شرعي ؛ لأنّه قد أخذ في موضوعها الشكّ في الحكم

ص: 14

الشرعي فلا يكون الحكم الشرعي محرزا بها. وعلى هذا فينبغي إخراجها عن علم الأصول ؛ لأنّ التعريف غير منطبق عليها ، إلا أنّها بلا شكّ من جملة القواعد الأصوليّة ، وهذا يعني أنّ التعريف غير جامع ؛ لأنّه أخرج من العلم ما كان داخلا فيه.

ومراده من الأدلّة العمليّة تلك القواعد التي تحدّد الموقف العملي اتّجاه الحكم الشرعي المشكوك والمجهول.

ومراده من الأدلّة المحرزة هي القواعد التي توصل وتكشف عن الحكم الشرعي ، فهذه تحدّد الوظيفة والموقف العملي أيضا إلا أنّها تحدّده وفقا للحكم الشرعي ، بينما تلك تحدّد الموقف العملي على أساس طبيعة الشيء المشكوك مع ظرف الشكّ إمّا بنحو الاجتماع أو كلّ واحد على حدة.

وثالثا بأنّه يعمّ المسائل اللغويّة كظهور كلمة ( الصعيد ) مثلا ؛ لدخولها في استنباط الحكم.

الملاحظة الثالثة : هي شمول هذا التعريف لمثل مسائل اللغة مع أنّها ليست من علم الأصول ، بل ولا علم الفقه أيضا وإنّما هي من مختصّات علوم العربيّة ، ومع ذلك فهذا التعريف ينطبق على بعضها كظهور كلمة الصعيد ونحوها ، فإنّ الفقيه يحتاج إلى تنقيح (1) ظهورها في مرحلة متقدّمة بحيث تكون ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ، فلا بدّ له من البحث عن تحديد مدلولها بنفسه أو الرجوع فيها إلى أهل اللغة ، وهذا يجعلها من القواعد التي مهّدت للاستنباط ووقعت في طريق الوصول إلى الحكم الشرعي. وكذلك الحال بالنسبة لمسائل علم الرجال ، فإنّ الفقيه يحتاج إلى البحث فيها حول التعديل والتوثيق والتضعيف والجرح. وهذان الأمران يجعلان التعريف منطبقا على ما هو خارج عن العلم ؛ لأنّه من الواضح أنّ بحوث اللغة وكذا بحوث علم الرجال علمان مستقلاّن عن الأصول ، بل والفقه وإن احتاج الفقيه إليهما في استنباطه. وهذا يعني أنّ التعريف يشمل الأغيار فهو غير مانع أيضا.

أمّا الملاحظة الأولى فتندفع بأنّ المراد بالحكم الشرعي الذي جاء في التعريف :

ص: 15


1- فيبحث في أنّ المدلول لهذه الكلمة ما هو؟ وهذا البحث صغرى لكبرى في مسائل اللغة هي البحث عن ظواهر الألفاظ ، أو البحث عن مدلولات الألفاظ ، فهذه قاعدة كليّة احتاج إليها الفقيه في استنباطه.

جعل الحكم الشرعي على موضوعه الكلّي ، فالقاعدة الأصوليّة ما يستنتج منها جعل من هذا القبيل ، والقاعدة الفقهيّة هي بنفسها جعل من هذا القبيل ، ولا يستنتج منها إلا تطبيقات ذلك الجعل وتفصيلاته.

أمّا الملاحظة الأولى فيجاب عنها بأنّ المراد من الحكم الشرعي الذي ورد ذكره في التعريف هو الحكم الكلّي لا الجزئي ، بمعنى أنّ القاعدة الأصوليّة هي التي يستنبط منها جعل كلّي على موضوعه المقدّر الوجود بنحو القضيّة الحقيقيّة.

فالموضوع والمحمول في القضيّة المستنبطة عن القاعدة الأصوليّة كلاهما كلّي ، بينما القاعدة الفقهيّة هي التي يستنبط منها جعل جزئي ، فهي تطبيق لتلك الكليّة التي استنبطت من القاعدة الأصوليّة ، وهذا يعني أنّ القاعدة الفقهيّة لا يستنبط منها إلا مصاديق وتطبيقات لذلك الجعل الكلّي ولا يستنبط منها جعل كلّي ، بل هي بنفسها جعل كلّي.

وبهذا التفسير للحكم الشرعي وهو الجعل الكلّي سوف لا تدخل القواعد الفقهيّة ؛ لأنّه لا يستنبط منها جعل كلّي والذي هو المعنى المصطلح عليه في الأصول للحكم الشرعي ، وإنّما يستنبط منها تطبيقات مصاديق لهذا الجعل الكلّي. وأمّا الجعل الكلّي نفسه فهو نفس وحقيقة القاعدة الفقهيّة ؛ ولأجل زيادة توضيح هذا الفارق نضرب مثالا لذلك وهو قوله :

ففرق كبير بين حجيّة خبر الثقة والقاعدة الفقهيّة المشار إليها ؛ لأنّ الأولى يثبت بها جعل وجوب السورة تارة وجعل حرمة العصير العنبي أخرى ، وهكذا فهي أصوليّة. وأمّا الثانية فهي جعل شرعي للضمان على موضوع كلّي ، وبتطبيقه على مصاديقه المختلفة كالإجارة والبيع مثلا نثبت ضمانات متعدّدة مجعولة كلّها بذلك الجعل الواحد.

هذا مثال لبيان الفرق بين القاعدة الأصوليّة والفقهيّة ، وهو أنّ مثل حجيّة خبر الثقة والتي هي من القواعد الأصوليّة حيث إنّه بتطبيق هذه الحجيّة على مختلف الأبواب الفقهيّة نستنتج جعلا كليّا كوجوب السورة أو حرمة العصير العنبي ، وهذان الحكمان جعلان كلّيّان على موضوع كلّي ، وهكذا نستطيع أن نثبت بها جعولات كليّة على موضوعات كليّة أخرى ، وفي مختلف الأبواب الفقهيّة. فهي قاعدة أصوليّة لذلك.

ص: 16

وأمّا القاعدة الفقهيّة كالقاعدة المشار إليها في الإشكال وهي قاعدة الضمان ، فهذه نستطيع أن نثبت بها تطبيقات للضمان على مصاديق وموارد خارجيّة في بعض الأبواب الفقهيّة كالبيع والإجارة ونحوهما ، فالمستنتج من هذه القاعدة هو الجعولات الجزئيّة ؛ لأنّها تابعة لمواردها ومصاديقها المشخّصة في الخارج ، ولا يستنتج منها جعل كلّي ، بل هي بنفسها جعل كلّي يوجد تحته مصاديق متعدّدة وجزئيّات مختلفة.

وهذه الضمانات المتعدّدة المستنتجة من قاعدة الضمان تعتبر أحكاما جزئيّة على موضوعها الجزئي. وبهذا ظهر الفرق بين القاعدتين ، مضافا إلى أنّ القاعدة المذكورة مختصّة في بعض الأبواب الفقهيّة ولا تشمل مختلف الأبواب الأخرى كأبواب العبادات مثلا (1).

وأمّا الملاحظة الثانية فقد يجاب عليها تارة بإضافة قيد إلى التعريف ، وهو ( أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ) كما صنع صاحب ( الكفاية ) (2).

الملاحظة الثانية - وهي عدم شمول التعريف للأصول العمليّة - فقد أجيب عليها أوّلا بإضافة قيد إلى التعريف المذكور من باب التتميم والإلحاق والاستدراك ، كما صنع صاحب ( الكفاية ) حيث قال في تعريفه لعلم الأصول : ( إنّ علم الأصول صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ).

ص: 17


1- وهذا الكلام تامّ في مثل هذه القاعدة الفقهيّة ، وأمّا غيرها من القواعد كقاعدة الفراغ والصحّة والطهارة والحليّة فلا يتمّ فيها ؛ لأنّ هذه القواعد يستنتج منها جعل كلّي على موضوع كلّي أيضا كالقاعدة الأصوليّة. فتبقى داخلة في التعريف المذكور ولا تخرج من التعريف حتّى على هذا التفسير للحكم الشرعي ، مع أنّها قواعد فقهيّة وليست أصوليّة ؛ لأنّ بعضها مختصّ في الشبهات الموضوعيّة وبعضها في الشبهات الحكميّة ، فلا تجري في مختلف الحالات والشكوك فلذلك لا تكون أصوليّة ؛ لعدم قابليّتها للجريان في مختلف الأبواب والحالات مع أنّ التعريف منطبق عليها ؛ لأنّ مثال قاعدة الطهارة أو الحليّة يستنبط منهما جعل كلّي على موضوع كلّي كقولنا : ( كلّ شيء طاهر ، وكلّ شيء حلال ). ولعلّ مراد السيّد الشهيد من قوله : ( كالقاعدة المشار إليها ) إشارة إلى ما ذكرناه من أنّ بعض القواعد الفقهيّة يستنبط منها جعل كلّي لا مجرّد تطبيقات ومصاديق للجعل الكلّي.
2- كفاية الأصول : 23.

فعلى هذا سوف تدخل الأصول العمليّة ؛ لأنّها قواعد ينتهى إليها في مقام العمل حيث إنّها تحدّد الوظيفة والموقف العملي اتّجاه الواقع المشكوك ، فيستفاد منها جعل كلّي ينتهي إليه المكلّف في مقام العمل ، وبالتالي تندفع هذه الملاحظة بهذا القيد ، إلا أنّ هذا القيد يؤكّد أنّ التعريف المذكور كان واردا عليه ذلك الإشكال ؛ وإلا لما احتيج إلى هذا التتميم بالقيد المذكور.

وأخرى بتفسير الاستنباط بمعنى الإثبات التنجيزي والتعذيري ، وهو إثبات تشترك فيه الأدلّة المحرزة والأصول العمليّة معا (1).

وأجيب ثانيا على الملاحظة الثانية بتفسير الاستنباط الوارد في التعريف بنحو يتلاءم وينسجم مع الأصول العمليّة ، فإنّا إذا فسّرنا الاستنباط بمعناه اللغوي وهو استخراج الحكم الشرعي ، فهذا سوف لا ينعكس على الأصول العمليّة ؛ لأنّه لا يستنبط منها حكم شرعي بهذا التفسير.

وأمّا على التفسير الآخر والذى ذكره السيّد الخوئي فسوف تدخل الأصول العمليّة في التعريف حيث قال : ( علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة الإلهيّة ... ) ثمّ قال : ( إنّ المراد من الاستنباط هو الاثبات التنجيزي والتعذيري ).

وعلى هذا التفسير الاصطلاحي للاستنباط سوف تندفع الملاحظة الثانية ؛ لأنّ المراد من الاستنباط هو الإثبات سواء كان تنجيزا كالاحتياط ونحوه أو تعذيرا كالبراءة ونحوها ، فالأصول العمليّة كالأدلّة المحرزة من هذه الناحية يشتركان معا في الإثبات ؛ لأنّ الأدلّة المحرزة كالكتاب والسنّة مثلا يثبتان التنجيز والتعذير بواسطة إثباتهما للأحكام التكليفيّة الخمسة مباشرة. وأمّا الأصول العمليّة فهي تثبت التنجيز والتعذير بواسطة القواعد الأصوليّة الجارية في موردها عند ما يتحقّق موضوعها ، فالبراءة مثلا تنفي التكليف فيثبت التعذير والاحتياط يثبت التكليف فيثبت التنجيز ، فالبراءة تؤمّن وتعذّر والاحتياط يثبت وينجّز ، فموارد الأصول العمليّة تثبت أحد أمرين : فهي إمّا أن تنفي لزوم الفعل فتثبت التعذير ، وإمّا أن تثبت لزوم الفعل أو الترك فتثبت التنجيز.

وبأحد هذين الوجهين سوف تنحلّ مشكلة الأصول العمليّة.

ص: 18


1- المحاضرات 1 : 9.

وأمّا الملاحظة الثالثة فهناك عدّة محاولات للجواب عليها :

منها : ما ذكره المحقّق النائيني قدّس اللّه روحه (1) من إضافة قيد الكبرويّة في التعريف لإخراج ظهور كلمة ( الصعيد ) ، فالقاعدة الأصوليّة يجب أن تقع كبرى في قياس الاستنباط ، وأمّا ظهور كلمة ( الصعيد ) فهو صغرى في القياس وبحاجة إلى كبرى حجيّة الظهور.

تبقى الملاحظة الثالثة : وهي دخول المسائل اللغويّة ومسائل علم الرجال في التعريف المذكور ؛ لأنّها قواعد تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعي ، حيث يحتاج الفقيه إليها في كثير من الموارد والحالات. وللإجابة عن هذا الإشكال وجدت عدّة محاولات أهمّها اثنتان :

المحاولة الأولى : ما ذكره المحقّق النائيني في تعريفه لعلم الأصول حيث قال : ( إنّ علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي ). فهذا التعريف يشتمل على قيد الكبرويّة ، وهذا القيد أضافه الميرزا إلى التعريف بعد أن اعترف بأنّ تعريف المشهور السابق لا يخلو من مناقشات : إمّا من جهة عدم شموله لما هو داخل فيه ، أو عدم طرده لما هو خارج عنه ، فهو يرى أنّ هذا التعريف لا يرد عليه شيء من الإشكالات والملاحظات ، وهذا القيد بالخصوص يحلّ الملاحظة الثالثة ؛ وذلك لأنّ القاعدة الأصوليّة وفقا لهذا القيد هي التي تقع كبرى في القياس الاستنباطي ، وكلّ قاعدة تقع صغرى في هذا القياس فهي ليست قاعدة أصوليّة ، فمثلا إذا أردنا استنباط حكم شرعي فرعي كلّي من آية أو خبر ، فهو يتوقّف على عدّة أمور : منها سند الحديث ، ومنها مدلولات الكلمات الواردة في الخبر ومعرفة معانيها وظواهرها ، ومنها حجيّة الظهور أو حجيّة خبر الثقة. وهنا البحث الأوّل يتكفّل به علم الرجال ، والثاني يتكفّله علم اللغة العربيّة ، والثالث يتكفّله علم الأصول ؛ وذلك لأنّ حجيّة الظهور تقع كبرى في القياس الاستنباطي فيقال مثلا : خبر الثقة دلّ على الوجوب ، وخبر الثقة حجّة. إذا خبر الثقة الدالّ على الوجوب حجّة.

فهنا وقعت حجيّة خبر الثقة كبرى في القياس الاستنباطي ولذلك فهي قاعدة

ص: 19


1- فوائد الأصول 1 : 29.

أصوليّة ، بينما كلمة الصعيد مثلا فهي لا تقع كبرى في القياس ، بل تقع صغرى حيث يقال : كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض ، وكلّ ظاهر حجّة ، إذا ظهور كلمة الصعيد حجّة. وكذلك الحال بالنسبة للمسائل الرجاليّة ، حيث يقال مثلا : زرارة ثقة وكلّ خبر ثقة حجّة فخبر زرارة حجّة ، فدائما تقع المسائل اللغويّة والرجالية صغرى في القياس الاستنباطي ؛ لاحتياجهما إلى حجيّة الظهور وحجيّة خبر الثقة حيث تقعان كبرى لتلك المسائل.

وبهذا يتّضح أنّ ضابط كون القاعدة أصوليّة هي وقوعها كبرى في قياس الاستنباط للحكم الفرعي الكلّي الإلهي ، وأمّا القاعدة التي تقع صغرى في هذا القياس فهي ليست أصوليّة ، فتخرج مسائل اللغة والرجال لوقوعها صغرى في هذا القياس دائما.

ويرد عليه : أنّ جملة من القواعد الأصوليّة لا تقع كبرى أيضا ، كظهور صيغة الأمر في الوجوب ، وظهور بعض الأدوات (1) في العموم أو في المفهوم ، فإنّها محتاجة إلى كبرى حجيّة الظهور ، فما الفرق بينها وبين المسائل اللغويّة؟!

ما ذكره الميرزا النائيني يرد عليه أوّلا : أنّ قيد الكبروية الذي أضافه إلى التعريف - والذي على أساسه تعرف القاعدة الأصوليّة من غيرها ، وهو كونها واقعة كبرى في القياس الاستنباطي - وإن استطاع أن يحلّ مشكلة المسائل اللغويّة والرجاليّة وإخراجها من التعريف ؛ لأنّها لا تقع كبرى في القياس بل صغرى دائما - ، إلا أنّه يلزم منه إشكال من جهة أخرى ، وهي خروج بعض القواعد الأصوليّة من التعريف ؛ لوقوعها صغرى في قياس الاستنباط. فمثلا ظهور بعض الأدوات في العموم أو المفهوم ، أو ظهور صيغة الأمر في الوجوب تحتاج دائما إلى كبرى حجيّة الظهور ، فيقال مثلا : هذه صيغة أمر وكلّ أمر ظاهر في الوجوب فهذه تقع صغرى لكبرى حجيّة الظهور ، حيث يقال : وكلّ ظاهر حجّة إذن صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب حجّة. فوقعت صيغة

ص: 20


1- من قبيل أداة الشرط لا الحصر ؛ لأنّ الأولى ظاهرة في المفهوم بخلاف الثانية فهي نصّ فيه ؛ لأنّها موضوعة لغة لذلك. ومن قبيل الإطلاق بالألف واللام والسياق ، فإنّها ظاهرة في العموم والاستيعاب ، بخلاف كلمة كلّ وجميع فإنّها نصّ في ذلك ؛ لكونها موضوعة لغة للاستيعاب والشمول.

الأمر صغرى في القياس فيلزم ألاّ تكون أصوليّة بناء على هذا القيد الذي ذكره الميرزا في إضافة قيد الكبرويّة إلى التعريف.

وكذلك بالنسبة لبعض أدوات العموم والمفهوم حيث يقال : إنّ النكرة في سياق النفي أو النهي ظاهرة في العموم فتحتاج إلى كبرى حجيّة الظهور أيضا ؛ لإثبات حجيّة ظهورها في العموم.

وكذا أدوات الشرط الظاهرة في المفهوم حيث تكون دالّة على التوقّف والالتصاق فتحتاج إلى حجيّة الظهور ؛ لتنقيح أنّ ظهورها في المفهوم حجّة.

فهذه القواعد قد وقعت صغرى لحجية الظهور ، كما وقعت كلمة الصعيد صغرى لحجيّة الظهور أيضا ، فما هو الفرق بينهما والذي على أساسه كانت تلك القواعد أصوليّة ، ولم تكن كلمة الصعيد ونحوها من القواعد الأصوليّة رغم اشتراكهما في الاحتياج إلى حجيّة الظهور؟!

فهذا القيد الذي أضافه الميرزا لم يبيّن حقيقة القاعدة الأصوليّة ؛ لأنّه غير تامّ في جميع القواعد الأصوليّة ، فهناك فارق جوهري غير ما ذكره الميرزا يكون موجودا في تمام القواعد الأصوليّة وغير موجود في المسائل اللغويّة والرجاليّة ، وعلى أساسه ينبغي بيان ضابطة القاعدة الأصوليّة في التعريف (1).

ص: 21


1- هنا يمكن أن يكون ما ذكره الميرزا من القيد في التعريف والذي على أساسه أعطى الضابطة للقاعدة الأصوليّة صحيحا ؛ وذلك ببيان أنّ الميرزا قال في تعريفه بما حاصله : إنّ القاعدة الأصوليّة هي التي تقع كبرى دائما في قياس الاستنباط ، ولا تقع صغرى أبدا في هذا القياس ، بينما القاعدة غير الأصوليّة كالمسائل اللغويّة والرجاليّة والفقهيّة تقع صغرى دائما في القياس ولا تقع كبرى فيه أبدا. يبقى الإيراد الذي ذكره السيّد الشهيد من احتياج صيغة الأمر ونحوها إلى كبرى حجيّة الظهور ، فهو وإن كان صحيحا إلا أنّه ليس إشكالا واردا على تعريف الميرزا ؛ لأنّ وقوعها صغرى في القياس الذي ذكره السيّد الشهيد لا يضرّ ولا يمنع من كونها أصوليّة ؛ لأنّ القياس الذي وقعت فيه صغرى ليس هو قياس الاستنباط الفقهي الذي يستنتج منه حكم فرعي كلّي على حدّ تعبير الميرزا ؛ إذ قولنا : صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكلّ ظاهر حجّة يستنتج منه أنّ صيغة الأمر حجّة في الوجوب ، وهذه النتيجة ليست نتيجة فقهيّة ؛ لأنّها ليست حكما شرعيّا. فهذا القياس ليس هو القياس الذي أراده الميرزا إذ الميرزا أراد القياس الفقهي الذي يستنبط منه الحكم الشرعي ، فحينما نقول : .. ... هذه صيغة أمر وكلّ أمر ظاهر في الوجوب يستنتج أنّ هذه الصيغة ظاهرة في الوجوب ، والوجوب حكم شرعي كلّي يفتي به الفقيه على أساس هذا القياس. وبعبارة أخرى : يوجد هنا قياسان : قياس الاستنباط الفقهي والذي يستنبط منه الحكم الشرعي الفرعي الكلّي. وقياس الاستنباط الأصولي والذي يستنبط منه قاعدة أصوليّة أو قاعدة فقهيّة. والذي أراده الميرزا هو القياس الأوّل ، وفي هذا القياس لا تقع القاعدة الأصوليّة إلا كبرى ، وهذا لا يمنع من وقوعها صغرى في القياس الثاني ولا يضرّ بأصوليّتها ، ففي الحقيقة وقع خلط في إيراد السيّد الشهيد رحمه اللّه بين هذين القياسين. فما ذكره الميرزا صحيح وتامّ بالنسبة للقياس الفقهي وما أورده السيّد الشهيد هو وقوعها صغرى في القياس الأصولي ، وهذا يعني اختلاف الجهة واللحاظ بين الميرزا والشهيد. وبهذا يكون تعريف الميرزا والقيد الذي أضافه قادرا على دفع الملاحظة الثالثة.

وكذلك أيضا مسألة اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ الامتناع فيها يحقّق صغرى لكبرى التعارض بين خطابي : صلّ ولا تغصب ، والجواز فيها يحقّق صغرى لكبرى حجيّة الإطلاق.

ويرد ثانيا على ما ذكره الميرزا من إضافة قيد الكبروية إلى التعريف - والذي على أساسه أعطى ضابطة لتعريف القاعدة الأصوليّة - : أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي والتي هي من المسائل الأصوليّة تقع صغرى في القياس تارة لكبرى التعارض على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، وأخرى لكبرى حجيّة الإطلاق على القول بجواز اجتماعهما في مصداق واحد. وتوضيح ذلك : إنّه يوجد خلاف في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فهناك قول بامتناع ذلك وقول آخر بجوازه كما سيأتي في محلّه. فعلى القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، فإذا صلّى المكلّف في مكان مغصوب فهذا الفرد الخارجي مصداق لأحد الخطابين ، ولكن حيث إنّ خطاب ( صلّ ) يشمل هذا الفرد الخارجي ويعتبره مصداقا للمأمور به ، وحيث إنّ خطاب ( لا تغصب ) يشمل هذا الفرد أيضا باعتباره محقّقا لماهيّة الغصب ، فيقع التعارض بين الخطابين في هذا الفرد الخارجي ؛ لأنّه يستحيل أن يكون مصداقا لكلا الخطابين بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، ويستحيل أن يكون مصداقا لأحدهما ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وحيث إنّ كلاّ من الخطابين شامل لهذا

ص: 22

المصداق فيتعارضان فيه ، فتقع هذه المسألة صغرى لإحدى القواعد الكليّة والكبرويّة في باب التعارض ، وهي التساقط أو التخيير أو الترجيح ، حيث يطبّق على هذه المسألة إحدى هذه الكبريات لتحديد ما هو الموقف العملي الذي يتّخذه الفقيه في عمليّة الاستنباط عند هذه المسألة. وهذا يعني أنّ هذه المسألة ليست أصوليّة ؛ لوقوعها صغرى في قياس الاستنباط. وعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، فهذا يعني أنّ الصلاة في المكان المغصوب تحقّق مصداقا لكلا الخطابين ، فمن جهة يقال : إنّ هذا الفرد الخارجي مصداقا للفرد الصلاتي المأمور به ، ومن جهة أخرى يقال : إنّه مصداق لماهيّة الغصب. فهو من جهة مأمور به لكونه صلاة ، ومن جهة أخرى منهي عنه لكونه غصبا ، فسوف تقع مسألة اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز صغرى لكبرى حجيّة الإطلاق ؛ لأنّ إطلاق الأمر بالصلاة شامل لهذا المورد وإطلاق النهي عن الغصب شامل لهذا المورد أيضا ، ولمّا كان اجتماعهما ممكنا وجائزا فتقع مسألة الاجتماع صغرى لحجيّة الإطلاق ، حيث يقال : هذا الفرد مصداق للصلاة وكل صلاة مأمور بها فهذا المصداق مأمور به ، وهذا الفرد مصداق للغصب وكلّ غصب منهي عنه فهذا منهي عنه ، فحجيّة الإطلاق وقعت كبرى ومسألة اجتماع الأمر والنهي وقعت صغرى لها فيلزم أن تكون أصوليّة بناء على تعريف الميرزا ؛ لأنّه قيّد القاعدة الأصوليّة بكونها كبرى قياس الاستنباط (1).

ومنها : ما ذكره السيّد الأستاذ من استبدال قيد الكبرويّة بصفة أخرى ، وهي أن تكون القاعدة وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي بلا ضمّ قاعدة أصوليّة أخرى (2) ، فيخرج ظهور كلمة الصعيد ؛ لاحتياجه إلى ضمّ ظهور صيغة افعل في الوجوب ، ولا يخرج ظهور صيغة افعل في الوجوب ، وإن كان محتاجا إلى كبرى حجيّة الظهور ؛ لأنّ هذه الكبرى ليست من المباحث الأصوليّة للاتّفاق عليها (3).

ص: 23


1- وهذا الإيراد أيضا قابل للنقاش كما تقدّم في الإيراد السابق بلا فرق بينهما ، على أساس الاختلاف بين القياس الفقهي والقياس الأصولي.
2- المحاضرات 1 : 8.
3- المحاضرات 1 : 6.

المحاولة الثانية لدفع الملاحظة الثالثة : ما ذكره السيّد الخوئي رحمه اللّه من وصف القاعدة الأصوليّة بالوحدة ، حيث قال في تعريفه لعلم الأصول : ( هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة الإلهيّة من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصوليّة أخرى إليها ). وهذا يعني أنّ القاعدة الأصوليّة ضابطها أن تكون وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي ، من دون أن تحتاج إلى غيرها من القواعد الأصوليّة سواء وقعت صغرى أو كبرى في القياس ، وأمّا مع احتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة سواء وقعت صغرى أو كبرى لها فهي ليست بأصوليّة ، وعلى أساس هذا الضابط الجديد سوف لا تدخل مسائل اللغة ومسائل علم الرجال والقواعد الفقهيّة ؛ وذلك لأنّها محتاجة إلى ضميمة قاعدة أصوليّة إليها في قياس الاستنباط.

فمثلا : كلمة الصعيد لا تكفي وحدها لاستنباط الحكم الشرعي بوجوب التيمّم عند فقد الماء ، بل هي بحاجة إلى ضمّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب ؛ لأنّ كلمة الصعيد وقعت مدخولا لصيغة الأمر بقوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1) فما لم يتمّ لصيغة الأمر الظهور في الوجوب فلا يستنتج من كلمة الصعيد أي حكم شرعي ، وهذه القاعدة التي انضمّت إلى كلمة الصعيد من القواعد الأصوليّة ، ممّا يعني أنّ كلمة الصعيد ونحوها من مباحث اللغة ليست من القواعد الأصوليّة ؛ لأنّها احتاجت إلى القاعدة الأصوليّة في قياس الاستنباط. وكذا الحال في مسائل علم الرجال ، فهي تحتاج إلى ضمّ قاعدة حجيّة خبر الثقة إليها ؛ ليستقيم الاستنباط للحكم الشرعي ، وحجيّة خبر الثقة من القواعد الأصوليّة ، فالاحتياج إليها يعني أنّ مسائل علم الرجال لا تدخل في الأصول ولا ينطبق عليها التعريف.

ولا يقال هنا : إنّ هذا الضابط يخرج منه بعض القواعد الأصوليّة ؛ لاحتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة كظهور صيغة الأمر ، حيث تحتاج إلى حجيّة الظهور.

وكذا غيرها من القواعد الأصوليّة كالعموم والمفاهيم ونحوهما حيث يقال : صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكلّ ظاهر حجّة ، فهنا وقعت صغرى لكبرى حجيّة الظهور والتي هي قاعدة أصوليّة ، فيلزم ألاّ تكون صيغة الأمر من القواعد الأصوليّة على هذا التعريف ؛ لهذه الضميمة الأصوليّة.

ص: 24


1- النساء : 43. المائدة : 6.

فإنّه يقال في الجواب عن هذا الإشكال : إنّ احتياج صيغة الأمر إلى كبرى حجيّة الظهور لا يخرجها من كونها قاعدة أصوليّة ؛ وذلك لأنّ كبرى حجيّة الظهور ليست من القواعد الأصوليّة ؛ بسبب الاتّفاق والتسالم عليها من قبل جميع العقلاء ، فلا يوجد خلاف في حجيّة الظهور ليبحث عنها في الأصول لتكون قاعدة أصوليّة ، بل هي من القواعد العقلائيّة والمرتكزات العرفيّة التي يقبلها العرف بأدنى توجّه وتأمّل ، وهذا يعني أنّ صيغة الأمر لم تحتج إلى ضميمة قاعدة أصوليّة ، بل احتاجت إلى ضميمة قاعدة عرفيّة عقلائيّة ، فلذلك تكون داخلة تحت ضابطة التعريف من دون أي إشكال في المقام.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الأصوليّة هي التي لا تحتاج إلى أصوليّة أخرى ، وإن احتاجت إلى بعض القواعد الأخرى العقلائيّة والعرفيّة أو بعض المسائل اللغويّة والرجاليّة ، فهذا لا يضرّ في أصوليّتها ، كما أنّ حجيّة الظهور التي تحتاج إليها بعض القواعد الأصوليّة ليست أصوليّة ؛ للاتّفاق عليها عند العقلاء فلا تدخل في علم الأصول ، بل هي من المرتكزات العامّة عند العرف.

ونلاحظ على ذلك أوّلا : أنّ عدم احتياج القاعدة الأصوليّة إلى أخرى إن أريد به عدم الاحتياج في كل الحالات فلا يتحقّق هذا في القواعد الأصوليّة لأنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا بحاجة في كثير من الأحيان إلى دليل حجيّة السند حينما تجيء الصيغة في دليل ظنّي السند ، وإن أريد به عدم الاحتياج ولو في حالة واحدة فهذا قد يتفق في غيرها كما في ظهور كلمة الصعيد إذا كانت سائر جهات الدليل قطعيّة.

الإيراد الأوّل على ما ذكره السيّد الخوئي من تعريف هو : أنّ عدم الاحتياج الذي اشترطه في ضابطة القاعدة الأصوليّة إمّا أن يراد به عدم الاحتياج مطلقا وفي كل الحالات فالقاعدة الأصوليّة هي التي لا تحتاج إلى قاعدة أصوليّة مطلقا ، بل تكون بنفسها كافية لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، فهذا لا يتّفق في كثير من القواعد الأصوليّة لأنّها تحتاج إلى بعضها في أغلب الأحيان ؛ فمثلا صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب تحتاج في كثير من الأحيان إلى تنقيح دليل السند أو تنقيح الدلالة فيما إذا وردت في دليل ظنّي السند أو ظنّي الدلالة ، فدلالة صيغة الأمر على الوجوب لا تتمّ لها الحجيّة فيما إذا لم تتنقح حجيّة السند والدلالة ، وهذا يعني أنّه بناء على تفسير

ص: 25

عدم الاحتياج بالعدم المطلق سوف تخرج مثل صيغة الأمر من ضابطة تعريف القاعدة الأصوليّة لاحتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة ، لأنّ البحث حول حجيّة السند وحول حجيّة الدلالة بحث أصولي.

وإمّا أن يراد به عدم الاحتياج ولو في حالة واحدة أي مسمّى عدم الاحتياج الذي يصدق على المرّة الواحدة بأن كانت القاعدة الأصوليّة هي التي يستنبط منها حكم شرعي وتكون كافية في هذا الاستنباط ولو لمرّة واحدة على الأقل وإن احتاجت إلى غيرها في الحالات الأخرى ، فهذا قد يتّفق في غير القواعد الأصوليّة أيضا بمعنى أنّ بعض القواعد غير الأصوليّة تكون ولو لمرّة واحدة كافية لاستنباط الحكم الشرعي وحدها من دون أن تحتاج إلى غيرها ، كما في ظهور كلمة ( الصعيد ) فيما إذا كانت كلّ الجهات المعتبرة قطعيّة ، فمن حيث السند يفترض أنّها وردت في القرآن الكريم أو السنّة المتواترة ، ومن حيث الدلالة يفترض كون الدلالة على الوجوب بنحو المفهوم الاسمي لا الصيغة التي هي معنى حرفي.

فهنا يكون البحث حول ظهور كلمة ( الصعيد ) بحثا أصوليّا بناء على هذا التفسير لعدم الاحتياج ؛ لأنّها لم تحتج إلى غيرها من القواعد الأصوليّة ، إذ المفروض أنّ جميع الجهات المعتبرة قطعيّة فلا بحث للفقيه إلا في تنقيح ظهور كلمة ( الصعيد ) ليستنبط الحكم الشرعي.

وبهذا ظهر أنّ هذا التعريف : إمّا أن يكون غير جامع بناء على التفسير الأوّل ؛ لعدم الاحتياج ، وإمّا أن يكون غير مانع بناء على التفسير الثاني ، فهذا الوصف الذي أضافه إلى التعريف غير دقيق وليس تامّا في جميع الموارد والحالات (1).

ص: 26


1- ويضاف أيضا : أنّه يلزم الدور من هذا التعريف ؛ لأنّه قد عرّف القاعدة الأصوليّة : بأنّها القاعدة التي لا تحتاج إلى قاعدة أصوليّة أخرى ، فهنا وبقطع النظر عن المراد من عدم الاحتياج قد أدخل في ضابط القاعدة الأصوليّة عدم الاحتياج إلى القاعدة الأصوليّة ، مع أنّ المطلوب من الضابط إعطاء الحدّ أو الرسم الذي على أساسه تعرف القاعدة الأصوليّة ، فقبل معرفة القاعدة الأصوليّة ، كيف عرفنا أنّ تلك القاعدة الأخرى التي احتيج إليها كانت أصوليّة؟! فإمّا أن يلزم أخذ الشيء في تعريف نفسه والذي هو ملاك الدور ، وإمّا أن يلزم منه التقدّم والتأخّر ؛ لأنّ القاعدة الأصوليّة على هذا معلومة قبل هذا التعريف ؛ وإلا لزم التعريف بالمجهول والكلّ باطل.

وثانيا : أنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب وأىّ ظهور آخر بحاجة إلى ضمّ قاعدة حجيّة الظهور ، وهي أصوليّة ؛ لأنّ مجرّد عدم الخلاف فيها لا يخرجها عن كونها أصوليّة ؛ لأنّ المسألة لا تكتسب أصوليّتها من الخلاف فيها ، وإنّما الخلاف ينصبّ على المسألة الأصوليّة. وهكذا يتّضح أنّ الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.

الإيراد الثاني على ما ذكره السيّد الخوئي هو : أنّ احتياج ظهور صيغة الأمر في الوجوب وغيرها من الظهورات كظهور أدوات العموم والمفاهيم إلى حجيّة الظهور ، والتي هي من القواعد الأصوليّة يعني أنّ عدم الاحتياج الذي ورد في التعريف غير تامّ كما تقدّم في الإيراد الأوّل ، ومجرّد كون حجيّة الظهور من القواعد المتسالم والمتّفق عليها عند العقلاء لا يخرجها من كونها أصوليّة ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة لا تكتسب أصوليّتها من وجود الخلاف فيها ؛ ليكون عدم الخلاف مخرجا لها من كونها أصوليّة. وليس هذا يعدو سوى مجرّد دعوى لا دليل عليها ، بل يلزم على هذا خروج كثير من القواعد الأصوليّة ؛ لعدم وجود الخلاف فيها ، ويلزم دخول القواعد غير الأصوليّة ؛ بسبب وجود الخلاف فيها أيضا ، وكلاهما باطل. وإنّما الصحيح أنّ القاعدة تكون أصوليّة في مرحلة سابقة ، ثمّ يطرأ عليها الخلاف والبحث ، بمعنى أنّ الخلاف عارض على المسألة الأصوليّة ، فيلزم أوّلا تنقيح المسألة الأصوليّة عن غيرها ليعرض الخلاف والبحث عليها ثانيا ، فما ذكر من ادّعاء غير تامّ.

وبتعبير آخر : إنّ الخلاف من الأحكام الموجبة العارضة على المسألة الأصوليّة ، والأحكام الموجبة تستدعي ثبوت الموضوع أوّلا ، فيلزم أن تكون أصوليّة المسألة متحقّقة في مرحلة متقدّمة على طروّ الخلاف عليها ، ممّا يعني أنّ الخلاف في المسألة لا ربط له في تحديد أصوليّة المسألة ؛ إذ لو كان شرطا فيها لكان دخيلا في الموضوع أيضا فيصبح الحكم محقّقا لموضوعه ، وهو باطل. نعم الخلاف في المسألة يكشف عن كون المسألة المختلف فيها أصوليّة إلا أنّ هذا لا يعني أنّه هو الذي أكسبها هذه الصفة وجعل لها هذا العنوان.

وهكذا تبيّن أنّ الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور بكلّ صيغه وإضافاته وقيوده.

ص: 27

والأصحّ في التعريف أن يقال : ( علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي ). وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغويّة كظهور كلمة الصعيد ؛ لأنّها لا تشترك إلا في استنباط حال الحكم المتعلّق بهذه المادّة فقط ، فلا تعتبر عنصرا مشتركا.

هذا هو التعريف الصحيح بنظر السيّد الشهيد والذي على أساسه سوف تحلّ كلّ الملاحظات والإيرادات السابقة ؛ وذلك لأنّ الأصول العمليّة تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط تجري في مختلف الأبواب الفقهيّة ، ويستنتج منها جعل شرعي كلّي. وأمّا القواعد الفقهيّة فهي لا تدخل في التعريف ؛ لأنّها ليست عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، وإنّما هي عناصر خاصّة ؛ لأنّ الفقيه يستخدمها في بعض الأبواب الفقهيّة ، وفي بعض الشبهات لا جميع الأبواب ولا جميع الشبهات. نعم بعض هذه القواعد الفقهيّة يستنبط منها جعل كلّي شرعي كما تقدّم ، كقاعدة الطهارة أو الحليّة إلا أنّها مختصّة ببعض الشبهات لا جميعها ؛ لأنّها لا تجري في الشبهات الحكميّة ، وكقاعدة الفراغ وأصالة الصحّة فهي وإن كانت تشكّل عنصرا مشتركا إلا أنّها أيضا مختصّة ببعض الشبهات وبعض الأبواب لا جميعها. وأمّا المسائل اللغويّة كظهور كلمة الصعيد وبعض المسائل الرجاليّة فهي عناصر خاصّة وليست عناصر مشتركة ؛ لاختصاصها ببعض الموارد والحالات والأبواب الفقهيّة. فهذا التعريف لا يرد عليه شيء من الإشكالات ، مضافا إلى أنّه يعطي الضابطة العامّة لمعرفة القاعدة الأصوليّة ويميّزها عن غيرها ، وهي القاعدة التي تعتبر عنصرا مشتركا يجري في مختلف الأبواب الفقهيّة بحيث يستنبط منها جعل شرعي كلّي. فهو تعريف جامع ومانع ، بخلاف غيره من التعاريف فإنّها لا تخلو من الإشكال إمّا بعدم الطرد وإمّا بعدم العكس.

ص: 28

موضوع علم الأصول

ص: 29

ص: 30

موضوع علم الأصول

موضوع علم الأصول - كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) - : الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي. والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليّتها.

عادة يذكر لكلّ علم موضوع ، والمراد من الموضوع هو ذاك المفهوم الكلّي الذي يكون جامعا بين موضوعات مسائل العلم. فإنّ العلم عبارة عن مجموعة من المسائل ولكلّ مسألة موضوع خاصّ يختلف عن الموضوع في المسألة الأخرى ومحموله كذلك ، وتكوّن بمجموعها مسائل العلم. وهذه الموضوعات والمحمولات المختلفة يجمعها مفهوم كلّي وقضيّة كليّة بموضوعها ومحمولها ، وهذا يعني أنّ الموضوع في حقيقته هو نفس مسائل العلم وليس شيئا زائدا عليها ولذلك قالوا : إنّ الموضوع هو الذي يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة للعلم ، فموضوع كلّ علم إذن هو نفس مسائله وأبوابه ومباحثه وموضوعات مسائله ومحمولاتها ، وعليه فتكون النسبة بين العلم وموضوعه هي نسبة التساوي ؛ غاية الأمر الفرق بينهما في الإجمال والتفصيل ، فهما متّحدان في المفهوم والمصداق ومختلفان في الاعتبار ، أي أنّ المغايرة بينهما اعتباريّة.

وعلى كلّ حال فقد عرّف موضوع علم الأصول بتعاريف عديدة ومختلفة ، والتعريف الصحيح بنظر السيّد الشهيد هو ما ذكره بعض القدماء مع تطوير له ؛ وذلك لأنّهم ذكروا أنّ موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة ، بينما الصحيح هو الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، وهذا أعمّ وأشمل من تعريف القدماء حيث خصّوا الموضوع بالأدلّة الأربعة فقط ، بينما هو الأدلّة المشتركة التي تشمل الأربعة وغيرها من الأدلّة ، فما ذكروه من الأدلّة صحيح ولكن ما حصروه من الأربعة غير صحيح ، بل هو الأعمّ منها ، فكلّ ما كان دليلا وعنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط

ص: 31


1- ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : موضوع علم الأصول وفائدته.

والاستدلال الفقهي بالخصوص فهو داخل في موضوع علم الأصول.

والبحث في علم الأصول يدور حول دليليّة هذه الأدلّة وأنّها هل تصلح لأن تكون عنصرا مشتركا في عمليّة الاستدلال أو لا تصلح لذلك؟ فيبحث في الأصول حول ما إذا كانت هذه القاعدة أو ذاك الدليل له الصلاحيّة للجريان في مختلف الأبواب الفقهيّة أو ليس له ذلك. فالبحث الأصولي ينصبّ حول دليليّة هذه القواعد الأصوليّة ، فالبحث مثلا في حجيّة الظهور أو حجيّة خبر الثقة أو الملازمات العقليّة أو الأصول العمليّة ينصبّ حول إمكانيّة استنباط الحكم الشرعي منها ، وأنّها هل تصلح للدلالة على الحكم الشرعي الكلّي ويعتمد عليها في إثبات المنجّزيّة والمعذّريّة أو لا؟

وبهذا ظهر أنّ مسألة الموضوع لعلم الأصول بل لكلّ علم من المسائل الواضحة عند العقلاء ، بمعنى أنّ العقلاء بمجرّد التفاتهم إلى معنى الموضوع وما هو المقصود منه يحكمون بلزوم الموضوع لكلّ علم ، إلا أنّه مع ذلك فقد وقع التشكيك في وجود الموضوع لكلّ علم أو لعلم الأصول بخصوصه. وإلى هذا أشار السيّد الشهيد بقوله :

وعدم تمكّن بعض المحقّقين (1) من تصوير موضوع العلم على النحو الذي ذكرناه أدّى إلى التشكيك في ضرورة أن يكون لكلّ علم موضوع ، ووقع ذلك موضعا للبحث ، فاستدلّ على ضرورة وجود موضوع لكلّ علم بدليلين :

بعض الأصوليّين أنكر وجود موضوع لعلم الأصول ، وبعضهم شكّك في ضرورة وجوده ؛ وليس ذلك إلا لعدم إمكانيّة تصوير الموضوع بالنحو الذي ذكرناه من كون الموضوع هو الجامع الكلّي بين موضوعات مسائل العلم ، إلا أنّ التشكيك في الموضوع نشأ من مسألة أخرى وهي أنّهم عرّفوا الموضوع بأنّه ما يكون جامعا بين مسائل العلم. والحال أنّ مسائل العلم لا يمكن أن يوجد جامع بينها ؛ لأنّ بعضها مباين للبعض في أكثر الأحيان ؛ إمّا من جهة الموضوع ، أو المحمول ؛ فكيف يمكن تصوير مفهوم كلّي يكون جامعا بينها؟! وهذا الكلام ناظر إلى المسائل في مرحلة التدوين والتأليف ، فإنّ بعض المسائل تكون مباينة لبعضها من جهة الموضوع كالفعل والترك ، أو المحمول كالوجوب والحرمة أو الوجود والعدم وهكذا ... إلى آخره.

إلا أنّ الصحيح هو وجود موضوع لكلّ علم ؛ لأنّ الموضوع ليس معناه الجامع بين

ص: 32


1- كالمحقّق العراقي في نهاية الأفكار 1 : 9 - 12 ، والسيّد الخوئي في المحاضرات 1 : 20.

موضوعات مسائل العلم في مرحلة التدوين ، وإنّما المراد منه المفهوم الكلّي الجامع لكلّ مسائل العلم قبل مرحلة التدوين وبقطع النظر عنها. وقد استدلّ على وجود الموضوع لكلّ علم بدليلين يضاف إليهما دليل ثالث على مبنى السيّد الشهيد :

أحدهما : أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بمعنى أنّ استقلال علم النحو عن علم الطبّ إنّما هو باختصاص كلّ منهما بموضوع كلّي يتميّز عن موضوع الآخر ، فلا بدّ من افتراض الموضوع لكلّ علم.

الدليل الأوّل : ما ذكره المشهور من أنّ العلوم تتمايز عن بعضها لأجل التمايز بين موضوعاتها ، فعلم النحو مثلا يمتاز عن علم الطبّ بموضوعه. فإنّ موضوع علم النحو الكلمة العربيّة وموضوع علم الطبّ الجسم الحي ، فلأجل تمايز الموضوع بينهما امتاز هذان العلمان عن بعضهما ، وعلى هذا فلا بدّ من افتراض موضوع لكلّ علم لكي يتحقّق التمايز بين العلوم ؛ إذ لو لم يكن لكلّ علم موضوع خاصّ به لما حصل التمايز بين العلوم ، وبما أنّ التمايز حاصل بين العلوم والتمايز لا يتمّ إلا باختلاف الموضوع فهذا يدلّ على وجود الموضوع لكلّ علم يمتاز عن موضوع العلم الآخر. وهذا الدليل مؤلّف من مقدّمتين : الأولى أنّ هناك تمايزا بين العلوم ، والثانية أنّ التمايز بين العلوم هو باختلاف موضوعاتها ، فالنتيجة هي وجود الموضوع لكلّ علم والذي على أساسه يحصل التمايز.

وهذا الدليل أشبه بالمصادرة ؛ لأنّ كون التمايز بين العلوم بالموضوعات فرع وجود موضوع لكلّ علم ، وإلا تعيّن أن يكون التمييز قائما على أساس آخر كالغرض.

هذا الدليل شبيه بالمصادرة وليس مصادرة حقيقيّة ؛ لأنّ المصادرة هي أن يكون الدليل عين المدّعى بأن يستدلّ على المطلوب بنفسه. وأمّا الشبيه بالمصادرة فهو أن يكون الدليل من لوازم ومتفرّعات المطلوب ، وهنا استدلّوا على وجود الموضوع لا بالموضوع نفسه ليكون مصادرة ، بل بشيء لازم ومتفرّع عليه وهو التمايز ، إذ التمايز بالموضوعات بين العلوم فرع وجود الموضوع أوّلا ، فهو لازم ومتفرّع على وجود الموضوع فيثبت الموضوع أوّلا ، ثمّ تثبت لوازمه ومتفرّعاته. فلذلك كان هذا الدليل شبيها بالمصادرة وليس مصادرة حقيقية. ولا فرق بين المصادرة والشبيه بها في كون

ص: 33

الاستدلال بهما على المطلوب باطلا : أمّا المصادرة فواضح ؛ لأنّه يلزم من الاستدلال بالشيء على نفسه الدور والخلف والتقدّم والتأخّر ؛ لكون المدّعى مأخوذا دليلا على نفسه ، وهذا واضح البطلان (1).

ص: 34


1- وأمّا الشبيه بالمصادرة فبطلان الاستدلال به على المطلوب من وجوه : الأوّل : ما ذكره السيّد الشهيد من قاعدة الفرعيّة وهي القاعدة القائلة : إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له أوّلا. وهنا عند ما نثبت التمايز بين العلوم للموضوعات فهذا يلزم منه ثبوت الموضوع أوّلا ، ثمّ يتفرّع عنه كون التمايز به. فما لم يثبت الموضوع في مرحلة متقدّمة فلا معنى للكلام عن التمايز بين العلوم بالموضوعات ؛ إذ لعلّه لا يوجد موضوع للعلم ومع عدم وجوده لا محصّل للكلام عن كون التمايز بالموضوعات ؛ إذ لعلّه شيء آخر كالغرض والغاية ونحو ذلك. فلا بدّ من إثبات الموضوع ثمّ ينتقل إلى الحديث عن كون التمايز به أو بغيره ، فيعود الكلام إلى أصل وجود الموضوع وهو غير متحقّق بعد. فهذا وجه بطلان الاستدلال بلازم الشيء على الشيء نفسه والذي هو المسمّى بالشبيه بالمصادرة. الثاني : هناك مرتبة طوليّة بين الموضوع وبين التمايز بالموضوع ، والثاني في المرتبة الثانية لا يتحقّق إلا بعد تحقّق الأوّل فما لم تتحقّق المرتبة الأولى يلغو الكلام عن المرتبة الثانية ، إذ الحديث عن المرتبة الثانية وهي تقتضي التسليم بوجود المرتبة الأولى ، ومع التسليم بوجودها لا معنى للاستدلال عليها وعلى وجودها ؛ إذ هو تحصيل الحاصل حينئذ. ومع عدم وجود المرتبة الأولى لا وجود للمرتبة الثانية أيضا ، فكيف يستدلّ بشيء معدوم على وجود شيء؟! وهذا واضح البطلان. الثالث : أنّه يوجد فرق بين مفاد كان التامّة وبين مفاد الناقصة ؛ لأنّ الأولى تثبت أصل وجود الشيء في مقابل عدمه ، والثانية تثبت وجود صفة وحكم لهذا الشيء الثابت والموجود في مقابل عدم ثبوت هذا الحكم أو الوصف ، وأمّا أصل وجود الشيء فهو مفروغ عنه ومتحقّق في مرحلة سابقة. وهذا معناه أنّ مفاد ( كان ) الناقصة قد أخذ فيه الفراغ عن ثبوت الشيء مقابل عدمه ، وهنا كون التمايز بين العلوم بالموضوعات يثبت صفة التمييز إلى الموضوع والذي هو مفاد ( كان ) الناقصة ، والذي معناه كما ذكرنا الفراغ عن ثبوت الموضوع في مرحلة سابقة ، فلا معنى لإثبات وجود الموضوع بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ إثبات وجوده بها معناه أنّه لم يكن ثابتا قبل ذلك ، وهذا خلف ماهيّة وحقيقة كان الناقصة ، فيلزم منه التقدّم والتأخّر والخلف أو الدور ، والجميع باطل. الرابع : أنّ الأحكام السلبيّة يجوز إسنادها إلى موضوع معدوم وإلى موضوع موجود ، وأمّا الأحكام الإيجابيّة فلا يجوز إسنادها إلا إلى موضوع موجود ، وهنا ثبوت التمايز بين العلوم إلى الموضوعات حكم إيجابي وصفة وجوديّة للموضوع. وهذا معناه لزوم كون الموضوع .. ... موجودا وإلا لم يصحّ الحكم الإيجابي بالتمايز عليه ، ومع الفراغ عن وجود الموضوع طبقا لهذا فلا داعي للاستدلال على ما هو موجود لإثبات وجوده ؛ إذ ليس هذا إلا اللغو الباطل وتحصيل الحاصل. وبهذا كلّه يتضح أنّ هذا الدليل غير تامّ. مضافا إلى الإشكال الذي ذكره صاحب ( الكفاية ) وإن كان غير تامّ كما هو الصحيح من أنّ التمايز بالموضوعات يستلزم تكثّر العلوم ؛ لأنّ كلّ باب بل كلّ مسألة لها موضوع مختلف عنه في الباب والمسألة الأخرى ، مع أنّه لا يقول أحد بأنّ باب الفاعل علم مستقلّ في مقابل باب المفعول رغم كونهما من حيث الموضوع والمحمول مختلفين ، حيث يقال : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب.

والآخر : أنّ التمايز بين العلوم إن كان بالموضوع فلا بدّ من موضوع لكلّ علم إذا : لكي يحصل التمايز. وإن كان بالغرض على أساس أنّ لكلّ علم غرضا يختلف عن الغرض من العلم الآخر ، فحيث إنّ الغرض من كلّ علم واحد والواحد لا يصدر إلا من واحد فلا بدّ من افتراض مؤثّر واحد في ذلك الغرض ، ولمّا كانت مسائل العلم متعدّدة ومتغايرة فيستحيل أن تكون هي المؤثّرة بما هي كثيرة في الغرض الواحد ، بل يتعيّن أن تكون مؤثّرة بما هي مصاديق لأمر واحد.

وهذا يعني فرض قضيّة كلّيّة تكون بموضوعها جامعة بين الموضوعات وبمحمولها جامعة بين المحمولات للمسائل ، وهذه القضيّة الكلّيّة هي المؤثّرة ، وبذلك يثبت أنّ لكلّ علم موضوعا ، وهو موضوع تلك القضيّة الكلّيّة فيه (1).

الدليل الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) للاستدلال على وجود الموضوع :

فتارة نقول بمقالة المشهور : من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، فيلزم وجود موضوع إذن ؛ لكي يحصل التمايز المذكور فيكون المطلوب حاصلا ، إلا أنّ هذا الافتراض غير صحيح كما تقدّم آنفا. فلا بدّ من فرض كون التمايز بين العلوم متحقّقا بشيء آخر غير الموضوع.

وأخرى نقول : إنّ التمايز بين العلوم بلحاظ الأغراض فلكلّ علم غرض مختلف عن الآخر ، وعلى هذا الافتراض يمكننا إثبات وجود موضوع العلم ، وهذا الدليل مركّب من مقدّمتين ونتيجة :

ص: 35


1- تجد خلاصة هذا البيان مع الإيراد عليه في ألسنة جملة من الأصوليّين ، منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 1 : 34 ، والسيّد الخوئي في هامش كتاب أجود التقريرات 1 : 4.

المقدّمة الأولى : على افتراض أنّ التمايز بين العلوم إنّما هو بلحاظ الغرض ، حيث إنّ لكلّ علم غرضا مستقلا عن الغرض من العلم الآخر ، فهنا حيث إنّ مفهوم الغرض مفهوم واحد وبسيط فلا بدّ من فرض مؤثّر في هذا الغرض ، وهذا المؤثّر في الغرض هو موضوع العلم.

المقدّمة الثانية : وفقا للقاعدة الفلسفيّة القائلة : بأنّ ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ). فلا بدّ من فرض المؤثّر في الغرض واحدا ؛ لأنّ الغرض واحد أيضا وهو لا يصدر إلا من واحد.

والنتيجة - بناء على هاتين المقدّمتين - : أنّ المؤثّر في الغرض - والذي قد فرض كونه واحدا نظرا إلى وحدة الغرض نفسه - إذا فرضناه نفس مسائل العلم لم تتمّ المقدّمة الثانية ؛ لأنّ مسائل العلم متعدّدة ومتكثرة فكيف يصدر عن الكثير بما هو كثير واحد بسيط وهو الغرض ، بحيث تكون هذه المسائل هي المؤثّرة فيه؟! فيلزم من هذا الغرض مخالفة القاعدة الفلسفيّة التي هي المقدّمة الثانية من هذا الدليل ، فهذا الفرض باطل ومستحيل.

فيلزم أن نفرض وجود قضيّة كليّة مؤلّفة من موضوع ومحمول هي المؤثّرة في الغرض ؛ لأنّها واحدة فيصدر منها الواحد. وهذه القضيّة الكليّة من حيث الموضوع جامعة بين موضوعات المسائل ، ومن حيث محمولها جامعة بين محمولات المسائل ، فتكون هذه القضيّة الكلّيّة المفروضة والتي موضوعها جامع بين موضوعات المسائل هي المؤثّرة في الغرض بلحاظ موضوعها. وهذا يعني أنّ تلك المسائل المتكثّرة قد أثّرت في الغرض ولكن لا بوصف كونها كثيرة ، بل بلحاظ كونها مصاديق وأفرادا لذلك الموضوع الكلّي الجامع لها. فالمؤثّر في الغرض هو القضيّة الكليّة أوّلا وبالذات ، ثمّ المسائل المتعدّدة ثانيا ، وبالعرض باعتبارها مصاديق وتعيّنات لموضوع القضيّة الكلّيّة ، وبهذا يثبت كون المؤثّر في الغرض أمرا واحدا هو القضيّة الكلّيّة.

ثمّ إذا نظرنا إلى موضوع تلك القضيّة الكليّة نجده جامعا بين موضوعات مسائل العلم ، ولا يقصد من الموضوع المراد إثباته أكثر من ذلك. فثبت بهذا الدليل وجود موضوع لكلّ علم ، وهذا الموضوع هو الموضوع الكلّي الجامع بين موضوعات مسائل العلم الواقع موضوعا للقضيّة الكليّة المفروضة والتي أثّرت في الغرض. وبهذا يتّضح أنّه

ص: 36

يمكننا إثبات وجود الموضوع للعلم من غير أن نفرض أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بل يمكننا إثباته بفرض أنّ التمايز بين العلوم بالغرض.

وقد أجيب على ذلك : بأنّ الواحد على ثلاثة أقسام : واحد بالشخص ، وواحد بالنوع وهو الجامع الذاتي لأفراده ، وواحد بالعنوان وهو الجامع الانتزاعي الذي قد ينتزع من أنواع متخالفة. واستحالة صدور الواحد من الكثير تختصّ بالأوّل (1) ، والغرض المفترض لكلّ علم ليست وحدته شخصيّة ، بل نوعيّة (2) أو عنوانيّة (3) ، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة في المقام.

أورد على هذا الدليل بمنع كلتا المقدّمتين :

أمّا المقدّمة الثانية : وهي قاعدة : ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، فإنّ تطبيقها على الغرض غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الواحد على ثلاثة أقسام هي :

الواحد الشخصي : وهو الجزئي الحقيقي كزيد فهو واحد بسبب تشخّصه وتعيّنه بالخارج.

والواحد بالنوع : وهو الجامع الذاتي لأفراده أي الكلّي الذي يكون جامعا بين المصاديق والجزئيّات والأفراد كالإنسان الجامع بين الأفراد الموجودة في الخارج ، وكالحيوان الجامع بين الأنواع ، وكالناطق فهذه كلّها مفاهيم كليّة جامعة بين أفرادها وأنواعها بنحو تكون دخيلة في ذاتها وهي واحدة أيضا.

والواحد بالعنوان : وهو الجامع العرضي والانتزاعي والذي يكون جامعا بين الأفراد والأنواع المتخالفة ، كالبياض الجامع بين الإنسان والحجر والطائر والقرطاس والثلج ... إلى آخره ؛ ولكن هذا الجامع ليس دخيلا في حقيقة هذه الأنواع والأفراد ، وإنّما هو متفرّع منها بنحو العارض الخارج عن الذات ، فهو مفهوم انتزاعي وعرضي ولكنّه واحد أيضا.

والقاعدة المذكورة مختصّة بالواحد الشخصي بمعنى أنّ الواحد الشخصي وهو الجزئي الحقيقي يستحيل صدوره من كثيرين ولا يصدر إلا من واحد فقط.

وأمّا الواحد بالنوع أو الواحد بالعنوان فهما يصدران من الواحد ومن الكثير أيضا

ص: 37


1- كما ادّعاه السيّد الخوئي في المصدر السابق.
2- كما ادّعاه السيّد الخوئي في المصدر السابق.
3- كما ادّعاه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 1 : 34.

كما هو مبرهن عليه في الفلسفة. والغرض وحدته ليست وحدة شخصيّة ؛ لأنّه ليس جزئيّا بل هو مفهوم كلّي ، فهو إمّا واحد نوعي أو واحد عنواني على الخلاف في ذلك ، وعلى كلا الأمرين لا تنطبق عليه القاعدة الفلسفيّة المذكورة وعليه فلا يشترط كون المؤثّر في الغرض واحدا أيضا ، بل يمكن أن يكون المؤثّر فيه الكثير. فتلك القضيّة الكلّيّة المؤلّفة من موضوع جامع بين موضوعات مسائل العلم لا داعي ولا موجب لفرضها على هذا ، بل يمكن أن تكون مسائل العلم بما هي كثيرة مؤثّرة في الغرض ولا يلزم من ذلك أي محذور.

وأمّا المقدّمة الأولى : وهي افتراض وجود غرض بسبب وجود المؤثّر وهو تلك القضيّة الكليّة المفترضة فيرد عليها : أنّه مع وجود المؤثّر يلزم وجود الغرض دائما ويمنع من تخلّفه عنه ، وهذا الأمر غير متحقّق بنحو مطلق ؛ لأنّا نجد أنّ الغرض يتخلّف في كثير من الأحيان مع وجود المؤثّر فيه ، فنرى مثلا أنّ من يتعلّم المنطق أو النحو يخطئ في التفكير السليم والصحيح وفي النطق الصحيح مع كون المؤثّر موجودا ؛ لأنّه قد تعلّم مسائل العلم ، وهذا يعني أنّ الغرض قد تخلّف عن المؤثّر فيه.

إلا أنّ السيّد الشهيد لا يقبل كلا هذين الإيرادين ولذلك قال : ( وأجيب على ذلك ). ووجه ذلك :

أمّا المقدّمة الثانية : فالقاعدة الفلسفيّة لا تختصّ بالواحد الشخصي ، بل تشمل الواحد بالنوع أيضا والغرض واحد بالنوع (1).

وأمّا المقدّمة الأولى : فلأنّه يشترط في تأثير المؤثّر في الغرض أن يتمكّن المتعلّم من استخدام مسائل العلم على وجهها الصحيح وفي موردها ومصداقها ، فهي تمكّنه من الوصول إلى الغرض فيما لو أحسن استخدامها لا مطلقا ، والمخطئ لا يكون قد أحسن الاستعمال. فإذا تخلّف الغرض لم يصل إليه ؛ لأنّه لم يتحقّق شرط التأثير.

وهكذا يرفض بعض المحقّقين (2) الدليل على وجود موضوع لكلّ علم ، بل قد

ص: 38


1- بل إنّ القاعدة المذكورة مختصّة بالواحد الحقيقي أي العلّة الحقيقيّة وهي الحقّ سبحانه وتعالى ، ولا تشمل العلل الاعتباريّة كالغرض في مقامنا ، ولذلك وقع خلط بين المقامين.
2- منهم المحقّق العراقي في المقالات 1 : 37 ، والسيّد الخوئي في المحاضرات 1 : 20.

يبرهن على عدمه بأنّ بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها الفعل والوجود وعلى مسائل موضوعها الترك والعدم ، وتنتسب موضوعات مسائله إلى مقولات ماهويّة وأجناس متباينة كعلم الفقه الذي موضوع مسائله الفعل تارة والترك أخرى والوضع تارة والكيف أخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامع بين موضوعات مسائله؟!

ولأجل عدم تماميّة الأدلّة التي ذكرت على وجود موضوع للعلم رفض بعض المحقّقين كالمحقّق العراقي وجود موضوع لكلّ علم ، بل إنّ بعضهم كالسيّد الخوئي قد أقام البرهان على عدم وجود موضوع للعلم. وحاصل هذا البرهان أن يقال : إنّنا إذا أخذنا علم الفقه كمثال نجد أنّ بعض موضوعات مسائل هذا العلم تشتمل على الفعل والوجود كالصلاة والحجّ ونحو ذلك ، وبعض موضوعات مسائله تشتمل على الترك والعدم كالصوم وحرمة الزنى وحرمة شرب الخمر ونحو ذلك ، بل إنّنا إذا أخذنا باب الصلاة نجد أنّ الصلاة تشتمل على أفعال وجوديّة كالركوع والسجود والقراءة وهي من مقولات ماهويّة وأجناس متباينة ، فإنّ الركوع والسجود من مقولة الوضع والقراءة من مقولة الكيف المسموع ، وإذا أخذنا باب الصوم نجد أنّه يشتمل على تروك وأعدام وهي أيضا من مقولات ماهويّة وأجناس متباينة ، كترك الكذب على اللّه والرسول والأئمّة فهي من مقولة الكيف المسموع ، وكرمس الرأس في الماء فهي من مقولة الوضع وهكذا ... فكيف يمكن تصوير جامع كلّي بين هذه الأجناس المتباينة والمقولات الماهويّة المختلفة؟! إذ هي أجناس عالية ليس فوقها شيء يمكن تصوير الجامع بينها. وعليه فكيف يمكن تصوير الموضوع؟! لأنّه الجامع الكلّي بين موضوعات مسائل العلم كما تقدّم.

وكذلك الحال لو أخذنا علم الأصول كمثال آخر ، فإنّا نجده يشتمل على مسائل موضوعها الكشف والإراءة للواقع كالأمارات والأدلّة المحرزة ، وعلى مسائل موضوعها الشك ، والجهل وعدم الانكشاف للواقع كالأصول العمليّة المحضة. فكيف يمكن الجمع بين الكشف وعدمه وبين الإراءة للواقع والشكّ والجهل به؟! إذ الجامع بينها جامع بين النقيضين وهو باطل ومحال.

وعلى هذا الأساس رفض بعض الأصوليّين وجود الموضوع ، وليس ذلك إلا

ص: 39

لاستحالة تصوير هذا الجامع. وكيف يكون جامعا بين المسائل والموضوعات المتخالفة والمتباينة والمتناقضة؟!

وعلى هذا الأساس استساغوا ألاّ يكون لعلم الأصول موضوع ، غير أنّك عرفت أنّ لعلم الأصول موضوعا على ما تقدّم (1).

الصحيح هو وجود موضوع لكلّ علم من العلوم ومن جملتها علم الأصول بدليل حاصله :

إنّ كلّ علم من العلوم له محور يدور البحث حوله ، وكلّ مسائل العلم التي تدوّن في هذا العلم تأتي متأخّرة عن وجود هذا المحور ، فهو موجود قبل أن تتحقّق المسائل في الخارج ولا يتوقّف وجوده على وجودها ولذلك يمكن أن تختلف هذه المسائل في مرحلة التدوين والتصنيف عن هذا المحور ؛ نتيجة لتأثّر البحث أو الباحث بأمور خارجة عارضة عليه إلا أنّه لا يمنع من كون هذا المحور المذكور موجودا قبلها ، وهو الباعث على تدوينها في هذا العلم.

فمثلا علم الفلسفة يدور حول محور واحد وهو الوجود أو الموجود بما هو موجود ، وكلّ المسائل التي تبحث وتدوّن في هذا العلم تدور حول هذا المحور ، إلا أنّنا نجدها في مرحلة التدوين والتصنيف تختلف عن هذا المحور فنجد موضوعات مسائل هذا العلم موزّعة على الوجود والعدم والماهيّة والوجوب والإمكان والضرورة والحركة ... إلى آخره ، ونجد أنّ الوجود والذي هو المحور الذي يجب أن تدور البحوث حوله نجده يجعل محمولا لها ، فيقال : الماهيّة موجودة والإنسان موجود مع أنّها ليست إلا تعيّنات ومصاديق للوجود ، فهي التي تحمل عليه بحسب الحقيقة والدقّة ، إلا أنّ هذا لا يشكّل مانعا وذلك نتيجة لتأثّر الباحث بهذه الأمور فجعلها موضوعا وعكس الحمل.

وكذلك الحال بالنسبة لعلم الفقه فإنّ له محورا تدور حوله كلّ موضوعات مسائله ، وهذا المحور هو الحكم الشرعي ، فكلّ الأبواب الفقهيّة مهما اختلفت من جهة التدوين والتصنيف ومهما تغايرت ماهيّاتها ومقولاتها فهي تدور حول الحكم الشرعي ، والذي هو الأحكام التكليفيّة الخمسة الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة والأحكام الوضعيّة مثل الصحّة والفساد وغيرها. وعلم الأصول لا

ص: 40


1- في بداية هذا البحث.

يختلف عن بقيّة العلوم في وجود محور له تدور حوله موضوعات مسائله وهذا المحور هو : الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، فكلّ البحوث والمسائل الأصوليّة تدور حول هذا المحور وهل أنّها تشكّل دليلا على استنباط الحكم الشرعي الكلّي أو لا؟ فالبحث فيها حول دليليّتها وأنّها دليل أو ليست بدليل.

وهكذا يتّضح أنّ هناك محورا دائما لكلّ علم من العلوم تدور حوله كلّ البحوث المطروحة في هذا العلم.

وهذا المحور مفهوم كلّي جامع بين موضوعات مسائل العلم ويطلق عليه اسم موضوع العلم. فمقصودنا من موضوع العلم هو ذلك المفهوم الكلّي الجامع بين موضوعات المسائل والذي يسمّى بالمحور ، وعلى أساس هذا المحور تتمايز العلوم فيما بينها ، ولذا صحّ ما قيل : من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات بناء على أنّ المراد من الموضوع هو المحور الذي يدور حوله بحث كل مسائل العلم.

ص: 41

ص: 42

الحكم الشرعي وتقسيماته

ص: 43

ص: 44

الحكم الشرعي وتقسيماته

قد تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين : أحدهما الأحكام التكليفيّة ، والآخر الأحكام الوضعيّة ، وقد عرفنا سابقا نبذة عن الأحكام التكليفيّة. وأمّا الأحكام الوضعيّة فهي على نحوين :

يقسّم الحكم الشرعي إلى قسمين ، هما : الحكم التكليفي ، والحكم الوضعي.

فالحكم التكليفي : هو الخطاب الشرعي المتكفّل لتوجيه عملي مباشر لأفعال الإنسان وتنظيم أموره.

والحكم الوضعي : لا يتعلّق مباشرة بأفعال الإنسان وإنّما له تأثير غير مباشر على أفعاله وتنظيم أموره.

ثمّ إنّ الحكم التكليفي يتكوّن من ثلاثة أمور هي : الملاك ، والإرادة ، والاعتبار.

فالملاك : هو المصلحة أو المفسدة التي يدركها الحاكم ويتصوّرها في الفعل أو الترك.

والإرادة : هي المحبوبيّة أو المبغوضيّة للفعل بحسب ما فيه من الملاك.

والاعتبار : عمليّة إنشاء الحكم وجعله على ذمّة المكلّف.

وهذه المراحل الثلاث مترابطة فيما بينها ، فإنّ الإرادة إنّما تنشأ في نفس الحاكم على ضوء ما يحدّده من مصلحة أو مفسدة في الفعل ، وبعد ذلك يصيغ إرادته بنوع الاعتبار والجعل.

والحكم التكليفي يقسم إلى الأحكام الخمسة تبعا لنوع الإرادة ، فإنّه إذا كانت المحبوبيّة بدرجة عليا كان الحكم واجبا ، وإذا كانت أقلّ كان مستحبّا ، والمبغوضيّة إذا كانت عليا كان حراما وإلا كان مكروها ، ثمّ إذا تساوت المحبوبيّة والمبغوضيّة أو لم يكن فيه شيء منهما كان مباحا.

ص: 45


1- ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الشرعي وتقسيمه.

وأمّا الحكم الوضعي فهو ليس محتويا لمبادئ الحكم التكليفي ، وإنّما هو خطاب يتعلّق بأمور لها تأثير على أفعال الإنسان فيكون له توجيه عملي لأفعال الإنسان بصورة غير مباشرة. فالحكم الوضعي ينصبّ على مسائل خارجيّة لها تأثير على سلوك الإنسان وفعله ، ولكن لا ينصبّ مباشرة عليها كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة والصحّة والفساد والجزئيّة ، بل على الأمور الانتزاعيّة كالزوجيّة والرقيّة ونحوهما ، ثمّ إنّ الحكم الوضعي يقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي ، كالزوجيّة الواقعة موضوعا لوجوب الإنفاق ، والملكيّة الواقعة موضوعا لحرمة تصرّف الغير في المال بدون إذن المالك.

القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة هو : الأحكام الوضعيّة الواقعة موضوعا لحكم تكليفي بحيث يكون الحكم الوضعي متقدّما وسابقا من حيث الرتبة على الحكم التكليفي ، فإنّه بعد فرض وجود الحكم الوضعي يفرض ترتّب الحكم التكليفي عليه مثال ذلك : مفهوم الزوجيّة المنتزع من عقد الزواج بين الرجل والمرأة ، فإنّ مفهوم الزوجيّة قد جعل موضوعا لكثير من الأحكام التكليفيّة سواء من طرف الزوج أو الزوجة ، فيجب الإنفاق على الزوج ويجب التمكين على المرأة.

وكذلك الحال بالنسبة لمفهوم الملكيّة المنتزع من العقد الواقع بين البائع والمشتري ، فإنّ مفهوم الملكيّة يقع موضوعا لبعض الأحكام التكليفيّة كحرمة تصرّف البائع بالسلعة من دون إذن المشتري ، وكوجوب تسليم السلعة إلى المشتري ونحو ذلك.

وهذا القسم يفترض فيه أوّلا الحكم الوضعي ثمّ ينشأ في طوله الحكم التكليفي.

الثاني : ما كان منتزعا عن الحكم التكليفي ، كجزئيّة السورة للواجب المنتزعة عن الأمر بالمركّب منها ، وشرطيّة الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.

القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة هو : الأحكام الوضعيّة المنتزعة من الحكم التكليفي ، وهذا معناه افتراض الحكم التكليفي أوّلا ثمّ ينتزع منه الحكم الوضعي وفي طوله ، ولا يعقل وجود الحكم الوضعي إلا بعد افتراض وجود الحكم التكليفي ؛ لكونه منتزعا منه ، ومثاله : عنوان الجزئيّة المنتزع من الأمر بالمركّب منها كوجوب الصلاة

ص: 46

المركّب من عدد من الأجزاء ومنها السورة ، فلو لا وجود الأمر بالمركّب لم يمكن أن يتحقّق عنوان الجزئيّة للسورة ؛ لأنّ الجزء لا يمكن أن يفترض أو يتصوّر إلا ضمن الكلّ والمركّب. وكذلك الحال في عنوان الشرطيّة ، فإنّه لا يتحقّق إلا بعد افتراض وجود الأمر المشروط كوجوب الصلاة المشروط بالزوال ، فانتزاع شرطيّة الزوال للصلاة لا يمكن فرضها وتصوّرها من دون افتراض الصلاة المشروطة بالزوال.

وهذا معناه أنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة من الأحكام الوضعيّة أمور انتزاعية من الأمر بالمركّب والأمر بالمشروط ، وهذا معناه أنّ وجودهما في طول ذاك المركّب والمشروط ، ولا يعقل تصوّرهما بعنوانيهما بمعزل عن المركّب والمشروط.

وعلى هذا يقع البحث في أنّ المولى هل يمكنه أن يجعل هذين القسمين من الأحكام الوضعيّة بنحو الاستقلاليّة أو لا يمكنه؟ ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولا ينبغي الشكّ في أنّ القسم الثاني ليس مجعولا للمولى بالاستقلال ، وانّما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفي ؛ لأنّه مع جعل الأمر بالمركّب من السورة وغيرها يكفي هذا الأمر التكليفي في انتزاع عنوان الجزئيّة للواجب من السورة ، وبدونه لا يمكن أن تتحقّق الجزئيّة للواجب بمجرّد إنشائها وجعلها مستقلا.

لا شكّ في أنّ القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة وهو ما كان منتزعا من الحكم التكليفي كالجزئيّة والشرطيّة لا يمكن جعله بالجعل الاستقلالي من المولى ، وإنّما هو منتزع من جعل الحكم التكليفي. فالمولى يجعل الحكم التكليفي بنحو الاستقلاليّة ثمّ بتبع ذلك ينتزع منه الحكم الوضعي كالجزئيّة والشرطيّة ولا يمكن جعله استقلالا ؛ لأنّ ذلك خلاف فرضها منتزعة إذ معنى انتزاعها وجود شيء متقدّم عليها في الوجود يكون له الجعل الاستقلالي.

والدليل على ذلك أوّلا : أنّه مع جعل الأمر بالمركّب كالصلاة المركّبة من السورة وغيرها من الأجزاء كان هذا الجعل وحده كافيا في انتزاع عنوان جزئيّة السورة للمركّب الواجب أي الصلاة ، ولا تحتاج إلى جعل مستقلّ لعنوان جزئيّة السورة ؛ لأنّه يكون لغوا أو تحصيلا للحاصل ، وبدون جعل الأمر بالمركّب أي إذا لم يجعل الشارع الصلاة واجبة أصلا فلا معنى لأن يكون هناك جعل استقلالي لجزئيّة السورة في الصلاة ؛ إذ ما دامت الصلاة غير موجودة أصلا فلا معنى لوجود وجعل عنوان الجزئيّة

ص: 47

على أحد أجزائها ، بل إنّه لا يمكن أن يتحقّق عنوان الجزئيّة للسورة ولو جعلت بالجعل الاستقلالي ؛ لأنّ كونها جزءا يعني تصوّرها منضمّة إلى الكلّ والمركّب وبدون وجود المركّب أصلا يستحيل انتزاع عنوان الجزئيّة منه.

وبكلمة أخرى : إنّ الجزئيّة للواجب من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة ، وإن كان وعاء واقعها هو عالم جعل الوجوب ، فلا فرق بينها وبين جزئيّة الجزء للمركّبات الخارجيّة من حيث كونها أمرا انتزاعيا واقعيّا ، وإن اختلفت الجزئيّتان في وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، وما دامت الجزئيّة أمرا واقعيّا فلا يمكن إيجادها بالجعل التشريعي والاعتبار.

الدليل الثاني على أنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة لا يمكن جعلها بالجعل الاستقلالي عن المركّب : هو ما ذكره من كون الجزئيّة من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة. وقبل بيان هذا الدليل لا بدّ من الإشارة إلى نكتة أساسيّة وهي :

المراد من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة هي التي لها تحقّق وراء جعلها فلها وجود حقيقي تبعا لوجود منشأ انتزاعها بحيث تترتّب عليها الآثار وهي على قسمين :

الأوّل : المركّبات الخارجيّة والتي يكون عالم الجزئيّة فيها عالم التحقّق الخارجي التكويني.

والثاني : المركّبات الشرعيّة والتي يكون عالم الجزئيّة فيها عالم الاعتبار والجعل ، والأمور الانتزاعيّة الواقعيّة في مقابل الأمور الاعتباريّة التي أمرها بيد المولى كالطهارة التي هي شرط في الصلاة.

وحينئذ نقول : إنّ الجزئيّة ما دامت من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة التي لها تحقّق وراء انتزاعها - عالم وعاء واقعها هو عالم الجعل والاعتبار للوجوب - فلها تحقّق في ذاك العالم في نفس المولى وجعله للأحكام. وهذا معناه أنّه لا فرق بين جزئيّة السورة في الواجب وبين جزئيّة الجزء كالغرفة مثلا في المركّبات الخارجيّة التكوينيّة ، فإنّ كلاّ منها يعتبر جزءا من الكلّ والمركّب ، ولا يمكن انتزاع عنوان الجزئيّة للسورة أو للغرفة بمعزل عن هذا المركّب ما دامت الجزئيّة من الأمور الواقعيّة الانتزاعيّة الذي يفترض وجود واقع تتحقّق فيه الجزئيّة ، نعم يختلف الأمر بين هاتين الجزئيّتين من جهة أخرى وهي وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، حيث إنّ جزئيّة المركّبات الخارجيّة وعاء واقعها ومنشأ

ص: 48

انتزاعها هو العالم الخارجي التكويني المادي ، بينما جزئيّة السورة في المركّبات الشرعيّة وعاء واقعها ومنشأ انتزاعها هو عالم الجعل والاعتبار للأحكام الشرعيّة.

وعلى هذا فما دامت الجزئيّة من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة فلا يمكن إيجادها بالجعل الاستقلالي عن الأمر بالمركّب ، ولا يمكن أن يكون هناك تشريع أو اعتبار يثبت عنوان الجزئيّة بنحو مستقلّ عن الأمر بالمركّب ؛ وإلا لصارت من الأمور الاعتباريّة المحضة التي بيد الشارع جعلها ابتداء ، والمفروض أنّها من الأمور الانتزاعيّة التي لها واقع وراء انتزاعها ؛ وهو وعاء عالم الخارج التكويني أو عالم الجعل والاعتبار ، وعلى كلا الفرضين لا بدّ من فرض تحقّق المركّب أوّلا لينتزع منه الجزئيّة (1).

وأمّا القسم الأوّل فمقتضى وقوعه موضوعا للأحكام التكليفيّة عقلائيّا وشرعا هو كونه مجعولا بالاستقلال ، لا منتزعا عن الحكم التكليفي ؛ لأنّ موضوعيّته للحكم التكليفي تقتضي سبقه عليه رتبة ، مع أنّ انتزاعه يقتضي تأخّره عنه.

وأمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة وهو ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما ، فلا إشكال في كونه مجعولا بالجعل الاستقلالي وليس منتزعا عن الحكم الشرعي ، فهنا دعويان :

الأولى : كونه مجعولا بالاستقلال.

والثانية : كونه ليس منتزعا من الحكم الشرعي خلافا للشيخ الأنصاري. والدعوى الثانية متفرّعة عن الأولى ، وبرهانه : أنّ الملكيّة والزوجيّة من الأمور الاعتباريّة التي يعتبرها العرف والعقلاء عند حصول أحد أسبابها ، والشارع أمضى هذه الملكيّة والزوجيّة وليست من الأمور الانتزاعيّة لدى الشارع. نعم ، قد يفرض الشارع بعض الشروط أو القيود أو الخصوصيّات أو ينفي بعضها ، إلا أنّها ليست من الأمور الانتزاعيّة عن الحكم التكليفي. وإنّما هي تقع موضوعا للأحكام التكليفيّة ، بحيث يترتّب على ثبوت الملكيّة أو الزوجيّة بأحد أسبابهما بعض الأحكام التكليفيّة. وهذا معناه افتراض وجود هذه الأحكام الوضعيّة في مرتبة سابقة ومتقدّمة عن الأحكام التكليفيّة على أساس أنّ ما جعل موضوعا لشيء بمقتضى موضوعيّته كونه متقدّما

ص: 49


1- هذا خلاصة الكلام في القسم الثاني وإن كان محلاّ للشكّ عند بعضهم كالسيّد الإمام رحمه اللّه حيث برهن على إمكان جعلها بالجعل الاستقلالي راجع الرسائل ج 1 ص 116.

وسابقا عليه رتبة ، وهذا يفترض كونها مجعولة بنحو الاستقلال وبمعزل عن تلك الأحكام التكليفيّة المترتّبة عليها ؛ لأنّ فرض انتزاعها عنها يستلزم الدور أو التقدّم والتأخّر ؛ إذ فرض كونها موضوعا يقتضي كونها متقدّمة وفرض كونها منتزعة يقتضي كونها متأخّرة ، فيلزم كونها متقدّمة ومتأخّرة في آن واحد من جهة واحدة وهو محال (1).

وقد تثار شبهة لنفي الجعل الاستقلالي لهذا القسم أيضا ، بدعوى أنّه لغو ؛ لأنّه بدون جعل الحكم التكليفي المقصود لا أثر له ، ومعه لا حاجة إلى الحكم الوضعي ، بل يمكن جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه.

قد يقال : إنّ القسم الأوّل وهو الأحكام الوضعيّة الواقعة موضوعا للأحكام التكليفيّة يستحيل جعلها بالجعل الاستقلالي ، بل لا بدّ من فرضها منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، فالملكيّة مثلا تنتزع من جواز التصرّف في ماله وحرمة تصرّف الغير به ، والزوجيّة تنتزع من جواز الاستمتاع للزوج وحرمته على غيره ، وهكذا.

ويدّعى للبرهان على ذلك أنّ الجعل الاستقلالي لهذه الأحكام الوضعيّة لغو ، وبيانه : أنّه إذا جعلت الملكيّة ونحوها بالجعل الاستقلالي :

ص: 50


1- وممّا يدلّ على كونها أمورا اعتباريّة وليست انتزاعيّة أنّها موجودة عند كلّ الناس حتّى الذين لا يؤمنون بالشرع والشريعة ، وهذا يعني أنّها مجعولة بنحو الاستقلال عن الأحكام التكليفيّة. فمثلا قوله : ( الناس مسلّطون على أموالهم ) يستفاد منه ترتيب حرمة تصرّف الغير بأموال الناس وسلطنة الناس على أموالهم وتصرّفهم بها كيفما شاءوا ، وهذان الحكمان ينتزعان من فرض وجود الملكيّة في مرحلة سابقة ؛ وإلا لم يجز تصرّفهم أو لم يحرم تصرف غيرهم ما داموا ليسوا مالكين لها. وجواز الاستمتاع مترتّب ومتفرّع من وجود علاقة الزوجيّة في مرتبة سابقة ، وليست الزوجيّة منتزعة من جواز الاستمتاع للزوج. وعليه ، فبمجرّد إيقاع عقد الزواج أو عقد البيع تتحقّق الملكيّة والزوجيّة وإن لم يفرض وجود أي نوع من الأحكام التكليفيّة فيما بعد ، ويدلّ على صحّة ذلك كونهما موجودين عند العرف والعقلاء جميعا. ولو كانتا منتزعتين من الأحكام التكليفيّة لم يصحّ تحقّقهما من دون فرض الأحكام التكليفيّة.

فإن لم يترتّب عليها الحكم التكليفي المقصود ، كجواز التصرّف في ماله وسلطته عليه وحرمة ذلك على الغير لا يكون هناك أثر ولا فائدة من الجعل الاستقلالي المذكور ولا قيمة له ؛ إذ ما لم يكن هناك أحكام تكليفيّة على هذا الموضوع فما هو الداعي والغرض من جعله موضوعا بالجعل الاستقلالي؟! وليس هو إلا عبثا ولغوا.

وإن كان هناك أحكام تكليفيّة فوقيّة على هذا الجعل الاستقلالي لم نكن بحاجة إلى مثل هذا الجعل أيضا ؛ وذلك لأنّه بالإمكان أن يجعل الشارع ابتداء مثل هذه الأحكام التكليفيّة بالجعل الاستقلالي من دون جعل الأحكام الوضعيّة. نعم ، تكون هذه الأحكام الوضعيّة منتزعة منها ، وهذا معناه أنّ الجعل الاستقلالي لا طائل تحته ولا فائدة منه ما دام بالإمكان وجود تلك الأحكام التكليفيّة بمعزل عنها ، ففرضها موضوعا يمكن الاستغناء عنه بالجعل الابتدائي للأحكام التكليفيّة.

وعلى كلا التقديرين لا يكون هناك معنى ولا فائدة لجعل الأحكام الوضعيّة ، بل بالإمكان جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه ، فيمكن للشارع أن يرتّب حقّ الاستمتاع والتمكين على نفس عنواني الزوج والمرأة من دون توسّط عنوان الزوجيّة ، ويمكنه أيضا أن يحكم بأنّ الماء الملاقي للنجاسة يحرم شربه من دون توسّط كونه نجسا ، وهكذا.

والجواب على هذه الشبهة : أنّ الأحكام الوضعيّة التي تعود إلى القسم الأوّل اعتبارات ذات جذور عقلائيّة ، الغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفيّة وتسهيل صياغتها التشريعيّة ، فلا تكون لغوا.

إنّ الأحكام الوضعيّة المذكورة كالملكيّة والزوجيّة من الأمور العقلائيّة العرفيّة المرتكزة عندهم والتي يسيرون عليها بفطرتهم أو ببنائهم العرفي ، ولذلك أصبح لهذه الأحكام الوضعيّة تأصّلا وتجذّرا وارتكازا عندهم. وعلى هذا فالشارع عند ما أمضى هذه البناءات العقلائيّة كان الغرض من إمضائها وجعلها استقلالا أحد أمرين أو مجموعهما :

الأوّل : تنظيم الأحكام التكليفيّة حيث إنّ الأحكام الوضعيّة تكون محتوية وجامعة لعدد كبير من الأحكام التكليفيّة ، فبدلا من الإتيان بكلّ هذه الأحكام التكليفيّة في

ص: 51

كلّ مرحلة يمكنه الإتيان بهذا الحكم الوضعي الشامل لها جميعا. وهذا الأمر مستحسن عقلا ، وفيه فائدة وله أثر عملي وليس لغوا.

الثاني : تسهيل صياغة الأحكام التشريعيّة ؛ لأنّها مترتّبة على موضوعها وهو الحكم الوضعي ، فتوجد حيثما وجد من دون حاجة إلى إيجادها بجعل آخر جديد. فهذه الطريقة توفّر كثيرا من الجعولات ولذلك فلها فائدة عظيمة فليست لغوا.

ص: 52

شمول الحكم للعالم والجاهل

ص: 53

ص: 54

شمول الحكم للعالم والجاهل

وأحكام الشريعة - تكليفيّة ووضعيّة - تشمل في الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختصّ بالعالم. وقد ادّعي أنّ الأخبار الدالّة على ذلك مستفيضة (1) ، ويكفي دليلا على ذلك إطلاقات أدلّة تلك الأحكام ، ولهذا أصبحت قاعدة اشتراك الحكم الشرعي بين العالم والجاهل موردا للقبول على وجه العموم بين أصحابنا ، إلا إذا دلّ دليل خاصّ على خلاف ذلك في مورد.

الأحكام الشرعيّة سواء كانت تكليفيّة كالأحكام الخمسة ، أو كانت وضعيّة كالصحّة والفساد والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والسببيّة والطهارة والنجاسة - على قول - لا تختصّ بالعالم بها ، وإنّما هي مجعولة من قبل الشارع لكلّ الناس سواء في ذلك العالم بها والجاهل ؛ غاية الأمر أنّه لا منجزيّة على الجاهل إذا كان جهله عن قصور لا عن تقصير وتفريط منه ، وهذا الحكم بالاشتراك موجود في غالب الأحكام الشرعيّة لا في جميعها.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قد ادّعى كون الأخبار الدالّة على هذه القاعدة أي اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل مستفيضة ، وغيره ادّعى تواترها ، إلا أنّه في الحقيقة لا يوجد ما يدلّ على ذلك سوى بعض أخبار الآحاد ، فدعوى التواتر أو الاستفاضة غير تامّة.

ص: 55


1- بل قد ادّعى الشيخ الأنصاري في فرائده 1 : 113 أنّها متواترة. والظاهر أنّ المقصود بها أخبار الاحتياط الوارد جلّها في كتاب الوسائل الجزء 27 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، وذلك بدعوى أنّ هذه الأخبار لو لم تتمّ دلالتها على وجوب الاحتياط عند الشكّ ، فلا أقلّ من دلالتها على شمول الحكم الواقعي للإنسان الشاكّ ، وإن كان محكوما بالبراءة ظاهرا.

ولكن يكفي دليلا على قاعدة الاشتراك إطلاقات أدلّة الأحكام سواء التكليفيّة أو الوضعيّة ، فإنّ إطلاقها وعدم تقييدها بالعالم يعني كونها شاملة للعالم بها والجاهل على حدّ سواء ، فيتمسّك بهذا الإطلاق الظاهر في العموم والشمول لكلّ الأفراد من دون تقييد أو تخصيص للعالم فقط. وهذا الإطلاق حجّة ويكون كاشفا على أساس مقدّمات الحكمة أنّ المراد الجدّي للشارع هو الاشتراك لا الاختصاص.

وعلى هذا الأساس أصبحت قاعدة الاشتراك من الأمور المقبولة على وجه العموم بين الأصحاب ، بحيث يمكن دعوى الإجماع والتسالم على هذه القاعدة ، حيث إنّه لم يشذّ منهم أحد على دعوى الاشتراك ، ولهذا يكون الإجماع من الأصحاب دليلا آخر على صحّة هذه القاعدة.

نعم ، هناك بعض الموارد الخاصّة دلّ الدليل الخاصّ على عدم شمولها للجاهل ، وإنّما هي مختصّة بالعالم فقط. ولذلك عبّر السيّد الشهيد في كلامه بكلمة ( الغالب ). ومن هذه الموارد موارد الجهر والإخفات والإتمام والقصر ، فإذا جهر في مورد الإخفات جهلا أو بالعكس صحّ ذلك ، وكذا لو قصّر من حكمه الإتمام جهلا بالحكم فحكموا بصحّة صلاته.

وقد يبرهن على هذه القاعدة عن طريق إثبات استحالة اختصاص الحكم بالعالم ؛ لأنّه يعني أنّ العلم بالحكم قد أخذ في موضوعه ، وينتج عن ذلك تأخّر الحكم رتبة عن العلم به وتوقّفه عليه وفقا لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.

قد يقال في مقام الاستدلال على اشتراك الأحكام : إنّ اختصاص الأحكام بالعالم بها مستحيل ؛ حيث يلزم من ذلك أن يكون العلم قد أخذ موضوعا للعلم بالحكم ، وهذا يلزم منه عدّة محاذير لا يمكن الالتزام بها لاستحالتها ، وهي :

أوّلا : محذور الدور ببيان : أنّ العلم إذا أخذ قيدا في الحكم فيلزم كون الحكم موجودا في رتبة سابقة ليتعلّق به العلم ؛ لأنّ العلم مضاف إلى المعلوم وهو هنا الحكم ، والمفروض أنّ الحكم لا يثبت إلا إذا علم به ، وهذا لازمه أنّ الحكم متوقّف على العلم به ، والحال أنّ العلم متوقّف على ثبوت الحكم أوّلا فيدور.

وثانيا : محذور الخلف ببيان : أنّ العلم معناه الإراءة والانكشاف ، ففرض العلم

ص: 56

بالحكم يعني كونه منكشفا لدى العالم ، فإذا أخذ العلم قيدا في الحكم فمعناه أنّ الإراءة والانكشاف غير تامّين للعالم ، وهو خلف ؛ لأنّه عند ما يحصل العلم لا يحتاج إلى شيء آخر معه لتحقّق الانكشاف والإراءة لديه ، فإذا لا معنى لكون الانكشاف قيدا لثبوت الحكم ؛ إذ أخذه قيدا خلاف حقيقته ، فيؤدّي إلى لزوم التعارض والتناقض ولو في نظر المكلّف.

وثالثا : محذور التقدّم والتأخّر ببيان : أنّ الحكم متأخّر رتبة عن العلم به ؛ وذلك لأنّ الحكم متوقّف على العلم به ، وطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه تقتضي أن يكون الموضوع ثابتا أوّلا ، وهذا يعني فرض ثبوت العلم بعد ثبوت الحكم مع أنّ أخذ العلم قيدا معناه ثبوت العلم أوّلا ثمّ ثبوت الحكم ثانيا ؛ لأنّ المقيّد لا يوجد إلا بعد وجود القيد ، فيلزم كون العلم متقدّما ومتأخّرا عن الحكم معا وكذا العكس وهو محال.

ولكن قد مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه ، لا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول فيه.

هذا جواب من السيّد الشهيد على برهان الاستحالة وأنّه غير تامّ. وذلك كما تقدّم في الحلقة الثانية ، وبيانه : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوع الحكم المجعول ، وأمّا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول ، فلا مانع منه على أساس المبنى القائل بالفرق بين الجعل والمجعول.

فالجعل هو عالم الثبوت الواقعي للحكم في اللوح ، والمجعول هو عالم إثبات الحكم على المكلّفين في الخارج ، وصيرورته في ذمّتهم وعلى عهدتهم وذلك بعد تماميّة كلّ ما أخذ قيدا أو شرطا فيه.

وعلى هذا لا مانع من ورود أحكام من هذا القبيل كما هو الحال في القصر والإتمام والجهر والإخفات ، حيث إنّ الشارع اعتبر وجوب القصر على المكلّف العالم بالجعل ، فيكون العلم بجعل القصر مأخوذا في موضوع الحكم المجعول على المكلّف ، بحيث إنّه إذا لم يعلم بالجعل لا يكون هناك مجعول في حقّه ؛ لأنّه لا يكون هناك حكم أصلا ولو على مستوى الجعل. ولذلك فالأحكام على مستوى الجعل مشتركة

ص: 57


1- ضمن مباحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم.

بين العالم والجاهل بمعنى أنّها مشرّعة وثابتة في عالم الواقع التشريعي وعالم الاعتبار واللوح المحفوظ. وأمّا الأحكام على مستوى المجعول فهي تابعة لثبوت القيود والشروط فقد تثبت لشخص دون آخر.

وعليه ، فيمكن أخذ العلم بالحكم في عالم الجعل في موضوع الحكم المجعول ولا يلزم منه الدور أو الخلف.

ويترتّب على ما ذكرناه من الشمول : أنّ الأمارات والأصول التي يرجع إليها المكلّف الجاهل في الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة قد تصيب الواقع ، وقد تخطئ. فللشارع إذن أحكام واقعيّة محفوظة في حقّ الجميع ، والأدلّة والأصول في معرض الإصابة والخطأ ، غير أنّ خطأها مغتفر ؛ لأنّ الشارع جعلها حجّة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.

ومن لوازم القول بقاعدة اشتراك الأحكام للجاهل والعالم هو القول بالتخطئة الذي انفردت به الإماميّة. ومعناه أنّ المكلّف والمجتهد قد يصيبان الحكم الواقعي اعتمادا على الأمارات والأصول وقد يخطئان الواقع ، وفي كلا الحالين هناك أحكام واقعيّة للشارع محفوظة سواء أصاب المكلّف أو المجتهد الواقع أو أخطأ. غاية الأمر أنّه في حال الخطأ يكون خطؤه مغتفرا ؛ لأنّ الشارع هو الذي أجاز لهما الاعتماد على الأمارات والأصول حيث جعل لها الحجيّة.

وبيان ذلك : أنّ المكلّف أو المجتهد عند ما يجهلان الحكم الواقعي أو يكون هناك شكّ يجوز لهما الاعتماد على الأمارات والأصول التي جعلها الشارع حجّة في مورد الجهل والشكّ ، فإذا قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا المورد الحكم فيه الإباحة أو الحليّة أو الطهارة ، أو أنّ هذا الموضوع ليس خمرا مثلا ، فمقتضى جعل الحجيّة من الشارع للأدلّة والأصول جواز التعويل عليها. فإذا ارتكب ذلك فقد يكون مصيبا بأن يكون ما قامت عليه الأمارة أو الأصل مطابقا للحكم الواقعي ، وقد يكون مخطئا بأن لا تكون مطابقة للواقع ، إلا أنّه في حالة الخطأ يكون معذورا لاعتماده على ما هو حجّة شرعا. وهذا معناه انحفاظ الحكم الواقعي بحقّ العالم والجاهل ، وهو معنى التخطئة.

وفي مقابله ما يسمّى بالقول بالتصويب ، وهو : أنّ أحكام اللّه تعالى ما يؤدّي

ص: 58

إليه الدليل والأصل ، ومعنى ذلك أنّه ليس له من حيث الأساس أحكام ، وإنّما يحكم تبعا للدليل أو الأصل ، فلا يمكن أن يتخلّف الحكم الواقعي عنهما.

يوجد مقابل القول بالتخطئة الذي هو مذهب الإماميّة قول آخر بالتصويب وهو على قسمين :

الأوّل : التصويب الذي يقول به الأشاعرة وملخّصه : أنّ الأحكام الإلهيّة ليست ثابتة في مرحلة سابقة عن قيام الأمارة أو الأصل ، وإنّما تثبت الأحكام الإلهيّة وفقا لما قام عليه الدليل والأصل ، فالأحكام الإلهيّة تدور نفيا أو إثباتا مدار الأمارة والأصل ، فإذا قاما على الوجوب فيثبت الوجوب واقعا ، وإن قاما على الإباحة ثبتت الإباحة واقعا ، وقبل قيامهما لا وجود للأحكام الواقعيّة. وهذا معناه أنّ الأحكام الواقعيّة تابعة لرأي المجتهد الذي يستنبطه من الأمارة أو الأصل ، فاللّه تعالى يحكم وفقا لرأي المجتهد.

ولازم ذلك كون الأمارة أو الأصل مصيبة للواقع دائما ؛ لأنّ الواقع ينشأ على طبقهما فمن المستحيل الخطأ فيهما ، وهذا معنى التصويب.

وهناك صورة مخفّفة للتصويب ، مؤدّاها : أنّ اللّه تعالى له أحكام واقعيّة ثابتة من حيث الأساس ، ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة من أمارة أو أصل على خلافها ، فإن قامت الحجّة على خلافها تبدّلت واستقرّ ما قامت عليه الحجّة.

القسم الثاني : من التصويب : هو التصويب الذي يقول به المعتزلة وملخّصه :

أنّه يوجد لله تعالى أحكام واقعيّة ثابتة في اللوح المحفوظ وفي عالم الواقع والجعل ، إلا أنّ هذه الأحكام الواقعيّة ليست ثابتة بنحو مطلق ، بل هي مقيّدة بقيد وهذا القيد هو عدم قيام الأمارة أو الأصل على خلافها. فإذا لم يقم على خلافها أمارة أو أصل فهذه الأحكام الواقعيّة ثابتة ومستمرّة ، وأمّا إذا قام على خلافها أمارة أو أصل فهذا يعني ارتفاع قيد استمرارها وبقائها ، وهذا يعني تبدّلها وتغيّرها وفقا لما قامت عليه الحجّة من أمارة أو أصل ، فمثلا إذا كان الحكم الواقعي حرمة شرب التتن وقامت الأمارة أو الأصل على حلّيّته ، فهذا يعني تبدّل الحرمة إلى الإباحة ؛ وذلك لأنّ الحرمة كانت مقيّدة بقيد وهذا القيد هو عدم قيام الأمارة أو الأصل على خلافها. فعند قيامها على الخلاف يرتفع موضوع الحرمة ؛ لارتفاع قيدها ويحلّ مكانها حكم آخر

ص: 59

هو الحلّيّة ، وهذه الحلّيّة تصبح هي الثابتة والمستقرّة واقعا ما لم يتغيّر رأي المجتهد إلى رأي آخر أو يكتشف خطأ الأمارة أو الأصل. وهكذا تكون الأحكام الواقعيّة في حال تبدّل وتغيّر دائما تبعا للأمارة أو الأصل.

وهذا نحو من التصويب أيضا ؛ لأنّ معناه أنّ الحكم الواقعي يكون متلائما مع الأمارة والأصل دائما ، بل إنّه يتغيّر ويتبدّل وفقا لهما. ولكن هذا النحو أخفّ من النحو الأوّل ؛ لأنّه يفترض وجود أحكام واقعيّة في مرحلة متقدّمة بخلاف الأوّل فإنّه ينكر وجودها أصلا.

وكلا هذين النحوين من التصويب باطل :

أمّا الأوّل : فلشناعته ووضوح بطلانه ، حيث إنّ الأدلّة والحجج إنّما جاءت لتخبرنا عن حكم اللّه وتحدّد موقفنا تجاهه ، فكيف تفترض أنّه لا حكم لله من حيث الأساس؟!

الردّ على القسم الأوّل من التصويب وهو التصويب الأشعري : هو أنّ الأمارات والأصول إنّما جعلت لها الحجيّة في ظرف الشكّ في الحكم الواقعي الإلهي ، وهذا يفترض وجود حكم واقعي في صورة مسبقة. وكذلك الأدلّة المحرزة فإنّها جاءت لتخبرنا عن الحكم الإلهي الواقعي لا لتنشأ حكما واقعيّا على وفق مؤدّاها ؛ ولذلك كانت كاشفا وطريقا إلى الواقع ، ولكنّها قد تكون كاشفا قطعيّا كما في القرآن والسنّة المتواترة والإجماع والعقل ، وقد تكون كاشفة كشفا ظنيّا كالأمارات التي جعلت لها الحجيّة. والأصول العمليّة جعلت لتحديد الموقف العملي اتّجاه الحكم الواقعي المجهول والمشكوك.

فكيف يقال : إنّ الأدلّة المحرزة والأمارات والأصول تثبت الحكم الواقعي مع أنّها جعلت وجاءت لتخبر عن الحكم الواقعي؟! فهذا خلاف ما هو المفروض فيها وعلى خلاف حقيقتها. وهذا شنيع ؛ لأنّه يفترض أنّ الشارع لم يكن حكيما حيث إنّه لم يعط أحكاما للناس مع وجود المصلحة أو المفسدة فيها.

وأمّا الثاني : فلأنّه مخالف لظواهر الأدلّة ، ولما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام الواقعيّة.

وأمّا الردّ على القسم الثاني وهو التصويب المعتزلي فأوّلا : إنّ ظواهر الأدلّة الدالّة

ص: 60

بعمومها وبإطلاقها على الأحكام معناها أنّ الأحكام الواقعيّة التي يسلّم هؤلاء بوجودها مطلقة وعامّة وليست مقيّدة ، فالتقييد مخالف للظاهر من الأدلّة.

وثانيا : مخالف للإجماع والتسالم على أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم بها والجاهل على حدّ سواء. فإنّ اشتراكهما في الأحكام يعني أنّ الأحكام الإلهيّة ثابتة مطلقا سواء علم بها أو جهل ولا تتبدّل ولا تتغيّر (1).

ص: 61


1- ثمّ لا بأس بالتنبيه على النكتة التي أدّت للقول بالتصويب بأحد نحويه فنقول : ذكروا أنّ أحكام اللّه تعالى ليست شاملة لكلّ الحوادث والجزئيّات وإلا للزم بيان أحكامها في الكتاب أو السنّة ، ومن المعلوم أنّ الكتاب والسنّة محدودان في عدد من المسائل والحوادث لا كلّها. وأمّا الحوادث التي لم يتعرّض الكتاب أو السنّة لبيانها ، فهي موكولة إلى علماء الإسلام القادرين على الاجتهاد وبذل الجهد والوسع لمعرفة أحكامها من الأدلّة والأصول التي جعلت لها الحجيّة. وهذا يعني أنّه لا يوجد حكم إلهي واقعي مسبقا ، وإنّما الحكم الإلهي لهذه الحوادث والجزئيّات يتبع رأي المجتهد ونظره ، ولذلك تكون أحكام المجتهد مصيبة دائما. وهذه النكتة غير مقبولة ؛ لأنّ لازمها وجود أحكام واقعيّة متناقضة ومتعارضة في الحادثة الواحدة ؛ وذلك فيما إذا اختلفت آراء المجتهدين فيها تحريما وتحليلا مثلا ، فتكون حادثة واحدة واجبة ومباحة أو محرّمة ومحلّلة واقعا وهذا مستحيل ؛ لأنّه يعني اجتماع الضدّين واقعا ويعني أنّ اللّه تعالى يحكم بالضدّين معا وهو محال.

ص: 62

الحكم الواقعي والظاهري

ص: 63

ص: 64

الحكم الواقعي والظاهري

ينقسم الحكم الشرعي - كما عرفنا سابقا - إلى واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، وظاهري أخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق. وقد كنّا نقصد حتّى الآن في حديثنا عن الحكم الأحكام الواقعيّة.

تقدّم في الحلقة الثانية أنّ الحكم الشرعي ينقسم إلى حكم واقعي وإلى حكم ظاهري.

فالحكم الواقعي : هو ما لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، بل الحكم ثابت على موضوعه ابتداء من دون قيد أو شرط زائد على الموضوع ، سواء كان الحكم مطلقا أو مقيّدا ، كالحكم بوجوب الصلاة الثابت للصلاة نفسها من دون أيّة مدخليّة لشيء آخر.

والحكم الظاهري : هو ما أخذ في موضوعه الشكّ سواء كان الشكّ تمام الموضوع أو جزأه ، فالأوّل كالأصول العمليّة والثاني كالأمارات الظنيّة الكاشفة. فيكون الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، وهذا يفترض أنّ الحكم الواقعي سابق رتبة في وجوده عن الحكم الظاهري ؛ لأنّ الحكم الواقعي قد أخذ الشكّ فيه موضوعا للحكم الظاهري. ومن المعلوم أنّ الموضوع متقدّم في وجوده على الحكم ولو رتبة. وعليه ، فإذا علم بالحكم الواقعي ارتفع موضوع الحكم الظاهري ؛ لارتفاع موضوعه إذ مع العلم لا شكّ. ثمّ إنّ الكلام يقع في كلا القسمين :

أمّا الحكم الواقعي : فهو يشتمل على الملاك والإرادة والاعتبار ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وقد مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) أنّ مرحلة الثبوت للحكم - الحكم الواقعي -

ص: 65


1- ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

تشتمل على ثلاثة عناصر ، وهي : الملاك والإرادة والاعتبار. وقلنا : إنّ الاعتبار ليس عنصرا ضروريا ، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي.

ونريد أن نشير الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه غالبا.

تقدّم في الحلقة الثانية أنّ مرحلة ثبوت الحكم التي هي عالم الجعل والتشريع تحتوي على ثلاثة عناصر ، فالشارع إذا أراد تشريع حكم فإنّ هذا الحكم ثبوتا يمرّ في ثلاث مراحل ، ثمّ بعد ذلك يخرج إلى عالم الإثبات والجعل على ذمّة المكلّف والدخول في عهدته. وهذه المراحل الثلاث هي : الملاك والإرادة والاعتبار.

فالملاك : هو المصلحة أو المفسدة التي يشتمل عليها الفعل.

والإرادة : هي المحبوبيّة أو المبغوضيّة التي تنشأ على ضوء المصلحة أو المفسدة في الفعل.

والاعتبار - وهو في الغالب يستخدم لأجل صياغة وإنشاء الحكم - : هو عنصر ليس من الضروري وجوده في عالم الثبوت وليس من مراحل ثبوت الحكم ؛ لأنّه عمل تنظيمي صياغي إنشائي للحكم.

والعنصر الثالث هو نفسه الاعتبار وليس شيئا آخر مغايرا له ، وإنّما عبّر السيّد الشهيد بما يوهم التغاير لأجل الدلالة على أنّ المولى في الغالب يستخدم نفس الاعتبار للدلالة على حكمه وتشريعه ، إلا أنّه قد يبرز الإرادة والملاك والشوق من دون توسّط الاعتبار كما سيأتي توضيحه ، إذا فهناك نحوان من الاعتبار :

أحدهما الاعتبار في مرحلة الثبوت : وهو يعني الشوق المدلولي وحقّ الطاعة.

والآخر الاعتبار في مرحلة الإثبات : وهو يعني الصياغة الإنشائيّة لهذا الشوق والحقّ ، وقد يتّحدان وقد يختلفان.

وتوضيحه أنّ المولى كما أنّ له حقّ الطاعة على المكلّف فيما يريده منه ، كذلك له حقّ تحديد مركز حقّ الطاعة في حالات إرادته شيئا من المكلّف ، فليس ضروريا - إذا تمّ الملاك في شيء وأراده المولى - أن يجعل نفس ذلك الشيء في عهدة المكلّف مصبّا لحقّ الطاعة ، بل يمكنه أن يجعل مقدّمة ذلك الشيء التي يعلم المولى بأنّها مؤدّية إليه في عهدة المكلّف دون نفس الشيء ،

ص: 66

فيكون حقّ الطاعة منصبّا على المقدّمة ابتداء وإن كان الشوق المولوي غير متعلّق بها إلا تبعا.

حاصل ما يمكن أن يقال في توضيح حقيقة العنصر الثالث المسمّى بالاعتبار في الغالب : إنّ المولى له حقّ الطاعة على عبيده في كلّ الأمور التي يريدها منهم ، وكذلك له الحقّ في تحديد مركز حقّ الطاعة وأنّه في هذا الشيء دون ذاك. فإنّ ذلك كلّه من شئون مولويّته التي يعملها كيفما شاء وحيثما شاء. وعليه ، فإذا أراد المولى شيئا من المكلّف ، بأن يكون حصل له ملاك وإرادة ومحبوبيّة وشوق لهذا الفعل مثلا كالصلاة ، فليس من الضروري إذا اكتملت مبادئ الحكم من ملاك وإرادة وشوق في هذا الفعل المراد أن يجعل المولى نفس ذلك الشيء الذي هو الصلاة في عهده المكلّف ، بحيث يكون مصبّ حقّ الطاعة هو نفس الصلاة بأن يقول : ( صلّ ) أو ( أقيموا الصلاة ) ، بل بالإمكان أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة شيئا آخر غير نفس الشيء الذي أراده ، بأن يجعل مصبّ حقّ الطاعة على مقدّمة ذاك الفعل التي تؤدّي إليه دائما ولا تنفكّ عنه ، فيأمر بتلك المقدّمة على نحو الاستقلاليّة إثباتا وإن لم تكن مشتملة على مبادئ الحكم من ملاك وإرادة وشوق مولوي ، حيث إنّ هذه المبادئ متعلّقة بالفعل نفسه لا بمقدّمته.

وهذا معناه أنّ الشوق المولوي والإرادة قد تعلّقا بشيء وهو ذات الفعل كالصلاة ، بينما مصبّ حقّ الطاعة كان متعلّقا بشيء آخر مغاير لما يتعلّق به الشوق المولوي ، إلا أنّه توجد علاقة وارتباط بين هذا الشيء وبين مقدّمته بحيث إنّه يترتّب الفعل عليها دائما ولا يتخلّف عنها.

فلا فرق بين أن يكون مصبّ حقّ الطاعة على ذات الفعل الذي تعلّق به الشوق المولوي ابتداء وأصالة ، وبين أن يكون مصبّ حقّ الطاعة مقدّمة هذا الشيء الموصلة له دائما ، فيكون الشوق المولوي متعلّقا بها بالتبعيّة لذي المقدّمة. فالنتيجة في الحالين واحدة وهو أنّ الفعل المراد لا بدّ من امتثاله وتحقّقه من المكلّف.

وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ينصبّ على ما يحدّده المولى عند إرادته لشيء مصبّا له ويدخله في عهدة المكلّف ، والاعتبار هو الذي يستخدم عادة للكشف عن المصبّ الذي عيّنه المولى لحقّ الطاعة ، فقد يتّحد مع مصبّ إرادته وقد يتغاير.

ص: 67

والنتيجة هي أنّ المولى على أساس حقّ الطاعة الثابت له بمولويّته الذاتيّة على المكلّفين له الحقّ بأن يحدّد مصبّ حقّ الطاعة ، كما له حقّ الطاعة على المكلّفين. فإذا أراد شيئا فإمّا أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة نفس ذلك الشيء ، وإمّا أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة شيئا آخر يؤدّي إلى ذلك الشيء المراد حتما. فيكون الداخل في عهدة المكلّف هو هذا المصبّ لحقّ الطاعة ، وحينئذ فالاعتبار حقيقته هو الكشف عن هذا المصب ، الذي جعله المولى لحقّ طاعته. والاعتبار هو الذي يستخدم غالبا وعادة لبيان هذا المصبّ ، وإلا فبإمكان المولى أن يبيّن مصبّ حقّ الطاعة بنحو آخر غير الاعتبار ، بأن يبيّن الملاك للمكلّف مباشرة من دون توسّط الوجوب ونحوه. وهذا يتحقّق في القضايا الخارجيّة غالبا ، وهذا النحو يسمّى بالإبراز الذي يشمل الاعتبار أيضا (1)

ومن هنا فالاعتبار قد يتّحد مع مصبّ إرادة المولى بأن يكون الاعتبار كاشفا عن المصبّ الذي أراده المولى مباشرة ، وقد يكون الاعتبار مغايرا لمصبّ إرادة المولى بأن يصوغ المولى الحكم على المقدّمة المؤدّية إلى الشيء المراد ، ومثاله : أن يكون الغرض المولوي والمطلوب الحقيقي هو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر. فهنا إمّا أن يصوغ الاعتبار بنحو متّحد مع هذا المراد فينهى عن الفحشاء بأحد الصيغ ، أو يصوغ الاعتبار على المقدّمة الموصلة لهذا الانتهاء كالصلاة مثلا فيأمر بها ؛ لأنّها مؤدّية إلى الانتهاء بنظر الشرع.

هذا بالنسبة للحكم الواقعي.

وأمّا الأحكام الظاهريّة فهي مثار لبحث واسع ، وجّهت فيه عدّة اعتراضات للحكم الظاهري تبرهن على استحالة جعله عقلا (2) ، ويمكن تلخيص هذه البراهين فيما يلي :

ص: 68


1- فالإبراز أعمّ من الاعتبار ؛ لأنّه يشمل حالات إبراز الملاك من دون جعل الحكم والوجوب ومن دون اعتبار له على ذمّة المكلّف ، بينما الاعتبار معناه خصوص إبراز الملاك والحكم ، فجعله على ذمّة المكلّف بنحو فيه إعمال للقانونيّة التشريعيّة المولويّة.
2- أثيرت هذه الشبهة حول حجيّة خبر الواحد غير القطعي من قبل محمّد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة على ما نسب إليه في المعالم : 189 ، كما نسب إليه الشبهة المذكورة أيضا حول حجيّة مطلق الأمارات غير القطعيّة في كتاب أجود التقريرات 2 : 63.

أمّا الأحكام الظاهريّة المجعولة في مقام الشكّ في الحكم الواقعي فقد وقعت محلاّ للبحث الواسع بين الأصوليّين بين مؤيّد ومنكر لها. وهناك عدّة اعتراضات تبيّن أن جعل الأحكام الظاهريّة مستحيل وغير ممكن الوقوع. ويمكن تلخيص هذه الشبهات التي جعلوها براهين على الاستحالة بثلاثة ، يطلق عليها شبهات ابن قبة.

وفي الحقيقة كان لهذه الشبهات والاعتراضات الأثر الكبير على علم الأصول حيث نقّحت مسائله وأدّت إلى تطوير وتوسيع البحث فيه. فكان لها دور مهم في ذلك ، وهذه الشبهات هي :

الأولى : إنّ جعل الحكم الظاهري يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ لأنّ الحكم الواقعي ثابت في فرض الشكّ بحكم قاعدة الاشتراك المتقدّمة ، وحينئذ فإن كان الحكم الظاهري المجعول على الشاكّ مغايرا للحكم الواقعي نوعا كالحليّة والحرمة لزم اجتماع الضدّين ، وإلا لزم اجتماع المثلين.

مفاد هذه الشبهة أنّ جعل الحكم الظاهري يؤدّي إلى المستحيل فهو غير ممكن ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو إلى اجتماع المثلين وكلاهما محال ، إذن جعله محال أيضا ؛ لأنّ ما يؤدّي إلى المحال محال كذلك. وبيان هذه الاستحالة :

إنّه بناء على القول الصحيح من كون الأحكام مشتركة بحقّ العالم بها والجاهل لازمه أنّ الحكم الواقعي ثابت ولا يتغيّر حتّى في فرض الجهل والشكّ به ، وحينئذ ففي فرض الشكّ يكون الحكم الواقعي ثابتا إلا أنّ الشاكّ لا يعلم به ، ولذلك يجري الأصول أو الأمارات لتحديد وظيفته اتّجاه هذا الواقع المشكوك. فإن أدّى إجراؤه للحكم الظاهري إلى إثبات حكم آخر مغاير للحكم الواقعي في نوعه كأن يكون الحكم الواقعي الحرمة ، ويكون مؤدّى الحكم الظاهري الحليّة أو العكس ، فهنا سوف يجتمع حكمان متضادّان على واقعة واحدة وهذا مستحيل ؛ لأنّه في الواقعة الواحدة لا يوجد إلا حكم تكليفي واحد لا حكمان. وإذا أدّى الحكم الظاهري إلى إثبات حكم مماثل للحكم الواقعي كأن يكونا معا واجبين فيؤدّي إلى اجتماع المثلين وهو محال أيضا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيكون جعله لغوا. ففي كلا الحالين لا مجال لجعل الحكم الظاهري ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحال (1).

ص: 69


1- وهذا الإشكال إنّما يرد على القول بالتخطئة كما هو الصحيح عندنا. وأمّا على القول ...... بالتصويب سواء عند الأشاعرة أو المعتزلة فلا يرد هذا الإشكال ؛ لأنّه لا يوجد حكم واقعي أو أنّه يتغيّر وفقا للحكم الظاهري ، فلا يؤدّي جعل الحكم الظاهري إلى وجود حكمين متضادّين أو متماثلين.

وما قيل سابقا (1) من أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ؛ لأنّهما سنخان ، مجرّد كلام صوري إذا لم يعط مضمونا محدّدا ؛ لأنّ مجرّد تسمية هذا بالواقعي وهذا بالظاهري لا يخرجهما عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفيّة وهي متضادّة.

هذا جواب عن الشبهة وردّه :

أمّا الجواب ، فقد قال الشيخ الأنصاري وتلميذه الشيرازي : إنّ هذه الشبهة تندفع بأن يقال : إنّه لا مانع من اجتماع حكمين متضادّين أو متماثلين أحدهما واقعي والآخر ظاهري ؛ وذلك لأنّ كلاّ منهما له سنخيّة تختلف عن الآخر. فإذا كانت لكلّ منهما سنخيّة غير الأخرى فهذا يعني اختلاف الجهة في الحكمين المتضادّين أو المتماثلين فلا استحالة. وهذه السنخيّة هي أنّ الحكم الواقعي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ بينما الحكم الظاهري قد أخذ في موضوعه الشكّ في حكم مسبق ، وهذا يعني الطوليّة بين الحكمين فلم يكن هناك اجتماع بينهما ؛ لأنّه عند تحقّق الحكم الواقعي يرتفع موضوع الحكم الظاهري ، وعند تحقّق موضوع الحكم الظاهري لا تحقّق للحكم الواقعي ، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر ولا يمكن اجتماعهما في رتبة واحدة. وأمّا الردّ فهو أنّ هذا الكلام مجرّد كلام صوري وشكلي ؛ لأنّه لم يحاول أن يبيّن حقيقة الحكمين الواقعي والظاهري ، وإنّما فرّق بينهما بلحاظ السنخيّة المذكورة وهذه ليست إلاّ مجرّد تسمية ، وهي لا تحلّ الإشكال ؛ لأنّ تسمية هذا الحكم بالواقعي وذاك بالظاهري لا يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ وذلك لأنّهما لا يخرجان عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفيّة ، وقد تقدّم أنّها متضادّة يستحيل اجتماعها (2) في مورد واحد ، وبهذا

ص: 70


1- في الحلقة الثانية من هذا الكتاب ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : اجتماع الحكم الواقعي والظاهري.
2- واجتماعهما يكون بلحاظ ثبوت الحكم الواقعي سواء علم المكلّف به أم لا ، ممّا يعني أنّ ..... وصول الحكم الظاهري سواء كان مطابقا أم مغايرا للحكم الظاهري سوف يؤدّي إلى التضاد أو التماثل. وما قيل : من أنّه إذا تحقّق موضوع أحدهما ارتفع موضوع الآخر ناظر إلى مرحلة الفعليّة والتنجيز بالنسبة للمكلّف ، وليس ناظرا إلى الواقع ؛ لأنّ الحكم الواقعي لا يرتفع بوصول الحكم الظاهري إلى المكلّف وإلا كان تصويبا باطلا كما لا يخفى. كما أنّه في حالة اجتماع المثلين لا يكون الثاني مؤكّدا للأوّل ؛ لأنّها إمّا أن توجد أو لا ، فإذا وجدت كانت كاملة وتامّة من جميع الجهات ولا تحتاج لشيء زائد فيكون التأكيد لغوا لكونه تحصيلا للحاصل.

يتّضح أنّ الشبهة لا تزال مستحكمة ؛ لأنّ مجرّد الاختلاف في المحمول وكون هذا ظاهريّا وذاك واقعيّا لا يفيد ؛ لأنّهما حكمان تكليفيّان متضادّان وقد اجتمعا في واقعة واحدة وهو مستحيل ، وهذه الاستحالة يدركها العقل النظري الذي يدرك ما هو كائن وواقع.

الثانية : أنّ الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي - فحيث إنّ الحكم الواقعي بمبادئه محفوظ في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك - يلزم من جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلّف بتفويته اعتمادا على الحكم الظاهري في حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعني إلقاء المكلّف في المفسدة وتفويت المصالح الواقعيّة المهمّة عليه.

تقدّم أنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة حتّى في فرض الجهل بها بناء على اشتراك الأحكام للعالم والجاهل ، وهذا معناه أنّ الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه المتقدّمة وهي الملاك والإرادة حتّى في صورة الشكّ.

وحينئذ يقال : إنّ جعل الحكم الظاهري في صورة مخالفته للحكم الواقعي المحفوظ بمبادئه كلّها يلزم منه ثلاثة محاذير :

الأوّل : نقض المولى لغرضه ببيان : أنّ الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه ، وهذا يعني أنّ المولى له ملاك وإرادة وشوق في هذا الحكم الواقعي ، فإذا كان للمولى غرض في جعل الحكم الواقعي فكيف يسمح بتفويت هذا الغرض من المكلّف في صورة اعتماده على الحكم الظاهري المخالف للواقع؟! والحال أنّ الشارع الحكيم يكون ملتفتا إلى أنّ الاعتماد على الحكم الظاهري سوف يفوّت غرضه في صورة مخالفته للواقع ، فكيف يعقل بحقّه جعل مثل هذا الحكم؟!

ص: 71

الثاني : إلقاء المكلّف في المفسدة ؛ لأنّ الاعتماد على الحكم الظاهري المخالف للواقع معناه أنّ المكلّف قد فعل ما يجب تركه أو ترك ما يجب فعله ، وهذا معناه إلقاؤه في المفسدة المترتّبة على مخالفة المبادئ الواقعيّة للحكم.

ومثل هذا يقبح صدوره من الشارع الحكيم العادل بناء على مذهب العدليّة من المعتزلة والإماميّة. فإنّ اللّه عزّ وجلّ يستحيل أن يصدر منه خلاف العدل ، والإلقاء في المفسدة خلاف عدله.

الثالث : تفويت المصالح الواقعيّة المهمّة على المكلّف ؛ وذلك لأنّ مبادئ الحكم الواقعي محفوظة حتّى في صورة الشكّ والجهل بالواقع ، وهذا يعني أنّ المصلحة الموجودة في الفعل أو الترك واقعا سوف تفوت على المكلّف في صورة مخالفة الحكم الظاهري للواقع ، وتفويت المصالح على المكلّفين من الشارع الحكيم قبيح (1).

الثالثة : أنّ الحكم الظاهري من المستحيل أن يكون منجّزا للتكليف الواقعي المشكوك ومصحّحا للعقاب على مخالفة الواقع ؛ لأنّ الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكا بقيام الأصل أو الأمارة المثبتين للتكليف. ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان - والأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص.

مفاد هذه الشبهة هو أنّ جعل الحكم الظاهري يتعارض مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. توضيح ذلك : إنّ الحكم الظاهري تارة يكون مؤمّنا عن التكليف وأخرى يكون منجّزا له.

ص: 72


1- وهذه المحاذير الثلاثة يدركها العقل العملي الحاكم بما ينبغي أن يكون ، فيدرك أنّ الشارع العاقل الحكيم العادل لا ينبغي أن يصدر منه مثل هذه الأمور ؛ لأنّ تفويت الغرض خلاف الحكمة ، والإلقاء في المفسدة خلاف العدل ، وتفويت المصلحة على العباد قبيح. وما دامت هذه المحاذير مترتّبة على جعل الحكم الظاهري ، فهذا معناه أنّ مثل هذا الجعل لا يمكن صدوره عن الشارع وإلاّ لزم هذه النتائج المستحيلة ، وما يؤدّي إلى المحال يكون محالا مثله. وأمّا على غير مذهب العدليّة فعندهم أنّه لا يقبح صدور شيء من هذه الأمور من الشارع ؛ لأنّ ما يصدر منه حسن دائما حتّى هذه الأمور ، فإنّها إذا صدرت من الشارع فيحكم بحسنها.

فإذا كان الحكم الظاهري مثبتا للتأمين عن التكليف الواقعي المشكوك فهو يؤيّد مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا تعارض بينهما في هذه الصورة ؛ لأنّهما يثبتان معا المؤمّنيّة والمعذّريّة إلا أنّه لا داعي لجعله حينئذ ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا إذا كان الحكم الظاهري مثبتا للتنجيز فهذا يعني أنّ مؤدّاه ثبوت التكليف على العهدة ، ولازم ذلك اشتغال الذمّة بالتكليف وصحّة العقاب على تركه ، إلا أنّ هذا مستحيل وذلك لأنّ ظرف جريان الحكم الظاهري سواء الأصل أو الأمارة هو فرض الشكّ في الحكم الواقعي ، ومع فرض الشكّ في الواقع يكون المورد مجرى للقاعدة العقليّة بقبح العقاب بلا بيان التي تثبت التأمين والمعذّريّة ، والأصل والأمارة لا يثبتان البيان والعلم بالواقع ؛ لأنّ غاية ما يمكن أن يستفاد منهما الظنّ بالواقع ومع الظنّ يبقى الواقع مجهولا غير معلوم ؛ لأنّ الشكّ المفترض أعمّ من الشكّ والظنّ ، وحينئذ فلا يخرج هذا المورد عن كونه مشكوكا حتّى مع قيام الأمارة والأصل على إثبات التكليف. وهذا معناه أنّ الحكم الظاهري يستحيل أن يكون منجّزا للتكليف ومصحّحا للعقاب على تركه ؛ لأنّه معارض لحكم العقل بالتأمين في هذا الفرض المشكوك. نعم في صورة قيام الحكم الظاهري على التأمين لا مانع ولا استحالة.

ولا يقال هنا : إنّ الحكم الظاهري المثبت للتكليف والمنجّزيّة يكون مخصّصا للقاعدة العقليّة المذكورة وبالتالي يتقدّم عليها ؛ لأنّ الأخصّ يتقدّم على الأعمّ حيث إنّه مع قيام الحكم الظاهري على التنجيز يثبت البيان.

لأنّه يقال : إنّ القاعدة المذكورة من الأحكام العقليّة ، ومن المعلوم أنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص أو التقييد ؛ لأنّ موضوعها إمّا أن يتحقّق أو لا يتحقّق ، فهو بمثابة العلّة إذا وجدت وجد المعلول وإذا انتفت انتفى. وهكذا الحال بالنسبة لموضوع القواعد العقليّة فإذا تحقّق فلا مجال لرفع اليد عن الحكم وإلا فلا يتحقّق الحكم أصلا.

وفي مقامنا المورد هو صورة الشكّ والجهل بالواقع وهذا هو نفس موضوع القاعدة العقليّة ، فيتحقّق الحكم وهو قبح العقاب. ولا مجال لرفع اليد عن هذا الحكم ما دام موضوعه ثابتا ومتحقّقا وجدانا ؛ إذ عدم البيان لا يزال ثابتا ومعه يستحيل أن يثبت

ص: 73

التنجيز بالحكم الظاهري ؛ لأنّه يعني التخصيص لهذه القاعدة مع ثبوت موضوعها وهو محال ؛ لأنّه أشبه بالتفكيك بين العلّة والمعلول ، وعليه فيستحيل صدور مثل هذا الحكم ؛ لأنّه لا فائدة منه لأنّ ثبوت التنجيز مستحيل وثبوت التأمين حاصل أيضا ، إلا أن يقال بالتخصّص الذي هو ملاك الورود فيكون الحكم الظاهري واردا لا حاكما وسيأتي بيانه.

ص: 74

شبهة التضادّ و نقض الغرض

ص: 75

ص: 76

شبهة التضادّ ونقض الغرض

أمّا الاعتراض الأوّل فقد أجيب عليه بوجوه :

منها : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) من أنّ إشكال التضادّ نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهري حكم تكليفي ، وأنّ حجيّة خبر الثقة مثلا معناها جعل حكم تكليفي يطابق ما أخبر عنه الثقة من أحكام ، وهو ما يسمّى بجعل الحكم المماثل ، فإن أخبر الثقة بوجوب شيء وكان حراما في الواقع تمثّلت حجيّته في جعل وجوب ظاهري لذلك الشيء وفقا لما أخبر به الثقة ، فيلزم على هذا الأساس اجتماع الضدّين ، وهما : الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة.

الجواب الأوّل : ما ذكره الميرزا النائيني رحمه اللّه من أنّ إشكال التضادّ المذكور إنّما نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي حكمان تكليفيّان فعندئذ يقال : إنّ الحكم الظاهري الذي هو حكم تكليفي معناه جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي ، فمثلا خبر الثقة الذي هو حكم ظاهري جعلت الحجيّة له معناه جعل حكم مماثل على طبق ما أخبر عنه الثقة من أحكام تكليفيّة كالوجوب والحرمة ونحوهما.

فهنا إذا كان ما أخبر عنه الثقة من وجوب مطابقا للواقع يكون هناك حكمان تكليفيّان بالوجوب على واقعة واحدة وهو معنى اجتماع المثلين ، وإذا كان ما أخبر عن الثقة من الوجوب مغايرا للواقع بأن كان الحكم الواقعي الحرمة فهذا معناه اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة.

فالإشكال والمحذور إنّما يتوجّه لو قلنا بأنّ الحكم الظاهري كالواقع حكم تكليفي ، وقلنا بجعل الحكم المماثل في الحكم الظاهري كما هو قول الأصفهاني والخراساني في بعض عباراته.

ص: 77


1- فوائد الأصول 3 : 105.

ولكنّ الافتراض المذكور خطأ ؛ لأنّ الصحيح إنّ معنى حجيّة خبر الثقة مثلا جعله علما وكاشفا تامّا عن مؤدّاه بالاعتبار ، فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم التكليفي الواقعي ليلزم اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين ؛ وذلك لأنّ المقصود من جعل الحجيّة للخبر مثلا جعله منجّزا للأحكام الشرعيّة التي يحكي عنها ، وهذا يحصل بجعله علما وبيانا تامّا ؛ لأنّ العلم منجّز سواء كان علما حقيقة كالقطع ، أو علما بحكم الشارع كالأمارة. وهذا ما يسمّى بمسلك جعل الطريقيّة.

وأمّا إذا قلنا بمسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة فلا يتوجّه الإشكال وبيان ذلك :

إنّ المجعول في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة عن الحكم الواقعي ، فجعل الحجيّة معناها الكاشفيّة والطريقيّة وهي حكم وضعي وليست حكما تكليفيّا ، فالحجيّة التي هي الطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة في الجعل التي تنالها يد الشارع رفعا ووضعا ابتداء واستقلالا وليست متوقّفة على الحكم التكليفي أصلا بخلاف الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة كالجزئيّة والشرطيّة ، فإنّها تابعة للحكم التكليفي. فجعل الحجيّة لخبر الثقة معناها جعله علما وكاشفا تامّا بعد أن كان خبر الثقة كاشفا ظنيّا ناقصا عن الواقع ، فعند ما اعتبره الشارع حجّة يعني جعله كالعلم فهو يخبر ويكشف عن الواقع لا أنّه يوجد به حكما تكليفيا زائدا عمّا هو موجود في الواقع ، وهذا معناه وجود حكم واقعي تكليفي واحد وخبر الثقة كاشف وطريق يوصل إليه ، فإذا كان مؤدّى خبر الثقة مطابقا للواقع فالمنجّزيّة في الحقيقة للحكم الواقعي وإن أخطأه ، بأن قام خبر الثقة على الوجوب وكان الحكم الواقعي الحرمة فلا ينشأ حكم واقعي آخر مماثل للواقع ، بل يكون حال خبر الثقة عندئذ حال العلم خطأ في كونه معذّرا وموجبا لتوهّم المنجزيّة واستحقاق العقوبة على الترك ، وعليه فلا يلزم من جعل الحجيّة لخبر الثقة اجتماع حكمين تكليفيّين متماثلين أو متضادّين أصلا ، بل جعل الحجيّة لخبر الثقة معناها جعله منجّزا للأحكام الشرعيّة التي يكشف ويحكي عنها ، وجعل المنجّزيّة لخبر الثقة لا يمكن أن يكون ثابتا للخبر بما هو هو ؛ لأنّه بنفسه كاشف ظنّي غير تامّ عن الواقع ، بل لا بدّ من اعتباره بيانا وعلما وكاشفا تامّا عن الواقع لتثبت له المنجّزيّة وهذا ما يسمّى بتتميم الكشف ، فالشارع عند ما جعل الحجيّة تمّم له الكشف الناقص وجعله كاشفا تامّا تعبّدا ، ولذلك تثبت له المنجّزيّة تبعا لصيرورته بيانا وعلما.

ص: 78

وعليه فالمنجّزيّة ثابتة للعلم وهو الكاشف التامّ ولا يمكن ثبوتها لخبر الثقة بنفسه ؛ لأنّه كاشف ناقص ولا يمكن جعلها له مباشرة من الشارع ؛ لأنّها ليست بيد الشارع جعلا ورفعا ، إلا أنّ الشارع لمّا جعل الحجيّة لخبر الثقة وتمّم له الكشف الناقص وجعله تامّا وبيانا وكاشفا فهذا يعني أنّه اعتبره علما ، وحينئذ تثبت له المنجّزيّة ؛ لأنّه من شئون العلم سواء كان العلم حقيقيّا كالقطع أو كان العلم تعبّديا ومجعولا من الشارع كالأمارات.

فهذا الإشكال ينحلّ بأنّ المجعول في الحكم الظاهري هو جعل الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة ، وبأنّ هذا الجعل ليس حكما تكليفيّا بل هو حكم وضعي ، فالحكم الواقعي واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا ، ولذلك لا تضادّ ولا تماثل لأنّه لا يوجد حكمان تكليفيّان.

والجواب على ذلك : أنّ التضادّ بين الحكمين التكليفيّين ليس بلحاظ اعتباريهما حتّى يندفع بمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من اعتبار الحكم التكليفي إلى اعتبار العلميّة والطريقيّة ، بل بلحاظ مبادئ الحكم كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

إنّ الجواب المذكور من المحقّق النائيني قدس سره لا يحلّ مشكلة اجتماع المثلين أو الضدّين ؛ وذلك لأنّ التضادّ بين الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة ليس بلحاظ الاعتبار ليقال مثلا بأنّ الحرمة حكم واقعي تكليفي والوجوب حكم ظاهري وضعي بمعنى جعل العلميّة والكاشفيّة التامّة ؛ لما تقدّم من أنّ الاعتبار سهل المئونة ؛ إذ ليس هو إلاّ مجرّد صياغة إنشائيّة لمبادئ الأحكام بما تشتمل عليه من مصلحة أو مفسدة ومن محبوبيّة أو مبغوضيّة. فمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من كونه تكليفيّا إلى كونه علما وطريقا لا يفيد في حلّ الإشكال ؛ لأنّه إنّما يتعرّض لعالم الاعتبار والذي لا تضادّ فيه بين الأحكام التكليفيّة. وإنّما التضادّ بين الحكمين التكليفيّين يتصوّر بلحاظ المبادئ ، بأن يكون واقعا يوجد ملاكان أحدهما المصلحة والمحبوبيّة والآخر المفسدة والمبغوضيّة للشيء الواحد ، فإنّ ثبوتهما معا محال ؛ لأنّهما متضادّان لا يعقل وجودهما في واقعة واحدة معا. فيبقى الإشكال المذكور على حاله ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 79


1- ضمن بحث ( الحكم الشرعي وأقسامه ) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

وحينئذ فإن قيل بأنّ الحكم الظاهري ناشئ من مصلحة ملزمة وشوق في فعل المكلّف الذي تعلّق به ذلك الحكم ، حصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعيّة مهما كانت الصيغة الاعتباريّة لجعل الحكم الظاهري. وإن قيل بعدم نشوئه من ذلك - ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم الظاهري - زال التنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، سواء جعل هذا حكما تكليفيّا أو بلسان جعل الطريقيّة.

بعد أن اتّضح أنّ مسألة تغيير الاعتبار والصياغة من الحكم التكليفي إلى جعل العلميّة والطريقيّة لا تفيد في حلّ الإشكال نقول : إنّ هذا الحكم الظاهري إمّا أن يكون ناشئا من مبادئ مستقلّة موجودة في نفس الفعل الذي تعلّق به الحكم الظاهري ، وإمّا أن لا يكون ناشئا من ذلك.

فإن كان الحكم الظاهري ناشئا من مبادئ وملاكات وإرادة وشوق ومحبوبيّة في نفس فعل المكلّف الذي قام خبر الثقة على وجوبه فهذا معناه أنّ الوجوب الذي هو مؤدّى خبر الثقة فيه مصلحة ملزمة ومحبوبيّة وشوق مولوي ، وهذا يعني أنّه مشتمل على مبادئ الوجوب فعندئذ يحصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعيّة بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مبادئ الوجوب تتنافى مع مبادئ الحرمة. ولا تحلّ هذه المشكلة سواء قلنا بأنّ الحكم الظاهري مفاده جعل العلميّة والطريقيّة التي هي حكم وضعي أو قلنا بأنّ مفاده جعل حكم مماثل للحكم الواقعي ؛ لأنّ التنافي واقع بينهما لا محالة بلحاظ المبادئ ، وتغيير الصياغة الاعتباريّة المذكورة لا تفيد ولا تضرّ ؛ لأنّه لا تضادّ أصلا بلحاظ الاعتبار والإنشاء الخالي من المبادئ.

وإن لم يكن الحكم الظاهري ناشئا من مبادئ خاصّة ومستقلّة في فعل المكلّف ، بل كانت هذه المبادئ ثابتة في نفس جعل هذا الحكم كما هو قول السيّد الخوئي الآتي مثلا ، فحينئذ لا تعارض ولا تنافي بين الحكمين ( الوجوب والحرمة ) ؛ لأنّه لا يوجد مبادئ في نفس الفعل زائدا عن المبادئ الثابتة واقعا ، ولذلك لا يضرّنا تسمية الحكم الظاهري بجعل الحكم المماثل أو بجعل الطريقيّة ؛ لأنّ هذه مجرّد صياغات اعتباريّة إنشائيّة لا تضادّ فيها.

والحاصل : أنّ المهمّ في الجواب عن الإشكال إنكار وجود مبادئ مستقلّة في نفس الفعل الذي تعلّق به الحكم الظاهري ؛ لأنّ التعارض بين الوجوب والحرمة إنّما هو

ص: 80

بلحاظ المبادئ سواء كان جعل الحكم الظاهري بلسان جعل الحكم المماثل أو بلسان جعل العلميّة والطريقيّة.

وهذا لا يستفاد من جواب المحقّق النائيني ؛ لأنّه إنّما غيّر الصياغة الاعتباريّة فقط ولم يتعرّض للمبادئ وأنّها موجودة أو ليست موجودة. فالإشكال على حاله إذن (1).

ومنها : ما ذكره السيّد الأستاذ (2) من أنّ التنافي بين الحرمة والوجوب مثلا ليس بين اعتباريهما ، بل بين مبادئهما من ناحية ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون مبغوضا ومحبوبا ، وبين متطلّباتهما في مقام الامتثال من ناحية أخرى ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي تصرّفا مخالفا لما يستدعيه الآخر.

الجواب الثاني على إشكال التضادّ ما ذكره السيّد الخوئي رحمه اللّه من أنّ التنافي بين الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة إنّما يكون بأحد لحاظين هما المبدأ والمنتهى ، وأمّا عالم الاعتبار فلا تنافي بلحاظه ؛ لأنّه مجرّد صياغة إنشائيّة فقط فلا مانع من جعله على المتضادّين بأن يقال : ( يجب أداء الديون للناس ، وبأن يقول حقّ اللّه قبل حقّ الناس ويجب أداؤه ) ما دام مجرّد صياغة خالية عن المبادئ.

أمّا التنافي بلحاظ المبدأ فالمقصود به هو التنافي بلحاظ مبادئ الأحكام التكليفيّة من ملاك وإرادة ، فإنّه من المستحيل أن يكون هناك حكمان تكليفيّان كالوجوب والحرمة ثابتين معا ؛ لأن مبادئ الوجوب تتنافى مع مبادئ الحرمة. فإنّ المصلحة لا يمكن أن تجتمع مع المفسدة على شيء واحد ، والمحبوبيّة لا تجتمع مع المبغوضيّة على

ص: 81


1- ولكن يمكن أن يقال : إنّ المحقّق النائيني قد أشار إلى عدم وجود مبادئ في الحكم الظاهري وذلك بقوله : ( فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم الواقعي ) ، فإنّ هذا معناه أنّ الحكم الظاهري لا ينشأ من جعله وجود حكم بالوجوب مثلا كما أخبر به الثقة ، وإذا لم يكن هناك حكم بالوجوب فليست هناك مبادئ مستقلّة على وفق الحكم الظاهري ، بل هناك مبادئ الحكم الواقعي فقط ، ولذلك لا يوجد إلا حكم تكليفي واقعي واحد فقط. وبهذا يكون مقصود النائيني من نفي وجود الحكم الزائد المطابق للحكم الظاهري هو نفي مبادئه أيضا ؛ لأنّه إذا لم يكن هناك وجوب واقعي فليس هناك مبادئ لهذا الوجوب أيضا.
2- مصباح الأصول 2 : 108 - 111.

متعلّق واحد كذلك ؛ إذ لا يعقل أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا وذا مصلحة وذا مفسدة في آن واحد من جهة واحدة.

وأمّا التنافي بلحاظ المنتهى فالمقصود به التنافي بين الأحكام بلحاظ ما يتطلّبه كلّ حكم في عالم الامتثال ، فالوجوب مثلا يتطلّب ويستدعي أن يقوم المكلّف بالفعل ويهيّئ مقدّماته وكلّ ما يتوقّف عليه الفعل فهو يبعث نحو المتعلّق ، وأمّا الحرمة فهي تتطلّب أن يترك المكلّف الفعل وينزجر عنه ويترك حتّى المقدّمات التي تكون موصلة إلى الفعل. ومن المعلوم أنّ هذه المتطلّبات متنافية ولا يمكن للمكلّف أن يجمع بينها في متعلّق واحد ؛ إذ لا يمكنه الفعل وعدم الفعل في آن واحد.

إذن اتّضح أنّ منشأ التضادّ بين الأحكام التكليفيّة هو أحد هذين اللحاظين المبدأ والمنتهى ، وهذا يتصوّر فيما إذا كان هناك حكمان تكليفيّان كالوجوب والحرمة واقعيّين أو ظاهريّين. وأمّا إذا كان الوجوب حكما ظاهريّا والحرمة حكما واقعيّا فلا تنافي بينهما ، وبيان ذلك :

فإذا كانت الحرمة واقعيّة والوجوب ظاهريّا فلا تنافي بينهما في المبادئ ؛ لأنّنا نفترض مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي ، ولا تنافي بينهما في متطلّبات مقام الامتثال لأنّ الحرمة الواقعيّة غير واصلة - كما يقتضيه جعل الحكم الظاهري في موردها - فلا امتثال لها ولا متطلّبات عمليّة ؛ لأنّ استحقاق الحكم للامتثال فرع الوصول والتنجّز.

إنّ الحرمة الواقعيّة والوجوب الظاهري لا تنافي بينهما لا بلحاظ المبدأ أي المبادئ ولا بلحاظ المنتهى أي الامتثال والمتطلّبات.

أمّا أنّه لا تنافي بينهما بلحاظ المبادئ فلأنّنا نقول : إنّ مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق.

وتوضيحه : أنّ جعل الحجيّة للأمارات والأصول إنّما كان لأجل مصلحة في نفس هذا الجعل بقطع النظر عن الحكم الذي تحكي عنه وتؤدّي إليه ، فالأحكام الظاهريّة ليست تابعة للمتعلّق وما يشتمل عليه من مصالح أو مفاسد ومن محبوبيّة أو مبغوضيّة ، بل المصلحة موجودة في نفس جعل الحكم الظاهري ، فالاحتياط مثلا مجعول لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير

ص: 82

وجودها أو التحذّر من الوقوع في المفسدة على تقدير وجودها ، والبراءة مجعولة لأجل مصلحة في نفس التسهيل والترخيص على المكلّف ، وأمّا المتعلّق فالأحكام الظاهريّة ليست تابعة له ولما يشتمل عليه من المصالح أو المفاسد ، بل المصلحة في نفس جعلها فقط.

وهذا بخلاف الأحكام الواقعيّة ، فإنّها تابعة للمصالح أو المفاسد وللمحبوبيّة أو المبغوضيّة الموجودة في نفس متعلّقها وهو الفعل أو الترك بحيث يكون في نفس الفعل مصلحة أو في نفس الترك مصلحة كذلك ؛ لأنّ المصالح والمفاسد تابعة للمتعلّقات ذاتا.

وبهذا ظهر أنّ مبادئ الحكم الظاهري هي نفس جعلها بينما مبادئ الحكم الواقعي هي نفس المتعلّق ، فتغايرت الجهة فلا تنافي بينهما بلحاظ المبادئ لاختلاف الجهة حيث إنّ وحدتها من شروط التناقض والتضادّ.

وأمّا أنّه لا تنافي بينهما بلحاظ المنتهى أي عالم الامتثال والمتطلّبات فلأنّنا نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة إنّما تستدعي متطلّبات على تقدير تنجّزها على المكلّف ، وهذا لا يكون إلا بوصولها إليه ، فإذا كانت الحرمة الواقعيّة غير واصلة إلى المكلّف فلا تستدعي أي نحو من المتطلّبات ؛ لأنّ عدم وصولها يعني عدم تنجّزها وإذ لا منجّزيّة فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال. فحكم العقل بلزوم الامتثال موضوعه الوصول والتنجّز فإذا ارتفع موضوعه يرتفع حكم العقل بالإطاعة والامتثال ، وإذا ارتفع حكم العقل بالإطاعة والامتثال فلا متطلّبات أصلا.

وهنا نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة غير واصلة فهي غير منجّزة فلا يحكم العقل بالإطاعة والامتثال ولزوم المتطلّبات ، والدليل على أنّها كذلك هو مقتضى جعل الحكم الظاهري في موردها ، فإنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي وعدم العلم به ، وهذا معناه أنّ الحرمة غير معلومة وغير واصلة فليست منجّزة فلا متطلّبات عمليّة لها. وإنّما هناك وصول وتنجّز للحكم الظاهري كالوجوب مثلا حيث إنّ الشارع جعل الحجيّة له على مستوى التنجيز والتعذير على أقلّ تقدير.

وبهذا ظهر أنّ الحرمة الواقعيّة إذا كانت واصلة فهذا يعني لزوم امتثالها فيكون لها متطلّبات ؛ لكونها متنجّزة عقلا ، ومعه لا يكون هناك حكم ظاهري بالوجوب ؛ لأنّ موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ومع تنجّز ووصول الحرمة الواقعيّة لا شكّ. وإذا لم

ص: 83

تكن واصلة فهي غير منجّزة فلا متطلّبات لها فيكون الحكم الظاهري هو الواصل والمتطلّبات له فقط. وهذا معناه دائما وصول أحدهما فقط إلى المكلّف ، فليس هناك إلا متطلّبات الحرمة فقط أو الوجوب فقط ولا يمكن اجتماعهما معا في عالم الوصول والتنجّز ؛ لأنّ وصول أحدهما يلزم منه ارتفاع موضوع الآخر قطعا.

وعليه فلا تنافي بين الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة لا بلحاظ المبادئ ولا بلحاظ الامتثال فضلا عن عالم الاعتبار. وبذلك يرتفع محذور التضادّ المذكور أو اجتماع المثلين.

وبهذا أيضا لا يكون المولى مفوّتا لغرضه ؛ لأنّ له غرضا متعلّقا في نفس جعل الحكم الظاهري ، وبهذا الفرض سوف يكون هناك مصلحة في الحكم الظاهري تعوّض مصلحة الواقع الذي يفوت.

ولكن نتساءل : هل يمكن أن يجعل المولى وجوبا أو حرمة لملاك في نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتّفق حقّا أنّ المولى أحسّ بأنّ من مصلحته أن يجعل الوجوب على فعل بدون أن يكون مهتمّا بوجوده إطلاقا ، وإنّما دفعه إلى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل ، كما إذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ، ولا يهمّه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا يقع.

أقول : لو اتّفق ذلك حقّا فلا أثر لمثل هذا الجعل ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، فافتراض أنّ الأحكام الظاهريّة ناشئة من مبادئ في نفس الجعل يعني تفريغها من حقيقة الحكم ومن أثره عقلا.

يرد على ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ الحكم الظاهري ملاكه في نفس جعله أنّه يؤدّي إلى تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ، ويؤدّي أيضا إلى نفي منجّزيته فلا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، وبالتالي لا أثر له. ولذلك يقول السيّد الشهيد : إنّنا نتساءل فعلا حول إمكانيّة أن يجعل المولى وجوبا أو حرمة ظاهريّة لملاك في نفس الوجوب أو الحرمة لا لملاك موجود في متعلّق الوجوب أو الحرمة ، فهل يمكن مثل هذا الجعل أو لا؟

ثمّ لو فرضنا إمكانيّة مثل هذا الجعل تصوّرا ، فهل يمكن أن يقع هذا الجعل خارجا أو لا؟ ولو فرضنا وقوعه خارجا ، فهل يكون له فائدة وأثر كالحكم الحقيقي أو لا؟

والجواب بالنفي لكلّ هذه التساؤلات ، فإنّ مثل هذا الجعل غير ممكن أصلا بحقّ

ص: 84

الشارع الحكيم حيث إنّ الأحكام الإلهيّة على رأي العدليّة من الإماميّة والمعتزلة تابعة لملاكات في نفس الفعل والمتعلّق خلافا للأشاعرة.

ولو تنزّلنا وفرضنا إمكانيّة هذا الجعل عقلا وتصوّرا ، فلا يمكن أن نقبل بإمكانه الوقوعي ؛ وذلك لأنّا لو فرضنا أنّ هناك مشرّعا قد أحسّ وأدرك بوجود مصلحة في أن يجعل وجوبا أو حرمة على فعل ومتعلّق من دون أن يكون هناك مصلحة في نفس الفعل والمتعلّق فلا يكون لمثل هذا الجعل فائدة وأثر ، وتوضيح ذلك :

إنّنا لو فرضنا أنّ مشرّعا كان ينتظر مكافأة ما على نفس ذلك الجعل والتشريع بقطع النظر عن وجود مصلحة في الفعل المتعلّق لهذا الوجوب ، بحيث لم يكن هذا المشرّع مهتمّا بأن يحقّق مثل هذا المتعلّق خارجا ، ويمكن أن يكون مثاله أيضا الأمر بالأمر بالصلاة حيث تعلّقت المصلحة في نفس الأمر والجعل والتشريع من دون أن يكون هناك أدنى التفات إلى الفعل ووقوعه. فنقول : إنّ مثل هذه الجعل يكون فاقدا لمضمون الحكم وفارغا عن محتواه ؛ وذلك لأنّ حقيقة الحكم كالوجوب مثلا هي البعث والتحريك نحو المتعلّق الذي تعلّق للمولى غرض وشوق ومحبوبيّة فيه ، ومثل هذا الحكم الظاهري لا يمكن أن يكون باعثا ومحرّكا للمكلّف نحو المتعلّق ؛ إذ لا مصلحة في هذا المتعلّق أصلا.

ومن ثمّ فإنّ العقل لا يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال لمثل هذا الحكم الفارغ من المحتوى والمضمون ؛ إذ حكم العقل بذلك فرع كون الحكم مطلوبا للمولى ومحبوبا له نظرا لحقّ الطاعة ، والمفروض أنّ كلّ ذلك منتف عن هذا الحكم ، ولذا لا يكون له أثر في المنجّزيّة لانتفاء موضوعها.

والحاصل : أنّ جعل الحكم الظاهري بهذا النحو المفروض ، وهو كون ملاكه في نفس جعله يعني تفريغه عن حقيقة الحكم وفقدانه للأثر التنجيزي العقلي الحاكم يوجب الإطاعة والامتثال. ومثل هذا الحكم يستحيل صدوره من الشارع الحكيم ، مضافا إلى أنّه بمجرّد جعله يكون الملاك المذكور قد استوفى وتحقّق فلا معنى لجعله على ذمّة المكلّف ؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل أو من باب التكليف اللغوي ؛ لأنّه لا مصلحة موجودة ولا ملاك. فلما ذا يجعله على ذمّة المكلّف؟!

فالجواب المذكور في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تام ، ولكنّه في

ص: 85

افتراضه أنّ الحكم الظاهري لا ينشأ من مبادئ في متعلّقة بالخصوص تامّ ، فنحن بحاجة إذن في تصوير الحكم الظاهري إلى افتراض أن مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلّقة بالخصوص ؛ لئلاّ يلزم التضادّ ، ولكنّها في نفس الوقت ليست قائمة بالجعل فقط لئلاّ يلزم تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم.

والنتيجة أنّ الجواب الذي ذكره السيّد الخوئي يتضمّن أمرين :

الأوّل : أنّ المصلحة والملاك في الحكم الظاهري في نفس جعله ، وهذا غير صحيح كما تقدّم سابقا.

الثاني : أنّ الملاك والمصلحة في الحكم الظاهري ليست في متعلّقة بالخصوص ، وهذا المقدار صحيح.

ولذلك فنحن بحاجة إلى بيان حقيقة الحكم الظاهري وكيف أنّ ملاكه ومصلحته ليست في متعلّقة بالخصوص ؛ إذ ليس من الضروري أن نفترض أنّ الملاك والمبادئ في نفس متعلّق الحكم الظاهري ليلزم التضادّ أو المثلين ، وفي نفس الوقت ليست هذه المبادئ والمصلحة موجودة في نفس الجعل ؛ لئلاّ يلزم ما تقدّم من تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ومن كونه لا فائدة ولا أثر له. فالصحيح أن يقال :

وذلك بأن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهريّة هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة.

والجواب الصحيح عن الإشكال المتقدّم أن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهريّة من ملاك وإرادة وشوق ومحبوبيّة ليست في نفس الجعل وليست في متعلّقها بخصوصه ، وإنّما هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة ، ففي الحقيقة لا يوجد إلا مبادئ الحكم الواقعي فقط ولذلك لا تضادّ بين الحكمين. وتوضيح المطلب يتمّ بذكر أمور :

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ حرمة واقعيّة لها ملاك اقتضائي ، وهو المفسدة والمبغوضيّة القائمتان بالفعل ، وكذلك الأمر في الوجوب ، وأمّا الإباحة فقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ ملاكها قد يكون اقتضائيا وقد يكون غير اقتضائي ؛ لأنّها قد تنشأ عن وجود ملاك في أن يكون المكلّف مطلق العنان وقد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أي ملاك.

ص: 86


1- ضمن بحث ( الحكم الشرعي وتقسيمه ) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

الأمر الأوّل : أنّ الحرمة الواقعيّة كالوجوب الواقعي لهما مبادئ وملاكات اقتضائيّة متعلّقة بالفعل ، فالحرمة الواقعيّة ملاكها الاقتضائي المفسدة والمبغوضيّة القائمتان بالفعل ، والوجوب الواقعي ملاكه الواقعي المصلحة والمحبوبيّة كذلك ، فالوجوب والحرمة متعلّقان بالفعل وجودا أو تركا.

وأمّا الإباحة فهي على قسمين :

فتارة تنشأ من ملاك اقتضائي بأن يكون المكلّف مطلق العنان.

وأخرى تنشأ من خلوّ الفعل من أي ملاك فعلا أو تركا.

وعليه فإذا اختلطت المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض ، لم يؤدّ ذلك إلى تغيّر في الأغراض والملاكات والمبادئ للأحكام الواقعيّة ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له عن الحرام يصبح مبغوضا ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ، فالحرام على حرمته واقعا ولا يوجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على إباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الإباحة.

الأمر الثاني : أنّه إذا اختلطت المباحات الواقعيّة والمحرّمات ولم يقدر المكلّف على تمييز بعضها عن البعض الآخر ، بمعنى انسداد باب الواقع أمامه ، فهذا لا يؤدّي إلى تغيير المحرّمات عن مبادئها الواقعيّة ولا إلى تغيير المباحات عن مبادئها الواقعيّة أيضا ، فالمحرّمات تبقى فيها مبادئ المفسدة والمبغوضيّة وإن لم يقدر المكلّف على معرفتها وتمييزها ، وكذلك الحال في مبادئ المباحات. وهذا معناه أنّ الحرام الواقعي ليس فيه إلا مبادئ الحرمة الواقعيّة من مفسدة ومبغوضيّة ولا يتغيّر ولا يتبدّل بعدم تمييزه ومعرفته ، والمباح الواقعي لا تتبدّل فيه مبادئ الإباحة ولا تتغيّر ، فلا الحرام يصبح مباحا ولا المباح يصير حراما ؛ نتيجة لعدم التمييز.

وهذا ثابت بحكم وجود أحكام واقعيّة ثابتة بحقّ الجميع سواء العالم بها والجاهل لا تتبدّل ولا تتغيّر.

غير أنّ المولى في مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين أمرين : إمّا أن يرخّصه في ارتكاب ما يحتمل إباحته ، وإمّا أن يمنعه من ارتكاب ما يحتمل حرمته.

الأمر الثالث : أن المولى عند اختلاط الأحكام المباحة والمحرّمة على المكلّف لا بدّ أن

ص: 87

يوجّه هذا المكلّف عمليّا ، فهو بين أمرين : إمّا أن يرخّصه في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته ، وهذا بطبيعته سوف يشمل الحرام الواقعي أيضا ؛ نتيجة عدم تمييزه عن المباح. وإمّا أن يمنعه عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، وهذا معناه أيضا الشمول للمباح الواقعي ؛ نتيجة عدم تمييزه عن الحرام.

وهذان الأمران لا ثالث لهما ؛ لأنّ المكلّف اتّجاه هذا الواقع المسدود إمّا أن يفعل أو يترك وليس له خيار ثالث بينهما.

وواضح أنّ اهتمامه بالاجتناب عن المحرّمات الواقعيّة يدعوه إلى المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرّمات الواقعيّة الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهري ناشئ من مبغوضيّة المحرّمات الواقعيّة والحرص على ضمان اجتنابها.

والنتيجة : أنّ المولى إذا كان مهتمّا بجانب المحرّمات ، فهذا يدعوه إلى إصدار منع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، كأن يأمر بالاحتياط في الشبهات ، وهذا المنع عن ارتكاب الشبهات التي يحتمل حرمتها سوف يشمل المباح الواقعي ؛ نتيجة للاختلاط وعدم التمييز للحرام عن المباح. فهناك مباحات ضمن دائرة ما يحتمل حرمته سوف يشمله المنع من الارتكاب ، إلا أنّ هذا المنع لم ينشأ من كون ما يحتمل حرمته واجدا لملاك ومبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ؛ إذ مبادئ الحرمة مختصّة بالحرمة الواقعيّة فقط لا كلّ حرمة محتملة ، بل إنّ هذا المنع كان لأجل الحفاظ على ملاكات الحرام الواقعي ولأجل الحرص على ضمان اجتنابها ، فإنّه إذا اجتنب كلّ هذه الشبهات التي يحتمل حرمتها يكون قد اجتنب الوقوع في الحرام قطعا ، فهذا المنع منع ظاهري ناشئ من الملاك والمبادئ في متعلّق الحرمة الواقعيّة ، وليس ناشئا من وجود مبادئ الحرمة في متعلّق الحكم الظاهري بخصوصه أو أن مبادئه في نفس جعله.

فليس في الحكم الظاهري ملاكات ومبادئ زائدة ومستقلّة عن ملاكات ومبادئ الحكم الواقعي بل هي نفسها ، والغرض منها هو الحفاظ على الملاكات الواقعيّة للحرمة وضمان اجتنابها وعدم توريط المكلّف بالوقوع في المفسدة الواقعيّة.

وفي مقابل ذلك إن كانت الإباحة في المباحات الواقعيّة ذات ملاك لا اقتضائي فلن يجد المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع سيشمل الحرام

ص: 88

الواقعي والمباح الواقعي أيضا إذا كان محتمل الحرمة للمكلّف ، وفي حالة شموله للمباح الواقعي لا يكون منافيا لإباحته ؛ لأنه - كما قلنا - لم ينشأ عن مبغوضيّة نفس متعلّقه ، بل عن مبغوضيّة المحرّمات الواقعيّة والحرص على ضمان اجتنابها.

وفي المقابل نقول : إنّ الإباحة في المباحات الواقعيّة إن كانت ذات ملاك لا اقتضائي بأن كانت ناشئة من خلوّ الفعل من أي ملاك ، فهنا لا يوجد أي مانع من إصدار المولى لذلك المنع الظاهري لكلّ ما يحتمل حرمته ، وهذا ملازمه كما قلنا شمول المنع الظاهري للحرام الواقعي وللمباح الواقعي في حالة احتماله حرمته ؛ نتيجة عدم التمييز للمكلّف بينه وبين الحرام ، وهذا المنع الظاهري في حالة شموله للحرام الواقعي لا إشكال فيه ؛ لأنّ الحرام الواقعي على حرمته ففيه مبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ، وأمّا في حالة شموله للمباح الواقعي ، فقد يتوهّم كما في الإشكال المطروح لزوم اجتماع الضدّين إلا أنّه مجرّد توهّم واه ؛ وذلك لأنّ المباح الواقعي على إباحته ولا يتغيّر عنها فهو واجد لملاك الإباحة الواقعيّة ، غير أنّ المنع تعلّق به لأجل الحفاظ على ملاكات الحرمة الواقعيّة وضمان اجتنابها والحرص عليها ، وليس المنع متعلّقا به لأجل وجود مبادئ الحرمة في متعلّقه ؛ إذ تقدّم أنّ المباح أو الحرام لا يتغيّر حالهما بمجرّد عدم تمييز المكلّف لهما.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعيّة ذات ملاك اقتضائي فهي تدعو - خلافا للحرمة - إلى الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل إباحته ففيه ملاك الإباحة ، بل لضمان إطلاق العنان في المباحات الواقعيّة الموجودة ضمن محتملات الإباحة ، فهو ترخيص ناشئ عن الملاك الاقتضائي للمباحات الواقعيّة والحرص على تحقيقه.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعيّة ذات ملاك اقتضائي بأن يكون المكلّف مطلق العنان ، فهذا معناه أنّ المولى يرخّص في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته حتّى الحرام الواقعي المحتمل إباحته ؛ نتيجة عدم التمييز والاختلاط. وهذا لا يعني أنّ كلّ ما يحتمل إباحته واجد لملاك الإباحة الواقعيّة ، بل لأجل ضمان الملاك للإباحة الواقعيّة الاقتضائي ، وهو إطلاق العنان والتسهيل والترخيص على المكلّف ، فإنّ هذا الملاك إذا كان بدرجة لا يسمح المولى بفواته على المكلّف فهو سوف يسمح له بارتكاب الحرام

ص: 89

الواقعي ، غير أنّه في هذه الحالة لا يتغيّر الحرام الواقعي عن مبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ، بل هو على تلك المبادئ الواقعيّة للحرمة. وإنّما رخّص المولى في ارتكابه ضمن دائرة المباحات المحتملة ؛ لأنّ ملاك هذه الإباحة وهو إطلاق العنان يقتضي الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته لأجل ضمان هذا الترخيص ولأجل الحرص على تحقّقه.

فالشارع أمامه أحد هذين الخيارين إمّا أن يمنع عن كلّ ما يحتمل حرمته إن كانت الإباحة ذات ملاك لا اقتضائي وإمّا أن يرخّص في كلّ ما يحتمل إباحته إن كانت الإباحة ذات ملاك اقتضائي ، وحينئذ :

وفي هذه الحالة يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهمّ رخّص في المحتملات ، وهذا الترخيص يشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي إذا كان محتمل الإباحة ، وفي حالة شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته ؛ لأنّه لم ينشأ عن ملاك للإباحة في نفس متعلّقه ، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعيّة والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرّمات الواقعيّة أهمّ منع من الإقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الأهمّ.

ثمّ إنّه إذا كانت الإباحة ذات ملاك اقتضائي فيقع التزاحم في حالة الاشتباه وعدم التمييز للمباح عن الحرام بين الترخيص في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته أو المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته. فهنا يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهمّ فهو يرخّص في ارتكاب المحتملات. وهذا الترخيص سوف يشمل بطبيعة الحال الحرام الواقعي كما تقدّم ، إلا أنّ هذا الشمول لا يضرّ ؛ لأنّه شمول ظاهري لم ينشأ من وجود مبادئ الإباحة في متعلّق الحرام ، وإنّما هو على مبادئ الحرمة الواقعيّة. وإنّما تعلّق به الترخيص الظاهري لأجل مصلحة أخرى ، وهي الحفاظ على مبادئ الإباحة الواقعيّة المختلطة ضمن دائرة المحتملات.

وإن كان ملاك الحرمة الواقعيّة أهمّ وأقوى فهو يصدر منعا ظاهريا عن ارتكاب دائرة المحتملات للحرام ، والتي يوجد ضمنها المباح الواقعي أيضا ، والمصلحة في

ص: 90

إصدار هذا المنع هو الحفاظ على ضمان اجتنابها والتحفّظ من الوقوع في المفسدة الواقعيّة.

وهكذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلب كلّ نوع منها الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر.

وهكذا يتّضح لنا جوهر وحقيقة الأحكام الظاهريّة وهي كونها خطابات (1) لأجل تعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة المشتبهة على المكلّف ، حينما يكون كلّ نوع من هذه المبادئ الواقعيّة يتطلّب نحوا من الحفاظ عليه يتنافى مع الحفاظ على الآخر ، كما هو الحال في الوجوب والحرمة أو الإباحة معهما. وليست أحكاما حقيقة ؛ لأنّ الحكم ما كان فيه مبادئ في متعلّقة وهي ليست كذلك. فالمولى يلاحظ ما هو الأهمّ من هذه المبادئ الواقعيّة ويصدر حكما ظاهريّا على طبقها بأن يرخّص أو يمنع.

ولا بأس أن نذكر مثلا لذلك : لو فرضنا أنّ المولى تعلّق غرضه بإكرام زيد ، فأنشأ حكما بوجوب إكرام زيد وجعله في عهدة المكلّف ، إلا أنّ المكلّف قد اشتبه عنده زيد ضمن عشرة أفراد لهم نفس الاسم. فهنا نقول : المولى إذا كان اهتمامه بإكرام زيد بدرجة قوية جدّا بحيث لا يسمح بتفويته ، فهو لن يجد ما يحول دون إصدار حكم آخر بإكرام العشرة لكي يتحقّق غرضه من إكرام زيد المشتبه ضمنها. وهذا الحكم الثاني حكم ظاهري لم ينشأ من ملاك ومبادئ في نفس متعلّقه وهو العشرة ، وإنّما ينشأ من مبادئ الحكم الواقعي ومتعلّقه وهو إكرام زيد ، فيكون هذا الحكم الثاني مبرزا لاهتمام المولى ليس إلا ، من دون أن يكون فيه مبادئ في نفس متعلّقه ، بل مبادئه نفس مبادئ الحكم الواقعي المذكور.

وبهذا اتّضح الجواب على الاعتراض الثاني ، وهو أنّ الحكم الظاهري يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فإنّ الحكم الظاهري وإن كان قد يسبّب ذلك ، ولكنّه إنّما يسبّبه من أجل الحفاظ على غرض أهمّ.

وبهذا التحليل لحقيقة الحكم الظاهري اتّضح الجواب عن الشبهتين الأولى والثانية :

ص: 91


1- وتعبيره بكونها خطابات فيه مسامحة واضحة ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة في الحقيقة تعيّن الأهمّ. وليست خطابات ؛ لأنّ الخطابات هي الحاكية للحكم والتشريع الواقعي.

أمّا الأولى فلأنّه لا يوجد مبادئ في متعلّق الحكم الظاهري ، وإنّما مبادئه نفس مبادئ متعلّق الحكم الواقعي ولذلك لا تضادّ.

وأمّا الثانية فلأنّ الحكم الظاهري وإن كان يفوّت المصلحة الواقعيّة ويسبّب الإلقاء في المفسدة في حالة عدم مطابقته للواقع ، إلا أنّه إنّما يسبّب ذلك لأجل الحفاظ على مصلحة أقوى وأهمّ. ففي الحقيقة ليس هناك تفويت أو إيقاع في المفسدة ، وإنّما هناك تفويت لمصلحة مهمّة لأجل الحصول على مصلحة أهمّ. وهذا الأمر مقبول عقلا وعقلائيّا ، ومثاله في باب التزاحم الامتثالي : إذا دار الأمر بين إنقاذ غريق وبين إيقاع الصلاة بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، أو دار الأمر بين إنقاذ أحد غريقين وكان لأحدهما بعض المرجّحات ككونه عالما تقيّا مثلا ، فهنا يحكم بإنقاذ الغريق في فرض تزاحمه مع الصلاة ، ويحكم بإنقاذ الغريق العالم التقي في الفرض الثاني ، وهذا يعني فوات الصلاة وموت الغريق الثاني ، وهو تفويت للمصلحة وإيقاع في المفسدة إلا أنّه كان ذلك لأجل الحفاظ على مصلحة أهمّ وأقوى من تلك المصلحة.

وهذا مصداق لباب التزاحم الذي ملاكه ترجيح الأهمّ على المهمّ (1).

ص: 92


1- يمكن إرجاع ما ذكره السيّد الخوئي إلى هذا البيان وذلك بأن يقال : إنّ المثال الذي ضربه السيّد الخوئي للتمثيل على كيفيّة كون الحكم الظاهري ملاكه ليس في المتعلّق ، بل بنفس جعله يلقي ضوءا على أنّ مراده من تعبيره بنفس الجعل شيئا آخر غير ما ذكره السيّد الشهيد وأشكل عليه - وإن كان تعبيره المذكور غير صحيح - فذكر أنّ الاحتياط مثلا مجعول لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها والتحذّر من الوقوع في المفسدة كذلك. وهذا يفهم منه أنّه يوجد ملاك لجعل الاحتياط لا أنّ ملاكه نفس جعله وإن صرّح بذلك ؛ لأنّ المصلحة المذكورة معناها الحفاظ على المصالح والملاكات الواقعيّة على تقدير وجودها ، فكان تشريع الاحتياط لأجل التحفّظ والتحذّر على الملاكات الواقعيّة لا لملاك في نفس الاحتياط بما هو هو ، بل بما هو مشتمل على التحفّظ والتحذّر. وهذا موافق لما ذكره السيّد الشهيد من أنّ إصدار المنع الظاهري إنّما هو بملاك الحفاظ على الأهمّ من الملاكات الواقعيّة كالحرمة مثلا ، فيصدر المنع عن دائرة ما يحتمل حرمته لأجل ضمان اجتنابها والحرص والحفاظ عليها. غاية الأمر أنّ السيّد الخوئي عبّر عن هذا المطلب بأنّ الملاك في نفس جعل الحكم الظاهري بينما السيّد الشهيد عبّر عنه بأنّ الملاك هو إبراز الأهمّ والحفاظ عليه وضمانه ، فلاحظ وتأمّل.

شبهة تنجّز الواقع المشكوك

ص: 93

ص: 94

شبهة تنجّز الواقع المشكوك

وأمّا الاعتراض الثالث فقد أجيب (1) بأنّ تصحيح العقاب على التكليف الواقعي الذي أخبر عنه الثقة بلحاظ حجيّة خبره لا ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ المولى حينما يجعل خبر الثقة حجّة يعطيه صفة العلم والكاشفيّة اعتبارا على مسلك الطريقية المتقدّم ، وبذلك يخرج التكليف الواقعي عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يصبح معلوما بالتعبّد الشرعي وإن كان مشكوكا وجدانا.

ذكر المحقّق النائيني بأنّ الجواب على إشكال تنجّز الواقع المشكوك واستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة قيام الحكم الظاهري على حكم إلزامي كالوجوب أو الحرمة لا يتنافى مع الحكم العقلي بالتأمين في صورة الشكّ على أساس قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك أنّ موضوع القاعدة العقليّة عدم البيان والعلم فإذا لم يكن هناك علم بالتكليف فلا يكون منجّزا على المكلّف وبالتالي لا يعاقب على مخالفته. وأمّا إذا تحقّق البيان والعلم فيصبح التكليف منجّزا ويستحقّ العقاب على المخالفة للزوم الإطاعة والامتثال عقلا. وهنا الحكم الظاهري كخبر الثقة الدالّ على الإلزام كالوجوب والحرمة عند ما تجعل له الحجيّة شرعا معناه أنّ الشارع قد جعل خبر الثقة طريقا وكاشفا تامّا عن الواقع ، فيكون الشارع قد اعتبر خبر الثقة علما ؛ لأنّ المجعول في الأحكام الظاهريّة هو العلميّة والطريقيّة والكاشفيّة. وحينئذ نقول : إنّه لا منافاة بين الحكم الظاهري الدالّ على الإلزام وبين حكم العقل المذكور ؛ لأنّ الحكم الظاهري يثبت به العلم والبيان تعبّدا ، ومع تحقّق البيان والعلم يرتفع موضوع حكم العقل بالتأمين ؛ لأنّ موضوعه عدم البيان والعلم. والمفروض أنّهما متحقّقان وثابتان في الفرض المذكور ، فلا تنافي ؛ لأنّ حكم العقل مرتفع تبعا لارتفاع موضوعه ، حيث إنّ

ص: 95


1- يمكن استفادة ذلك ممّا جاء في أجود التقريرات 2 : 11.

الموضوع بمثابة العلّة للحكم إذا انتفى ينتفي الحكم معه ، وإلا لزم التفكيك بين العلّة والمعلول وهو محال.

والحاصل : أنّ موضوع الحكم العقلي هو عدم العلم والبيان الأعمّ من العلم الحقيقي كالقطع الوجداني ، ومن العلم التعبّدي كخبر الثقة الذي جعله الشارع علما بالتعبّد والاعتبار. وبهذا يتنجّز الواقع على المكلّف ، ويصبح ملزما بالامتثال والإطاعة وإلا لكان مدانا بحكم العقل. وبهذا ظهر أنّ الأحكام الظاهريّة واردة على القاعدة العقليّة ؛ لأنّها ترفع موضوعها حقيقة ؛ لأنّ موضوعها العلم والبيان الأعمّ من الوجداني أو التعبّدي الاعتباري.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذه المحاولة إذا تمّت فلا تجدي في الأحكام الظاهريّة المجعولة في الأصول العمليّة غير المحرزة كأصالة الاحتياط ، على أنّ المحاولة غير تامّة كما يأتي (1) إن شاء اللّه تعالى.

أورد السيّد الشهيد على كلام المحقّق النائيني إشكالين :

الأوّل : أنّ ما ذكره من جعل العلميّة للحكم الظاهري إنّما يتمّ على فرض التسليم بأصل المبنى في الأحكام الظاهريّة التي فيها كشف ظنّي ناقص من الواقع ، حيث إنّ جعل الحجيّة لها يكون متمّما لهذا الكشف فيعتبرها علما تعبّدا كما هو الحال في الأمارات كخبر الثقة مثلا. وأمّا في الأصول العمليّة غير المحرزة كأصالة البراءة والاحتياط فلا يتمّ هذا الكلام ؛ لأنّه لا يوجد أي كشف عن الواقع في البراءة أو الاحتياط ؛ لأنّها مجرّد وظائف لتحديد الموقف العملي اتّجاه الواقع المشكوك ، من دون أن تكون كاشفا ولو كشفا ظنيّا ناقصا عن الواقع. فجعل الحجيّة فيها معناه جعلها منجّزة ومعذّرة فقط دون أن يكون هناك أي علم وبيان فيها ، نعم في الأصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب مثلا يوجد كشف ظنّي عن الواقع فهي كالأمارات.

الثاني : أنّ أصل المبنى غير صحيح ؛ لأنّنا لا نقبل أن يكون المجعول في الحكم الظاهري حتّى الأمارات منه الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة كما سيأتي في توضيحه عند البحث عن الأمارات والأصول. فهذه المحاولة غير صحيحة أصلا. وبهذا يظهر أنّ

ص: 96


1- ضمن المبادئ العامّة من مباحث الأدلّة المحرزة ، تحت عنوان : وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي.

شبهة التنجّز لا تزال مستحكمة بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. مضافا إلى أنّ حكومة الأمارات على القاعدة المذكورة متوقّفة على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الذي التزم به المحقّق النائيني ، ولكن مع ذلك فإنّ دليل حجيّة الأمارات والذي هو السيرة العقلائيّة قائم على العمل بالأمارات مقام القطع الطريقي ، إذ لا وجود للقطع الموضوعي في حياتهم ، ولو فرض وجوده فهو فرد نادر يحتاج إلى النظر إليه في الدليل الحاكم ، والنظر هنا غير محرز إذ لا يوجد ما يدلّ عليه في لسان دليل الحجيّة. فحتّى لو قبلنا الحكومة فهي لا تجدي ؛ لأنّها بلسان التخصيص ولكن على أساس التوسعة أو التضييق وقد قلنا : إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص مطلقا. نعم يتمّ ذلك بناء على الورود إلا أنّه لا قائل به منهم.

والصحيح أنّه لا موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حقّ الطاعة ؛ لما تقدّم من أنّ هذا المسلك المختار يقتضي إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا. وقد تلخّص مما تقدّم أنّ جعل الأحكام الظاهريّة ممكن.

والجواب الصحيح على شبهة التنجّز : هو إنكار مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ على أساس هذا المبنى لا يمكن دفع هذه الشبهة. وأمّا على المسلك المختار عندنا وهو مسلك حقّ الطاعة فلا موضوع لهذه الشبهة ، وذلك لأنّه بناء على هذا المسلك يكون الشكّ والظنّ بل أدنى احتمال للتكليف منجّزا ، فضلا عن العلم به على أساس حقّ الطاعة الثابت بحكم العقل. وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري كخبر الثقة مثلا الدالّ على الوجوب أو الحرمة لا يتنافى مع حكم العقل ، بل يكون موافقا له (1). وبهذا يتلخّص أنّ جعل الأحكام ممكن لأنّ الإشكالات المذكورة مندفعة بما تقدّم.

ص: 97


1- إلا أنّه على مسلك حقّ الطاعة يكون الحكم الظاهري النافي للتكليف متنافيا مع حكم العقل بالمنجزية ؛ لأنّ هذا الحكم يثبت به التأمين والمعذّريّة بينما مسلك حقّ الطاعة يثبت به المنجّزيّة.

ص: 98

الأمارات والأصول

ص: 99

ص: 100

الأمارات والأصول

تنقسم الأحكام الظاهريّة إلى قسمين : هذا التقسيم للأحكام الظاهريّة إلى أمارات وأصول له فائدة تظهر في باب التعارض ، حيث يحكم هناك بتقدّم الأمارة على الأصل العملي المحرز وغيره ، والوجه في التقديم هو الفرق بين الأمارات والأصول والذي على أساسه يتمّ النكتة والوجه في التقديم.

أحدهما : الأحكام الظاهريّة التي تجعل لإحراز الواقع ، وهذه الأحكام تتطلّب وجود طريق ظنّي له درجة كشف عن الحكم الشرعي ، ويتولّى الشارع الحكم على طبقه بنحو يلزم على المكلّف التصرّف بموجبه ، ويسمّى الطريق بالأمارة ، ويسمّى الحكم الظاهري بالحجيّة ، من قبيل حجيّة خبر الثقة.

القسم الأوّل من الأحكام الظاهريّة : هو الأحكام الظاهريّة المجعولة لإحراز الواقع بحيث تكون طريقا مؤدّيا إلى الواقع ، وكاشفا عنه ، وهذا معناه افتراض وجود طريق ظنّي موجود في هذه الأحكام الظاهريّة يكون له درجة ما من الكشف عن الحكم الواقعي ، فهذه الطرق لها كشف ظنّي تكويني إلا أنّه غير تامّ ، بحيث لا يصل إلى درجة الكشف التامّ كما هو الحال في القطع.

ثمّ إنّ الشارع يحكم على طبق هذا الطريق الظنّي حكما يلزم المكلّف بالتصرّف على وفقه والجري العملي على طبق هذا الطريق. وهذا الحكم الذي يقوم به الشارع هو جعل الحجيّة لهذا الحكم الظاهري ، والطريق الظنّي الكاشف والحجيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل التي تنالها يد التشريع رفعا ووضعا. وحينئذ يقال : إنّ الشارع جعل الحجيّة للحكم الظاهري الذي هو طريق وأمارة على الواقع ، فالطريق يسمّى بالأمارة والحكم الظاهري يسمّى بالحجيّة ، فخبر الثقة تارة يقال : إنّه

ص: 101

أمارة بلحاظ كونه طريقا ، وأخرى يقال : إنّه حكم ظاهري بلحاظ كونه حجّة.

والقسم الآخر : الأحكام الظاهريّة التي تجعل لتقرير الوظيفة العمليّة تجاه الحكم المشكوك ، ولا يراد بها إحرازه ، وتسمّى بالأصول العمليّة.

القسم الثاني من الأحكام الظاهريّة هو الأحكام الظاهريّة المجعولة لأجل تحديد الموقف العملي وتقرير الوظيفة العمليّة اتّجاه الواقع المشكوك ، فليس فيها أي كشف ظنّي عن الواقع ، ولا تفترض وجود طريق كاشف عن الواقع ولو ظنّيا ؛ لأنّه لا يراد من جعلها إحراز الواقع ، بل المراد تحديد الموقف فقط ، فهي إمّا أن تكون مثبتة للتنجيز كالاحتياط ، أو تكون مثبتة للتأمين كالبراءة.

وهذه الأحكام الظاهريّة تسمّى بالأصول العمليّة ، فالبراءة مثلا يقال : إنّها أصل عملي مؤمّن للواقع المشكوك.

ومن هنا ظهر أنّه يوجد فرق بين الأمارات والأصول مع كونهما حكمين ظاهريين ، ولذلك من حقّنا أن نتساءل عن وجه الفرق بينهما والذي على أساسه كانت الأمارات محرزة للواقع بخلاف الأصول مثلا. وللإجابة على ذلك هنا عدّة اتّجاهات منها :

ويبدو من مدرسة النائيني قدس سره (1) التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري ، فإن كان المجعول هو الطريقيّة والكاشفيّة دخل المورد في الأمارات ، وإذا لم يكن المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متّجها إلى إنشاء الوظيفة العمليّة دخل في نطاق الأصول.

فرّقت مدرسة المحقّق النائيني بين الأمارات والأصول على أساس ما هو المجعول في كلّ منهما.

فإن كان المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة دخل هذا الحكم الظاهري تحت عنوان الأمارات. وإن كان المجعول الاعتباري فيه مجرّد

ص: 102


1- يبدو أنّ التفاصيل المنسوبة هنا إلى مدرسة المحقّق النائيني حصيلة ما جاء في مصادر عديدة ، وإن كان كلّ واحد منها غير خال عن الغموض والتشويش ، بل المغايرة أحيانا في جوانب تلك التفاصيل. انظر بهذا الصدد : أجود التقريرات 2 : 78 و 416، ومصباح الأصول 2 : 104 - 106 و 3 : 154.

إنشاء الوظيفة العمليّة وتحديد ما هو الموقف العملي كان المورد من الأصول.

مثال الأوّل خبر الثقة الكاشف كشفا تكوينيّا ناقصا عن الواقع ، فجعل الحجيّة له هو بلحاظ كاشفيّته وطريقيّته وتتميم هذا الكشف الناقص عن الواقع إلى الكشف التامّ اعتبارا وتعبّدا ، فكان المجعول هو الكاشفيّة والطريقيّة ولذلك فخبر الثقة من الأمارات ؛ لأنّه طريق.

ومثال الثاني البراءة والاحتياط والاستصحاب ، فإنّ المجعول فيها ليس الكاشفيّة والطريقيّة ؛ إذ لا يوجد كشف تكويني فيها ، بل هناك شكّ فقط في الطرفين. وهذا يعني أنّها مجعولة لأجل تحديد الموقف العملي اتّجاه هذا الواقع المشكوك ؛ لأنّ هذا الشاكّ إمّا أن يفعل أو يترك لا محالة ، فهي تحدّد له موقفه ووظيفته العمليّة ولذلك فهي أصول.

ولمزيد توضيح ذكر المحقّق النائيني تقسيم آخر للأصول العمليّة فإنّها تقسّم إلى قسمين ولذلك قال :

وفي هذه الحالة إذا كان إنشاء الوظيفة العمليّة بلسان تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، أو تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي لا الإحرازي فالأصل تنزيلي أو أصل محرز ، وإذا كان بلسان تسجيل وظيفة عمليّة محدّدة بدون ذلك فالأصل عملي صرف.

مقدّمة : إنّ العلم الوجداني له جوانب أربعة :

1 - الاستقرار والإذعان النفسي بحيث لا ريب ولا شكّ عند النفس.

2 - الكشف التامّ عن الواقع بنحو لا يعتريه ريب ولا شكّ.

3 - الجري العملي على طبق ما انكشف وما علم كالبعث والتحريك أو الزجر.

4 - المنجزيّة والمعذريّة فهو يدخل التكليف في العهدة في صورة الإلزام ، ويؤمّن عنه في صورة قيامه على الترخيص والإباحة.

وعلى هذا الأساس ذكرت مدرسة الميرزا وجه التفرقة بين الأمارات والأصول من جهة ، وبين الأصول التنزيلية والمحرزة والأصول المحضة الصرفة من جهة أخرى.

ففي الأمارات يكون المجعول في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة ، ولذلك فهي طريق إلى الواقع.

ص: 103

وأمّا في موارد الأصول فالمجعول فيها أحد نحوين :

فتارة يكون إنشاء الوظيفة العمليّة بلسان تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، فهو أصلي تنزيلي.

وتوضيحه : أنّ الاستصحاب للحالة السابقة كالوجوب أو الحرمة يقال فيه : أنّ الشارع نزّل مؤدّى الاستصحاب وهو الحكم المستصحب كالوجوب أو الحرمة منزلة الواقع بلحاظ الجري العملي ، فكأنّ الحرمة أو الوجوب ثابتين واقعا فهما يتطلّبان ويستدعيان بعثا وتحريكا في الوجوب وزجرا وتركا في الحرمة. فالمجعول هنا هو الجري العملي على أساس أنّ المؤدّى منزّل اعتبارا وتعبّدا منزلة الحكم الواقعي.

وهنا صورة أخرى لهذا التنزيل وهو أن يكون بلسان تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي أيضا لا في الجانب الإحرازي.

وتوضيحه : ما يقال أيضا بالنسبة للاستصحاب : من أنّ الشارع نزّل نفس الاستصحاب الذي هو أصل عملي منزلة الواقع ، أو نزّل الاحتمال المقوّم لهذا الاستصحاب وهو الحيثيّة الكاشفة فيه عن البقاء وهي : ( غلبة أنّ ما يوجد يبقى ) منزلة الواقع بلحاظ الجانب العملي أيضا لا بلحاظ الإحراز والكشف عن الواقع.

فالمجعول هنا هو الجري العملي أيضا على أساس تنزيل نفس الأصل أو الأصل المقوّم له منزلة الواقع. وهاتان الصورتان يطلق عليهما الأصل العملي المحرز أو الأصل العملي التنزيلي ، حيث يكون المجعول فيه هو الجري العملي. وأخرى يكون إنشاء الوظيفة العمليّة من دون تنزيل أصلا لا للمؤدّى ولا لنفس الأصل ولا للاحتمال المقوّم ، وإنّما يلاحظ فيه موضوعيّة الشك ، في الواقع وعلاجه على أساس تحديد الموقف والوظيفة أمام هذا الواقع المشكوك. فهذا الأصل يسمّى بالأصل العملي الصرف أو المحض حيث لا يوجد فيه تنزيل أصلا ، فالمجعول هنا هو المنجّزيّة والمعذّريّة فقط.

وهذا يعني أنّ الفرق بين الأمارات والأصول ينشأ من كيفيّة صياغة الحكم الظاهري في عالم الجعل والاعتبار.

هذا إيراد على ما ذكرته مدرسة الميرزا من أنّ الفرق بين الأمارات والأصول إنّما هو في كيفيّة صياغة الحكم الظاهري المجعول في الأمارة والأصل ، وهذه التفرقة إنّما هي

ص: 104

بلحاظ عالم الدلالة التي هي عالم الإثبات والصياغة والإنشاء ، ومن المعلوم أنّ الفرق الظاهري الإثباتي يكون ناشئا من وجود فرق حقيقي ثبوتي واقعي. وهذا لم يبرزه هذا التحليل المذكور حيث لم يبيّن جوهر الفرق بينهما. ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن التحقيق : أنّ الفرق بينهما أعمق من ذلك ، فإنّ روح الحكم الظاهري في موارد الأمارة مختلف عن روحه في موارد الأصل بقطع النظر عن نوع الصياغة ، وليس الاختلاف الصياغي المذكور إلا تعبيرا عن ذلك الاختلاف الأعمق في الروح بين الحكمين.

التحقيق في بيان حقيقة الفرق بين الأمارات هو أنّ روح وجوهر الحكم الظاهري المجعول في موارد الأمارات يختلف عنه في موارد الأصول ، سواء كانت الصياغة الاعتباريّة في الأوّل جعل الكاشفيّة والطريقيّة أم لا ، وسواء كانت بلحاظ المنجّزيّة والمعذّريّة والجري العملي في الثاني أم لا ؛ لأنّ هذه مجرّد صياغات اعتبارية تكشف عن فارق جوهري بين الموردين وليست هي نفسها الفارق ، بل هي تعبير عنه ، أي أنّ الاختلاف الظاهري في الصياغة بين الموردين نشأ من وجود اختلاف في الروح والجوهر.

وتوضيح ذلك : أنّا عرفنا سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة مردّها إلى خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوع منها ضمان الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر ، وكلّ ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند المكلّف ، وعدم تمييزه المباحات عن المحرّمات مثلا.

تقدّم آنفا أنّ الأحكام الظاهريّة عبارة عن خطابات شرعيّة صادرة من المولى لأجل تعيين الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فإنّه في صورة الاشتباه والشكّ في الحكم الواقعي معناه وجود طرفين يستدعي كلّ منهما متطلّبات متغايرة عن الآخر ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في مقام الامتثال وبحيث لا يمكن الحفاظ عليهما جميعا ، بل إنّ الحفاظ على أحدهما يستدعي فوات الآخر. ولذلك فإنّ المولى يبرز بهذا الحكم الظاهري الأهمّ الواقعي عنده ، وهذا واضح. وحينئذ عند ما يريد الشارع أن يصدر خطابا لتعيين الملاك الأهمّ فهو يلاحظ هذه الأهميّة ضمن إحدى صور ثلاث ، وهي :

ص: 105

والأهميّة التي تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقا لها : تارة تكون بلحاظ الاحتمال ، وأخرى بلحاظ المحتمل ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

فالشارع عند ما يلاحظ الأهمّ من الملاكات الواقعيّة والتي على أساسها يجعل الحكم الظاهري أمامه أنحاء ثلاثة :

تارة تلاحظ الأهميّة بطرف الاحتمال الكاشف عن الواقع.

وأخرى تلاحظ الأهميّة بلحاظ نفس المحتمل وهو الحكم والمؤدّى.

وثالثة بلحاظ كلا الأمرين أي الاحتمال الكاشف والمحتمل الذي هو الحكم.

وتوضيح ذلك :

فإنّ شكّ المكلّف في الحكم يعني وجود احتمالين أو أكثر في تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذ فإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر وجعل الحكم الظاهري وفقا لها ؛ لقوّة احتمالها وغلبة مصادفته للواقع بدون أخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار ، فهذا هو معنى الأهميّة بلحاظ الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدّم أمارة ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهري لسان جعل الطريقيّة أو وجوب الجري على وفق الأمارة.

القسم الأوّل : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ الاحتمال ، حيث يقال إنّ المكلّف الشاكّ في الحكم يعني وجود احتمالين أو احتمالات عنده ، فهو إمّا أن يحتمل الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، فهذا الواقع المشكوك يحتمل كونه واجبا ويحتمل كونه مباحا ويحتمل كونه محرّما. وحينئذ فالشارع عند ما يريد أن يجعل حكما ظاهريّا لأجل إبراز ما هو الأهمّ من الملاكات والمبادئ واقعا ، فهذا الحكم الظاهري قد يجعله وينشئه بلحاظ قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع الموجود بهذا الحكم الظاهري وغلبة مطابقته للواقع وقلّة الخطأ فيه ، بقطع النظر عن نوعيّة الحكم والمحتمل الذي يحكي عنه هذا الحكم الظاهري ، فكان الترجيح لأجل الاحتمال وقوّته فقط.

فهذا النحو من الأحكام الظاهريّة يسمّى بالأمارات ، مثال ذلك : خبر الثقة الذي هو حكم ظاهري ، فعند ما يجعل الشارع الحجيّة لهذا الخبر فهو إنّما جعلها بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الواقع الموجودة في الخبر ؛ لأنّه يفيد الظنّ أو الاطمئنان.

فالغالب فيه أن يكون مصيبا للواقع ، ولذلك رجّح الشارع هذا الاحتمال واعتبره

ص: 106

كاشفا وحجّة وعلما وطريقا إلى الواقع بسبب قوّة هذا الاحتمال ، بقطع النظر عن الحكم الذي يحكي عنه الثقة فإنّه غير مأخوذ بعين الاعتبار ؛ لأنّ خبر الثقة تارة يحكي عن الوجوب وأخرى عن الحرمة وثالثة عن الترخيص والإباحة وهكذا. فهناك أنواع مختلفة من الأحكام يخبر عنها الثقة وكلّها لم تكن ملاحظة عند جعل الحجيّة له ، بل كان الملاحظ فيه قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع وغلبة المطابقة. وحينئذ لا يضرّنا الصياغة الإنشائيّة التي يبرزها الشارع ، سواء كانت بلسان جعل العلميّة والكاشفيّة والطريقيّة ، أو بلسان الجري العملي ، أو بلسان التنزيل فإنّها مجرّد إنشاءات فقط.

وإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر لأهميّة المحتمل بدون دخل لكاشفيّة الاحتمال في ذلك كان الحكم من الأصول العمليّة البحتة ، كأصالة الإباحة وأصالة الاحتياط الملحوظ في أحدهما أهميّة الحكم الترخيصي المحتمل ، وفي الآخر الحكم الإلزامي المحتمل ، بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهري لسان تسجيل وظيفة عمليّة أو لسان جعل الطريقيّة.

القسم الثاني : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ قوّة المحتمل ، بأن يكون لنوعيّة الحكم درجة من الأهميّة بسببها يجعل الشارع الحكم الظاهري من دون ملاحظة نوع الاحتمال ومدى درجة كاشفيّته عن الواقع ، فإنّه لا مدخليّة لذلك. وإنّما الشارع لاحظ المؤدّى والحكم الذي يحكي عنه هذا الحكم الظاهري فجعله حجّة من قبيل أصالة الإباحة ، حيث إنّ الحكم الذي تحكي عنه هو الإباحة والترخيص ، فهذا النوع كان له أهميّة بنظر الشارع لأجل إصدار الحكم الظاهري ليجعل الحجيّة لهذه الإباحة عند الشكّ في الإباحة والحرمة أو الإباحة والوجوب ، فيكون كاشفا؟

هذا الحكم الظاهري عن كون الملاكات والمبادئ الواقعيّة الأهمّ عند الشارع هي ملاكات الترخيص والإباحة بأن كانت ذات ملاك اقتضائي يترجّح على ملاكات الإلزام.

وكذلك بالنسبة لأصالة الاحتياط الملحوظ فيها عند جعل الحكم الظاهري هو قوّة المحتمل وهو الحكم الإلزامي الذي تحكي عنه بحيث يكون الأهمّ بنظر الشارع هو ملاكات الوجوب أو الحرمة عند الاشتباه بين الوجوب والإباحة أو بين الحرمة

ص: 107

والترخيص ، وهذا معناه أنّ ملاكات الحرمة والوجوب كانت أهمّ من ملاكات الإباحة والترخيص.

وهذا النحو يسمّى بالأصول العمليّة البحتة والمحضة والصرفة.

ولا فرق في ذلك سواء كان لسان جعلها وإنشائها لسان تحديد الموقف العملي وتسجيل الوظيفة العمليّة أو كان بلسان جعل الطريقيّة والكاشفيّة والعلميّة أو بلسان الجري العملي والتنزيل ، فإنّها لا تضرّ ما دامت صياغات اعتباريّة إنشائيّة فقط.

وإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر بلحاظ كلا الأمرين من الاحتمال والمحتمل ، كان الحكم من الأصول العمليّة التنزيليّة أو المحرزة ، كقاعدة الفراغ.

القسم الثالث : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا بأن يكون لقوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الواقع مضافا إلى نوعيّة المحتمل الذي تحكي عنه مدخليّة في جعل الحكم الظاهري. ومثاله : قاعدة الفراغ فإنّ الملحوظ فيها أمران :

الأوّل : قوّة الاحتمال والكاشفيّة ، وهو غلبة التذكّر والانتباه والالتفات أثناء العمل إلى ما يقوم به من أفعال وأنّها على وجهها الصحيح أكثر ممّا بعد الانتهاء والفراغ منه. وهذا يعني أنّه بعد الفراغ من العمل يوجد كاشف قوي على أنّه قد أتى بالعمل على وجهه المأمور به.

والثاني : قوّة المحتمل ، وهو كون هذا العمل قد فرغ منه وتمّ ولذلك لا تجري قاعدة الفراغ أثناء العمل لو كان الشكّ في الأثناء ، بل يحكم بلزوم الإعادة.

فهناك حيثيّتان موجودتان في قاعدة الفراغ إذا وجدتا معا كانت القاعدة حجّة وإذا انتفت إحدى الحيثيّتين تنتفي الحجيّة. وهكذا الحال بالنسبة للاستصحاب.

فهناك جانب قوّة الاحتمال والكاشفيّة وهي غلبة أنّ ما وجد يبقى ، وجانب قوّة المحتمل وهو أركان هذه القاعدة من وجود يقين وشكّ وقضيّة متيقّنة مشكوكة وأثر عملي ، أو هو الحالة السابقة نفسها. فإنّ الاحتمال الكاشف عن البقاء له دور في جعل الحجيّة للاستصحاب وكذلك تماميّة أركان القاعدة ، فإذا انتفى أحد الجانبين لم يكن الاستصحاب حجّة. وهذا النحو يسمّى بالأصول العمليّة التنزيليّة أو بالأصول العمليّة المحرزة ؛ وذلك لوجود جهة الكاشفيّة والاحتمال ووجود جهة المحتمل

ص: 108

والمنكشف فيها ، سواء كان لسان جعلها الطريقيّة أو التنزيل للمؤدّى أو لنفس الاحتمال أو لنفس الأصل.

وبهذا اتّضح الفارق الحقيقي والجوهري بين الأمارات والأصول من جهة وبين الأصول المحضة والأصول المحرزة أو التنزيليّة من جهة أخرى ، سواء كانت الصياغة الإنشائيّة الطريقيّة والعلميّة أو التنزيل أو الوظيفة العمليّة بالترتيب أو بالاختلاف.

نعم ، الأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهري بلسان جعل الطريقيّة. والأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة المحتمل أن يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أنّ هذا الاختلاف الصياغي هو جوهر الفرق بين الأمارات والأصول.

وجه الأنسبيّة هو أنّ هناك توافقا بين عالم الإثبات وعالم الثبوت ، فإنّ الطريقيّة تتوافق مع الترجيح بقوّة الاحتمال لأنّ الاحتمال طريق كاشف. وتسجيل الوظيفة العمليّة وتحديد الموقف العملي يتناسب ويتوافق مع الأصول المحضة التي يكون الترجيح فيها بلحاظ نوع المحتمل حيث لم يؤخذ فيها ملاحظة الكاشفيّة وعدمها. والتنزيل للمؤدّى أو الأصل أو للاحتمال المقوّم يتناسب ويتوافق مع الترجيح بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

إلا أنّ هذا الاختلاف في الصياغة ليس هو جوهر الفرق ، وإنّما هو كاشف عن الفارق الجوهري الثبوتي الواقعي.

ص: 109

ص: 110

التنافي بين الأحكام الظاهريّة

ص: 111

ص: 112

التنافي بين الأحكام الظاهريّة

عرفنا سابقا (1) أنّ الأحكام الواقعيّة المتغايرة نوعا - كالوجوب والحرمة والإباحة - متضادّة ، وهذا يعني أنّ من المستحيل أن يثبت حكمان واقعيّان متغايران على شيء واحد ، سواء علم المكلّف بذلك أو لا ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين في الواقع.

تقدّم فيما سبق أنّ الأحكام الواقعيّة المتغايرة لا يمكن اجتماعها على شيء واحد ؛ وذلك لأنّها متضادّة فيما بينها ، فلا يمكن أن يكون هناك وجوب وإباحة أو حرمة وإباحة أو وجوب وحرمة على متعلّق واحد ؛ لأنّ هذه الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها بحسب المبادئ والملاكات ، ولذلك لا يمكن أن يتصوّر شيء واحد فيه مصلحة ومفسدة أو يكون محبوبا ومبغوضا في آن واحد.

وهذه الاستحالة لا يفرّق فيها بين العالم والجاهل ؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة لهما معا كما تقدّم سابقا من قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، فسواء علم بوجود حكمين متغايرين أو لم يعلم بذلك فإنّ الاستحالة ثابتة على كلّ حال ؛ لأنّها واقعيّة وليست تابعة لعلم المكلّف أو جهله ، فجهله باجتماع الحكمين المتغايرين لا يدفع هذه الاستحالة ، كما أنّ علمه بذلك لا يثبت الاستحالة أيضا ، بل الاستحالة ثابتة في الحالين ؛ لأن موضوعها ثابت واقعا وهو الأحكام التكليفيّة المتغايرة بحسب الفرض. وهذا واضح.

والسؤال هنا : هو أنّ اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعا هل هو معقول أو لا؟ فهل يمكن أن يكون مشكوك الحرمة حراما ظاهرا أو مباحا ظاهرا في نفس الوقت؟

ص: 113


1- الحلقة الثانية ، ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

والسؤال هنا : هو أنّ الاستحالة المذكورة هل هي مختصّة بالأحكام الواقعيّة أو أنّها تشمل أيضا الأحكام الظاهريّة؟ فلا يمكن اجتماع الحرمة والإباحة الظاهريّين أيضا ، أو أنّه يعقل اجتماعهما ظاهرا بأن يكون مشكوك الحرمة حراما ومباحا ظاهرا؟ حيث إنّ مورد الأحكام الظاهريّة هو الشكّ ، ففي حال الشكّ في الواقع هل يمكن أن يكون هناك حكمان ظاهريّان على هذا الشيء المشكوك متغايران نوعا أو لا يمكن ذلك؟

والجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعيّة.

فالإجابة تختلف هنا إمكانا واستحالة بحسب اختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري وحقيقته ، حيث تقدّم عند التوفيق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي وجود عدّة مبان ، كالمسلك القائل بأنّ الحكم الظاهري هو جعل الحكم المماثل ، وكمسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة والعلميّة ، وكذلك هناك مبان للتوفيق بينهما كالقول بأنّ الحكم الظاهري حكم وضعي المجعول فيه الطريقيّة والكاشفيّة ، وكالقول : إنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ في متعلّقه وإنّما في نفس جعله ، فلا بدّ أن تختلف النتيجة باختلاف المبنى ولذلك نقول :

فإن أخذنا بوجهة النظر القائلة بأنّ مبادئ الحكم الظاهري ثابتة في نفس جعله لا في متعلّقه أمكن جعل حكمين ظاهريّين بالإباحة والحرمة معا على شرط أن لا يكونا واصلين معا ، فإنّه في حالة عدم وصول كليهما معا لا تنافي بينهما لا بلحاظ نفس الجعل ؛ لأنّه مجرّد اعتبار ، ولا بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مركزها ليس واحدا ، بل مبادئ كلّ حكم في نفس جعله لا في متعلّقه ، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ؛ لأن أحدهما على الأقلّ غير واصل فلا أثر عملي له. وأمّا في حالة وصولهما معا فهما متنافيان متضادان ؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن.

بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه اللّه من أنّ مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي. وبناء على ما ذكره من أنّ التضادّ إنّما يكون بلحاظ المبدأ في عالم المبادئ أو بلحاظ المنتهى أي بلحاظ التنجيز ، فعلى هذا المسلك يمكن تصوير اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعا كالحرمة والاباحة ، ولكن بشرط ألاّ يكونا واصلين معا إلى المكلّف. وتوضيح ذلك : إنّ الشارع

ص: 114

بناء على هذا المسلك يمكنه إصدار الحكمين الظاهريّين كالحرمة والإباحة على الواقعة المشكوكة ، ولكن يأخذ شرطا لئلا يصلا معا إلى المكلّف بأن يجعلا بنحو الترتيب مثلا ، فإنّه في هذه الحالة لا يكون هناك تضادّ بينهما لا بلحاظ عالم الجعل ولا بلحاظ المبادئ ولا بلحاظ الامتثال والمتطلّبات.

أمّا عالم الجعل فلما تقدّم من أنّه مجرّد اعتبار وصياغة إنشائيّة ، ولذلك لا مانع من وجود حكمين واقعيّين جعلا واعتبارا فضلا عن الحكمين الظاهريّين.

وأمّا عالم المبادئ فلأنّ مبادئ كلّ واحد من الحكمين في نفس جعله وتشريعه ، وهذا يعني أنّ مبادئ الحرمة في نفس جعلها ومبادئ الإباحة في نفس جعلها. وجعل الإباحة يختلف عن جعل الحرمة ولذلك لكلّ منهما مصبّ يختلف عن الآخر ، فلم تجتمع مبادئ الحرمة ومبادئ الإباحة ؛ لعدم وجود مصبّ مشترك بينهما ؛ لاختلاف الجعل فيهما. والمفروض أنّ المبادئ بناء على هذا المسلك ليست في المتعلّق أي الواقع المشكوك ليلزم اجتماعهما بلحاظه.

وأمّا عالم الامتثال والمنجّزيّة والمعذّريّة فإنّ وجود الشرط المذكور يحول دون اجتماعهما ؛ لأنّه في حالة عدم وصولهما معا إمّا ألاّ يكون شيء منهما واصلا ، أو يكون أحدهما فقط هو الواصل ، فعلى الأوّل لا يلزم المكلّف شيء لعدم وجود شيء منهما ظاهرا بحقّه ، وعلى الثاني سوف يكون أحدهما واصلا فقط. وبالتالي نثبت له المنجّزيّة إن كان الواصل الحرمة ويحكم العقل بلزوم امتثالها ، أو نثبت المعذّريّة إن كان الواصل هو الإباحة ويحكم العقل بالمؤمّنيّة والمعذّريّة. فليس هناك إلا أثر عملي واحد واصل إلى المكلّف.

وبهذا ظهر أنّه يمكن اجتماع حكمين ظاهريّين معا ولا يلزم من ذلك التضادّ ولكن بشرط عدم وصولهما معا (1).

وأمّا في حالة وصولهما معا إلى المكلّف فلا تضادّ بينهما لا في عالم الجعل ولا في عالم المبادئ ، وإنّما يحصل التضادّ بينهما في عالم الامتثال ؛ وذلك لأنّ متطلّبات

ص: 115


1- بل لا يمكن وصولهما معا ؛ لأنّ وصولهما معا يعني انتفاء شرط جعل كلّ منهما ؛ لأنّ المفروض أنّ كلا منهما مشروط بعدم وصول الآخر فإذا وصل الآخر انتفى الأوّل ، والمقرر أنّ الأوّل واصل فينتفي الثاني ، ففي مرتبة حصولهما لا يكونان مجعولين أصلا.

الحرمة العمليّة تتنافى مع متطلّبات الإباحة ، حيث إنّ كلاّ منهما يستدعي تصرّفا مغايرا ومضادّا للآخر. مضافا إلى أنّهما متضادّان أيضا بلحاظ استحقاق العقوبة على الترك وعدمه ، فإنّ الحرمة تستلزم استحقاق العقوبة بخلاف الإباحة ، فإنّ الفعل والترك فيها سيّان. وكذلك فهما متضادّان على كلّ تقدير في نظر المكلّف.

وأمّا على مسلكنا في تفسير الأحكام الظاهريّة وأنّها خطابات تحدّد ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة المختلطة ، فالخطابان الظاهريّان المختلفان - كالإباحة والمنع - متضادّان بنفسيهما ، سواء وصلا إلى المكلّف أو لا ؛ لأنّ الأوّل يثبت أهميّة ملاك المباحات الواقعيّة ، والثاني يبيّن أهميّة ملاك المحرّمات الواقعيّة ، ولا يمكن أن يكون كلّ من هذين الملاكين أهمّ من الآخر كما هو واضح.

وأمّا بناء على المسلك المختار من أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف لها ، فهنا لا يمكن جعل خطابين ظاهريّين متغايرين كالإباحة والمنع ، سواء وصلا أم لم يصلا أو وصل أحدهما. والدليل على ذلك : أنّ الإباحة الظاهريّة معناها أنّ الملاكات الترخيصيّة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع دون غيرها. أمّا المنع الظاهري فهو يثبت أنّ ملاكات الحرمة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع. وهذا يعني أنّه في مورد واحد وهو الواقعة المشكوكة يثبت أنّ الأهمّ هو الإباحة الواقعيّة وأنّ الأهمّ هو الحرمة الواقعيّة من حيث الملاكات والمبادئ ، وهذا مستحيل صدوره من الشارع ، سواء وصل إلى المكلّف شيء منهما أو لم يصل أصلا.

فإنّ تشريع ذلك من الشارع محال ، ووجه الاستحالة أنّ أحدهما يكذّب الآخر وينفيه التزاما ؛ إذ الإباحة تدلّ بالمطابقة على ثبوت الملاكات الترخيصيّة وأنّها الأهمّ وبالالتزام على نفي شيء آخر ، والحرمة بالعكس فيقع التكاذب والتنافي بينهما من حيث المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي في كلّ منهما.

ولذلك فالمقصود من التضادّ هنا ليس المصطلح المنطقي من اجتماع شيئين على موضوع واحد ، وإنّما المقصود هنا هو أن كلّ واحد منهما يكذّب الآخر وينفيه.

وبذلك يتّضح أنّ التضادّ يقع بينهما في مرتبة سابقة عن الوصول فلا ينفع القيد المذكور سابقا في رفع هذه الاستحالة.

ص: 116

وظيفة الأحكام الظاهريّة

ص: 117

ص: 118

وظيفة الأحكام الظاهريّة

وبعد أن اتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لضمان ما هو الأهمّ من الأحكام الواقعيّة ومبادئها ، وليس لها مبادئ في مقابلها ، نخرج من ذلك بنتيجة وهي : أنّ الخطاب الظاهري وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعيّة المشكوكة ، فهو ينجّز تارة ، ويعذّر أخرى.

الثمرة والفائدة من الأحكام الظاهريّة بعد أن عرفنا أنّها خطابات لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند الاشتباه والشكّ والاختلاط وعدم التمييز ، والذي معناه كما قلنا أنّه ليس فيها مبادئ مستقلّة عن الحكم الواقعي ، هي أنّ الأحكام الظاهريّة وظيفتها التنجيز والتعذير فقط بمعنى أنّها تارة تؤدّي إلى تنجيز الأحكام الواقعيّة عند ما يكون مفادها إبراز الملاكات الإلزاميّة الواقعيّة وكونها الأهمّ ، وأخرى تؤدّي إلى التعذير والتأمين عند ما يكون مفادها أنّ الملاكات الترخيصيّة الواقعيّة هي الأهمّ.

فخبر الثقة مثلا والبراءة والاحتياط تؤدّي إلى التنجيز والتعذير بإبراز الملاك الواقعي الأهمّ ، ولذلك تكون المنجّزيّة والمعذّريّة من شئون الحكم الواقعي والعقل يحكم بهما تبعا للمبادئ الموجودة فيه دون الأحكام الظاهريّة ، فإنّه لا منجّزيّة ولا معذّريّة لها ؛ إذ لا مبادئ فيها ليحكم العقل بلزوم اتّباعها وإطاعتها ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وليس موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعيّة ؛ لأنه ليس له مبادئ خاصّة به وراء مبادئ الأحكام الواقعيّة ، فحين يحكم الشارع بوجوب الاحتياط ظاهرا يستقلّ العقل بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل واستحقاق العقاب على عدم التحفّظ عليه وعلى مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو.

فالأحكام الظاهريّة ليست موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ؛

ص: 119

لأنّ العقل إنّما يحكم بلزوم الإطاعة والامتثال عند ما يكون هناك تكليف مولوي له مبادئ وملاكات ، والمفروض أنّ الأحكام الظاهريّة ليس لها مبادئ خاصّة زائدة عن ملاكات الحكم الواقعي ، فليس هناك تنجيز وتعذير في مقابل الأحكام الواقعيّة ، بل تنجيزها يثبت لأجل منجّزيّة الأحكام الواقعيّة. ففي الحقيقة المنجّزيّة ثابتة للحكم الواقعي والحكم الظاهري كشف عنها فقط وأبرزها ، ولذلك فحكم العقل بالإطاعة والامتثال إنّما هو بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي التي أبرزها الحكم الظاهري ، واستحقاق العقاب على المخالفة واستحقاق الثواب على الإطاعة إنّما هو لأجل الحكم الواقعي لا للحكم الظاهري.

فالاحتياط مثلا حينما يحكم به الشارع ظاهرا إنّما يحكم به لأجل إبراز أنّ ملاكات الإلزام كالوجوب أو الحرمة هي الأهمّ بنظر الشارع ، وعندئذ يستقلّ العقل بالحكم بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل أو الحرمة المحتملة لا على الوجوب الظاهري أو الحرمة الظاهريّة ؛ إذ لا مبادئ ولا ملاكات مستقلّة للحكم الظاهري. ويحكم العقل أيضا باستحقاق العقاب أو الثواب عند المخالفة أو الموافقة لهذا التحفّظ ، فإذا ترك التحفّظ استحقّ العقاب على تركه وإذا قام بالتحفّظ استحقّ الثواب ، وليس هذا الاستحقاق لأجل مخالفة أو امتثال نفس الحكم بالوجوب والاحتياط الظاهري ؛ إذ لا ملاكات ولا مبادئ لهذا الاحتياط الظاهري ليكون موضوعا مستقلا لحكم العقل بالعقاب أو الثواب.

وهذا معنى ما يقال : من أنّ الأحكام الظاهريّة طريقيّة لا حقيقيّة ، فهي مجرّد وسائل وطرق لتسجيل الواقع المشكوك وإدخاله في عهدة المكلّف ، ولا تكون بنفسها موضوعا مستقلا للدخول في العهدة ؛ لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها.

والحاصل أنّ الأحكام الظاهريّة ليست إلا وسائل وطرق لأجل إبراز الملاك الواقعي الأهمّ وإدخاله في عهدة المكلّف وتسجيله على ذمّته بحيث يصبح مطالبا بهذا الواقع تنجيزا أو تعذيرا ؛ لأنّ هذا الواقع هو تمام الموضوع لحكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة واستحقاق العقاب والثواب ؛ لأنّ حكم العقل بذلك تابع لحقّ الطاعة والذي مصبّه ما تعلّقت به إرادة الشارع وما يكون محبوبا أو مبغوضا للشارع ، وهو الحكم الواقعي المشتمل على الملاكات والمبادئ دون الحكم الظاهري لخلوه عن الملاكات والمبادئ في

ص: 120

نفسه ، ولذلك لا يكون موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بدخول التكليف في العهدة.

ولهذا فإنّ من يخالف وجوب الاحتياط في مورد ويتورّط نتيجة لذلك في ترك الواجب الواقعي لا يكون مستحقّا لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعي ووجوب الاحتياط الظاهري ، بل لعقاب واحد ، وإلا لكان حاله أشدّ ممّن ترك الواجب الواقعي وهو عالم بوجوبه.

وبناء على أنّ الأحكام الظاهريّة مجرّد طرق ووسائل وليست موضوعا مستقلا لحكم العقل بالإطاعة واستحقاق العقاب على المخالفة لا يكون مستحقّا لعقابين فيما لو خالف الإلزام الظاهري ، كأن قام الحكم الظاهري على وجوب فعل ما فتركه المكلّف ، فإنّه لا يكون بهذه المخالفة مستحقّا لعقابين أحدهما على مخالفة الإلزام والوجوب الظاهري والآخر على مخالفة الوجوب الواقعي لو فرض مطابقة هذا الحكم الظاهري للواقع وكان الوجوب ثابتا واقعا ، بل يستحقّ عقابا واحدا فقط على تركه التحفّظ فقط عن الوجوب الواقعي المحتمل ؛ وذلك لأنّه لا يوجد مبادئ مستقلّة للحكم الظاهري ليعاقب على تركها.

والقول بأنّه يستحقّ عقابين كذلك مع عدم وجود مبادئ مستقلّة للحكم الظاهري يعني أنّ حاله أسوأ وأشدّ ممّن علم بالحكم الواقعي وخالفه ؛ إذ مع العلم بالواقع ومخالفته يستحقّ عقابا واحدا ، بينما هذا الذي يجهل الواقع وقام عنده أمارة أو أصل على التنجيز يكون مستحقّا لعقابين. فيكون الجاهل المخالف أسوأ حالا من العالم المخالف ، وهذا واضح الفساد (1).

وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي أحكام حقيقيّة لا طريقيّة ، بمعنى أنّ لها مبادئ خاصّة بها ، ومن أجل ذلك تشكّل موضوعا مستقلاّ للدخول في العهدة ، ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق العقاب على مخالفتها.

فحاصل الكلام في الأحكام الظاهريّة أنّها طرق ووسائل فقط ليس لها مبادئ وليست موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بالإطاعة والامتثال والتنجيز ودخول التكليف في عهدة المكلّف ، بل هي مجرّد وسائط بين حكم العقل وبين الحكم الواقعي بمعنى

ص: 121


1- مضافا إلى أنّه يلزم إناطة العقاب على المطابقة للواقع والتي هي خارجة عن قدرة المكلّف ، فيكون معاقبا على شيء غير قادر عليه ، وهو قبيح عقلا.

أنّها تبرز الحكم الواقعي الأهمّ والذي على أساسه يحكم العقل بالإطاعة واستحقاق العقاب على الترك والمخالفة.

وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي أحكام حقيقيّة لها مبادئ مستقلّة بها وتكون موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقاب والثواب ، ولدخول التكليف في ذمّة المكلّف وعهدته بحيث يكون مسئولا عنه ومطالبا به ، لما تقدّم من أنّ حكم العقل موضوعه المبادئ والملاكات وهي موجودة في الحكم الواقعي ، فالمعذّريّة والمنجّزيّة عقلا تابعة لحقّ الطاعة ، وهو التكليف الذي وقع مصبّا للمبادئ والإرادة والشوق المولوي.

ص: 122

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة

ص: 123

ص: 124

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة

تقدّم (1) أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل ، واتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة تجتمع مع الأحكام الواقعيّة على الجاهل دون منافاة بينهما ، وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري لا يتصرّف في الحكم الواقعي.

عرفنا أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة حتّى في حالة الشكّ ، وهذا معناه اشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم والجاهل فهي ثابتة في كلا الموردين. وعرفنا أيضا أنّ الأحكام الظاهريّة ليست إلا طرق ووسائل ؛ لأجل تسجيل الواقع وإدخاله في عهدة المكلّف من خلال إبرازها لما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة. وعليه ، فلا مانع من اجتماع حكمين واقعي وظاهري متضادّين ، ولا منافاة في ذلك لا في عالم الجعل ولا في عالم المبادئ ولا في عالم الامتثال كما تقدّم. وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري لا يغيّر ولا يبدّل ولا يتصرّف بالحكم الواقعي ، بل هو ثابت دائما حتّى مع الشكّ والجهل فإن وافق الحكم الظاهري الحكم الواقعي فهو وإلا كان معذورا. ومقتضى ذلك أنّ الأحكام الظاهريّة في صورة الخطأ لا توجب الإجزاء ، كما إذا قامت الأمارة أو الأصل على الجواز والترخيص ثمّ تبيّن فيما بعد الخطأ بأن انكشف الواقع للمكلّف وعلم به ، فبناء على ما تقدّم ينبغي الإعادة ولا يكون هناك إجزاء ؛ لأنّ هذه المبادئ الواقعيّة والملاكات لا زالت موجودة والمكلّف لم يحصلها ولم يحقّق الامتثال الموجب لسقوطها.

ولكن هناك من ذهب إلى أنّ الأصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة - كأصالة الطهارة - تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ، بمعنى أنّ الحكم الواقعي بشرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة مثلا يتّسع ببركة أصالة الطهارة فيشمل الثوب المشكوكة

ص: 125


1- في هذه الحلقة ، تحت عنوان : شمول الحكم للعالم والجاهل.

طهارته الذي جرت فيه أصالة الطهارة حتّى لو كان نجسا في الواقع ، وهذا نحو من التصويب الذي ينتج أنّ الصلاة في مثل هذا الثوب تكون صحيحة واقعا ، ولا تجب إعادتها على القاعدة ؛ لأن الشرطيّة قد اتّسع موضوعها.

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى التفصيل بين قسمين من الأحكام الظاهريّة :

1 - الأمارات والأصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة كالبراءة والاحتياط ، فهذه لا تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ، ولذلك فهي على القاعدة إن وافقت الواقع فلا إشكال ، وإن خالفت الواقع وعلم المكلّف بذلك فيما بعد. فإن كان في الأثناء تجب الإعادة ؛ لعدم تحقّق الامتثال والإطاعة واقعا ولبقاء الملاكات والمبادئ على حالها ، فيحكم العقل بوجوب الامتثال ، وإن كان بعد فوات الوقت فالقضاء يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يستفاد من نفس أدلّة الأحكام ؛ لأنّ الزمان بمثابة قيد في الحكم.

2 - الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة كأصالة الحليّة والطهارة والاستصحاب في الموضوعات ، فهذه تتصرّف بالأحكام الواقعيّة. ومعنى التصرّف هو أنّنا لو أخذنا الحكم الواقعي بشرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة أي أنّه يشترط في الصلاة أن تكون بثوب طاهر ، فإنّ هذه الشرطيّة تتّسع ببركة أصالة الطهارة لتشمل الشرطيّة الواقعيّة أي الثوب المعلوم طهارته واقعا ، والشرطيّة الظاهريّة أي الثوب المشكوك الطهارة الذي تجري فيه أصالة الطهارة فإنّه ثوب طاهر ظاهرا فيكون مصداقا للشرطيّة المذكورة. فلو صلّى بهذا الثوب أي الطاهر ظاهرا ثمّ تبيّن فيما بعد أنّه نجس واقعا فإن كان في الأثناء فضلا عن خارج الوقت لا تجب الإعادة ؛ لأنّ الشرطيّة المذكورة قد اتّسعت لتشمل الثوب الطاهر واقعا وظاهرا ، بعد إن كان مقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة في الأثناء.

وهذا نحو من أنحاء التصويب أي كون الأحكام الظاهريّة مصيبة للواقع في خصوص هذا القسم دائما ؛ لأنّ الواقع يتغيّر على وفقها سعة وضيقا.

وتقريب ذلك : أنّ دليل أصالة الطهارة بقوله : ( كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ) يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ؛ لأنّ لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وإيجاد فرد له ، فالشرط موجود إذن.

ص: 126

والدليل على ما ذكره من التوسعة والتصرّف : هو أنّ دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحليّة أو استصحابها يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ، وهذا معناه أنّ شرطيّة طهارة الثوب قد اتّسعت ؛ لأنّ معنى الحكومة إيجاد فرد ومصداق ادّعائي تعبّدي للموضوع ، فدليل أصالة الطهارة يثبت لنا أنّ هذا الثوب المشكوك الذي جرت فيه أصالة الطهارة فرد من أفراد الشرطيّة ومصداق للشرطيّة.

وعليه ، فالمكلّف عند ما دخل في الصلاة بهذا الثوب يكون محقّقا للشرطيّة ؛ لأنّه جاء بفرد من أفرادها وهو الفرد الادّعائي التعبّدي. فالشارع اعتبر هذا الفرد مصداقا والمكلّف قد أتى به ، فلا وجه للإعادة حتّى لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ لأنّه أتى بالمأمور به والإتيان بالمأمور به مسقط للتكليف من حيث الفاعليّة كما سيأتي في محلّه. وهذه التوسعة ثبتت ببركة الحكومة التي هي مفاد لسان دليل الطهارة الذي يدّعي أنّ هذا طاهر.

وليس الأمر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالأمارة فقط (1) ؛ لأنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة ليس جعل الحكم المماثل ، بل جعل الطريقيّة والمنجّزيّة ، فهو بلسانه لا يوسّع موضوع دليل الشرطيّة ؛ لأنّ موضوع دليلها الثوب الطاهر ، وهو لا يقول : هذا طاهر ، بل يقول : هذا محرز الطهارة بالأمارة فلا يكون حاكما.

وأمّا لو كانت طهارة الثوب المشكوك ثابتة بالأمارة من قبيل إخبار الثقة بأنّ هذا الثوب طاهر فهنا لو انكشف الخلاف وتبيّن كون الثوب نجسا فتجب الإعادة في الأثناء ؛ وذلك لأنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة جعل خبر الثقة علما وطريقا كاشفا عن الواقع. وهذا معناه أنّ خبر الثقة يحرز لنا الواقع ولسانه : أنّ هذا الثوب طاهر واقعا ومحرز للطهارة الواقعيّة ، وليس لسانه لسان التوسعة للشرطيّة للأعمّ من

ص: 127


1- إضافة كلمة ( فقط ) لأجل موردين : أحدهما ما إذا كانت الأمارة ثابتة مع أصالة الطهارة في نفس المورد ، فهنا يلحق بالفرض السابق. والآخر ما إذا كانت الواقعة مشكوكة الطهارة ذاتا فيجري الأمارة دون أصالة الطهارة ، أو كانت الواقعة معلومة الطهارة والنجاسة سابقا وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما وقامت الأمارة على أحدهما فإنّهما يتعارضان ويتساقطان ، فتجري الأمارة وحدها فقط.

الثوب الطاهر واقعا والثوب الطاهر ظاهرا ، وإنّما لسانه إيجاد فرد حقيقي ومصداق واقعي للشرطيّة ، فهو يخبرنا عن كون هذا الثوب محرز الطهارة واقعا لا أنّه فرد من أفراد الشرطيّة الأعمّ من الظاهريّة والواقعيّة. والوجه في ذلك أنّ لسان الأمارات لسان الورود وهو معناه إيجاد فرد حقيقي للموضوع ، فالأمارة تدّعي أنّ هذا الثوب المشكوك طاهر واقعا ومصداق حقيقي للطهارة الواقعيّة ، ولذلك إذا أتى المكلّف بهذا المصداق ثمّ انكشف الخلاف تبيّن أنّه لم يأت بالشرطيّة ؛ لأنّه لم يحقّق مصداقها الواقعي الحقيقي ، وهذا يعني أنّه أتى بغير المأمور به وهو لا يجزي ولا يسقط التكليف عن فاعليّته فتبقى ذمّته مشغولة فتجب عليه الإعادة في الوقت دون خارجه ؛ لعدم الدليل الخاصّ على القضاء. وأمّا الإعادة فدليلها عدم تحقّق الامتثال فيحكم العقل بوجوب الامتثال ثانيا. هذا كلّه بناء على أنّ المجعول في الأمارات الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة (1).

وعلى هذا الأساس فصّل صاحب ( الكفاية ) بين الأمارات والأصول المنقّحة للموضوع ، فبنى على أنّ الأصول الموضوعيّة توسّع دائر الحكم الواقعي المترتّب على ذلك الموضوع دون الأمارات.

وعلى هذا الأساس من التفرقة بين الأمارات والأصول الموضوعيّة حيث إنّ الأولى تكون واردة بينما الثانية تكون حاكمة ، فصّل صاحب ( الكفاية ) بينهما بلحاظ الإجزاء وعدم الإعادة في الوقت في الثانية دون الأولى ؛ لأنّ الثانية توسّع الموضوع لما يشمل الظاهر والواقع دون الأولى فإنّها توجد فردا واقعيّا فقط.

وهذا غير صحيح ، وسيأتي بعض الحديث عنه إن شاء اللّه تعالى.

والصحيح : هو عدم الفرق بين الأمارات وبين الأصول الموضوعيّة في عدم الإجزاء ووجوب الإعادة لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ وذلك لأنّ هذه الأصول الموضوعيّة كأصالة الحليّة والطهارة واستصحابهما ليس مفاد دليلها التوسعة والحكومة للموضوع

ص: 128


1- وأمّا لو قلنا بأنّ المجعول فيها هو الحكم المماثل فهذا يعني أنّه بقيام الأمارة على كون هذا الثوب طاهرا يجعل المولى حكما تكليفيّا أو وضعيّا على وفقها أي أنّه يجعل طهارة لهذا الثوب طبقا لمؤدّى الأمارة ، ولذلك تكون الصلاة صحيحة ولا تجب الإعادة في الأثناء فضلا عن الخارج ؛ لأنّ جعل الحكم المماثل أنّه يجعل طهارة لهذا الثوب واقعا.

والشرطيّة ، بل هي كالأمارات واردة على الموضوع وتوجد فردا حقيقيّا من الموضوع (1).

ص: 129


1- والوجه في بطلان الحكومة أنّها إنّما تتصوّر بين دليلين عرضيّين لكي يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر ، حيث إنّ إحراز النظر في الحكومة شرط لجريانها ، وأمّا إذا كان بين الدليلين مرتبة طوليّة فلا يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر ؛ لاختلاف الرتبة بينهما. وهنا الحكم الواقعي سابق رتبة ومتقدّم عن الحكم الظاهري ، فالمرتبة بينهما طوليّة لا عرضيّة ، ولذلك لا نظر بينهما ؛ لأنّ لسان الحكم الظاهري كأصالة الطهارة مثلا لا يمكن أن يكون موجدا لأكثر من أصالة الطهارة بمعنى كون دليل أصالة الطهارة لسانه إنشاء أصالة الطهارة وجعلها ، ولا يمكن أن يكون ناظرا إلى كونها حاكمة على موضوع الطهارة الواقعيّة ؛ لأنّ اعتبارها حاكمة فرع ثبوتها أوّلا ثمّ تكون حاكمة ثانيا ؛ لأنّ الحكومة صفة وجوديّة لها والصفات الوجوديّة تفترض مسبقا تحقّق الموضوع أوّلا ، والمفروض هنا أنّ أصالة الطهارة لم تثبت إلا بهذا الدليل الذي يراد ادّعاء كونه ناظرا إلى أنّها حاكمة. وبتعبير آخر أنّ هذا الدليل إمّا أن يثبت أصالة الطهارة أو يثبت كونها حاكمة ، وأمّا كونه مثبتا للأمرين معا فهو غير ممكن لاستلزام ذلك تعدّد النظر في اللسان الواحد مع اختلاف الرتبة بين المنظورين والمفادين. مضافا إلى أنّ تعبير صاحب ( الكفاية ) بالحكومة ليس صحيحا ؛ لأنّ التطبيق الذي ذكره هو نفسه الورود فيكون تعبيره اللفظي بالحكومة ، ولكن المضمون والمحتوى هو الورود. ويدلّ على ذلك : أنّ الحكومة عنده هي الحكومة اللفظيّة التفسيريّة بإحدى الكلمات الدالّة على التفسير ( أعني ، أقصد ، أريد ) الدالّة على تفسير المراد من الكلام السابق. فما ذكره من مثال إنّما هو تطبيق صحيح للورود لا الحكومة عنده فتكون هذه الأصول مفادها الورود كالأمارات ، وحينئذ لا فرق بين الأمارات وبين الأصول من حيث الإجراء وعدمه. فإمّا أن يلتزم بالإجزاء فيهما معا ؛ لأنّ النكتة واحدة وهي الورود ، وإمّا ألاّ يلتزم بذلك فيهما أيضا. والصحيح : هو كون الأمارات والأصول جميعا غير موجبة للإجزاء في الفرض المذكور ، بل تجب الإعادة لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ لأنّ هذا النحو من الإجزاء يؤدّي إلى القول بالتصويب بنحو من أنحائه ولو بدرجة خفيفة ، وقد تقدّم أنّ التصويب باطل بكل معانيه ، والصحيح هو القول بالتخطئة.

ص: 130

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام

ص: 131

ص: 132

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام

مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) أنّ الحكم تارة يجعل على نهج القضيّة الحقيقيّة ، وأخرى يجعل على نهج القضيّة الخارجيّة.

تقدّم أنّ الحاكم عند ما يجعل حكمه على موضوعه : تارة يجعله على نهج القضيّة الحقيقيّة أي يفترض وجود الموضوع بكلّ حيثيّاته وقيوده ، وأخرى يجعله على نحو القضيّة الخارجيّة ، بأن يشير إلى الموضوع المحقّق في الخارج ويجعل حكمه عليه. فهناك نوعان من الموضوع : الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، والموضوع الموجود فعلا في الخارج.

والقضيّة الخارجيّة : هي القضيّة التي يجعل فيها الحاكم حكمه على أفراد موجودة فعلا في الخارج في زمان إصدار الحكم ، أو في أي زمان آخر ، فلو أتيح لحاكم أن يعرف بالضبط من وجد ومن هو موجود ومن سوف يوجد في المستقبل من العلماء فأشار إليهم جميعا وأمر بإكرامهم ، فهذه قضيّة خارجيّة.

القضيّة الخارجيّة : هي التي يكون موضوعها موجودا في الخارج في أحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ، بحيث يلاحظ الحاكم هذه الأفراد ويشير إليها في حكمه. فالأفراد فيها موجودة فعلا قد فرغ عن وجودها وقد لاحظها الحاكم في حكمه فعلا ، وهنا مثالان لذلك :

الأوّل : أن تكون الأفراد موجودة فعلا في زمان إصدار الحكم ، بأن يشير الحاكم إلى هذه الأفراد الموجودة فعلا ويحكم عليها ، ويكون وجودها مقارنا لوجود الحكم أي يتّحد زمان الحكم وزمان وجود الأفراد ، فيقول مثلا : ( أكرم كلّ من في هذا المعسكر من جنود ). فإنّ الجنود موجودون فعلا في زمان إصدار الحكم.

ص: 133


1- ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة للأحكام.

الثاني : أن يكون زمان إصدار الحكم مقارنا لوجود بعض هذه الأفراد ومتقدّما عن وجود الأفراد الأخرى ، بأن يلاحظ الحاكم هذه الأفراد الموجودة سابقا والموجودة الآن والتي ستوجد فيما بعد إلى زمان معيّن ويشير إليها في حكمه ويصبّه عليها ، فيقول : ( أكرم العلماء الذين وجدوا سابقا والذين يوجدون الآن والذين سيوجدون إلى سنة مثلا ). فحكمه هنا منصبّ على موضوع خارجي ؛ لأنّه أشار إلى هذا الموضوع في حكمه ، وإن كان بعض أفراد الموضوع لم يكن فعليّا الآن ولكن يفترض أنّه أتيح له أن يحصي من سيوجد من العلماء في خلال الزمان الاستقبالي. فهذه قضيّة خارجيّة أيضا.

والحاصل : أنّ القضيّة الخارجيّة قد يكون أفراد موضوعها موجودين فعلا ، وقد يكونون موجودين في المستقبل. فإنّ المهمّ فيها هو أن يشير إليهم الحاكم في حكمه ، فالإشارة إلى الخارج هي الملاك في القضيّة الخارجيّة.

والقضيّة الحقيقيّة : هي القضيّة التي يلتفت فيها الحاكم إلى تقديره وذهنه بدلا عن الواقع الخارجي ، فيشكّل قضيّة شرطيّة شرطها هو الموضوع المقدّر الوجود وجزاؤها هو الحكم ، فيقول : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) ، وإذا قال : ( أكرم العالم ) قاصدا هذا المعنى فالقضية - روحا - شرطيّة وإن كانت - صياغة - حمليّة.

القضيّة الحقيقيّة : هي التي يكون موضوعها موجودا في نفس الأمر والواقع ، بمعنى أنّ الموضوع موجود في ذهن الشارع وتصوّره بقطع النظر عن كونه موجودا في الخارج الآن أو في الماضي أو في المستقبل ، فالشارع ينظر إلى الموضوع بما هو موجود فعلا في تصوّره وذهنه سواء كان موجودا في الخارج أم لا. فالوجود الخارجي للموضوع لم يكن مأخوذا بعين الاعتبار حين إصدار الحكم والتشريع. وهذا يعني أنّ الموضوع مفترض ومقدّر الوجود على نهج القضيّة الشرطيّة التي يكون الجزاء فيها معلّقا على تقدير تحقّق الشرط في الخارج ، وعلى هذا الأساس يصبّ المولى حكمه إمّا بلسان قضيّة شرطيّة ، وإمّا بلسان قضيّة حمليّة جوهرها وروحها قضيّة شرطيّة.

مثال الأوّلى : أن يقول : ( إن وجد عالم فأكرمه ). فهذه القضيّة أخذ فيها الموضوع مقدّر ومفترض الوجود والتحقّق ؛ لأنّ تعليق الجزاء على الشرط يدلّ على ذلك وضعا.

مثال الثانية : أن يقول : ( أكرم العالم ) ، فإنّها وإن كانت في صياغتها الإنشائيّة قضيّة

ص: 134

حمليّة - والمفروض في القضايا الحمليّة أن يكون الموضوع موجودا فعلا - إلا أنّها في حقيقتها وجوهرها وروحها قضيّة شرطيّة ؛ لأنّها بالتحليل العقلي بمعنى قوله : ( إن وجد عالم فأكرمه ). فبأحد هذين اللسانين يصوغ المولى القضيّة الحقيقيّة التي ملاكها أن يكون الموضوع مفترض الوجود في ذهن الحاكم وتصوّره ، بقطع النظر عن كونه موجودا في الخارج أو لا.

وهناك فوارق بين القضيّتين : منها ما هو نظري ، ومنها ما يكون له مغزى عملي.

توجد فوارق نظريّة وأخرى عمليّة بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة لا بأس بالإشارة إلى جملة منها :

فمن الفوارق : أنّنا بموجب القضيّة الحقيقيّة نستطيع أن نشير إلى أي جاهل ونقول : ( لو كان هذا عالما لوجب إكرامه ) ؛ لأنّ الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدّرة وهذا مصداقها ، وكلّما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافا للقضيّة الخارجيّة التي تعتمد على الإحصاء الشخصي للحاكم ، فإنّ هذا الفرد الجاهل ليس داخلا فيها لا بالفعل ولا على تقدير أن يكون عالما. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ القضيّة الخارجيّة ليس فيها تقدير وافتراض ، بل هي تنصبّ على موضوع ناجز.

من الفوارق النظريّة بين القضيّتين هو :

في القضيّة الحقيقيّة : ( أكرم العالم ) يمكننا أن نشير إلى فرد جاهل ونقول في حقّه هذه القضيّة الشرطيّة الافتراضيّة ، وهي : ( إن كان هذا الجاهل عالما فيجب إكرامه ) ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة مجعولة على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، أي كلّ فرد يتّصف بماهيّة العلم يجب إكرامه في أي زمان وأي مكان. والقضيّة الشرطيّة المفروضة صادقة من حيث الفرض والتقدير والتصوّر ؛ لأنّ الجزاء فيها معلّق على فرض تحقّق الشرط والشرط متحقّق تصوّرا وذهنا وإن لم يكن متحقّقا صدقا وخارجا ؛ إذ يكفي في صدق القضيّة الشرطيّة أن تكون صادقة ذهنا وتصوّرا ، ولا يشترط أن يكون شرطها متحقّقا واقعا وصادقا خارجا.

وأمّا في القضيّة الخارجيّة فلا يمكننا الإشارة إلى هذا الفرد الجاهل ونقول : ( إن كان هذا الجاهل عالما فيجب إكرامه ) ؛ وذلك لأنّ القضيّة الخارجيّة تعتمد على إحصاء

ص: 135

الحاكم والاستقراء والتتبّع لأفراد موضوعه في الزمان الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فعند ما يصبّ حكمه يكون مصبّه هو الأفراد في الخارج الذين يتّصفون بهذا الوصف والماهيّة ، وهذا الجاهل ليس فردا من أفراد الموضوع لا فعلا ولا تقديرا. أمّا أنّه ليس فردا بالفعل فلأنّه جاهل بحسب الفرض وليس عالما فلم يكن داخلا في الأفراد الذين أحصاهم الحاكم ولاحظهم وأشار إليهم. وأمّا أنّه ليس فردا بالفرض والتقدير فلأنّ القضيّة الخارجيّة ليس فيها فرض وتقدير في أفرادها ، بل أفرادها يكونون مصبّا للحكم بما هم موجودون في إحصاء الحاكم. فالقضيّة الخارجيّة تنصبّ على الموضوع الفعلي الناجز لا على الموضوع المفترض والمقدّر.

ومن الفوارق : أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة وصف كلّي دائما يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم ، سواء كان وصفا عرضيّا كالعالم أو ذاتيّا كالإنسان. وأمّا الموضوع في القضيّة الخارجيّة فهو الذوات الخارجيّة أي ما يقبل أن يشار إليه في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة ، ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ؛ لأنّ الذات الخارجيّة وما يقال عنه : ( هذا ) خارجا لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو محقّق الوجود.

من الفوارق النظريّة بين القضيّتين هو أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة لا بدّ أن يكون وصفا كلّيّا دائما ، ولا يمكن أن يكون مفهوما جزئيّا ؛ لأنّ الوصف الكلّي هو الذي يقبل الافتراض والتقدير والذي هو جوهر القضيّة الحقيقيّة فيرتّب الحكم على هذا الموضوع الذي هو عنوان كلّي بفرض وجوده ، دون الجزئي الذي لا يكون إلا مشخّصا ومتميّزا في الخارج عن غيره ، ولذلك فهو لا يقبل الفرض والتقدير ؛ لأنّه موجود فعلا.

ثمّ إنّ هذا العنوان والقصد الكلّي على قسمين :

فتارة يكون وصفا عرضيّا كالعالم ، فإنّ العالم هو الذات التي يعرض عليها العلم. فالعلم عرض على الذات ، فيقال مثلا : ( أكرم العالم ) ، أو ( إن وجد عالم فأكرمه ). فينصبّ الحكم على هذا العنوان العرضي الكلّي المفترض الوجود.

وأخرى يكون وصفا ذاتيّا كالإنسان ، فإنّه ذات تتألّف بالتحليل العقلي من جنس وفصل ، وهي عنوان كلّي ، فيقال مثلا : ( أكرم الإنسان ) ، أو ( إن وجد إنسان فأكرمه ).

ص: 136

وأمّا الموضوع في القضيّة الخارجيّة فهو الذوات الخارجيّة المتشخّصة بوجودها والمتميّزة عن غيرها ، ولذلك فهي الجزئيّات والأفراد والمصاديق الموجودة فعلا ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة موضوعها ما يقبل الإشارة إليه ، والإشارة لا تتحقّق إلا إذا كان المشار إليه موجودا ومتشخّصا في وجوده ومتميّزا عن غيره بلحاظ أحد الأزمنة الثلاثة.

وعلى هذا فالافتراض والتقدير مستحيل في القضيّة الخارجيّة ؛ لأنّ الذوات الخارجيّة وما يقال عنه : ( هذا ) أي ما يشار إليه لا بدّ من كونه موجودا بالفعل ، ولا معنى لافتراضه وتقديره. فهناك تناف بين الإشارة وبين الافتراض والتقدير ؛ لأنّ الإشارة معناها أنّ المشار إليه متحقّق الوجود بالفعل ، والافتراض والتقدير معناه أنّه ليس موجودا فعلا.

والحاصل : أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة كلّي ، بينما في القضيّة الخارجيّة الذات المتشخّصة المشار إليها وهي الجزئيّات.

فإن كان وصف ما دخيلا في ملاك الحكم في القضيّة الخارجيّة تصدّى المولى لإحراز وجوده ، كما إذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب إكرام أبناء عمّه وكان لتديّنهم دخل في الحكم ، فإنّه يتصدّى بنفسه لإحراز تديّنهم ، ثمّ يقول : ( أكرم أبناء عمّك كلّهم ) أو ( إلا زيدا ) تبعا لما أحرزه من تديّنهم كلاّ أو جلاّ. وأمّا إذا قال : ( أكرم أبناء عمّك إن كانوا متديّنين ) فالقضيّة شرطيّة وحقيقيّة من ناحية هذا الشرط ؛ لأنّه قد أفترض وقدّر.

وهذا الفارق النظري يترتّب عليه ثمرة عمليّة وهي :

إذا كان هناك وصف ما دخيلا في ملاك الحكم أي كان يوجد في الملاك هذا الوصف والذي على أساسه صدر هذا الحكم ، فهنا إن كانت القضيّة خارجيّة فهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم يجب على الحاكم نفسه التصدّي لإحراز وجوده في الذوات الخارجيّة ، والأفراد التي انصبّ عليها حكمه وكانت موضوعا لحكمه. وليس المكلّف مطالبا بالتصدّي لإحراز هذا الوصف الدخيل في الملاك.

فمثلا : إذا أراد الحاكم من ولده إكرام أبناء عمّه وكان لوصف التديّن دخالة في الملاك ، فهنا وبما أنّ القضيّة الخارجيّة التي معناها : أنّ الحاكم يحصي الأفراد الذين هم مصبّ لحكمه ، فيجب أن يتصدّى الحاكم لإحراز هذا الوصف في كلّ فرد من أفراد

ص: 137

موضوعه. فإن أحرز وجوده فيهم جميعا أصدر حكمه بنحو عامّ وشامل فيقول : ( أكرم أبناء عمّك كلّهم ). وإن أحرز وجوده فيهم إلا واحدا منهم فيقول : ( أكرم أبناء عمّك إلا فلانا ) فيخرج الفرد الذي لم يتّصف بهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم.

وأمّا إن كانت القضيّة الخارجيّة فهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم لا يجب على الحاكم التصدّي لإحرازه ، بل يجب على المكلّف إحراز وجوده في مصاديق الموضوع ؛ وذلك لأنّ الحاكم يجعل حكمه في القضيّة الحقيقيّة على نهج القضيّة الشرطيّة أي يفترض فيها ويقدّر وجود الشرط والموضوع فيقول : ( إن كان أبناء عمّك متديّنين فأكرمهم ). فهذه قضيّة شرطيّة حقيقيّة ؛ لأنّ موضوعها وشرطها مقدّر الوجود. ومعنى ذلك أنّ الموضوع والشرط إذا تحقّق وجوده وفرض وجود هذا الوصف في أحدهم فيجب إكرامه وإلا فلا يجب الإكرام ، بمعنى أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الموضوع في الخارج عن الفرد الفاقد للشرط والوصف ، وبما أنّ الحاكم يصبّ حكمه على الموضوع المتحقّق في ذهنه فلا يجب عليه التصدّي لإحراز الوصف في الخارج ؛ لأنّ نظره ليس إلى الخارج بل إلى ذهنه وتصوّره والوصف موجود في ذهنه واقعا. وأمّا تطبيق هذا الحكم على مصاديقه الخارجيّة فهي في عهدة المكلّف ، ولذلك يجب عليه التصدّي لإحراز هذا الوصف ، فإن أحرزه بهذا وجب عليه الإكرام وإلا فلا.

ومن الفوارق المترتّبة على ذلك : أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقيّة إذا انتفى ينتفي الحكم ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه ، وإن شئت قلت : لأنّه شرط ، والجزاء ينتفي بانتفاء الشرط ، خلافا لباب القضايا الخارجيّة ، فإنّ الأوصاف ليست شروطا وإنّما هي أمور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم. فإذا أحرز المولى تديّن أبناء العمّ فحكم بوجوب إكرامهم على نهج القضيّة الخارجيّة ثبت الحكم ، ولو لم يكونوا متديّنين في الواقع ، وهذا معنى أنّ الذي يتحمّل مسئوليّة تطبيق الوصف على أفراده هو المكلّف في باب القضايا الحقيقيّة ، وهو المولى في باب القضايا الخارجيّة لها.

من الفوارق العمليّة بين القضيتين هو :

إنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقيّة يتصدّى المكلّف لإحرازه

ص: 138

في الخارج ، فإن أحرز وجوده فيترتّب عليه الحكم وإلا فلا يترتّب. وهذا يعني أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الوصف ويثبت بثبوته ؛ لأنّه حيثيّة تقييديّة للحكم يدور الحكم مدارها نفيا وإثباتا. وبتعبير آخر : إنّ الحكم هو الجزاء والوصف هو الشرط ، فإذا ثبت الشرط ثبت الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء.

فمثلا إذا قال : ( أكرم العالم إن كان عادلا ) فهذا يعني أنّ وجوب الإكرام معلّق على تحقّق العدالة ثبوتا وانتفاء. والمكلّف هو الذي يتصدّى لإحراز هذا الوصف في الخارج ويطبّقه على مصاديقه وأفراده دون المولى ؛ لأنّ هذا القيد محرز عنده تصوّرا في الواقع. وهذا معناه أنّ الوصف هنا حيثيّة تقييديّة ، فالحكم مقيّد بالوصف ثبوتا وانتفاء.

وأمّا الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الخارجيّة فهو ليس بمثابة الشرط للجزاء ، فليس هو حيثيّة تقييديّة وإنّما هو حيثيّة تعليليّة أي هي العلّة لإنشاء الحكم وعلّة الحكم فيتصدّى المولى لإحرازها بنفسه ؛ لأنّها هي السبب والعلّة والداعي لجعله الحكم. فإذا أحرزها المولى أنشأ حكمه ويجب على المكلّف الامتثال.

فمثلا إذا أحرز المولى وصف العدالة في أبناء العمّ فحكم بوجوب إكرامهم بسبب كونهم عادلين ، فأنشأ هذا الحكم على ذمّة المكلّف ، فهنا يجب على المكلّف الامتثال والإطاعة حتّى لو قطع بأنّهم غير عادلين كلاّ أو بعضا ؛ لأنّه ليس من شأنه التصدّي لإحراز هذا الوصف ، وإنّما مهمّة إحرازه في عهدة المولى ، سواء كانوا متديّنين أو لم يكونوا متديّنين في الواقع بنظر المكلّف طبعا فيجب عليه إكرامهم.

وهذا مختصّ في المولى العرفي الذي قد يخطأ في تشخيص المصلحة واقعا وقد يصيب ، وإلا فالمولى الحقيقي يستحيل بحقّه ذلك. فإذا أحرز الوصف فقطعا الوصف ثابت واقعا ، وعلم المكلّف بالخلاف يكون خطأ أو شبهة أو جهلا مركّبا. والحاصل : أنّ الذي يتحمّل المسئوليّة في التصدّي لإحراز الوصف وتطبيقه على مصاديقه في باب القضايا الحقيقيّة هو المكلّف ، بينما في باب القضايا الخارجيّة يكون المتصدّي لإحراز الوصف هو المولى نفسه.

وينبغي أن يعلم أنّ الحاكم - سواء كان حكمه على نهج القضيّة الحقيقيّة أو على نهج القضيّة الخارجيّة ، وسواء كان حكمه تشريعيّا كالحكم بوجوب الحجّ

ص: 139

على المستطيع أو تكوينيّا وإخباريّا كالحكم بأنّ النار محرقة أو أنّها في الموقد - إنّما يصبّ حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي للحكم.

ذكرنا أنّ الحكم تارة يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يفترض فيها الموضوع ويقدّر وجوده ، وأخرى على نهج القضيّة الخارجيّة التي يكون موضوعها الأفراد المشار إليهم في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة.

وهذا الحكم سواء كان موضوعه حقيقيّا أو خارجيّا ، تارة يكون حكما شرعيّا كالحكم بوجوب الحجّ على المستطيع أو وجوب الصلاة ، وأخرى يكون حكما إخباريّا تكوينيّا أي إخبار عن واقعة خارجيّة حدثت أو تحدث مستقبلا أو الآن أو يفترض حدوثها كالإخبار ( بأنّ النار محرقة أو النار في الموقد ). فإنّ الأوّل قضيّة إخبارية تكوينيّة بنحو القضيّة الحقيقية ؛ لأنّ روحها وجوهرها قضيّة شرطيّة وهي إن وجدت نار فهي محرقة ، بينما الثانية قضيّة إخباريّة تكوينيّة بنحو القضيّة الخارجيّة ، وهي الحكم على النار الموجودة في الخارج بأنّها في الموقد لا في مكان آخر.

فالحكم في هذه الموارد كلّها ينصبّ في الحقيقة على الصورة الذهنيّة للموضوع لا على الموضوع الحقيقي للحكم ، وتوضيح ذلك : إنّ حكم الحاكم أمر ذهني في تصوّر الحاكم ، فلا بدّ من فرض الموضوع في الذهن وما يوجد في الذهن إنّما هو الصورة لا نفس الموضوع الحقيقي ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

لأنّ الحكم لمّا كان أمرا ذهنيّا فلا يمكن أن يتعلّق إلا بما هو حاضر في الذهن ، وليس ذلك إلا الصورة الذهنيّة.

فمصبّ الحكم الذي هو موضوعه لا بدّ أن يكون ذهنيّا ؛ لأنّ نفس الحكم ذهني حيث إنّه موجود في نفس الحاكم وتصوّره أوّلا لا ما هو موجود في الخارج ، وإلا صار هناك مغايرة سنخيّة بين الحكم وموضوعه.

وهي وإن كانت مباينة للموضوع الخارجي بنظر ولكنّها عينه بنظر آخر. فأنت إذا تصوّرت النار ترى بتصوّرك نارا ، ولكنّك إذا لاحظت بنظرة ثانية إلى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنيّة للنار لا النار نفسها ، ولمّا كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي صحّ أن يحكم عليه بنفس

ص: 140

ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيّات كالإحراق بالنسبة إلى النار.

قبل الدخول في هذا التحليل العقلي لا بدّ من الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : لدينا ثلاثة وجودات للنار وهي :

1 - النار بما هي مفهوم كلّي مجرّد من أي قيد وخصوصيّة ، أي ماهيّة النار بما هي هي.

2 - النار بما هي صورة ذهنيّة أي بما هي موجودة في الذهن بحيث أخذ الوجود الذهني قيدا لها.

3 - النار بما هي موجود خارجي أي بما هي موجودة في عالم الخارج والواقع التكويني بحيث أخذ الوجود الخارجي قيدا لها.

الثاني : أنّ النظر التصوّري والحمل الأوّلي المقابل للنظر التصديقي والحمل الشائع له عدّة معان هي :

1 - النظرة الساذجة البدويّة ، وفي مقابلها النظرة الفاحصة التدقيقيّة.

2 - حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات ، وفي مقابله حمل الشيء على غيره ثانيا وبالعرض.

3 - الاختلاف بالاعتبار والاتّحاد بالمفهوم ، وفي مقابله الاختلاف بالمفهوم والاتّحاد بالمصداق.

4 - تجريد الشيء من الوجود مطلقا سواء الذهني أو الخارجي ، وفي مقابله تقييد الشيء بالوجود الخارجي أو الذهني.

وحينئذ نقول : إنّ الصورة الذهنيّة للنار مباينة للموضوع الخارجي للنار بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ وذلك لأنّ النار الذهنيّة ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات الثابتة للنار الموجودة في الخارج من الحرارة والإحراق.

ولكن هذه الصورة الذهنيّة للنار عين النار بما هي هي المجرّدة عن أي قيد وخصوصيّة أي بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة للنار ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات ، والنار التي هي مفهوم كلّي أي الماهيّة المجرّدة ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات أيضا ، فكانت هذه عين ذلك.

وبتعبير آخر : إنّنا إذا تصوّرنا النار نرى أنّه يوجد في تصوّرنا نار ، ولكن هذه النار

ص: 141

التي تصوّرناها ليست إلا صورة ذهنيّة للنار لا نفس النار الموجودة في الخارج بسبب المغايرة بينهما من حيث الآثار والخصوصيّات ، فإنّ الصورة الذهنيّة ليس فيها الآثار والخصوصيّات ، بينما النار الموجودة في الخارج فيها الآثار والخصوصيّات.

إلا أنّ هذه الصورة الذهنيّة للنار هي عين النار الموجودة في الخارج بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي ، أي أنّنا إذا أخذنا هذه النار الموجودة في الخارج بالحمل الأوّلي الذي معناه المفهوم الكلّي والماهيّة بما هي هي مجرّدة من القيود والخصوصيّات وجدنا أنّ ما في الذهن هو عين ما في الخارج بهذا الحمل والتصوّر. وإن كانت تغاير الوجود الخارجي للنار بالحمل الشائع والنظر التصديقي الذي معناه ملاحظة النار مقيّدة بالوجود فإنّها كذلك تتّصف بالخصوصيّات والآثار المفقودة في الصورة الذهنيّة.

ولكن لمّا كانت الصورة الذهنيّة عين النار الخارجيّة بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري صحّ أن يحكم على النار بأنّها محرقة أو أنّها في الموقد ، ولا يصحّ ذلك لو لوحظت النار الخارجيّة بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ للمغايرة بينهما في الآثار والخصوصيّات عندئذ. ومن هنا نخلص بنتيجة وهي :

وهذا يعني أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنيّة تكون بالنظر التصوّري عين الخارج وربط الحكم بها ، وإن كانت بنظرة ثانية فاحصة تصديقيّة - أي بالحمل الشائع - مغايرة للخارج.

المراد من إحضار الصورة الذهنيّة في الذهن أن تكون رابطة وحاكية عن الخارج حكاية تامّة بأن تكون عين الخارج ؛ لأنّ الحكم لا ينصبّ على الصورة الذهنيّة بما هي كذلك ، وإلا لصار الحكم ذهنيّا أيضا وموطنه الذهن فلا يكون باعثا ومحرّكا للمكلّف نحو الفعل والامتثال في الخارج.

وعلى هذا فهذه الصورة الذهنيّة الرابطة بين الموضوع الخارجي وبين الحكم يتعلّق بها الحكم بالعرض وبالذات ، أي بما هي مطابقة للخارج وعين الخارج لا بما هي هي ، وكون الصورة الذهنيّة عين الخارج إنّما يكون فيما إذا لوحظ الخارج بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري الذي معناه ملاحظة الماهيّة والمفهوم بما هو هو مجرّد عن القيود والخصوصيّات.

ص: 142

وأمّا إذا لوحظ الخارج بالحمل الشائع وبالنظر التصديقي فإنّ الصورة الذهنيّة لا تكون مطابقة للخارج ولا تكون عينه ؛ لأنّ الحمل الشائع معناه ملاحظة الماهيّة بما هي متّصفة ومقيّدة بالوجود الخارجي الذي فيه آثار وخصوصيّات الخارج ، وهي مفقودة في الصورة الذهنيّة.

ص: 143

ص: 144

تنسيق البحوث المقبلة

وسوف نتحدّث فيما يلي - وفقا لما تقدّم في الحلقتين السابقتين - عن حجيّة القطع أوّلا باعتباره عنصرا مشتركا عامّا ، ثمّ عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أدلّة محرزة ، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أصول عمليّة ، وفي الخاتمة نعالج حالات التعارض إن شاء اللّه تعالى.

ص: 145

ص: 146

العناصر المشتركة في عملية الاستنباط

اشارة

1 - حجّيّة القطع :

2 - الأدلة المحرزة :

3 - الأصول العملية :

4 - حالات التعارض :

ص: 147

ص: 148

حجّيّة القطع

اشارة

تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ للمولى الحقيقي - سبحانه وتعالى - حقّ الطاعة بحكم مولويّته.

تقدّم سابقا في الحلقة الثانية أنّ المولى الحقيقي وهو اللّه - عزّ وجلّ - له حقّ الطاعة على عباده بحكم كونه مولى وخالقا وبحكم كونهم عبيدا له ، فإنّ من حقّ السيّد على عبده الطاعة بحكم العقل في السيّد الحقيقي ، بخلاف المولى الجعلي أي الذي جعلت له الولاية كالنبي والإمام وأولياء الأمر ، فإنّهم وإن كان لهم حقّ الطاعة على الناس ، إلا أنّ حقّهم هذا مجعول من اللّه وليس ذاتيّا لهم.

فالمولى الحقيقي يحكم العقل بوجوب إطاعته وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه.

وأمّا دائرة حقّ الطاعة فهي :

والمتيقّن من ذلك هو حقّ الطاعة في التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى منجّزيّة القطع ، كما أنّ حقّ الطاعة هذا لا يمتدّ إلى ما يقطع المكلّف بعدمه من التكاليف جزما ، وهذا هو معنى معذّريّة القطع. والمجموع من المنجّزيّة والمعذّريّة هو ما نقصده بالحجّيّة.

هنا أمران : الأوّل : معنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، والثاني : ما هو المقصود من الحجّيّة.

أمّا الأوّل ، فنقول : إنّ القطع معناه الانكشاف التامّ عن الواقع بنحو لا شكّ ولا ريب ولا احتمال في قباله ممّا يوجب الإذعان والجزم والتصديق والاستقرار في النفس وعدم الحيرة. وهذا القطع تارة يكون منجّزا وأخرى يكون معذّرا ، فالمنجّزيّة والمعذّريّة من خصائص القطع وليستا نفس القطع.

فالمنجّزيّة للقطع معناها أنّ القطع بالتكليف يكون متعلّقا لحقّ الطاعة ومدخلا

ص: 149


1- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد تحت عنوان : حجّيّة القطع.

للتكليف في عهدة المكلّف ، بمعنى أنّ المكلّف مسئول عن هذا التكليف المقطوع لكونه داخلا في دائرة حقّ الطاعة. فإذا قطع المكلّف بالوجوب أو الحرمة فإنّ الوجوب والحرمة يتنجّزان عليه بحكم العقل ؛ لشمول مولويّة المولى لهما ودخولهما في دائرة حقّ الطاعة ، فيكون مطالبا بالامتثال ويستحقّ العقاب على المخالفة.

والمعذّريّة للقطع معناها أنّ القطع بعدم التكليف كالقطع بالترخيص والإباحة والحليّة يكون مبرّئا لذمّة المكلّف من الاشتغال ؛ لأنّ القاطع بعدم التكليف يستحيل أن يتحرّك نحوه ولا يمكن أن يكون منجّزا عليه ؛ لأنّه يعتقد بعدم وجوده فيقطع بأنّ المولى ليس له حقّ الطاعة في هذا الفرض ؛ لأنّه لا يوجد تكليف له فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال.

والحاصل : أنّ المعذّريّة والمنجّزيّة من الخصائص الثابتة للقطع بالتكليف وجودا وعدما.

وأمّا الثاني : فالحجّيّة لها ثلاثة معان :

1 - الحجيّة المنطقيّة : بمعنى وقوع القطع كبرى في القياس المنطقي.

2 - الحجّيّة التكوينيّة : وهي الإراءة والانكشاف والمحرّكيّة نحو استيفاء الغرض من الشيء المنكشف.

3 - الحجيّة الأصوليّة : وهي تعني المنجّزيّة والمعذّريّة وهذا هو المقصود هنا ، فحجّيّة القطع معناها المعذّريّة والمنجّزيّة.

كما عرفنا سابقا (1) أنّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضا ، فيكون الظنّ والاحتمال منجّزا أيضا ، ومن ذلك يستنتج أن المنجّزيّة موضوعها مطلق انكشاف التكليف ولو كان انكشافا احتماليّا ؛ لسعة دائرة حقّ الطاعة.

تقدّم في الحلقة الثانية أيضا أنّ حقّ الطاعة لا يختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل يشمل كلّ تكليف منكشف ولو بدرجة ضعيفة ، بمعنى أنّ مطلق الانكشاف للتكليف يكون داخلا في دائرة حقّ الطاعة ويكون موضوعا للمنجّزيّة ، فيشمل القطع والاطمئنان والظنّ والشكّ والاحتمال. فكلّ هذه الانكشافات تكون منجّزة للتكليف

ص: 150


1- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد تحت عنوان : حجّيّة القطع.

وتدخله في حقّ الطاعة وعهدة المكلّف والامتثال ، خلافا لما هو المشهور من عدم شمول المنجّزيّة إلا للقطع بالتكليف دون الظنّ والاحتمال وهو المسمّى بقبح العقاب بلا بيان.

غير أنّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمّن من قبل المولى نفسه في مخالفته ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيص جادّ منه في مخالفة التكليف المنكشف ؛ إذ من الواضح أنّه ليس لشخص حقّ الطاعة لتكليفه والإدانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخّص بصورة جادّة في مخالفته.

قلنا : إنّ حقّ الطاعة والمنجّزيّة تشمل كلّ انكشاف للتكليف سواء في ذلك القطع والظنّ والاحتمال ، إلا أنّ هذه المنجّزيّة يشترط فيها ألاّ يرد مؤمّن وترخيص من قبل المولى نفسه في جواز المخالفة لهذا التكليف المنكشف ، وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ثابت والمنجّزيّة متحقّقة ما دام المولى نفسه لم يرخّص فيه ، فإنّه مع عدم الترخيص منه يحكم العقل بلزوم الطاعة والامتثال واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وأمّا إذا حصل هذا المؤمّن وصدر ترخيص من المولى نفسه في جواز المخالفة لهذا التكليف ، فهنا لا يحكم العقل بلزوم الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة ؛ وذلك لأنّ المولى نفسه قد رفع يده عن هذا التكليف وأخرجه عن دائرة حقّ الطاعة. وهذا يعني أنّه يرفع موضوع المنجّزيّة ويلغي حقّ الطاعة في هذا المورد ، ولذلك لا مجال للإدانة على المخالفة ؛ لأنّه هو الذي سمح بها والعقاب مع ذلك قبيح عقلا ؛ لأنّ العاقل إذا سمح وجوّز المخالفة فهو لا يعاقب عليها وإلا لكان أمر بالشيء وعاقب عليه ، وهو قبيح جدّا يستحيل صدوره من المولى الحكيم.

نعم ، قد يصدر ترخيص غير جادّ بمعنى ورود ما ظاهره الترخيص إلا أنّه ليس مرادا جدّا للمولى كما في موارد التقيّة مثلا ، فإنّه إذا ورد ترخيص في هذه الحالة فإنّه لا يحمل على الجدّيّة ، ولذلك يبقى التكليف داخلا في دائرة حقّ الطاعة وموضوع المنجّزيّة. ولذلك اشترط السيّد الشهيد رحمه اللّه أن يكون هذا الترخيص جادّا أي مرادا جدّا له.

أمّا متى يتأتّى للمولى أن يرخّص في مخالفة التكليف المنكشف بصورة جادّة؟ والسؤال الذي يطرح الآن : أنّ هذا الترخيص الجادّ متى يمكن صدوره من المولى؟

ص: 151

فهل يمكن صدوره في جميع حالات الانكشاف الشاملة للقطع والظنّ والاحتمال ، أو أنّه يختصّ في حالات الانكشاف بالظنّ والاحتمال فقط دون القطع؟ إذا فالبحث الآن في هذين الموردين فنقول :

فالجواب على ذلك : أنّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة إلى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظنّ ، وذلك بجعل حكم ظاهري ترخيصي في موردها كأصالة الإباحة والبراءة.

إنّ الترخيص في مخالفة التكليف إنّما يمكن فيما إذا كان الانكشاف بنحو الظنّ أو الاحتمال أي الانكشاف الناقص ، فإنّه في هذه الموارد يمكن للشارع أن يصدر ترخيصا ظاهريّا عن هذا التكليف المظنون أو المحتمل ، وعلى أساسه يرتفع موضوع المنجّزيّة وحقّ الطاعة ؛ لأنّ هذا الترخيص يرفع القيد المذكور ومع ارتفاع القيد يرتفع الموضوع فينتفي الحكم بالمنجّزيّة والإطاعة لانتفاء موضوعهما بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وهذا الترخيص الظاهري يجعله الشارع بنحو جادّ ، فيجعل حكما بالإباحة أو بالبراءة ؛ ليرفع موضوع المنجّزيّة وحقّ الطاعة عن هذا التكليف المظنون والمحتمل.

ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري والتكليف المحتمل أو المظنون ؛ لما سبق (1) من التوفيق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة ، وليس الترخيص الظاهري هنا هزليّا ، بل المولى جادّ فيه ضمانا لما هو الأهمّ من الأغراض والمبادئ الواقعيّة.

قد يشكل على هذا الترخيص الظاهري المجعول في موارد الانكشاف بنحو الظنّ والاحتمال للتكليف بأحد أمرين :

الأوّل : أنّ جعل ترخيص ظاهري يتنافى مع الظنّ والاحتمال للتكليف ؛ لأنّ الترخيص ينفي وجود التكليف بينما الظنّ والاحتمال يكشفان عن وجود التكليف واقعا بدرجة ما من الكشف ، فكيف يمكن اجتماعهما معا على مورد واحد؟!

وجوابه : أنّ الترخيص الظاهري يمكن اجتماعه مع الإلزام الواقعي المجهول عند المكلّف ولا تنافي بينهما لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّه سهل المئونة ، ولا في عالم المبادئ ؛ لأنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة عن الحكم الواقعي ، ولا في عالم الامتثال ؛ لأنّ أحدهما فقط هو الواصل.

ص: 152


1- في هذه الحلقة ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

وقد تقدّم ذلك مفصّلا عند التوفيق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.

الثاني : أنّ مثل هذا الترخيص الظاهري لا يكون جادّا ، بل هو ترخيص هزلي ليس مرادا للمولى بنظر المكلّف ؛ وذلك لأنّ المكلّف يرى انكشاف الواقع وأنّه يوجد تكليف بدرجة ما ، فكيف يمكنه أن يصدّق بهذا الترخيص الذي مفاده عدم وجود تكليف أصلا؟!

وجوابه : أنّ الترخيص الظاهري يصدره الشارع لأجل إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فلذلك يكون مفاد الترخيص : أنّ ملاكات الإباحة هي الأهمّ من ملاكات الإلزام المظنونة والمحتملة ، فهو جاد في إبراز هذا المعنى وليس هزليّا. وهنا الواقع مجهول عند المكلّف ولا يدري ما هو ثابت واقعا للاشتباه والشكّ ، وهذا الترخيص يرفع له هذا الشكّ والحيرة ويبرز له الملاك الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك يكون جادّا في مؤدّاه ومفاده.

وبهذا ظهر أنّ جعل الترخيص الظاهري لا مانع منه عقلا ولا منافاة بينه وبين التكليف الواقعي المحتمل أو المظنون ، وهو ترخيص جادّ أيضا وليس هزليّا.

وعليه ، فيمكن جعله من قبل الشارع ، وهذا ما وقع فعلا حيث دلّت الروايات على التأمين والترخيص والإباحة والبراءة في موارد الشكّ والجهل وعدم العلم ، ولذلك نخرج عن القاعدة الأوّليّة العقليّة القائلة بالتنجيز إلى القاعدة الثانويّة الشرعيّة القائلة بالبراءة والترخيص.

وأمّا التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته ؛ لأنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعي حقيقي وإمّا حكم ظاهري طريقي ، وكلاهما مستحيل.

وأمّا إذا كان التكليف منكشفا بالقطع وهو الانكشاف التامّ كالقطع بوجوب أو حرمة هذا الفعل ، فهنا لا يمكن ورود ترخيص جادّ من المولى بحيث يسمح للمكلّف بالمخالفة لما قطع به ؛ لأنّ ورود الترخيص مستحيل في هذا المورد ؛ إذ لا يخرج هذا الترخيص إمّا أن يكون حكما واقعيّا حقيقيّا بالإباحة والبراءة والمؤمّنيّة ؛ بحيث يكون هناك حكم واقعي بالترخيص ويكون فيه ملاكات ومبادئ الترخيص ، وإمّا أن يكون حكما ظاهريّا طريقيّا لإحراز ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في حالة الشكّ

ص: 153

والاشتباه ، بحيث يضمن المحافظة على ملاكات الواقع الترخيصيّة ويبرز أهمّيتها ورجحانها بنظر المولى. وكلا هذين الحكمين يستحيل صدورهما من الشارع والوجه في هذه الاستحالة :

والوجه في استحالة الأوّل : أنّه يلزم اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين متنافيين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتا في الواقع ، ويلزم اجتماعهما على أيّ حال في نظر القاطع ؛ لأنّه يرى مقطوعه ثابتا دائما ، فكيف يصدّق بذلك؟!

إذا كان الترخيص في المخالفة واقعيّا فلا يخلو الأمر إمّا أن يكون ما قطع به من تكليف ثابتا واقعا بأن كان قطعه مصيبا ، وإمّا ألاّ يكون ثابتا واقعا بأن كان قطعه جهلا مركّبا ومخطئا.

فإن كان قطعه مصيبا فهذا يعني أنّ التكليف ثابت في الواقع فيلزم من الترخيص أن يجتمع حكمان تكليفيّان واقعيّان على مورد واحد وهو محال ؛ لأنّ الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها يستحيل اجتماعها واقعا على مورد واحد. وعليه فلا يمكنه التصديق بهذا الترخيص الواقعي ، لأنّ التصديق به يلزم منه اجتماع حكمين حقيقيّين متنافيين. وإن كان قطعه مخطئا فهذا يعني أنّه لا يوجد تكليف في الواقع ولكن المكلّف يعتقد بأنّ قطعه ليس مخطئا وإلا لما كان قاطعا ، فإنّ من يعتقد أو يحتمل بأنّ قطعه مخطئ لا يوجد عنده قطع ، بل يزول هذا القطع ويبدّل إلى الظنّ أو الاحتمال أو إلى القطع بالخلاف. وعليه فهو بنظره واعتقاده يرى أنّ قطعه مصيب ، وحينئذ يكون تصديقه بهذا الترخيص الظاهري معناه اجتماع حكمين تكليفيّين متنافيين بنظره واعتقاده بقطع النظر عن الواقع. والمكلّف في هذه الحالة لا يمكنه أن يصدّق بهذا الترخيص ؛ لأنّه باعتقاده مخالف لقطعه ولما قطع به ولو بنظره واعتقاده.

والحاصل : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يصدّق بأنّ هذا الترخيص - سواء كان واقعيّا أم ظاهريّا - جدّي ؛ لأنّه يرى أنّ قطعه بالتكليف مصيب ويرى مقطوعه ثابتا إمّا واقعا أو على الأقلّ بنظره واعتقاده وإلا لم يكن قاطعا. وعليه ، فالتصديق وحمل هذا الترخيص على الجدّيّة محال إمّا واقعا إذا كان مقطوعه ثابتا وكان قطعه مصيبا ، وإمّا بنظره واعتقاده بأن كان مقطوعه غير ثابت وكان قطعه مخطئا وجهلا مركّبا.

ص: 154

فهناك ترديد بين الأقلّ والأكثر ، أي إمّا المنافاة في نظره وفي الواقع في حالة الإصابة أو في نظره فقط في حالة الخطأ ، فالحال لا يخلو من أحدهما.

والوجه في استحالة الثاني : أنّ الحكم الظاهري ما يؤخذ في موضوعه الشكّ ولا شكّ مع القطع ، فلا مجال لجعل الحكم الظاهري.

وإذا كان الترخيص ظاهريّا فجعله في مورد القطع بالتكليف محال ؛ وذلك لأنّ القاطع بالتكليف يرى أنّ الواقع هو هذا ؛ لأنّ القطع معناه الإراءة والكشف التامّ عن الواقع فهو يعتقد ويصدّق بأنّ التكليف ثابت واقعا. وهذا معناه أنّه لا شكّ ولا حيرة عنده ، وحينئذ لا يكون هناك معنى بنظره واعتقاده لهذا الترخيص الظاهري ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري قد جعل في مورد الشكّ والحيرة في الواقع ، ثمّ عدم الشكّ والحيرة لا مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه ، وهنا الأمر كذلك.

وعليه ، فالمكلّف لا يرى أنّ هذا الترخيص الظاهري شامل له بنحو جدّي ؛ لأنّه قاطع لا شكّ عنده. وهذا الحكم الظاهري متوجّه للشاكّ وهو ليس شاكّا ، فهو يرى أنّ هذا الترخيص مختصّ بالشاكّ وهو غيره ، فالترخيص وإن كان بظاهره مطلقا وعامّا إلا أنّ المراد الجدّي هو خصوص الشاكّ ولذلك لا يرى هذا القاطع أنّ هذا الترخيص جدّيّا بالنسبة له ، وإنّما شمله من باب ضيق الخناق وقصور اللفظ.

وقد يناقش في هذه الاستحالة بأنّ الحكم الظاهري كمصطلح متقوّم بالشكّ لا يمكن أن يوجد في حالة القطع بالتكليف ، ولكن لما ذا لا يمكن أن نفترض ترخيصا يحمل روح الحكم الظاهري ولو لم يسمّ بهذا الاسم اصطلاحا؟ لأنّنا عرفنا سابقا أنّ روح الحكم الظاهري هي أنّه خطاب يجعل في موارد اختلاط المبادئ الواقعيّة وعدم تمييز المكلّف لها لضمان الحفاظ على ما هو أهمّ منها.

قد يقال : إنّ جعل الترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف ممكن ؛ وذلك لأنّ الاستحالة المذكورة كانت لأجل أنّ الحكم الظاهري كما هو المصطلح المعروف مورده الشكّ ومتقوّم في ظرف الشاكّ وفي الواقع ، والشكّ يرتفع عند القطع بالتكليف ، ولكنّنا نفترض أنّ هذا الترخيص الظاهري يحمل نفس روح وحقيقة الحكم الظاهري ولكنّه ليس حكما ظاهريّا بالمصطلح المعروف المتقوّم بالشكّ ، بل نقول : إنّ هذا الترخيص الظاهري يجعله المولى عند اختلاط الملاكات والمبادئ وعدم

ص: 155

تمييزه لها ضمانا للحفاظ على ما الأهمّ من هذه الملاكات واقعا ، فيكون هذا الترخيص الظاهري المفترض يحمل نفس روح وحقيقة الحكم الظاهري ولكنّنا لا نسمّيه حكما ظاهريّا ؛ لئلاّ يرد المحذور من أنّه مأخوذ فيه الشكّ ولا شكّ مع القطع. وهذا الترخيص الظاهري المفترض هو :

فإذا افترضنا أنّ المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكليف في الخطأ وعدم التمييز بين موارد التكليف وموارد الترخيص ، وكانت ملاكات الإباحة الاقتضائيّة تستدعي الترخيص في مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضمانا للحفاظ على تلك الملاكات ، فلما ذا لا يمكن صدور الترخيص حينئذ؟!

عرفنا أنّ الحكم الظاهري الاصطلاحي هو الخطاب الذي يبرز ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في موارد الشكّ والحيرة والاختلاط وعدم التمييز. وهنا لدينا حكم ظاهري باصطلاح جديد وهو الخطاب الذي يجعل في موارد القطع ضمانا لعدم وقوع المكلّف في القطع بالخطإ ، حيث إنّ الشارع قد لاحظ كثرة وقوع القاطعين في الخطأ والاشتباه لأجل عدم تمييزهم لموارد الترخيص عن موارد التكليف ، فيجعل المولى حكما ظاهريّا لا بالمصطلح المعروف المأخوذ فيه الشكّ ، بل بروح الحكم الظاهري وحقيقته في موارد القطع ، وهذا فيما إذا كان ملاكات الإباحة الاقتضائيّة هي الأهمّ ، بأن يكون المكلّف مطلق العنان بنظر الشارع وتستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمان عدم وقوع المكلّف في العسر والمشقّة والحرج أن يصدر الشارع مثل هذا الترخيص الظاهري في موارد القطع ضمانا للحفاظ عليها. فلما ذا لا يمكن جعل مثل هذا الترخيص الظاهري الذي ليس حكما ظاهريّا بالاصطلاح ، والاسم وإنّما هو حكم ظاهري من حيث الروح والجوهر والحقيقة؟!

والجواب على هذه المناقشة : أنّ هذا الترخيص لمّا كان من أجل رعاية الإباحة الواقعيّة في موارد خطأ القاطعين ، فكلّ قاطع يعتبر نفسه غير مقصود جدّا بهذا الترخيص ؛ لأنّه يرى قطعه بالتكليف مصيبا ، فهو بالنسبة إليه ترخيص غير جادّ ، وقد قلنا فيما سبق : إنّ حقّ الطاعة والتنجيز متوقّف على عدم الترخيص الجادّ في المخالفة.

الجواب : أنّ مثل هذا الترخيص الظاهري المفترض وإن كان ممكنا ثبوتا وتصوّرا إلا أنّه

ص: 156

لا يمكن وقوعه وصدوره من الشارع ؛ لأنّه لن يكون له أثر وفائدة فيكون جعله لغوا.

وبيان ذلك : أنّ هذا الترخيص افترض صدوره في موارد كثرة وقوع القاطعين في الخطأ وعدم تمييزهم لموارد التكليف من موارد الترخيص ، وهذا يعني أنّه متوجّه نحو القاطعين بالتكليف خطأ ، وهنا كلّ قاطع بالتكليف يرى أنّه مصيب في قطعه وأنّ مقطوعه ثابت واقعا ولا يراه مخطئا ، بل ولا يحتمل ذلك وإلا لما كان قاطعا ؛ لأنّ القطع كما تقدّم معناه الانكشاف التامّ وسكون النفس وعدم الحيرة والشكّ ، وحينئذ فكلّ قاطع لا يرى نفسه مشمولا لهذا الترخيص الظاهري ؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا الترخيص متوجّه للقاطع بالخطإ وهو ليس قاطعا خطأ ، بل هو يرى نفسه قاطعا مصيبا ولو باعتقاده ونظره. فهو يرى نفسه خارجا عن هذا الترخيص ، ولو فرض كون هذا الترخيص عامّا ومطلقا ويشمله بإطلاقه وعمومه إلا أنّه يرى أنّ هذا الشمول له ليس جدّيّا ، بل هو من باب قصور الألفاظ وضيق الخناق ، فهو بالنسبة إليه ليس ترخيصا جدّيّا.

وقد قلنا سابقا : إنّ الترخيص من المولى في موارد التنجيز وحقّ الطاعة لا بدّ أن يكون جدّيّا حتّى يرتفع موضوع التنجيز ودائرة حقّ الطاعة ، وهنا لا يوجد ترخيص جدّي. فالمنجّزيّة وحقّ الطاعة على حالهما لبقاء موضوعهما.

ويتلخّص من ذلك :

أوّلا : أنّ كلّ انكشاف للتكليف منجّز ولا تختصّ المنجّزيّة بالقطع لسعة دائرة حقّ الطاعة.

أي أنّ كلّ انكشاف سواء كان قطعا أو ظنّا أو احتمالا فهو منجّز ويدخل ضمن دائرة حقّ الطاعة وحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها.

وثانيا : أنّ هذه المنجّزيّة مشروطة بعدم صدور ترخيص جادّ من قبل المولى في المخالفة.

أي أنّ هذه المنجّزيّة لمّا كانت لأجل مولويّة المولى واحترام حقّ الطاعة فهي منجّزيّة متوقّفة على عدم صدور ترخيص مولوي جادّ وإلا فترتفع هذه المنجّزيّة ؛ لأنّ المولى نفسه هو أذن وسمح بالمخالفة.

ص: 157

وثالثا : أنّ صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير القطعي ، ومستحيل في موارد الانكشاف القطعي ، ومن هنا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجّزيّة عنه ، بخلاف غيره من المنجّزات.

أي أنّ الترخيص الظاهري بالمخالفة يعقل صدوره في موارد الانكشاف غير القطعي كالظنّ والاحتمال ولا محذور في ذلك ؛ لما تقدّم من أنّه لا تنافي من اجتماع حكمين متغايرين أحدهما ظاهري والآخر واقعي.

وأمّا في موارد الانكشاف القطعي فلا يعقل صدور الترخيص الظاهري لا واقعا ولا ظاهرا ؛ لما تقدّم سابقا من استحالة ذلك.

وعليه ، فمنجّزيّة القطع لا يمكن سلبها عنه بخلاف منجّزيّة الظنّ والاحتمال فإنّه يمكن سلبها عنهما. ولهذا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجّزيّة عنه فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه بينما غيره من المنجّزات للتكليف كالظنّ والاحتمال يمكن سلبها عنهما ولا محذور في ذلك كما تقدّم.

هذا هو التصوّر الصحيح لحجّيّة القطع ومنجّزيّته ، ولعدم إمكان سلب هذه المنجّزيّة عنه.

فحجّيّة القطع معناها المنجّزيّة والمعذّريّة. والمنجزيّة تشمل كلّ انكشاف ، والمعذّريّة تشمل القطع بعدم التكليف.

والمنجّزيّة متوقّفة على عدم الترخيص في موارد الظنّ والاحتمال ، وليست متوقّفة على شيء في موارد القطع ، بل هي مطلقة وفعليّة.

والمنجّزيّة يعقل سلبها عن الظنّ والاحتمال دون القطع ، بل هي لازمة له.

غير أنّ المشهور لهم تصوّر مختلف ، فبالنسبة إلى أصل المنجّزيّة ادّعوا أنّها من لوازم القطع بما هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ، وبما أسموه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ذهب المشهور إلى أنّ المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بحيث إنّه إذا ثبت القطع في مورد ثبتت المنجّزيّة ولا يتوقّف ثبوتها على شيء آخر ، فالقطع بذاته وبما هو هو لازمه المنجّزيّة كما يقال : إنّ النار لازمها الذاتي الحرارة.

وعلى هذا فالمنجّزيّة لا يمكن أن تجعل للقطع بجعل جاعل ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه

ص: 158

أيضا ؛ لأنّ الذاتي والذاتيّات يوجدان معا وينتفيان معا ولا يوجد أحدهما دون الآخر.

وعلى هذا آمنوا بأنّ هذه المنجّزيّة تنتفي إذا انتفى القطع دون الظنّ أو الشكّ ؛ لأنّ المنجّزيّة تتبع القطع وهنا لا يوجد قطع ، ولذلك آمنوا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فما دام لا يوجد علم وبيان فلا منجّزيّة وإذ لا منجّزيّة فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها. فالبراءة العقليّة متفرّعة إذا من القول بأنّ المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو قطع.

هذا التصوّر الأوّل.

وبالنسبة إلى عدم إمكان سلب المنجّزيّة وردع المولى عن العلم بالقطع برهنوا (1) على استحالة ذلك بأنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيته ، فلو رخّص المولى فيه لكان ترخيصا في المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في القبيح محال ومناف لحكم العقل.

وذهب المشهور أيضا إلى أنّ سلب المنجّزيّة عن القطع وردعه عن العمل به مستحيل غير ممكن بدليل مركّب من أمور :

1 - أنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف يحكم العقل بلزوم إطاعته وقبح معصيته.

2 - أنّ المولى لو رخّص بترك هذا التكليف المقطوع لكان ذلك ترخيصا في فعل المعصية القبيحة بحكم العقل.

3 - أنّ الترخيص يستحيل صدوره من المولى ؛ لأنّه ترخيص قبيح عقلا فهو محال ؛ لأنّه مناف لحكم العقل بقبح المعصية.

فيؤلّف قياس من هذه الأمور الثلاثة ومفاده :

أنّ الترخيص بمخالفة القطع قبيح عقلا ؛ لأنّه ترخيص في فعل المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في فعل القبيح والمعصية يستحيل صدوره من الشارع الحكيم العادل العاقل.

ص: 159


1- ورد هذا البرهان في تقرير بحث المحقّق العراقي في نهاية الأفكار 1 ( ق 3 ) : 7 - 8 ، مع التفاته إلى ما أورده عليه السيّد الشهيد ، كما تمسّك بعضهم بمثل هذا البرهان في دعوى استحالة ورود الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي. انظر أجود التقريرات 2 : 241 ، ومصباح الأصول 2 : 345 - 346.

أمّا تصوّرهم بالنسبة إلى المنجّزيّة فجوابه : أنّ هذه المنجّزيّة إنّما تثبت في موارد القطع بتكليف المولى لا القطع بالتكليف من أي أحد ، وهذا يفترض مولى في الرتبة السابقة ، والمولويّة معناها : حقّ الطاعة وتنجّزها على المكلّف ، فلا بدّ من تحديد دائرة حقّ الطاعة المقوّم لمولويّة المولى في الرتبة السابقة ، وهل يختصّ بالتكاليف المعلومة أو يعمّ غيرها؟

هذا الجواب تقدّم مفصّلا في الحلقة الثانية وحاصله هنا : أنّنا ننكر كون المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو هو ، بل هي من لوازم القطع بتكاليف المولى فقط ؛ لوضوح أنّ القطع بتكليف الآخرين وأوامرهم ليس له هذه المنجّزيّة كما لو فرض القطع بأمر العدوّ أو العبد ، ولذلك فلا بدّ أن نفترض وجود المولى أوّلا والقطع بتكليفه ثانيا. والمولى المفترض القطع بتكليفه هو من له حقّ الطاعة على العباد والمكلّفين ، بحيث يحكم العقل بلزوم امتثال أوامره واستحقاق العقاب على المخالفة. فالمولويّة إذا معناها حقّ الطاعة ، والمنجّزيّة هي نفس حقّ الطاعة والمولوية ، وليست شيئا آخر.

ولذلك فالبحث في الحقيقة ينبغي أن ينصبّ حول دائرة حقّ الطاعة وموضوع المنجّزيّة ، وهل هو مختصّ بموارد القطع بالتكليف أو يشمل كلّ موارد الانكشاف بالظنّ والاحتمال؟

ونحن آمنّا بأنّ حقّ الطاعة شامل لكلّ انكشاف ، فالمنجّزيّة عقلا ثابتة لا للقطع فقط بل للظنّ والاحتمال أيضا.

وما ذكره المشهور من الاختصاص بموارد القطع إنّما هو تحديد وتقييد لدائرة حقّ الطاعة ولموضوع المنجّزيّة وهو غير صحيح عندنا. فأصل المبنى الذي يرتكز عليه تصوّر المشهور ليس صحيحا.

وأمّا تصوّرهم بالنسبة إلى عدم إمكان الردع فجوابه : أنّ مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصا في القبيح فرع أن يكون حقّ الطاعة غير متوقّف على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، وهو متوقّف حتما لوضوح أنّ من يرخّص بصورة جادّة في مخالفة تكليف لا يمكن أن يطالب بحقّ الطاعة فيه ، فجوهر البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحو يكون جادّا ومنسجما مع التكاليف الواقعيّة أو لا؟ وقد عرفت أنّه غير ممكن.

ص: 160

وأمّا الجواب عن التصوّر الذي ذكره المشهور من أنّ الترخيص معناه الترخيص في فعل المعصية وهو قبيح عقلا فيستحيل صدوره ، فهذا التصوّر مبني على القول بأنّ حقّ الطاعة والمنجّزيّة فعليّة غير معلّقة على شيء ، أي بمجرّد ثبوت القطع بتكليف المولى فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها ؛ لأنّها معصية قبيحة فيكون الترخيص مستحيلا لكونه ترخيصا في فعل القبيح والمعصية.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لما تقدّم من أنّ المنجّزيّة وحقّ الطاعة متوقّف على عدم ورود ترخيص جادّ من الشارع الذي له حقّ الطاعة والمولويّة ؛ لأنّه من الواضح أنّ الشارع إذا رخّص في مخالفة تكليفه وسمح للمكلّف بالاقتحام لا يطالبه بحقّ الطاعة ولا يدينه بالعقاب على المخالفة ؛ لأنّه هو نفسه قد أذن ورخّص له في المخالفة. فالمنجّزيّة معلّقة وليست فعليّة.

وعليه فالكلام ينبغي أن ينصبّ حول هذه المسألة ، وأنّه هل يمكن للمولى أن يرخّص في المخالفة في موارد القطع بالتكليف أو لا يمكنه ذلك؟ فإذا قيل بالإمكان فلا مخالفة ولا قبح ولا معصية. وإذا قيل بعدم الإمكان فتثبت المنجّزيّة لثبوت موضوعها فعلا.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الصحيح هو أنّه لا يمكن للشارع أن يرخّص في مخالفة التكليف المقطوع لا ترخيصا ظاهريّا ولا ترخيصا واقعيّا ؛ لاستحالة صدورهما منه ، ولو فرض الصدور فهو ليس جدّيّا بالنسبة للقاطع كما تقدّم.

هذا بالنسبة لمنجّزيّة القطع. وأمّا معذّريّة القطع فالكلام فيها نفس الكلام في المنجّزيّة ولذلك قال السيّد الشهيد :

وكما أنّ منجزيّة القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذّريّته ؛ لأنّ سلب المعذّريّة عن القطع بالإباحة ؛ إمّا أن يكون بجعل تكليف حقيقي أو بجعل تكليف طريقي ، والأوّل مستحيل ؛ للتنافي بينه وبين الإباحة المقطوعة ، والثاني مستحيل ؛ لأنّ التكليف الطريقي ليس إلا وسيلة لتنجيز التكليف الواقعي كما تقدّم (1) ، والمكلّف القاطع بالإباحة لا يحتمل تكليفا واقعيّا في مورد قطعه لكي يتنجّز ، فلا يرى للتكليف الطريقي أثرا.

ص: 161


1- تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهريّة.

كلّ ما ذكرناه بالنسبة إلى المنجّزيّة وأنّه لا يمكن سلبها عن القطع بالتكليف يأتي في الكلام عن المعذّريّة وسلبها عن القطع بالإباحة والترخيص ، فإنّ القاطع بالإباحة والترخيص يكون معذورا في عدم الامتثال والإطاعة لو كان هناك تكليف واقعي ؛ إذ لا يمكنه أن يتحرّك نحو تكليف لا يؤمن بوجوده بل لا يراه موجودا أصلا ، وهذا معنى معذّريّة القطع.

وهذه المعذّريّة لا يمكن سلبها عن القطع ؛ لأنّ سلبها إمّا أن يكون بصدور تكليف واقعي حقيقي ، وإمّا بصدور تكليف طريقي ، وكلاهما مستحيل ؛ أمّا عدم إمكان صدور التكليف الحقيقي الواقعي الذي له مبادئ وملاكات مستقلّة فلما تقدّم من أنّه يؤدّي إلى اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين لكلّ منهما ملاكات منافية للآخر على واقعة واحدة وهذا مستحيل ، وهذا فيما إذا كان القطع مصيبا وكانت الإباحة واقعيّة ، فيكون صدور التكليف الواقعي الآخر منافيا ومضادّا لها ويستحيل اجتماعهما ولذلك يشمل صدوره.

وإذا كان قطعه مخطئا وكانت الإباحة غير ثابتة واقعا فيلزم من التكليف الواقعي اجتماع الضدّين باعتقاد نظر المكلّف ؛ لأنّه يعتقد أنّ قطعه مصيب دائما وأنّ مقطوعه - وهو الإباحة - ثابت واقعا ، فيرى أنّ هذا التكليف مناقض ومناف لما يعتقده فهو مستحيل صدوره برأيه ، ولو فرض صدوره فهو ليس جدّيّا بالنسبة إليه ؛ لأنّه شامل لمن قطع خطأ وهو يرى نفسه قاطعا مصيبا دائما.

وأمّا عدم إمكان صدور التكليف الطريقي سواء كان بحكم ظاهري أو على أساس حكم آخر يحمل روح الحكم الظاهري فهو لا يمكن ؛ لأنّ هذا التكليف الطريقي كان لأجل تنجيز التكليف والواقع على عهدة المكلّف بإبراز أنّ ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ في حالة الشكّ والحيرة أو في حالة كثرة وقوع القاطعين في الخطأ. وهذا القاطع بالإباحة لا يرى أنّ هناك تكليفا وإلزاما ، بل لا يحتمل ذلك أصلا وإلا لم يكن قاطعا. ولذلك فصدور هذا التكليف الطريقي بالنسبة إليه ليس جدّيّا ؛ لأنّه صادر بحقّ من يقع في الخطأ بقطعه وهو لا يرى أنّه يقع في الخطأ ، بل يرى قطعه دائما مصيبا. ولذلك لن يحرّكه هذا التكليف الطريقي ولا يكون له أيّ أثر وفائدة بالنسبة إليه فيكون صدوره بلا أثر وفائدة لغوا ؛ لأنّه ليس جدّيّا. لذلك فهو مستحيل الصدور.

ص: 162

العلم الإجمالي

ص: 163

ص: 164

العلم الإجمالي

كما يكون القطع التفصيلي حجّة كذلك القطع الإجمالي - وهو ما يسمّى عادة بالعلم الإجمالي - كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة.

القطع التفصيلي هو العلم بالشيء على سبيل التعيين بحيث لا تردّد ولا حيرة ولا شكّ.

والقطع الإجمالي هو العلم بالشيء لا على سبيل التعيين بل يكون هناك تردّد وحيرة وشكّ.

إلا أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في كونه حجّة ومنجّزا للتكليف المعلوم وهو الجامع ؛ لأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالدقّة العقليّة إلى علم تفصيلي بالجامع وشكّا في الأطراف ، كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة فإنّه يعلم بوجوب صلاة ولكن هناك تردّد وحيرة وشكّ في أنّها الظهر أو الجمعة ، فالشكّ في الأطراف لا في الجامع.

ولا يقال : إنّه يحكم بالاحتياط بالإتيان بكلتا الصلاتين حيث إنّه يمكن الجمع بينهما ولا تضادّ بينهما ذاتا ؛ لأنّه يقال : إنّه وإن لم يكن بينهما تضادّ ذاتي إلا أنّ بينهما تعارضا بالعرض ؛ وذلك للعلم من الخارج بأنّه لم يفرض في الوقت الواحد إلا فريضة واحدة ولا يوجد إلا خمس صلوات في اليوم والليلة. فهذا العلم إذا ضممناه إلى ذلك حصل لنا العلم بكذب أحد الدليلين وعدم صدوره من المعصوم ، ولذلك فواحد فقط هو الحجّة دون الآخر.

ثمّ إنّ البحث حول منجّزيّة العلم الإجمالي يقع في مرحلتين :

ومنجّزيّة هذا العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الأولى : مرحلة المنع عن المخالفة القطعيّة بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور.

ص: 165

والثانية : مرحلة المنع حتّى عن المخالفة الاحتماليّة المساوق لإيجاب الموافقة القطعيّة ، وذلك بالجمع بين الصلاتين.

يقع البحث في منجّزيّة العلم الإجمالي في مرحلتين :

المرحلة الأولى : حرمة المخالفة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يمنع عن المخالفة القطعيّة بترك كلّ الأطراف المردّدة والمشكوكة ؛ لأنّ هذا الترك سوف يؤدّي إلى ترك الجامع المعلوم تفصيلا.

المرحلة الثانية : وجوب الموافقة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يوجب الإتيان بكلّ الأطراف المشكوكة والتي هي ضمن دائرة هذا العلم ، وهذه الموافقة القطعيّة مساوقة للمنع عن المخالفة الاحتماليّة بفعل بعض الأطراف دون البعض الآخر. فهل العلم الإجمالي ينجّز جميع الأطراف لا بعضها فقط أو لا؟ وهذه المرحلة محلّها الأصول العمليّة.

والكلام الآن يقع في المرحلة الأولى :

أمّا المرحلة الأولى فالكلام فيها يقع في أمرين :

أحدهما : في حجّيّة العلم الإجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعيّة.

والآخر : في إمكان ردع الشارع عن ذلك وعدمه.

الكلام في المرحلة الأولى وهي المنع عن المخالفة القطعيّة يقع في أمرين :

الأوّل : في أنّ العلم الإجمالي حجّة بمقدار المنع عن المخالفة القطعيّة أو ليس حجّة في ذلك ؛ بمعنى أنّ العلم الإجمالي هل يمنع عن المخالفة القطعيّة بنحو العليّة أو بنحو الاقتضائيّة ، فهل هو نفسه علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة أو مقتضي فقط؟

الثاني : في أنّه هل يمكن للشارع سلب المنجّزيّة عن العلم الإجمالي ؛ بمعنى أنّه هل يمكنه الردع عن هذه المنجّزيّة وإزالتها عن العلم الإجمالي أو لا يمكن ذلك ، فهل يمكن ورود الترخيص بالمخالفة للأطراف كلاّ أو جلاّ أو لا يمكن ذلك؟

أمّا الأمر الأوّل فلا شكّ في أنّ العلم الإجمالي حجّة بذلك المقدار ؛ لأنه مهما تصوّرناه فهو مشتمل حتما على علم تفصيلي بالجامع بين التكليفين ، فيكون مدخلا لهذا الجامع في دائرة حقّ الطاعة.

أمّا كون العلم الإجمالي يمنع عن حرمة المخالفة القطعيّة سواء بنحو العليّة أو

ص: 166

الاقتضائيّة فهذا المقدار مما لا شكّ فيه عند أحد ؛ لأنّ العلم الإجمالي على كثرة التصوّرات والمسالك الموجودة فيه وأنّه علم بالجامع وشكّ في الأطراف كما هو قول المشهور ، أو أنّه علم بالواقع المردّد بين الأطراف ، أو أنّه علم بالفرد المردّد من بين هذه الأفراد ، فهذا العلم الإجمالي مهما كان تصوّره فهو يستبطن العلم التفصيلي بالجامع بين التكليفين. وعليه فيكون هذا الجامع منكشفا انكشافا تامّا ، ولذلك يدخل ضمن دائرة حقّ الطاعة ، ويكون موضوعا للمنجّزيّة عقلا ، فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة سواء في ذلك المسلك المشهور أو مسلكنا المختار. ولذلك قال السيّد الشهيد :

أمّا على رأينا في سعة هذه الدائرة فواضح. وأمّا على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلأنّ العلم الإجمالي يستبطن انكشافا تفصيليّا تامّا للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلك حقّ الطاعة فقد قلنا سابقا : إنّ دائرة هذا الحقّ وموضوع المنجّزيّة يعمّ مطلق الانكشاف ، سواء في ذلك العلم والظنّ والاحتمال ، والعلم الإجمالي فيه كشف عن الواقع بدرجة ما لا تقلّ عن الاحتمال ، ولذلك يكون دخول الجامع في العهدة وحقّ الطاعة على مسلكنا على القاعدة. فهذا واضح جدّا.

وأمّا على مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان فهذا العلم الإجمالي قلنا : إنّه يتضمّن ويستبطن العلم التفصيلي بالجامع ، وهذا معناه أنّ الجامع قد تمّ البيان عليه فيكون خارجا عن موضوع هذه القاعدة تخصّصا ، أي أنّ القاعدة لا تشمله أصلا ؛ لأنّه علم وبيان بمقدار الجامع بين التكليفين.

ولا يمكن أن يكون داخلا في القاعدة بقبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يؤدّي إلى المنافاة بين المعلوم التفصيلي وهو الجامع بين الأطراف وبين التأمين عن هذا المعلوم التفصيلي (1).

ص: 167


1- وما دام الجامع قد تمّ البيان عليه فتحرم مخالفته ويجب امتثاله وإطاعته ، ومن الواضح أنّ مخالفة الجامع إنّما تكون بإعدام كلا الفردين ؛ لأنّ الطبيعة والماهيّة لا تنعدم إلا بانعدام تمام أفرادها ، وهذا يعني أنّ ترك كلا الفردين مخالفة قطعيّة للجامع المعلوم تفصيلا.

وأمّا الأمر الثاني : فقد ذكر المشهور (1) : أنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي غير معقول ؛ لأنّها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ويكون ترخيصا في القبيح ، وهو محال.

ذكر المشهور أنّ الدليل على عدم إمكان سلب المنجّزيّة عن العلم الإجمالي والردع عن العمل به هو نفس الدليل المتقدّم في العلم التفصيلي وحاصله : أنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي يؤدّي إلى ترك الجامع المعلوم تفصيلا المتنجّز على المكلّف والداخل في عهدته بحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة وكونها معصية قبيحة ، فيلزم من الترخيص في المخالفة الترخيص في فعل القبيح والمعصية ، ومن المستحيل صدور مثل ذلك من الشارع الحكيم ؛ لأنّه يناقض حكم العقل والشارع رأس العقلاء لا يحكم بما هو قبيح ومعصية عند العقل.

وهذا البيان غير متّجه ؛ لأنّنا عرفنا سابقا (2) أنّ مردّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه بحقّ الطاعة للمولى ، وهذا حكم معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في المخالفة ، فإذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي ، فلا تكون المخالفة القطعيّة قبيحة عقلا.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصبّ على أنّه : هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحو يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعيّة؟

الجواب على ذلك هو : أنّ ذلك يعتمد على أمرين كلاهما غير صحيح :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي منجّزيته فعليّة غير متوقّفة على شيء.

الثاني : أنّ حكم العقل بقبح المعصية والمخالفة ناجز وفعلي وليس معلّقا على شيء أيضا.

والصحيح أنّ العلم الإجمالي يختلف عن العلم التفصيلي في المنجّزيّة ، كما سيأتي بيانه. وحكم العقل بقبح المعصية والمخالفة مرجعه في الحقيقة إلى حقّ الطاعة للمولى ؛ بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بقبح المعصية ووجوب الامتثال والإطاعة رعاية لحقّ المولى ،

ص: 168


1- أجود التقريرات 2 : 241 ، مصباح الأصول 2 : 345 - 346.
2- في الردّ على تصوّر المشهور بالنسبة إلى عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع.

فلا بدّ أوّلا من تحديد دائرة هذا الحقّ وهل هو ثابت بنحو مطلق غير مشروط ، أو أنّه معلّق ومتوقّف على عدم الترخيص الجادّ من المولى؟

والجواب - كما تقدّم - أنّ حقّ الطاعة ووجوب الامتثال وقبح المعصية متوقّف على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى نفسه ؛ لأنّه من الواضح أنّه لا قبح ولا معصية ولا مخالفة فيما إذا سمح المولى نفسه وأذن في ترك الامتثال والإطاعة.

فيكون موضوع حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الإطاعة والامتثال مقيّدا ومشروطا ومتوقّفا على عدم ورود الترخيص الجادّ ، فإذا لم يأت هذا الترخيص كان حكم العقل بذلك فعليّا ، وأمّا إذا جاء الترخيص الجادّ في ترك الإطاعة والامتثال فهنا يرتفع موضوع حكم العقل بالقبح.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن ينصبّ البحث والكلام في أنّ هذا الترخيص الجادّ هل يعقل وروده في موارد العلم الإجمالي بالتكليف أو لا يمكن صدوره من المولى أصلا؟

والجواب : أنّه معقول ؛ لأنّ الجامع وإن كان معلوما ولكن إذا افترضنا أنّ الملاكات الاقتضائيّة للإباحة كانت بدرجة من الأهميّة تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فمن المعقول أن يصدر من المولى هذا الترخيص ، ويكون ترخيصا ظاهريّا بروحه وجوهره ؛ لأنّه ليس حكما حقيقيّا ناشئا من مبادئ في متعلّقه ، بل خطاب طريقي من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للإباحة الواقعيّة.

والجواب على السؤال المذكور : هو أنّه ممكن ثبوتا ومعقول تصوّرا أن يصدر المولى ترخيصا ظاهريّا في موارد العلم الإجمالي بالتكليف. فهنا وإن كان يوجد علم تفصيلي بالجامع والترخيص الظاهري سيؤدّي إلى ترك هذا الجامع بترك الأطراف كلّها لورود الترخيص فيها ، إلا أنّ هذا يمكن فرضه فيما إذا كانت ملاكات الإباحة الواقعيّة بدرجة من الأهميّة تستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمانها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

والوجه في ذلك أنّ كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي بنفسه مشكوك ، ونحن قلنا : إنّ المنجّزيّة في موارد الظنّ والاحتمال والشكّ معلّقة على عدم ورود الترخيص

ص: 169

الجادّ من المولى ، وهذا يعني أنّه يمكن فرض ورود الترخيص الجادّ في كلّ طرف من الأطراف المشكوكة ، وهذا بالطبع سوف يؤدّي في نهاية الأمر إلى مخالفة المعلوم التفصيلي وهو الجامع ووقوع المكلّف في المخالفة القطعيّة ، إلا أنّ هذا لا يمنع من صدور الترخيص إذا كانت ملاكات الإباحة هي الأهمّ واقعا بنظر الشارع من ملاكات الإلزام بأن كانت ملاكات الإباحة اقتضائيّة في أن يكون المكلّف مطلق العنان في حالات الشكّ والاحتمال والظنّ للتكليف.

فكما يعقل أن يصدر إلزام ظاهري في وجوب التحفّظ على ملاكات الإلزام في ضمن هذه الأطراف التي يحتمل فيها الإلزام ، والذي بدوره سوف يؤدّي إلى تفويت ملاك الترخيص في بعضها. فكذلك يعقل ورود الترخيص في كلّ الأطراف التي يوجد ضمنها ملاكات الإباحة ، وبالتالي سوف تفوت ملاكات الإلزام في بعضها أيضا ، فلا فرق في الموردين ؛ لأنّ هذا الحكم الظاهري وظيفته إبراز الأهمّ من ملاكات الواقع لأجل المحافظة على ضمانها ، فالمكلّف لأجل ذلك سوف يترك الإلزام أو يترك الترخيص ولكن لأجل تلك الملاكات الأهمّ.

وعلى هذا فيحتمل صدور مثل هذا الترخيص الظاهري ؛ لأنّه ليس فيه مبادئ وملاكات مستقلّة عن مبادئ وملاكات الواقع ؛ إذ ليس هو حكما واقعيّا حقيقيّا له مبادئ وملاكات مستقلّة في نفسه أو في متعلّقه بقطع النظر عن الحكم الواقعي ، بل هو خطاب طريقي يستخدمه المولى لأجل ضمان الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف بها.

وعلى هذا الأساس لا يحصل تناف بينه وبين التكليف المعلوم بالإجمال ؛ إذ ليس له مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الأحكام الواقعيّة ليكون منافيا للتكليف المعلوم بالإجمال.

فإن قيل : إنّ هذا الترخيص الظاهري في كلّ الأطراف سوف يؤدّي إلى الترخيص في التكليف المعلوم بالإجمال ، فيكون هذا الترخيص الظاهري منافيا للتكليف الواقعي المعلوم إجمالا ولذلك يستحيل صدوره.

كان الجواب : أنّه لا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري وبين التكليف المعلوم بالإجمال ؛ وذلك لأنّ الترخيص الظاهري حكم طريقي ليس فيه مبادئ وملاكات

ص: 170

مستقلّة عن الحكم الواقعي ، وإنّما هو خطاب لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة.

والمفروض أنّ ملاكات الإباحة الاقتضائيّة كانت بنظر الشارع أهمّ من ملاكات الإلزام ، ولذلك يصدر هذا الترخيص الظاهري.

وتصوّر المنافاة فاسد ؛ إذ لا منافاة بينهما لا في عالم الجعل والاعتبار ولا في عالم المبادئ ولا في عالم الامتثال.

أمّا أنّه لا منافاة بينهما في عالم الجعل فلأنّ الجعل والاعتبار سهل المئونة ، ولا منافاة في الاعتبار والصياغة كما تقدّم.

وأمّا عالم المبادئ فلأنّ مبادئ الحكم الواقعي في متعلّقه ، بينما الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة ، ولذلك فلا يوجد إلا مبادئ الحكم الواقعي فقط والحكم الظاهري طريق لإبراز الأهمّ منها. فإن أصاب الواقع فلا إشكال ، وإن أخطأ كان المكلّف معذورا في ذلك ؛ لأنّه تعبّد بما هو حجّة عند الشارع.

وأمّا عالم الامتثال فلأنّ وصول الحكم الظاهري يقتضي أنّ الحكم الواقعي غير واصل إلى المكلّف ؛ لأنّ ظرف الحكم الظاهري هو الشكّ ومع الشكّ لا علم بالواقع ، ووصول الحكم الواقعي يعني أنّه لا شكّ في مجال الحكم الظاهري ، فلا وصول إلا لأحدهما فقط ، ولذلك لا امتثال إلا لواحد منهما فقط وهو الواصل والمنجّز على المكلّف.

فإن قيل : ما الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي؟ إذ تقدّم (1) أنّ الترخيص الطريقي في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلا مستحيل ، وليس العلم الإجمالي إلا علما تفصيليّا بالجامع.

حاصل الإشكال : أنّ العلم التفصيلي يستحيل سلب المنجّزيّة عنه ويستحيل الردع عن العمل به ، وهذا معناه أنّ منجّزيّته فعليّة غير متوقّفة على صدور الترخيص ؛ إذ صدوره مستحيل كما تقدّم. والعلم الإجمالي لا يفترق عن العلم التفصيلي في مقدار المعلوم بالإجمال وهو الجامع فإنّ العلم الإجمالي كما تقدّم يتضمّن علما تفصيليّا بالجامع وشكّا في الأطراف ، إذا فهناك علم تفصيلي بالجامع فلما ذا يفرّق بين العلم التفصيلي السابق وبين العلم التفصيلي الموجود ضمن العلم الإجمالي؟ إذ كلاهما علم تفصيلي ، فما يثبت لأحدهما يثبت للآخر ولا معنى للتفرقة بينهما.

ص: 171


1- في بحث حجّيّة القطع على مبنى حقّ الطاعة.

كان الجواب على ذلك : أنّ العالم بالتكليف بالعلم التفصيلي لا يرى التزامه بعلمه مفوّتا للملاكات الاقتضائيّة للإباحة ، لأنّه قاطع بعدمها في مورد علمه. والترخيص الطريقي إنّما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعني أنّه يرى عدم توجّه ذلك الترخيص إليه جدّا.

والجواب : أنّه يوجد فرق كبير جدّا بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي وهو أنّه في موارد العلم التفصيلي بالتكليف كالقطع بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة أو كالقطع بنجاسة هذا الإناء ، فهنا القطع التفصيلي معناه الإراءة والكشف التامّ عن الواقع فالمكلّف يرى بسبب علمه التفصيلي أنّ الواقع هو الوجوب أو النجاسة مثلا ، وهذا معناه أنّه يرى أنّ الملاكات الواقعيّة الثابتة هي ملاكات الإلزام ، ولا يرى وجودا ولو احتمالا لوجود ملاكات الترخيص والإباحة ؛ لأنّه لو كان يحتمل وجوده ولو احتمالا ضئيلا لم يكن قاطعا ، والمفروض أنّه قاطع.

وحينئذ فهو لا يرى أنّ الالتزام بالتكليف كالوجوب أو النجاسة مفوّتا للملاكات الواقعيّة للترخيص والطهارة ولو احتمالا ؛ لأنّه يقطع بعدم وجودها بتاتا. ولذلك إذ ورد ترخيص طريقي لأجل الحفاظ على ملاكات الإباحة الواقعيّة وضمانها فلا يراه متوجّها إليه جدّا ؛ لأنّه لا يعتقد بوجود ملاكات الإباحة فضلا عن التحفّظ عليها ، فهو لا يصدّق أنّه مشمول لهذا الترخيص الظاهري ، بل يراه متوجّها لغيره ، وعمومه وإطلاقه كان لأجل قصور اللفظ وضيق الخناق وعدم إمكان التقيّد فيه.

وبتعبير آخر : أنّ التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة الذي هو ملاك الحكم الظاهري لا يحتمل وجوده بالنسبة للقاطع بالتكليف تفصيلا ؛ لأنّه لا يرى سوى ملاكات الإلزام وأنّها هي الثابتة واقعا دون غيرها ولو احتمالا. فالترخيص الظاهري الذي يحافظ على ملاكات الإباحة الواقعيّة لا يعنيه في شيء وليس هو المقصود منه ، وليس شاملا له بنحو الجدّيّة ؛ لأنّه يعتقد أنّ هذا الترخيص الظاهري جاء ليبرز للمكلّف الملاك الواقعي الأهمّ بنظر الشارع في صورة الاشتباه والخطأ والحيرة والشكّ ، وهو ليس متحيّرا أو شاكّا أو مشتبها ولو باعتقاده ، بل يرى قطعه مصيبا ويرى مقطوعه ثابتا واقعا ولا يوجد سوى ملاكات الإلزام فقط ، فلا يمكن أن يصدّق بهذا التكليف أبدا.

ص: 172

وهذا خلافا للقاطع في موارد العلم الإجمالي ، فإنّه يرى أنّ إلزامه بترك المخالفة القطعيّة قد يعني إلزامه بترك المباح لكي لا تتحقّق المخالفة القطعيّة. وعلى هذا الأساس يتقبّل توجّه ترخيص جادّ إليه من قبل المولى في كلا الطرفين لضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للإباحة.

أمّا العلم الإجمالي بالتكليف كالعلم بوجوب الجمعة أو الظهر يوم الجمعة أو العلم بنجاسة أحد هذين الإناءين. فهنا لا توجد إراءة تامّة عن الواقع وإنّما هناك كشف ناقص عن الواقع ؛ لأنّه لا مجال لتعيين المعلوم بهذا أو بذاك فإنّ نسبة الجامع إلى الواقع ليست معلومة وإنّما هي مشكوكة ، فالقاطع في موارد العلم الإجمالي أمامه فردان : أحدهما يحقّق المعلوم إجمالا وهو الوجوب أو النجاسة ، والآخر ليس واجبا وليس نجسا ؛ ولكنّه لا يعلم بذلك على وجه التعيين ، ولذلك فإنّ إلزامه بعدم المخالفة القطعيّة معناه إمّا وجوب الموافقة القطعيّة أو وجوب الموافقة الاحتماليّة ، فإمّا أن يأتي بالصلاتين ويترك كلا الإناءين ؛ ليتحقّق عدم المخالفة القطعيّة أو يأتي بصلاة واحدة ويترك إناء واحدا ، فإنّه لا يكون مخالفا قطعا ، بل احتمالا.

ففي الصورة الأولى يكون قد ألزم بفعل المباح أو بترك الطاهر لأجل تحقّق عدم المخالفة القطعيّة ، وفي الصورة الثانية يكون من المحتمل أنّه ألزم بفعل المباح أو بترك الطاهر ، بأن كانت الصلاة التي أدّاها ليست هي الواجبة أو الإناء الذي تركه ليس هو النجس واقعا. ففي كلتا الصورتين يعني إلزامه بترك المخالفة القطعيّة إلزامه بالمباح فعلا أو تركا لأجل عدم تحقّق المخالفة القطعيّة.

وعلى هذا الأساس لن يكون هناك مانع من ورود الترخيص الظاهري في ترك كلا الصلاتين أو جواز ارتكاب كلا الإناءين فيما إذا كانت ملاكات الإباحة تستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمانها الترخيص حتّى في الواجب الواقعي أو ارتكاب النجس الواقعي. ولذلك يكون هذا الترخيص بالنسبة إليه جدّيّا ؛ إذ كما أنّ الإلزام بترك المخالفة قد يؤدّي إلى الإلزام بفعل أو بترك المباح إذا كانت ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ فكذلك الترخيص في جواز المخالفة ، فإنّه يؤدّي إلى ترك الإلزام إذا كانت ملاكات الإباحة هي الأهم. فلا فرق بين الأمرين ولذلك كما أنّه يتقبّل الإلزام الظاهري يتقبّل الترخيص الظاهري ويكون ترخيصا جدّيّا كالإلزام. فالقاطع في موارد

ص: 173

العلم الإجمالي يرى وجودا للإباحة ولو احتمالا ، ولذلك فإلزامه بالتكليف قد يفوّت ملاكات الإباحة فالترخيص الجادّ الناشئ لأجل الحفاظ على ملاكات الإباحة يراه جدّيّا ؛ لأنّ ملاكات الإباحة محتملة عنده.

وبتعبير آخر : أنّ موارد التزاحم الحفظي متصوّرة هنا ؛ لأنّ القاطع إجمالا يحتمل الإباحة مضافا إلى التكليف ، ولذلك يكون موضوع التزاحم موجودا فلا مانع من صدور الترخيص كما لا مانع من صدور الإلزام ظاهرا.

ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي وهو : هل ورد الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي؟ وهل يمكن إثبات ذلك بإطلاق أدلّة الأصول؟

كان الكلام في المرحلة الثبوتيّة وقلنا : إنّه يعقل ورود الترخيص الظاهري في موارد العلم الإجمالي.

وأمّا المرحلة الإثباتيّة ، فهل يمكن إثبات أنّ هذا الترخيص قد ورد فعلا؟ أو هل يمكن إثبات الترخيص من خلال التمسّك بإطلاق أدلّة الأصول العمليّة الترخيصيّة كالبراءة والإباحة؟

فهل هناك دليل مستقلّ يدلّ على الترخيص في موارد العلم الإجمالي؟ أو أنّ دليل البراءة يشمل باطلاقه موارد العلم الإجمالي وغيره أيضا؟

والجواب : هو النفي ؛ لأنّ ذلك يعني افتراض أهميّة الغرض الترخيصي من الغرض الإلزامي حتّى في حالة العلم بالإلزام ووصوله إجمالا أو مساواته له على الأقلّ ، وهو وإن كان افتراضا معقولا ثبوتا ولكنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ؛ لأنّ الغالب في الأغراض العقلائيّة عدم بلوغ الأغراض الترخيصيّة إلى تلك المرتبة ، وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينة لبّيّة متّصلة على تقييد إطلاق أدلّة الأصول.

وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي عقلا.

والجواب : هو النفي ؛ لأنّه لا يوجد إثباتا دليل مستقلّ على ورود الترخيص في موارد العلم الإجمالي بالخصوص ، ولا يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الأصول الترخيصيّة لموارد العلم الإجمالي أيضا ؛ لأنّها مقيّدة.

وتوضيح ذلك : إنّ ورود الترخيص الظاهري وإن كان ممكنا ثبوتا ولا مانع منه عقلا ولا استحالة فيه ، إلا أنّه يعني أنّ الملاكات الواقعة للإباحة الاقتضائيّة هي الأهمّ

ص: 174

بنظر الشارع من ملاكات الإلزام عند الاختلاط والاشتباه وعدم التمييز ، أو على الأقلّ هي مساوية لها. وهذا الافتراض على خلاف المرتكزات العرفيّة العقلائيّة ، فإنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص والإباحة تصل إلى هذه الدرجة والمرتبة من الأهميّة أو المساواة ؛ لأنّ الغالب عندهم هو أهميّة ملاكات الإلزام عادة ، فالعقلاء في بنائهم وسيرتهم في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة أو في أغراضهم التشريعيّة بين الموالي والعبيد العرفيّين يحكمون بأهميّة ملاكات الإلزام غالبا وعادة في موارد العلم الإجمالي بالإلزام ، ولا يرون أنّ ملاكات الإباحة والترخيص المحتملة تصل إلى تلك الدرجة من الأهميّة أو المساواة.

وحينئذ نقول : إنّه لا يوجد دليل إثباتي مستقلّ فيما وصل إلينا من الأدلّة يبرز أهميّة ملاكات الترخيص والإباحة على ملاكات الإلزام في خصوص موارد العلم الإجمالي.

يبقى إطلاق أدلّة الأصول الترخيصيّة كالإطلاق مثلا في قوله : ( رفع ما لا يعلمون ) الشامل بإطلاقه لموارد عدم العلم مطلقا سواء في الشبهات البدويّة أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، إلا أنّ هذا الإطلاق مقيّد بقيد لبّي متّصل وهو الارتكاز العقلائي المذكور. فإنّ هذا الارتكاز والبناء العقلائي يعتبر مقيّدا لبيّا حاليّا لهذا الإطلاق ، فعند صدور هذا الدليل كان هذا الارتكاز موجودا ومتّصلا به ، ولذلك فهو يقيّد ويمنع من إطلاقه لموارد العلم الإجمالي بالإلزام وبالتكليف.

ولا فرق بين المقيّد اللفظي المتّصل وبين المقيّد اللبّي المتّصل في كونهما يمنعان من انعقاد الإطلاق في أدلّة الأصول الترخيصيّة. وبهذا نصل إلى نفس النتيجة التي قال بها المشهور من أنّ العلم الإجمالي يثبت حرمة المخالفة القطعيّة ولكن عقلائيّا لا عقلا.

ويسمّى الاعتقاد بمنجّزيّة العلم الإجمالي لهذه المرحلة على نحو لا يمكن الردع عنها عقلا أو عقلائيّا بالقول بعلّيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. بينما يسمّى الاعتقاد بمنجّزيّته لهذه المرحلة مع افتراض إمكان الردع عنها عقلا وعقلائيّا بالقول باقتضاء العلم الإجمالي للحرمة المذكورة.

أي أنّ المسلك الذي سار عليه المشهور من أنّ العلم الإجمالي منجّز لحرمة المخالفة القطعيّة عقلا وعقلائيّا ، أي يستحيل سلب المنجّزيّة عنه عقلا وعقلائيّا يسمّى بمسلك

ص: 175

علّيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. والمقصود من مسلك العلّيّة أنّ العلم الإجمالي بنفسه منجّز لحرمة المخالفة بنحو يستحيل تصوّر ورود الترخيص عقلا ، فإذا وجد العلم الإجمالي وجدت المنجّزيّة وإذا انتفى انتفت حرمة المخالفة القطعيّة ، فهو علّة وهي معلولة له.

وأمّا مسلك السيّد الشهيد القائل بأنّ العلم الإجمالي يقتضي المنجّزيّة بمعنى أنّه لا يستحيل صدور الترخيص في المخالفة القطعيّة عقلا ، بل هي ممكنة ثبوتا إلا أنّه يستحيل ذلك إثباتا للارتكاز العقلائي المذكور ، فيسمّى هذا المسلك باقتضاء العلم الإجمالي للمنجّزيّة المذكورة. بمعنى أنّ هذه المنجّزيّة لحرمة المخالفة معلّقة على عدم ورود الترخيص الممكن ثبوتا وعقلائيّا ، فإذا ورد الترخيص إثباتا ارتفعت المنجّزيّة لارتفاع موضوعها ، وإذا لم يرد الترخيص ثبتت المنجّزيّة لتحقّق موضوعها ، وهذا مسلك صاحب ( الكفاية ) أيضا.

فالفرق بين مذهب العلّيّة والاقتضائيّة أنّه على الأوّل يستحيل صدور الترخيص بينما على الثاني لا يستحيل صدوره ، وإنّما لم يصدر لوجود المانع العقلائي. فالمنجّزيّة على الأوّل فعليّة ، بينما المنجّزيّة على الثاني معلّقة على عدم ورود الترخيص.

هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى.

وأمّا المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الأصول العمليّة إن شاء اللّه.

المرحلة الثانية هي المنع عن المخالفة الاحتمالية المساوقة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي هل يمنع بنحو العلّيّة أو بنحو الاقتضاء عن المخالفة الاحتماليّة ، فلا يسمح بترك أي طرف من الأطراف ، بل يوجب الالتزام بكلّ الأطراف فعلا في موارد العلم الإجمالي بالوجوب أو تركا في موارد العلم الإجمالي بالحرمة ، أو لا. وهذا البحث سوف يأتي التعرّض له في مباحث الأصول العمليّة حيث إنّه مرتبط بها ، بمعنى أنّ الأصول العمليّة الترخيصيّة هل تجري في بعض الأطراف أو لا تجري؟

ص: 176

حجّية القطع غير المصيب ( وحكم التجرّي )

اشارة

ص: 177

ص: 178

حجّيّة القطع غير المصيب وحكم التجرّي

هناك معنيان للإصابة :

أحدهما : إصابة القطع للواقع ، بمعنى كون المقطوع به ثابتا.

والآخر : إصابة القاطع في قطعه ، بمعنى أنّه كان يواجه مبرّرات موضوعيّة لهذا القطع ولم يكن متأثّرا بحالة نفسيّة ، ونحو ذلك من العوامل.

هنا سؤال وهو : هل أنّ القطع غير المصيب حجّة أو ليس حجّة؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من معرفة المراد من الإصابة المأخوذة في السؤال ، فإنّ الإصابة على نحوين :

الأوّل : الإصابة بمعنى مطابقة القطع للواقع ، أي أنّ قطعه كان صحيحا ومصيبا للواقع ، وهذا لازمه أنّ ما تعلّق به القطع وهو المقطوع ثابت في الواقع أيضا. فالقطع المصيب هو الذي طابق الواقع ، والقطع غير المصيب هو القطع الذي يخالف ما هو ثابت واقعا. فمثلا إذا قطع المكلّف بالوجوب وكان الوجوب ثابتا في الواقع فيقال : إنّ قطعه مصيب ، وإن لم يكن هناك وجوب في الواقع فيقال : إنّ قطعه غير مصيب بل مخطئ.

الثاني : الإصابة بمعنى موافقة القطع للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ، فإذا كان القاطع قد حصل له القطع استنادا إلى القوانين والضوابط الصحيحة المعتمد عليها في حصول القطع فيكون قطعه مصيبا ، أي أنّ قطعه صحيح من وجهة منطقيّة وموضوعيّة ، سواء كان مصيبا للواقع أم لا ، وفي مقابلة القطع الذي لا ينشأ من مبرّرات موضوعيّة وضوابط صحيحة ، بل كان ناشئا نتيجة لتأثّر القاطع ببعض العوامل النفسيّة والذاتيّة والظروف الخاصّة به بحيث أثّرت عليه في حصول القطع.

وقد يتحقّق المعنى الأوّل من الإصابة دون الثاني ، فلو أنّ مكلّفا قطع بوفاة

ص: 179

إنسان لإخبار شخص بوفاته وكان ميّتا حقّا غير أنّ هذا الشخص كانت نسبة الصدق في إخباراته عموما بدرجة سبعين في المائة ، فقطع المكلّف مصيب بالمعنى الأوّل ، ولكنّه غير مصيب بالمعنى الثاني ؛ لأنّ درجة التصديق بوفاة ذلك الإنسان يجب أن تتناسب مع نسبة الصدق في مجموع أخباره.

والنسبة بين هذين المعنيين من الإصابة هي العموم والخصوص من وجه ، ولذلك يمكن اجتماعهما في مورد ويفترقان في مورد آخر. فقد يتحقّق المعنى الأوّل من الإصابة بأن يكون قطعه مصيبا للواقع ، بأن كان ما قطع به ثابتا واقعا. ولا يتحقّق المعنى الثاني من الإصابة بأن لا يكون قطعه مصيبا للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة.

فمثلا لو أنّ شخصا أخبره بوفاة زيد وكان زيد ميّتا واقعا فقطع بوفاته استنادا إلى إخباره ، إلا أنّ هذا المخبر نفترض أنّ درجة الصدق في مجموع إخباراته لا توجب القطع ، بل توجب الظنّ فقط كنسبة سبعين في المائة. فهنا يطلق على هذا القاطع أنّه مصيب في قطعه بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ ما قطع به ثابت واقعا فقطعه مطابق للواقع فهو مصيب ، ولكنّه لا يطلق عليه أنّه مصيب في قطعه بالمعنى الثاني ؛ لأنّ المبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة لم تكن متوفّرة لحصول القطع. وإنّما هذه المبرّرات توجب حصول الظنّ فقط ، فكان المناسب أن يظنّ بالوفاة لا أن يقطع بها ، لأنّ درجة الصدق من هذا الخبر لم تتناسب مع المبرّرات الموضوعيّة ، فلم يكن مصيبا في قطعه بلحاظ هذه المبرّرات والضوابط. نعم ، لو ظنّ بالوفاة في الفرض المذكور لكان مصيبا بالمعنى الثاني أيضا فيكون ظنّه مصيبا بالمعنى الأوّل ؛ لمطابقته للواقع ، ومصيبا بالمعنى الثاني ؛ للتناسب بين درجة التصديق هذه وبين المبرّرات الموضوعيّة (1).

ص: 180


1- وقد يتحقّق المعنى الثاني من الإصابة دون الأوّل. فلو أنّ شخصا أخبر بوفاة زيد وكان مجموع إخباراته عموما تفيد الظنّ ، فظنّ هذا الشخص بالوفاة فهو مصيب في ظنّه بالمعنى الثاني ؛ للتناسب بين المبرّرات الموضوعيّة وبين درجة التصديق. فإذا لم يكن زيد ميّتا ، بل كان حيّا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ؛ لعدم مطابقة ظنّه للواقع. وقد يفرض القطع هنا بأن كان إخبار هذا الشخص يوجب القطع إلا أنّه لم يكن ميّتا واقعا ، ولكنّه مجرّد فرض ولعلّه غير صحيح ؛ لأنّ القطع معناه الإراءة التامّة عن الواقع فكيف لا يكون مقطوعه ثابتا. نعم يمكن ذلك في حالات الجهل المركّب والتي هي ليست من العلم في شيء.

ونفس المعنيين من الإصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق الأخرى أيضا ، فمن ظنّ بوفاة إنسان لإخبار شخص بذلك وكان ذلك الإنسان حيّا فهو غير مصيب في ظنّه بالمعنى الأوّل ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني إذا كانت نسبة الصدق في إخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين في المائة.

وهذان المعنيان للإصابة يمكن فرضهما في درجات التصديق الأخرى كالظنّ ، فيقال : ظنّ مصيب بالمعنى الأوّل إذا كان الظنّ مطابقا للواقع وكان ما ظنّه ثابتا واقعا. ويقال : ظنّ مصيب بالمعنى الثاني إذا كان الظنّ مطابقا للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ومتناسبا مع درجة التصديق.

فمثلا لو أخبره شخص بوفاة زيد فظنّ بالوفاة وكان ميّتا واقعا فهو مصيب بالمعنيين أمّا المعنى الأوّل فلأنّ ظنّه مطابق للواقع ؛ لأنّه ميّت ، وأمّا المعنى الثاني فلأنّ درجة التصديق التي عنده مطابقة للمبرّرات المنطقيّة ومتناسبة مع إخباره الذي يوجب الظنّ عموما.

ويمكن تحقّق أحدهما دون الآخر ، ففي المثال المذكور لو كان زيد حيّا واقعا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني. وقد يكون غير مصيب في المعنيين معا بأن قطع بالوفاة من خلال هذا الإخبار وكان حيّا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ؛ لكونه غير مطابق للواقع ، وغير مصيب بالمعنى الثاني لعدم التناسب بين درجة التصديق التي حصلت عنده وهي القطع مع المبرّرات الموضوعيّة التي توجب الظنّ من إخباره.

ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثاني اسم ( التصديق الموضوعي واليقين الموضوعي ) ، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني اسم ( التصديق الذاتي والقطع الذاتي ).

المعنى الثاني من الإصابة وهو موافقة القطع للمبرّرات الموضوعيّة ، فعدم الإصابة هو عدم مطابقة القطع لهذه المبرّرات الموضوعيّة. فالتصديق المصيب يسمّى التصديق الموضوعي واليقين الموضوعي ، وهو القطع واليقين والتصديق الموافق للمبرّرات الموضوعيّة. والتصديق غير المصيب يسمّى التصديق الذاتي والقطع الذاتي. وهو القطع واليقين والتصديق غير الموافق للمبرّرات الموضوعيّة.

ص: 181

وانحراف التصديق الذاتي عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعيّة له مراتب ، وبعض مراتب الانحراف الجزئيّة ممّا ينغمس فيه كثير من الناس. وبعض مراتبه يعتبر شذوذا ومنه قطع القطّاع ، فالقطّاع إنسان يحصل له قطع ذاتي وينحرف غالبا في قطعه هذا انحرافا كبيرا عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعيّة.

عرفنا أنّ القطع الذاتي هو القطع غير الموافق للمبرّرات الموضوعيّة ، ولذلك فالقطع الذاتي انحراف عن جادّة الصواب. إلا أنّ هذا الانحراف مفهوم كلّي مشكّك ، أي له درجات ومراتب وأفراد ومصاديق بعضها أشدّ من البعض الآخر.

وبعض مراتب هذا الانحراف ممّا يتواجد في كثير من الناس ، وهي المرتبة الجزئيّة الأقلّ والتي فيها انحراف يسير فقط. فمثلا لو أنّ إنسانا أخبره بوفاة زيد وكانت درجة التصديق من إخباره بنسبة سبعين في المائة فحصل له ظنّ بنسبة خمسة أو سبعين أو ثمانين في المائة فهذا انحراف إلا أنّه جزئي ويسير ؛ لأنّه لا يزال ضمن دائرة الظنّ ولم يتحوّل من الظنّ إلى الدرجة الأعلى كالاطمئنان أو القطع. وهذه المرتبة والدرجة ينغمس فيها أكثر الناس بحيث لا تحصل الدرجة التصديقيّة المطابقة تماما للخبر ، بل تحصل لهم درجة تصديقيّة قريبة من درجة التصديق الموضوعيّة.

وأمّا بعض المراتب الأخرى من الانحراف فهي تعتبر شذوذا ، كأن يحصل له الاطمئنان بدرجة خمسة أو تسعين في المائة أو يحصل له القطع مائة في المائة من خلال إخبار شخص درجة التصديق في إخباره سبعين أو ستين في المائة فقط بحسب المبرّرات الموضوعيّة.

ومن هذه المرتبة في الانحراف والشذوذ قطع القطّاع ، وهو الإنسان الذي يحصل له قطع ذاتي غير مستند إلى مبرّرات موضوعيّة ، بل كان معتمدا على حالات نفسيّة معيّنة أوجبت له هذا الانحراف والشذوذ ، بحيث إنّه ينحرف في الغالب بدرجة كبيرة جدّا عن الدرجة التي تفرضها عليه المبرّرات الموضوعيّة ، بأن كانت المبرّرات توجد درجة التصديق بنسبة ستّين في المائة فقط ولكنّه ولأجل بعض الحالات النفسيّة والذاتيّة حصل له القطع واليقين مائة في المائة. فإنّ هذا انحراف كبير جدّا لا يتسامح فيه عرفا في الغالب.

ص: 182

وحجّيّة القطع من وجهة نظر أصوليّة - وبما هي معبّرة عن المنجّزيّة والمعذّريّة - ليست مشروطة بالإصابة بأي واحد من المعنيين.

وأمّا الجواب عن السؤال المتقدّم فهو أنّ القطع حجّة سواء كان مصيبا بالمعنيين أو لم يكن مصيبا فيهما ، فالحجّيّة الأصوليّة التي تعني المنجّزيّة والمعذّريّة ثابتة للقطع كما تقدّم ، سواء كان منشؤه المبرّرات الموضوعيّة أو الحالات الذاتيّة والنفسيّة ، وسواء كان مصيبا للواقع أو لم يكن مصيبا للواقع.

فالحجّيّة لا يشترط فيها الإصابة بأي نحو من هذين المعنيين. والدليل على عدم الاشتراط هو :

أمّا المعنى الأوّل فواضح ؛ إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة ، كما أنّ القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ.

أمّا عدم اشتراط كون القطع مصيبا للواقع بحيث يكون القطع منجّزا سواء أصاب الواقع أم لا ، فلأنّ القطع بالتكليف المولوي هو تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها. وكذلك القطع بعدم التكليف هو تمام الموضوع ؛ لخروج هذا المورد الذي قطع المكلّف فيه بعدم التكليف عن دائرة حكم العقل بالمنجّزيّة والإطاعة ، وهو معنى معذّريّة القطع. فإذا حصل القطع بالتكليف حكم العقل بالمنجّزيّة وكان المورد داخلا في العهدة وفي موضوع حقّ الطاعة ، وإذا قطع بعدم التكليف حكم العقل بنفي العقاب إذ لا مخالفة ؛ لأنّه لا تكليف للمولى ليجب رعايته وامتثاله (1).

ص: 183


1- والدليل على ما ذكره السيّد الشهيد : هو أنّ موضوع حقّ الطاعة يمكن أن يتصوّر على أنحاء ثلاثة هي : 1 - أن يكون الموضوع هو التكاليف الثابتة واقعا سواء علم بها المكلّف أم لا. 2 - أن يكون الموضوع هو التكاليف الواقعيّة مع قيام الحجّة شرعا أو عقلا عليها. 3 - أن يكون الموضوع هو التكاليف التي تنجّزت بمنجّز شرعي أو عقلي ، أي التكاليف التي قامت الحجّة عليها شرعا أو عقلا. والصحيح هو الأخير ؛ لأنّ من حقّ المولى على المكلّف الإطاعة والامتثال في كلّ تكليف وصل إلى المكلّف. وهذا يعني أنّه لا بدّ من فرض الوصول ، وهذا يكون بفرض قيام الحجّة أي المنجّز المعتبر لدى الشارع ، سواء كان هذا التكليف ثابتا في الواقع أم لا. فيكون تمام ..... الموضوع لحقّ الطاعة هو ثبوت التكليف عند المكلّف بالقطع به أو قيام المنجّز المعتبر شرعا عليه ، وكذلك تمام الموضوع لخروج التكليف من موضوع حقّ الطاعة هو القطع بعدمه أو قيام الحجّة المعتبرة شرعا على نفيه والتأمين من ناحيته.

ومن هنا كان المتجرّي مستحقّا للعقاب كاستحقاق العاصي ؛ لأنّ انتهاكهما لحقّ الطاعة على نحو واحد. ونقصد بالمتجرّي : من ارتكب ما يقطع بكونه حراما ولكنّه ليس بحرام في الواقع. ويستحيل سلب الحجّيّة أو الردع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ؛ لأنّ مثل هذا الردع يستحيل تأثيره في نفس أي قاطع ؛ لأنّه يرى نفسه مصيبا وإلا لم يكن قاطعا.

المتجرّي : هو من يقطع بحرمة شيء أو بوجوبه ثمّ يخالف قطعه ، فيرتكب الحرام الذي قطع بحرمته ويترك الواجب الذي قطع بوجوبه ، ثمّ يتبيّن أنّه لم يكن حراما أو واجبا في الواقع. من قبيل أن يقطع بأنّ هذا المائع خمر فيشربه ، ثمّ يتبيّن أنّه ماء ، أو يقطع بأنّ هذه المرأة أجنبيّة فيطأها ، ثمّ يتبيّن أنّها جاريته أو زوجته. فهنا لم يكن قطعه مصيبا للواقع.

ولكن تقدّم منّا أنّ حجّيّة القطع ومنجّزيّته لا يشترط فيها الإصابة للواقع ؛ لأنّ القطع بالتكليف هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة. وعليه فإنّ المتجرّي القاطع بالتكليف يجب عليه بحكم العقل الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها ؛ وذلك رعاية لحقّ المولى واحتراما لأدب العبوديّة المفروض عليه ، فهو كالقاطع بالتكليف ثمّ يعصيه. فلا فرق بين العاصي والمتجرّي من جهة أنّهما انتهكا حقّ المولى وخرجا عن حدود العبوديّة ؛ لأنّهما خالفا التكليف المقطوع والذي هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة. ولذلك يحكم العقل بلزوم العقاب عليهما.

ومجرّد كون المتجرّي لم يصب الواقع بينما العاصي أصابه لا يصحّ أن يكون ملاكا للفرق بينهما في استحقاق العقاب للعاصي دون المتجرّي ؛ وذلك لأنّ إناطة العقاب بذلك معناه تعليق الحكم على شيء غير مقدور للمكلّف ، فإنّ الإصابة للواقع وعدمها ليست مقدورة للمكلّف ، فلا يمكن أن تكون شرطا في التكليف.

والدليل على ذلك : أنّ المنجّزيّة يستحيل سلبها عن القطع ويستحيل الردع عن العمل بالقطع ، فالقاطع يجب عليه العمل وفقا لقطعه ويكون قطعه منجّزا عليه ، وهذا

ص: 184

المعنى موجود سواء المتجرّي أو العاصي. فإنّ القاطع كما تقدّم يرى أنّ قطعه مصيب دائما للواقع ويرى مقطوعه ثابتا في الواقع ، فهو يعتقد ذلك ويؤمن به ، ولذلك لا يصدّق بسلب المنجّزيّة أو الردع عن القطع على أساس ترخيص ظاهري كما تقدّم ؛ لأنّه لا يراه جدّيّا بالنسبة إليه ؛ لأنّه لا يحتمل وجودا إلا للتكليف ولا يحتمل عدمه أصلا ، وإلا لم يكن قاطعا.

ومن هنا نحكم على المتجرّي باستحقاق العقاب كالعاصي ؛ لأنّ ملاك الاستحقاق فيهما واحد ، وهو مخالفته للتكليف المقطوع به الذي هو تمام الموضوع للمنجّزيّة وحقّ الطاعة والامتثال والإطاعة ، خلافا للشيخ الأنصاري حيث نفى العقاب عنه.

والمتجرّي على نوعين :

الأوّل : التجرّي بالنيّة بأن ينوي فعل ما قطع بحرمته أو ينوي ترك ما قطع بوجوبه من دون أن يفعل ذلك. وهذا النحو ليس هو محلّ الكلام. وهذا اختلفت فيه الأخبار.

الثاني : التجرّي بفعل ما قطع بحرمته أو بترك ما قطع بوجوبه ، وهو محلّ الكلام فعلا.

وكما يستحقّ المتجرّي العقاب كالعاصي كذلك يستحقّ المنقاد الثواب بالنحو الذي يفترض للممتثل ؛ لأنّ قيامهما بحقّ المولى على نحو واحد. ونقصد بالمنقاد :

من أتى بما يقطع بكونه مطلوبا للمولى فعلا أو تركا رعاية لطلب المولى ، ولكنّه لم يكن مطلوبا في الواقع.

المنقاد : هو ذاك الإنسان الذي يقطع بوجوب شيء ويمتثله رعاية لحقّ المولى ، أو الذي يقطع بحرمة شيء فيتجنّبه رعاية لحقّ المولى أيضا ، ثمّ يتبيّن أنّه لا وجوب ولا حرمة واقعا. من قبيل أن يقطع بوجوب صلاة الجمعة فيأتي بها ، ثمّ يتبيّن أنّها ليست واجبة ، أو يقطع بحرمة هذا المائع لأنّه خمر فيتجنّبه ، ثمّ يتبيّن أنّه ماء.

فهذا المنقاد يستحقّ الثواب كالمطيع والممتثل ؛ لأنّهما يشتركان معا في ملاك استحقاق الثواب ، وهو رعاية حقّ المولى والعمل على وفق ما يريده المولى من عبادة فعلا أو تركا.

فكما أنّ المتجرّي كالعاصي في استحقاق العقاب ؛ لانتهاكهما حقّ المولى ، كذلك المنقاد كالمطيع في استحقاق الثواب ؛ لرعايتهما حقّ المولى.

ص: 185

والوجه في ذلك ما ذكرناه من أنّ تمام الموضوع لدائرة حقّ الطاعة والمنجّزيّة هو القطع بالتكليف. فإذا قطع بالتكليف فينجّز عليه ويجب إطاعته ويحرم مخالفته ويثاب على امتثاله ، سواء كان مصيبا للواقع أم لا ؛ لأنّها ليست شرطا كما تقدّم.

وأمّا المعنى الثاني فكذلك أيضا ؛ لأنّ عدم التحرّك عن القطع الذاتي بالتكليف يساوي عدم التحرك عن اليقين الموضوعي في تعبيره عن الاستهانة بالمولى وهدر كرامته ، فيكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على السواء والتحرّك عن كلّ منهما وفاء بحقّ المولى وتعظيم له.

وأمّا عدم اشتراط المنجّزيّة للقطع بكونه مصيبا للمبرّرات الموضوعيّة بمعنى أنّ القطع منجّز ، سواء كان قطعا ذاتيّا ناشئا من حالات ذاتيّة ونفسيّة أو كان قطعا موضوعيّا ناشئا عن مبرّرات وضوابط منطقيّة وموضوعيّة.

والوجه في ذلك : أنّ القطع الذاتي مساو للقطع الموضوعي - في حالة عدم التحرّك عنه أي عدم الإطاعة والامتثال له فعلا أو تركا - في كونهما معبّرين عن الاستهانة بحقّ المولى وخرق حدود العبوديّة وهدر كرامة المولى وعدم احترامه ؛ لأنّ القطع فيهما واحد وهو موجب للتحرّك. فعدم التحرك عنه فيهما يعبّر عن العصيان وهو قبيح ، ولذلك يكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على حدّ واحد.

ويكون التحرّك عن كلّ من القطعين وفاء وتعظيما لحقّ المولى.

ولا يمكن سلب المنجّزيّة عن القطع الذاتي كما لا يمكن سلبها عن القطع الموضوعي ؛ لأنّ هذا الشخص بعد حصول القطع عنده يرى أنّه ملزم بالتكليف فعلا أو تركا ؛ لأنّه يرى أنّ قطعه صحيح ومصيب ، ولذلك لا يصدّق بالترخيص ولا يؤمن بإمكان الردع عن هذه المنجّزيّة ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه من أنّ القطع بالتكليف هو تمام الموضوع لدخول المورد في دائرة حقّ الطاعة ، سواء كان منشؤه الحالات الذاتيّة أو المبرّرات الموضوعيّة.

وقد يقال : إنّ القطع الذاتي وإن كان منجّزا لما ذكرناه ولكنّه ليس بمعذّر ، فالقطّاع إذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتا في الواقع فلا يعذّر في ذلك لأحد وجهين :

كان الكلام إلى الآن في أنّ منجّزيّة القطع لا يفرّق فيها بين القطع الذاتي والقطع

ص: 186

الموضوعي وبين القطع المصيب للواقع وغير المصيب. وأمّا بالنسبة لمعذّريّة القطع فقد يقال : إنّ القطع الذاتي ليس معذّرا ، بمعنى أنّ قطع القطّاع بعدم التكليف في مورد لا يكون مؤمّنا له عن استحقاق العقاب فيما إذا كان قطعه مخالفا للواقع وكان التكليف ثابتا ، فلا يكون معذورا.

والدليل على ذلك أحد أمرين :

الأوّل : أنّ الشارع ردع عن العمل بالقطع الذاتي أو ببعض مراتبه المتطرّفة على الأقلّ ، وهذا الردع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ، بل بالنهي عن المقدّمات التي تؤدّي إلى نشوء القطع الذاتي للقطّاع أو بالأمر بترويض الذهن على الاتّزان ، وهذا حكم طريقي يراد به تنجيز التكاليف الواقعيّة التي يخطئها قطع القطّاع وتصحيح العقاب على مخالفتها.

الوجه الأوّل لإثبات أنّ قطع القطّاع بعدم التكليف ليس معذّرا هو : أنّ الشارع قد ردع عن العمل بالقطع الذاتي في جميع مراتبه أو على الأقلّ في المرتبة الشديدة الانحراف منه ، أي قطع القطّاع ومع صدور الردع عن العمل به لا يكون العمل به حجّة ومعذّرا ، فهو من قبيل القياس والاستحسان في كون العمل بهما ليس حجّة. وبالتالي يثبت العقاب فيما لو كان التكليف ثابتا وتركه هذا القاطع استنادا على القطع الذاتي.

لا يقال : إنّ الردع عن العمل بالقطع مستحيل سواء كان موضوعيّا أو ذاتيّا لما تقدّم سابقا من استحالة سلب الحجّيّة عن القطع ؛ لأنّ القاطع سواء بالتكليف أو بعدمه لا يحتمل شيئا آخر خلاف ما قطع به وإلا لم يكن قاطعا. وعليه فلا يتعقّل صدور مثل هذا الردع بنحو جادّ ، فيكون مثل هذا الردع لغوا ؛ لأنّه بلا فائدة وبلا أثر.

فإنّه يقال : إنّ هذا الردع عن القطع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ؛ لئلا يلزم المحذور المذكور ؛ لأنّه بعد حصوله لا يمكن الردع عنه لما ذكر. وإنّما الردع يكون بأحد نحوين :

إمّا بالنهي عن المقدّمات التي من شأنها أن تؤدّي إلى حصول هذا القطع ، بأن يشخّص الشارع هذه المقدّمات وينهى عن اتّباعها ؛ لأنّها تستلزم دائما أو غالبا

ص: 187

حصول القطع الذاتي ، ومع النهي عنها يحرم فعلها وارتكابها فيكون معاقبا عليها لا على قطعه.

وإمّا بالأمر بترويض الذهن على الاتّزان وعدم التسرّع في استخلاص النتائج ، بل لا بدّ من التروي والهدوء فيكون أمرا إرشاديا للتأمّل والتدقيق في المسائل والموارد التي يحصل فيها القطع.

وهذا الردع بأحد هذين التصوّرين ليس حكما واقعيّا ؛ ليلزم اجتماع الضدّين واقعا أو في نظر المكلّف. وإنّما هو حكم ظاهري طريقي روحه وحقيقته إبراز الملاكات الواقعيّة للإلزام وأنّها أهمّ ، فيكون الغرض منه التنجيز للتكليف الواقعي في حالة الخطأ بالقطع الناتج غالبا عن قطع القطّاع ، فهو ردع طريقي في مقام خطأ قطع القطّاع لأجل إبراز الملاكات الالزامية الواقعيّة وأهمّيّتها بنظر الشارع ضمانا للحفاظ عليها وعدم تقويتها. والنتيجة هي أنّ القطّاع يكون مستحقّا للعقاب ؛ لمخالفة هذا التكليف الواقعي الذي أبرز أهمّيّة ملاكاتها هذا الحكم الطريقي.

وهذا أمر معقول ، غير أنّه لا دليل عليه إثباتا.

والجواب على هذا الوجه أنّه معقول ثبوتا وممكن من الناحية النظريّة ، إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا ؛ إذ لا يوجد دليل خاصّ في هذا المورد ولا يوجد إطلاق في أدلّة الأصول العمليّة الإلزامية كالاحتياط لهذا المورد ؛ لأنّها مختصّة في صورة عدم العلم. وهنا يوجد علم بعدم التكليف.

الثاني : أنّ القطّاع في بداية أمره إذا كان ملتفتا إلى كونه إنسانا غير متعارف في قطعه ، كثيرا ما يحصل له العلم الإجمالي بأنّ بعض ما سيحدث لديه من قطوع نافية غير مطابقة للواقع لأجل كونه قطّاعا ، وهذا العلم الإجمالي منجّز.

الوجه الثاني لإثبات أنّ قطع القطاع بعدم التكليف ليس معذّرا هو أنّ هذا القطّاع إذا التفت إلى كونه إنسانا قطّاعا يحصل له القطع الذاتي كثيرا ، فإنّه سوف يحصل له علم إجمالي من أوّل الأمر بأنّ بعض القطوعات النافية للتكليف التي سوف تحصل له في المستقبل ليست كلّها مطابقة للواقع بسبب علمه بكونه قطّاعا غير متعارف في قطعه ، وهذا العلم الإجمالي منجّز. ومقتضى المنجّزيّة لهذا العلم الإجمالي هي وجوب الاجتناب عن كلّ القطوعات النافية للتكليف التي سوف تحصل له ؛ لأنّه لا

ص: 188

يستطيع تمييز المخطئ من المصيب منها. فكلّ قطع بعدم التكليف يكون داخلا ضمن دائرة العلم الإجمالي بوجود قطوعات نافية مخطئة فيجب الاجتناب عنه.

وعليه ، فلو لم يجتنب بل سار وفقا لما قطع به من عدم التكليف لا يكون معذورا ؛ لأنّه مخالف لوجوب الاحتياط والاجتناب والتحفّظ الذي أبرزه العلم الإجمالي ، فإنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لا يمكن سلبها عنه عقلا أو عقلائيّا كما تقدّم.

فإن قيل : إنّ القطّاع حين تتكوّن لديه قطوع نافية يزول من نفسه ذلك العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يمكنه أن يشكّ في قطعه وهو قاطع بالفعل.

هذا إشكال على الوجه الثاني وحاصله : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ومع انحلاله لا يكون منجّزا لوجوب الاجتناب عن القطوعات النافية للتكليف.

وكيفيّة الانحلال أن يقال : إنّ هذا القطّاع عند ما يحصل لديه قطع ناف للتكليف بالفعل فيقطع مثلا بعدم وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ، فإنّ هذا القطع الذي تكوّن لديه وغيره أيضا من القطوعات الفعليّة النافية للتكليف سوف توجب زوال وانحلال العلم الإجمالي ؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا القطع أو القطوعات التي حصل عليها بالفعل ليست داخلة ضمن دائرة ذلك العلم الإجمالي المنجّز ؛ لأنّه يراها مصيبة وصحيحة ولا يحتمل فيها الخطأ ؛ لأنّه لو احتمل كونها مخطئة أو ليست صحيحة لم يكن قاطعا ، وهذا خلف المفروض. إذا ينحلّ العلم الإجمالي لخروج بعض أطرافه من دائرته بالعلم التفصيلي ، فتبقى القطوعات الأخرى مشكوكة ، ولكنّه كلّما حصل لديه قطع ناف كان خارجا عن دائرة العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يشكّ ولا يحتمل الخطأ فيه لأنّه قاطع فعلا.

وعليه فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي ذا أثر أصلا فلا معنى لجعله وصدوره ؛ لأنّه لغو.

كان الجواب : أنّ هذا مبنيّ على أن يكون الوصول كالقدرة. فكما أنّه يكفي في دخول التكليف في دائرة حقّ الطاعة كونه مقدورا حدوثا - وإن زالت القدرة بسوء اختيار المكلّف - كذلك يكفي كونه واصلا حدوثا وإن زال الوصول بسوء اختياره.

هناك بحث سيأتي وهو أنّ القدرة شرط في التكليف ، بمعنى أنّه لا يجوز التكليف

ص: 189

بغير المقدور والحاكم بذلك هو العقل ؛ لأنّه لا تحريك ولا بعث مع عدم القدرة ، والتكليف يكون بداعي البعث والتحريك ، فيكون جعله هنا لغوا وهذا واضح. ويترتّب على البعث والتحريك الناشئين من التكليف حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وباستحقاق الثواب على الإطاعة والامتثال.

والحاصل : أنّ الإدانة متوقّفة على البعث والتحريك وهما متوقّفان على القدرة في التكليف.

ثمّ إنّ هذه القدرة المشروط بها التكليف هل يكفي حدوثها أو لا بدّ من بقائها واستمرارها؟ خلاف بينهم في ذلك.

والصحيح هو أنّ القدرة على التكليف شرط في صحّة التكليف عقلا حدوثا ، بمعنى أنّه إذا كانت هناك قدرة للمكلّف على الفعل فيصحّ جعل التكليف وتوجيهه إليه ، فإذا زالت عنه فيما بعد فلا يضرّ زوالها في التكليف ؛ لأنّ الشرط هو حدوثها لا بقاؤها.

وعلى هذا فإذا كان المكلّف قادرا على الفعل فعصى ولم يمتثل حتّى فات الوقت يكون قد عجّز نفسه عن الإتيان به فارتفعت القدرة باختياره ، وهذا لا يضرّ في بقاء التكليف ولذلك يكون أهلا للإدانة واستحقاق العقاب.

وكذلك إذا كان قادرا على الفعل فأوقع نفسه في التعجيز أي أنّه أذهب القدرة باختياره ، كمن كان قادرا على استعمال الماء في الوضوء فأراقه على الأرض اختيارا فأوقع نفسه في التعجيز وعدم القدرة على الوضوء ، فهنا أيضا يكون مدانا.

والحاصل : أنّ زوال القدرة بسوء الاختيار لا يرفع التكليف ؛ لأنّه يكفي في دخول التكليف في العهدة والذمّة وحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال واستحقاق العقوبة على المخالفة أن يكون التكليف مقدورا عليه حدوثا وإن زالت القدرة عنه بقاء واستدامة بسوء اختيار المكلّف بأن اختار العصيان أو اختار التعجيز. فلا فرق بين العجز والتعجيز ما داما حاصلين بسوء الاختيار ، ولهذا اشتهر قولهم : ( إنّ العجز بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ).

والقول الآخر : إنّ القدرة كما أنّها شرط في التكليف ابتداء وحدوثا فهي شرط فيه أيضا بقاء واستدامة ، فإذا زالت القدرة عن التكليف يرتفع التكليف ، ولذلك فلا بعث

ص: 190

ولا إدانة على تركه للتكليف. نعم يكون معاقبا على فعله للمقدّمات التي أوصلت إلى ترك التكليف مثلا. والصحيح هو الأوّل.

فبناء على هذا المسلك نقول في الجواب عن هذا الإشكال : إنّ الوجه الثاني الذي أبرز العلم الإجمالي للمكلّف بأنّ بعض قطوعاته النافية للتكليف غير صحيحة قد وصل إليه فعلا ، فإذا حصل له بعد ذلك علم بقطع ناف للتكليف فعلا ، فهذا العلم والقطع الذي حصل عليه القطّاع بالفعل لا يوجب انحلال العلم الإجمالي وخروج هذا القطع الفعلي بعدم التكليف عن ذكر العلم الإجمالي المنجّز.

والوجه في ذلك : أنّنا نقول : إنّ الوصول كالقدرة ، فكما إنّنا قلنا : إنّ القدرة على التكليف شرط حدوثا ولذلك لا يضرّ ارتفاعها بسوء الاختيار في بقاء التكليف واستحقاق الإدانة عقلا.

كذلك نقول في الوصول وتوضيحه : إنّ وصول العلم الإجمالي المنجّز إلى المكلّف لا ينحلّ ولا يزول بالقطع الفعلي النافي للتكليف ؛ لأنّ هذا القطع قد حصل للمكلّف بسوء اختياره إذ المفروض أنّه قد اتّبع المبرّرات الذاتيّة والنفسيّة للحصول على هذا القطع ولم يعتمد المبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ، وهو منهيّ عن اتّباع الحالات النفسيّة والذاتيّة بسبب العلم الإجمالي السابق بكونه قطّاعا ، وأنّ قطوعاته غير مطابقة للواقع. فحصول القطع بعدم التكليف كان بسوء اختيار منه ، بمعنى أنّه هو الذي أوقع نفسه في الدائرة التي يحصل فيها على القطع ، ولذلك يكون أوقع نفسه قهرا في الحصول على القطع النافي والذي ينحلّ به العلم الإجمالي برأيه واعتقاده ، فكان الانحلال للعلم الإجمالي بسوء الاختيار ، وهذا لا يوجب الانحلال واقعا وحقيقة أو حكما بنظر الشارع. وعليه ، فالعلم الإجمالي لا يزال منجّزا ولا يزال موجودا واقعا وحكما وهو يفيد المنع من اتّباع القطوعات النافية للتكليف فمع المخالفة يستحقّ الإدانة والعقاب.

وبتعبير آخر : إنّ وصول العلم الإجمالي للمكلّف يكفي في منجّزيّته للاجتناب عن القطوعات النافية للتكليف أن يكون واصلا إلى المكلّف حدوثا وابتداء ، وهنا المكلّف يعلم من أوّل الأمر بأنّ كثيرا من قطوعاته النافية غير مطابقة للواقع بسبب كونه قطّاعا ، فالعلم الإجمالي واصل حدوثا. وهذا العلم الإجمالي لا ينحلّ واقعا بحصول

ص: 191

القطع النافي للتكليف فعلا ؛ لأنّ حصول هذا القطع لدى القطّاع كان بسوء اختياره ، فإنّ القطع الفعلي وإن كان يوجب الانحلال للعلم الإجمالي إلا أنّ القطّاع كان عليه الاجتناب عن هذا القطع الفعلي النافي للتكليف بسبب علمه الإجمالي السابق ، فحصول القطع الفعلي أوجب انحلال العلم الإجمالي بسوء اختياره. ولذلك فإنّ هذا العلم الإجمالي لا يزول ، بل تبقى منجّزيّته على حالها ؛ لأنّه يشترط فيه ألاّ ينحلّ بسوء الاختيار ، وعليه فيبقى مكلّفا بالاجتناب ، فمع مخالفته وارتكابه يكون مدانا ومستحقّا للعقاب.

* * *

ص: 192

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة

ص: 193

ص: 194

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة

الدليل إذا كان قطعيّا فهو حجّة على أساس حجّيّة القطع ، وإذا لم يكن كذلك فإن قام دليل قطعي على حجّيّته أخذ به ، وأمّا إذا لم يكن قطعيّا وشكّ في جعل الحجّيّة له شرعا مع عدم قيام الدليل على ذلك فالأصل فيه عدم الحجيّة.

الدليل سواء كان عقليّا أو شرعيّا إن كان قطعيّا فهو حجّة أي منجّز ومعذّر ؛ وذلك لأنّ القطع كما تقدّم حجّة سواء في ذلك القطع الموضوعي أو القطع الذاتي. وإن لم يكن قطعيّا بأن كان ظنيّا فهنا إن قام دليل قطعي على حجّيّته أخذ به على أساس حجّيّة ذلك الدليل القطعي كخبر الثقة مثلا ، وإن قام دليل قطعي على عدم حجّيّته أخذ به أيضا كما في القياس. وهذا المقدار ثابت لا إشكال فيه.

وأمّا إذا لم يكن قطعيّا ولم يقم دليل قطعي على حجيّته أو على عدم حجيّته فهنا الأصل فيه يقتضي عدم الحجّيّة ، كما إذا أخبر الصبي المميّز بحكم شرعي ولا ندري هل الشارع جعل الحجّيّة لخبره أم لا؟.

ونعني بهذا الأصل : أنّ احتمال الحجّيّة ليس له أثر عملي ، وأنّ كلّ ما كان مرجعا لتحديد الموقف بقطع النظر عن هذا الاحتمال يظلّ هو المرجع معه أيضا.

المقصود من قولنا : ( الأصل عدم الحجّيّة ) : هو أنّ القاعدة الأوليّة التي كانت جارية في هذا المورد تظلّ حجّة فيه ، بمعنى أنّ هذه الحجّيّة المشكوكة لا تؤثّر في رفع اليد عمّا كان ثابتا قبلها ، فالمكلّف يتعامل في هذا المورد وكأنّ هذه الحجّيّة المشكوكة ليست موجودة أصلا ، فكما أنّه قبل مجيئها كان يعتمد على ما هو حجّة شرعا في هذا المورد يظلّ أيضا بعد مجيئها يعتمد عليه ، فما كان مرجعا بقطع النظر عنها يظلّ هو المرجع معها ، فالموقف العملي لا يتغيّر عمّا كان عليه.

ولتوضيح ذلك نطبّق هذه الفكرة على خبر محتمل الحجّيّة يدلّ على وجوب

ص: 195

الدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، وفي مقابله البراءة العقليّة - قاعدة قبح العقاب بلا بيان - عند من يقول بها ، والبراءة الشرعيّة ، والاستصحاب ، وإطلاق دليل اجتهادي تفرض دلالته على عدم وجوب الدعاء.

ولأجل توضيح وبيان ما ذكرناه من الأصل من قولنا : ( إنّ كلّ ما كان مرجعا قبل هذه الحجّيّة المشكوكة يظلّ هو المرجع معها ) نفرض أنّه دلّ خبر مشكوك الحجّيّة - كخبر المميّز أو خبر العامي الثقة أو خبر مجهول الحال أو خبر الثقة الفاسق - على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإنّه قبل مجيء هذا الخبر المشكوك الحجيّة كان المرجع في هذا المورد البراءة العقليّة ، أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند المشهور التي تقيّد التأمين عند عدم العلم وهذا مشكوك فلا عقاب في الترك ، والبراءة الشرعيّة عند السيّد الشهيد وهي تفيد أنّ كلّ ما لا يعلم فهو مرفوع أو حلال أو طاهر فهي تفيد التأمين ونفي الإلزام أيضا ، والاستصحاب أي استصحاب عدم الوجوب ؛ لأنّ الوجوب مشكوك والأصل عدمه إمّا بلحاظ ما قبل التكليف وإمّا بلحاظ صدر التشريع ، والدليل الاجتهادي كالإطلاق والعموم الدالّين على نفي الوجوب المذكور بأن كان لسانهما شاملا للمورد المذكور إن كان الحكم الواقعي عدم وجوب الدعاء بنحو الإطلاق أو العموم.

أمّا البراءة العقليّة فلو قيل بها كانت مرجعا مع احتمال حجّيّة الخبر أيضا ؛ لأنّ احتمال الحجّيّة لا يكمل البيان ، وإلا لتمّ باحتمال الحكم الواقعي. ولو أنكرناها وقلنا : إنّ كلّ حكم يتنجّز بالاحتمال ما لم يقطع بالترخيص الظاهري في مخالفته ، فالواقع منجّز باحتماله من دون أثر لاحتمال الحجّيّة.

أمّا البراءة العقليّة فإن قلنا بها فمفادها التأمين عن العقاب في حال عدم البيان والعلم ، فما دام الحكم الواقعي لم يتمّ عليه البيان فالعقل يحكم بنفي العقاب والإدانة وهو معنى التأمين ، فهذه البراءة العقليّة موضوعها عدم العلم بالحكم الواقعي المساوق للشكّ به ، فمع قيام الحجّيّة المحتملة على وجوب الدعاء يبقى موضوع القاعدة ثابتا ، ولذلك تبقى القاعدة هي المرجع في هذه الحالة ؛ لأنّ البيان والعلم لم يتحقّقا. ومجرّد احتمال الحجّيّة لا يكفي في تماميّة البيان والعلم ولا يكمل البيان والعلم مع ضمّه للواقع المحتمل ، فإنّنا إذا ضممنا هذه الحجّيّة المحتملة إلى الحكم الواقعي بوجوب الدعاء

ص: 196

المحتمل أيضا فإنّه لا يكفي في تكميل البيان ؛ لأنّه مجرّد ضمّ احتمال إلى آخر وهو لا يخرج عن دائرة الشكّ وعدم العلم.

بل إنّنا لو فرضنا أنّ احتمال الحجّيّة كاف في تتميم البيان والعلم لكان احتمال الحكم الواقعي ابتداء كافيا في ذلك أيضا ؛ لأنّ احتمال الحجيّة معناها احتمال الحكم الواقعي ؛ لأنّ المراد من الحجيّة لهذا الخبر المشكوك الحجّيّة الكشف عن الواقع.

ومن الواضح أنّه بناء على مسلك المشهور من البراءة العقليّة لا يكون احتمال الحكم الواقعي منجّزا ما لم يقم الدليل الشرعي الحجّة على الوجوب أو الحرمة ؛ لأنّه يعني رفع اليد عن القاعدة مطلقا في كلّ الموارد التي يحتمل فيها الحكم الواقعي ، وهذا خلاف حكم العقل عندهم. فهذا الافتراض واضح البطلان على مسلك المشهور ، وبه ثبت أنّ المرجع هو البراءة العقليّة لتماميّة موضوعها ولعدم وجود العلم والبيان لا حقيقة ولا تعبّدا ، ولذلك لا يرفع اليد عنها لعدم العلم والبيان.

وأمّا إذا أنكرنا البراءة العقليّة وقلنا بمسلك حقّ الطاعة من أنّ كلّ انكشاف للواقع ولو على مستوى الاحتمال يكون منجّزا للتكليف ولا يرفع اليد عن هذه المنجّزيّة إلا إذا ثبت الترخيص الشرعي الجادّ في المخالفة ، فهنا يكون الواقع منجّزا مع وجود هذه الحجّيّة المشكوكة لا لأجل احتمال الحجّيّة لها ، بل لأجل أنّ احتمال الحكم الواقعي بنفسه منجّز بقطع النظر عن وجود هذه الحجّيّة المشكوكة أو عدم وجودها.

والحاصل : أنّه لا يوجد أثر لهذه الحجّيّة المشكوكة سواء قبلنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو أنكرناها ؛ لأنّه على قبولها يكون موضوع القاعدة تامّا وعلى إنكارها يكون التنجيز لاحتمال الحكم الواقعي ، وفي كلا الموردين لا أثر تنجيزي أو تعذيري لهذه الحجّيّة المشكوكة فالتقيّد بها كذلك لغو باطل.

وأمّا البراءة الشرعيّة فإطلاق دليلها شامل لموارد احتمال الحجّيّة أيضا ؛ لأنّ موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي ، وهو ثابت مع احتمال الحجّيّة أيضا ، بل حتّى مع قيام الدليل على الحجّيّة. غير أنّه في هذه الحالة يقدّم دليل حجّيّة الخبر على دليل البراءة ؛ لأنّه أقوى منه وحاكم عليه مثلا ، وأمّا مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بدليل البراءة.

وأمّا البراءة الشرعيّة كقوله : « رفع ما لا يعلمون » وقوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى

ص: 197

تعلم أنّه حرام » فهذه الألسنة مطلقة بمعنى أنّه في كلّ مورد لا يعلم الحكم الواقعي فيه فهو مرفوع وحلال ، وهو معنى نفي العقاب والتأمين في حالة المخالفة للواقع.

فموضوع البراءة الشرعيّة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي وهذا الموضوع ثابت في الفرض المذكور ، أي قيام دليل مشكوك الحجّيّة على الوجوب مثلا. فإنّ عدم العلم بالتكليف الواقعي متحقّق ؛ لأنّ هذه الحجّيّة المشكوكة لا تكشف عن الواقع كشفا تامّا بل إنّه يحتمل كونها كاشفة فقط. ومع هذا الاحتمال يصدق عدم العلم فتجري البراءة الشرعيّة. وهذا يعني أنّ المورد مشمول للبراءة لأجل إطلاق موضوعها ، بل يمكننا أن نقول أكثر من ذلك : وهو أنّ إطلاق البراءة الشرعيّة يشمل حالة قيام الحجّة المعتبرة شرعا على التكليف كقيام خبر ثقة دالّ على الوجوب ، فإنّ هذا الخبر كاشف ناقص عن الواقع فهو يفيد الظنّ فقط. غاية الأمر جعله الشارع حجّة بمعنى كونه منجّزا ومعذّرا ؛ لأنّه يبرز أنّ ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ وليس جعله حجّة بمعنى جعله علما كما هو مسلك الميرزا وغيره ، وحينئذ فعدم العلم بالتكليف الواقعي ثابت أيضا في صورة قيام الحجّة على التكليف فيقع التعارض بينهما ، ولكنّه تعارض غير مستقرّ ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة كالأخبار والسيرة العقلائيّة أقوى ظهورا ودلالة من دليل البراءة ولذلك يكون مقدّما عليها ، أو يكون حاكما على مسلك الميرزا والمشهور.

ومن المعلوم أنّ الحكومة نوع من التخصيص ؛ لأنّها توسّع أو تضيّق الموضوع أو المحمول بلسان التعبّد والادّعاء ، ولذلك يرفع اليد عن الإطلاق في دليل البراءة لثبوت هذا المخصّص الحاكم. وأمّا إذا لم يثبت هذا المخصّص فلا يؤخذ بالدليل الأضعف كالحجّيّة المشكوكة ويترك الدليل الأقوى وهو الإطلاق ، بل يبقى الإطلاق ثابتا وحجّة لعدم وجود حجّة أقوى منه تكون حاكمة عليه.

وكذلك الكلام في الاستصحاب.

فإنّ موضوعه العلم بالحكم الواقعي فمع عدم العلم به يكون موضوعه تامّا ولا يرفع اليد عنه بالشكّ ، وهذه الحجّة المشكوكة لا تفيد العلم بالحكم الواقعي ، فيبقى الاستصحاب حجّة لتحقّق موضوعه.

فقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر » يفيد أنّ اليقين

ص: 198

السابق حجّة ما لم يعلم بارتفاعه وانتقاضه. وعليه ، فاستصحاب عدم التكليف هو المرجع ؛ لأنّه متيقّن إمّا قبل البلوغ وإمّا في صدر التشريع ، فما لم يتحقّق العلم يبقى ثابتا حتّى مع قيام الحجّة شرعا كخبر الثقة ، فإنّ موضوعها ثابت. غاية الأمر يتقدّم دليل خبر الثقة على دليل الاستصحاب لكونه حاكما أو أقوى إذ هو أخصّ منه وأصرح دلالة.

وأمّا الدليل الاجتهادي المفترض دلالته بالإطلاق على عدم الوجوب فهو حجّة مع احتمال حجّيّة الخبر المخصّص أيضا ؛ لأن مجرّد احتمال التخصيص لا يكفي لرفع اليد عن الإطلاق.

وأمّا الدليل الاجتهادي الدالّ بإطلاقه أو بعمومه على عدم الوجوب في هذا المورد فهو حجّة ولا يرفع اليد عنه إلا مع إحراز حجّة أخرى معارضة له أقوى منه دلالة وظهورا. فإنّ حجّيّة الإطلاق والعموم مقيّدة بعدم حجّة أخرى على الخلاف ، فما لم يعلم أو يحرز هذه الحجّة الأخرى المعارضة والأقوى يبقى الإطلاق والعموم على الحجّيّة. وهنا هذه الحجّيّة المشكوكة لا يمكنها أن تعارض حجّيّة الإطلاق أو العموم ولا يرفع اليد عنهما ؛ لأنّه لم يثبت المخصّص أو المقيّد لهما فلم يرتفع موضوع الحجيّة فيهما.

فالإطلاق والعموم شاملان لكلّ فرد علم دخوله تحتهما أو شكّ في خروجه ؛ لأنّ الفرد المشكوك خروجه عن الإطلاق أو العموم والذي لا يعلم وجود الدليل على إخراجه لا يحكم بخروجه ؛ لأنّ إخراجه إنّما يكون بالتقييد أو التخصيص المحرزين والمعلوم حجّيّتهما وهو منتف في مقامنا (1).

ونستخلص من ذلك : أنّ الموقف العملي لا يتغيّر باحتمال الحجّيّة ، وهذا يعني أنّ احتمالها يساوق عمليّا القطع بعدمها.

والنتيجة من ذلك : هو أنّ احتمال الحجيّة والأصل عند الشكّ في الحجّيّة هو عدم الحجّيّة ، أي أنّ احتمالها كالقطع بعدمها من دون فرق بينهما من الناحية العمليّة.

ص: 199


1- ولا يقال بأنّه يكون من الشبهة المصداقيّة فلا يشمله الإطلاق ولا التخصيص فيكون مجملا ؛ لأنّه يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ لو كان الإخراج بالتخصّص لا بالتخصيص ، أي بالورود لا بالحكومة. والمفروض أنّ التقييد والتخصيص من أنحاء القرينة العامّة كالحكومة.

بمعنى أنّ الموقف العملي لا يتغيّر سواء قطع بعدم الحجّيّة أو احتمل وجود الحجّيّة. فعمليّا لا فرق بينهما في أنّ المكلّف يبقى متمسّكا بالقواعد والأصول والأدلّة التي تجري في المورد بقطع النظر عن وجود هذه الحجّيّة.

نعم ، في الواقع من الممكن أن تكون هذه الحجّيّة المشكوكة ظاهرا ثابتة واقعا ، إلا أنّ هذا لا يكفي لرفع اليد عن تلك الأصول والأدلّة المعتبرة شرعا ؛ لأنّ موضوعها تامّ ، ومجرّد احتمال الحكم الواقعي لا يكفي لرفع اليد عنها.

غاية الأمر أنّ هذا الاحتمال ليس موجودا عند القطع بعدم الحجّيّة إلا أنّه لا فرق بينهما من ناحية عدم الأثر التنجيزي والتعذيري.

ونضيف إلى ذلك : أنّ بالإمكان إقامة الدليل على عدم حجيّة ما يشكّ في حجّيّته بناء على تصوّرنا المتقدّم للأحكام الظاهريّة ، حيث مرّ بنا (1) أنّه يقتضي التنافي بينها بوجوداتها الواقعيّة.

والدليل على أنّ الأصل عند الشكّ في الحجّيّة هو عدم الحجّيّة : هو لزوم التنافي بين هذه الحجّيّة المشكوكة الدالّة على الإلزام والتنجيز للحكم الواقعي وبين تلك الأصول الجارية في المورد ، كالبراءة العقليّة والشرعيّة والاستصحاب والدليل الاجتهادي ؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة لا يمكن أن يجتمع حكمان ظاهريّان متنافيان على مورد واحد أحدهما يؤمّن والآخر ينجّز ؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهريّة بناء على المسلك المختار متنافية فيما بينها بوجوداتها الواقعيّة في عالم ما تكشف عنه من المبادئ الواقعيّة. فإنّ الترخيص الظاهري يكشف عن كون ملاكات الإباحة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر المولى ، بينما الإلزام الظاهري يكشف عن كون الملاكات الواقعيّة للإلزام هي الأهمّ ، ولذلك يقع التنافي والتكاذب بينهما ، فلا يمكن جعلهما معا وصدورهما من الشارع للتنافي بينهما في عالم المبادئ والواقع ، سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

خلافا للمشهور حيث إنّ التنافي بين الأحكام الظاهريّة عندهم إنّما هو في فرض وصولهما معا إلى المكلّف وأمّا في حالة صدورهما ووصول أحدهما فلا تنافي بينهما عندهم.

ص: 200


1- تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

وهذا يعني أنّ البراءة عن التكليف المشكوك وحجّيّة الخبر الدالّ على ثبوته حكمان ظاهريّان متنافيان ، فالدليل الدالّ على البراءة دالّ بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحجّيّة المذكورة ، فيؤخذ بذلك ما لم يقم دليل أقوى على الحجّيّة.

وحينئذ نطبّق هذه الفكرة على مقامنا فنقول : إنّ البراءة الشرعيّة الجارية في هذا التكليف المشكوك تثبت أنّ الملاكات الواقعيّة للترخيص والإباحة هي الأهمّ بنظر الشارع ، بينما هذه الحجّيّة المشكوكة للخبر على فرض تماميّتها فهي تثبت أنّ الملاكات الإلزامية الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع.

وهنا تارة نقول : إنّ هناك مرتبة طوليّة بين هذين الحكمين الظاهريّين فلا تنافي بينهما ، بأن نفرض أنّ البراءة موضوعها الحكم الواقعي المشكوك والحجيّة للخبر الدالّ على الإلزام موضوعه الشكّ في الأحكام الظاهريّة ، بمعنى أنّه يوجد منجّز ظاهري أو ترخيص ظاهري إلا أنّ هذا مجرّد افتراض. وأخرى كما هو الصحيح يكون بينهما مرتبة عرضيّة ، بمعنى أنّ البراءة والحجيّة الأخرى موضوعهما الشكّ في الحكم الواقعي ، فهنا يكون ثبوتهما معا محالا ؛ للتنافي بينهما من حيث إنّ البراءة تبرز أهميّة ملاك الترخيص الواقعي ، بينما الحجّيّة الأخرى تبرز أهميّة ملاك الإلزام الواقعي. ولا يمكن أن يكونا معا مهمّين بنظر الشارع في مرتبة واحدة ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن البراءة أو رفع اليد عن الحجّيّة الأخرى.

وحينئذ نقول : إذا أخذنا بالحجّيّة الأخرى ورفعنا اليد عن البراءة فيلزم من ذلك رفع اليد عن البراءة مع تماميّة موضوعها ، وهذا يحتاج إلى عناية زائدة ودليل خاصّ يثبت أنّ الحجّيّة الأخرى أقوى وأرجح من البراءة ليتمّ تقديمها عليها ، وإلا كان تقديمها من دون دليل ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل. فيوجد محذور في الأخذ بالحجّيّة الأخرى.

وأمّا إذا أخذنا بدليل البراءة ورفعنا اليد عن الحجّيّة الأخرى فلا يلزم هذا المحذور فيكون متعيّنا ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على البراءة كقوله مثلا : « رفع ما لا يعلمون » يدلّ بالدلالة المطابقيّة على الترخيص والإباحة وأنّها الأهمّ بنظر الشارع ، ويدلّ بالدلالة الالتزاميّة على نفي هذه الحجّيّة المذكورة ؛ لأنّه إذا كان الأهمّ بنظر الشارع واقعا هو الترخيص فهذا يعني أنّه لا أهميّة للملاكات الإلزامية ولا ثبوت للتكليف

ص: 201

واقعا ، فتكون الحجّيّة الأخرى منتفية لارتفاع موضوعها تعبّدا وادّعاء ؛ إذ لا وجود للملاكات الإلزامية الواقعيّة لتجعل هذه الحجّيّة المذكورة ظاهرا من أجل الحفاظ عليها.

وعليه ، فلا محذور من الأخذ بدليل البراءة ولا يلزم منه إلغاء الحجّيّة الأخرى مع تماميّة موضوعها ، وإنّما تنتفي هذه الحجّيّة الأخرى وتلغى من باب ارتفاع موضوعها تعبّدا وادّعاء.

فالبراءة هي الثابتة ما لم يقم دليل أقوى يدلّ على الإلزام ، فإنّه إذا قامت الحجّة المعتبرة شرعا الدالّة على الإلزام فإنّه يرفع اليد بها عن البراءة لكونها أقوى ، فتكون حاكمة على دليل البراءة ورافعة لموضوع البراءة تعبّدا وادّعاء ؛ لأنّ الدليل الدالّ على الحجيّة يكون أقوى وأظهر وأصرح من البراءة.

وقد يقام الدليل على عدم حجّيّة ما يشكّ في حجّيّته من الأمارات بما اشتمل من الكتاب الكريم على النهي عن العمل بالظنّ وغير العلم ، فإنّ كلّ ظنّ يشكّ في حجّيّته يشمله إطلاق هذا النهي.

استدلّ الشيخ الأنصاري على عدم حجّيّة ما يشكّ في حجّيّته من الأمارات والظنون الكاشفة كشفا ظنيّا ناقصا عن الحكم الواقعي بالآيات الكريمة الدالّة على النهي وحرمة العمل بالظنّ وغير العلم ، كقوله تعالى : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (2) ، وكقوله : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِ ) (3).

فإنّ هذه الآيات وغيرها من الأخبار دالّة على حرمة العمل بالظنّ والافتاء به ونسبته إلى الشارع ، فإنّ العلم فقط هو الذي يجوز العمل به ؛ بل يجب. وأمّا غير العلم فإن كان هناك دليل قطعي دلّ على جواز العمل به فهو ، وإلاّ فيبقى إطلاق النهي شاملا لحرمة العمل بهذا الظنّ المشكوك جعل الحجّيّة له شرعا ؛ إذ لا يعلم خروجه عن دائرة النهي ، والفرد الذي لا يعلم ولا يحرز خروجه عن الإطلاق أو

ص: 202


1- يونس : 59.
2- يونس : 36.
3- النساء : 157.

العموم يبقى الإطلاق والعموم حجّة فيه ، فهو مصداق وفرد كغيره من المصاديق الأخرى.

نعم ، الفرد الذي علم بخروجه من دائرة إطلاق النهي يحكم بعدم شمول النهي والحرمة له.

وقد اعترض المحقّق النائيني (1) - قدس اللّه روحه - على ذلك : بأنّ حجّيّة الأمارة معناها جعلها علما ؛ لأنّه بنى على مسلك جعل الطريقيّة ، فمع الشك في الحجّيّة يشكّ في كونها علما ، فلا يمكن التمسّك بدليل النهي عن العمل بغير العلم حينئذ ؛ لأنّ موضوعه غير محرز.

اعتراض الميرزا النائيني مبنيّ على مقدّمات :

الأولى : أنّ جعل الحجّيّة للأمارة بناء على مسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة معناه جعل الأمارة علما تعبّدا.

الثانية : أنّ سلب الحجّيّة عن أمارة ما كالقياس ونحوه معناه أنّ هذه الأمارة ليست علما ، بل هي ظنّ.

الثالثة : أنّ الحجّيّة المشكوكة لأمارة ما معناها الشكّ في أنّ هذه الأمارة علم تعبدا أو ليست علما ، وإنّما هي ظنّ.

الرابعة : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تشمل كلّ أمارة ظنّيّة ، ولا تشمل الأمارة العمليّة.

والنتيجة : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّ موضوع النهي - وهو العمل بالظنّ وغير العلم - غير محرز في المقام ؛ وذلك لأنّ هذه الأمارة إن كانت حجّة فهي علم تعبّدي خارجة عن دائرة موضوع النهي ، وإن لم تكن حجّة فهي ظنّ فتكون داخلة في موضوع النهي. وهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ موضوع النهي هل هو متحقّق في هذه الأمارة المشكوكة أو ليس متحقّقا. وفي هذا الفرض لا يمكن التمسّك بإطلاق النهي لهذه الأمارة المشكوكة ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو باطل.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ورد : ( أكرم العالم ) فهو بإطلاقه شامل لكلّ فرد متّصف

ص: 203


1- أجود التقريرات 2 : 87.

بالعلم في الخارج ، فإذا شككنا في أنّ زيدا هل هو عالم أو لا فلا يمكننا أن نتمسّك بالإطلاق لإثبات وجوب إكرامه ؛ لأنّ إطلاق الحكم لا يثبت موضوعه ، بل ينصبّ على موضوعه الثابت من قبل.

وهنا من هذا القبيل فإنّ هذه الأمارة المشكوكة لا يعلم ولا يحرز كونها موضوعا لإطلاق النهي ، فلا يمكن لهذا الإطلاق أن يثبت كونها موضوعا له ؛ لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه ولا يثبت مصداق موضوعه أيضا.

والنتيجة : أنّ هذا الإطلاق ليس شاملا للمورد ، أو على الأقلّ لا يحرز شموله للمورد فيكون الأمر مجملا.

وجواب هذا الاعتراض : أنّ النهي عن العمل بالظنّ ليس نهيا تحريميّا ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم حجّيّته ؛ إذ من الواضح أنّ العمل بالظنّ ليس من المحرّمات النفسيّة ، وإنّما محذوره التورّط في مخالفة الواقع فيكون مفاده عدم الحجّيّة.

والجواب على اعتراض الميرزا يتألّف من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : أنّ هذا الاعتراض مبنيّ على أنّ النهي الوارد في الآيات يفيد الحرمة النفسيّة ، فالعمل بالظنّ محرّم نفسيّا ، وكذلك اتّباع ما ليس بعلم ؛ وهذا معناه أنّ كلّ ظنّ وما ليس بعلم فهو محرّم اتّباعه والعمل به لنفسه ، وهذا يفترض مسبقا أنّ الظنّ ليس حجّة وليس معتبرا شرعا ، ثمّ بعد ذلك وفي رتبة ثانية طوليّة ينهى عن العمل به ويحرّم اتّباعه ، فالنهي والتحريم كان في طول نفي الحجّيّة عن الظنّ. ولذلك فإذا قام دليل قطعي على جعل الحجّيّة للظنّ فهو يكون حاكما على إطلاق النهي ومخصّصا ومقيّدا لهذا الإطلاق ؛ لأنّ الحكومة كالتخصيص إلا أنّها بلسان رفع الموضوع ادّعاء وتعبّدا. وأمّا إذا شكّ في الدليل على الحجّيّة لأمارة ما وظنّ معيّن فيكون شكّا في كونه علما وحجّة أو ليس بعلم وحجّة. وعليه ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق النهي في هذا المصداق ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو ممنوع ؛ لأنّ العامّ والمطلق لا يثبت مصداقه.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لأنّ النهي الوارد في الآيات ليس نهيا وتحريما نفسيّا للظنّ وما ليس بعلم ؛ إذ من الواضح أنّه لا مفسدة في العمل بالظنّ واتّباع ما ليس بعلم في الأمور الشرعيّة ؛ لأنّ العقلاء يبنون على الظنّ في معاملاتهم الشخصيّة

ص: 204

والتشريعيّة وليس عملهم هذا مستنكرا لا عقلا ولا شرعا. فالنهي إذن إرشاد إلى أنّ العمل بالظنّ واتّباع ما ليس بعلم فيه محذور التورّط في مخالفة الواقع في الغالب ، فيكون النهي مفاده الإرشاد إلى عدم حجّيّة الظنّ إلا ما قام الدليل القطعي على اعتباره وحجّيّته شرعا.

فإذا كانت الحجّيّة بمعنى اعتبار الأمارة علما فهذا يعني أنّ مطلقات النهي تدلّ على نفي اعتبارها علما ، فيكون مفادها في رتبة مفاد حجّيّة الأمارة ، وبهذا تصلح لنفي الحجّيّة المشكوكة.

المقدّمة الثانية : بعد أن كانت الحجّيّة للأمارات معناها جعل الأمارة علما بناء على مسلك الطريقيّة والكاشفيّة ، فالآيات الناهية عن العمل بالظنّ قلنا : إنّها إرشاد إلى نفي الحجّيّة عن الأمارة والظنّ المشكوك جعل الحجّيّة لهما ، وهذا معناه أنّها تدلّ على نفي اعتبار الأمارة والظنّ المشكوكين علما ؛ لأنّ إثبات الحجّيّة يعني اعتبار العلميّة فيكون نفي الحجيّة عدم اعتبار العلميّة. وحينئذ فمطلقات النهي وأدلّة جعل الحجيّة للأمارة في رتبة عرضيّة واحدة ؛ لأنّ مطلقات النهي تنفي الحجيّة والعلميّة عن الأمارة والظنّ المشكوكين ، بينما أدلّة حجّيّة الأمارات تثبت الحجّيّة والعلميّة لهما ، ولذلك يقع التعارض بينهما في هذا المورد ويحكم بتساقطهما.

والنتيجة : أنّ هذه الأمارة والظنّ لم تثبت لها الحجّيّة والعلميّة ، والمفروض أنّها من أفراد الظنّ واقعا وتكوينا. وهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ هذا الظنّ التكويني الحقيقي هل خرج عن دائرة إطلاق النهي أو لم يخرج عنها بعد أن علمنا قطعا بأنّه فرد ومصداق لهذا الموضوع؟

وبتعبير آخر : إنّنا نشكّ في وجود الدليل على خروجه عن الإطلاق بالتخصيص أو بالحكومة ، فمع عدم العلم بالمخصّص والحاكم يصحّ التمسّك بالعامّ والمطلق لهذا الفرد والمصداق ؛ إذ لا يعلم خروجه عن دائرته بعد العلم بكونه داخلا واقعا وتكوينا في موضوعه ، فالموضوع محرز ويشكّ في التخصيص المعلوم انتفائه فيتمسّك بالعامّ فيه ؛ لأنّ موضوعه محرز وجدانا وتكوينا. وبالتالي يكون هذا الفرد منهيّا عنه بمعنى أنّه ليس حجّة.

ص: 205

ص: 206

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة

ص: 207

ص: 208

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة

وكلما كان الطريق حجّة ثبت به مدلوله المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزامي فيثبت في حالتين وهما : المدلول المطابقي : هو المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ ، سواء كان نصّا فيه أو ظاهرا ، كقولنا : ( يجب إكرام العالم ) فإنّ كلمة ( يجب ) نصّ في الوجوب. وقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ صيغة ( أكرم ) ظاهرة في الوجوب ؛ لأنّها صيغة أمر.

وأمّا المدلول الالتزامي : فهو اللازم الذي يفهم من الكلام من دون أن يكون هناك لفظ يدلّ عليه بخصوصه ، من قبيل اللوازم العقليّة والتكوينيّة والشرعيّة ، فقولنا : ( طلع الفجر ) لازمه التكويني ذهاب الليل مثلا. وقولنا : ( تجب صلاة الظهر يوم الجمعة ) لازمه الشرعي عدم وجوب الجمعة. وقولنا : ( تجب الصلاة ) لازمه حرمة تركها وهذا لازم عقلي ، وهكذا.

غير أنّ المدلول المطابقي يثبت سواء كان الطريق والدليل الذي يحكي عنه قطعيّا أو كان ظنّيّا قامت الحجّة عليه ، فالمدلول المطابقي يثبت شرعا إذا كان الدليل حجّة كالظنّ شرعا أو حجّة عقلا كالقطع.

وأمّا المدلول الالتزامي فهو يثبت بدون شكّ ولا ريب في حالتين هما :

أوّلا : فيما إذا كان الدليل قطعيّا.

وثانيا : فيما إذا كان الدليل على الحجيّة يرتّب الحجّيّة على عنوان ينطبق على الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة على السواء ، كما إذا قام الدليل على حجّيّة عنوان الخبر وقلنا : إنّ كلاّ من الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة مصداق لهذا العنوان.

الحالة الأولى : أن يكون الدليل قطعيّا كالكتاب والسنّة المتواترة والدليل العقلي

ص: 209

القطعي ، فإنّه إذا علم وجدانا بشيء يعلم أيضا بلوازمه ؛ لأنّ هذا الأمر إذا كان ثابتا واقعا وتكوينا كالعلم بحياة زيد بعد غيابه سبعين عاما فإنّه يعني أيضا العلم بأنّه كبير وذو لحية بيضاء وأنّه يحرم تقسيم تركته وإلخ ... إلى آخره. فإنّ هذه اللوازم تكون ثابتة وجدانا أيضا تبعا لثبوت ملزومها بالوجدان ، وتكون حجّة على أساس حجّيّة القطع والعلم كالمدلول المطابقي تماما.

الحالة الثانية : أن يكون الدليل ظنّيّا إلا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّته يرتّب الحجّيّة على عنوان صالح للانطباق على الدلالتين معا ، كخبر الثقة مثلا. فإنّه دليل ظنّي إلا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّته كالأخبار أو السيرة العقلائيّة يفترض أنّها ترتّب الحجّيّة لهذا الخبر لا على خصوص ما يحكي عنه ويؤدّيه ، بل على عنوان هذا الخبر ، أي إخبارات الثقة حجّة كلّها. فهنا إذا أخبرنا الثقة عن بقاء زيد حيّا بعد تلك المدّة الطويلة فهو يخبرنا أيضا عن هرمه وشيخوخته وحرمة تقسيم أمواله وعدم بينونة زوجته ، هكذا. فكانت الدلالتان المطابقيّة والالتزاميّة مصداقين لهذا العنوان أي الإخبار ، فإنّ كلاّ منهما إخبار أيضا.

فيكون المدلول الالتزامي حجّة على أساس كونه داخلا في موضوع الحجّيّة ولا نحتاج إلى مئونة زائدة لإثبات حجّيّته.

والحاصل : أنّه في هاتين الحالتين لا إشكال في ثبوت المدلول الالتزامي وكونه حجّة ، إمّا على أساس حجّيّة القطع ، وإمّا على أساس حجّيّة الدليل الدالّ على حجّيّة هذا العنوان المنطبق على الدلالتين معا.

وأمّا في غير هاتين الحالتين فقد يقع الإشكال ، كما في الظهور العرفي الذي قام الدليل على حجّيّته فإنّه ليس قطعيّا ، كما أنّ دلالته الالتزاميّة ليست ظهورا عرفيّا. فقد يقال : إنّ أمثال دليل حجّيّة الظهور لا تقتضي بنفسها إلا إثبات المدلول المطابقي ما لم تقم قرينة خاصّة على إسراء الحجّيّة إلى الدلالات الالتزاميّة أيضا.

وأمّا إذا كان الدليل ظنّيّا ولم يكن دليل الحجّيّة يرتّب الحجّيّة على عنوان الخبر أو الظهور فهنا يقع الإشكال ، من قبيل الظهور العرفي كظهور صيغة ( افعل ) في الوجوب مثلا. فإنّ هذا الظهور حجّة ؛ لقيام الدليل على حجّيّته والعمل به استنادا إلى أصالة حجّيّة الظهور الثابتة عقلائيّا والممضاة شرعا. ولذلك يقال بأنّ ظهور صيغة الأمر في

ص: 210

الوجوب حجّة ، إلا أنّ المدلول الالتزامي لهذا الظهور العرفي ليس ظهورا عرفيّا ؛ ليكون حجّة أيضا استنادا على أصالة حجّيّة الظهور ، فإنّ المدلول الالتزامي للوجوب وهو حرمة الترك أو لزوم ترك ترك الضدّ ونحوهما من اللوازم العقليّة يدركها العقل بالتحليل والدقّة لا العرف. فهذا المدلول الالتزامي ليس مشمولا لدليل الحجّيّة لا بنفسه ولا بعنوانه ، وليس عرفيّا ليقال بحجّيّته عرفا.

فالنتيجة هي : أنّ مثل هذا المدلول الالتزامي لا يمكن إثباته بحجّيّة الظهور العرفيّة ؛ لأنّها لا تقتضي إلا إثبات المدلول المطابقي فقط لقيام البناء والفهم العرفي عليه ، فتحتاج في إثبات هذا المدلول الالتزامي إلى وجود دليل خاصّ يدلّ على أنّ الحجّيّة ثابتة للمدلول المطابقي والالتزامي معا ، بمعنى سريانها وشمولها للمدلولين. ومع فقد هذا الدليل الخاصّ لا يمكن إثبات هذا المدلول الالتزامي أو على الأقلّ يشكل ذلك.

ولكنّ المعروف بين العلماء التفصيل بين الأمارات والأصول ، فكلّ ما قام دليل على حجّيّته من باب الأماريّة ثبتت به مدلولاته الالتزاميّة أيضا ، ويقال حينئذ : إنّ مثبتاته حجّة. وكلّ ما قام دليل على حجّيّته بوصفه أصلا عمليّا فلا تكون مثبتاته حجّة ، بل لا يتعدّى فيه من إثبات المدلول المطابقي إلا إذا قامت قرينة خاصّة في دليل الحجّيّة على ذلك.

المشهور بين الأصوليّين هو التفصيل بين الأمارات والأصول ، فقالوا : إنّ كلّ ما قام الدليل على حجّيّته من باب كونه أمارة فيكون حجّة في مدلوله المطابقي والالتزامي معا ، ولذلك يقال : إنّ مثبتات الأمارة حجّة أي أنّ لوازمها حجّة ، وأما ما قام الدليل على حجّيّته بوصفه أصلا عمليّا فهو حجّة في مدلوله المطابقي فقط. وأمّا مدلولاته الالتزاميّة فلا يثبت بنفس دليل الحجّيّة ، وإنّما تحتاج في إثباتها إلى دليل خاصّ أو قرينة في المقام تدلّ على إثباتها أيضا.

وقد فسّر المحقّق النائيني ذلك - على ما تبنّاه من مسلك جعل الطريقيّة في الأمارات - بأنّ دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما فيترتّب على ذلك كلّ آثار العلم. ومن الواضح أنّ من شئون العلم بشيء العلم بلوازمه. ولكنّ أدلّة الحجّيّة في باب الأصول ليس مفادها إلا التعبّد بالجري العملي على وفق الأصل ، فيتحدّد الجري بمقدار مؤدّى الأصل ، ولا يشمل الجري العملي على طبق اللوازم إلا مع قيام قرينة.

ص: 211

عمّق المحقّق النائيني تفصيل المشهور وذلك بناء على مسلكه من جعل الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة في باب الأمارات ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعل الأمارة علما بلحاظ الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع فيكون متمّما لهذه الكاشفيّة الناقصة في الأمارات. وعليه ، فدليل حجّيّة الأمارة يتمّم كشفها عن الواقع فتصبح علما تعبّديّا ، ولذلك فإنّ كلّ آثار العلم وخصائصه ولوازمه تترتّب على الأمارة والتي من جملتها ثبوت اللوازم ، فمثبتات الأمارة على القاعدة ولا تحتاج في إثباتها إلى قرينة خاصّة ودليل مستقلّ. فخبر الثقة مثلا عند جعل الحجيّة له يصبح علما وكاشفا تامّا عن الواقع فلا فرق بينه وبين العلم الوجداني من حيثيّة الكشف التامّ ، غاية الأمر أنّ العلم الوجداني كاشف تامّ بنفسه ، بينما خبر الثقة كاشف تامّ بجعل الشارع الحجّيّة له ، ومن الواضح أنّه إذا ثبت العلم والكشف التامّ عن الواقع فتترتّب كلّ اللوازم الثابتة لهذا الواقع المكشوف ؛ لأنّ العلم بشيء علم بلوازمه أيضا على القاعدة.

وأمّا دليل الحجّيّة في باب الأصول العمليّة فهو يجعل الأصول حجّة بلحاظ الجري العملي أو التنجيز والتعذير ، فالمجعول هو تحديد الموقف العملي والوظيفة العمليّة اتّجاه هذا الواقع المشكوك ، وليس هناك أي كشف عن الواقع ليكون دليل الحجّيّة هنا متمّما لهذا الكشف الناقص ، وعليه فيكون المقدار الثابت بجعل الحجّيّة للأصول هو المدلول المطابقي وما يحكي عنه الأصل ويؤدّي إليه وهو الجري العملي والتنجيز والتعذير. وأمّا اللوازم المترتّبة على ثبوت الشيء واقعا فهي تحتاج إلى دليل خاصّ مستقلّ أو إلى قرينة في دليل الحجّيّة ؛ لأنّ الجري العملي على طبق شيء وكونه منجّزا أو معذّرا لا يلازم ثبوت هذا الشيء واقعا لكي تترتّب كلّ آثار ولوازم الواقع عليه ، ولذلك نحتاج في إثبات هذه اللوازم إلى دليل خاصّ أو قرينة في دليل الحجّيّة.

فالبراءة أو الاحتياط أو الاستصحاب مؤدّاها التعبّد بالمنجّزيّة في الاحتياط وبالمعذّريّة في البراءة والجري العملي في الاستصحاب على طبق الحالة السابقة ، وهذا يعني أنّ دليل الحجّيّة يجعل هذا المؤدّى حجّة فقط من دون نظر إلى الواقع أصلا ، وإنّما النظر إلى حالة الشكّ والحيرة ، ولذلك فهو يحدّد الموقف والوظيفة في هذا الفرض المذكور. ولا نظر في دليل الحجّيّة إلى الواقع ؛ ليقال : إنّ التعبّد بالجري العملي تعبّد بالواقع وبالتالي تترتّب عليه ثبوت اللوازم ، بل تحتاج إلى دليل أو قرينة في المقام.

ص: 212

واعترض السيّد الأستاذ على ذلك بأنّ دليل الحجّيّة في باب الأمارات وإن كان يجعل الأمارة علما ولكنّه علم تعبّدي جعلي ، والعلم الجعلي يتقدّر بمقدار الجعل. فدعوى أنّ العلم بالمؤدّى يستدعي العلم بلوازمه إنّما تصدق على العلم الوجداني لا العلم الجعلي.

اعترض السيّد الخوئي على ما ذكره المحقّق النائيني من التفصيل بين الأمارات والأصول وكون اللوازم حجّة للأمارات دون الأصول ، بأنّ أساس التفرقة غير صحيح فإنّه أنكر أن يكون المجعول في الأصول خصوصا الاستصحاب الجري العملي ، بل المجعول فيه أيضا الطريقيّة ، فلا فرق بين الأمارات والاستصحاب إذا من جهة ثبوت اللوازم ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو قلنا بأنّ المجعول في باب الأمارات الطريقيّة والعلميّة دون الأصول إلا أنّ هذا لا يقتضي ثبوت اللوازم ؛ وذلك لأنّ هذا العلم المجعول للأمارات ليس علما حقيقيّا وجدانيّا ؛ وإنّما هو علم تعبّدي جعلي. والعلم الجعلي تعبّد من الشارع وحكم له حدود تتقدّر بمقدار ما يجعله الشارع سعة أو ضيقا.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الملازمة المدّعاة بأنّ العلم بشيء علم بلوازمه إنّما تصدق في العلم الوجداني الحقيقي ، فإنّ العلم بالملزوم كحياة زيد والعلم بوجود ملازمة بين ثبوت الملزوم واقعا وثبوت لوازمه ينتج لنا العلم بثبوت اللوازم واقعا كنبات لحيته أو هرمه.

وأمّا العلم التعبّدي الجعلي فإنّ هذه الملازمة غير متحقّقة ؛ لأنّه يشترط في صدقها وتحقّقها الالتفات والنظر إليها والعلم بها ، وهذا لا يعلم ولا يحرز من جعل دليل الحجّيّة للأمارات ؛ لأنّ العلم والتعبّد بثبوت الملزوم لا يكفي للعلم بثبوت اللوازم ؛ لأنّ اللوازم متوقّفة على العلم بالملازمة والالتفات إليها وأخذها في لسان التعبّد. وعليه فنحتاج إلى وجود قرينة أو دليل يدلّ على أنّ الشارع قد التفت إلى هذه الملازمة وأخذها بعين الاعتبار عند جعله الحجّيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الملازمة المذكورة بين ثبوت الملزوم وثبوت اللوازم إنّما تتمّ وتصدق في العلم الوجداني الحقيقي ؛ لأنّ ثبوت الملزوم واقعا وحقيقة يترتّب عليه اللوازم واقعا وحقيقة.

ص: 213

وأمّا في العلم التعبّدي الجعلي فإنّ هذه الملازمة لا يعلم بثبوتها بمجرّد جعل الأمارة علما ؛ لأنّ جعلها علما إنّما هو بلحاظ الملزوم والمؤدّى والتعبّد بثبوته ، فهو ثابت تعبّدا لا حقيقة ووجدانا ولذا قد لا يكون موجودا في الواقع أصلا ، وعليه فترتّب اللوازم على الملزوم المعلوم تعبّدا لا بدّ فيه من نظر الشارع والجاعل إلى هذه الملازمة والتعبّد بها أيضا ، وإلا فإنّه يمكن التفكيك بين ثبوت الملزوم تعبّدا وعدم ثبوت اللازم تعبّدا أيضا ؛ لأنّ التعبّد والجعل بيد الشارع والجاعل وهو يحدّده بالمقدار الذي يريده سعة وضيقا ؛ لأنّ الجعل بيده.

ومن هنا ذهب إلى أنّ الأصل في الأمارات أيضا عدم حجّيّة مثبتاتها ومدلولاتها الالتزاميّة ، وأنّ مجرّد جعل شيء حجّة من باب الأماريّة لا يكفي لإثبات حجّيّته في المدلول الالتزامي.

والنتيجة التي ينتهي إليها السيّد الخوئي هي : أنّ الأمارات والأصول علي حدّ سواء ، بمعنى أنّ الأصل والقاعدة الأوّليّة فيهما أنّ اللوازم غير حجّة وليست ثابتة ، بل تحتاج إلى قرينة أو دليل مستقلّ. فالأمارات كالأصول في عدم حجّيّة مثبتاتها ولوازمها. ومجرّد جعل شيء حجّة من باب كونه أمارة لا يكفي لإثبات حجّيّة اللوازم والدلالات الالتزاميّة ؛ لأنّ جعل الحجّيّة يتحدّد بالمقدار الذي يجعله الشارع سعة وضيقا ، فلا بدّ من النظر إلى دليل التعبّد لنرى هل يمكننا استظهار أنّ اللوازم حجّة أم لا؟

نعم ، في باب الأمارات التي لسانها الإخبار تكون اللوازم حجّة كالإقرار والبيّنة وخبر العادل ، فما يصدق عليه عنوان الإخبار والحكاية عن الواقع يكون العلم فيه علما بلوازمه أيضا ، والدليل على ذلك هو السيرة القطعيّة الممضاة (1).

والصحيح ما عليه المشهور من أنّ دليل الحجّيّة في باب الأمارات يقتضي حجّيّة

ص: 214


1- وهكذا التزم السيّد الخوئي بعدم حجّيّة مثبتات الأمارة إلا ما قام الدليل عليه ؛ كالسيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة لوازم ما يكون إخبارا عن الواقع وحكاية عنه كخبر العادل ونحوه. وكان الأولى أن لا يلتزم بالمبنى أصلا ، بدلا من الالتزام به والخروج عمّا هو متعارف عقلائيّا ومشهور أصوليّا من حجّيّة لوازم الأمارات ، فيكون هذا المبنى فاسدا ؛ لأنّه يلزم منه هذا المحذور وهو عدم حجيّة الأمارات ، لا أنّنا نتمسّك به وننفي الحجّيّة عن الأمارات.

الأمارة في مدلولاتها الالتزاميّة أيضا ، ولكن ليس ذلك على أساس ما ذكره المحقّق النائيني من تفسير.

الصحيح هو التفصيل بين الأمارات والأصول فنقول ما قاله المشهور : إنّ كلّ دليل كانت حجّيّته من باب كونه أمارة فلوازمه حجّة ، وكلّ ما قام عليه الدليل من باب كونه أصلا عمليّا لتحديد الوظيفة العمليّة فلوازمه ليست حجّة.

وهذا التفصيل ليست نكتته ما ذكره المحقّق النائيني من تفسير ، وإنّما هناك نكتة أخرى لهذا التفسير تستند إلى المنهج الصحيح في التفرقة بين الأمارات والأصول ، خلافا للمبنى الذي سلكه الميرزا.

فإنّه فسّر ذلك بنحو يتناسب مع مبناه في التمييز بين الأمارات والأصول ، وقد مرّ بنا سابقا (1) أنّه - قدّس اللّه روحه - يميّز بين الأمارات والأصول بنوع المجعول والمنشأ في حجّيّتها ، فضابط الأمارة عنده كون مفاد دليل حجّيّتها جعل الطريقيّة والعلميّة ، وضابط الأصل كون دليله خاليا من هذا المفاد ، وعلى هذا الأساس أراد أن يفسّر حجّيّة مثبتات الأمارات بنفس النكتة التي تميّزها عنده عن الأصول ، أي نكتة جعل الطريقيّة.

التفسير الذي ذكره الميرزا يتناسب مع مسلكه في باب التمييز بين الأمارات والأصول ، فإنّه كما تقدّم في باب الحكم الظاهري يميّز بين الأمارات والأصول على أساس ما هو المجعول في كلّ منهما ، فإن كان المجعول في دليل الحجّيّة الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة فهو أمارة ، وإن كان المجعول في دليل الحجّيّة تحديد الوظيفة والموقف العملي فقط كان أصلا عمليّا.

وعلى أساس هذا التمييز بينهما أراد أن يفسّر أيضا كيف أنّ مثبتات الأمارة حجّة دون مثبتات الأصل العملي. فقال : إنّ دليل حجّيّة الأمارة معناه جعلها علما ، ولوازم العلم حجّة ؛ لأنّ العلم بشيء علم بلوازمه ، بينما مثبتات الأصل ليست حجّة ؛ لأنّ دليل حجّيّته ناظر إلى الجري العملي فقط وهو يتحدّد ويتقدّر بالمقدار الذي يراه الشارع ، وهو الموقف والوظيفة من دون نظر إلى الواقع وإلى الكاشفيّة أصلا ، فمثبتات الأصل ليس حجّة.

ص: 215


1- تحت عنوان : الأمارات والأصول.

فالنكتة التي ميّز على أساسها بين الأمارات والأصول جعلها أيضا هي النكتة في تفسير أنّ الأمارة حجّة دون الأصل ، أي نكتة جعل الطريقيّة والعلميّة في الأمارة دون الأصل.

مع أنّنا عرفنا سابقا (1) أنّ هذا ليس جوهر الفرق بين الأمارات والأصول ، وإنّما هو فرق في مقام الصياغة والإنشاء ، ويكون تعبيرا عن فرق جوهري أعمق.

والمبنى الذي ذكره الميرزا سواء في تمييز الأمارات عن الأصول أو في إبراز النكتة لحجّيّة لازم الأمارات دون الأصول تقدّم سابقا أنّه غير صحيح ، بمعنى أنّ الفارق بين الأمارات والأصول ليس في عالم الإثبات والدلالة والصياغة ليقال بأنّ المجعول إن كان الطريقيّة فهو أمارة وإن كان الوظيفة فهو أصل ، وإنّما الفارق بينهما ثبوتي وجوهري أعمق من هذا الفارق في عالم الصياغة والإنشاء ، نعم الفارق المذكور يكشف عن فارق جوهري عميق بينهما لا أنّه هو الفارق بينهما ، إذ هو مجرّد صياغة اعتباريّة وهي سهلة المئونة. وهذا الفارق الجوهري هو :

وهو أنّ جعل الحكم الظاهري على طبق الأمارة بملاك الأهميّة الناشئة عن قوّة الاحتمال ، وجعل الحكم الظاهري على طبق الأصل بملاك الأهميّة الناشئة من قوّة المحتمل ، فكلّما جعل الشارع شيئا حجّة بملاك الأهمّيّة الناشئة من قوّة الاحتمال كان أمارة ، سواء كان جعله حجّة بلسان أنّه علم أو بلسان الأمر بالجري على وفقه.

والفارق الجوهري العميق بين الأمارات والأصول ما تقدّم سابقا : من أنّ الحكم الظاهري يجعله الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة في صورة الاشتباه والشكّ وعدم التمييز. وهناك إن كانت الملاكات الإلزاميّة هي الأهمّ أصدر حكما ظاهريّا بالتوقّف والاحتياط ، ولو كانت الملاكات الترخيصيّة هي الأهمّ أصدر ترخيصا وإباحة. وهذه الأهمّيّة التي يلحظها الشارع تارة تكون بلحاظ قوّة الاحتمال الكاشف فيكون هذا الحكم الظاهري أساسا ، وأخرى يكون بلحاظ قوّة المحتمل والمنكشف فيكون أصلا عمليّا ، وثالثة يكون بلحاظ قوّة الاحتمال والمحتمل معا فهو أصل تنزيلي أو محرز.

ص: 216


1- تحت عنوان : الأمارات والأصول.

فالفارق إذا بين الأمارات والأصول ثبوتي في عالم الواقع ، فكلّ ما ثبت ترجيحه وأهمّيّته بلحاظ قوّة الاحتمال فهو أمارة ، سواء كان لسان جعله في عالم الإثبات والصياغة جعل الطريقيّة والعلميّة أو جعل الجري العملي ؛ لأنّ ذلك مجرّد صياغة اعتباريّة سهلة المئونة. وهكذا بالنسبة للأصول ، فحينئذ نقول :

وإذا اتّضحت النكتة الحقيقيّة التي تميّز الأمارة أمكننا أن نستنتج أنّ مثبتاتها ومدلولاتها الالتزاميّة حجّة على القاعدة ؛ لأنّ ملاك الحجّيّة فيها حيثيّة الكشف التكويني في الأمارة الموجبة لتعيين الأهميّة وفقا لها ، وهذه الحيثيّة نسبتها إلى المدلول المطابقي والمداليل الالتزاميّة نسبة واحدة ، فلا يمكن التفكيك بين المداليل في الحجّيّة ما دامت الحيثيّة المذكورة هي تمام الملاك في جعل الحجّيّة كما هو معنى الأماريّة.

وعلى أساس هذا الفارق الجوهري بين الأمارات والأصول نقول : إنّ مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة على القاعدة ولا تحتاج في إثباتها إلى دليل مستقلّ أو قرينة خاصّة ؛ وذلك لأنّ ملاك الحجّيّة في الأمارة هي حيثيّة الكشف التكويني عن الواقع الثابت في الأمارة والذي على أساسه كانت هي الأهمّ بنظر الشارع ، فإنّ خبر الثقة مثلا فيه حيثيّة كاشفة ولذلك كان ترجيحه بلحاظ قوّة هذا الاحتمال الكاشف عن الواقع من دون دخالة لنوعيّة المحتمل ، فإنّه تارة يقوم على الإلزام وأخرى على الترخيص ، فالملاحظ هو حيثيّة الكشف التكويني بمعنى كونها تمام الملاك في جعل الحجّيّة له. وهذه الحيثيّة الكاشفة والتي هي تمام الملاك نسبتها إلى المدلول المطابقي والذي هو مؤدّى الأمارة ونسبتها إلى المداليل الالتزاميّة العقليّة والتكوينيّة والشرعيّة على حدّ واحد ؛ لأنّ درجة الكشف في خبر الثقة كما أنّها تكشف كشفا ناقصا عن المدلول المطابقي ، فهي أيضا تكشف بهذه الدرجة عن المداليل الالتزاميّة ، ولذلك كان جعل الحيثيّة معناه أنّ ما تكشف عنه حجّة سواء المطابقي والالتزامي ، ولا معنى للتفكيك بين المدلول المطابقي وبين المداليل الالتزاميّة في الحجّيّة وعدمها ؛ لأنّ هذا معناه التفكيك بين شيئين مع وحدة الملاك والحيثيّة الكاشفة فيهما ، وهذا يحتاج إلى دليل خاصّ ؛ لأنّ العلّة الموجبة للترجيح والأهميّة وبالتالي لجعل الحجّيّة موجودة في المدلولين معا ، فاللازم هو حجّيّتهما معا ، ويكون التفكيك فيهما على خلاف القاعدة والأصل ويحتاج إلى دليل.

ص: 217

وهذا بخلاف الأصول العمليّة ، فإنّ الحيثيّة التي أوجبت الترجيح والأهمّيّة فيها إنّما هي قوّة المحتمل والمنكشف ، فالبراءة والاحتياط كان الترجيح فيهما بلحاظ نوع الحكم والمؤدّى ، وهو الترخيص دائما في البراءة والتنجيز دائما في الاحتياط ؛ بقطع النظر عن وجود احتمال كاشف أو عدم وجوده ، فإنّ تمام الملاك فيهما كان الترجيح بملاك أهمّيّة المحتمل ، وهذا الملاك محرز بالنسبة للمدلول المطابقي وهو الترخيص في البراءة.

وأمّا المداليل الالتزاميّة للبراءة فلا يحرز وجود هذا الملاك فيها ، ولذلك كان ثبوتها يحتاج إلى دليل خاصّ وقرينة في لسان دليل الحجّيّة.

وهكذا بالنسبة للأصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب والفراغ ، فإنّ الملحوظ فيهما قوّة الاحتمال والمحتمل معا ، إلا أنّ جزء الملاك والعلّة كان الترجيح بقوّة المحتمل ، وهذا لا يعلم ولا يحرز وجوده بالنسبة للمداليل الالتزاميّة ، وهذا كاف في عدم حجّيّة اللوازم والمثبتات وإن كان الترجيح بقوّة الاحتمال موجودا ومحرزا ؛ لأنّه يكفي في عدم العلّة عدم جزء منها فقط.

والنتيجة هي :

وهذا يعني أنّا كلّما استظهرنا الأماريّة من دليل الحجّيّة كفى ذلك في البناء على حجّيّة مثبتاتها بلا حاجة إلى قرينة خاصّة.

والنتيجة هي أنّنا إذا استظهرنا من دليل الحجّيّة الأماريّة كان ذلك كافيا في كون مثبتاتها حجّة من دون أن نحتاج إلى إثبات حجّيّتها بدليل خاصّ. وإذا استظهرنا من الدليل الأصل العملي كان معناه أنّ المثبتات

ليست حجّة على القاعدة ونحتاج إلى دليل خاصّ لإثبات حجّيّتها.

والسرّ في ذلك هو حيثيّة الكشف عن الواقع الموجودة في الأمارة دون الأصل.

ص: 218

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة

ص: 219

ص: 220

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة

إذا كان اللازم المدلول عليه من قبل الأمارة بالدلالة الالتزاميّة من قبيل اللازم الأعمّ فهو محتمل الثبوت حتّى مع عدم ثبوت المدلول المطابقي.

اللازم على ثلاثة أقسام :

1 - أن يكون اللازم مساويا للملزوم كالإخبار عن دخول إنسان إلى المسجد ، فلازمه المساوي وجود الناطق أو الضاحك في المسجد ، وهنا لا إشكال في تبعيّة المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في الحجّيّة ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّ المتساويين يوجدان معا ويرتفعان معا وإلا لم يكونا متساويين.

2 - أن يكون اللازم أخصّ من الملزوم كالإخبار بدخول حيوان إلى البيت ، فلازمه الأخصّ وجود إنسان في البيت مثلا. فهنا أيضا يسقط المدلول الالتزامي عند سقوط المدلول المطابقي عن الحجّيّة ؛ لأن الأخصّ لا يثبت بدون الأعمّ ، فإذا انتفى الأعمّ انتفى الأخصّ ضمنا.

3 - أن يكون اللازم أعمّ من الملزوم كالإخبار بدخول الإنسان إلى المسجد ، فلازمه الأعمّ وجود حيوان في المسجد ، فهنا إذا انتفى المدلول المطابقي وسقط عن الحجّيّة لوجود المعارض له مثلا أو للعلم بالخطإ والاشتباه فيه ، فهنا يحتمل سقوط المدلول الالتزامي ويحتمل بقاؤه ؛ وذلك لأنّ الأعمّ كما يصدق مع هذا الأخصّ كذلك يصدق مع غيره ، فإذا انتفى هذا الأخصّ فليس من الضروري أن ينتفي الأعمّ أيضا ؛ لإمكان وجوده مع غيره ، ولذلك يكون المدلول الالتزامي في هذا الفرض محتمل الثبوت أيضا. ومثال فقهي لذلك : الإخبار بوجوب شيء فلازمه الأعمّ الجواز مطلقا ، فإذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة بأن لم يكن هناك وجوب فالجواز مطلقا يمكن ثبوته ؛ لأنّه يثبت مع الوجوب ويثبت مع غيره

ص: 221

كالاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخصّ ، فهو محتمل الثبوت لذلك.

وحينئذ إذا سقطت الأمارة عن الحجّيّة في المدلول المطابقي لوجود معارض أو للعلم بخطئها فيه فهل تسقط حجّيّتها في المدلول الالتزامي أيضا أو لا؟

والكلام حينئذ فيما إذا قامت الأمارة على وجوب شيء مثلا فكان الوجوب مدلولا مطابقيّا - لأنّه مؤدّى الأمارة - كخبر الثقة ، فحيث إنّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجّة كما تقدّم فالمدلول الالتزامي ثابت وهو الجواز مطلقا في المثال. فإذا تبيّن فيما بعد أنّ هذه الأمارة كانت مخطئة أو سقطت عن الحجّيّة لوجود معارض لها كخبر الثقة يدلّ على الاستحباب مثلا أو ينفي الوجوب.

فالسؤال هنا هو : إنّ هذا المدلول الالتزامي الأعمّ هل يسقط عن الحجّيّة أيضا تبعا لسقوط حجّيّة المدلول المطابقي أو لا يسقط؟

قد يقال : إنّ مجرّد تفرّع الدلالة الالتزاميّة على الدلالة المطابقيّة وجودا لا يبرّر تفرّعها عليها في الحجّيّة أيضا.

ذهب المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني إلى عدم سقوط المدلول الالتزامي عن الحجّيّة عند سقوط المدلول المطابقي ؛ وذلك لأنّ دليل الحجّيّة العامّ يشملهما معا ، فكلّ منهما فرد مستقلّ لدليل الحجّيّة ؛ لأنّه إخبار مستقلّ عن الآخر. فإذا سقط أحدهما عن الحجّيّة بقي الآخر ؛ إذ لا مبرّر لسقوطه.

ومجرّد كون الدلالة الالتزاميّة متفرّعة وجودا أو ثبوتا على الدلالة المطابقيّة لا يكون مبرّرا للقول بأنّها متفرّعة عليها في الحجّيّة والسقوط أيضا ؛ إذ يمكن التفكيك بين الأمرين ظاهرا فيبقى حجّة ما لم يعلم بسقوطه

لقرينة أو دليل أو معارض ونحو ذلك.

وقد يقرّب التفرّع في الحجّيّة بأحد الوجهين التاليين :

القول الثاني وهو الصحيح : إنّ الدلالة الالتزاميّة كما أنّها تتبع الدلالة المطابقيّة في الثبوت والوجود فهي تابعة لها في الحجّيّة والسقوط أيضا. وهذا ما يسمّى بأنّ الدلالة الالتزاميّة متفرّعة ومرتبطة بالدلالة المطابقيّة ثبوتا وحجّيّة.

وهنا يوجد تقريبان لهذا المبنى :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّ المدلول الالتزامي مساو دائما للمدلول

ص: 222

المطابقي وليس أعمّ منه. فكلّ ما يوجب إبطال المدلول المطابقي أو المعارضة معه يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزامي أيضا.

التقريب الأوّل : لإثبات سقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة عند سقوط المدلول المطابقي عنها : ما ادّعاه السيّد الخوئي من أنّ المدلول الالتزامي دائما مساو للمدلول المطابقي ، وهذه الدعوى واضحة فيما إذا كان اللازم مساويا أو أخصّ كما تقدّم سابقا.

وأمّا إذا كان اللازم أعمّ كالجواز اللازم الأعمّ للوجوب والحيوان اللازم الأعمّ للإنسان فهذا يحتاج إلى دليل لإثبات المساواة بينه وبين الملزوم الأخصّ. فإذا ثبتت المساواة بينهما فحينئذ يكون المعارض للمدلول المطابقي معارضا للمدلول الالتزامي أيضا ، فإذا سقط عن الحجّة تبعه في السقوط أيضا فيكون متفرّعا عليه ثبوتا وسقوطا.

فالمدلول الالتزامي وإن كان بظاهره أعمّ مطلقا من المدلول المطابقي إلا أنّه بالتحليل والدقّة مساو له دائما ، والوجه في ذلك :

والوجه في المساواة - مع أنّ ذات اللازم قد يكون أعمّ من ملزومه - أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان :

إحداهما مقارنة مع الملزوم الأخصّ ، والأخرى غير مقارنة.

والأمارة الدالّة مطابقة على ذلك الملزوم إنّما تدلّ بالالتزام على الحصّة الأولى من اللازم وهي مساوية دائما.

البرهان الذي ذكره السيّد الخوئي هو أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان : حصّة تقع طرفا في الملازمة ، وحصّة أخرى ليست واقعة كذلك. فالحصّة المقارنة مع الملزوم الذي هو المدلول المطابقي غير الحصّة الأخرى من اللازم الأعمّ وليست مقارنة لها.

فالحصّة المقارنة : هي التي تقع طرفا في الملازمة ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّ الأمارة الدالّة على المدلول المطابقي الذي هو الملزوم إنّما تدلّ على ثبوت الحصّة المقارنة من اللازم لا على اللازم مطلقا ، لذلك فالمساواة بينهما دائميّة فيثبت التفرّع فيهما.

وتوضيح ذلك بالمثال : الأمارة الدالّة على وقوع قطرة بول في هذا الثوب المعيّن ، فإنّها تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على النجاسة أيضا ، إلا أنّ النجاسة وإن كانت لازما أعمّ من وقوع قطرة البول - لأنّها تصدق معها ومع غيرها أيضا كقطرة الدّم مثلا -

ص: 223

لكنّها في الحقيقة مساوية للملزوم ؛ وذلك لأنّ الأمارة لا تخبر عن النجاسة مطلقا بوجودها السعي المنتشر ، وإنّما تخبر عن حصّة خاصّة من النجاسة وهي الحصّة المقارنة مع الملزوم ، أي عن النجاسة الحاصلة من وقوع قطرة البول لا عن النجاسة مطلقا وبأي سبب آخر. وهذا يعني أنّ الدلالة الالتزاميّة هي التي تقع طرفا في الملازمة - حيث إنّ الملازمة تتألّف من اللازم والملزوم والعلاقة بينهما ، فالملزوم هو المدلول المطابقي واللازم هو المدلول الالتزامي والعلاقة هي الملازمة بينهما ولا تقع طرفا بما هي لازم أعمّ ، بل بما هي حصّة من اللازم وهي الحصّة المقارنة للملزوم. ولذلك فهناك مساواة بين وقوع قطرة البول وبين النجاسة ثبوتا ، وكذلك بينهما مساواة في الحجّيّة أيضا. فإذا علم بعدم حجّيّة المدلول المطابقي لخطأ الأمارة مثلا أو لوجود المعارض لها فإنّه يعلم أيضا بعدم حجّيّة المدلول الالتزامي أيضا ؛ لأنّه مساو دائما والمتساويان يثبتان معا ويرتفعان معا ، ولا معنى للتفكيك بينهما. فإذا سقطت هذه الحصّة من اللازم المقارنة للملزوم دائما لم يبق هناك ما يدلّ على بقاء اللازم وحجّيّته ، بل يحتاج ذلك إلى دليل خاصّ يدلّ عليه ؛ لأنّ الأمارة لا تدلّ على ثبوت اللازم مطلقا ومن جميع الحيثيّات ، بل من هذه الحيثيّة فقط ، فإذا انتفت هذه الحيثيّة انتفى اللازم وثبوته يحتاج إلى حيثيّة أخرى.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّ المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة ، فإن كان طرف الملازمة هو الحصّة كانت هي المدلول الالتزامي ، وإن كان طرفها الطبيعي وكانت مقارنته للملزوم المحصّصة له من شئون الملازمة وتفرعاتها كان المدلول الالتزامي ذات الطبيعي.

الملازمة مؤلّفة من طرفين اللازم والملزوم والعلاقة بينهما تسمّى بالملازمة ، وفي مقام بحثنا نقول : إنّ الملزوم هو المدلول المطابقي الذي هو مؤدّى الأمارة ، واللازم هو المدلول الالتزامي لهذا المؤدّى والمفاد.

وتفريع اللازم على الملزوم والعلاقة بين المدلول المطابقي والالتزامي تسمّى بالملازمة.

ثمّ إنّ هذا المدلول الالتزامي الذي يقع طرفا في الملازمة على قسمين :

الأوّل : ما كان له تحقّق وثبوت قبل طروء الملازمة بين اللازم والملزوم ، بمعنى أنّ طرف الملازمة كان هو الحصّة الخاصّة التي لها وجود مستقلّ قبل هذه الملازمة ،

ص: 224

فيكون المدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو الحصّة الخاصّة. فهنا يتمّ ما ذكره السيّد الخوئي.

الثاني : ما ليس له تحقّق وثبوت قبل طروء الملازمة بين اللازم والملزوم ، بل كان ثبوته وتحقّقه متفرّعا على وجود الملازمة وفي طولها ، بمعنى أنّ طرف الملازمة كان هو الطبيعي وذات الماهيّة والمفهوم ، وبعد طروء الملازمة يصبح هذا اللازم الطبيعي متحصّصا بحصص بعضها مقارن للملزوم وهو الحصّة المقارنة له والتي تحقّقت وتفرّعت وثبتت في طول الملازمة ، وبعضها غير مقارن له. فيكون المدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو ذات الطبيعي ، والحصّة إنّما نشأت في طول هذه الملازمة فهي متأخّرة وجودا وتحقّقا عنها وفي طولها.

فهنا لا يتمّ ما ذكره السيّد الخوئي. وتوضيح ذلك بالمثالين التاليين :

ومثال الأوّل : اللازم الأعمّ المعلول بالنسبة إلى إحدى علله ، كالموت بالاحتراق بالنسبة إلى دخول زيد في النار ، فإذا أخبر مخبر بدخول زيد في النار فالمدلول الالتزامي له حصّة خاصّة من الموت ، وهي الموت بالاحتراق ؛ لأنّ هذا هو طرف الملازمة للدخول في النار.

القسم الأوّل : هو أنّ يكون طرف الملازمة هو الحصّة ، ومثاله اللازم الأعمّ وهذا اللازم معلول لإحدى علل كثيرة ، فهو بالنسبة إلى علله معلول وبالنسبة إلى واحدة منها بالخصوص فهو أعمّ. من قبيل الموت فإنّه لازم أعمّ لوجود علل كثيرة له كالضرب بالسيف والاحتراق وكالغرق وكشرب السمّ ونحو ذلك ، فإذا أخبر الثقة بدخول زيد في النار واحتراقه فيها فهذا مدلول مطابقي وهذا له لازم أعمّ وهو موته بسبب الاحتراق لا موته مطلقا وبأي سبب آخر. وعليه ، فالمدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو الحصّة الخاصّة من الموت وهي الموت بالاحتراق لا الموت مطلقا ، وهذه الحصّة الخاصّة موجودة ومتحقّقة وثابتة قبل طروء الملازمة ، بمعنى أنّ الملازمة انصبّت على هذه الحصّة من الموت فاللازم هو الموت بالاحتراق والملزوم هو دخوله إلى النار ، والملازمة أنّه مات بالاحتراق بسبب دخوله إلى النار.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الحصّة من اللازم الأعمّ مقارنة ومساوية دائما للملزوم ، فإنّ الاحتراق مساو ومقارن للدخول إلى النار ، فإذا تبيّن فيما بعد اشتباه هذه الأمارة أو

ص: 225

خطؤها أو سقطت عن الحجّيّة لوجود المعارض لها سقط أيضا المدلول الالتزامي المساوي ؛ لأنّ المتساويين يصدقان معا ويرتفعان معا ، فيكون ما ذكره السيّد الخوئي تامّا هنا.

ومثال فقهي لذلك : النجاسة اللازم الأعمّ مع أحد أسبابها كالبول أو الدّم ونحوهما ، فإذا أخبر مخبر بسقوط قطرة بول على الثوب فلازمه تنجّس الثوب ، ولكن هذا اللازم الأعمّ ليس هو طرف الملازمة وإنّما طرفها هو الحصّة الخاصّة ، أي النجاسة المسبّبة عن البول لا مطلق النجاسة فطرف الملازم هو الحصّة المقارنة مع المدلول المطابقي وهي مساوية له دائما. وعليه ، فإذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة سقط المدلول الالتزامي أيضا ، فتنتفي النجاسة عن الثوب إذا علم بعدم وقوع البول ؛ لأنّ المخبر إنّما يخبر عن حصّة خاصّة من النجاسة لا عن ذات النجاسة.

فالملازمة بين دخوله إلى النار وبين الاحتراق والذي هو حصّة خاصّة من الموت ومن ثمّ يثبت الموت ؛ لأنّه معلول للاحتراق. فالطرف كان الحصّة ، والأعمّ كان متفرّعا عن الحصّة وفي طول ثبوتها أوّلا.

ومثال الثاني الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه ، كعدم أحد الأضداد بالنسبة إلى وجود ضدّ معيّن من أضداده.

فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول الالتزامي له عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي العدم المقارن للصفرة ؛ لأنّ طرف الملازمة لوجود أحد الأضداد ذات عدم ضدّه لا العدم المقيّد بوجود ذاك ، وإنّما هذا التقيّد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعاتها ، لا أنّه مأخوذ في طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.

القسم الثاني : هو أن يكون طرف الملازمة الطبيعي ، ومثاله الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه كما إذا كان هناك تلازم من الجانبين معا ، فإنّ أحدهما ملازم للآخر وليس فيهما لازم وملزوم ؛ لأنّه ليس بينهما علّة ومعلول. من قبيل عدم أحد الأضداد عند وجود ضدّ معيّن من أضداده ، فإنّ التلازم متحقّق من الطرفين ، فوجود الضدّ يلازمه انتفاء الضدّ الآخر ، بناء على حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين معا.

فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول المطابقي أنّها صفراء ، وأمّا المدلول الالتزامي

ص: 226

فهو ذات عدم أحد الأضداد كالسواد مثلا. فنقول : إنّ ثبوت الصفرة للورقة يلازمه عدم سوادها مثلا على أساس حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين ، فالمدلول الالتزامي هو عدم السواد مطلقا وليس عدم حصّة معيّنة من عدم السواد والتي هي الحصّة المقارنة مع صفرة الورقة.

والوجه في أنّ المدلول الالتزامي لصفرة الورقة هو ذات عدم السواد لا الحصّة المقارنة هو أنّ منشأ هذا التلازم هو حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين ، وهذا معناه أنّه إذا ثبت أحد الضدّين ارتفع ذات الضدّ الآخر لا حصّة معيّنة من الضدّ الآخر. وهنا كذلك فإنّه إذا ثبتت صفرة الورقة ارتفع عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي عدم السواد المقارن لوجود الصفرة.

نعم ، هذه الحصّة المقارنة والعدم المقيّد بذاك الوجود للضدّ إنّما يثبت في طول هذه الملازمة ، بحيث يكون متفرّعا ومترتّبا على الملازمة ومتحقّقا بعد الفراغ عن طروء الملازمة ، فإنّه يقال : إنّ عدم السواد الملازم للصفرة مقارن لوجود الصفرة ، إلا أنّ هذه الملازمة للحصّة المقارنة كانت في طول الملازمة الأولى ومتفرّعة عنها.

وحينئذ نقول : إذا سقط هذا المدلول المطابقي عن الحجّيّة وتبيّن أنّ الورقة ليست صفراء فهنا تسقط الحصّة المقارنة من اللازم وهي عدم السواد المقارن للصفرة ، إلا أنّ هذه الحصّة لم تكن هي المدلول الالتزامي ولم تقع طرفا للملازمة ، وإنّما ذات عدم السواد هو المدلول الالتزامي. وعليه ، فالساقط غير المدلول الالتزامي ، وأمّا المدلول الالتزامي فهو لا يزال باقيا على حجّيّته ؛ ولذلك فما ذكره السيّد الخوئي لا يتمّ هنا ؛ لأنّ ذات عدم الضدّ ليس داخلا في المعارضة ، وأمّا الحصّة المقارنة فهي تسقط لأنّها داخلة في المعارضة.

ومثال فقهي لذلك : الدليل الدالّ على الوجوب ، فالمدلول الالتزامي هو ذات عدم الترخيص مثلا الذي هو أحد أضداد الوجوب ، ثمّ بعد الملازمة تثبت الحصّة المقارنة للوجوب وهي عدم الترخيص المقارن كاللاحرمة مثلا ، وهذا هو يسقط عن الحجّيّة عند سقوط المدلول المطابقي. وأمّا المدلول الالتزامي والذي هو طرف الملازمة أي ذات عدم الترخيص فهو غير ساقط عن الحجّيّة ؛ لعدم دخوله في المعارضة ، وإنّما الداخل هو الحصّة أي اللاحرمة المقارنة فقط.

ص: 227

فالملازمة بين الوجوب أو الصفرة وبين ذات عدم الضدّ الذي هو اللازم الأعمّ. وبعد ذلك تتفرّع الحصّة المقارنة للملزوم ، فطرف الملازمة كان اللازم الأعمّ ثمّ بعد ذلك وفي طوله نشأت الحصّة.

الثاني : أنّ الكشفين في الدلالتين قائمان دائما على أساس نكتة واحدة ، من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة في إدراكه الحسّي للواقعة ، فإذا أخبر الثقة عن دخول شخص للنار ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك بنكتة استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص إلى النار ، فإذا علم بعدم دخوله وأنّ المخبر اشتبه في ذلك فلا يكون افتراض أنّ الشخص لم يمت أصلا متضمّنا لاشتباه أزيد ممّا ثبت.

التقريب الثاني : بناء على ما هو الصحيح من أنّ المدلول الالتزامي إنّما يثبت لأجل أنّ الحيثيّة الكاشفة في الأمارة نسبتها إلى المدلولين المطابقي والالتزامي على حدّ واحد ، وعليه فالكشفان الثابتان في المدلولين الالتزامي والمطابقي قائمان على أساس نكتة واحدة وهي الحيثيّة الكاشفة عن الواقع والموجبة للنظر في الأمارة ، والتي على أساسها كان الترجيح.

ففي الأخبار والحكاية لدينا نكتة استبعاد الكذب والخطأ والاشتباه عن الثقة الناقل للواقعة التي شاهدها حسّا أو رآها كذلك ، وفي الإنشاءات والقضايا التكوينيّة المجعولة لدينا نكتة الظهور وحجّيّته العقلائيّة على أساس كاشفيّته ، وحينئذ نقول : إذا أخبر الثقة بدخول زيد في النار يثبت مدلوله المطابقي وهو دخوله النار واحتراقه ، ويثبت مدلوله الالتزامي وهو موته بسبب ذلك. والوجه في الثبوت هو الحيثيّة الكاشفة الموجودة في المدلولين المطابقي والالتزامي على حدّ واحد ، وهذه النكتة هي استبعاد الكذب والخطأ والاشتباه في الإدراكات الحسيّة. فإذا علمنا فيما بعد أنّه أخطأ أو اشتبه أو كذب أو سقط مدلوله المطابقي عن الحجّيّة لوجود المعارض مثلا فهنا تسقط هذه الحيثيّة الكاشفة والتي كانت الأساس لثبوت المدلولين المطابقي والالتزامي ، ومع سقوطها يسقط المدلول المطابقي والالتزامي معا ؛ إذ لن يكون هناك عناية زائدة لإسقاط المدلول الالتزامي ؛ لأنّ نفس السبب الموجب لسقوط المدلول المطابقي هو نفس السبب الموجب لسقوط المدلول الالتزامي ، ولا نحتاج إلى افتراض نكتة أخرى زائدة.

ص: 228

وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيّين عن الحريق من شخصين إذا علم باشتباه أحدهما في رؤية الحريق ، فإنّ ذلك لا يبرّر سقوط الخبر الآخر عن الحجّيّة ؛ لأنّ افتراض عدم صحّة الخبر يتضمّن اشتباها وراء الاشتباه الذي علم.

ومقامنا يختلف عمّا إذا كان هناك خبران عرضيّان عن شخصين مختلفين يخبران عن دخول زيد إلى النار ، فإنّ المدلول الالتزامي في كلّ منهما هو احتراقه وموته. فإذا علمنا بأنّ أحد هذين الشخصين كان كاذبا أو مخطئا أو مشتبها في نقله لهذا الخبر ، وأنّ الشخص لم يدخل إلى النار أصلا ، فهنا يسقط مدلوله الالتزامي عن الحجّيّة كما تقدّم ؛ لأنّ النكتة واحدة في المدلولين.

وأمّا خبر الشخص الآخر فلا يسقط عن الحجّيّة سواء في مدلوله المطابقي أو الالتزامي ؛ لأنّ إسقاطه يحتاج إلى إثبات عناية زائدة عن النكتة التي أسقطت ذاك الخبر ؛ لأنّ اشتباه ذاك الشخص لا يستلزم اشتباه هذا الشخص أيضا ، بل كلّ منهما مستقلّ في إخباره ولكلّ منهما حيثيّة كشف خاصّة ومستقلّة عن الآخر. فإسقاطه يحتاج إلى إثبات أنّه كاذب أو مخطئ أو مشتبه زيادة على الاشتباه والخطأ والكذب في ذاك الشخص.

والسرّ في الفرق بين مقامنا وبين هذا المقام هو أنّه في مقامنا توجد حيثيّة كشف واحدة في المدلولين ، بينما هنا يوجد حيثيّتان كاشفتان مستقلّتان في كلّ خبر منهما.

فالصحيح أنّ الدلالة الالتزاميّة مرتبطة بالدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

فكما أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة ومتفرّعة عن الدلالة المطابقيّة في الثبوت والوجود كذلك هي متفرّعة عليها في السقوط والحجّيّة أيضا ، بناء على ما ذكرناه.

وأمّا الدلالة التضمّنيّة فالمعروف بينهم أنّها غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

الدلالة التضمّنيّة هي أن يكون للكلام ظهور ضمني في الشمول والعموم لكلّ جزء جزء ولكلّ فرد فرد من الأجزاء أو الأفراد.

فقولنا مثلا : ( تجب الصلاة ) تنحلّ إلى وجوبات ضمنيّة لكلّ جزء من أجزائها ، فالركوع واجب ضمني والسجود والقراءة ، وهكذا.

وقولنا : ( أكرم العالم ) ينحلّ إلى وجوبات ضمنيّة بإكرام كلّ فرد من أفراد العالم.

وقولنا : ( أكرم كلّ عالم ) كذلك ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة ضمنيّة لكلّ فرد فرد.

ص: 229

وقولنا : ( أكرم علماء هذه البلدة ) ينحلّ كذلك إلى وجوبات ضمنيّة بعدد الأفراد.

فهنا إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة بأن علم بعدم وجوب الصلاة أو عدم وجوب الإكرام فهل تسقط الدلالة التضمّنيّة عن الحجّيّة أم تبقى حجّة؟

ذهب المشهور إلى أنّ الدلالة التضمّنيّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة ، فتبقى ثابتة ولو سقط المدلول المطابقي (1).

ص: 230


1- والمشهور قبل سلطان العلماء هو التبعيّة في السقوط. والصحيح هو التفصيل بين نحوين من الدلالة التضمّنيّة : الأوّل : الدلالة التضمّنيّة التحليليّة كوجوب الصلاة وكالإطلاق ( أكرم العالم ) ، فإنّ هذه الدلالة التضمّنيّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة أيضا ؛ وذلك لأنّ النكتة الكاشفة واحدة فيهما ، فإذا أسقطت هذه النكتة سقط المدلولان المطابقي والتضمّني معا إذ لا يوجد عناية زائدة لإسقاط المدلول التضمّني ؛ لأنّ الحيثيّة والنكتة فيهما معا واحدة. الثاني : الدلالة التضمّنيّة غير التحليليّة كالعموم الاستغراقي ( أكرم كلّ عالم ) ، كالعموم المجموعي ( أكرم علماء هذه البلدة ). فهنا يوجد لكلّ فرد من أفراد هذا العموم نكتة وحيثيّة كشف خاصّة مستقلّة عن الحيثيّة الموجودة في الآخر. ولذلك إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة وعلم بعدم وجوب إكرام كلّ العلماء لورود المخصّص المنفصل مثلا بالاستثناء لبعض هؤلاء العلماء من الإكرام ، فإنّ المقدار الباقي لا يسقط عن الحجّيّة ؛ لأنّ الحيثيّة الكاشفة فيه مستقلّة وليست مرتبطة بالحيثيّة الكاشفة في الأفراد الأخرى التي علم سقوطها. فإسقاط الدلالات التضمّنيّة الأخرى يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة في المقام. بهذا صحّ التفصيل بين هذين النحوين من الدلالة التضمّنيّة ؛ لأنّ الأوّل ليس فيه عناية زائدة إذ الحيثيّة الكاشفة واحدة في الجميع. بينما في الثاني يوجد عناية زائدة ؛ لأنّ الحيثيّة الكاشفة متعدّدة ومستقلّة عن البعض حيث لكلّ فرد حيثيّة خاصّة وسقوط بعضها لا يوجب سقوط البقية. وسيأتي مزيد تفصيل في بحث الظهور التضمّني الآتي.

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي

ص: 231

ص: 232

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي

إذا كان الدليل قطعيّا فلا شكّ في وفائه بدور القطع الطريقي والموضوعي معا ؛ لأنّه يحقّق القطع حقيقة.

القطع الطريقي : هو القطع الكاشف عن الواقع بحيث يكون القطع طريقا إليه وكاشفا عنه ، فالمقطوع ثابت به.

والقطع الموضوعي : هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم بحيث يكون الحكم مترتّبا على الموضوع المقطوع به لا على الموضوع وحده.

ثمّ إنّ الدليل على الحكم الواقعي تارة يكون دليلا قطعيّا كالكتاب والسنّة المتواترة وحكم العقل ، وأخرى يكون دليلا ظنّيّا كالأمارات.

فإن كان الدليل قطعيّا فلا إشكال في أنّه يقوم ويفي بدور القطع الطريقي ، وبدور القطع الموضوعي أيضا ؛ وذلك لأنّ الطريقيّة والكاشفيّة هي نفس القطع وليست شيئا منفصلا عنه ، بمعنى أنّ القطع طريق وكاشف ذاتي عن الواقع ، فإذا ثبت القطع الحقيقي أي العلم الوجداني بشيء فقد تمّ الانكشاف وتحقّقت الطريقيّة إليه.

وحينئذ يمكن أن يؤخذ هذا القطع موضوعا للحكم ، فيقال : إذا قطعت بالموضوع وعلمت به يترتّب عليه الحكم الشرعي كوجوب القصر والإخفات ، فإنّهما واجبان على من علم بالموضوع لا مطلقا.

والحاصل : أنّ القطع الطريقي هو الكاشف عن الحكم ، فالحكم موجود واقعا سواء قطع المكلّف به أم لا ، إلا أنّه مع القطع به يكون منجّزا أو معذّرا. بينما القطع الموضوعي هو القطع الدخيل في ثبوت الحكم بحيث إنّ الحكم مقيّد به وجودا وعدما. فإذا حصل القطع بالموضوع فيترتّب الحكم وإلا فلا.

وأمّا إذا لم يكن الدليل قطعيّا وكان حجّة بحكم الشارع فهناك بحثان :

ص: 233

الأوّل : بحث نظري في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي مع الاتّفاق عمليّا على قيامه مقامه في المنجّزيّة والمعذّريّة.

والثاني : بحث واقعي في أنّ دليل حجّيّة الأمارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعي أو لا؟

وأمّا إذا كان الدليل ظنّيّا ولكن كان حجّة بحكم الشارع كالأمارات - التي هي أدلّة ظنّيّة كخبر الثقة والبيّنة واليد وحكم الحاكم إلا أنّ الشارع جعل الحجّيّة لها - فالبحث فيها يقع في مقامين :

الأوّل : بحث نظري في تحليل قيام الأمارات مقام القطع الطريقي بعد الاتّفاق عمليّا على قيامها مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة ، بمعنى أنّه يوجد دليل إثباتي على قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، فهي مثله في كونها طريقا إلى الحكم وكاشفا عنه ؛ لأنّها وإن كانت كشفا ظنّيّا إلا أنّ الشارع قد جعلها حجّة فالغاية من جعل الحجّيّة لها قيامها مقام القطع الطريقي ، فهي منجّزة ومعذّرة في كونها طريقا وكاشفا عن الحكم وإلا لم يكن لجعل الحجّيّة لها أية فائدة وأثر ، إلا أنّه يبحث ثبوتا وتحليلا في كيفيّة قيامها مقام القطع الطريقي ، فهذا بحث نظري تحليلي. وهذا البحث النظري الثبوتي يراد به دفع ما يتوهّم أو يشكل على قيامها مقامه كما سيأتي.

الثاني : بحث واقعي أي أنّه بحث على مستوى الثبوت والإثبات معا في أنّ الأمارات هل يمكن أن يستفاد من دليل حجّيّتها كونها تقوم مقام القطع الموضوعي أيضا أو لا يمكن ذلك؟ ثمّ بعد وجود هذا الدليل يمكن البحث عن كيفيّة تصوير قيامها مقامه ، وأمّا إذا لم يكن هناك دليل على قيامها مقامه فلا معنى للبحث التحليلي النظري ؛ إذ لا فائدة منه.

أمّا البحث الأوّل : فقد يستشكل تارة في إمكان قيام غير القطع مقام القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة ، بدعوى أنّه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ويستشكل أخرى في كيفيّة صياغة ذلك تشريعا ، وما هو الحكم الذي يحقّق ذلك؟

البحث الأوّل : في تصوير قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، والداعي إلى هذا البحث النظري هو الجواب عن الإشكالين التاليين :

ص: 234

الإشكال الأوّل : إنّ قيام الأمارات مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة مخالف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ العقل يحكم بالتأمين ونفي العقاب إذا لم يكن هناك علم وبيان على الحكم الواقعي. فإذا قامت الأمارة على التنجيز بأن أخبر الثقة عن الوجوب أو الحرمة فهذا لا يعني العلم بالحكم الواقعي ، فهو لا يزال غير معلوم ؛ لأنّ البيان والعلم لا يتحقّقان بقيام الأمارة ، ومعه يقع التعارض بين حكم العقل بالتأمين والمعذّريّة في صورة عدم العلم والبيان وبين الأمارة الدالّة على التنجيز في صورة عدم العلم والبيان أيضا ؛ لأنّ الأمارة ليست علما حقيقيّا بالحكم الشرعي. وحينئذ كيف يمكن قيامها على المنجّزيّة مع كونها معارضة لحكم العقل القطعي؟!

نعم ، الأمارات الدالّة على التأمين والمعذّريّة ليست مخالفة لحكم العقل ؛ لأنّه يثبت التأمين والمعذّريّة أيضا.

الإشكال الثاني : بعد الفراغ عن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي وحلّ الإشكال السابق ، وأنّها ليست معارضة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان يستشكل في كيفيّة صياغة دليل الحجّيّة للأمارات ؛ والذي يتكفّل في كونها قائمة مقام القطع الطريقي.

أي ما هي الصياغة الإنشائيّة التي ينشئها الشارع عند جعل الحجّيّة للأمارة ، بحيث تكون هذه الصياغة وافية في بيان ذلك المطلب الذي يجعله الشارع في الأمارات عند جعل الحجيّة لها ، بحيث يكون هذا الحكم المجعول فيها محقّقا لذاك المطلب؟

أمّا الاستشكال الأوّل فجوابه :

أوّلا : أنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا.

الجواب عن الاستشكال الأوّل : إنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ القاعدة العقليّة الأولى بناء على المسلك المختار هي الاشتغال والاحتياط العقلي ، على أساس أنّ مطلق انكشاف التكليف ولو احتمالا يكون منجّزا ما لم يثبت الترخيص والإذن الشرعي ، وهنا يكون الحكم العقلي عند الشكّ في الحكم هو التنجيز. وعليه ، فالأمارة الدالّة على التنجيز إنّما تؤكّد حقّ المولى في لزوم الإطاعة والامتثال ، فهي موافقة لحكم العقل وليست مخالفة له ، والأمارة التي تدلّ على التعذير تثبت وجود الإذن والترخيص الشرعي في الشارع في ترك التحفّظ وعدم لزوم الاحتياط العقلي في المورد كما مرّ توضيحه سابقا.

ص: 235

وثانيا : أنّه لو سلّمنا بالقاعدة فهي مختصّة بالأحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأمّا المشكوك الذي يعلم بأنّه على تقدير ثبوته ممّا يهتمّ المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولا للقاعدة من أوّل الأمر. والخطاب الظاهري - أي خطاب ظاهري - يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعيّة في مورده على تقدير ثبوتها وبذلك يخرجها عن دائرة قبح العقاب بلا بيان.

والجواب الثاني على الاستشكال الأوّل : إنّنا لو سلّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا نسلّم بإطلاقها لكلّ الأحكام المشكوكة ، بل هي مختصّة بقسم منها فقط ؛ وذلك لأنّ الأحكام المشكوكة على ثلاثة أقسام :

1 - الأحكام المشكوكة التي يعلم على تقدير ثبوتها بأهمّيّتها ، وأنّ المولى لا يرضى بتفويتها وترك التحفّظ عليها.

2 - الأحكام المشكوكة التي يعلم بعدم أهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأنّ المولى يرضى بتفويتها أيضا حتّى في حال ثبوتها.

3 - الأحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، ولا يعلم بعدم أهمّيّتها على تقدير ثبوتها. بمعنى أنّه يشكّ في أنّها مهمّة أو ليست مهمّة على تقدير ثبوتها.

وحينئذ نقول : إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مختصّة بالأحكام ، أي يعلم على تقدير ثبوتها بعدم أهمّيّتها ، بحيث إنّ المولى يرضى بتفويتها ، وبالأحكام المشكوك أهمّيّتها وعدم أهمّيّتها. فهنا تجري القاعدة العقليّة المذكورة لنفي التنجيز ولنفي التحفّظ ولإثبات التأمين عن هذه الأحكام المشكوكة.

وأمّا الأحكام المشكوكة التي يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأنّ المولى لا يرضى بتفويتها وترك التحفّظ عنها ، فهي ليست داخلة في موضوع القاعدة أصلا. بمعنى أنّها خارجة عنها تخصّصا ، ولا تحتاج في إثبات خروجها عن موضوع القاعدة إلى دليل خاصّ ليشكل بأنّها إذا كانت داخلة تحت القاعدة فكيف تخرج بالأمارة مع أنّها ليست علما؟!

فالمكلّف إذا شكّ في وجوب حفظ ابن الحاكم أو حفظ ماله من العدوّ فإنّه لا يمكنه الاعتماد على البراءة العقليّة هنا ؛ لأنّ هذا الحكم المشكوك على تقدير ثبوته فهو

ص: 236

ممّا لا يرضى المولى والحاكم بتفويته ، فيكون عدم الالتزام وترك التحفّظ موجبا لاستحقاق المؤاخذة والعقاب والدليل على ذلك هو السيرة العقلائيّة القائمة على ذلك بين الحاكم والمحكوم العرفيّين والشارع أمضى هذه السيرة.

فإذا اتّضح ذلك نقول : إنّ الأمارة الدالّة على التنجيز أو أي حكم ظاهري آخر كالأصول العمليّة المنجزة تبرز لنا أنّ هذا الحكم المشكوك من النوع الذي لا يرضى المولى بتفويته على تقدير ثبوته ، فمهمّتها هي الكشف عن التكاليف الواقعيّة المهمّة بنظر الشارع في حال الشكّ فيها. وكذلك الأمارات والأصول الدالّة على الترخيص فهي تبرز أنّ هذا الحكم المشكوك ممّا يرضى الشارع بتفويته على تقدير ثبوته فتجوز المخالفة وترك التحفّظ.

وبهذا تكون الأمارات المنجّزة مخرجة لهذا القسم من الأحكام المشكوكة التي هي مهمّة ولا يرضى الشارع بتفويتها على تقدير ثبوتها من دائرة القاعدة. فهي خارجة تخصّصا لا تخصيصا فلا يأتي الإشكال المذكور.

وهذا هو الجواب الفنّي الصحيح على هذا الإشكال حتّى بناء على التسليم بالقاعدة المذكورة. وغيره من الأجوبة التي ذكرها أصحاب هذا المسلك لا تصلح جوابا فنّيّا عن ذلك.

وأمّا الاستشكال الثاني فينشأ من أنّ الذي ينساق إليه النظر ابتداء أنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة تحصل بعمليّة تنزيل لها منزلته من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة.

وأمّا الاستشكال الثاني والذي هو إشكال على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي نظريّا ومفاده : أنّه ما هي الصياغة التي يمكن من خلالها إبراز أنّ الشارع عند ما جعل الحجّيّة للأمارة قد أقامها مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة بعد التسليم بقيامها مقامه في هذا المقدار؟ إلا أنّ الاستشكال يرد على الصياغة الإنشائيّة وكيفيّة جعل الحجّيّة للأمارة ، وما هو المجعول في الأمارات وأي نحو من أنحاء الحكم هو كيفيّة تصويره؟ وللإجابة توجد عدّة اتّجاهات أهمّها :

الأوّل : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وهو الذي أوجب ورود الاستشكال المذكور وحاصل ما أفاده :

ص: 237

إنّ دليل حجّيّة الأمارة ينزّل الأمارة منزلة العلم ، فكلّ آثار العلم تترتّب على الأمارة. ومن جملة آثار العلم كونه منجّزا ومعذّرا ، فتثبت المنجّزيّة والمعذّريّة للأمارة بدليل التنزيل المجعول في دليل حجّيّتها. أو يقال : إنّ دليل الحجّيّة ينزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع المقطوع ، فمن المعلوم أنّ الواقع المقطوع به يكون منجّزا ومعذّرا إمّا بنفسه بأن كان المقطوع به حكما شرعيّا كالوجوب والإباحة ، وإمّا مع الواسطة بإن كان المقطوع به موضوعا لحكم شرعي. فإحراز الموضوع والقطع به يترتّب عليه التنجيز والتعذير ، فإنّه إن كان موضوعا لحكم إلزامي كان منجّزا ، وإن كان موضوعا للترخيص كان معذّرا.

ودليل الحجّيّة في الأمارة يجعل هذا المؤدّى كالمقطوع به منجّزا أو معذّرا لكون المؤدّى إما حكما أو موضوعا لحكم.

وهذا نظير تنزيل الطواف في البيت منزلة الصلاة ، فإنّ معناه أنّ أحكام الصلاة تثبت للطواف من الطهارة الخبثيّة والحدثيّة ؛ لأنّه المنظور في دليل التنزيل.

وعلى هذا الأساس نشأ الاعتراض والاستشكال وهو :

ومن هنا يعترض عليه : بأنّ التنزيل من الشارع إنّما يصحّ فيما إذا كان للمنزّل عليه أثر شرعي بيد المولى توسيعه وجعله على المنزّل ، كما في مثال الطواف والصلاة ، وفي المقام القطع الطريقي ليس له أثر شرعي بل عقلي ، وهو حكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة ، فكيف يمكن التنزيل؟!

ومن هنا نشأ الاستشكال ، فإنّ القول بأنّ دليل الحجّيّة ينزّل الأمارة أو مؤدّاها منزلة العلم أو الواقع غير صحيح ؛ وذلك لأنّ التنزيل يفترض وجود منزّل وهو الحاكم والجاعل ، ووجود منزّل وهو المراد إسراء الحكم إليه ، ومنزّل عليه وهو المراد إسراء الحكم منه. وهذا التنزيل يفترض أن يكون المنزّل قادرا على إسراء الحكم من هذا إلى ذاك وإلا فلا يتمّ التنزيل ، وهنا المفروض أنّ المنزّل هو الشارع ، وهذا يعني أنّه لا بدّ أن يكون هناك أثر شرعي في المنزّل عليه يراد إسراؤه إلى المنزّل ؛ لأنّ الأثر الشرعي بيد الشارع جعله ورفعه وتضييقه وتوسيعه.

فمثلا تنزيل الطواف منزلة الصلاة في قوله : « الطواف في البيت صلاة » صحيح ؛ لأنّ المراد منه إسراء حكم المنزّل عليه وهو الطهارة إلى المنزّل أي الطواف. ومن المعلوم

ص: 238

أنّ الطهارة من الآثار الشرعيّة بيد الشارع جعلها ووضعها على الموضوع الذي يريده ؛ لأنّ أسباب الطهارة والنجاسة من الأسباب الاعتباريّة المجعولة من الشارع.

وأمّا في مقامنا فدليل التنزيل يريد إسراء المنجّزيّة والمعذّريّة الثابتتين للقطع الذي هو المنزّل عليه إلى الأمارة التي هي المنزّل ، وهذا التنزيل يصحّ فيما إن كانت المنجّزيّة والمعذّريّة من الآثار الشرعيّة للقطع ، بحيث يكون بيد المولى جعلها ووضعها ورفعها ، وهذا واضح البطلان ؛ إذ من المعلوم أنّ المنجّزيّة والمعذّريّة يثبتان للقطع بحكم العقل.

فإنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة والامتثال عند القطع بتكليف الشارع ، ويحكم بالمعذّريّة عند القطع بعدم التكليف مع مخالفته للواقع ، وليستا من الآثار الشرعيّة ؛ إذ يستحيل أن يحكم الشارع بالمنجّزيّة والمعذّريّة لاستلزامه الدور ؛ إذ ما هو الدليل على لزوم إطاعة هذه المنجّزيّة والمعذّريّة؟ فإن كان حكم الشارع ينقل الكلام إليه ويتسلسل ، فلا بدّ أن ينتهي الأمر إلى أنّ الحاكم بذلك هو العقل ، والأوامر الإلهيّة في المقام ليست إلا إرشادا لحكم العقل بذلك.

فإذا ثبت كون المنجّزيّة والمعذّريّة من أحكام العقل وليس بيد الشارع وضعهما ورفعهما فكيف يصحّ التنزيل إذا؟! وعليه فكيف تكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير؟! فإنّ هذا اللسان قاصر عن إبراز وإثبات وتصوير قيامها مقامه.

وقد تخلّص بعض المحقّقين (1) عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفي على طبق المؤدّى ، فإذا دلّ الخبر على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها ظاهرا ، وبذلك يتنجّز الوجوب ، وهذا هو الذي يطلق عليه مسلك جعل الحكم المماثل.

الثاني : يظهر من المحقّق الخراساني في حاشيته على ( الرسائل ) إلا أنّه عدل عنه في ( الكفاية ) وحاصله : أنّ دليل الحجيّة للأمارة لا ينزلها منزلة العلم أو الواقع ؛ لأنّه مستحيل كما تقدّم. وإنّما دليل الحجّيّة مفاده جعل حكم تكليفي على طبق مؤدّى الأمارة ، وهذا هو المسلك المعروف بجعل الحكم المماثل ، بمعنى أنّ الشارع عند ما جعل الأمارة حجّة فمعناه أن يجعل حكما تكليفيّا على طبق ما أدّت إليه الأمارة. فإذا

ص: 239


1- منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 3 : 59.

أخبر الثقة بوجوب السورة فإنّ الشارع عند ما جعل الأمارة حجّة حكم بوجوب السورة حكما ظاهريّا ، ولذلك تثبت المنجّزيّة ، وإذا أخبر بعدم وجوبه فيحكم الشارع حكما ظاهريّا بالترخيص ، وهذا الترخيص يحكم العقل بعدم استحقاق العقوبة على مخالفته لو كان الحكم ثابتا في الواقع وكانت الأمارة مخطئة ، وهذا هو معنى التعذير.

فالمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتان للأمارة بنفس دليل الحجّيّة ؛ لأنّ مفاده جعل الحكم المماثل وبالتالي يثبت قيامها مقام القطع الطريقي (1).

وتخلّص المحقّق النائيني (2) بمسلك جعل الطريقيّة قائلا : إنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي لا تتمثّل في عمليّة تنزيل لكي يرد الاعتراض السابق ، بل في اعتبار الظنّ علما ، كما يعتبر الرجل الشجاع أسدا على طريقة المجاز العقلي ، والمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتتان عقلا للقطع الجامع بين الوجود الحقيقي والاعتباري.

الثالث : ما ذكره المحقّق النائيني وسارت عليه مدرسته وهو أنّ دليل حجّيّة الأمارات ليس هو تنزيل الأمارة منزلة العلم أو تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ليرد الإشكال السابق من أنّه غير ممكن ؛ لأنّ المنجّزيّة والمعذّريّة ليستا من الآثار الشرعيّة فلا يتمّ التنزيل. وليس هو جعل الحكم المماثل ليلزم التصويب أو اجتماع الحكمين التكليفيّين المتماثلين أو المتضادّين.

وإنّما دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما ويعتبر الظنّ علما ، فالشارع عند ما جعل الأمارة حجّة وأنّها تقوم مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة إنّما جعلها كذلك من حيث اعتبارها علما ، وبذلك تترتّب عليها كلّ آثار العلم من المنجّزيّة والمعذّريّة ولا نحتاج إلى إثباتهما بدليل خاصّ ، بل إنّ نفس دليل الحجّيّة يثبتهما.

أمّا كيفيّة جعل الأمارة علما فهو على أساس الادّعاء والمجاز العقلي في المصداق لا

ص: 240


1- إلا أنّ هذا المسلك كما تقدّم سابقا يستلزم التصويب الذي هو خلاف مذهب الإماميّة ، فإنّ قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل تدفعه ؛ لأنّها تثبت وجود أحكام واقعيّة ثابتة حتّى في صورة قيام الأمارات. وحينئذ إن كان هناك حكم تكليفي آخر على طبق الأمارة فتأتي شبهة ابن قبة بأنّ هذا الحكم الظاهري إن كان مطابقا للواقع فيلزم اجتماع المثلين ، وإن كان مخالفا فيلزم اجتماع الضدّين وكلاهما مستحيل.
2- فوائد الأصول 3 : 21.

في المفهوم ، نظير المجاز العقلي السكّاكي. فإنّ اعتبار الرجل الشجاع أسدا ليس فيه مجاز في اللفظ ، فإنّ الرجل الشجاع على معناه الحقيقي والأسد على معناه الحقيقي فالمفهوم ثابت من دون أيّة عناية مجازيّة ، وإنّما المجازيّة في المصداق بحيث إنّ العقل يحكم بوجود مصداق آخر للأسد ادّعاء واعتبارا. فالأسد يشمل الحيوان المعروف ويشمل الرجل الشجاع على حدّ واحد ، فهو مستعمل في معناه الحقيقي. غاية الأمر إنّ له فردين أحدهما حقيقي وتكويني ، والآخر ادّعائي واعتباري اخترعه العقل وأوجده.

وهنا كذلك فإنّ دليل الحجّيّة يعتبر الأمارة علما ادّعاء واعتبارا ، بمعنى أنّ العلم على حاله وهو الانكشاف التامّ ، وهذا المفهوم له فردان أحدهما فرد حقيقي تكويني وهو العلم الوجداني أي القطع واليقين ، والآخر هو العلم التعبّدي الاعتباري الجعلي والذي هو الأمارة ، فالشارع جعل الأمارة وهذا الظنّ علما ، بمعنى أنّها مصداق من مصاديق العلم اعتبارا وادّعاء.

وحينئذ فإذا ثبت كونها علما ، فتترتّب عليها آثار العلم من المنجّزيّة والمعذّريّة ، فإنّهما من آثار العلم والأمارة مصداق ادّعائي للعلم كما أنّ القطع مصداق حقيقي للعلم.

وفرق هذا عن التنزيل أنّ التنزيل ينزّل الأمارة منزلة القطع ، بحيث يريد إسراء آثار القطع عليها مع الحفاظ على كونها ظنّا ، فيرد عليه الإشكال السابق. وأمّا هنا فإنّه يسري آثار العلم للأمارة لا بوصفه أمارة وظنّا ، بل بوصفها علما ، أي أنّه يوجد الموضوع ، فإذا تحقّق الموضوع ثبت الحكم.

وهذا المسلك يسمّى بالحكومة ، أي أنّ أدلّة جعل الحجّيّة للأمارة حاكمة على ( قبح العقاب بلا بيان ) ؛ لأنّها توجد العلم والبيان ، بمعنى أنّها توسّع الموضوع ليشمل العلم الحقيقي والعلم الاعتباري (1).

ص: 241


1- إلا أنّ هذا المسلك غير صحيح في نفسه ، أوّلا. وثانيا : كما تقدّم من أنّ الحكومة نوع من التخصيص إلا أنّها بلسان رفع الموضوع ادّعاء ، والأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص كما تقدّم في شبهة ابن قبة الثالثة. وثالثا : أنّ الحكومة كما سيأتي يشترط فيها النظر بين الحاكم والمحكوم ، وهنا الحاكم دليل شرعي والمحكوم هو دليل عقلي ولا يمكن النظر فيهما لعدم وحدة الرتبة ، فإنّ كلاّ منهما من سنخ خاصّ يختلف عن الآخر. ورابعا : أنّ ما ذكره الميرزا لا يتناسب مع الحكومة ؛ لأنّ المجاز العقلي المذكور يوجد فردا حقيقيّا لا أنّه يوجد فردا ادّعائيّا واعتباريّا ، ولذلك فكلامه يتناسب مع الورود ؛ لأنّه ايجاد فرد حقيقي بلسان تعبّدي اعتباري. ولذلك يسمّى هذا النوع بالحكومة الميرزائيّة تمييزا لها عن الحكومة الاصطلاحيّة أي الحكومة الظاهريّة ، إلا أنّه مع ذلك لا يتمّ ما ذكره ؛ لأنّ المجعول وإن كان هو العلميّة إلا أنّ هذا لا يمسّ حقيقة الحكم الظاهري المجعول في الأمارة ، وإنّما هو مجرّد صياغة إنشائية في مقام التعبير عن هذا الحكم الثبوتي الملحوظ بنظر المولى ، وإلا فإنّ السؤال يبقى مطروحا ، وهو أنّ هذا الحكم الظاهري المبرز في الأمارة ، بلسان جعلها علما ما هي حقيقته وهل هو ناشئ من مبادئ ملاكات مستقلّة أو ليس ناشئا من ذلك؟ فإن قيل بوجود ملاكات مستقلّة جاءت شبهة ابن قبة في لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين ، وإن لم يقل بوجود ملاكات مستقلّة فلا بدّ من بيان دور هذا الحكم الظاهري ، وما هي المهمّة التي جعل لأجلها؟

والصحيح : أنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في التنجيز وإخراج مؤدّاها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان - على تقدير القول بها - إنّما هو بإبراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحو لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته كما تقدّم ، وعليه ، فالمهمّ في جعل الخطاب الظاهري أن يكون مبرزا لهذا الاهتمام من المولى لأنّ هذا هو جوهر المسألة.

والصحيح في حلّ هذا الإشكال المطروح - على مستوى الصياغة وكيفيّة جعل الأمارة ، بحيث يكون دليل جعلها حجّة وافيا بقيامها مقام القطع الطريقي ثبوتا بعد التسليم بوجوده إثباتا - أن نقول : إنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في حالة الاشتباه والاختلاط وعدم تمييز المكلّف لها في صورة الشكّ والجهل بالواقع ، فإنّ الأمارات تنجّز وتعذّر ؛ لأنّها تحكي عن أهمّيّة الملاك الإلزامي أو الترخيصي بالمنجّزيّة والمعذّريّة للملاك الواقعي المبرز بهذه الأمارة.

وليس للأمارة منجّزيّة ومعذّريّة مستقلّة عن الواقع ، ولذلك لا يسجّل الإشكال أصلا.

وأمّا بناء على مبنى المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث إنّ القاعدة الأوّلية بحكم العقل عندهم هي البراءة والتأمين ، فالإشكال بمنجّزيّة الأمارة عند قيامها على الإلزام يمكن حلّه أيضا بأن نقول : إنّ القاعدة مختصّة بالأحكام المشكوكة التي

ص: 242

على تقدير ثبوتها ممّا يعلم بعدم اهتمام المولى بها ويرضى بتفويتها ، وأمّا الأحكام المشكوكة التي يعلم باهتمام المولى بها ولا يرضى بتفويتها على تقدير ثبوتها فهي غير داخلة في القاعدة رأسا ، بل هي خارجة عنها تخصّصا. وحينئذ فالأمارة الدالّة على الإلزام إنّما تدلّ على أنّ هذا الحكم المشكوك ممّا لا يرضى المولى بتفويته على تقدير ثبوته واقعا ، فهي تبرز لنا أهميّة الملاكات الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فتكون منجّزة ؛ لأنّها تبرز لنا الواقع وأنّه يوجد في الواقع حكم منجّز على تقدير ثبوته. وعليه فالمطلوب من الأمارة المنجّزة إبراز هذا الأمر ، فإنّ هذا هو المهمّ في جعل الحكم الظاهري مطلقا حتّى في الأصول العمليّة ، فالتنجيز تابع لإبراز الأمارة أو الأصل والواقع أنّ المولى لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته. وعليه فالصياغة الإنشائيّة يجب أن تكون وافية بهذا المقدار ؛ لأنّه جوهر البحث في المسألة.

وأمّا لسان هذا الإبراز وصياغته وكون ذلك بصيغة تنزيل الظنّ منزلة العلم ، أو جعل الحكم المماثل للمؤدّى ، أو جعل الطريقيّة ، فلا دخل لذلك في الملاك الحقيقي وإنّما هو مسألة تعبير فحسب ، وكلّ التعبيرات صحيحة ما دامت وافية بإبراز الاهتمام المولوي المذكور ؛ لأنّ هذا هو المنجّز في الحقيقة.

وحينئذ فلا تضرّ الصياغة الإنشائيّة في المقام ، لأنّها مجرّد صياغات إنشائيّة. فما دامت وافية بإبراز الغرض المذكور وهو أنّ المولى مهتمّ بهذا الواقع وأنّه لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته فالصياغة صحيحة مهما كانت ، وإن لم تكن وافية بذلك فهي مخطئة مهما كانت. فإنّ المسالك المذكورة لا تبرز جوهر المسألة والمنجّز الحقيقي في الأمارة وإنّما هي تعبيرات فقط ، فإن أدّت وحكت وكشفت عن الملاك الحقيقي المنجّز فهي صحيحة وإلا فلا.

وأمّا البحث الثاني : فإن كان القطع مأخوذا موضوعا لحكم شرعي بوصفه منجّزا ومعذّرا فلا شكّ في قيام الأمارة المعتبرة شرعا مقامه ؛ لأنّها تكتسب من دليل الحجّيّة صفة المنجّزيّة والمعذّريّة فتكون فردا من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجّيّة في هذه الحالة واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه يحقّق مصداقا حقيقيّا لموضوعه.

القطع له حيثيّتان نوريّتان فهو نور في نفسه ونور لغيره ، ولذلك فهو على نحوين :

ص: 243

الأوّل : بما هو نور في نفسه أي بما هو كاشف تامّ وبما هو حالة تحصل لدى النفس من الاستقرار والإذعان ، وهو المسمّى بالصفتيّة.

الثاني : بما هو نور لغيره أي بما هو كاشف تامّ وطريق إلى غيره ، بحيث يكون منكشفا ومظهرا به وهو المسمّى بالكاشفيّة. ثمّ إنّ القطع من آثاره وأحكامه العقليّة كونه منجّزا ومعذّرا كما تقدّم.

ثمّ إنّه على القسمين الأوّلين تارة يؤخذ تمام الموضوع ، وأخرى يؤخذ جزء الموضوع ، فالمجموع أقسام خمسة للقطع الموضوعي.

فإن كان القطع المأخوذ في الموضوع للحكم الشرعي مأخوذا كذلك بوصفه منجّزا ومعذّرا أي بما هو حجّة ، أي بلحاظ أثره العقلي فهنا تقوم الأمارة مقامه ؛ لأنّ القدر المتيقّن من جعل الحجّيّة للأمارة كونها منجّزة للتكليف ومعذّرة عنه في صورة المخالفة.

فالمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتتان للأمارة كما تقدّم سابقا ، وبالتالي تقوم مقام القطع الموضوعي. فإذا قيل مثلا : إذا قطعت بخمريّة شيء فاجتنبه ، وكان القطع المأخوذ في الموضوع بنحو المنجّزيّة والمعذّريّة. فإذا قامت الأمارة على كون هذا خمرا فيجب اجتنابه ؛ لأنّها تحقّق المنجّزيّة. ففي الحقيقة لم تكن الخصوصيّة والمناط للقطع ، وإنّما للمنجّزيّة والمعذّريّة وليس هو إلا كمثال وكمصداق لها فقط ، ولذلك يقوم غيره من المصاديق مقامه.

وحينئذ نقول : إنّ دليل حجّيّة الأمارة الذي يكسبها المنجّزيّة والمعذّريّة يكون واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتّب على القطع بوصفه منجّزا ومعذّرا. فإنّ الدليل المفروض في المثال مفاده أنّ الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب موضوعه مركّب من الخمريّة والقطع بها ، ودليل حجّيّة الأمارة يجعلها منجّزة ومعذّرة ادّعاء ، بمعنى أنّه يحقّق فردا من أفراد المنجّزيّة والمعذّريّة ، ويدّعي أنّه مصداق حقيقي كغيره من المصاديق الأخرى.

وبتعبير آخر : إنّ القطع المأخوذ في الموضوع إنّما أخذ بوصفه مصداقا حقيقيّا للمنجّزيّة والمعذّريّة لا لنفسه أو بما هو كاشف تامّ ، ودليل الحجّيّة الذي يجعل الأمارة منجّزة ومعذّرة يدّعي أنّه يوجد مصداق حقيقي آخر لهذه المنجّزيّة والمعذّريّة. فهما ليستا محصورتين ضمن القطع ، بل موجودتان ضمن الأمارة أيضا. وبهذا يكون

ص: 244

دليلها واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب ؛ لأنّه يحقّق فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد ومصاديق موضوعه الذي هو المنجّزيّة والمعذّريّة ، والقطع وإن ذكر في الموضوع إلا أنّه ذكر بوصفه منجّزا ومعذّرا ، أي مصداقا لهما لا بوصفه كاشفا تامّا أو طريقا إلى الغير.

وهذا القسم ممّا لا شكّ فيه عند أحد منهم. والدليل عليه نفس دليل حجّيّتها ولا يحتاج إلى دليل آخر.

وأمّا إذا كان القطع مأخوذا بما هو كاشف تامّ فلا يكفي مجرّد اكتساب الأمارة صفة المنجّزيّة والمعذّريّة من دليل الحجّيّة لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فلا بدّ من عناية إضافية في دليل الحجّيّة.

وأمّا إذا كان كان القطع مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي بوصفه كاشفا تامّا وطريقا محرزا لما تعلّق به وأضيف اليه أي المقطوع. فهنا لا يكفي أن تكون الأمارة منزّلة منزلة القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة أي القطع الطريقي ؛ للقول أنّها منزّلة منزلة القطع الكاشفيّة التامّة أي ( القطع الموضوعي ). فإنّ دليل الحجّيّة الذي يكسب الأمارة المنجّزيّة والمعذّريّة لا يفي بنفسه أيضا لإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي بما للقطع من كاشفيّة تامّة ؛ وذلك لأنّ هذه الكاشفيّة التامّة ليست موجودة في الأمارة لا حقيقة ؛ لأنّها كاشف ناقص ، ولا بدليل الحجّيّة ؛ لأنّ المستفاد من دليل الحجيّة كونها منجّزا ومعذّرا فقط أي حجّة وهذا غير الكاشفيّة.

إذا فنحتاج إلى إثبات قيامها مقام القطع الموضوعي بما هو كاشف تامّ وطريق إلى دليل آخر غير دليل الحجّيّة (1).

وقد التزم المحقّق النائيني قدس سره بوجود هذه العناية بناء على ما تبنّاه من

ص: 245


1- مضافا إلى أنّ صاحب ( الكفاية ) أشكل على استفادة قيامها مقام القطع الموضوعي بما يلي : إنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي معناه لحاظ الأمارة والقطع بما هما آلة ، بينما قيامها مقام القطع الموضوعي معناه لحاظ الأمارة والقطع بما هما مستقلاّن ؛ وذلك لأنّ اللحاظ الأوّل إنّما يتمّ فيما إذا نزلت الأمارة منزلة القطع في المؤدّى والواقع ، بينما اللحاظ الثاني إنّما يتمّ إذا نزّلت الأمارة منزلة القطع مستقلاّ بنفسه ، والجمع بين التنزيلين معا في دليل واحد معناه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي في دليل واحد وهو مستحيل ؛ لأنّهما متضادّان لا يجتمعان على شيء واحد.

مسلك جعل الطريقيّة فهو يقول : إنّ مفاد دليل الحجّيّة جعل الأمارة علما ، وبهذا يكون حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه يوجد فردا جعليّا وتعبّديا لموضوعه فيسري حكمه إليه.

ذكر المحقّق النائيني أنّ دليل حجّيّة الأمارة يتكفّل بنفسه لإثبات قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي معا بنحو لا يلزم منه أي محذور ؛ وذلك لأنّ المحذور السابق كان مبنيّا على أنّ دليل الحجّيّة إنّما هو عمليّة تنزيل للأمارة منزلة العلم أو منزلة المؤدّى ، فيلزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي بدليل واحد وهو محال. بينما الصحيح هو أنّ دليل حجّيّة الأمارة مفاده جعل الأمارة علما ، أي جعل الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة. وعلى هذا فيكون دليل حجّيّة الأمارة حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه.

ووجه هذه الحكومة أنّ دليل الحكم الشرعي موضوعه القطع والعلم بما هو كاشف تامّ ، والعلم الوجداني الحقيقي مصداق حقيقي لذلك من باب حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات ، ودليل حجّيّة الأمارة يعتبر الأمارة علما بمعنى أنّ الأمارة تكوينا وحقيقة ليست إلا الظنّ والكشف الناقص ، فجاء دليل الحجّيّة واعتبر هذا الظنّ علما وهذا الكشف الناقص كشفا تامّا فهو متمّم لهذا النقص. ولذلك فدليل الحجّيّة يدّعي بوجود فرد آخر جعلي واعتباري وتعبّدي من أفراد العلم وبهذا يكون موسّعا لموضوع الحكم الشرعي ليشمل الأعمّ من العلم الحقيقي الوجداني ومن العلم التعبّدي الاعتباري الجعلي.

وحينئذ نقول : إنّ كل الآثار التي تترتّب على العلم الوجداني سواء الشرعيّة والعقليّة فهي تترتّب على الأمارة أيضا بوصفها علما ، ولذا تقوم الأمارة مقام العلم في كونه كاشفا وطريقا وتقوم مقامه في كونه منجّزا ومعذّرا أي حجّة ، وتقوم مقامه فيما إذا كان الحكم مترتّبا عليه نفسه بنحو الاستقلاليّة بأن كان موضوعا للحكم ، وهذا يستفاد من نفس دليل حجّيّتها الذي يجعلها علما ادّعاء وتعبّدا ، وبالتالي لا تحتاج إلى دليل آخر ؛ لأنّ هذه العناية والمئونة الزائدة يتكفّل بها دليل الحجّيّة. ولا يلزم محذور اللحاظين ؛ إذ ليس هناك إلا لحاظ واحد فقط وهو جعلها علما فقط.

ص: 246

غير أنّك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة (1) أنّ الدليل الحاكم إنّما يكون حاكما إذا كان ناظرا إلى الدليل المحكوم ، ودليل الحجّيّة لم يثبت كونه ناظرا إلى أحكام القطع الموضوعي ، وإنّما المعلوم فيه نظره الى تنجيز الأحكام الواقعيّة المشكوكة خاصّة إذا كان دليل الحجّيّة للأمارة هو السيرة العقلائيّة ؛ إذ لا انتشار للقطع الموضوعي في حياة العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجّيّة الأمارة ناظرة إلى القطع الموضوعي والطريقي معا.

والصحيح : هو أنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي وذلك لأمرين :

الأوّل : أنّ ما ذكره الميرزا من حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل الحكم الشرعي المأخوذ فيه القطع موضوعا غير تامّ ؛ لأنّ الحكومة بين شيئين يشترط فيها النظر من الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، كما تقدّم ذلك في مبحث التعارض من الحلقة الثانية عند البحث في الحكومة والورود.

كما في « الطواف بالبيت صلاة » الحاكم على « لا صلاة إلا بطهور » فإنّه ناظر إلى آثار الصلاة في الطهارة ويوسّعها لتعمّ الطواف أيضا.

وكما في « لا ربا بين الوالد وولده » الحاكم على « الربا حرام » حيث إنّه ينظر إلى موضوعه ويخرج هذا الفرد منه ادّعاء والتالي يخرج عن الحرمة.

وأمّا هنا فإنّ دليل الحجّيّة ليس ناظرا إلى دليل الحكم الشرعي ؛ لأنّ حكومته عليه تستدعي كونه ناظرا إلى ترتيب آثار القطع الطريقي وآثار القطع الموضوعي معا ، وهذا غير محرز. إذ المتيقّن من دليل الحجّيّة هو جعلها منجّزة ومعذّرة فقط ، أي ترتيب آثار القطع الطريقي على الأمارة ، وأمّا آثار القطع الموضوعي فلا يحرز نظره إليها ؛ لأنّ ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأمارة إنّما يتمّ لو كانت الأمارة فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد العلم ، وهذا لا يتمّ إلا بالورود وهذا لا يقول به الميرزا.

الثاني : أنّ دليل حجّيّة الأمارة إنّما هو السيرة العقلائيّة ؛ لأنّ مهمّ الأمارات هو الظهور وخبر الثقة ، ودليل حجّيّتها السيرة العقلائيّة كما اعترف بذلك الميرزا نفسه ، والأخبار الدالّة على حجّيّتهما ليس إلا أدلّة إرشاديّة إلى ما هو المرتكز عند العقلاء ، فهي إمضائيّة فقط.

ص: 247


1- تحت عنوان : ( الحكم الأوّل : قاعدة الجمع العرفي ).

وحينئذ لا بدّ أن نلاحظ هذه السيرة وأنّها هل انعقدت على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا ، أو قيامها مقام القطع الطريقي فقط؟

والجواب : أنّ الملاحظ من سيرة العقلاء في أمورهم التكوينيّة والتشريعيّة أي علاقة المأمورين بالآمرين والأسياد بالعبيد والرؤساء بالمرءوسين والآباء بالأبناء أنّهم يتعاملون مع الأمارة ويبنون عليها بلحاظ آثار القطع الطريقي فقط أي بلحاظ الحجّيّة ( المنجّزيّة والمعذّريّة ). وأمّا آثار القطع الموضوعي فلم تنعقد سيرتهم على قيام الأمارة مقامه ؛ لعدم شيوعها في معاملاتهم المولويّة والتشريعيّة ، بل إنّه لا وجود للقطع الموضوعي في حياتهم المولويّة أصلا. ولذلك يكون دليل الحجّيّة قاصرا عن إفادة قيامها مقام القطع الموضوعي ، فنحتاج إلى دليل آخر غير دليل الحجّيّة وهو غير موجود (1).

ص: 248


1- وثالثا : أنّ الحكومة إنما تكون في الأدلة اللفظية لأنّ اللفظ هو الذي يقبل التوسعة أو التضييق في مفاده ومدلوله ، وأما الأدلة اللبيّة والعقليّة فهي لا يمكن فيها الحكومة ؛ لأنّها أدلة قطعية لا تقبل التوسعة والتضييق. وهنا دليل الحجيّة إنّما هو السيرة وهي دليل لبيّ فلا يمكن أن تتصور الحكومة بلحاظها ، والأدلة اللفظية الدالة على الحجيّة قلنا : إنّها إرشاد للمرتكز العقلائي وإمضاء له فهي تتحدّد بهذا المقدار الذي انعقدت عليه السيرة بحيث لا يقبل التوسعة أو التضييق. بقي شيء : - وهو القطع الموضوعي بنحو الصفتيّة وهذا مما لا إشكال عندهم فيه بعدم قيام الأمارة مقامه ؛ إذ لا يوجد استقرار وإذعان وجزم وتصديق في الأمارة بالنحو الذي هو ثابت للقطع بما هو صفة أي بما هو نور لنفسه فإنّ هذه النوريّة ليست موجودة في الأمارة.

إثبات الأمارة لجواز الإسناد

ص: 249

ص: 250

إثبات الأمارة لجواز الإسناد

يحرم إسناد ما لم يصدر من الشارع إليه ؛ لأنّه كذب ، ويحرم أيضا إسناد ما لا يعلم صدوره منه إليه وإن كان صادرا في الواقع.

إسناد شيء إلى الشارع لا بدّ فيه من العلم أو الإذن من الشارع في الإسناد.

فالأصل الأوّلي هو حرمة الإسناد لقوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) وعليه :

1 - فإذا علم بعدم صدور هذا الحكم من الشارع ومع ذلك أسند إليه فهو كذب وافتراء على اللّه تعالى ، وهو من أشدّ المحرّمات ؛ لحكم العقل بقبح ذلك إذ هو تعدّ على حقّ المولى واستهتار بكرامته وخروج عن حقّ الطاعة ورسم العبوديّة ، مضافا إلى الآيات والروايات التي تذمّ ذلك وتحرّمه ، ويضمّ إليه الإجماع الذي ادّعاه الوحيد البهبهاني.

2 - وإذا لم يعلم بصدور الحكم من الشارع ولم يعلم بعدم صدوره ، يعني يشكّ في صدوره وعدمه فأيضا يحرم إسناده إلى المولى ؛ لأنّه تشريع باطل منهيّ عنه ، حتّى وإن كان هذا الحكم ثابتا في الواقع ؛ فإنّ الحرمة موضوعها عدم الصدور ظاهرا أي عدم الوصول إلى المكلّف.

فإذا وصل الحكم إلى المكلّف فهو صادر وإلا فهو ليس بصادر ظاهرا ، ولذلك يحرم إسناده ونسبته إلى الشارع.

وهذا يعني أنّ القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي موضوع الحرمة الأولى فهو قطع طريقي ، وموضوع لنفي الحرمة الثانية فهو من هذه الناحية قطع موضوعي.

ص: 251


1- يونس : 59.

فلدينا حرمتان :

الحرمة الأولى : وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا واقعا. فهنا عدم الصدور أخذ موضوعا في الحرمة ، فإذا علم بالصدور انتفت الحرمة ، فيكون العلم طريقا لنفي الموضوع والذي هو عدم الصدور ؛ لأنّه إذا علم بالصدور فهذا يعني أنّ العلم كان طريقا كاشفا عن كون موضوع الحرمة غير متحقّق لأنّ الصدور ثابت واقعا ، فالقطع هنا طريقي.

الحرمة الثانية : وهي حرمة إسناد غير معلوم الصدور. فهنا العلم أخذ في الموضوع ؛ لأنّ الموضوع مركّب من أمرين الصدور وعدم العلم به ، فإذا علم بالصدور كان هذا العلم رافعا للحرمة ؛ لأنّ الحرمة ثابتة لغير المعلوم صدوره ، فإذا علم بالصدور انتفى الموضوع بانتفاء جزء منه ومعه تنتفي الحرمة. فهو قطع موضوعي ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع نفي الحرمة وعدمه مأخوذ في الحرمة.

وعليه ، فإذا كان الدليل قطعيّا انتفت كلتا الحرمتين ؛ لحصول القطع ، وهو طريق إلى أحد النفيين وموضوع للآخر.

فهنا توجد حالتان :

الأولى : أن يكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي قطعيّا كالتواتر والكتاب ، وحكم العقل القطعي كالمستقلاّت العقليّة : القبح والحسن فهنا يتحقّق العلم بصدور الحكم من الشارع ، وعندئذ يجوز إسناده إلى الشارع ولا حرمة فيه.

أمّا الحرمة الأولى : وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا فهي منتفية ؛ وذلك للعلم بالصدور. فهذا العلم كاشف عن الصدور فهو قطع طريقي ينفي موضوع الحرمة المذكورة ؛ لأنّه يكشف عن الصدور والطريق إليه فلا يكون عدم الصدور متحقّقا وإلا لزم اجتماع النقيضين.

وأمّا الحرمة الثانية : وهي حرمة ما ليس معلوما صدوره فهي منتفية أيضا ؛ لأنّ جزء الموضوع فيها وهو عدم العلم منتف ؛ وذلك لتحقّق العلم بالصدور. فكان هذا العلم نافيا لموضوع الحرمة فهو قطع موضوعي ؛ لأنّه أخذ في موضوع عدم هذه الحرمة حيث إنّ عدمه كان مأخوذا في الحرمة.

وعليه ، فالحرمتان منتفيتان عند حصول العلم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه عندهم.

ص: 252

وإذا لم يكن الدليل قطعيّا بل أمارة معتبرة شرعا فلا ريب في جواز إسناد نفس الحكم الظاهري إلى الشارع ؛ لأنّه مقطوع به.

الثانية : أن يكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي ظنيّا قامت الحجّة شرعا على التعبّد به كالأمارات وخبر الثقة ، فهنا نقول :

إنّ إسناد الحكم الظاهري نفسه إلى الشارع جائز ؛ لأنّه مقطوع به. فخبر الثقة الذي هو أمارة ظنيّة معتبرة شرعا يجوز لنا إسناد الحكم الظاهري المجعول له إلى الشارع فنقول : ( إنّ خبر الثقة جعله الشارع حجّة ) ، فالحجّيّة التي هي حكم ظاهري يمكن إسنادها إلى الشارع ونسبتها إليه ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على حجّيّة خبر الثقة مقطوع به وهو السيرة العقلائيّة الممضاة شرعا.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أيضا.

وأمّا إسناد المؤدّى فالحرمة الأولى تنتفي بدليل حجّيّة الأمارة ؛ لأنّ القطع بالنسبة إليها طريقي ، ولا شكّ في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي. غير أنّ انتفاء الحرمة الأولى كذلك مرتبط بحجّيّة مثبتات الأمارات ؛ لأنّ موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزامي للأمارة الدالّة على ثبوت الحكم ؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على شيء مطابقة يدلّ بالالتزام على أنّ الإخبار عنه ليس كذبا.

وأمّا إسناد المؤدّى أي مؤدّى الأمارة وهو ما يحكي عنه الثقة من حكم كالوجوب والحرمة ، فهل يجوز إسنادهما إلى الشارع بأن يقال : هذا الوجوب الذي حكمت به الأمارة صادر من الشارع أو لا يجوز؟

والجواب : أنّ الحرمة الأولى وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا من الشارع تنتفي ؛ لأنّ القطع كان طريقا إلى نفي موضوعها ؛ لأنّه طريق إلى الصدور وكاشف عنه. وقد تقدّم سابقا أنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي ، فنفس دليل حجّيّة الأمارة يبرّر لنا إسناد مؤدّاها إلى الشارع ؛ لأنّه يعبّدنا بأنّ مؤدّى الأمارة وما تحكي عنه وتكشفه صادر من الشارع وأنّه حكم اللّه الواقعي ، فكما أنّ القطع كان طريقا وكاشفا عن الصدور فكذلك الأمارة طريق وكاشف عن الصدور. وإذا ثبت كون الحكم صادرا فينتفي موضوع الحرمة ؛ لأنّ موضوعها هو ما ليس صادرا ، وهذا

ص: 253

منتف إمّا بالقطع وإمّا بالأمارة ؛ لأنّ دليلها يعبّدنا شرعا بمؤدّاها.

إلا أنّ هذا المقدار مرتبط بما تقدّم سابقا من البحث عن لوازم الأمارات ، وأنّها حجّة أو لا؟ فإذا قلنا : إنّ مثبتات الأمارة ليست حجّة - لأنّه لا يستفاد من دليل الحجّيّة فيها إلاّ التعبّد بالمؤدّى فقط دون لوازمها كما تقدّم عن السيّد الخوئي - فلا تنتفي هذه الحرمة. وأمّا إذا قلنا بحجّيّة لوازمها ومثبتاتها فتنتفي هذه الحجّيّة بنفس دليل الحجّيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ موضوع الحرمة الأولى وهو حرمة إسناد ما ليس صادرا كان عنوان الكذب ، فإنّ عدم الصدور معناه أنّه ليس ثابتا في الواقع وهو معنى الكذب أي هو عدم مطابقة الخبر للواقع. والأمارة مؤدّاها المطابقي هو ما تحكي عنه من وجوب أو حرمة ، وهذا المدلول المطابقي له مدلول التزامي ، وهو أنّ هذا الحكم الذي أدّت إليه الأمارة وكشفت عنه مطابق للواقع وليس كاذبا ، بناء على أنّ الإخبار عن شيء بالمطابقة يدلّ بالالتزام على أنّه صادق مطابق للواقع أي صادر من الشارع ، وحينئذ فيكون موضوع الحرمة الذي هو الكذب أو المخالفة للواقع أو عدم الصدور منتفيا على أساس المدلول الالتزامي للأمارة لا بالمدلول المطابقي.

فبناء على ما هو الصحيح من كون مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة فتكون هذه الحرمة منتفية لانتفاء موضوعها بالمدلول الالتزامي للأمارة ، وبالتالي يصحّ إسناد الحكم إلى الشارع وكونه صادرا منه. والدليل هو نفس دليل حجّيّة الأمارة.

بخلاف ما إذا لم تكن مثبتاتها ولوازمها حجّة فإنّه يحتاج إلى دليل آخر مستقلّ لإثبات انتفاء الحرمة الأولى.

وأما الحرمة الثانية فموضوعها - وهو عدم العلم - ثابت وجدانا ، فانتفاؤها يتوقّف إمّا على استفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي من دليل حجّيّتها ، أو على إثبات مخصّص لما دلّ على عدم جواز الإسناد بلا علم من إجماع أو سيرة يخرج موارد قيام الحجّة الشرعيّة.

وأمّا الحرمة الثانية وهي إسناد ما لا يعلم بصدوره فعدم العلم مأخوذ في موضوعها ، وانتفاء هذه الحرمة متوقّف على انتفاء عدم العلم ، فإذا ثبت العلم انتفى الموضوع.

وأمّا مع قيام الأمارة على الحكم وثبوته شرعا وكونه صادرا من الشارع فهذا لا

ص: 254

يخرج المورد إلى العلم ؛ لأنّ الأمارة ليست علما حقيقيّا ، فالموضوع وهو عدم العلم لا يزال ثابتا بالوجدان.

وحينئذ يكون هذا البحث مرتبطا بالبحث المتقدّم من أنّ الأمارة هل تقوم مقام القطع الموضوعي أو لا؟

فإن قيل بأنّها تقوم مقام القطع الموضوعي من نفس دليل حجّيّتها - كما هي مقالة الميرزا - كان ذلك كافيا لإثبات أنّ الأمارة هنا تنفي موضوع الحرمة الثانية بنفس دليل حجّيّتها ولا تحتاج إلى دليل آخر.

وإن قيل بأنها لا تقوم مقامه - كما هو الصحيح - كان انتفاء الحرمة الثانية يحتاج إلى دليل خاصّ أو قرينة معيّنة تكون مخصّصا للدليل الدالّ على عدم جواز الإسناد بلا علم ، بأن كان هناك إجماع أو سيرة ممضاة شرعا على أنّ الحجّة المعتبرة شرعا كالأمارات خارجة عن موضوع هذه الحرمة ، كالعلم الوجداني ، وأمّا مع عدم وجود مثل هذا المخصّص فلا يمكننا إثبات أنّ الأمارة خارجة عن موضوع الحرمة الثانية من نفس دليل الحجّيّة ؛ لأنّه لا يفيد قيامها مقام القطع الموضوعي.

ص: 255

ص: 256

إبطال طريقيّة الدليل

ص: 257

ص: 258

إبطال طريقيّة الدليل

كلّ نوع من أنواع الدليل حتّى لو كان قطعيّا يمكن للشارع التدخّل في إبطال حجّيّته ، وذلك عن طريق تحويله من الطريقيّة إلى الموضوعيّة.

الدليل سواء كان قطعيّا أو ظنّيّا وسواء كان شرعيّا أو عقليّا يمكن للشارع التدخّل في إبطال طريقيّته وحجّيّته.

أمّا الدليل الظنّي فلا إشكال في إمكان إبطال حجّيّته ؛ لأنّها كانت متوقّفة على عدم الإذن والترخيص من الشارع ، فمع وجودهما يبطل موضوع الحجّيّة ويرتفع بارتفاع قيده ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا الدليل القطعي فقد تقدّم أنّ حجّيّة القطع وطريقيّته من اللوازم الذاتيّة للقطع بتكليف المولى ، فإذا قطع بتكليف المولى حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة ، وهو معنى المنجّزيّة والحجّيّة. مضافا إلى كونه طريقا وكاشفا تامّا عن المقطوع ؛ لأنّ الطريقيّة والكاشفيّة نفس القطع. فكيف يتمّ إبطال حجّيّته وطريقيّته؟!

والجواب : أنّ هذا يتمّ عن طريق تحويل القطع من القطع الطريقي إلى القطع الموضوعي ، وتوضيح ذلك :

بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاصّ على الجعل الشرعي في موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل ، فيكون عدم قيام دليل خاصّ على الجعل الشرعي قيدا في الحكم المجعول ، فإذا قام هذا الدليل الخاصّ على الجعل الشرعي انتفى المجعول بانتفاء قيده ، وما دام المجعول منتفيا فلا منجّزيّة ولا معذّريّة.

كيفيّة تحويل القطع من الطريقيّة إلى الموضوعيّة : أن يأخذ الشارع عدم هذا الدليل القطعي الخاصّ موضوعا في الحكم المجعول بأن يقول مثلا : ( إذا قام هذا الدليل الخاصّ المعيّن القطعي على الجعل فالمجعول غير ثابت وغير متحقّق ؛ لأنّه يشترط في فعليّة

ص: 259

المجعول أن يكون عدم الدليل المذكور متحقّقا ، فإذا لم يكن هذا الدليل الخاصّ موجودا كان المجعول فعليّا ، وإذا كان موجودا لم يكن فعليّا ).

وقد تقدّم أنّ الجعل غير المجعول ، فالجعل : هو الحكم الثابت في عالم التشريع والواقع مع كلّ قيوده وشروطه المأخوذة فيه على نحو القضيّة الحقيقيّة ، بينما المجعول : هو الجعل الموجود والمتحقّق في الخارج ، وذلك بفعليّة قيوده وشروطه خارجا كالحجّ والاستطاعة. فإنّ الحجّ على المستطيع واجب وهذا موجود في عالم الجعل ، وأمّا وجوب الحج خارجا ففعليّته مرتبطة بتحقّق قيوده في الخارج بأن يوجد مكلّف مستطيع فيكون الوجوب فعليّا ، وإلا لم يكن فعليّا وإذا لم يكن فعليّا فلا أثر له.

وهنا يأخذ الشارع عدم هذا الدليل الخاصّ القطعي بالجعل في الحكم في موضوع الحكم المجعول ، فإذا كان عدم الدليل متحقّقا كان المجعول فعليّا والحكم الشرعي ثابتا ؛ لتحقّق قيوده في الخارج. وإن كان الدليل المذكور موجودا كان معنى ذلك أنّ القيد المأخوذ موضوعا في الحكم المجعول منتفيا فينتفي المجعول ؛ لانتفاء قيوده في الخارج. فإذا كان المجعول منتفيا في الخارج بانتفاء قيوده وعدم تحقّقها لم يكن له أثر تنجيزي أو تعذيري كالحجّ عند فقدان الاستطاعة. وهذا يعني أنّ هذا القطع الحاصل من الدليل الخاصّ فاقد للحجّيّة ؛ لأنّه ليس منجّزا ولا معذّرا وفاقد للطريقيّة ؛ لأنّه ليس كاشفا عن الحكم أو أنّ كشفه عن الحكم كان مساوقا لعدم كشفه عنه.

وبتعبير آخر : يدّعى أنّ القطع الحاصل من الدليل الخاصّ بالجعل قد أخذ عدمه قيدا في المجعول. بمعنى أنّ عدم القطع بالحكم الشرعي ( الدليل الخاصّ ) على مستوى الجعل شرط وقيد في فعليّة الحكم المجعول ، فإذا تحقّق ذلك بأن قطع بالحكم الشرعي من دليل آخر كان الحكم فعليّا ؛ لفعليّة قيوده في الخارج. وأمّا إذا قطع بالحكم الشرعي من الدليل الخاصّ الذي أخذ عدمه قيدا فالحكم ليس فعليّا ؛ وذلك لانتفاء قيده إذ قيده عدم هذا الدليل ، والموجود في الخارج هو تحقّق الدليل ، فإذا انتفى القيد انتفى المقيّد ، وبالتالي لا يكون الحكم فعليّا أي أنّ المجعول ليس فعليّا ، وإذا لم يكن فعليّا لم يكن منجّزا ولا معذّرا ، وهو معنى انتفاء حجّيّته.

وليس ذلك من سلب المنجّزيّة عن القطع بالحكم الشرعي ، بل من الحيلولة دون

ص: 260

وجود هذا القطع ؛ لأنّ القطع المنجّز هو القطع بفعليّة المجعول لا القطع بمجرّد الجعل ، ولا قطع في المقام بالمجعول وإن كان القطع بالجعل ثابتا ، غير أنّ هذا القطع الخاصّ بالجعل بنفسه يكون نافيا لفعليّة المجعول نتيجة لتقيّد المجعول بعدمه.

وهذه الطريقة في إبطال حجّيّة القطع الخاصّ لا محذور فيها ثبوتا ، فلا يشكل بأنّها من سلب المنجّزيّة عن القطع بالحكم الشرعي بعد ثبوت القطع به ، وسلب المنجّزيّة عن القطع بعد ثبوته وتحقّقه مستحيل ؛ لأنّه تفكيك بين الذاتي والذات ولأنّه يلزم منه التناقض إمّا واقعا أو باعتقاد المكلّف كما تقدّم.

فإنّ إبطال المنجّزيّة غير سلب المنجّزيّة ، فإنّ سلب المنجّزيّة إنّما تكون بعد حصول القطع الفعلي المنجّز وهذا محال ، وأمّا إبطال المنجّزيّة فهو الحيلولة دون حصول وتحقّق هذه المنجّزيّة ، أي إيجاد المانع من تحقّقها كما هو محلّ كلامنا.

فإنّ القطع الذي يثبت كونه منجّزا ومعذّرا إنّما هو القطع بفعليّة الحكم المجعول لا القطع بمجرّد الجعل ، فإنّ القطع بوجوب الحجّ على المستطيع لا ينجّز وجوب الحجّ على القاطع بمجرّده ، وإنّما المنجّز لهذا القطع هو تحقّق الاستطاعة في الخارج ، أي ثبوت الحكم المجعول بثبوت قيوده في الخارج. وهنا كذلك فإنّ عدم القطع من هذا الدليل الخاصّ مأخوذ في موضوع الحكم المجعول ، فإذا تحقّق عدمه بأن كان القطع من دليل آخر كان الحكم المجعول فعليّا لفعليّة قيوده ، أي عدم القطع من هذا الدليل الخاصّ. وأمّا إذا انتفى قيده بأن قطع بالحكم من هذا الدليل الخاصّ يكون الحكم المجعول منتفيا لانتفاء قيده ، إذ قيده هو عدم هذا الدليل والمفروض أنّ هذا الدليل موجود وثابت ، فالمجعول منتف لانتفاء فعليّة قيده وعدم وجوده في الخارج.

نعم ، الجعل ثابت ؛ لأنّه مقطوع به بهذا الدليل الخاصّ ، إلا أنّ هذا الجعل لا منجّزيّة له ؛ لأنّ المنجّزيّة كما ذكرنا ثابتة للمجعول لا للجعل ، فالثابت وهو الجعل ليس منجّزا ، والمنجّز وهو المجعول غير ثابت.

ومن هنا يقال : إنّ هذا القطع بالجعل الحاصل من هذا الدليل الخاصّ بنفسه ينفي الحكم المجعول ؛ لأنّه ينفي القيد المأخوذ في موضوع الحكم المجعول ، فإنّ القيد هو عدم هذا الدليل والمتحقّق في الخارج هو ثبوت هذا الدليل لا عدمه ، ولذا فإنّ القطع بالحكم يساوق القطع بعدمه.

ص: 261

وقد سبق في أبحاث الدليل العقلي في الحلقة السابقة (1) أنّه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا في المجعول ، أو أخذ عدمه قيدا في المجعول ، ولا يلزم من كلّ ذلك دور.

وهذا التصوير لإبطال طريقيّة الدليل القطعي الخاصّ معقول ثبوتا ولا مانع منه ولا استحالة فيه ؛ لأنّه كما تقدّم في الحلقة الثانية من أبحاث الدليل العقلي أنّه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا في المجعول ، بأن يؤخذ العلم الحاصل من النقل بالجعل شرطا في المجعول ، فيقال : إذا حصل لديك علم بالجعل عن طريق النقل فالحكم فعلي. وكذا لا مانع من أن يؤخذ عدم علم مخصوص قيدا في المجعول أيضا ، بأن يقال : إنّ عدم العلم بالجعل عن طريق العقل قيد في المجعول ، فإذا علم بالحكم من طريق آخر كان الحكم فعليّا لفعليّة قيده ، وهو عدم العلم بالحكم عن طريق العقل.

وأمّا إذا علم بالحكم عن طريق العقل فالمجعول منتف لانتفاء قيده ، فلا يكون الحكم فعليّا وبالتالي لا يكون منجّزا.

وهذان النحوان لا دور فيهما ولا استحالة ؛ إذ محذور الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كان مسجّلا على أخذ العلم بالمجعول قيدا في المجعول أو أخذ عدم العلم بالمجعول قيدا في المجعول ، أي أخذ العلم أو عدمه في موضوع شخصه أو ضدّه أو مثله. كما سيأتي توضيحه في مباحث الدليل العقلي.

وقد ذهب جملة من العلماء (2) إلى أنّ العلم المستند إلى الدليل العقلي فقط ليس بحجّة.

ذهب الأخباريّون إلى أنّ العلم بالحكم الشرعي المستند إلى الدليل العقلي فقط ليس بحجّة ، بمعنى أنّ هذا الدليل العقلي لا يكون حجّة شرعا على الأحكام الشرعيّة واستكشافها. وقبل الحديث عن ذلك لا بدّ من معرفة المراد من الدليل العقلي فنقول :

الدليل العقلي : هو الحكم المستند إلى حكم العقل في مقام استنباط الأحكام الشرعيّة مع عدم وجود دليل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع على هذا الحكم

ص: 262


1- تحت عنوان : حجّيّة الدليل العقلي.
2- نسبه الشيخ الأنصاري إلى بعض الأخباريّين في فرائد الأصول 1 : 51.

الشرعي. وهذا الدليل العقلي هو المفيد للقطع واليقين لا الدليل العقلي الظنّي كالقياس والاستحسان ونحوهما مما ثبت شرعا عدم حجّيّته.

وأمّا وجه عدم حجّيّة هذا الدليل العقلي القطعي فسيأتي الكلام فيه في بحث حجّيّة الدليل العقلي.

وقيل في التعقيب على ذلك : إنّه إن أريد بهذا تحويله من طريقي إلى موضوعي بالطريقة التي ذكرناها - بأن يكون عدم العلم العقلي بالجعل قد أخذ قيدا في المجعول - فهو ممكن ثبوتا ، ولكنّه لا دليل على هذا التقييد إثباتا.

فأجيب على هذه الدعوى بجوابين :

الأوّل : أنّه إذا أريد من عدم حجّيّة الحكم الشرعي المنكشف من الدليل العقلي القطعي أنّ الدليل العقلي قد أبطل الشارع حجّيّته عن طريق تحويله من قطع طريقي إلى قطع موضوعي ، بأن يقال : إنّ الحكم الشرعي إن قطع به عن طريق العقل فهو ليس فعليّا فيؤخذ عدم الدليل العقلي بالجعل قيدا في الحكم المجعول ، فالعلم بالحكم الشرعي عن طريق العقل ينفي الحكم المجعول لانتفاء قيده ، وعدمه بأن قطع بالحكم عن طريق النقل يحقّق فعليّة المجعول لتحقّق قيده وفعليّته.

فهذا التحويل قلنا : إنّه ممكن عقلا وثبوتا إلا أنّ إثبات هذا التحويل بالنسبة إلى الدليل العقلي لا دليل عليه. بمعنى أنّه لم يثبت أنّ الشارع قد حوّل القطع العقلي إلى الموضوعيّة بدلا من الطريقيّة. وهذا بحث دلالي إثباتي.

والصحيح هو أنّ أدلّة الأحكام الشرعيّة مطلقة وعامّة ، وليست مقيّدة بهذا القيد ، فيتمسّك بالإطلاق والعموم لإثبات حجّيّة القطع العقلي.

وإن أريد بهذا سلب الحجّيّة عن العلم العقلي بدون التحويل المذكور فهو مستحيل ؛ لأن القطع الطريقي لا يمكن تجريده عن المنجّزيّة والمعذّريّة.

الجواب الثاني : أنّه إن أريد أنّ الدليل العقلي القطعي ليس بحجّة ، بمعنى أنّه ليس منجّزا بعد تحقّقه من دون أن يكون هناك تحويل لهذا القطع من الطريقيّة إلى الموضوعيّة ، بمعنى أنّ هذا القطع العقلي قطع طريقي ومع ذلك ليس بحجّة فتسلب الحجّيّة عنه مع الحفاظ على طريقيّته فهذا مستحيل وغير ممكن ؛ لأنّ القطع إذا حصل وتحقّق وكان قطعا طريقيّا فهو منجّز ومعذّر ويستحيل سلب الحجّيّة عنه عندئذ من

ص: 263

باب اجتماع النقيضين أو التفكيك بين الذات والذاتي. أو لزوم الدور والخلف.

وسيأتي الكلام عن ذلك في مباحث الدليل العقلي (1) إن شاء اللّه تعالى.

وسيأتي الحديث عن حجّيّة الدليل العقلي في مباحثه (2).

ص: 264


1- تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.
2- وهنا نضيف شيئا آخر وهو : أنّ ظاهر الأخباريّين هو إنكار حجّيّة الدليل العقلي ؛ لأنّه ليس كاشفا تامّا عن الواقع ، بمعنى أنّ الدليل العقلي غالبا ما يؤدّي إلى الظنّ فقط ؛ وذلك لكثرة الاشتباه والخطأ في الأحكام العقليّة. وعليه ، فالقطع لا يمكن تحصيله من الدليل العقلي ، لا أنّه بعد حصول القطع تبطل حجيّته من باب التحويل أو من باب سلب المنجّزيّة ، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوز. فالدليل العقلي ليس حجّة ؛ لأنّه لا يؤدّي إلى القطع. وهذا الدليل يناقش فيه : أوّلا : أنّ الروايات التي ذكروها على ذلك لا تنفع في إثبات المطلوب ؛ لأنّ بعضها ظاهر في الردّ على العامّة الذين اتّخذوا الأدلّة العقليّة حجّة ودليلا ، وبعضها ناظر إلى اشتراط الولاية في صحّة الأعمال ، وبعضها ناظر إلى التأنيب على ترك الفحص عن الأدلّة الشرعيّة ، فإنّه لا يلتجئ إلى العقل إلا بعد اليأس عن وجود الدليل في الكتاب والسنّة. وثانيا : أنّ الاعتماد على العقل الفطري الخالي من الشوائب والأخطاء لا العقل المتأثّر بحالات نفسيّة وموضوعيّة. وتفصيل ذلك خارج عن موضوع هذا الكتاب. مضافا إلى الروايات الكثيرة الآمرة باتّباع العقول وكونها حجّة باطنة لله تعالى.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة

ص: 265

ص: 266

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة

وسنقسّم البحث في الأدلّة المحرزة وفقا لما تقدّم في الحلقة السابقة إلى قسمين :

أحدهما : في الدليل الشرعي.

وهو الدليل النقلي كالكتاب والسنّة والإجماع والسيرة العقلائيّة والمتشرّعيّة والتواتر وخبر الواحد.

والآخر : في الدليل العقلي.

وهو الدليل الحدسي أي الاستنتاجي الاستنباطي الذي يحكم به العقل ، كالمستقلاّت العقليّة وهي مسائل القبح والحسن ، وغير المستقلاّت العقليّة كالملازمات العقليّة من قبيل وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها أو حرمة الضدّ ونحو ذلك.

كما أنّ القسم الأوّل نوعان :

أحدهما : الدليل الشرعي اللفظي.

كالكتاب والسنّة والأخبار والتواتر.

والآخر : الدليل الشرعي غير اللفظي.

كالسيرة بنوعيها أي فعل المعصوم وتقريره ، والإجماع.

والبحث في الدليل الشرعي :

تارة في تحديد ضوابط عامّة لدلالته وظهوره.

أي في البحث عن الدلالات والظهورات من الألفاظ ، وهذا يشمل مباحث الألفاظ جميعا كالعامّ والمطلق والمفاهيم ، ويشمل الدلالات التصوريّة والاستعماليّة والتصديقيّة ، والدلالات المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة.

وأخرى في ثبوت صغراه ، أي في حيثيّة الصدور.

بمعنى أنّ هذا الدليل الشرعي هل هو صادر عن المعصوم أو ليس بصادر؟ فالبحث

ص: 267

يقع في إثبات الصدور وهو بحث صغروي ؛ لأنّه بعد إثبات الصدور يقع البحث في تحديد دلالته وظواهره وحجّيّتها.

وثالثة في حجّيّة ظهوره.

بمعنى أنّ هذا الدليل الشرعي الذي حدّد معناه ودلالته وظهوره ، وبعد أن أثبتنا كونه صادرا يبحث في أنّ هذا الظهور هل هو حجّة أو ليس بحجّة؟

وعلى هذا المنوال تجري البحوث في هذه الحلقة.

ص: 268

الدليل الشرعي

اشارة

البحث الأوّل :

تحديد دلالات الدليل الشرعي

الدليل الشرعي اللفظي

ص: 269

ص: 270

الدليل الشرعي

البحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي

الدليل الشرعي اللفظي
الدلالات الخاصّة والمشتركة :

هناك في الألفاظ دلالات خاصّة لا تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط تتولاّها علوم اللغة ولا تدخل في علم الأصول.

وهناك دلالات عامّة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة ، وهذه يبحث عنها علم الأصول بوصفها عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، كدلالة صيغة ( افعل ) على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، ونحو ذلك.

الدلالات الخاصّة : هي مداليل الألفاظ التي لا تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط ، وإنّما تقع عنصرا خاصّا في عمليّة الاستنباط للحكم الشرعي ، فيبحث عنها الفقيه بوصفه من أهل اللغة ، أو يرجع إلى أهل اللغة إن وثق بقولهم ، أو يعتمد على ما يتبادر إلى ذهنه من معنى مدلول لهذا اللفظ. ولذلك لا تدخل مثل هذه الدلالات الخاصّة في علم الأصول ، فهي وإن كان لها تأثير في استنباط الحكم الشرعي إلا أنّها خارجة عن موضوع علم الأصول ؛ لأنّ موضوعه كما تقدّم هو الأدلّة والعناصر المشتركة ، وهي التي لها صلاحيّة للاستنباط في كلّ الأبواب الفقهيّة. وأمّا هذه الدلالات فهي تقع في طريق الاستنباط بوصفها بحثا فقهيّا من قبيل دلالة كلمة :

ص: 271

( الصعيد ) ، فإنّ البحث عن مدلول هذه الكلمة ليس أصوليّا ؛ لأنّ كلمة ( الصعيد ) ليس لها قابليّة للجريان في كلّ الأبواب ، وإنّما تختصّ في باب الصلاة والتيمّم مثلا. ولذلك كان البحث عنها في ذمّة أهل اللغة فيرجع الفقيه إليهم ، أو يبحث هو نفسه عنها إن كان من أهل اللغة ، أو اعتمد على التبادر.

الدلالات المشتركة : هي الدلالات العامّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط في مختلف الأبواب الفقهيّة بحيث تكون لها الصلاحيّة للجريان والتطبيق في كلّ الأبواب على فرض وقوعها فيها. فيقع البحث الأصولي حول دلالتها إن كانت غامضة عند أهل اللغة ، أو يبحث في تحليل وكنه هذه الدلالة إن كانت معلومة عند أهل اللغة.

وهذا من قبيل دلالة صيغة ( افعل ) على الوجوب ، فإنّ اللغوي يذكر أنّ هذه الصيغة تدلّ على الوجوب ، إلا أنّ تحليل هذه الدلالة وتفسيرها وهل هي وضعا أو عقلا أو إطلاقا؟ فهذا لا يستفاد من أهل اللغة مع أنّ ذلك له أهميّة كبيرة في كيفيّة الاستفادة من هذه الصيغة ، مضافا إلى أنّ هذه الصيغة تشكّل عنصرا مشتركا بحيث إنّها إذا وقعت في أي باب فقهي كانت لها الصلاحيّة لاستنباط الحكم الشرعي بالوجوب. وهكذا الحال بالنسبة لدلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، كما في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ اسم الجنس وهو كلمة العالم لم تقيّد بقيد ، فيستدلّ على كون المراد هو الطبيعة بما هي هي المساوقة للإطلاق ، فإنّ هذه الدلالة على الإطلاق هل هي بقرينة الحكمة أو هي بالوضع بأن يكون اسم الجنس موضوعا للطبيعة المطلقة لغة؟ فإنّ ذلك له علاقة وطيدة في الاستنباط فيما إذا وردت هذه الكلمة في مختلف الأبواب.

وقد يقال : إنّ غرض الأصولي إنّما هو تعيين ما يدلّ عليه اللفظ من معنى أو ما هو المعنى الظاهر للفظ عند تعدّد معانيه لغة ، وإثبات هذا الغرض إنّما يكون عادة بنقل أهل اللغة ، أو بالتبادر الذي هو عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان بلا حاجة إلى تعمّل ومزيد عناية ، فأي مجال يبقى للبحث العلمي ولإعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل لكي يتولّى ذلك علم الأصول؟!

قد يشكل على ما ذكرناه من كون الدلالات المشتركة يبحث عنها علم الأصول

ص: 272

لكونها عناصر مشتركة بأنّ الغرض منها تعيين المعنى المراد منها ، أو تعيين المعنى الظاهر فيما إذا كان لها عدّة معان في اللغة. وليس هناك غرض آخر للأصولي من بحث هذه الدلالات المشتركة ، فهي كالدلالات الخاصّة يرجع فيها إلى أهل اللغة أو إلى التبادر. فالبحث عن كون صيغة ( افعل ) دالّة على الوجوب ، أو البحث عن كون اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق الغرض من ذلك أصوليّا هو إثبات أنّ صيغة ( افعل ) ظاهرة في الوجوب لا الاستحباب ، وإثبات أنّ اسم الجنس دالّ على الإطلاق.

وهذان البحثان يمكن الرجوع فيهما إلى أهل اللغة إن كان يثق الفقيه بنقلهم ، أو ببحثه كذلك بوصفه من أهل اللغة إن كان عالما باللغة ، أو يرجع إلى التبادر ؛ لأنّه يعيّن المعنى الظاهر والمدلول عليه من اللفظ. وقد تقدّم أنّ التبادر عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان من أهل اللغة والمحاورة ولا تحتاج إلى عناية ومئونة زائدة.

وحينئذ فما هو الداعي والغرض للأصولي من بحثها في علم الأصول وإتعاب نفسه تحليلا وتدقيقا في أنّ الظاهر هو الوجوب من صيغة الأمر أو أنّ اسم الجنس يدلّ على الإطلاق؟! بل إنّ البحث عنها كذلك ليس إلا تكرارا لغوا وتحصيلا للحاصل.

والتحقيق : أنّ البحوث اللفظية التي يتناولها علم الأصول على قسمين : أحدهما البحوث اللغويّة ، والآخر البحوث التحليليّة.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّ البحوث اللفظيّة التي يتناولها علم الأصول لم يبحث عنها في اللغة : إمّا من باب الإهمال والتقصير ، أو من باب خروجها عن موضوع اللغة. ولأجل توضيح ذلك نذكر هذه المقدّمة :

إنّ البحث عن صيغة ( افعل ) أو عن اسم الجنس ونحوهما يمرّ في عدّة مراحل من البحث ، وهي :

1 - البحث عن مدلول هذه الكلمة وتحديد المعنى المستفاد منها ، وهذا بحث لغوي يرجع فيه إلى أهل اللغة أو التبادر.

2 - البحث عن المصاديق والموضوع والأفراد الخارجيّة لهذه الكلمة والمفهوم ، وهذا بحث علمي طبيعي تتولاّه العلوم الطبيعيّة التجريبيّة.

3 - البحث عن حقيقة وكنه وجوهر هذا المفهوم الموجود في الخارج ، وهذا بحث فلسفي يتولاّه فقه اللغة أو فلسفة اللغة.

ص: 273

4 - البحث عن المفهوم وتحليله بما هو هو بقطع النظر عن وجوده الخارجي ، بمعنى البحث عمّا يتألّف منه هذا المفهوم ذاتا أو عرضا ، وهذا البحث يتولاّه علم المنطق.

5 - البحث عن حقيقة وجوهر هذا المفهوم بما هو حاك وكاشف عن الخارج ، أي البحث عن هذا المفهوم المتصوّر في الذهن بما هو حاك عن الخارج ، فالمعنى لهذا المفهوم متصوّر ذهنا إلا أنّ مطابقته للخارج وتفسير هذه المطابقة وتحليلها غير واضحة. وهذا البحث لم يتعرّض له أحد من العلوم المذكورة لا اللغة ولا المنطق ولا الفلسفة ولا الطبيعة ، ولذلك كان من واجب الأصولي التعرّض لهذا البحث لما له من علاقة وطيدة وارتباط وثيق في عمليّة الاستنباط. فإنّ تحليل هذا المفهوم الذهني وكيفيّة ارتباطه بالخارج وحكايته عنه يوصلنا إلى المعرفة الدقيقة للمعنى الموضوع له هذا اللفظ ، أو المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ وإن لم يكن موضوعا له لغة.

وحينئذ يكون للبحث الأصولي فائدة كبيرة جدّا حول هذه الألفاظ ؛ لأنّها ترتبط مباشرة في الاستنباط بوصفها عناصر مشتركة.

ولتفصيل ذلك نقول : إنّ البحوث اللفظيّة على قسمين :

الأوّل : البحوث اللغويّة : وهي البحث عن مدلول الكلمة واكتشاف معانيها ، أو تفسير هذه المعاني والكشف عنها.

الثاني : البحوث التحليليّة : وهي البحث عن كيفيّة نشوء هذا المعنى بعد معرفته وتحليل ذلك.

أمّا البحوث اللغويّة : فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على معنى معيّن ، من قبيل البحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، ودلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم.

البحوث اللغويّة التي يبحثها الأصولي لأجل اكتشاف دلالة اللفظ على المعنى المعيّن تنقسم إلى قسمين : الاكتشاف المحض والاكتشاف التفسيري. فصيغة الأمر هل تدلّ على الوجوب وكيف تدلّ على الوجوب؟

والجملة الشرطيّة التي تدلّ على المفهوم يراد اكتشاف وتفسير هذه الدلالة الثابتة وجدانا وما هو نوع الربط الذي يفيد المفهوم؟

وأمّا البحوث التحليليّة فيفترض فيها مسبقا أنّ معنى الكلام معيّن ودلالة الكلام

ص: 274

عليه واضحة ، غير أنّ هذا المعنى مستفاد من مجموع أجزاء الكلام على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزء من المعنى يقابله جزء في الكلام.

ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء الكلام من أجزاء المعنى واضحا ، ولكن ما يقابل بعضها الآخر غير واضح ، فيبحث بحثا تحليليّا عن تعيين المقابل.

البحوث التحليليّة هي أن يكون اللفظ دالاّ على المعنى ولا شكّ فيه ، والكلام المؤلّف من مجموعة أجزاء واضح المعنى أيضا على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزء من المعنى له جزء من اللفظ ، فمجموع المعنى يستفاد من مجموع الكلام.

غير أنّ هذه المعاني التي يقابلها ألفاظ بعضها واضح وبعضها الآخر فيه غموض ، ولذلك يأتي البحث التحليلي في علم الأصول ليكشف القناع عن هذا الغموض ، وأنّ هذا اللفظ كيف يمكنه أن يدلّ على ذاك المعنى بعد أن ثبت كونه دالاّ عليه بشكل إجمالي؟ فيبحث في تحليل هذه الدلالة وكيفيّة ثبوتها.

ومثال ذلك : البحث عن مدلول الحرف والمعاني الحرفيّة ، فإنّنا حين نقول : ( زيد في الدار ) نفهم معنى الكلام بوضوح ، ونستطيع بسهولة أن ندرك ما يقابل كلمة ( زيد ) وما يقابل كلمة ( دار ) ، وأمّا ما يقابل كلمة ( في ) فلا يخلو من غموض ، ومن أجل ذلك يقع البحث في معنى الحرف ، وهو ليس بحثا لغويّا ؛ إذ لا يوجد فيمن يفهم العربيّة من لا يتصوّر معنى ( في ) ضمن تصوّره لمدلول جملة ( زيد في الدار ) ، وإنّما هو بحث تحليلي بالمعنى الذي ذكرناه.

من البحوث التحليليّة التي يراد فيها معرفة وتحليل دلالة اللفظ على المعنى بعد معرفة المعنى الحروف والمعاني الحرفيّة.

فمثلا جملة ( زيد في الدار ) تدلّ بمجموعها على معنى واضح ، وهو أنّ زيدا داخل الدار وموجود فيها. وكذلك فإنّ هذا المعنى المستفاد يوجد في الجملة ما يدلّ كلّ جزء فيها من اللفظ على جزء من المعنى على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول. فكلمة ( زيد ) تدلّ بوضوح على ذاك الشخص المعيّن ، وكلمة ( الدار ) تدلّ بوضوح أيضا على ذاك المبنى المعروف. وأمّا كلمة ( في ) الموجودة في الجملة والتي يقابلها جزء من المعنى المستفاد من مجموع الكلام يوجد غموض في دلالتها على الظرفيّة ، فهي تدلّ على الظرفيّة ولكن دلالتها على الظرفيّة ليست بنحو واضح ؛ لأنّ الظرفيّة كمعنى اسمي

ص: 275

ليس مرادفا لكلمة ( في ) بحيث لا يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر ، فكيف دلّت كلمة ( في ) على الظرفيّة إذا؟

ومن هنا يكون البحث حول مدلول كلمة ( في ) على الظرفيّة وفرقها عن استعمال كلمة ( الظرفيّة ) من مباحث علم الأصول ؛ لأنّ هذا البحث يرتبط ارتباطا وثيقا في عمليّة الاستنباط فيما إذا وردت كلمة ( في ) في دليل شرعي ، إذ توجد ثمرات وفوائد عمليّة كما سيأتي في محلّه. فإنّ هذه المعاني الحرفيّة هل الوضع فيها عامّ والموضوع له عامّ أو أنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ؟ والثمرة هي أنّه هل يمكن الإطلاق فيها أو لا؟

وهكذا الحالة بالنسبة لكثير من البحوث كهيئات الجمل التامّة والناقصة ، فإنّ المعنى مختلف فيهما مع أنّ الموادّ التي تتألّف منها الجملتان قد تكون واحدة ، فكيف حصل الاختلاف وما هو المعنى الذي تدلّ عليه هذه الهيئات تفصيلا؟

فإنّ كلّ هذه البحوث لم يتعرّض لها أهل اللغة مع كونها ذا أهميّة في علم الأصول.

ومن الواضح أنّ البحث التحليلي بهذا المعنى لا يرجع فيه إلى مجرّد التبادر أو نصّ علماء اللغة ، بل هو بحث علمي تولاّه علم الأصول في حدود ما يترتّب عليه أثر في عمليّة الاستنباط ، على ما يأتي (1) إن شاء اللّه تعالى.

وهذا البحث التحليلي لمدلول المعاني لا يمكن الرجوع فيه إلى أهل اللغة ؛ لأنّهم لم يبحثوا ذلك ، ولا يمكن الاعتماد فيه على التبادر ؛ لأنّه عمليّة عفويّة لتعيين المعنى المدلول من اللفظ أو الظاهر عند تعدّد المعاني. ونحن لا نشكّ في المعنى إجمالا ولكن نريد أن نتبيّن حقيقة هذا المعنى ، وكيف يدلّ عليه اللفظ. وهذا البحث العلمي التحليلي تولاّه علم الأصول بالحدود التي يترتّب عليها أثر عملي في عمليّة الاستنباط ، إذ لا يراد من البحث التحليلي هنا التوسّع في كيفيّة نشوء العلاقة بين اللفظ والمعنى وكيفيّة الارتباط بينهما ، وما هو منشأ العلاقة والارتباط ، وكيف تمّ جعل هذه العلاقة اللغويّة ، فإنّ ذلك موكول إلى فلسفة اللغة وفقهها.

فأهل اللغة مثلا قالوا : إنّ الجملة التامّة ما يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة الناقصة لا يحسن السكوت عليها.

ص: 276


1- في نهاية بحث المعاني الحرفيّة ، تحت عنوان : الثمرة.

وهذا المقدار لا يكفي لمعرفة الفارق الجوهري بين الجملتين ؛ إذ متى يحسن السكوت ومتى لا يحسن السكوت؟ وكيف كان السكوت حسنا في هذه دون تلك؟ وما هو المعنى الموجود في كلّ من الجملتين اللتين قد تتّفقان في الألفاظ مع اختلافهما في المعنى؟

وأمّا البحوث اللغويّة فهي يمكن أن تقع موضعا للبحث العلمي في إحدى الحالات التالية :

ذكرنا أنّ المعنى ليس واضحا في البحوث اللغويّة ، بل يراد معرفته واكتشافه وهي على قسمين :

البحوث اللغويّة الاكتشافيّة المحضة أي اكتشاف المعنى فقط.

والبحوث اللغويّة الاكتشافيّة التفسيريّة أي اكتشاف المعنى مع بيان المناط والملاك الموجود فيه.

الحالة الأولى : أن تكون هناك دلالة كلّيّة كقرينة الحكمة ، ويراد إثبات ظهور الكلام في معنى كتطبيق لتلك القرينة الكلّيّة.

الحالة الأولى من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة الاكتشافيّة المحضة ، وذلك اعتمادا على دلالة كلّيّة كقرينة الحكمة ، فإنّ هذه القرينة إذا تمّت مقدّماتها جميعا في مورد تمّ اكتشاف أنّ هذا المورد يدلّ على الإطلاق. فنحن نريد أن نطبّق هذه الدلالة الكلّيّة لإثبات ظهور الكلام في المعنى المراد اكتشافه بحيث يكون تطبيقا وصغرى لهذه الدلالة الكلّيّة.

فهل هذه الصيغة المعيّنة أو هذه الكلمة الفلانيّة ظاهرة في المعنى المعيّن الذي هو الإطلاق او ليست ظاهرة فيه؟ فإثبات ذلك واكتشاف أنّ المعنى المعيّن يمكن استفادته من اللفظ أو من الصيغة يمكن إثباته بواسطة هذه الدلالة الكلّيّة التي هي قرينة الحكمة ، وذلك فيما إذا كانت مقدّماتها موجودة في هذه الصيغة أو الكلمة.

فعندئذ نحقّق صغرى ومصداقا تطبيقيّا لهذه القاعدة ، فتكون هذه الدلالة الكلّيّة دالّة على المعنى المراد اكتشافه من باب تطبيق القاعدة الكلّيّة على مصاديقها الخارجيّة.

ومثال ذلك : أن يقال بأنّ ظاهر الأمر هو الطلب النفسي لا الغيري ، والتعييني

ص: 277

لا التخييري ، تمسّكا بالإطلاق وتطبيقا لقرينة الحكمة عن طريق إثبات أنّ الطلب الغيري والتخييري طلب مقيّد فينفى بتلك القرينة ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، فإنّ هذا البحث في التطبيق يستدعي النظر العلمي في حقيقة الطلب الغيري والطلب التخييري ، وإثبات أنّهما من الطلب المقيّد.

مثال ذلك : إثبات أنّ الطلب الظاهر من الأمر هو الطلب الوجوبي لا الاستحبابي ، والطلب النفسي لا الغيري ، والطلب التعييني لا التخييري ، والطلب العيني لا الكفائي. وذلك عن طريق التمسّك بدلالة كلّيّة وهي قرينة الحكمة بحيث تكون مقدّماتها تامّة في الوجوب النفسي والتعييني والعيني وغير تامّة في مقابلاتها ، فإذا تمّت قرينة الحكمة في تلك الموارد أمكن التمسّك بها وتطبيقها عليها لإثبات المذكورات من باب كونها مصداقا للقاعدة الكلّيّة.

إلا أنّ هذا الأمر يتوقّف أوّلا على إثبات أنّ الطلب الوجوبي وأخواته ليس طلبا مقيّدا ، وثانيا إثبات أنّ الطلب الاستحبابي وأخواته من الطلب المقيّد بحيث يحتاج فيه إلى مئونة زائدة وقرينة خاصّة تدلّ عليه ، فإذا ثبت ذلك جرت قرينة الحكمة لنفي القيود في حالة الشكّ في وجودها مع عدم دليل عليها ، وبذلك يثبت الإطلاق في الأمر والذي يدلّ على النفسي و ...

وإثبات ذلك أيضا يحتاج إلى البحث عن حقيقة الطلب الغيري والتخييري ، والاستحبابي والكفائي ، لنرى أنّه هل فيها مئونة زائدة على أصل الطلب بحيث إنّ إرادتها تحتاج إلى دليل خاصّ وقرينة معيّنة في لسان الدليل أو ليس فيها ذلك؟

وهذا بحث علمي يتولاّه علم الأصول لإثبات أنّها من الطلب المطلق أو من الطلب المقيّد.

فالطلب مدلول للأمر وهذا الطلب له أقسام متعدّدة وهي :

الطلب الوجوبي وهو شدّة الطلب ، ويقابله الطلب الاستحبابي وهو الطلب الضعيف.

الطلب النفسي وهو وجوب الشيء مستقلا عن غيره ، ويقابله الطلب الغيري وهو وجوب الشيء تبعا لغيره من باب الوجوب المقدّمي.

ص: 278


1- في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : بعض التطبيقات لقرينة الحكمة.

الطلب التعييني وهو وجوب الشيء بعينه ولا يجزي غيره عنه ، ويقابله الطلب التخييري وهو وجوب هذا أو ذاك على نحو البدليّة.

الطلب العيني وهو وجوب الشيء على الشخص نفسه ، ويقابله الطلب الكفائي أي وجوب الشيء على الجميع ويسقط بفعل بعضهم.

فهنا بواسطة قرينة الحكمة يثبت الطلب بنحو مطلق على أساس نفي القيود الزائدة المشكوك وجودها كما سيأتي. وبهذا الإطلاق نثبت الطلب الوجوبي والتعييني والعيني والنفسي دون تلك الأقسام ؛ لأنّ تلك الأقسام تحتاج إلى مئونة زائدة لا بدّ من ذكرها في الكلام فعدم ذكرها يدلّ على عدم إرادتها.

وأمّا كيف أنّ تلك الأقسام كانت من الطلب المطلق ، وهذه من الطلب المقيّد فهذا بحث يتولاّه علم الأصول لاكتشاف الإطلاق من التقييد.

الحالة الثانية : أن يكون المعنى متبادرا عرفا ومفروغا عن فهمه من اللفظ ، وإنّما يقع البحث العلمي في تفسير هذه الدلالة ، وهل هي تنشأ من الوضع أو من قرينة الحكمة أو من منشأ ثالث؟

الحالة الثانية من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة التفسيريّة بمعنى أنّ المعنى المدلول عليه من اللفظ واضح لا إشكال فيه ، استنادا إلى أهل اللغة أو إلى التبادر ، فليس هناك بحث في اكتشاف هذا المعنى ؛ لأنّه مفهوم ومفروغ عنه. وإنّما يقع البحث في تفسير هذه الدلالة وكيف كان هذا اللفظ دالاّ على المعنى المذكور؟ هل هو عن طريق الوضع بأن كان اللفظ موضوعا لغة لهذا المعنى ، أو هو عن طريق قرينة الحكمة ، بأن كان اللفظ دالاّ على الجامع بين هذا المعنى ومعنى آخر ، وكانت دلالته على المعنى الآخر فيها مئونة زائدة منتفية بقرينة الحكمة ، أو أنّ العقل هو الذي يحكم بأنّ اللفظ دالّ على المعنى المذكور؟ فهذا بحث علمي أصولي يختلف الأمر والثمرة فيه باختلاف هذا البحث التفسيري.

ومثال ذلك : أنّه لا إشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث في علم الأصول أنّ هذا هل هو من أجل وضع اللفظ للمطلق ، أو من أجل دالّ آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفي فيه مجرّد الإحساس بالتبادر الساذج ، بل لا بدّ من جمع ظواهر عديدة ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.

ص: 279

مثال ذلك : أنّ اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق للتبادر ، فقولنا : ( أكرم العالم ) يتبادر أنّه مطلق العالم وليس مختصّا بفرد دون آخر ، وهذا نحسّ به وجدانا وهو معنى التبادر ؛ إذ هو عمليّة عفويّة ساذجة تحصل لكلّ من كان من أهل اللغة. بخلاف قولنا : ( أكرم العالم العادل ) فإنّه لا إشكال في دلالته على التقييد وإرادة بعض الأفراد من العالم لا جميع الأفراد.

إلا أنّ الكلام يقع في أنّ هذا الإطلاق المستفاد من اسم الجنس الخالي من القيد ما هو الملاك والسبب فيه؟ وهل الإطلاق مستفاد لأجل كونه موضوعا لغة ، أو لأجل حكم العقل بذلك ، أو لأجل تطبيق قرينة الحكمة؟

والجواب عن هذا السؤال لا يكفي فيه مجرّد التبادر الساذج ؛ لأنّه يعيّن المعنى فقط ولا يفيدنا في معرفة واستنتاج الملاك والمناط لهذا المعنى بذاك اللفظ.

ولذلك يكون البحث العلمي الأصولي هو الجواب عن هذا التساؤل ، والذي له ثمرة مهمّة في عمليّة الاستنباط بوصف اسم الجنس عنصرا عامّا مشتركا ، ودلالته على الإطلاق وضعا تختلف عنها عقلا أو بقرينة الحكمة.

وحينئذ لا بدّ من البحث العلمي ، وهو يستند على جمع عدد من الظواهر المختلفة التي ورد فيها اسم الجنس ليستكشف من خلالها ملاك دلالته على الإطلاق ؛ كما هو الحال في العلوم التجريبيّة حيث يتمّ تطبيق النظريّة المفروضة على عدد من الظواهر في أوضاع مختلفة زمانا ومكانا وظروفا ، فإن كانت النتيجة واحدة في الجميع كانت النظريّة صحيحة ، وإن اختلفت في مورد لم تكن صحيحة.

وهنا نجمع عددا من الظواهر التي ورد فيها اسم الجنس في مختلف الحالات فمثلا :

1 - استعمال اسم الجنس مع القيد هل يدلّ على المجازيّة أم لا؟

والجواب : أنّه لا يدلّ على المجاز ، فهذا دليل على أنّ اسم الجنس ليس موضوعا لغة للإطلاق ، وإلا لكان استعماله في غير معناه الذي وضع له مجازا.

2 - استعمال اسم الجنس في مقام الإبهام والإجمال هل يدلّ على الإطلاق؟

والجواب : أنّه لا يدلّ على الإطلاق ، وهذا دليل على أنّ اسم الجنس في حالات الإجمال وعدم البيان لا يدلّ على الإطلاق.

ص: 280

3 - لما ذا كان العامّ متقدّما على الإطلاق؟

والجواب : أنّ العموم مدلول لفظي لأدوات العموم ، بينما الإطلاق ليس مدلولا لفظيّا لاسم الجنس. بمعنى أنّ العامّ يذكر صريحا العموم ، بينما اسم الجنس لا يذكر الإطلاق. وهذا معناه أنّ الدلالة على الإطلاق سكوتيّة.

4 - لما ذا يفرّق بين اسم الجنس الخالي من القيد في حالات عدم البيان وحالات البيان إذا كان الحاكم بالإطلاق هو العقل؟

والنتيجة : هي أنّه لا يصلح للإجابة عن هذه التساؤلات إلا القول أنّ الإطلاق مدلول لاسم الجنس على أساس قرينة الحكمة التي من مقدّماتها عدم ذكر القيد ، وكون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم.

الحالة الثالثة أن يكون المعنى متبادرا ولكن يواجه ذلك شبهة تعيق الأصولي عن الأخذ بتبادره ما لم يجد حلاّ فنيّا لتلك الشبهة.

الحالة الثالثة من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة التفسيريّة أيضا ، وذلك بأن يكون المعنى واضحا ومفهوما لكونه متبادرا إلى الذهن العرفي ، إلا أنّه يوجد في مقابل هذا التبادر العرفي شبهة لا يمكن مع بقائها الأخذ بهذا التبادر ؛ لأنّها تشكّل نقضا عمليّا له ، ولذلك كان لا بدّ من حلّ هذه الشبهة والتوفيق بينها وبين ذاك التبادر ليمكن الأخذ به.

ومثال ذلك : أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بالتبادر العرفي على المفهوم ، ولكن في مقابل ذلك نحسّ أيضا أنّ الشرط فيها وإذا لم يكن علّة وحيدة ومنحصرة للجزاء لا يكون استعمال أداة الشرط مجازا ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع.

مثال ذلك : أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بالتبادر العرفي على المفهوم كقولنا مثلا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فتدلّ بالمفهوم على أنّه إذا لم يأت زيد فلا يجب الإكرام ، وهذه الدلالة على المفهوم نحسّ بها بالتبادر العرفي أي بوصفنا من أهل العرف واللغة والمحاورة ، إلا أنّنا نجد أنّ هذه الجملة الشرطيّة إنّما تدلّ على المفهوم فيما إذا كان الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء.

وإذا لم يكن الشرط علّة تامّة للجزاء فلا مفهوم لها كما في قوله : ( إذا خفي الأذان

ص: 281

فقصّر ) فإنّه لا مفهوم لهذه الجملة ؛ لأنّ الشرط ليس العلّة الوحيدة المنحصرة ؛ لأنّ التقصير ثابت مع خفاء الجدران بقوله : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ).

مع أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم المفهوم ليس مجازا ، كالمجازيّة في استعمال الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّه إذا قيل. ( زيد أسد ) ؛ لكونه شجاعا كان استعمالا مجازيّا ؛ لأنّه استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له لمناسبة وهي الشجاعة. وفي مقامنا لا يوجد مجازيّة في استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم المفهوم ، مع أنّ التبادر الأوّل الذي يدلّنا على ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة في موارد كون الشرط علّة تامّة منحصرة معناه أنّ أدوات الشرط موضوعة لغة لذلك.

فكيف يتمّ التوفيق بين هذين المفهومين المتبادرين المتنافيين ، وهما :

التبادر على أنّ الشرطيّة تدلّ على المفهوم ، والذي معناه كونها موضوعة لذلك لغة.

والتبادر على عدم المجاز في موارد عدم المفهوم ، فإنّه لو كانت موضوعة للمفهوم كيف لم يكن هناك مجاز؟!

ومن هنا يتحيّر الإنسان في كيفيّة التوفيق بين هذين الوجدانين ، ويؤدّي ذلك إلى الشكّ في الدلالة على المفهوم ما لم يتوصّل إلى تفسير يوفّق فيه بين الوجدانين.

والنتيجة هي الوقوع في الحيرة أمام هذين الوجدانين المتنافيين ، فهل يأخذ بالوجدان الأوّل ويحكم بالمجازيّة في موارد عدم المفهوم ، أو يأخذ بالوجدان الثاني ويحكم بعدم المفهوم في موارد العلّة التامّة المنحصرة؟ وكلا الأمرين لا دليل عليه وجدانا ، والأخذ بأحدهما وطرح الآخر ترجيح بلا مرجّح. ولذلك يؤدّي الأمر إلى الشكّ في دلالة الجملة على المفهوم أو إلى إنكار المفهوم ما لم يتوصّل إلى حلّ فنّي يوفّق بين الوجدانين.

وهذا الحلّ الفنّي يتولاّه علم الأصول وهو بحث تفسيري توفيقي بعد أن كان المعنى موجودا ، وهذا الحلّ يختلف باختلاف المباني والتصوّرات وعلى أساسه تختلف النتائج والتي تؤثّر في عمليّة الاستنباط ؛ لأنّ الجملة الشرطيّة من العناصر المشتركة في الاستنباط.

وهناك أيضا بعض الحالات الأخرى التي يجدي فيها البحث التحقيقي.

ص: 282

كما في موارد الاستثناء والحصر والعموم وأقسامه والإطلاق وأقسامه ، فإنّ البحث التحليلي أو التفسيري ينفع فيها ؛ لأنّها عناصر مشتركة في الاستنباط.

وعلى هذا الأساس وبما ذكرنا من المنهجة والأسلوب يتناول علم الأصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية ويبحثها لغويّا أو تحليليّا.

ص: 283

ص: 284

المعاني الحرفيّة

ص: 285

ص: 286

المعاني الحرفيّة

المعنى الحرفي مصطلح أصولي تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (1) ، وقد وقع البحث في تحديد المعاني الحرفيّة ، إذ لوحظ منذ البدء أنّ الحرف يختلف عن الاسم المناظر له كما مرّ بنا سابقا ، ففي تخريج ذلك وتحديد المعنى الحرفي وجد اتّجاهان :

المعنى الحرفي مصطلح أصولي يقابل المعنى الاسمي : وهو عبارة عن المعنى الرابط بين شيئين ، بحيث لو فصل عنهما لم يفهم له معنى محدّد. فحقيقته الربط ، ولذا لا يمكن تصوّره مستقلاّ بخلاف المعنى الاسمي. ولذلك كان المعنى الحرفي إيجاديّا ، بمعنى أنّه يوجد معنى في الكلام لم يكن موجودا بخلاف المعنى الاسمي فإنّه إخطاريّ ، أي يعبّر عن المعنى الموجود ويكشف ويحكي عنه فالمعنى موجود قبله.

وهنا يقع البحث في تحديد المعاني الحرفيّة وكيفيّة اختلافها عن المعاني الاسميّة ، وهل أنّ الفارق بينهما جوهري أو عرضي؟

والوجه في نشوء هذا البحث أنّه لوحظ أنّ المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الاسمي الموازي له ، فكلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) الدالاّن على مفهوم الابتداء يختلفان عن بعضهما ، بحيث لا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ لا يمكن وضع كلمة ( الابتداء ) بين طرفين كما توضع كلمة ( من ). وهذا البحث بحث تحليلي تولاّه علم الأصول لارتباطه بعمليّة الاستنباط ؛ لأنّ هذه المعاني تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ويتأثّر الاستنباط بها تأثّرا ملحوظا.

ومن هنا وجدت عدّة تخريجات لبيان وتحديد المعاني الحرفيّة وإبراز الفارق

ص: 287


1- ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

بينها وبين المعاني الاسميّة. ومهمّ هذه الأقوال قولان : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) ، وما ذكره المشهور (1).

الاتّجاه الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) (2) رحمه اللّه من أنّ معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتا. وإنّما يختلف عنه اختلافا طارئا وعرضيّا ، ف- ( من ) و ( الابتداء ) يدلاّن على مفهوم واحد.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ حقيقة الحرف لا تختلف اختلافا جوهريّا عن حقيقة الاسم ، فالمعنى الذي يدلّ عليه الحرف هو نفس المعنى الذي يدلّ عليه الاسم الموازي له ، لكن لا بنحو الترادف كما سيأتي توضيحه. نعم ، هناك اختلاف عرضي طارئ عليهما وهو كيفيّة الاستعمال. وأمّا الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فهو واحد فيهما ولا يختلفان إلا بنوعيّة الاستعمال.

فكلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) يدلاّن على مفهوم واحد وهو كلّي الابتداء ، وإنّما يختلفان في نوعيّة الاستعمال. وتوضيح ذلك :

وهذا المفهوم إذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائما مرتبط بالمبتدئ والمبتدأ منه ، إذ لا يمكن وقوع ابتداء في الخارج إلا وهو قائم ومرتبط بهذين الطرفين.

مفهوم الابتداء إذا لوحظ وجوده في الخارج أي بالحمل الشائع فهذا دائما مرتبط بطرفين هما المبتدئ والمبتدأ منه ، أي المكان الذي حصل منه الابتداء والفاعل الذي فعل الابتداء ، إذ لا يمكن أن يوجد الابتداء في الخارج إلا إذا كان هناك طرفان ؛ لأنّ مصداق الابتداء في الخارج لا يتعقّل إلا بالطرفين. وليس هناك مصداق آخر للابتداء في الخارج يمكن وقوعه من دون الطرفين ، وهذا يعني أنّه لا يمكن أن يلحظ مفهوم

ص: 288


1- نعم ، هناك اتّجاه آخر لكنّه واضح الفساد ، ولذلك أعرض السيّد الشهيد عن ذكره وملخّصه : أنّ المعاني الحرفيّة علاميّة كهيئات الإعراب وعلاماته ، وهذا يعني أنّه ليس لها معنى أصلا وإنّما هي علامة تدلّ وتنبّه على أنّ مدخولها مظروف أو مبتدأ منه ونحو ذلك. ووجه بطلانه أنّه حينئذ يجوز الاستغناء عن الحرف في الجملة ؛ لأنّها ليست متقوّمة به ، ويلزم كون الجملة تامّة بدونه كالحركات الإعرابيّة وعلامات الإعراب. وهذا مخالف للوجدان اللغوي والعرفي ، إذ لا ريب بأنّ الجملة متغيّرة كلّيّا عند وجود الحرف وعند عدم وجوده.
2- كفاية الأصول : 26.

الابتداء في الخارج بالحمل الشائع إلا ضمن الطرفين ، فمعناه متقوّم بالطرفين في الخارج.

وإذا لوحظ وجوده في الذهن فله نحوان من الوجود : فتارة يلحظ بما هو ويسمّى باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقا لواقعة الخارجي ويسمّى باللحاظ الآلي. وكلمة ( ابتداء ) تدلّ عليه ملحوظا بالنحو الأوّل و ( من ) تدلّ عليه ملحوظا باللحاظ الثاني.

وأمّا إذا لوحظ مفهوم الابتداء الكلّي بما هو موجود في الذهن ، فهذا الوجود الذهني لكلّي الابتداء له نحوان من اللحاظ :

فتارة يلحظ مفهوم الابتداء بما هو هو ، أي مفهوم الابتداء بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري مجرّدا عن كلّ القيود والخصوصيّات ، فهذا يسمّى باللحاظ النفسي والاستقلالي.

وأخرى يلحظ مفهوم الابتداء بما هو قائم بالطرفين ، أي مفهوم الابتداء بالحمل الشائع والنظر التصديقي المقيّد بالوجود الخارجي. فهنا يكون لحاظ هذا المفهوم الذهني بما هو حالة قائمة في الطرفين هو عين مفهوم الابتداء الموجود في الخارج ؛ لأنّه قائم بالطرفين غير مستقلّ عنهما. وهذا يسمّى باللحاظ الآلي والربطي.

وحينئذ نقول : إنّ كلمة ( الابتداء ) تدلّ على مفهوم الابتداء الكلّي الذهني بما هو هو ، أي لحاظه مستقلاّ بالحمل الأوّلي.

وكلمة ( من ) تدلّ على مفهوم الابتداء الكلّي بما هو موجود وحالة في الطرفين ، أي لحاظه آلة ورابطا بالحمل الشائع.

فالفارق بين مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيهما معا.

إذا اتّضح أنّ كلمتي ( من ) و ( الابتداء ) تدلاّن على معنى واحد وهو مفهوم الابتداء الكلّي الموجود في الذهن لا في الخارج. والفارق بينهما إنّما هو في نوعيّة اللحاظ فقط ، فإذا لوحظ هذا المفهوم بما هو هو فتستعمل كلمة ( ابتداء ) للدلالة على ذلك ، وإذا لوحظ هذا المفهوم بما هو حالة قائمة في الطرفين فتستعمل كلمة ( من ) للدلالة عليه. وهذا معناه أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه واحد وليس

ص: 289

هناك فارق جوهري بينهما وإنّما الفارق عرضي ، وهو نوعيّة اللحاظ وكيفيّته.

إلا أنّ هذا لا يعني أنّ اللحاظ الاستقلالي أو الآلي مقوّم للمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه وقيد فيه ؛ لأنّ ذلك يجعل المعنى أمرا ذهنيّا غير قابل للانطباق على الخارج.

إشكال ودفعه :

أمّا الإشكال فهو : أنّ اللحاظ الاستقلالي أو الآلي في كلمتي ( الابتداء ) و ( من ) معناه أنّ كلمة ( الابتداء ) قد وضعت للدلالة على مفهوم الابتداء واستعملت فيه بما هي مقيّدة باللحاظ الاستقلالي ، فصار هذا اللحاظ الاستقلالي مقوّما للمعنى الذي وضعت له واستعملت فيه ؛ لأنّه دخيل وقيد فيها. ومن الواضح أنّ اللحاظ أمر ذهني من شئون الذهن ، فإذا كان قيدا دخيلا ومقوّما للمعنى صار المعنى أمرا ذهنيّا ؛ لأنّه مقيّد بما هو أمر ذهني وهذا يجعله غير قابل للانطباق على الخارج ، وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ المراد من وضع الكلمات لمعانيها أن تكون حاكية عن المعاني المتحقّقة في الخارج بتوسّط تصوّرها ذهنا ، وإلا لم يكن هناك فائدة وأثر لوضع الألفاظ للمعاني الذهنيّة بما هي مقيّدة بالذهن من دون أن تكون حاكية عن الخارج. فيكون هذا اللحاظ الاستقلالي المقوّم لغوا ومستحيلا ؛ لأنّه يلغي الفائدة من الوضع. وكذلك الحال بالنسبة للّحاظ الآلي في كلمة ( من ).

وإنّما يؤخذ نحو اللحاظ قيدا لنفس العلقة الوضعيّة المجعولة للواضع.

والجواب عن الإشكال : أنّ نوعيّة اللحاظ من الاستقلالي أو الآلي ليست دخيلة في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه ، وإنّما نحو اللحاظ المذكور دخيل في العلاقة الوضعيّة فقط ، وأمّا المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه فهو غير متقوّم وليس مقيّدا بنوع اللحاظ ليلزم المحذور المذكور.

والمقصود من العلاقة الوضعيّة التي يكون اللحاظ دخيلا فيها هي العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى التي يجعلها الواضع ، فالواضع الذي جعل كلمة ( الابتداء ) موضوعة أو مستعملة بمفهوم الابتداء الكلّي الاستقلالي ، أو الذي جعل كلمة ( من ) الموضوعة والمستعملة في الابتداء بما هي حالة في الطرفين ، إنّما جعل هذا اللحاظ قيدا في نفس العلاقة بين اللفظ والمعنى بحيث يكون اللفظ دالاّ على المعنى المقصود ، إذا كانت

ص: 290

العلاقة الوضعيّة بين اللفظ وهذا المعنى ملحوظة باللحاظ الاستقلالي أو الآلي.

فالاستقلاليّة أو الآليّة ولحاظهما دخيل في نفس العلاقة أي نفس وضع اللفظ لهذا المعنى ، فهذه العلاقة التي جعلها الواضع والجاعل أخذ فيها اللحاظ وقيديّته ، بحيث إنّه إذا لم يكن هذا اللحاظ موجودا لم يكن هناك علاقة وضعيّة أصلا فيكون اللفظ مهملا من دون وضع أصلا. وبهذا يتّضح أنّ المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه اللفظ لم يكن مقيّدا باللحاظ ليكون أمرا ذهنيّا ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، ولذلك يكون حاكيا ومنطبقا على الخارج. نعم ، العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى كانت مقيّدة باللحاظ فإذا وجد اللحاظ كان اللفظ موضوعا أو مستعملا في المعنى ، وإذا انتفى اللحاظ لم يكن للّفظ أيّ معنى أصلا ولم يكن موضوعا أو مستعملا لشيء من المعاني فيكون مهملا. ويترتّب على ذلك عدم المجازيّة ، وتوضيحه :

فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلالي استعمال في معنى بلا وضع ؛ لأنّ وضعه له مقيّد بغير هذه الحالة ، لا استعمال في غير ما وضع له.

وقد يشكل بأنّ كلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) ما دامتا موضوعتين ومستعملتين في معنى واحد مفهوم وارد وهو مفهوم الابتداء الكلّي ، والفارق بينهما إنّما هو بنوعيّة اللحاظ وكيفيّته والتي هي خارجة عن المعنى ، فهذا لازمه أنّه يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر كالمترادفين مثلا من دون مجازيّة أصلا كأسد وليث ، أو يقال : إنّه يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، ولكن بنحو المجاز ؛ لأنّه يكون استعمالا للّفظ في غير ما وضع له.

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين فاسد ؛ لوضوح أنّه لا يقال : ( سار زيد ابتداء البصرة ) لا بنحو الترادف ولا بنحو المجاز.

وجوابه : أنّ كلمتي ( من ) و ( الابتداء ) موضوعتين لمعنى واحد والاختلاف بينهما في نوعيّة اللحاظ ، ومع ذلك فلا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، لا بنحو الترادف ولا بنحو المجازيّة ، ولا منافاة بين الأمرين ؛ وذلك لأنّ نوعيّة اللحاظ تمنع من ذلك.

وتوضيحه : أنّنا ذكرنا أنّ الواضع عند ما يريد أن يجعل العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى يأخذ في هذه العلاقة الوضعيّة قيدا ، وهو أنّه عند ما يريد أن يضع كلمة ( من )

ص: 291

للابتداء ويستعملها فيه إنّما تكون دالّة عليه وموضوعة له ومستعملة فيه فيما إذا كان اللحاظ الآلي لهذا المفهوم هو المقصود. وهذا يعني أنّ كلمة ( من ) إنّما تكون موضوعة فيما إذا كان اللحاظ الآلي هو المقصود منها ، وأمّا إذا لم يكن اللحاظ الآلي هو المقصود منها فهي كلمة ولفظة مهملة بلا وضع. فالعلاقة الوضعيّة بين ( من ) والابتداء كمفهوم آلي مقيّدة ومتقوّمة باللحاظ الآلي ، فإذا انتفى اللحاظ الآلي انتفت العلاقة الوضعيّة ، وانتفاؤها معناه أنّ كلمة ( من ) لا وضع لها فهي مهملة ككلمة ( ديز ) مثلا.

وحينئذ لا يمكننا استعمال كلمة ( من ) مكان كلمة ( الابتداء ) لا بنحو الترادف ولا بنحو المجاز ؛ لأنّه يكون استعمالا لكلمة من دون أن تكون موضوعة لمعنى أصلا ، ومن المعلوم أنّ الكلمة التي لم توضع لمعنى أصلا لا يجوز استعمالها لا حقيقة ولا مجازا.

فكما لا يصحّ استعمال كلمة ( ديز ) مكان كلمة ( زيد ) في قولنا : ( جاء زيد ) ؛ لأنّها كلمة مهملة لا وضع لها ، فكذلك لا يصحّ استعمال كلمة ( الابتداء ) مكان كلمة ( من ) في قولنا : ( سار زيد من البصرة ) ؛ لأنّ كلمة الابتداء عند عدم اللحاظ الاستقلالي لا وضع لها أصلا.

ففرق بين استعمال الكلمة التي لا وضع لها وبين استعمال الكلمة في غير ما وضعت له.

فالاستعمال الأوّل غير صحيح ؛ لأنّ الكلمة التي لا وضع لها تكون مهملة وهي لا تستعمل في الكلام لا حقيقة ولا مجازا.

بينما الاستعمال الثاني يصحّ مجازا فيما إذا كان هناك علاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي كقولنا : ( العالم بحر ، والرجل الشجاع أسد ). وبهذا ظهر أنّ المعنى في الكلمتين واحد ولكن نوع اللحاظ فيهما مختلف ، فالفارق بينهما عرضي وطارئ وليس جوهريّا.

والاتّجاه الثاني : ما ذهب إليه مشهور المحقّقين (1) بعد صاحب ( الكفاية ) من أنّ المعنى الحرفي والمعنى الاسمي متباينان ذاتا ، وليس الفرق بينهما باختلاف كيفيّة

ص: 292


1- أجود التقريرات 1 : 14 - 16 ، مقالات الأصول 1 : 89 - 91 ، المحاضرات 1 : 59 - 67.

اللحاظ فقط ، بل إنّ الاختلاف في كيفيّة اللحاظ ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين ، على ما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

ذهب مشهور المحقّقين بعد صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ المعنى الحرفي يختلف اختلافا جوهريّا عن المعنى الاسمي ، بحيث إنّ المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الحرف يختلف ذاتا عن المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الاسم. وليس الاختلاف بينهما عرضيّا في كيفيّة اللحاظ من الآلية والاستقلالية ، بل هذا الاختلاف في كيفيّة اللحاظ مسبّب وناتج عن ذاك الاختلاف الذاتي الجوهري بين المعنيين ؛ لأن الاختلاف في مرحلة الاثبات والدلالة يكشف ويحكي عن وجود فارق أعمق وجوهري في مرحلة الثبوت والواقع.

وعلى هذا الأساس لم يكن استعمال أحدهما مكان الآخر صحيحا لا حقيقة ولا مجازا ؛ للتباين بين المعنيين. فإن التباين بينهما يحول دون صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ لا علاقة ولا مناسبة بينها أبدا. والاستعمال المجازي يفترض وجود مناسبة ونحو علاقة بين المعنيين وهنا لا يوجد ذلك.

وأمّا تصوير هذا الفارق الجوهري بين المعنيين الحرفي والاسمي بعد الاتّفاق على وجوده فقد اختلفت كلمات المشهور في بيانه على أقوال متعدّدة كما سيأتي.

أمّا الاتّجاه الأوّل فيرد عليه : أنّ البرهان قام على التغاير السنخي والذاتي بين معاني الحروف ومعاني الأسماء. وملخّصه :

يرد على ما ذكره صاحب ( الكفاية ) - من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء إنّما هو عرضي وطارئ ؛ لأنّه في كيفيّة اللحاظ فقط - أنّ البرهان دلّ على أنّ التغاير سنخي وذاتي. فالمعاني الحرفيّة سنخ معان تختلف بذاتها وحقيقتها عن المعاني الاسميّة ، فالمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الحرف بذاته مغاير للاسم. وهذا الاختلاف الذي ذكره الآخوند يكشف عن وجود فارق جوهري ، وليس هو وحده الفارق بينهما ، بل هو يعبّر عن الاختلاف الذاتي والسنخي بين الحرف والاسم. والبرهان على ذلك هو :

أنّه لا إشكال في أنّ الصورة الذهنيّة التي تدلّ عليها جملة ( سار زيد من البصرة إلى الكوفة ) مترابطة ، بمعنى أنّها تشتمل على معان مرتبطة بعضها ببعض ،

ص: 293

فلا بدّ من افتراض معان رابطة فيها لإيجاد الربط بين ( السير ) و ( زيد ) ، و ( البصرة ) و ( الكوفة ).

البرهان يتألّف من عدّة مقدّمات :

المقدّمة الأولى : إذا أخذنا الجملة التالية : ( سار زيد من البصرة إلى الكوفة ) نجد أنّ الصورة الذهنيّة التي تحصل عندنا من خلال هذه الجملة مترابطة فيما بينها وليست مفكّكة ومبعثرة. وهذا يعني أنّ الجملة تحتوي وتشتمل على معان مترابطة بعضها ببعض ، فالسير والبصرة والكوفة وزيد وهي المعاني الموجودة في الجملة قد انتقلت إلى ذهننا بصورة واحدة مرتبطة فيما بينها. وهذا يعني أنّه يوجد في الجملة معان رابطة هي التي ربطت بين هذه المعاني المفكّكة ورتّبتها بشكل منتظم أدّى إلى حصول صورة ذهنيّة واحدة ، فإذا يوجد في الجملة معان رابطة هي التي سبّبت وأوجدت الربط بين المعاني المفكّكة ، إذ لو لا هذه المعاني الرابطة لم يكن هناك صورة واحدة ، بل كان لدينا صور متعدّدة مفكّكة وهي : السير وزيد والبصرة والكوفة لا ربط فيما بينها. فإنّ هذه المعاني وحدها لا تفيد صورة واحدة مرتبطة ، وإنّما الذي أفاد ذلك هو وجود كلمتي ( من ) و ( إلى ) في الجملة.

وهذه المعاني الرابطة إن كانت صفة الربط عرضيّة لها وطارئة ، فلا بدّ أن تكون هذه الصفة مستمدّة من غيرها ؛ لأنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وبهذا ننتهي إلى معان يكون الربط ذاتيّا لها.

المقدّمة الثانية : أنّ هذه المعاني الرابطة إمّا أن تكون صفة الربط فيها عرضيّة وإمّا أن تكون ذاتيّة.

فإن كانت صفة الربط فيها ذاتيّة فتبيّن أنّه يوجد معان رابطة بذاتها ، أي أنّ حقيقتها وذاتها هي الربط.

وإن كانت صفة الربط فيها عرضيّة فهذا يعني أنّ هذه المعاني الرابطة اكتسبت صفة الربط من غيرها ، بحيث إنّ صفة الربط هذه كانت موجودة وثابتة لذات غيرها هي التي أعطتها هذه الصفة.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الذات الأخرى التي ثبت لها صفة الربط هل هذه الصفة ذاتيّة لها أو عرضيّة فإن كانت ذاتيّة ثبت المطلوب ، وإن كانت عرضيّة عاد السؤال

ص: 294

إلى تلك الذات الأخرى ، وهكذا إلى أن يلزم التسلسل وهو ممتنع باطل. فلا بدّ أن ننتهي إذا إلى معان يكون الربط ذاتيّا لها ؛ لأنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات ، كما هو مسلّم عندهم في الحكمة وإلا لزم التسلسل الممتنع. وهكذا نصل إلى أنّ هذه المعاني الرابطة الربط فيها عين حقيقتها وذاتي لها لا ينفكّ عنها أبدا ؛ لأنّه يستحيل التفكيك بين الذات والذاتي.

وليس شيء من المعاني الاسميّة يكون الربط ذاتيّا له ؛ لأنّ ما كان الربط ذاتيّا ومقوّما له - وبعبارة أخرى عين حقيقته - يستحيل تصوّره مجرّد عن طرفيه ؛ لأنّه مساوق لتجرّده عن الربط ، وهو خلف ذاتيّته له ، وكلّ مفهوم اسمي قابل لأن يتصوّر بنفسه مجرّدا عن أي ضميمة.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذه المعاني الرابطة والتي صفة الربط فيها ذاتيّة لا تنفكّ عنها ، إمّا أن تكون معاني اسميّة أو معاني حرفيّة ، ولا يمكن أن تكون معاني اسميّة إذا فيتعيّن كونها معاني حرفيّة.

أمّا أنّها ليست معاني اسميّة فلأنّ المعاني الاسميّة ليس شيء منها يكون الربط فيها ذاتيّا ؛ وذلك لأنّ الربط الذاتي هو ما يكون مقوّما للمعنى ؛ لأنّه إمّا أن يكون جنسا أو فصلا وكلاهما من المقوّمات الذاتيّة للشيء لا يمكن انفكاكها عنه ، فهنا الربط ذاتي ومقوّم فهو عين حقيقة الشيء ، بحيث إنّه يستحيل تصوّر الشيء منفكّا ومجرّدا عن الطرفين. وهذا يعني أنّ هذه المعاني يمكن أن تتجرّد وتنفكّ عن الربط ، وهذا خلف كون الربط ذاتيّا ، فما دام الربط ذاتيّا لهذه المعاني الرابطة فمعناه أنّه يستحيل انفكاكه عنها ويستحيل تصوّرها بدونه. وحينئذ نقول : إنّ المعاني الاسميّة لا يمكن أن تكون معاني رابطة ؛ لأنّها قابلة لأن تتصوّر بنفسها وقابلة لأن تتصوّر ضمن الجملة ، أي يمكن تصوّرها مستقلّة عن أي ضميمة أخرى ، ويمكن تصوّرها منضمّة إلى غيرها. وهذا يعني أنّها تتجرّد عن الربط فالربط ليس ذاتيّا لها ، نعم قد يعرض الربط عليها بضميمة شيء آخر.

وهذا يثبت أنّ المفاهيم الاسميّة غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتيّا لها ، وهذه المعاني هي مداليل الحروف ؛ إذ لا يوجد ما يدلّ على تلك المعاني بعد استثناء الأسماء إلا الحروف.

ص: 295

النتيجة : بعد أن ثبت وجود معاني رابطة والربط ذاتي لها ، وثبت أنّ الأسماء ليست هي المعاني الرابطة نصل إلى النتيجة القائلة بأنّ المعاني الرابطة هي مداليل الحروف ومعانيها ؛ لأنّه لا يوجد لدينا إلا الأسماء والحروف. ولمّا ثبت بالبرهان في المقدّمة الثالثة أنّ الأسماء ليست هي تلك المعاني الرابطة تعيّن أن تكون الحروف هي تلك المعاني الرابطة ، ويكون الربط ذاتيّا لها وعين حقيقتها ولا ينفكّ عنها أبدا.

وبهذا ظهر الفارق الجوهري والحقيقي بين الأسماء والحروف ، فالأسماء تدلّ على معان استقلاليّة بينما الحروف تدلّ على معان رابطيّة ، فالموضوع له والمستعمل فيه الحرف يختلف بذاته وجوهره وحقيقته عن الاسم ، خلافا لصاحب ( الكفاية ).

وحتّى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط المدلول عليهما بكلمتي النسبة والربط ليسا من المعاني الحرفيّة ، بل من المعاني الاسميّة ، لإمكان تصوّرهما بدون أطراف.

مفهوم النسبة والربط مفهومان ذهنيّان مدلولان لكلمتي النسبة والربط ، وليسا من المعاني الحرفيّة ؛ لأنّنا قلنا : إنّ المعاني الحرفيّة هي المعاني الرابطة التي يكون الربط فيها ذاتيّا ، ولا يمكن انفكاكه عنها ولا يمكن أن تتصوّر مجرّدة عنه.

وهنا النسبة والربط بما هما مفهومان ذهنيّان من المعاني الاسميّة ؛ لأنّنا يمكن أن نتصوّرهما من دون الطرفين في الخارج ، بل نتصوّر النسبة والربط ونحكم عليهما في الذهن بما نشاء من أحكام ، فنقول مثلا : النسبة موجودة أو الربط ليس موجودا. وهذا يعني تصوّرهما مستقلّين عن الأطراف ، فهما ليسا من المعاني الحرفيّة وإلا لاستحال تصوّرهما من دون الطرفين.

وهذا يعني أنّهما ليسا نسبة وربطا بالحمل الشائع وإن كانا كذلك بالحمل الأوّلي.

مفهوم النسبة والربط بالحمل الشائع ليسا نسبة وربطا ، بينما النسبة والربط بالحمل الأوّلي نسبة وربط.

وتوضيح ذلك : أنّ الحمل الشائع هو المصداق الخارجي للشيء ، أي ملاحظة الشيء بما هو مقيّد بالوجود الخارجي ، وهنا مفهوم النسبة ومفهوم الربط بما هما مفهومان ذهنيّان قلنا : إنّه يمكن تصوّرهما مستقلّين عن الطرفين. وهذا يعني أنّهما ليسا مصداقين للنسبة والربط ؛ لأنّ النسبة والربط بالحمل الشائع ، أي بقيد الوجود الخارجي

ص: 296

يستحيل انفكاكهما عن الطرفين ، إذ لا يمكن وجود نسبة وربط في الخارج إلا ضمن الطرفين ، فهما ليسا مصداقين للنسبة والربط بالحمل الشائع ؛ لأنّهما يتصوّران بدون طرفين.

وأمّا الحمل الأوّلي وهو حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات فالنسبة نسبة والربط ربط ، أي أنّ مفهوم النسبة نسبة بالحمل الأوّلي ومفهوم الربط ربط بالحمل الأوّلي ، أي من باب حمل الشيء على نفسه ، فإنّ الشيء مصداق أوّلي لنفسه فيحمل عليه ، كما يقال : الإنسان إنسان بالحمل الأوّلي ، ويقال : زيد إنسان بالحمل الشائع.

وقد مرّ عليك في المنطق أنّ الشيء يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع كالجزئي ، فإنّه جزئي بالحمل الأوّلي ولكنّه كلّي بالحمل الشائع.

وهذا نظير ما تقدّم في المنطق من أنّ الشيء يحمل على نفسه بالحمل الأوّلي ؛ لأنّه يصدق على نفسه ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع ، أي قد لا يكون مصداقا خارجيّا لنفسه ، فمثلا الجزئي وهو ما لا ينطبق على كثيرين أو ما يمتنع انطباقه على كثيرين ، فيمكن أن يقال : الجزئي جزئي بالحمل الأوّلي ، أي أنّ الجزئي كمفهوم يصدق على نفسه أوّلا وبالذات ؛ لأنّ الشيء يحمل حملا أوّليا على نفسه كالإنسان إنسان.

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ الجزئي جزئي بالحمل الشائع ؛ لأنّ مفهوم الجزئي وهو عنوان ما يمتنع صدقه على كثيرين ليس مصداقا حقيقيّا للجزئي الموجود في الخارج ؛ لأنّ الجزئي الموجود في الخارج جزئي حقيقي يمتنع صدقه على كثيرين. بينما مفهوم الجزئي في الذهن ليس جزئيّا ، بل كلّيّا ؛ لأنّه يصدق على كثيرين بما هو مفهوم.

فالجزئي كلّي بالحمل الشائع أي مصداق من مصاديق الكلّي ؛ لأنّ الجزئي كمفهوم ذهني لديه مصاديق عديدة ينطبق عليها ، فزيد جزئي وعمرو جزئي وهكذا.

وأمّا بالنسبة لمفهوم الكلّي فهو يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ويصدق على نفسه أيضا بالحمل الشائع ؛ لأنّ الكلّي كلّي بالحمل الأوّلي أي من باب حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات. والكلّي كلّي بالحمل الشائع ؛ لأنّ الكلّي مصداق حقيقي في الخارج للكلّي كالإنسان ، فإنّه مفهوم كلّي وله مصاديق عديدة أيضا.

ص: 297

وهذا البيان كما يبطل الاتّجاه الأوّل يبرهن على صحّة الاتّجاه الثاني إجمالا ، وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتّجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :

فهذا البرهان يبرهن على عدم صحّة ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء عارض وطارئ وليس جوهريّا ؛ لأنّنا أثبتنا أنّ التغاير ذاتي بينهما. وهذا يعني أنّ الاتّجاه الثاني الذي ذهب إليه المشهور هو الصحيح ولكن بالجملة. والمقصود من قيد ( بالجملة ) أنّ التغاير الذاتي الذي ذكره المشهور صحيح ، إلا أنّ بيان هذا التغاير الذاتي وما هي حقيقة الحروف واختلافها جوهريّا عن الأسماء؟ فقد ذكر المشهور عدّة بيانات لذلك كلّها غير صحيحة (1).

والصحيح يحتاج إلى بيان عدّة مراحل فنقول :

المرحلة الأولى : أنّا حين نواجه نارا في الموقد مثلا ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :

الأوّل : مفهوم بإزاء النار.

والثاني : مفهوم بإزاء الموقد.

ص: 298


1- ولا بأس بالإشارة إليها مختصرا قبل البدء في بيان الوجه الصحيح فنقول : ذهب المحقّق النّائينيّ إلى أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بينما المعاني الاسميّة إخطاريّة. وفسّر ذلك بعض مقرّري بحثه بأنّ الحرف يوجد معناه في مرحلة تقرّره ووجوده ، بينما الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود وإنّما يخطره في الذهن فقط. وذهب : المحقّق العراقي إلى أنّ المعاني الاسميّة تدلّ على الجواهر وبعض الأعراض ، بينما المعاني الحرفيّة تدلّ على الأعراض الإضافيّة التي تحتاج إلى موضوعين وطرفين ، حيث قسّم الوجود إلى جوهر وعرض ، والعرض إلى ما يحتاج إلى موضوع واحد وما يحتاج إلى موضوعين ، وأنّ العرض مع موضوعه لا بدّ من رابط بينهما ، وهذا الرابط هو المعاني الحرفيّة. وذهب السيّد الخوئي إلى أنّ المعاني الحرفيّة معان تحصّصيّة بخلاف المعاني الاسميّة ، فالمعاني الحرفيّة تحصّص المفهوم القابل للتحصيص وتضيّقه بحصّة معيّنة كقولنا : ( زيد في الدار ) فإنّه يدلّ على حصّة خاصّة من الظرفيّة لا على مفهوم الظرفيّة بما هو هو ، بخلاف المعاني الاسميّة فإنّها تدلّ على المفهوم بما هو هو من دون تحصيص ، فنقول مثلا : الظرفيّة واسعة. وذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة لوجود الرابط الخارجي ، بينما المعاني الاسميّة موضوعة لوجود الرابط الذهني. ومقصوده من ذلك : أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة للنسبة الاستهلاكيّة سواء وجدت في الذهن أو في الخارج بخلاف المعاني الاسميّة.

والثالث : مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة الخاصّة القائمة بين النار والموقد.

المرحلة الأوّل تتألّف من عدّة أمور :

الأمر الأوّل : أنّنا إذا شاهدنا حادثة تكوينيّة معيّنة كالنار الموجودة في الموقد في الخارج فيمكننا أن نحلّل هذه الواقعة إلى عدّة صور ومفاهيم ترتسم في الذهن من خلال مواجهتنا لها رغم أنّه في الخارج يوجد ارتباط واتّحاد بين هذه المفاهيم والصور ، ممّا يعني أنّه يوجد مفهوم واحد وصورة واحدة إلا أنّها بالتحليل الذهني تنتج عدّة صور ومفاهيم ، وهي :

1 - مفهوم بإزاء النار الموجودة في الخارج ، أي صورة ذهنيّة للنار الخارجيّة مجرّدة عن الوجود الخارجي وقيوده وخصوصيّاته.

2 - مفهوم بإزاء الموقد الموجود فعلا في الخارج ، وهي الصورة الذهنيّة للموقد لا الموقد نفسه.

3 - مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة القائمة بين النار والموقد ، وهي الصورة الذهنيّة الناشئة من كون النار في الموقد ، وهي تنشأ من خلال ارتباط هذين المفهومين معا واتّحادهما في محلّ واحد. بمعنى أنّ الموقد كان ظرفا ووعاء لحلول النار فيه ، فهناك نسبة ارتباطيّة بين النار والموقد ، وعلاقة خاصّة حدثت وهي الظرفيّة.

غير أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيّين ، وليس الغرض إيجاد خصائص حقيقة النار في الذهن.

الأمر الثاني : أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن هو التمكّن بواسطتهما من الحكم على النار والموقد الموجودين في الخارج ؛ لأنّ الحاكم عند ما يريد أن يحكم على الخارج يأتي بالصورة الذهنيّة التي تكون حاكية عن الخارج ، وبتوسّط هذه الصورة يتمّ الحكم على الخارج ؛ لأنّ الحكم من شئون الذهن وهو لا يتعلّق إلا بالصورة الذهنيّة لا الخارج مباشرة ؛ لأنّه لا سنخيّة بين الحكم وموضوعه عندئذ.

فلكي تتحقّق السنخيّة بين الحكم وموضوعه يجب أن يكون الموضوع ذهنيّا وليس هو إلا الصورة الذهنيّة للخارج لا الخارج نفسه ، وليس الغرض من إحضار مفهوم النار

ص: 299

والموقد إحضار الخصائص والصفات التي تتقيّد بها النار والموقد في الخارج ، إذ يستحيل الإتيان بهذه الخصائص في الذهن.

وواضح أنّه يكفي لتوفير الغرض الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن نارا بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي لما تقدّم (1) منّا سابقا في البحث عن القضايا الحقيقيّة والخارجيّة من كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج.

إذا الغرض المذكور من إحضار مفهومي النار والموقد إلى الذهن ، وهو إصدار الحكم على الخارج بتوسّطهما ، وهذا يكفي فيه أن يكون الحاضر في الذهن صورة ذهنيّة للنار لا النار نفسها ، أي النار بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري مجرّدة عن الوجود الخارجي وخصوصيّاته لا النار بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ لأنّها مخالفة للصورة الذهنيّة وغير مطابقة لها بينما تلك عينها ومطابقة لها.

كما تقدّم سابقا حيث ذكرنا في البحث عن القضايا الحقيقيّة والخارجيّة أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج أن يكون الحاضر في الذهن هو المفهوم بالحمل الأوّلي لا الحمل الشائع.

وأمّا الغرض من إحضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة الخارجيّة والربط المخصوص بين النار والموقد فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط ؛ لكي يحصل الارتباط حقيقة بين المفاهيم في الذهن.

الأمر الثالث : أنّ الغرض من إحضار المفهوم الثالث وهو النسبة والعلاقة الخاصّة بين النار والموقد الخارجيّين هو أن يكون هناك نسبة حقيقيّة في الذهن وربطا حقيقيّا كذلك ؛ وذلك لأنّ المفاهيم الذهنيّة الموجودة في الذهن لا يحصل الارتباط بينها إلا إذا كان هناك نسبة وربط حقيقي.

فمفهوم النار والموقد الذهنيّين لا يمكن أن يكونا مرتبطين في الذهن إلا إذا كان هناك معنى رابط في الذهن ، وهو عين النسبة والربط. فكان الغرض من إحضار مفهوم النسبة والربط في الذهن الحصول على الربط الحقيقي بين هذين المفهومين الذهنيّين.

فكما أنّ الطرفين في الخارج يحتاجان إلى نسبة وربط فكذلك الطرفان الموجودان في الذهن يحتاجان إلى مفهوم رابط.

ص: 300


1- ضمن بحث الحكم الشرعي وتقسيماته من بحوث التمهيد.

ولا يكفي أن يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي - أي مفهوم النسبة - وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، إذ لا يتمّ حينئذ ربط بين المفاهيم ذهنا.

الأمر الرابع : أنّ إحضار مفهوم الربط والنسبة كان الغرض منه إحضار حقيقة الربط والنسبة في الذهن ؛ لكي يحصل الارتباط بين المفاهيم الذهنيّة. وهذا المفهوم لا يكفي فيه أن يكون نسبة بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري ؛ لأنّ النسبة بهذا المعنى إنّما هي مفهوم النسبة والذي هو معنى استقلالي يمكن تصوّره مجرّدا عن حقيقة الطرفين والربط المخصوص.

وهذا يعني أنّ مفهوم النسبة الحاضرة في الذهن كان صورة ذهنيّة تحكي عن النسبة الخارجيّة الواقعيّة الحقيقيّة القائمة بين الطرفين ، وهذه النسبة لا يمكن أن تربط بين شيئين ؛ لأنّها ليست نسبة حقيقيّة وإنّما هي صورة ذهنيّة للنسبة فقط.

ولذلك فلا بدّ أن يكون هذا المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، أي نسبة حقيقيّة متقوّمة بالربط بين الطرفين بحيث يستحيل سلب الربط عنها.

وهذا يعني أنّها نسبة بالمعنى الحرفي ، أي أنّ حقيقتها وجوهرها الربط والطرفان ، وعندئذ تكون هذه النسبة الحقيقيّة الحاضرة في الذهن رابطة بين المفاهيم الذهنيّة ؛ لأنّها لا تتصوّر من دون الربط الحقيقي والطرفين فتصوّرها في الذهن وإحضارها فيه يعني وجود نسبة حقيقيّة في الذهنيّة متقوّمة بالطرفين ، أي مفهومي النار والموقد الذهنيّين.

وبذلك يتّضح أوّل فرق أساسي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وهو أنّ الأوّل سنخ مفهوم يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصوّري. والثاني سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

الأمر الخامس : وهو أنّ الفارق الأساسي الأوّل بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة هو أنّ المعاني الاسميّة الغرض من إحضار مفهومها في الذهن هو الحكم بواسطته على الخارج ، وهذا يكفي فيه أن يكون الحاضر في الذهن مطابقا للخارج وعينه بالحمل

ص: 301

الأوّلي والنظر التصوّري ، أي أن يكون الشيء مجرّدا عن خصائص الوجود وقيوده ، بحيث يكون ما في الذهن وهو الصورة الذهنيّة حاكية عن الخارج بعد تجريده عن خصائص الوجود الخارجي. وهذا يتمّ بتصوّره بالحمل الأوّلي ، فيكون المفهوم الحاضر في الذهن مطابقا للصورة الذهنيّة أيضا ؛ لأنّ الحاضر في الذهن هو مفهوم الشيء المجرّد بما هو هو.

وأمّا المعاني الحرفيّة فإنّ الغرض من إحضار مفهومها في الذهن أن تكون هناك مطابقة وعينيّة حقيقيّة ، بأن يكون ما في الذهن عين ما هو في الخارج ، وهذا لا يتحقّق إذا كان المفهوم متصوّرا بالحمل الأوّلي ، بل لا بدّ أن يكون عين ما في الخارج حاضرا بنفسه لا بصورته إلى الذهن.

وبتعبير آخر : أن يكون ما في الخارج مطابقا لما في الذهن ، بأن يكون حاضرا في الذهن مع كلّ خصائصه الخارجيّة. وهذا إنّما يتمّ إذا كان المفهوم مصداقا حقيقيّا للخارج بقيوده وخصائصه ، فيكون ما في الذهن حاكيا عن الخارج ؛ لأنّه عين حقيقته الخارجيّة.

والحاصل : أنّ المعاني الاسميّة إنّما تكون عين الخارج إذا جرّد من خصائصه ولوحظ بما هو هو أي بالحمل الأوّلي ، وإلا فإنّ المفهوم الذهني ليس مطابقا للخارج بالحمل الشائع ؛ لأنّه ليس مصداقا حقيقيّا له.

بينما المعاني الحرفيّة فهي تكون عين الخارج بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع معا ؛ لأنّ ما هو موجود في الذهن هو عين الخارج بقيوده وخصائصه لأنّه مصداق حقيقي له ، وليس مجرّد صورة ومفهوم يحكي عنه فقط. فإنّ الخارج عين ما في الذهن بكلّ خصائصه وقيوده.

وهذا معنى عميق لإيجاديّة المعاني الحرفيّة ، بأن يراد بإيجاديّة المعنى الحرفي كونه عين حقيقة نفسه ، لا مجرّد عنوان ومفهوم يري الحقيقة تصوّرا ويغايرها حقيقة.

وما ذكرناه من أنّ المعاني الحرفيّة الغرض من إحضار مفهومها في الذهن أن تكون عين الحقيقة الخارجيّة لا مجرّد صورة وعنوان حاك عنها ، يعتبر معنى عميقا جدّا للقول بإيجاديّة المعاني الحرفيّة بالمصطلح الأصولي المتعارفة.

ص: 302

إذ يراد من الإيجاديّة هنا أنّها نفس الخارج وحقيقته وليست عنوانا حاكيا عن الخارج تصوّرا وبالحمل الأوّلي ، ولكنّه يكون مغايرا للخارج بالحقيقة وبالحمل الشائع. فالمعاني الحرفيّة إيجاديّتها بمعنى كونها مطابقة للخارج تصوّرا وتصديقا بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع.

فالنسب والروابط الذهنيّة متقوّمة بطرفيها في الذهن أيضا ، بحيث إنّها تحضر إلى الذهن مع الطرفين ويستحيل انفكاكها وتجرّدها عن الطرفين ، وهذا يعني أنّ ما في الذهن من نسب وروابط هو عين الخارج ونفسه وليس شيئا آخر يغايره.

والأنسب أن تحمل إيجاديّة المعاني الحرفيّة التي قال بها المحقّق النائيني (1) على هذا المعنى ، لا على ما تقدّم في الحلقة السابقة (2) من أنّها بمعنى إيجاد الربط الكلامي.

ذكر المحقّق النائيني بأنّ المعاني الاسميّة معان إخطاريّة بينما المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وفسّر كلامه بأنّ الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود ومتحقّق قبله في مرحلة سابقة عن اللفظ ، وإنّما اللفظ يخطر المعنى في الذهن ويحضره فيه. بينما الحرف يوجد معناه فلا معنى للحرف قبل وجوده ، ولذلك فهو لا يخطر ولا يحضر المعنى الذي كان موجودا ، إذ لا وجود للمعنى قبله ، وإنّما الحرف يوجد المعنى بوجوده اللفظي.

والأنسب أن تحمل الإيجاديّة التي ذكرها المحقّق النائيني على ما ذكرناه من أنّ الحرف سنخ معنى يراد به أن يكون عين الحقيقة تصوّرا وتصديقا لا تصوّرا فقط.

وأمّا بناء على الإيجاديّة بمعنى الربط الكلامي بين الطرفين فلا يمكن أن يتعقّل معنى للحروف وإن وجدت في الكلام ؛ لأنّه إذا لم يكن لها معنى في مرحلة سابقة عن الكلام فكيف استعمل لفظ لا معنى له وبعد استعماله صار له معنى؟! ولما ذا لا يتمّ ذلك في كلّ الألفاظ التي لا معنى لها في مرتبة سابقة؟

إذ من الواضح أنّه لا يصحّ استعمال لفظ لا معنى له في الكلام ؛ لأنّ الغاية من وضع الألفاظ واستعمالها كونها حاكية عن المعاني الموضوعة لها ، إذ لا يتكلّم إنسان

ص: 303


1- فوائد الأصول 1 : 37.
2- ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

بالألفاظ جزافا وإنّما يعبّر بالألفاظ عمّا يجول في خاطره من معان كما هو واضح بالبداهة.

المرحلة الثانية : أنّ تكثّر النوع الواحد من النسبة كنسبة الظرفيّة مثلا لا يعقل إلا مع فرض تغاير الطرفين ذاتا ، كما في نسبة ( النار ) إلى ( الموقد ) ونسبة ( الكتاب ) إلى ( الرفّ ) ، أو موطنا كما في نسبة الظرفية بين ( النار ) و ( الموقد ) في الخارج وفي ذهن المتكلّم وفي ذهن السامع.

وهنا أمور :

الأمر الأوّل : ذكرنا أنّ النسبة التي هي معنى حرفي متقوّم بالطرفين يستحيل انفكاكها عنهما. وعليه ، فإنّ النوع الواحد من هذه النسب المختلفة ؛ حيث إنّه توجد النسبة الظرفيّة والابتدائيّة والاستعلائيّة والالتصاقيّة ... إلى آخره إنّما يحصل فيها التكثّر والتعدّد مع فرض التغاير بين الطرفين وتعدّدهما ، فكلّما كان هناك طرفان متغايران حصل لنا كثرة في هذه النسبة.

وهذا التغاير تارة يكون بلحاظ الذات أي أن يتغيّر نفس الطرفين ويحلّ مكانهما طرفان آخران كقولنا : ( النار في الموقد ، الكتاب في الرفّ ، زيد في البيت ) ، فهنا التغاير بين الطرفين ذاتي ؛ لأنّ كلّ طرفين في الجملة يتغايران مع الطرفين في الجملة الأخرى بذاتهما ، فإنّ زيدا والبيت والموقد والنار والكتاب والرفّ جواهر ذاتيّة متغايرة.

وأخرى يكون التغاير بلحاظ الواقع وعالم الوجود والتحقّق ، أي الموطن والعالم الذي يوجد فيه الطرفان مع وحدتهما ذاتا ، أي أنّه يوجد طرفان يتعدّد ويكثّر وجودهما بلحاظ اختلاف وتغاير الموطن ، كقولنا : النار في الموقد بلحاظ عالم الواقع الخارجي ، والنار في الموقد في ذهن المتكلّم ، والنار في الموقد في ذهن المخاطب والسامع. فإنّ هذه النسبة الواحدة التي لها طرفان متّحدان ذاتا متغايرة بلحاظ الموطن والعالم. وبأحد هذين الأمرين يحصل لنا التكثّر والتعدّد بالنسب.

وكلّما تكثّرت النسبة على أحد هذين النحوين استحال انتزاع جامع ذاتي حقيقي بينهما ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

الأمر الثاني : هو أنّه يستحيل أن يكون هناك جامع حقيقي بين النسب المختلفة والمتكثّرة بالأنواع ، بل حتى النوع الواحد من النسب يستحيل انتزاع جامع ذاتي بين

ص: 304

أفراده ومصاديقه ، كنسبه الظرفيّة مثلا فإنّه يستحيل أن تكون جامعا ذاتيّا بين النسب الظرفيّة المتكثّرة ذاتا أو موطنا ؛ وذلك لأنّه يشترط في الجامع الذاتي عدّة أمور كلّها ليست متوفّرة بلحاظ النسب ، وتوضيح ذلك :

أوّلا : أنّ الجامع الذاتي الحقيقي ما تحفظ فيه المقوّمات الذاتيّة للأفراد ، خلافا للجامع العرضي الذي لا يستبطن تلك المقوّمات. ومثال الأوّل : الإنسان بالنسبة إلى زيد وخالد. ومثال الثاني : الأبيض بالنسبة إليهما.

الجامع الذاتي الماهوي الحقيقي عبارة عن الكلّي الذي يحفظ المقوّمات الذاتيّة للأفراد من جنس وفصل ؛ لأنّ فرضه ذاتيّا يعني ملاحظة الذاتيّات التي تتألّف منها الماهيّة بعد تجريدها عن الخصوصيّات والقيود الزائدة عنها والتي تعرض عليها ، سواء العرض الخاصّ أو العرض العامّ.

مثاله مفهوم الإنسان الذي يكون جامعا حقيقيّا ذاتيّا لأفراده الخارجيّة كزيد وعمرو وخالد بعد تجريدها عن العوارض والصفات التي تتميّز بها وتشخّصها عن غيرها ، فإنّ الإنسان يحتوي على الجنس والفصل الموجودين في هذه الأفراد وهما الحيوان والناطق ، فكلّ واحد من هذه الأفراد قد حفظ فيه المقوّمات الذاتيّة داخل هذا الجامع الذاتي الحقيقي.

وأمّا الجامع العرضي فهو لا يحافظ على المقوّمات الذاتيّة للأفراد ، وإنّما يلاحظ فيه جهة مشتركة بين الأفراد أو الأنواع وهذه الجهة المشتركة ليست دخيلة في التركيب الذاتي لهذه الأفراد وإنّما هي جهة وصفة عارضة عليها ، مثاله مفهوم الأبيض الذي يكون جامعا بالنسبة لزيد وخالد أو لهما وللثلج والحليب مثلا ، فإنّه لا يستبطن المقوّمات الذاتيّة لهذه الأفراد ولذلك فهو ليس جامعا ذاتيّا وحقيقيّا ، وإنّما يحتوي هذا الجامع على صفة مشتركة بينها لاحظها العقل وانتزعها من الأفراد وفرضها جامعا عرضيّا انتزاعيّا.

ثانيا : أنّ انتزاع الجامع يكون بحفظ جهة مشتركة بين الأفراد مع إلغاء ما به الامتياز.

إنّ انتزاع الجامع الحقيقي من بين الأفراد أو الأنواع بملاحظة الجهة الذاتيّة المشتركة بين الأفراد أو الأنواع جميعا يكون بإلغاء كلّ الخصوصيّات والمشخّصات الأخرى

ص: 305

التي يمتاز بها هذا الفرد عن ذاك أو ذاك النوع عن الآخر. فمثلا : انتزاع مفهوم الإنسان من زيد وعمرو وخالد يكون بالحفاظ على الجهة الذاتيّة التي يشترك فيها الجميع ، وهي الحيوان الناطق مع إلغاء وتجريد كلّ فرد من خصوصيّاته ومميّزاته الشخصيّة التي تكون عارضة عليه وليس دخيلة في تركيبه الماهوي.

وكذلك انتزاع مفهوم الحيوان من الإنسان والفرس والأسد يكون بالحفاظ على الجهة المشتركة في الجميع ، وهي الحيوان مع إلغاء الفصول والعوارض والخصوصيّات التي تتنوّع بها هذه الأفراد.

ونفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على الجامع الانتزاعي العرضي الذي يلاحظ فيه جهة مشتركة أيضا بين الأفراد أو الأنواع المتكثّرة والمختلفة والمتميّزة ، كانتزاع الأبيض من زيد وعمرو والثلج والورق والحليب ، مع إلغاء كلّ الخصوصيّات والذاتيّات التي يمتاز بها هذا عن ذاك. وعليه فيكون الجامع العرضي يلاحظ فيه الجهة المشتركة العرضيّة.

ثالثا : أنّ ما به امتياز النسب الظرفيّة المذكورة بعضها على بعض إنّما هو أطرافها ، وكلّ نسبة متقوّمة ذاتا بطرفيها ، وإلا لم تكن نسبة وربطا في هذه المرتبة.

وعلى أساس ما تقدّم - من أنّه لا بدّ من ملاحظة الجهة المشتركة وإلغاء ما به الامتياز - نقول :

إنّ المعاني الحرفيّة كالنسبة الظرفيّة مثلا التي لها أفراد متعدّدة ومتكثّرة ذاتا أو موطنا كقولنا : زيد في الدار ، وزيد في المدرسة ، وزيد في الدار كصورة في ذهن المتكلّم أو ذهن السامع أو في الخارج. فهذه النسب المتكثّرة والمتنوّعة نجد أنّ ما به امتياز كلّ نسبة فيها عن الأخرى إنّما هو طرفاها ، فهذه النسبة تختلف عن تلك تبعا لاختلاف الطرفين إمّا ذاتا وإمّا موطنا.

ونجد أيضا أنّ ما به الامتياز في كلّ نسبة وهو الطرفان دخيلا في حقيقة النسبة ، بمعنى أنّه ذاتي لها ومقوّم لها ، إذ تقدّم سابقا أنّ النسبة والربط متقوّمة بالطرفين فهي عين الطرفين وهما حقيقة النسبة والربط.

ولذلك يستحيل تصوّر النسبة أو الربط مجرّدة عن الطرفين ؛ لأنّ الطرفين في مرتبة النسبة ذاتها أي هما عين حقيقتها وماهيّتها ، وما كان عين حقيقة الشيء وفي مرتبة

ص: 306

ذاته لا يمكن تعقّل الشيء مستقلاّ أو مجرّدا عنه ، ولذلك فلا يمكن تعقّل النسبة والربط مستقلاّ عن الطرفين.

ولو فرض أنّه أمكن تصوّر النسبة والربط بمعزل عن الطرفين فهذا معناه أنّ الطرفين ليسا مقوّمين وذاتيّين للنسبة وليسا عين حقيقة النسبة وليسا في مرتبة النسبة ذاتها ، ولذلك فما يكون متعقّلا ليس النسبة أو الربط وإنّما مفهوم النسبة والربط.

وقد ذكرنا سابقا أنّ مفهوم النسبة والربط معنى اسمي ؛ لأنّه يتعقّل مستقلاّ عن الطرفين ، بينما النسبة والربط الحقيقيّين فهما عين الطرفين ولا يمكن فصلهما عن بعضهما أصلا ولو تصوّرا.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ انتزاع الجامع بين النسب الظرفيّة مثلا يتوقّف على إلغاء ما به الامتياز ، وهو هنا الطرفان لكلّ نسبة. ولمّا كان طرفا كلّ نسبة مقوّمين لها فما يحفظ من حيثيّة بعد إلغاء الأطراف لا تتضمّن المقوّمات الذاتيّة لتلك النسبة ، فلا تكون جامعا ذاتيّا حقيقيّا.

الأمر الثالث : أنّ انتزاع الجامع الذاتي بين النسب الظرفيّة مثلا يتوقّف كما ذكرنا على الحفاظ على ما به الاشتراك المقوّم لكلّ هذه الأفراد من النسب ، بحيث تكون كلّها مشتركة في جهة ذاتية واحدة ، وعلى إلغاء ما به الامتياز والذي على أساسه يحصل التغاير والاختلاف والتكثّر بين أفراد النسب.

ونحن عرفنا سابقا أنّ ما به الامتياز في كلّ نسبة هو الطرفان ؛ لأنّ كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ، فالطرفان وتكثّرهما ذاتا أو موطنا يسبّبان الاختلاف والتغاير والامتياز. فإذا أردنا أن نلغي ما به الامتياز أي الطرفين لم يبق شيء من النسبة ؛ لما تقدّم من أن كلّ نسبة متقوّمة بالطرفين ، بحيث إذا سلب عنها الطرفان لا يمكن تصوّرها أو تعقّلها ؛ لأنّ ذلك بمثابة سلب الشيء عن حقيقته وذاته.

وهذا معناه أنّه لا يوجد جهة اشتراك بين النسب أصلا أو بين أفراد النسبة الواحدة. فالمقوّمات الذاتيّة لا يمكن الحفاظ عليها عند إلغاء ما به الامتياز ؛ لأنّ ما به الامتياز هو نفس المقوّمات الذاتيّة للنسبة ، فإذا ألغي وجرّدت النسبة عنه ألغيت أيضا الجهة المشتركة الذاتيّة المقوّمة.

وحينئذ يستحيل وجود جامع ذاتي حقيقي ؛ لأنّه لا يوجد جهة مشتركة ليتمكّن

ص: 307

الجامع أن يحافظ عليها بعد إلغاء ما به الامتياز من النسب أي الطرفين ، إذ بعد إلغاء الطرفين لا يكون هناك نسبة ، وإنّما مفهوم واسم للنسبة فقط لا النسبة الحقيقيّة.

وهذا برهان على التغاير الماهوي الذاتي بين أفراد النسب الظرفيّة ، وإن كان بينها جامع عرضي اسمي وهو نفس مفهوم النسب الظرفيّة.

الأمر الرابع : أنّ النسب المتعدّدة أنواعا وأفرادا كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة الاستعلائيّة ، بل وأفراد النسبة الظرفيّة أيضا التي هي نوع واحد تحته أفراد ومصاديق متعدّدة ومتكثّرة ، كلّ هذه النسب متغايرة فيما بينها تغايرا ماهويّا ذاتيّا.

فكلّ نسبة وكلّ فرد من أفراد النسبة يختلف ويباين ويغاير الفرد الآخر من النسبة حتّى وإن كان متّحدا معه في النوع.

وهذا التغاير ذاتي وماهوي بمعنى أنّ ذات وماهيّة هذه النسبة تختلف وتباين ذات وماهيّة النسبة الأخرى ، لما عرفنا من أنّ كلّ نسبة تمتاز وتتقوّم بالطرفين. فما دامت النسبة بين الطرفين فهي مباينة للنسبة الأخرى لوجودها بين طرفين آخرين ، وكلّ طرفين مباينان ومغايران للطرفين في النسب الأخرى.

وبهذا ظهر أنّه يستحيل وجود جامع ذاتي ماهوي لعدم وجود مفهوم كلّي تحفظ فيه المقوّمات الذاتيّة للنسب المتعدّدة. نعم ، يمكن أن يكون هناك جامع عنواني اسمي وليس عرضيّا ، وهو نفس مفهوم النسبة الظرفيّة ، فإنّ هذا المفهوم كاسم ينطبق على كلّ النسب الظرفيّة يكون جامعا عنوانيّا اسميّا. وفرقه عن الجامع العرضي أنّ الجامع العرضي فيه جهة اشتراك بين النسب ، ولكنّها ليست ذاتيّة. وهنا لا توجد جهة اشتراك أصلا لا ذاتيّة ولا عرضيّة ، وإنّما هناك مفهوم لفظي اسمي ينطبق على الجميع.

المرحلة الثالثة : وعلى ضوء ما تقدّم أثبت المحقّقون أنّ الحروف موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ (1) ؛ لأنّ المفروض عدم تعقّل جامع ذاتي بين النسب ليوضع الحرف له ، فلا بدّ من وضع الحرف لكلّ نسبة بالخصوص ، وهذا إنّما يتأتّى باستحضار جامع عنواني عرضي مشير ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

ص: 308


1- كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 1 : 55 - 56 ، والسيّد الخوئي في المحاضرات 1 : 82 ، وغيرهما إلا أنّ اعتماد هؤلاء في هذه النظريّة على مثل هذا التفصيل الذي سبق في المتن غير واضح.

ذهب المحقّقون من الأصوليّين الى أنّ الحروف الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ كما هو الصحيح ؛ وذلك لأنّه لا يوجد جامع ذاتي حقيقي بين النسب المختلفة ، بل بين أفراد النسبة الواحدة ، ولذلك لا يوجد مفهوم كلّي ليوضع له اللفظ.

وإنّما هناك نسب متعدّدة ومتكثّرة وكلّ نسبة منها متقوّمة بطرفيها ، ولذلك يكون الوضع لكلّ نسبة نسبة على حدة بخصوصها.

ولكن حيث أمكن انتزاع جامع عرضي عنواني يكون مشيرا إلى أفراد النسبة الواحدة - كأفراد النسبة الظرفيّة مثلا المتعدّدة والمتكثّرة - كان الوضع بإزاء هذا المفهوم الانتزاعي العرضي المشير إلى الأفراد. فكان الوضع عامّا بملاحظة هذا الجامع العنواني العرضي والموضوع له خاصّ ؛ لأنّ الموضوع له هو كلّ نسبة بخصوصها ، إذ لا يوجد جامع حقيقي بين النسب المختلفة ليوضع له ويكون موضوعا.

وعليه ، فما قيل : من أنّ الوضع عامّ والموضوع له عامّ غير صحيح ؛ لأنّه متوقّف على الجامع الحقيقي وهو غير معقول في النسب كما تقدّم.

وليس المراد بالخاصّ الجزئي بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّ النسبة كثيرا ما تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلّيّة طرفيها ، بل كون الحرف موضوعا لكلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ، فجزئيّة المعنى الحرفي جزئيّة بلحاظ الطرفين لا بلحاظ الانطباق على الخارج.

إشكال ودفعه :

الإشكال : هو أنّ الموضوع له إذا كان خاصّا فهو جزئي بمعنى ما لا ينطبق على كثيرين ، فوضع كلمة ( في ) للظرفيّة معناه أنّ الظرفيّة المتقوّمة بالطرفين خارجا وضع لها كلمة ( في ) ، فيلزم كون الوضع خاصّا أيضا بمعنى ما لا ينطبق على كثيرين. وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ كلمة ( في ) موضوعة للنسبة الظرفيّة التي هي مفهوم كلّي عرضي فيلزم كون الموضوع له عامّا أيضا.

والحاصل إمّا أن يكون الوضع خاصّا والموضوع له خاصّا أو يكون الوضع عامّا والموضوع له عامّا أيضا ، ولا معنى للوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

والجواب : أنّ الخاصّ الموضوع له اللفظ العامّ ليس المراد فيه الجزئي الحقيقي الذي لا ينطبق على كثيرين ؛ لأنّه من الواضح أنّ النسبة الظرفيّة مثلا وغيرها من النسب

ص: 309

تقبل الانطباق على كثيرين ؛ لأنّ الطرفين كلّيّان فتكون النسبة كلّيّة بتبع كلّيّة الطرفين.

وإنّما المراد من الخاصّ هنا هو كون الحرف موضوعا لكلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ، فالموضوع له خاصّ ؛ لأنّ النسبة متقوّمة بالطرفين ومتخصّصة بهما. وهذا يعني أنّ المعنى الحرفي يطلق عليه عنوان الجزئي تبعا للطرفين المتقوّم بهما والذي لا ينفكّ عنهما. وأمّا الطرفان أنفسهما فهما كلّيّان لأنّهما ينطبقان على كثيرين في الخارج.

ولذلك يكون المراد من الخاصّ هو المفهوم الأخصّ من مفهوم آخر والذي يكون بذاته كلّيّا ، كالجزئي الإضافي فإنّه كلّي في نفسه ، ولكنّه إذا أضيف إلى مفهوم أوسع منه كان جزئيّا بالإضافة إليه ، كالإنسان المضاف إلى الحيوان فهو جزئي إضافي ولكنّه في نفسه كلّي.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الموضوع له وإن كان خاصّا تبعا لكون النسبة مخصوصة بطرفيها ، إلا أنّه عامّ ؛ لأنّ الطرفين ينطبقان على كثيرين في الخارج. فكان الخاصّ هنا بمعنى الأخصّ ، أي المفهوم الكلّي الأضيق دائرة من الوضع ، حيث إنّ الوضع كان إزاء الجامع العرضي الانتزاعي المشير إلى النسب المختلفة المتكثّرة ، ولكن الموضوع له كان كلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين.

ص: 310

هيئات الجمل

ص: 311

ص: 312

هيئات الجمل

كما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على أنحائها كذلك هيئات الجمل ، غير أنّ الجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة ، وهيئة الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

الجملة وهي الهيئة التركيبيّة ونحوها من تراكيب لغويّة من فعل وفاعل أو من مبتدأ وخبر تشتمل على مادّة وعلى هيئة كصيغة ( افعل ) و ( لا تفعل ) ، فإنّ المادّة التي تتكوّن منها الجملة مفهوم اسمي ؛ لأنّ المادّة هي المصدر وهو المفهوم القابل لأن يتصوّر عقلا ، مستقلاّ من الجملة من قبيل ( الضرب ) في قولنا : ( ضرب زيد ). نعم المادّة في الخارج مرتبطة دائما بالطرفين ، إذ يستحيل تحقّق المادّة من دونهما في الخارج.

وأمّا الهيئة وهي الصيغة التي ركّبت منها المادّة كهيئة : ( فعل ) أو ( افعل ) أو ( لا تفعل ) فهي معنى حرفي ؛ لأنّها لا تتصوّر إلا في طرفين هما المادّة أو المسند والمسند إليه ، أو الشرط والجزاء ، أو الفاعل أو المفعول. وهذا يعني أنّ الهيئة موضوعة للنسبة وللربط الحقيقتين ، أي بالحمل الشائع ، فحقيقتها الربط كما تقدّم في الحروف.

فكما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على اختلاف أنحائها كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة والاستعلائيّة وغيرها كذلك هيئات الجمل موضوعة للنسبة على مختلف أنحائها.

وحيث إنّه يوجد في اللغة نحوان من الجمل هما الجملة الناقصة والجملة التامّة فيكون هناك أيضا نحوان من النسب. فالجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة لا يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

وخالف في ذلك السيّد الأستاذ ؛ إذ ذهب إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة

ص: 313

لما هو مدلول الدلالة التصديقيّة الأولى ، أي لقصد إخطار المعني. وأنّ هيئة الجملة التامّة موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهو قصد الحكاية في الجملة الخبريّة أو الطلب ، وجعل الحكم في الجملة الانشائيّة ، وهكذا (1).

ذهب السيّد الخوئي رحمه اللّه إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لغة للمدلول في الدلالة التصديقيّة الأولى والتي هي إخطار الحصّة الخاصّة من المعنى في ذهن السامع. فالمتكلّم يقصد من هذه الجملة الناقصة أن يخطر في ذهن السامع الحصّة الخاصّة من المفهوم ، فقوله ( زيد العالم ) أو ( علم زيد ) الغرض منه بهذا التركيب الناقص أن يخطر هذه الحصّة الخاصّة من زيد أي علمه فقط ؛ تمهيدا للحكم عليه أو للإخبار عنه.

بينما هيئة الجملة التامّة موضوعة لغة للمدلول في الدلالة التصديقيّة الثانية ، أي لأجل الحكاية أو الطلب. فقولنا : ( زيد عالم ) أو ( ضرب زيد ) الغرض منه هو الحكاية والإخبار ، فالمتكلّم قصد من هذه الهيئة إخطار ذات المعنى والمفهوم في ذهن السامع لأجل الإخبار والحكاية عنه ، وقوله : ( اضرب زيدا ) أو ( لا تسرق ) الغرض هو الطلب وجعل الحكم كالوجوب أو الحرمة.

وهذا يعني أنّ الهيئة في الجملتين الناقصة والتامّة ليست موضوعة للنسبة ، وإنّما هي موضوعة للقصد ، ولكنّه قصد الإخطار في الجملة الناقصة تمهيدا للغرض عند المتكلّم ، بينما في الجملة التامّة يكون هذا القصد نفس الحكاية والإخبار والطلب وجعل الحكم. وعليه فلا يعقل أن يكون الفرق بين الجملتين في كون النسبة في إحداهما ناقصة وفي الأخرى تامّة ؛ لأنّ النسبة لا تقبل الزيادة والنقصان أو القلّة والكثرة ، بل هي إمّا أن توجد أو لا توجد.

وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهّد الذي يقتضي أن تكون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة ، والمدلول الوضعي تصديقيّا كما تقدّم (2).

ص: 314


1- أقرب ما وجدناه إلى هذا البيان في كلمات السيّد الخوئي ما جاء في هامش أجود التقريرات 1 : 24 كما جاءت الإشارة إليه في هامش الصفحة 31 من نفس المصدر.
2- في الحلقة الثانية ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة.

وما ذهب إليه السيّد الخوئي مبني على مسلك التعهّد الذي قال به بالنسبة للوضع ، حيث إنّه فسّر الوضع بالتعهّد. فالمتكلّم يتعهّد بأنّه لا يحضر اللفظ إلا إذا قصد إحضار المعنى ، كما تقدّم في الحلقة الثانية. والذي على أساسه سوف تكون الدلالة الوضعيّة دائما تصديقيّة ، والمدلول الوضعي تصديقي دائما.

فبناء على هذا المسلك فسّر الفرق بين الجملتين الناقصة والتامّة ، حيث قال بأنّ الجملة الناقصة موضوعة للتحصيص. فالمتكلّم يخطر الحصّة الخاصّة من المفهوم في ذهن السامع تمهيدا للحكم أو الإخبار أو الطلب ، بينما الجملة التامّة موضوعة للتحصيص لنفس الإخبار والحكاية والطلب لذات المفهوم والمعنى.

فالمدلول الوضعي هو الدلالة التصديقيّة ؛ لأنّ الوضع تعهّد ، والكاشف عن هذا التعهّد هو الدلالة التصديقيّة ؛ لأنّها تكشف عن أنّ المتكلّم أراد تفهيم السامع أمّا الحصّة أو ذات المفهوم.

والصحيح : ما عليه المشهور من أنّ المدلول الوضعي تصوّري دائما في الكلمات الإفراديّة وفي الجمل ، وأنّ الجملة حتّى التامّة لا تدلّ بالوضع إلا على النسبة دلالة تصوّريّة ، وأمّا الدلالتان التصديقيّتان فهما سياقيّتان ناشئتان من ظهور حال المتكلّم.

الصحيح : ما ذهب إليه المشهور من أنّ المدلول الوضعي تصوّري دائما وليس تصديقيا ، سواء في الكلمات الإفراديّة كالبحر وزيد وعالم أو في الجمل : ( زيد عالم ) و ( زيد العالم ) و ( اضرب زيدا ) و ( لا تضرب عمرا ).

فإنّ الوضع في الجميع هو المدلول التصوّري والذي يكون محفوظا دائما ، سواء كان هناك قصد أم لم يكن ، وسواء كان هناك قصد للحقيقة أم المجاز. وقد تقدّم في الحلقة السابقة فساد مسلك التعهّد ؛ لاستلزامه تعدّد الوضع والواضع ، ولاستلزامه إلغاء المجاز ، ولاستلزامه إلغاء الوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال.

ويضاف إلى ذلك هنا : أنّ الجملة التامّة فضلا عن الجملة الناقصة لا تدلّ وضعا إلا على النسبة تصوّرا ؛ لأنّنا لو جرّدنا الجملة التامّة عن قصد الحكاية والإخبار أو الطلب وجعل الحكم لا يعني ذلك أنّها تصير كالجملة الناقصة ، فالفرق ثابت بينهما دائما في مرحلة سابقة عن القصد والمدلول التصديقي ، وهو فارق بلحاظ الدلالة التصوّريّة. ففرق بين قولنا : ( زيد العالم ) والتي هي جملة ناقصة وبين قولنا : ( هل زيد عالم )

ص: 315

والتي هي جملة تامّة مجرّدة عن قصد الحكاية والإخبار ؛ لأنّ الاستفهام يسلب الإخبار والحكاية ، وهذا يعني أنّ المدلول الوضعي التصوّري في الجملة الناقصة يختلف عن المدلول الوضعي في الجملة التامّة ، سواء كان فيها قصد أم لا. وهذا الفارق هو أنّ النسبة في الجملة الناقصة تختلف عن النسبة في الجملة التامّة ، فالدلالة الوضعيّة التصوّريّة في الجملتين مختلفتان ، وهذا الاختلاف هو أنّ الجملة الناقصة موضعة لنسبة ناقصة لم تتمّ ولذلك لا يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

وما ذكره من كون الجملة الناقصة تدلّ على حصّة من المعنى وتخطره في الذهن ، حيث جعلها كالحروف الدالّة على التحصيص غير صحيح ؛ لأنّ نظريّة التحصيص التي ذكرها غير تامّة في كلّ الحروف على فرض التسليم بها ، فإنّ حروف العطف والإضراب لا تدلّ على الحصّة ، بل على ذات المعنى والمفهوم كقولنا : ( جاء زيد بل عمرو ) وكقولنا : ( جاء زيد وعمرو ).

وأمّا الدلالتان التصديقيّتان الأولى والثانية فهما من شئون ظهور الحال للمتكلّم وكونه في مقام البيان والتفهيم ، فإذا لم ينصب قرينة على المجاز ولم يأت بما يخالف مراده كان ذلك سببا لحدوث الدلالتين التصديقيّتين في أنّه استعمل اللفظ في المعنى الحقيقي ، وأنّه يريده جدّا ، وليستا من شئون اللفظ والدلالة الوضعيّة التصوّريّة.

ص: 316

الجملة التامّة والجملة الناقصة

ص: 317

ص: 318

الجملة التامّة والجملة الناقصة

ولا شكّ في الفرق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة في المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقي موضوعا له ميّز بينهما على أساس اختلاف المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

الجملة التامّة كقولنا : ( زيد عالم ) جملة يحسن السكوت عليها وتقبل الحكم عليها بالصدق أو الكذب من خلال مطابقتها للواقع وعدمه ، بينما الجملة الناقصة كقولنا : ( زيد العالم ) جملة لا يحسن السكوت عليها ولا تتّصف بالصدق والكذب.

ولذلك يوجد فرق بين الجملتين في المعنى الموضوع له فيهما ، فالمعنى الموضوع له في الجملة التامّة يختلف عن المعنى الموضوع له في الجملة الناقصة.

وحينئذ فإن قيل بأنّ المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له دائما كما هو مسلك السيّد الخوئي القائل بالتعهّد ، والذي يكون على أساسه المدلول الوضعي تصديقي دائما ؛ لأنّه لا يأتي باللفظ إلا عند قصد المعنى وإخطاره في ذهن السامع ، فهنا يكون التمييز بين الجملتين على أساس المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة ، بحيث يكون المعنى الموضوع له في الجملة الناقصة هو الحصّة الخاصّة من المعنى ويراد إخطارها في ذهن السامع ، بينما المعنى الموضوع له في الجملة التامّة هو ذات المعنى لأجل الحكاية والإخبار والطلب وجعل الحكم.

ونحن قد عرفنا عدم صحّة هذا المبنى فيبطل البناء عليه أيضا لأنّ الصحيح ما عليه المشهور وهو :

وأمّا بناء على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له فنحن بين أمرين :

ص: 319


1- ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : المقارنة بين الجمل التامّة والناقصة.

إمّا أن نقول : إنّه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصوّري ونحصر الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي. وإمّا أن نسلّم باختلافهما في مرحلة المدلول التصوّري.

وأمّا على مبنى المشهور الصحيح من أنّ المدلول الوضعي هو المدلول التصوّري دائما ، والمعنى الموضوع له في الجملتين التامّة والناقصة هو المدلول التصوّري لا التصديقي ؛ لأنّ المدلول التصديقي مرتبط بظهور حال المتكلّم وأنّه في مقام البيان والتفهيم لمراده الحقيقي الجدّي ، بخلاف المدلول التصوّري المرتبط بالصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ في كلّ الحالات حتّى مجازا وهزلا. وحينئذ نحن بين أمرين :

الأوّل : إمّا أن نقول بمقالة صاحب ( الكفاية ) من أنّ المعنى الموضوع له في الحروف هو نفسه المعنى الموضوع له في الأسماء ، وإنّما الاختلاف بينهما في كيفيّة اللحاظ حال الاستعمال والذي يكون قيد في العلاقة الوضعيّة لا المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه.

فحينئذ فالمدلول التصوّري في الجملتين التامّة والناقصة واحد ؛ لأنّهما يدلاّن على مفهوم واحد. وإنّما المدلول التصديقي مختلف بين الجملتين ، فينحصر الاختلاف في مرحلة الاستعمال والإرادة الجدّية دون أن يكون هناك خلاف بينهما في مرحلة المدلول التصوّري والدلالة الوضعيّة.

وهذا يتّفق مع مسلك التعهّد من حيث النتيجة ، ولكنّه يختلف عنه من حيث المبنى ، فإنّ مبنى التعهّد هو أنّ المعنى الموضوع له هو المدلول التصديقي ، بينما على مسلك الآخوند فالمعنى الموضوع له هو المدلول التصوّري دائما.

الثاني : أن نقول بوجود الاختلاف بين الجملتين ، في مرحلة المدلول التصوّري أيضا ، كما هو المشهور والصحيح ، فالمعنى الموضوع له في الجملة التامّة يختلف عنه في الجملة الناقصة.

والأوّل باطل ؛ لأنّ المدلول التصوّري إذا كان واحدا وكانت النسبة التي تدلّ عليها الجملة التامّة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة فكيف امتازت الجملة التامّة بمدلول تصديقي من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة؟! ولما ذا لا يصحّ أن يقصد الحكاية بالجملة الناقصة؟!

ص: 320

أمّا الافتراض الأوّل - وهو كون المدلول التصوّري في الجملتين واحدا وإنّما الاختلاف بينهما في المدلول التصديقي - فهو باطل ولا يمكن قبوله ؛ لأنّه لا يعطي تفسيرا معقولا لحقيقة الاختلاف بين الجملتين.

إذ من حقّنا أن نتساءل : أنّه إذا كان المدلول التصوّري في الجملتين واحدا فهذا يعني أنّ المعنى الموضوع له فيهما واحد والمدلول الوضعي هو المدلول التصوّري ، فهذا يعني أنّ الجملتين يدلاّن تصوّرا على نسبة واحدة ، فالنسبة الموضوعة لها الجملة التامّة تصورا هي نفس النسبة الموضوعة لها الجملة الناقصة. وعليه ، فكيف حصل الاختلاف بالنسبة في مرحلة المدلول التصديقي ، فكانت النسبة في الجملة التامّة من قبيل الحكاية والإخبار والطلب ، بينما كانت النسبة في الجملة الناقصة لمجرّد إخطار المعنى أو حصّة منه؟!

إذ ما دام المدلول التصوّري واحدا فمقتضى التطابق بين الدلالات الثلاث أن يكون المدلول التصديقي واحدا أيضا ، فما هو منشأ الاختلاف إذا مع عدم وجود دالّ زائد يدلّ على هذا الاختلاف؟! بل لما ذا لا يصحّ فرض العكس بأن تكون الجملة الناقصة فيها نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها ويقصد بها الإخبار والحكاية والطلب بدلا من الجملة التامّة؟!

وهذا معناه أنّ الفارق التصديقي بينهما لا يصلح تفسيرا وجوابا لهذه التساؤلات ولذلك يتعيّن التفسير الثاني.

وأمّا الثاني فهو يفترض الاختلاف في المدلول التصوّري ، ولمّا كان المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة فلا بدّ من افتراض نحوين من النسبة بهما تتحقّق التماميّة والنقصان.

وأمّا الافتراض الثاني القائل بأنّ الاختلاف بين الجملتين موجود في مرحلة المدلول التصوّري فضلا عن المدلول التصديقي فهو يصلح تفسيرا لهذا الاختلاف والإجابة عن التساؤلات المطروحة ، حيث تقدّم أنّ المدلول الوضعي إنّما هو الدلالة التصوّريّة ، ومن المعلوم أنّ هيئة الجمل من المعاني الحرفيّة وهي موضوعة للنسبة. وهذا يعني أنّ المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة ، ولمّا كان المدلول التصوّري في الجملتين مختلفا فهذا معناه وجود اختلاف في النسبة بين الجملتين.

ص: 321

فالنسبة التي هي مدلول وضعي تصوّري للجملة الناقصة تختلف عن النسبة التي هي موضوع تصوّري في الجملة التامّة. فعلى أساس اختلاف النسبة بين الجملتين حصل هناك اختلاف في المدلولين التصوّري والتصديقي ، وبناء على هذا الاختلاف أيضا كانت الجملة الناقصة تفيد مجرّد إخطار المعنى في الذهن بنحو لا يصحّ السكوت عليه ولا يكون قابلا للاتّصاف بالصدق أو الكذب ، بينما كانت الجملة التامّة مفيدة لقصد الحكاية والإخبار والطلب ولذلك يصحّ السكوت عليها وتكون قابلة للاتّصاف بالصدق والكذب.

والمنشأ لهذا الاختلاف هو وجود نحوين من النسبة مختلفين أوجبا التماميّة والنقصان ، يبقى الكلام في بيان هاتين النسبتين فنقول :

والتحقيق : أنّ التماميّة والنقصان من شئون النسبة في عالم الذهن لا في عالم الخارج. ف- ( مفيد ) و ( عالم ) تكون النسبة بينهما تامّة إذا جعلنا منهما مبتدأ وخبرا ، وناقصة إذا جعلنا منهما موصوفا ووصفا. وجعل ( مفيد ) مبتدأ تارة وموصوفا أخرى أمر ذهني لا خارجي ؛ لأنّ حاله في الخارج لا يتغيّر كما هو واضح.

والتحقيق في كيفيّة نشوء التماميّة والنقصان في عالم النسبة هو : أنّ النسبة لها نحوان من الوجود ، فهي تارة تكون موجودة في الخارج ، وأخرى تكون موجودة في الذهن.

فإن كانت النسبة موجودة في الخارج فهي لا تكون إلا ضمن طرفين ويستحيل وجودها في الخارج من دون الطرفين ، ولذلك فالنسبة إمّا أن توجد وإمّا أن لا توجد في الخارج ، فإن وجدت كانت تامّة وإن لم توجد لم يكن هناك نسبة أصلا ، ولا يعقل وجود النسبة في الخارج ناقصة.

وأمّا النسبة الموجودة في الذهن فقد تقدّم في الحروف أنّ النسبة الموجودة في الذهن تارة تكون حاضرة بما هي في الخارج أي بالحمل الشائع فتكون عين الخارج في الذهن محتاجة إلى الطرفين ويستحيل تعقّلها مجرّدة عنهما بهذا اللحاظ. وأخرى تكون حاضرة بما هي هي بالحمل الأوّلي والذي هي مفهوم النسبة والربط لا الربط الواقعي الحقيقي ، بحيث يمكن تصوّرها من دون الطرفين. وهنا كذلك فإنّ النسبة تارة

ص: 322

تتصوّر كما هي في الخارج بين الطرفين وأخرى تتصوّر من دون الطرفين فعلا. ولذلك ينشأ لدينا التماميّة والنقصان.

فمثلا قولنا : ( مفيد عالم ) المؤلّفة من مبتدأ وخبر فالنسبة بينهما تامّة في الذهن ؛ لأنّ الطرفين حاضران فعلا في صقع الذهن ، وأمّا قولنا : ( مفيد العالم ) أو ( علم المفيد ) المؤلّفة من الصفة والموصوف أو المضاف والمضاف إليه فهي نسبة ناقصة ؛ لأنّ الطرفين غير حاضرين بالفعل في الذهن ، وإنّما هناك طرف واحد في الحقيقة وهو هذه الحصّة الخاصّة من المفيد.

وهذا يعني أنّ التماميّة والنقصان يحصلان في الذهن لا في الخارج ؛ لأنّه في الخارج إمّا أن يكون المفيد عالما أو لا يكون عالما ، فالنسبة في الخارج إمّا أن تتّصف بالوجود فهي تامّة أو تتّصف بالعدم فهي غير موجودة أصلا فلا تتّصف بالنقصان.

وأمّا في عالم الذهن فالنسبة إن كانت حاضرة بطرفيها فهي تامّة ، وإن كانت حاضرة بطرف واحد فقط فهي ناقصة. فالملاك في التماميّة والنقصان هو :

وتكون النسبة في الذهن تامّة إذا جاءت إلى الذهن ووجدت بما هي نسبة فعلا ، وهذا يتطلّب أن يكون لها طرفان متغايران في الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين.

ملاك التماميّة في النسبة هو أن تكون النسبة الحاصلة في الذهن موجودة بما هي نسبة بالفعل ، أي بما هي متقوّمة وموجودة ضمن طرفيها ؛ لأنّ حقيقة النسبة وواقعها هي النسبة الحاضرة بين الطرفين. وهذا معناه أنّه يوجد في الذهن طرفان متغايران حصل الربط والانتساب بينهما ، وتكون هذه النسبة الموجودة في الذهن عين النسبة الموجودة في الخارج بالحمل الشائع. فكما أنّ النسبة الموجودة في الخارج تامّة ومتحقّقة بين الطرفين فكذلك النسبة الموجودة في الذهن تامّة ومتحقّقة ضمن الطرفين ، وهذان الطرفان موجودان في الذهن وحاضران فيه ومتغايران عن بعضهما البعض وجاءت النسبة لتربط بينهما.

وتكون النسبة ناقصة إذا كانت اندماجيّة ، تدمج أحد طرفيها بالآخر وتكوّن منهما مفهوما إفراديّا واحدا وحصّة خاصّة ، إذ لا نسبة حينئذ حقيقة في صقع الذهن الظاهر ، وإنّما هي نسبة مستترة تحليليّة.

ص: 323

وملاك النقصان في النسبة هو أن تكون النسبة الحاضرة في الذهن اندماجيّة لا حقيقيّة ، بمعنى أنّها عين الخارج بالحمل الأوّلي ولكنّها تغايره وتباينه بالحمل الشائع ؛ لأنّ النسبة في الخارج متقوّمة بالطرفين الحاضرين فعلا والمتغايرين ، بينما النسبة الاندماجيّة في الذهن ليست حاضرة ضمن طرفيها وإنّما هذه النسبة تجعل الطرفين طرفا واحدا وتكوّن منهما مفهوما إفراديّا واحدا ليقطع طرفا في الذهن ، والغرض من إحضاره كذلك هو وقوعه طرفا في نسبة أخرى جديدة فهو يحتاج إلى طرف آخر ليحقّقا نسبة جديدة.

وهذا يعني أنّ النسبة الحاضرة في الذهن غير متقوّمة بالطرفين ، إذ لا يوجد طرفان حقيقيّان متغايران ، وإنّما هناك طرف واحد نشأ من خلال اندماج الطرفين معا. ففي الحقيقة لا يوجد نسبة حقيقيّة واقعيّة ؛ لأنّها متقوّمة بالطرفين فعلا ، وهنا لا يوجد إلا طرف واحد. نعم ، هناك نسبة تحليليّة اندماجيّة ؛ وذلك لأنّنا إذا حلّلنا هذا الطرف الواحد الموجود في الذهن نجد أنّه يوجد فيه نسبة ، ولكنّها غير ظاهرة في صقع الذهن ، وإنّما هي مستترة ومستبطنة في الطرف.

فقولنا : ( مفيد العالم ) أو ( علم المفيد ) طرف واحد حاضر في الذهن ، ولكن هذا الطرف الواحد مركّب من نسبة حقيقيّة تحكي عن الخارج ، إلا أنّ هذه النسبة الحقيقيّة ليست بارزة بين الطرفين ، وإنّما هذه النسبة دمجت بين الطرفين وكوّنت منهما طرفا واحدا وحصّة واحدة ؛ لأجل وقوعها طرفا في نسبة أخرى جديدة ، فهي نسبة مستترة غير ظاهرة بين الطرفين. ويعبّر عنها بالنسبة الاندماجيّة التحليليّة المستترة المستبطنة ، وفي مقابلها النسبة الظاهرة البارزة الحقيقيّة الواقعيّة.

ومن هنا قلنا سابقا (1) : إنّ الحروف وهيئات الجمل الناقصة موضوعة لنسب اندماجيّة أي تحليليّة ، وأنّ هيئات الجمل التامة موضوعة لنسب غير اندماجيّة.

وبهذا يتّضح لنا الفرق بين الجملتين التامّة والناقصة ، فالجملة التامّة موضوعة لنسبة غير اندماجيّة ، أي أنّها نسبة واقعيّة وحقيقيّة ظاهرة وبارزة بين طرفيها في صقع الذهن ، بينما الجملة الناقصة كالحروف موضوعة لنسبة اندماجيّة ، أي نسبة تحليليّة ليست حقيقيّة ولا ظاهرة بين طرفيها.

ص: 324


1- في الحلقة الأولى ، ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة التامّة والجملة الناقصة.

ومن هنا ذكرنا في الحلقة السابقة أنّ الحروف كالجمل الناقصة موضوعة للنسب الاندماجيّة ، بينما الجمل التامّة موضوعة للنسب الواقعيّة الحقيقيّة.

وحينئذ نقول : إنّه إذا كانت النسبة اندماجيّة فهذا يعني وجود طرف واحد أحضر في الذهن لأجل أن يقع طرفا في النسبة الأخرى فهو ينتظر الطرف الآخر ، ولذلك كان السكوت على هذه النسبة الاندماجيّة غير صحيح. من هنا كانت الجملة الناقصة لا يحسن السكوت عليها ؛ لأنّ النسبة الحقيقيّة لم تتمّ ، إذ طرفها الآخر لم يتحقّق بعد.

وأمّا إذا كانت النسبة غير اندماجيّة أي واقعيّة وحقيقيّة فهي نسبة متحقّقة بطرفيها ، فالطرفان حاضران في الذهن وقد تمّ التصاق وصدق أحدهما على الآخر. وهذا يعني أنّ النسبة تامّة ، ولذلك صحّ السكوت عليها. ومن هنا كانت الجملة التامّة يصحّ السكوت عليها ويصحّ اتّصافها بالصدق أو الكذب ؛ لأنّها تحكي عن الخارج حكاية حقيقيّة إذ هي عين الخارج.

ص: 325

ص: 326

الجملة الخبريّة والإنشائيّة

ص: 327

ص: 328

الجملة الخبريّة والإنشائيّة

وتنقسم الجملة التامّة إلى خبريّة وإنشائيّة ، ولا شكّ في اختلاف إحداهما عن الأخرى حتّى مع اتّحاد لفظيهما كما في ( بعت ) الخبريّة و ( بعت ) الإنشائيّة ، فضلا عن ( أعاد ) و ( أعد ) ، وقد وجدت عدّة اتّجاهات في تفسير هذا الاختلاف :

تنقسم الجملة التامّة التي يصحّ السكوت عليها والتي قلنا : إنّها موضوعة لنسبة تامّة بالدلالة التصوّريّة إلى قسمين هما :

الجملة التامّة الخبريّة كقولنا : ( زيد قائم ) ، والجملة التامّة الإنشائيّة كقولنا : ( لا تضرب ).

ولا شكّ في اختلاف الجملتين ، فإنّ الجملة الخبريّة تفيد قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ، ولذلك تتّصف بالصدق أو الكذب. بينما الجملة الإنشائيّة تفيد طلب الوقوع أو عدمه ، أو جعل الحكم كالوجوب والحرمة على ذمّة المكلّف ، ولذلك لا تتّصف بالصدق أو الكذب.

وهذا الاختلاف بين الجملتين موجود حتى فيما إذا كانت الجملتان متّحدتين لفظا فضلا عمّا إذا كانتا مختلفتين صياغة.

فقولنا : ( بعت الكتاب بدرهم ) إخبارا عن وقوع البيع البارحة يختلف عن قولنا : ( بعت الكتاب بدرهم ) إنشاء لعقد البيع الآن ، مع أنّ اللفظ واحد والهيئة التركيبيّة واحدة ؛ تماما كالاختلاف بين قولنا : ( أعد الصلاة ) إنشاء لوجوب الإعادة وبين قولنا : ( أعاد زيد صلاته ) إخبارا عن تحقّق الإعادة منه سابقا ، فإنّ الوجدان شاهد على وجود الاختلاف والفرق بين الجملتين الإنشائيّة والإخباريّة في كلّ الموارد.

ولأجل بيان هذا الاختلاف وجدت عدّة اتّجاهات أهمّها ثلاثة :

الأوّل : ما تقدّم في الحلقة الأولى (1) عن صاحب ( الكفاية ) وغيره ، من وحدة

ص: 329


1- ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة.

الجملتين في مدلولهما التصوّري ، واختلافهما في المدلول التصديقي فقط ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

الاتّجاه الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره - كالمحقّقين العراقي والأصفهاني - من كون الجملتين الخبريّة والإنشائيّة متّحدتين في المدلول التصوّري والدلالة الوضعيّة أي النسبة ، فكلاهما موضوع للنسبة ، وإنّما يختلفان في المدلول التصديقي فقط ، فقصد الحكاية والإخبار عن الواقع في الجملة الخبريّة وقصد إبراز وطلب الوقوع في الجملة الإنشائيّة مع كون النسبة واحدة فيهما من شئون الاستعمال.

ولذلك فالإخبار والإنشاء خارجان عن المدلول الوضعي التصوّري وإنّما ينشآن من المدلول التصديقي.

والحاصل : أنّ النسبة المدلول عليها في الجملتين وضعا واحدة ولا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف في الاستعمال والقصد.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك حيث قلنا : إنّ هذا الكلام لو سلّم المبنى الذي سار عليه من وحدة المدلول التصوّري في الجملتين فهو إنّما يتمّ بلحاظ الجمل الإنشائيّة والإخباريّة التي يتّحد فيها اللفظ والصياغة ، كما في ( بعت ) التي تستعمل في الإنشاء والإخبار معا. وأمّا في الجمل التي تختلف فيها الصياغة والهيئة التركيبيّة كما في ( يعيد ) و ( أعد ) فلا يتمّ ما ذكر ؛ لعدم وحدة المدلول التصوّري الموضوع له في الجملتين. مضافا إلى ما تقدّم في النقاش السابق عن الجملتين التامّة والناقصة والنقض بموارد عدم قصد الحكاية والإخبار في الجملة الخبريّة كما إذا دخل عليها الاستفهام.

الثاني : أنّ الاختلاف بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوّري ، وذلك في كيفيّة الدلالة ، فقد يكون المدلول التصوّري واحدا ولكن كيفيّة الدلالة تختلف.

الاتّجاه الثاني : أنّ الاختلاف بين الجملتين ثابت في مرحلة المدلول التصوّري فضلا عن المدلول التصديقي ، وهذا الاختلاف إنّما هو في كيفيّة الدلالة والاستعمال ، فإنّه إذا قصد الحكاية والإخبار جاء بالجملة الخبريّة وإذا قصد الطلب والإيجاد جاء بالجملة الإنشائيّة ، فالخبريّة والإنشائيّة خارجتان عن مدلول اللفظ ، وإنّما هما ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، فإنّه تارة يكون في مقام الإخبار وأخرى يكون في مقام الإيجاد فكيفيّة الدلالة مختلفة.

ص: 330

وأمّا المدلول التصوّري فقد يكون مختلفا وقد يكون متّحدا ، ولذلك فهو ليس جوهر الاختلاف بين الجملتين.

فإذا كان اللفظ واحدا في الجملتين كما في ( بعت ) الإخبارية والإنشائيّة فالمدلول التصوّري واحد ولكن كيفيّة الدلالة مختلفة.

وإذا كان اللفظ مختلفا كما في الجملة الإنشائيّة المتمحّضة في الإنشاء كصيغة الأمر والنهي والنداء المغايرة للجمل الإخبارية من قبيل ( أعد الصلاة ) و ( أعاد زيد الصلاة ) ، فإنّ المدلول التصوّري مختلف ، ولكنّه ليس سبب الاختلاف ؛ بل كيفيّة الدلالة هي سبب الاختلاف.

فإنّ جملة ( بعت ) الإنشائيّة دلالتها على مدلولها بمعنى إيجادها له باللفظ ، وجملة ( بعت ) الإخباريّة دلالتها على مدلولها بمعنى إخطارها للمعنى وكشفها عنه. فكما ادّعي في الحروف أنّها إيجاديّة كذلك يدّعى في الجمل الإنشائيّة.

فسّر المحقّق النائيني الاختلاف في كيفيّة الدلالة في الجملتين الخبريّة والإنشائيّة كتفسيره للاختلاف بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي ، وذلك على أساس الإيجاديّة والإخطاريّة.

فجملة ( بعت الكتاب بدرهم ) لا يختلف مدلولها التصوّري الوضعي سواء استعملت للإنشاء أو استعملت للإخبار ، فهي تدلّ وضعا على إفادتها النسبة بين المبدأ والذات. إلا أنّ كيفيّة الدلالة على هذا المدلول تختلف ف- ( فبعت ) الإنشائيّة تدلّ على المدلول الوضعي بمعنى إيجادها للمدلول باللفظ ، أي أنّه يوجد شيئا لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، بينما ف- ( بعت ) الإخبارية تدلّ على مدلولها الوضعي بمعنى إخطارها له وكشفها عنه بهذا اللفظ ، أي أنّها توجب إخطار المعنى الموجود في ذهن السامع بهذا اللفظ. وأمّا متى يكون هذا الاختلاف في كيفيّة الدلالة؟

فالجواب : أنّه ينشأ من ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام الإنشاء أو في مقام الإخبار ، فالإنشائيّة والإخباريّة ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له اللفظ ، وإنّما هما من شئون الاستعمال وكيفيّة الدلالة والتي هي ظهور سياقي تابع لحال المتكلّم.

فكما أنّ الحروف تكون إيجاديّة والأسماء تكون إخطاريّة ، كذلك الجملة

ص: 331

الإنشائيّة تكون إيجاديّة بينما الجملة الخبريّة تكون إخطاريّة ، ولكن مع فارق بين هذين النحوين من الإيجاديّة والإخطاريّة وهو :

لكن مع فارق الإيجاديّتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجدا للربط الكلامي وهذه بمعنى كون ( بعت ) موجدة للتمليك بالكلام. فما هو الموجد في باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام ، وما هو الموجد في باب الإنشاء أمر اعتباري مسبّب عن الكلام.

وأمّا الفارق بين إيجاديّة الحرف لمعناه وبين إيجاديّة الجملة الإنشائيّة لمعناها فهو أنّ الإيجاديّة في الحروف تتقوّم بأربعة أمور هي :

1 - إيجاد شيء لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، وهو الربط الكلامي بين المفهومين مثل ( النار في الموقد ).

2 - أن يكون المعنى الموجد قائما بغيره أي الطرفين ، فإنّه لا وجود ولا معنى للحرف إلا مع الطرفين.

3 - ألاّ يكون لهذا المعنى الموجد تقرّر وثبوت ، فلا موطن له إلا الاستعمال فيدور وجوده وعدمه مدار بقاء الاستعمال وعدمه.

4 - أن يكون المعنى مغفولا عنه وغير ملتفت إليه حين إيجاده ، إذ لا وجود له ليلتفت إليه قبل التلفّظ بالكلام ، وبعد التلفّظ يكون فانيا في الغير فلا يمكن الالتفات إليه.

وأمّا الإيجاديّة في الجملة الإنشائيّة فهي متقوّمة بأمور :

1 - إيجاد شيء لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، وهو الأمر الاعتباري المسبّب عن الكلام ، كالتمليك أو الزوجيّة المسبّبين عن قوله : ( بعتك الكتاب بدرهم ) أو ( زوّجتك فلانة ).

2 - أن يكون المعنى الموجد وهو الأمر الاعتباري قائما بنفسه ، فالملكيّة أو الزوجيّة لها تقرّر وثبوت بنفسهما بعد الإنشاء الكلامي.

3 - أن يكون لهذا المعنى الموجد تقرّر وثبوت في عالم الاعتبار ، فلا يدور مدار الاستعمال وجودا وعدما بعد وجوده.

4 - أن يكون المعنى الموجد غير مغفول عنه ، بل ملتفت إليه بعد وجوده ؛ لأنّه موجود بنحو مستقلّ في عالم الاعتبار.

ص: 332

فتحصّل من ذلك : أنّ الحرف يوجد الربط الكلامي بينما ( بعت ) توجد التمليك بالكلام. وهذا معناه أنّ الموجد في باب الحروف هو حالة قائمة بنفس الكلام ، أي الربط والفناء بين شيئين بنفس الكلام. بينما الموجد في باب الإنشاء هو الأمر الاعتباري كالتمليك والزوجيّة المسبّبين عن الكلام.

فالإيجاديّة واحدة إلا أنّ معناها يختلف بينهما (1).

ويرد على ذلك : أنّ التمليك اعتبار تشريعي يصدر من البائع ويصدر من العقلاء ومن الشارع.

ويرد على الاتّجاه الثاني المذكور والذي يفسّر الاختلاف بين الجملتين على أساس الاختلاف في كيفيّة الدلالة لا المدلول الوضعي التصوّري ، وأنّ هذا الاختلاف مردّه الى أنّ الجملة الإنشائيّة إيجاديّة بينما الجملة الإخباريّة إخطاريّة ، وأنّ مع ذكره على فرض التسليم به فهو مختصّ في الجمل المشتركة فقط ، ومع ذلك فهو غير تامّ فيها ؛ وذلك لأنّ مثل قولك : ( بعت ) ونحوها من إنشاءات المعاملات والعقود والتي تفيد

ص: 333


1- وهناك معان أخرى لإيجاديّة الجمل الإنشائيّة نذكرها باختصار جدّا : الأوّل : أنّ اللفظ يوجد المعنى وفي طول ذلك يحصل إخطاره في الذهن ، فاللفظ يوجد المعنى خارجا والخارج يخطره في الذهن. وفي مقابله الإخطاريّة بمعنى أنّ الإخطار يتمّ بواسطة اللفظ مباشرة. الثاني : أنّ الإنشاءات تخطر المعنى غير أنّ المتكلّم لا يقصد إلا إيجاد النسبة تنزيلا وادّعاء ، وفي مقابله الإخطاريّة بمعنى أنّ المتكلّم يقصد إيجاد النسبة حقيقة بقصد الحكاية والإخبار. الثالث : أنّ الجملة الإنشائيّة موجدة لمعناها في مرحلة المدلول التصديقي وفي طوله ، بمعنى أنّ اللفظ يوجد المعنى تصوّرا ويكون مرادا جدّا في نفس المتكلّم ، وفي طول هذا المدلول التصديقي والمراد الجدّي ينشأ إخطار المعنى في ذهن السامع. بخلاف الجملة الإخبارية فإنّها تدلّ على إخطار المعنى في ذهن السامع مباشرة ؛ لأنّ المعنى ثابت في الخارج وهي تحكي وتكشف عنه. وهذا تامّ في المعاملات والطلب والأمر والنهي. الرابع : الجملة الإنشائيّة توجد معناها في مرحلة المدلول التصوّري ، بمعنى أنّ النسبة الملحوظة بها تكون فانية في واقع ينظر إليه بما هو مرحلة الثبوت والوجود بنفس الكلام ، فهي توجد النسبة بنفس الكلام. بخلاف الجملة الخبريّة فإنّ النسبة في مرحلة المدلول التصوّري منظورا إليها بما هي نسبة مفروغ عنها ، أي أنّها متحقّقة في رتبة سابقة عن الكلام ويكون الكلام كاشفا وحاكيا عنها. وهذا تامّ في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار فقط.

الملكيّة والتمليك لا يمكن أن تكون موجدة لهذا الأثر في مرحلة الاستعمال بقصد الإنشاء.

وتوضيح ذلك : أنّ التمليك - والذي هو أمر اعتباري تشريعي - من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة في الجعل والتي لها جذور عقلائيّة ، تارة يصدر من البائع وأخرى يصدر عن العقلاء وثالثة يصدر من الشارع بجعله واعتباره.

وحينئذ يقول :

فإن أريد بالتمليك الذي يوجد بالكلام الأوّل ، فمن الواضح سبقه على الكلام ، وأنّ البائع بالكلام يبرز هذا الاعتبار القائم في نفسه ، وليس الكلام هو الذي يخلق هذا الاعتبار في نفسه.

فإن أريد من الإيجاديّة التمليك الذي يصدر من البائع فهذا غير تامّ ؛ لأنّ الكلام لا يوجد التمليك عند البائع ، بل العكس هو الصحيح. فإنّ التمليك موجود عند البائع أوّلا ومتصوّرا في نفسه ، ثمّ يصدره بهذا الكلام. وهذا معناه أنّ التمليك سابق على الكلام وموجود قبله.

فإذا أراد البائع أن ينشئ تمليك الكتاب بدرهم فإنّه يتصوّر ذلك في نفسه ثمّ ينشئه بالكلام ، فيكون الكلام كاشفا وحاكيا عن التمليك الموجود في نفس البائع ، لا أنّه موجد لهذا التمليك في نفسه. فالكلام لا يخلق ولا يوجد هذا الاعتبار ؛ لأنّه فعل نفساني مخلوق وموجود بالإرادة والاختيار عند البائع الناتجين عن النفس ؛ لأنّ الإرادة من الأمور النفسانيّة الاختياريّة. فيكون الكلام في طول الاعتبار والتمليك وفي رتبة متأخّرة عنه.

وإن أريد الثاني أو الثالث فهو وإن كان مترتّبا على الكلام ، غير أنّه يترتّب عليه بعد فرض استعماله في مدلوله التصوّري وكشفه عن مدلوله التصديقي ، ولهذا لو أطلق الكلام بدون قصد أو كان هازلا لم يترتّب عليه أثر.

فترتّب الأثر إذا ناتج عن استعمال ( بعت ) في معناها ، وليس محقّقا لهذا الاستعمال.

وإن أريد من إيجاديّة ( بعت ) - للتمليك - التمليك عند العقلاء أو التمليك عند الشارع - فما ذكر من أنّ التمليك يوجد بالكلام ويكون مترتّبا عليه وفي طوله

ص: 334

صحيح ؛ لأنّ العقلاء أو الشارع إنّما يحكمون بترتّب هذا الأثر بعد صدور الكلام من البائع وقبوله من المشتري ، فيكون الكلام موجدا للتمليك.

إلا أنّ هذه الإيجاديّة متوقّفة على أن تكون كلمة ( بعت ) مستعملة في مدلولها التصوّري الوضعي ، والذي يكون بدوره كاشفا عن المدلول التصديقي الجدّي على أساس أصالة التطابق بين الدلالات الثلاثة.

وهذا معناه أنّ كلمة ( بعت ) تدلّ بمدلولها التصوّري الوضعي على التمليك ، ومن ثمّ تكون مستعملة فيه. وبعد ذلك يكون مرادا جدّيّا ؛ إذ من الواضح أنّه لو كان البائع غير قاصد لصدور هذا الإنشاء منه ، أو لم يكن جدّيّا في ذلك بأن كان في مقام الهزل أو التقيّة لم يحكم العقلاء أو الشارع بترتّب هذا الأثر ( التمليك ) بمجرّد صدور الكلام منه ، أو بمجرّد استعماله في التمليك.

وهذا معناه أنّ التمليك إنّما يحكم به العقلاء والشارع بعد فرض أنّ الكلام مستعمل في مدلوله التصوّري الوضعي بنحو الحقيقة لا المجاز ، وبعد فرض أنّ هذا الاستعمال الحقيقي مراد جدّا وليس هزلا أو تقيّة. وأمّا مجرّد الاستعمال فقط ولو كان مجازا أو من دون قصد فلا يترتّب عليه هذا الأثر ، ولا يحكم العقلاء أو الشارع بالتمليك.

وهذا ينتج أنّ ترتّب الأثر وهو التمليك عقلائيّا أو شرعا فيما إذا كان ناتجا عن استعمال كلمة ( بعت ) في معناها الموضوعة له على نحو الحقيقة والإرادة الجدّية ، وليس الاستعمال وحده محقّقا لهذا الأثر فالتمليك ليس موجدا أو محقّقا بمجرّد الاستعمال. وهذا لازمه أن تكون كلمة ( بعت ) تدلّ تصوّرا ووضعا على هذا الأثر ، ثمّ تستعمل فيه بنحو الحقيقة والجدّيّة ، فالاستعمال مسبوق بالتمليك ويكون الاستعمال كاشفا عنه لا أنّه موجد له.

فهذا دليل على أنّ المعنى أي التمليك محفوظ في رتبة سابقة عن الاستعمال ، أي في مرحلة المدلول التصوّري الوضعي ، ثمّ يأتي بعد ذلك الاستعمال الكاشف عنه والمطابق له.

الثالث : أنّ الجملتين مختلفتان في المدلول التصوّري ، حتّى في حالة اتّحاد لفظهما ودلالتهما على نسبة واحدة ، فإنّ الجملة الخبريّة موضوعة لنسبة تامّة

ص: 335

منظورا إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الإنشائيّة موضوعة لنسبة تامّة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها ، كما تقدّم في الحلقة الأولى (1).

الاتّجاه الثالث : وهو الصحيح عند السيّد الشهيد وهو أنّ الجملتين الخبريّة والإنشائيّة مختلفتان في مدلولهما التصوّري ، فضلا عن المدلول التصديقي الاستعمالي أو الجدّي ، سواء كانت الجملتان متّحدتين باللفظ ( بعت ) الخبريّة والإنشائيّة أو كانتا مختلفتين كالطلب ونحوه من الإنشائيّات.

وكذا لو كان المدلول فيهما نسبة واحدة أي النسبة التصادقيّة ، فمع ذلك نقول : إنّ المدلول التصوّري الوضعي مختلف بينهما.

فالجملة الخبرية كقولك : ( بعت الكتاب بدرهم ) إخبارا وحكاية عن موضوع البيع بالأمس موضوعة بالمدلول التصوّري الوضعي لنسبة تامّة وهي النسبة التصادقيّة بين البيع والبائع ، ولكن منظورا إليها بما هي حقيقة وواقعة وشيء مفروغ عن تحقّقه في الخارج. والمتكلّم إنّما يخبر ويحكي عن هذه النسبة فقط.

بينما الجملة الإنشائيّة كقولك : ( بعت الكتاب بدرهم ) إنشاء للمعاملة وللتمليك الآن عند صدور هذا الكلام موضوعة بالمدلول التصوّري الوضعي لنسبة تامّة ، وهي النسبة التصادقيّة أيضا بين البيع والبائع ، ولكن منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها في الخارج. فهي واقعة وشيء لم يفرغ عن تحقّقه وثبوته قبل إنشاء هذه المعاملة ، وإنّما ينظر إليها بما هي نسبة في طور التحقّق والثبوت.

وبهذا يتّضح أنّ الاختلاف بين الجملتين جوهري ، وهو في المعنى الموضوع في كلّ منهما ، وليس فقط في مرحلة الاستعمال والإرادة الجدّيّة. وهذا الاختلاف ثابت حتّى وإن كانت الجملتان متّحدتين باللفظ وتدلاّن على نسبة تامّة وهي النسبة التصادقيّة.

ولمزيد من التوضيح نعرض رأي السيّد الشهيد بنحو من الاختصار في كلّ من الجمل الإنشائيّة والإخباريّة سواء المشتركتين أو المختلفتين.

فنقول : إذا كانت الجمل الإنشائيّة متمحّضة في الإنشاء كالطلب ( الأمر والنهي ) والتمنّي والترجّي والنداء ونحو ذلك ، فهي تحتاج إلى ثلاثة أطراف الأوّل والثاني

ص: 336


1- ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائية.

المفهومان اللذان يراد ربطهما معا ، والثالث هو الوعاء والواقع الذي يتحقّق فيه المفهومان الأوّل والثاني.

فقولنا : ( اضرب زيدا ) هناك نسبة تصادقيّة تامّة متحقّقة بين المفهومين ، أي الضرب وزيد. وأمّا وعاء هذين المفهومين فهو ليس الخارج ، وإنّما عالم الطلب وجعل الحكم ، وهذا الوعاء يتصوّره الذهن ويفترض تصادقهما فيه وهو الجعل والتشريع للحكم ، على خلاف الجمل الخبريّة كقولنا : ( ضرب زيد عمرا ) فإنّهما نسبة تصادقيّة بين المفهومين ، وهي ثابتة في وعاء الخارج والتحقّق.

وهكذا الحال في الاستفهام كقولنا : ( هل زيد عالم ) فالنسبة التصادقيّة متحقّقة في عالم السؤال الذي يفترضه الذهن ، وكذا التمنّي والترجّي.

إلا أنّ الفرق بين الاستفهام ونحوه وبين الطلب ونحوه أنّ الطلب يراد به تحقيق هذه النسبة في الخارج ، فينظر إليها بما هي في طور الثبوت والتحقيق خارجا. بينما في الاستفهام ونحوه قد تكون متحقّقة في الخارج وقد لا تكون موجودة إلا في عالم التخيّل فقط ، فإنّه إذا أجيب ب- ( نعم ) كان معناه أنّ النسبة موجودة في وعاء الواقع.

بينما إذا أجيب ( بلا ) كان معناه أنّه لا وجود لهذه النسبة واقعا ، وإنّما هي في عالم الاستفهام والسؤال المحض الذي يتصوّره الذهن.

وإذا كانت الجملة الإنشائيّة مشتركة مع الجملة الخبريّة باللفظ من قبيل ( بعت ) فأيضا يختلف المدلول التصوّري بينهما تبعا لاختلاف الوعاء. فإنّ وعاء الإنشاء هنا هو الاعتبار ، بينما وعاء الإخبار هو قصد الحكاية مع كونهما نسبة تصادقيّة تامّة.

إلا أنّ النسبة التصادقيّة في الجملة الخبريّة متحقّقة في عالم الواقع الخارجي ، وهي تتناسب مع قصد الحكاية والإخبار. بينما النسبة التصادقيّة في الجملة الإنشائيّة متحقّقة في عالم الاعتبار ، وتحقّقها في الخارج يكون بلحاظ مقصوده ومراده وحالة مترقّبة.

وهكذا تكون النسبة في الجملة الخبريّة نسبة تامّة تصادقيّة منظورا إليها بما هي مفروغ عن تحقّقها وثبوتها في وعاء الواقع الخارجي. بينما تكون النسبة في الجملة الإنشائيّة نسبة تامّة تصادقيّة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها في عالم الواقع الخارجي ، وإن كانت الآن متحقّقة في عالم الاعتبار والجعل فقط ، ولكن ينظر إليها بما هي في طور التحقّق والثبوت الخارجي.

ص: 337

ويمكن أن نفسّر على هذا الأساس إيجاديّة الجملة الإنشائيّة ، فليست هي بمعنى أنّ استعمالها في معناها هو بنفسه إيجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى أنّ النسبة المبرزة بالجملة الإنشائيّة نسبة منظورا إليها لا بما هي ناجزة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والإيجاد.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفسّر الإيجاديّة التي قالها المشهور والميرزا النائيني ، فليست الإيجاديّة بمعنى أنّ الجملة الإنشائيّة المستعملة في معناها توجد معناها باللفظ ويكون الكلام موجدا للأثر الاعتباري ، بل إنّ الجملة الإنشائيّة إيجاديّة بمعنى أنّ النسبة التامّة فيها ينظر إليها بما هي في طريق الإنجاز والتحقّق والوجود ، لا بما هي نسبة تامّة ناجزة وقد فرغ عن جودها.

وهذا معنى عميق لإيجاديّة الجمل الإنشائيّة.

* * *

ص: 338

الثمرة

ص: 339

ص: 340

الثمرة

قد يقال : إنّ من ثمرات هذا البحث أنّ الحروف بالمعنى الأصولي الشامل للهيئات إذا ثبت أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فهذا يعني أنّ المعنى الحرفي خاصّ وجزئي. وعليه ، فلا يمكن تقييده بقرينة خاصّة ، ولا إثبات إطلاقه بقرينة الحكمة العامّة ؛ لأنّ التقييد والإطلاق من شئون المفهوم الكلّي القابل للتحصيص.

من جملة الثمرات التي ذكروها في الفرق بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة هذه الثمرة ، وهي :

إنّ الحروف كمصطلح أصولي تشمل الحروف وهيئات الجمل والهيئات الإفراديّة ، وقد قلنا : إنّها موضوعة للنسبة وكلّ نسبة متقوّمة بطرفيها. وهذا يعني أنّ الحروف موضوعة للنسبة الخاصّة فتكون من باب الوضع العامّ ؛ لأنّ الحرف يوضع بإزاء العنوان العرضي الاسمي الجامع لفظا بين أنحاء النسب المختلفة ، ولكن الموضوع له الخاصّ ؛ لأنّ الحروف موضوعة بإزاء النسبة الخارجيّة أو الذهنيّة المتقوّمة بطرفيها والتي يستحيل تصوّرها من دونهما.

وهذا يعني أنّ الحروف معان جزئيّة لا تقبل الصدق على كثيرين بخلاف المعاني الاسميّة ، فإنّها قد تقبل الصدق على كثيرين كما في أسماء الأجناس.

وحينئذ نقول : إنّ الحروف لا تقبل التقييد ولا الإطلاق بخلاف الأسماء ، فإنّها تقبل التقييد والإطلاق. والوجه في ذلك أنّ الأسماء كالعالم يمكن تقييده بذكر قرينة خاصّة ؛ لأنّه مفهوم قابل للتحصيص ومفهوم واسع يشمل كلّ ذات لها العلم والتي هي حصص كثيرة ، ويمكن الإطلاق فيه بأن لا يذكر فيه القيد فتجري فيه قرينة الحكمة العامّة التي هي قرينة كلّيّة عامّة تجري في كلّ مورد تتمّ فيه أركانها ( وهي أن يكون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي ولم يذكر قرينة على التقييد ، فهو يريد الإطلاق إذا ).

ص: 341

بينما الحروف ( من ) و ( إلى ) و ( افعل ) و ( لا تفعل ) ونحو ذلك فهي موضوعة لمعنى خاصّ وجزئي ، وهو لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّه مفهوم ومعنى ضيق لا ينطبق إلا على نفسه. ولذلك لا يقبل التقييد بقرينة خاصّة ؛ لأنّه غير قابل للتحصيص وليس له أفراد عديدة ، وليس قابلا للإطلاق ؛ لأنّه لا ينطبق إلا على نفسه فقط ولا يشمل غيره. وبهذا ظهر أنّ التقييد والإطلاق من شئون المفهوم الكلّي القابل للتحصيص وهو الاسم لا الحرف بالمصطلح الأصولي.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ القيد إذا كان راجعا في ظاهر الكلام إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله ، كما في الجملة الشرطيّة فإنّ ظاهرها كون الشرط قيدا لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث إنّ هيئة الجزاء موضوعة لمعنى حرفي وهو جزئي فلا يمكن تقييده ، فلا بدّ من تأويل الظهور المذكور.

وهنا إشكال : وهو أنّ القيد إذا كان راجعا إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله وإرجاعه إلى المادّة ؛ لأنّ الهيئة غير قابلة للإطلاق والتقييد ، إذ هي معنى حرفي كما تقدّم ، والمعاني الحرفيّة موضوعة لمعنى خاصّ جزئي غير قابل للتحصيص ولا ينطبق على كثيرين. ولذلك لا يمكن تقييده ؛ لأنّه لا يكون فيه الإطلاق إذ الإطلاق والتقييد متقابلان تقابل الملكة والعدم فكلّ مورد يصحّ فيه الإطلاق يصحّ فيه التقييد أيضا وكلّ مورد لا يصحّ فيه الإطلاق فلا يصحّ فيه التقييد. وحينئذ لا بدّ أن نلتزم بالتأويل فرارا من هذا المحذور.

فالجملة الشرطيّة مثلا ظاهرها تعليق مفاد الهيئة والجزاء والذي هو الوجوب على الشرط ، فيكون الشرط كما هو ظاهر الجملة قيدا في الوجوب ، ولكن حيث إنّ الوجوب المدلول عليه بهيئة الجزاء معنى حرفي وهو خاصّ وجزئي فهو غير قابل للتقييد ، كما أنّه ليس قابلا للإطلاق.

وحينئذ لا بدّ من الالتزام بالتأويل ومخالفة ظاهر الجملة وذلك بإرجاع القيد ، أي الشرط إلى المادّة أي متعلّق مفاد الهيئة والذي هو الواجب ؛ لأنّه مفهوم اسمي قابل للإطلاق والتقييد فيكون الواجب مقيّدا لا الوجوب.

فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) دلّ الكلام بظهوره الأوّلي على أنّ المقيّد بالمجيء مدلول هيئة الأمر في الجزاء ، وهو الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي فيكون الوجوب مشروطا.

ص: 342

مثال ذلك : الجملة الشرطيّة ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ ظاهرها الأوّلي كون الشرط وهو المجيء قيدا لهيئة الجزاء ( أكرمه ) ، وحيث إنّ مفاد هيئة الجزاء ومدلولها وهو الوجوب أو الطلب معنى حرفي وهو خاصّ وجزئي فيأتي المحذور والإشكال ، إذ كيف يمكن أن يكون الوجوب أو الطلب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي وهو الخاص ، والجزئي مقيّدا بالمجيء؟ مع أنّ كونه معنى حرفيّا معناه أنّه غير قابل للإطلاق ولا للتقييد ، فيكون هذا الظاهر الأوّلي من الجملة غير ممكن وفيه المحذور المذكور ، ولذلك كان لا بدّ من التأويل بالنحو التالي :

ولكن حيث يستحيل التقييد في المعاني الحرفيّة فلا بدّ من إرجاع الشرط إلى متعلّق الوجوب لا إلى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقا ومتعلّقه مقيّدا بزمان المجيء على نحو الواجب المعلّق ، الذي تقدّم الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة (1).

وحلّ الإشكال أن نلتزم بالتأويل فنقول : إنّه حيث كان التقييد مستحيلا في المعاني الحرفيّة لكونها خاصّة وجزئيّة ومفهومها ضيّق ولا معنى لتضييق الضيّق في نفسه ، فنقول : إنّ هذا القيد وهو الشرط الذي بظاهره راجع إلى مدلول الهيئة وهو الوجوب لا بدّ من رفع اليد عنه ، وارجاعه إلى متعلّق الوجوب ، أي إلى الواجب والذي هو المادّة التي ركّبت فيها الهيئة أي الإكرام في المثال المذكور.

وحينئذ نقول : إنّ الوجوب الذي هو معنى حرفي ليس مقيّدا بالمجيء ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، وإنّما المقيّد هو متعلّق الوجوب أي المادّة والواجب ، فيكون الإكرام الذي هو الواجب مقيّدا بزمان المجيء ؛ لأنّ الإكرام مفهوم اسمي كلّي واسع قابل التحصيص ، فإنّه يتحقّق مع المجيء وبدونه فيكون المطلوب هو الإكرام في زمان المجيء لا الإكرام مطلقا ، أي حصّة خاصّة من الإكرام لا مطلق الإكرام.

وبهذا يكون هذا التأويل من قبيل الواجب المعلّق لا الوجوب المشروط ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة تصوير الواجب المعلّق وملخّصه : أن يكون القيد أو الشرط راجعا إلى المادّة ، والواجب كما في شرطيّة الطهارة في الصلاة ، فإنّ الطهارة شرط في الصلاة لا في وجوبها ، ولذلك يجب تحصيله ويكون في ذمّة المكلّف بخلاف

ص: 343


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

الشروط الراجعة إلى الوجوب ، فإنّه لا يجب على المكلّف تحصيلها ، ولذلك كان مقامنا من قبيله ونحوه لا منه حقيقة.

ولكنّ الصحيح أنّ كون المعنى الحرفي جزئيّا ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكي يستحيل فيه التقييد والإطلاق ، بل هو قابل لذلك تبعا لقابليّة طرفيه ، وإنّما هو جزئي بلحاظ خصوصيّة طرفيه ، بمعنى أنّ كلّ نسبة مرهونة بطرفيها ولا يمكن الحفاظ عليها مع تغيير طرفيها.

والصحيح عدم تماميّة الثمرة المذكورة ؛ لأنّها مبنيّة على كون المعنى الموضوع له في الحروف خاصّ وجزئي حقيقي لا يقبل الصدق على كثيرين ، فهو ضيّق لا يقبل الإطلاق ولا التقييد. إلا أنّ أصل هذا المبنى غير صحيح كما تقدّم ؛ لأنّ المراد من الخاصّ هنا ليس الجزئي الحقيقي ، وإنّما المراد منه الأخصّ ، أي المفهوم الأضيق دائرة من مفهوم آخر كالجزئي الإضافي.

فقولنا : المعنى الحرفي موضوع لمعنى خاصّ المقصود منه أنّه تارة يكون جزئيّا ، وذلك بلحاظ خصوصيّة الطرفين فإنّ كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ويستحيل سلبها عن طرفيها وتعقّلها بدونهما ؛ لأنّها إذا سلبت عنهما انعدمت النسبة ، وإذا تغيّر الطرفان صار هناك نسبة أخرى غيرها ، فالجزئيّة بهذا اللحاظ.

إلا أنّ هذا لا يمنع أن يكون المعنى الحرفي مفهوما كلّيّا ، وذلك تبعا لكلّيّة الطرفين وتعدّد صدقهما في الخارج على كثيرين ، فالطرفان مفهوم كلّي ينطبق على كثيرين في الخارج ، وإن كانا بلحاظ كلّ نسبة بخصوصها مقوّمين لها ويستحيل تعقّلها بدونهما ذهنا ، وهو معنى الجزئيّة.

وحينئذ نقول : إنّ المعنى الحرفي بلحاظ كلّيّة طرفيه في الخارج معنى كلّي قابل للإطلاق والتقييد ، ولذلك لا تتمّ الثمرة المذكورة ؛ لأنّه يمكن إرجاع الشرط في الجملة الشرطيّة إلى الجزاء. وكون هيئة الجزاء مقيّدة بالشرط فيكون الوجوب مشروطا ، ولا موجب للتأويل المذكور (1).

ص: 344


1- هناك عدّة أجوبة على هذه الثمرة المذكورة أهمّها : 1 - على مسلك صاحب ( الكفاية ) : لا موضوع لهذه الثمرة ؛ لأنّه يقول بأنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ أيضا. فلا مجال للإشكال على مبناه ، وإن كان أصل المبنى غير صحيح. 2 - على مسلك الأصفهاني : يقال : إنّ علّة الجزئي إمّا أن تكون فعليّة فيكون فعليّا ، وإمّا أن تكون مقدّرة الوجود ومفروضة فيكون معلّقا عليها. وعلى فرض تحقّقها ووجودها وهذا يعني أنّه قابل للتقييد ، لا بمعنى أنّ معناه يتضيّق ؛ إذ يستحيل ذلك لأنّه جزئي حقيقي ، بل بمعنى كون وجوده معلّقا على علّته. 3 - على مسلك العراقي : يقال : إنّ الإطلاق والتقييد في المعنى الحرفي مستحيل بلحاظ الفرد ؛ لأنّه معنى جزئي حقيقي. وأمّا أحوال هذا الفرد فإنّه يمكن فيها التقييد والإطلاق ، فيجري الإطلاق الأحوالي والتقييد الأحوالي في المعنى الحرفي. وهنا ثمرة أخرى غير تامّة : وهي أنّ المعنى الاسمي يمكن التمسّك بإطلاقه لإثبات كون الوجوب نفسيّا وعينيّا وتعيينيّا ومطلقا غير مشروط ، بخلاف المعنى الحرفي فإنّه لا إطلاق فيه ليتمسّك به لإثبات ذلك ؛ لأنّه جزئي يمتنع فيه الإطلاق والتقييد. وعدم التماميّة اتّضحت ممّا سبق ؛ لأنّ الخاصّ هنا بمعنى الأخصّ لا بمعنى الجزئي الحقيقي. نعم توجد ثمرة تامّة وهي : أنّه يوجد فرق بين قولنا : ( وجوب الصدقة معلّق على الغني ) ، وبين قولنا : ( وجوب الصدقة المعلّق على الغني ثابت ). ففي الحالة الأولى إذا شككنا أنّ التعليق لوجوب الصدق هل هو على طبيعي الغني أو على حصّة خاصّة من الغني كالغني العادل أو المؤمن مثلا؟ فهنا يمكننا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات الطبيعي ونفي القيود المتوهّمة والمشكوكة ؛ لأنّه لم يذكرها ، ولأنّ الغني مفهوم اسمي قابل للتقييد والإطلاق. وأمّا في الحالة الثانية فإذا شككنا في كون الوجوب معلّقا على طبيعيّ الغني أو على بعض أفراده وحصصه ، فلا يمكننا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة ، مع أنّ الغني مفهوم اسمي قابل للإطلاق والتقييد أيضا ، فما الفرق بين الموردين إذا؟ والفرق بينهما هو أنّ الجملة الأولى فيها نسبة تامّة متقوّمة بين طرفين ظاهرين في صقع الذهن بارزين هما : ( وجوب الصدقة ) و ( الغني ) ، فيمكننا التمسّك بالإطلاق لإثبات كلّي الوجوب وطبيعيّه ولإثبات كلّي الغني وطبيعيّه. بينما الجملة الثانية فيها نسبة ناقصة ، وقد تقدّم أنّ النسبة الناقصة اندماجيّة تحليليّة ليست بارزة في صقع الذهن بين الطرفين ، وإنّما تجعل الطرفين طرفا واحدا وحصّة واحدة ، وهي هنا ( وجوب الصدقة المعلّق على الغني ) ، وهذا طرف واحد ليس فيه نسبة بين شيئين ظاهرا وليس بارزا ، وإنّما هناك حصّة خاصّة من وجوب الصدقة وهو الوجوب المعلّق على الغني. ولذلك لا يمكننا التمسّك بقرينة الحكمة هنا ؛ لأنّه يوجد حصّة خاصّة معيّنة ولا يوجد مفهوم اسمي كلّي ، فاختلّت إحدى مقدّمات الحكمة ؛ لأنّ المتكلّم ذكر القيد والحصّة الخاصّة ولم يقتصر على ذكر المفهوم الكلّي والطبيعي.

ص: 345

ص: 346

الأمر أو أدوات الطلب

ص: 347

ص: 348

الأمر أو أدوات الطلب

ينقسم ما يدلّ على الطلب إلى قسمين :

أحدهما ما يدلّ بلا عناية ، كمادّة الأمر وصيغته.

والآخر ما يدلّ بالعناية ، كالجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب. فيقع الكلام في القسمين تباعا :

الأمر يدلّ على معان عديدة ، منها : الطلب ، والشيء ، والحادثة ، والغرض ؛ على نحو المشترك اللفظي.

والطلب يدلّ على معنيين : الطلب التكويني كطلب العطشان للماء ، والطلب التشريعي وهو تحريك الغير نحو المقصود.

فيلتقي الأمر والطلب في الطلب التشريعي أي إرسال الغير وتحريكه نحو المقصود ، فيصدق عليه عنوان الأمر وعنوان الطلب. وهذا يعني أنّ النسبة بين المفهومين العموم والخصوص من وجه.

ثمّ إنّ ما يدلّ على الطلب لغة يقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يدلّ على الطلب من دون عناية ولا يحتاج إلى قرينة زائدة ، كما في مادّة الأمر أو صيغته كقولنا : ( آمرك بالصلاة ) أو ( أقيموا الصلاة ) ، فإنّهما يدلاّن على الطلب لغة بلا إشكال وبلا حاجة إلى عناية وقرينة زائدة.

الثاني : ما يدلّ على الطلب مع وجود العناية والقرينة الزائدة ، بحيث لا يكون موضوعا لغة للطلب ، وإنّما دلّ على ذلك لأجل وجود قرينة لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة كانت لها الدلالة على الطلب. كما في الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب كقولنا : ( أعاد الصلاة ، أو يعيد صلاته ، أو صلاته باطلة ) في جواب من سأل عن حكم الصلاة في حالة مخصوصة ، فإنّ كون المتكلّم في مقام بيان الأحكام وتشريعها قرينة على أنّ المراد من

ص: 349

الجملة الخبريّة هنا هو الإنشاء والطلب وجعل الحكم لا الإخبار والحكاية كما سيأتي.

القسم الأوّل : الطلب هو السعي نحو المقصود ، فإن كان سعيا مباشرا كالعطشان يتحرّك نحو الماء فهو طلب تكويني. وإن كان بتحريك الغير وتكليفه فهو طلب تشريعي.

الطلب لغة : هو السعي نحو المقصود.

وهو على قسمين :

الأوّل : الطلب التكويني ، وذلك بأن يكون السعي نحو المقصود سعيا مباشرا من نفس الطالب والمريد كما في العطشان الذي يطلب الماء ، فإنّه إذا سعى نحوه بنفسه وقام بتحصيله بتحرّك منه ذاتا كان طلبه للماء تكوينا. وبمعنى آخر أن يكون الطالب والمريد هو الذي يحصّل الغرض بنفسه ويتحرّك نحوه.

الثاني : الطلب التشريعي ، وذلك بأن يكون السعي نحو المقصود بتحريك الغير وتكليفه كما في أوامر السادة مع عبيدهم والرئيس مع المرءوسين ، فإنّه يحرّكهم ويدفعهم نحو تحقيق الغرض الذي يريده ويطلبه. فكان الطالب والمريد غير المتحرّك والساعي نحو تحصيل الغرض.

والطلب التشريعي بدوره يقسم إلى قسمين :

الأوّل : الطلب التشريعي من العالي حقيقة ، سواء كان متظاهرا في علوّه أم لم يكن متظاهرا في ذلك.

الثاني : الطلب التشريعي من العالي ادّعاء ، وهو من يتظاهر بالعلوّ مع كونه ليس عاليا حقيقة.

ولا شكّ في دلالة مادّة الأمر على الطلب بمفهومه الاسمي ، ولكن ليس كلّ طلب ، بل الطلب التشريعي من العالي.

ثمّ إنّ مادّة الأمر تدلّ على الطلب بمعنى كونها موضوعة لغة للطلب ، كما أنّها موضوعة لغيره على نحو الاشتراك اللفظي كما تقدّم.

إلا أنّ المادّة ليست موضوعة لمطلق الطلب الشامل للتكويني والتشريعي ، بل هي موضوعة للطلب التشريعي ، وكذلك للطلب التشريعي الذي يكون من العالي حقيقة لا العالي ادّعاء.

ص: 350

فقوله : ( آمرك بالصلاة ) تدلّ مادّة الأمر لغة على الطلب التشريعي من العالي ، بنحو المعنى الاسمي ؛ وذلك لأنّ الطلب كمفهوم اسمي معناه السعي نحو المقصود والإرسال نحو المادّة ، والتشريعي معناه تحريك الغير وتكليفه ، فكلمة ( آمرك ) تدلّ على هذا المعنى كمفهوم اسمي ؛ لأنّ مادّة الأمر مفهوم اسمي وليست معنى حرفيّا ، حيث تقدّم في المعاني الحرفيّة أنّ المادّة مفهوم اسمي بخلاف الهيئة فإنّها معنى حرفي.

كما لا إشكال في دلالة صيغة الأمر على الطلب ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة فيها هو النسبة الإرساليّة ، والإرسال ينتزع منه مفهوم الطلب ، حيث إنّ الإرسال سعيّ نحو المقصود من قبل المرسل.

ثمّ إنّه لا إشكال أيضا بأنّ صيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على الطلب أيضا لكن لا بما هو معنى مفهوم اسمي ، بل بما هو معنى حرفي ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة ( افعل ) هو النسبة التامّة المتحقّقة في الذهن بين المرسل والمرسل إليه. فهناك إذا نسبة تامّة إرساليّة تدلّ عليها صيغة ( افعل ) ؛ لأنّ الهيئة فيها معنى حرفي فهي تدلّ على النسبة حتما.

ثمّ إنّ هذه النسبة الإرساليّة ينتزع منها مفهوم الطلب ؛ وذلك لأنّ الإرسال معناه السعي نحو المقصود بإرسال الغير ، وهذا نفسه مفهوم الطلب ؛ لأنّ الطلب سعي نحو المقصود أيضا بتحريك الغير.

وبهذا يتبيّن أنّ الهيئة لصيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على النسبة الإرساليّة ، وهذه النسبة الإرساليّة ينتزع منها مفهوم الطلب ؛ لأنّ الطلب والإرسال كلاهما سعيّ نحو المقصود من الغير إمّا بتحريكه وإمّا بإرساله.

فتكون الهيئة دالّة على الطلب بالدلالة التصوّريّة تبعا لدلالتها تصوّرا على منشأ انتزاعه.

وحينئذ تكون هيئة الأمر ( افعل ) التي تدلّ على النسبة الارساليّة تصوّرا ؛ لأنّها موضوعة لها تدلّ أيضا على الطلب بالدلالة التصوّريّة الوضعيّة ، وهذا يعني أنّها موضوعة لغة للدلالة على الطلب أيضا كمادّة الأمر.

غاية الأمر أنّ المادّة تدلّ على الطلب كمفهوم اسمي مباشرة وابتداء ، بحيث تكون المادّة موضوعة لغة للطلب ابتداء ومباشرة. بينما صيغة الأمر تدلّ على الطلب كنسبة من خلال دلالتها على النسبة الإرساليّة الموضوعة لها والتي هي منشأ الانتزاع للطلب ،

ص: 351

فتكون دالّة على الطلب بتوسّط دلالتها على النسبة الإرساليّة ؛ وذلك لأنّ النسبة الإرساليّة تستبطن الدلالة على الطلب ؛ لأنّ مفهوم الطلب ينتزع من مفهوم الإرسال.

فإنّه إذا تحقّق الإرسال بإرسال الغير نحو المرسل إليه انتزع العقل من ذلك الطلب ؛ لأنّ هذا المرسل يسعى نحو المقصود وهو المرسل إليه ، ولمّا كانت الهيئة دالّة تصوّرا على النسبة الإرساليّة فهي تدلّ تصوّرا على الطلب المستبطن بداخلها ؛ لأنّها منشأ انتزاعه ومن الواضح أنّ الدلالة التصوّريّة هي المدلول الوضعي ، فتكون الهيئة موضوعة لغة للدلالة على الطلب كنسبة.

كما أنّ الصيغة نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقا حقيقيّا للطلب ؛ لأنّها سعي نحو المقصود.

ثمّ إنّ صيغة الأمر ( افعل ) التي تدلّ على النسبة الإرساليّة وعلى الطلب تصوّرا ووضعا تكون تصديقا مصداقا حقيقيّا للطلب التكويني عند صدورها بلحاظ داعي تحصيل المقصود ؛ لأنّ الطلب التكويني هو السعي نحو المقصود مباشرة والوجه في ذلك : أنّ الصيغة بحسب مدلولها التصوّري كما قلنا تدلّ على النسبة الإرساليّة ، ولكنّها بحسب مدلولها التصديقي لها عدّة دواع ، فتارة تكون بداعي التّرجي ، وأخرى بداعي التمنّي ، وثالثة بداعي الالتماس ، ورابعة بداعي الطلب.

فإن لوحظ صدورهما بداعي الطلب كانت مصداقا حقيقيّا للطلب التكويني الذي هو السعي نحو المقصود ؛ وذلك لأنّ النسبة الإرساليّة أو الطلبيّة المدلول عليها تصوّرا يكون مدلولها التصديقي الحقيقي أو الأقرب من غيره هو الطلب الخارجي ؛ لأنّه من خلال الطلب الخارجي والسعي نحو المقصود خارجا تتحقّق النسبة الإرساليّة أو النسبة الطلبيّة على أساس أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي ؛ لأنّ الدواعي الأخرى كالتمنّي والترجّي والالتماس ليس فيها سعي نحو المطلوب والمقصود في الخارج إلا مع العناية والتقدير. هذا كلّه بلحاظ الآمر وأمّا المأمور فسعيه نحو المقصود طلب تشريعي.

وممّا اتّفق عليه المحصّلون من الأصوليّين (1) تقريبا دلالة الأمر - مادّة وهيئة - على الوجوب ، بحكم التبادر وبناء العرف العامّ على كون الطلب الصادر من المولى

ص: 352


1- انظر : كفاية الأصول : 83 و 92. أجود التقريرات 1 : 87. المقالات 1 : 208 و 22.

بلسان الأمر مادّة أو هيئة وجوبا ، وإنّما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة وتفسيرها إلى عدّة أقوال :

اتّفق الأصوليّون على أنّ الأمر - مادّة وهيئة - يدلّ على الوجوب على نحو الحقيقة ، بمعنى أنّ الأمر إذا أطلق من دون قرينة كان دالاّ على الوجوب. وهذا الاتّفاق تقريبي ؛ لأنّ بعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الطلب الأعمّ من الوجوب والاستحباب ، وبعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الندب ، وبعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الجامع المشترك بين الوجوب والندب.

إلا أنّ الصحيح هو دلالتهما على الوجوب بنحو الحقيقة ، والدليل على ذلك :

أوّلا : التبادر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن من إطلاق الأمر مادّة أو هيئة هو الوجوب والإلزام ، والتبادر علامة الحقيقة كما تقدّم سابقا.

وثانيا : الفهم العرفي ، فإنّ بناء العرف العامّ عند إطلاق الأمر مادّته أو هيئته هو دلالته على الوجوب ، مضافا إلى أنّ بناءهم وتعاملهم فيما بينهم على ذلك كما هو مقتضى سيرة الآمرين مع المأمورين العرفيّين ، والشارع ليس له طريقة جديدة على خلاف ما هو مرتكز عند العرف أو ما هو مبني عند العقلاء (1).

وهذا المقدار لا خلاف فيه تقريبا ، وإنّما الخلاف في توجيه وتفسير هذه الدلالة ، وأنّها على أي أساس تدلّ على الوجوب ، فهنا عدّة أقوال :

القول الأوّل : إنّ ذلك بالوضع (2) ، بمعنى أنّ لفظ الأمر موضوع للطلب الناشئ من داع لزومي ، وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرساليّة الناشئة من ذلك. ودليل هذا القول هو التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى المدّعاة لتفسير هذا التبادر.

القول الأوّل : ما ذهب إليه المشهور من كون الأمر بمادّته وهيئته موضوعا لغة للطلب الوجوبي الناشئ من داع لزومي.

ص: 353


1- وثالثا : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره من الاستشهاد للدلالة على الوجوب ببعض الآيات الشريفة كقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) فإنّ التحذير من مخالفة تتناسب مع كون الأمر للوجوب لا للأعمّ أو لخصوص الندب. وقوله صلی اللّه عليه وآله : لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك فإنّ المشقّة تتناسب مع الوجوب أيضا ؛ وذلك لعدم المشقّة في الندب.
2- كما عليه ظاهر عبارة الكفاية : 83 و 92.

أمّا مادّة الأمر فقد قلنا : إنّها تدلّ على الطلب بمفهومه الاسمي لكن خصوص الطلب الوجوبي ؛ لأنّ الطلب ينقسم إلى قسمين طلب ضعيف وطلب شديد. فالأمر موضوع للطلب الشديد لغة والذي هو الوجوب.

وأمّا صيغة الأمر فقد قلنا : إنّها تدلّ على النسبة الإرساليّة المتضمّنة للطلب ، وهذه النسبة الإرساليّة أيضا تنقسم إلى قسمين وذلك تبعا للطلب المتضمّن فيها ، فتكون موضوعة للنسبة الإرساليّة الناشئة من داع لزومي أي الوجوب.

والدليل على ذلك هو التبادر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن عند إطلاق المادّة والصيغة هو الوجوب دون غيره.

وهذا الدليل يحتاج إلى ضميمة وهي إبطال المناشئ الأخرى التي تفسّر دلالة الأمر مادّة وصيغة على الوجوب ، فإذا بطلت سائر المناشئ تعيّن كونهما موضوعين للوجوب على أساس التبادر الذي هو علامة الحقيقة.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) : من أنّ ذلك بحكم العقل ، بمعنى أنّ الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي ، وإنّما مدلوله الطلب ، وكلّ طلب لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالوجوب. بينما إذا اقترن بالترخيص المذكور لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالاستحباب.

القول الثاني : ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ دلالة الأمر مادّة وصيغة على الوجوب إنّما هي بحكم العقل ، وتوضيح ذلك يكون برسم أمور :

الأول : أنّ الوجوب معناه الثبوت ، ومنه يقال الواجب بالذات والواجب بالغير أي الثابت ، والثبوت يحتاج إلى علّة.

الثاني : أنّ الطلب معناه البعث والتحريك من العالي حقيقة أي الشارع ، والطلب والبعث هو علّة الثبوت والوجوب.

الثالث : أنّ مادّة الأمر وصيغته موضوعة لغة للدلالة على الطلب ، فقولنا : ( آمرك بالصلاة ) أو ( صلّ ) مدلوله الوضعي اللفظي هو الطلب ، أي البعث والتحريك نحو المقصود.

ص: 354


1- فوائد الأصول 1 : 136.

والنتيجة هي أنّ الشارع مهمّته أن ينشأ ما يكون دالاّ على البعث والطلب وهو الأمر مادّة أو هيئة ؛ لأنّ وظيفته إيجاد العلّة أو الموجب والمقتضي فقط.

وأمّا التحرّك والانبعاث نحو المقصود والمطلوب فهو ليس من وظيفة الشارع ، بل إنّ العقل يحكم بذلك على أساس أنّ المولى له حقّ الطاعة على عبده.

فالعبد يحكم العقل عليه بوجوب الإطاعة والامتثال لطلب مولاه وبعثه وتحريكه.

وحينئذ يقال : إنّ هذا الطلب إذا اقترن بما يدلّ على جواز المخالفة والإذن والترخيص في الترك من الشارع فعندئذ لا يحكم العقل بالانبعاث والتحرّك ؛ لأنّ المولى نفسه قد سمح بذلك ، ولذلك يحكم العقل بأنّ هذا الطلب متّصف بالاستحباب ، أي البعث نحو المقصود مع جواز الترك.

وأمّا إذا لم يقترن هذا الطلب بما يدلّ على جواز المخالفة والترخيص في الترك فإنّ العقل يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال والانبعاث نحو المقصود الذي طلبه المولى وبعث العبد إليه ، وعندئذ ينتزع العقل وصف الوجوب.

فالحاصل : أنّ الوجوب والاستحباب ليسا مدلولين وضعيّين لفظيّين لمادّة الأمر وصيغته ، بل المدلول الوضعي اللفظي للمادّة والصيغة هو الطلب.

وأمّا الوجوب والاستحباب فهما من شئون العقل ، فإنّ العقل ينتزع صفة الوجوب من كلّ طلب لم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ، وينتزع صفة الاستحباب من كلّ طلب اقترن بالترخيص وجواز المخالفة.

ومن هنا كان تعريف الوجوب أنّه الطلب الذي لا يجوز تركه بينما الاستحباب هو الطلب الذي يجوز تركه ؛ لأنّه طلب مقترن بالترخيص في الترك.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرّد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ؛ لوضوح أنّ المكلّف إذا اطّلع - بدون صدور ترخيص من قبل المولى - على أنّ طلبه نشأ من ملاك غير لزومي ، ولا يؤذي المولى فواته ، لم يحكم العقل بلزوم الامتثال.

ويرد أوّلا على ما ذكره المحقّق النائيني - من أنّ العقل يحكم بالوجوب إذا صدر

ص: 355

الطلب من المولى ولم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة - أنّه غير تامّ في تمام الموارد ، ويكفي في إبطال الموجبة الكلّيّة أن يكون هناك سالبة جزئيّة.

وهنا يوجد بعض الموارد لا يتمّ فيها ما ذكر ، وذلك فيما إذا صدر طلب من المولى ولم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ، ولكنّنا نفرض أنّ المكلّف قد اطّلع على الملاك والمبادئ التي نشأ منها هذا الطلب ، بناء على أنّ الأحكام والتكاليف تابعة للملاك والمبادئ الواقعيّة.

فهنا إذا اطّلع المكلّف على هذا الملاك فوجده ملاكا غير لزومي بمعنى أنّ المكلّف علم بعد اطّلاعه على الملاك أنّ المولى لا يهتمّ كثيرا بتحقّق طلبه في الخارج ، بل يرضى بتفويته ولا يؤذيه فوات طلبه وعدم تحقّقه ؛ لأنّ ملاكه لم يكن ذا مصلحة ملزمة وشوق أكيد ، بل كان ممّا يحسن فعله ولكن لا يضرّ تركه. فلو فرضنا ذلك فهل يحكم العقل هنا بلزوم الانبعاث ووجوب التحرّك وحرمة المخالفة والترك أيضا؟!

من الواضح أنّ العقل لا يحكم بذلك ؛ لأنّ العقل إنّما يحكم بالوجوب والانبعاث وحرمة المخالفة ولزوم الامتثال رعاية لحقّ المولى ، والمفروض أنّ المولى يرضى بتفويت حقّه هنا ؛ لأنّ المكلّف اطّلع على أنّ الملاك والمبادئ ليست بدرجة من الأهمّيّة ، بل المولى يرضى بفواتها ولا يؤذيه ذلك.

وحينئذ نقول : إنّ المفروض هنا أنّ العقل يحكم بالانبعاث والوجوب بناء على ما ذكره الميرزا من القاعدة الكليّة ؛ لأنّ هذا الطلب صادر من المولى ولم يقترن بما يدلّ على الترخيص وجواز المخالفة ، مع أنّنا وجدنا أنّ العقل لم يحكم بذلك لاطّلاع المكلّف على الملاك ، والذي هو سنخ ملاك لا يؤذي المولى فواته ومخالفته ، فكيف يحكم العقل بالوجوب والحال هذه؟! بل الميرزا وغيره لا يقولون بالوجوب هنا.

ومثال ذلك : لو فرضنا أنّ المولى قد أمر عبده بأن يأتيه بالماء ليشربه ولم يقترن هذا الطلب بترخيص وإذن في المخالفة ، غير أنّ العبد علم أنّ المولى بعد ذلك قد شرب الماء وارتوى من عطشه ، فهل يحكم العقل عليه بوجوب الإتيان بالماء أيضا مع انتفاء الملاك الداعي للطلب؟!

فالوجوب العقلي فرع مرتبة معيّنة في ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف

ص: 356

عنها إلا الدليل اللفظي ، فلا بدّ من فرض أخذها في مدلول اللفظ لكي يتنقّح بذلك موضوع الوجوب العقلي.

وممّا ذكر يتّضح أنّ الوجوب الذي يحكم به العقل ليس موضوعه صدور طلب من المولى غير مقترن بالترخيص فقط ، بل الوجوب العقلي موضوعه أن يكون هناك ملاك ملزم لا يرضى المولى بتفويته ، بأن كان بدرجة من الأهمّية يؤذيه فواته ومخالفته. فإنّ العقل حينئذ يحكم بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة ؛ رعاية لحقّ المولى وكون طاعته واجبة على عبيده.

وهذا معناه أنّ الوجوب فرع وجود مرتبة معيّنة من الملاك للطلب. فإذا كان الطلب صادرا من هذه المرتبة المعيّنة من الملاك والمبادئ حكم العقل بالوجوب ، وإن لم يكن صادرا عنها بأن كان الملاك الذي هو العلّة للطلب ذا مرتبة ضعيفة بحيث يرضى المولى بفوات طلبه ولا يضرّه مخالفته لم يحكم العقل بالوجوب. ويدلّ على ذلك أنّ المكلّف لو اطّلع على الملاك الملزم الذي لا يرضى المولى بفواته فيحكم العقل بوجوب الامتثال وحرمة المخالفة. وإن لم يصدر من المولى طلب بالفعل ، ويكون مدانا ومستحقّا للعقاب لو خالف ذلك بأن اطّلع على الملاك الإلزامي ولم يمتثله.

فموضوع الوجوب العقلي إذا هو هذه المرتبة من ملاك الطلب.

وحينئذ نقول : إنّ هذه المرتبة من ملاك الطلب الملزمة - والتي لا يرضى المولى بتفويت طلبه لأجلها لأنّها العلّة لطلبه - لا بدّ للمولى من أن يدلّ ويكشف عنها لعبده ، ولا يتركها للعبد نفسه إذا اطّلع عليها امتثل وإن لم يطّلع عليها لم يمتثل ؛ لأنّه بذلك يكون مفوّتا لغرضه بيده وهذا قبيح صدوره من الشارع الحكيم.

وهذا الكاشف والدالّ ليس هو إلا الدليل اللفظي ؛ لأنّ الشارع يتعامل مع عبيده بالتكاليف والأوامر والخطابات اللفظيّة ، فلا بدّ من فرض وجود هذه المرتبة من الملاك ضمن الدليل اللفظي. وهذا يعني أنّ اللفظ يدلّ ويكشف عن هذه المرتبة ، وحيث إنّه لا يوجد في الدليل اللفظي إلا الأمر بمادّته أو هيئته لأنّه الدالّ على طلب المولى ، فتكون هذه المرتبة موجودة في الأمر مادّة أو هيئة.

وهذا هو المقصود من الوجه الأوّل القائل بأنّ الأمر بمادّته وهيئته دالّ على الوجوب وضعا ، وبذلك يتنقّح موضوع الوجوب العقلي ؛ لأنّ المادّة والصيغة تدلاّن على الطلب

ص: 357

الناشئ من ملاك لزومي لا يرضى المولى بتفويته ، فإذا اتّضح هذا الموضوع حكم العقل بالوجوب وحرمة المخالفة.

وثانيا : أنّ لازم القول المذكور أن يبنى على عدم الوجوب فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الأمر.

وتوضيح ذلك : وثانيا : أنّ لازم القول الذي ذكره الميرزا من أنّ الطلب إذا لم يقترن بالترخيص فيحكم العقل بالوجوب ، وإذا اقترن بالترخيص فيحكم العقل بالاستحباب ، هو أن يحكم بالاستحباب وعدم الوجوب في بعض الموارد ، مع أنّه لا يلتزم بذلك أحد من الفقهاء حتّى الميرزا نفسه.

وذلك فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الأمر ، ومثاله : أن يصدر أمر من قبيل ( أكرم العالم العادل ) ويقترن هذا الأمر بدليل يدلّ على الإباحة والترخيص ويكون شاملا بعمومه لمورد الأمر من قبيل ( لا بأس بترك إكرام العالم ) أو ( يجوز ترك إكرام العالم ). فإنّ دليل الأمر موضوعه ( العالم العادل ) بينما دليل الترخيص موضوعه ( العالم ) وهو عنوان يشمل بعمومه وإطلاقه موضوع الأمر أي ( العالم العادل ) ؛ لأنّ النسبة بينهما العموم والخصوص مطلقا.

فهنا تختلف النتيجة على المسلكين المذكورين وتوضيح ذلك :

أنّه إذا بنينا على أنّ اللفظ بنفسه يدلّ على الوجوب فالأمر في الحالة في الحالة التي أشرنا إليها يكون مخصّصا لذلك العامّ الدالّ على الإباحة ومخرجا لمورده عن عمومه ؛ لأنّه أخصّ منه ، والدالّ الأخصّ يقدّم على الدالّ العامّ كما تقدّم (1).

إذا بنينا على مسلك المشهور القائل بأنّ الأمر بمادّته وصيغته يدلّ على الوجوب وضعا فحينئذ يكون هناك تعارض غير مستقرّ بين الدليلين المذكورين ؛ لأنّه يجمع بينهما جمعا عرفيّا. فيكون الأمر ( أكرم العادل العالم ) مخصّصا ومقيّدا للعامّ ( لا بأس بترك إكرام العالم ) الذي يدلّ على الإباحة والترخيص.

ومقتضى الجمع العرفي أن يكون الأمر الدالّ على الوجوب مقدّما على العامّ الدالّ على الإباحة والترخيص ، بمعنى أنّ دليل الأمر يخرج مورده وهو ( العالم العادل ) من

ص: 358


1- في بحث التعارض في الحلقتين الأولى والثانية.

موضوع دليل الإباحة ( العالم ) ، على أساس قانون الأخصّية والقرينيّة ، فإنّه سوف يأتي في مباحث التعارض أنّ موارد الجمع العرفي تتمّ فيما إذا كان أحد الدليلين قرينة على الآخر ومفسّرا للمراد منه.

وهذه القرينة على نوعين القرينة الشخصيّة وهي الحكومة ، والقرينة النوعيّة وهي تشمل موارد ثلاثة وهي : ( التقييد والتخصيص والأظهريّة ). وهنا يقع موردنا صغرى لكبرى القرينيّة بالتقييد أو التخصيص القائلة بأنّ كلّ مفهوم كان أضيق دائرة من مفهوم آخر فهو يصلح لأن يكون قرينة نوعيّة على تفسير المراد من المفهوم الأوسع الأعمّ.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ مفهوم ( العالم العادل ) أضيق دائرة من مفهوم ( العالم ) ولذلك يصلح أن يكون قرينة نوعيّة على تفسير المراد من العالم وأنّه غير العادل.

والنتيجة هي أنّ الأمر دالّ على وجوب إكرام العالم العادل ، بينما دليل الترخيص والإباحة دالّ على جواز ترك إكرام العالم غير العادل. والوجه في ذلك كما تقدّم هو الأخصّية والأضيقيّة.

وهذا جمع عرفي نوعي يحكم به العقلاء والعرف العامّ ، والشارع أمضى ذلك وسار على بنائهم وطريقتهم كما سيأتي بيانه مفصّلا.

وأمّا إذا بنينا على مسلك المحقّق النائيني المذكور فلا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين الأمر والعامّ ليقدّم الأمر بالأخصّيّة ؛ وذلك لأنّ الأمر لا يتكفّل الدلالة على الوجوب بناء على هذا المسلك ، بل المتعيّن بناء عليه أن يكون العامّ رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ؛ لأنّ العامّ ترخيص وارد من الشارع ، وحكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص من المولى.

وأمّا إذا بنينا على مسلك الميرزا من أنّ الأمر لا يدلّ إلا على الطلب ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما من شئون العقل الحاكم بالوجوب إذا لم يقترن الطلب بالترخيص ، والحاكم بالاستحباب إذا اقترن الطلب بالترخيص.

فهنا لا يكون هناك تعارض أصلا بين هذين الدليلين لا مستقرّ ولا غير مستقرّ ، فلا معنى للجمع العرفي المذكور بحمل الدليل العامّ على غير مورد الأمر كما تقدّم على

ص: 359

المسلك السابق ؛ لأنّ دليل الأمر لا يدلّ على الوجوب وضعا وإنّما يدلّ على الطلب فقط بحسب الوضع اللغوي.

وحينئذ لن يكون هناك تعارض بين قوله : ( أكرم العالم العادل ) وبين قوله : ( يجوز ترك إكرام العالم ) ؛ لأنّ الأمر الدالّ على الطلب كما أنّه يتناسب مع الوجوب كذلك يتناسب مع الاستحباب والإباحة والترخيص في الترك ، وهذا الطلب الذي يجوز تركه ينسجم مع دليل الإباحة الدالّ على جواز ترك إكرام العالم مطلقا حتّى العادل.

وبما أنّه لا تعارض بينهما فلا معنى للجمع العرفي ؛ لأنّ الجمع بعد فرض وجود تعارض ولو بنحو غير مستقرّ بين الدليلين ، فلا معنى للتقديم بلحاظ الأخصّيّة والأضيقيّة لإمكان الأخذ بالدليلين معا من دون محذور أصلا.

وحينئذ لا معنى لحمل الأمر على الوجوب وكون دليل الإباحة مختصّا بالعالم غير العادل ، بل يتعيّن بناء على مسلك الميرزا المذكور أن يكون دليل الترخيص العامّ رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال والوجوب ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك يكون الوجوب من أحكام العقل القائل بأنّه إذا صدر طلب من المولى ولم يقترن بالترخيص فهو يدلّ على الوجوب.

فحكم العقل بالوجوب معلّق إذا على عدم ورود الترخيص من المولى ، فإذا ورد ترخيص من المولى كان حكم العقل منتفيا بانتفاء موضوعه ، وهنا العامّ ترخيص وارد وصادر من المولى ومقترن بدليل الأمر ، وهذا يعني ارتفاع موضوع حكم العقل المعلّق على عدم ورود الترخيص ؛ لأنّ الترخيص ثابت.

وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن الوجوب والحكم بالاستحباب لتماميّة موضوعه ؛ لأنّ العقل يحكم بالاستحباب في كلّ مورد صدر فيه طلب واقترن الترخيص ، وهذا طلب وأمر مقترن بالترخيص وهو العامّ فيحمل الأمر على الاستحباب بناء على مسلك الميرزا.

مع أنّ بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على تخصيص العامّ في مثل ذلك والالتزام بالوجوب.

وهذا اللازم المذكور مخالف لبناء الفقهاء ومخالف للارتكاز العرفي وبناء العقلاء في محاوراتهم وأحكامهم التشريعيّة ، فإنّهم يحكمون في مثل هذا المورد بتخصيص

ص: 360

العامّ بهذا الأمر المقيّد ، فيكون الأمر دالاّ على الوجوب في ( العالم العادل ) ، بينما العامّ دالّ على الإباحة والترخيص وجواز الترك في ( العالم غير العادل ) ، بل إنّ الميرزا نفسه لا يلتزم بالنتيجة المبتنية على مسلكه ، وهذا منبّه على أنّ أصل المبنى المذكور غير صحيح ؛ لأنّه يكفي في إبطال الموجبة الكلّيّة السالبة الجزئيّة كما هو في المنطق.

وثالثا : أنّه قد فرض أنّ العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلّقا على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وحينئذ نتساءل : هل يراد بذلك كونه معلّقا على عدم اتّصال الترخيص بالأمر ، أو على عدم صدور الترخيص من المولى واقعا ولو بصورة منفصلة عن الأمر ، أو على عدم إحراز الترخيص ويقين المكلّف به؟ والكلّ لا يمكن الالتزام به.

وثالثا : أنّ هذا المسلك قد فرض أنّ العقل يحكم بالوجوب فيما إذا كان هناك طلب ولم يقترن بالترخيص ، فحكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص ، وهذا يعني أنّه إذا ورد ترخيص يرتفع حكم العقل بالوجوب لارتفاع موضوعه أو لارتفاع شرطه وقيده ؛ لأنّ الطلب ثابت ولكن الترخيص شرط فيه قد يرد وقد لا يرد.

فهنا إذا ورد طلب من المولى واحتملنا ورود الترخيص بمعنى أنّنا لم نعلم بعدم ورود الترخيص بل يمكن وجوده ويمكن ألاّ يكون موجودا.

وبتعبير آخر احتملنا صدور الترخيص المنفصل من الشارع ولكنّه لم يصل إلينا نتيجة لبعض الظروف والملابسات ، فهنا هل يمكننا إثبات الوجوب أو لا؟

أمّا بناء على المشهور القائل بأنّ الأمر مادّة وهيئة موضوع للوجوب فيمكننا ذلك ، ويؤيّده البناء العقلائي والارتكاز الفقهي. فإنّ العقلاء والفقهاء لا يعتنون بمثل هذا الاحتمال ، بل يبنون على عدمه.

وأمّا بناء على مسلك الميرزا فإنّ الاحتمال المذكور سوف يسبّب لنا الشكّ في أصل الدلالة على الوجوب ؛ لأنّ هذا الترخيص المحتمل إذا كان صادرا فعلا فلا يحكم العقل بالوجوب ، وإن لم يكن صادرا فيحكم بالوجوب ، فنشكّ في أصل تحقّق حكم العقل بالوجوب وعدمه ؛ وذلك لأجل الشكّ في تحقّق موضوع حكم العقل وعدم تحقّقه. ولذلك لا بدّ أن نطرح هذا التساؤل وهو : أنّ عدم ورود الترخيص الذي أخذ قيدا وشرطا في حكم العقل ما ذا يراد به؟

ص: 361

وللإجابة على ذلك توجد ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المقصود أنّ حكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص المتّصل بالأمر والطلب ، فإذا ورد ( أكرم العالم ) ولم يكن معه ترخيص متّصل به حكم العقل بوجوب الإكرام ، وأمّا إذا اقترن معه ترخيص كأن ورد ( أكرم العالم إن شئت ) فلا يحكم العقل بالوجوب.

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود أنّ حكم العقل معلّق على عدم صدور الترخيص واقعا ، سواء كان متّصلا بالأمر أو منفصلا عنه ، فإذا ورد ( أكرم العالم ) ولم يصدر من الشارع ترخيص واقعي أصلا سواء كان الترخيص المفروض صدوره متّصلا أو منفصلا فيحكم العقل بالوجوب.

وأمّا إذا ورد الترخيص وصدر من الشارع واقعا سواء كان متّصلا بالخطاب أم منفصلا فلا يحكم العقل بالوجوب.

وهذا يعني أنّه يكفي صدور الترخيص واقعا من الشارع ، سواء وصل إلى المكلّف أو أنّ المكلّف علم بصدور الترخيص ولكنّه لم يصل إليه لأسباب عامّة أو خاصّة.

الاحتمال الثالث : أن يكون المقصود من عدم صدور الترخيص أو من كون حكم العقل معلّقا على عدم الترخيص ، ألاّ يحرز المكلّف الترخيص ولا يعلم به ، بمعنى أنّ المكلّف إذا لم يحرز الترخيص ولم يعلم به فالعقل يحكم بالوجوب ، سواء كان في الواقع ترخيص صادر أو لم يكن هناك ترخيص أصلا ، فالمدار على علم المكلّف وإحرازه للترخيص وعدم ذلك.

وهذه الاحتمالات الثلاثة لا يمكن الالتزام بها ، فلا يكون هناك معنى محصّل لعدم الترخيص المأخوذ في حكم العقل.

أمّا الأوّل فلأنّه يعني أنّ الأمر إذا ورد ولم يتّصل به ترخيص تمّ بذلك موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهذا يستلزم كون الترخيص المنفصل منافيا لحكم العقل باللزوم فيمتنع ، وهذا اللازم واضح البطلان.

أمّا الاحتمال الأوّل : بأن يكون المقصود عدم الترخيص المتّصل ، فهو يستلزم نتيجة لا يمكن الالتزام بها فقهيّا. وتوضيح ذلك : أنّه إذا ورد أمر ولم يتّصل به ترخيص متّصل من قبيل ( أكرم العالم ) فهنا يتمّ موضوع حكم العقل وشرطه فيحكم

ص: 362

بالوجوب ؛ لأنّه أمر ولم يتّصل به ترخيص ، فإذا جاء بعد ذلك ترخيص منفصل من قبيل ( لا يجب إكرام العلماء ) أو ( يجوز ترك إكرام العلماء ) فهنا سوف يقع التنافي بين حكم العقل بالوجوب وبين هذا الدليل الشرعي الدالّ على الترخيص والإباحة.

فإنّ العقل يحكم بالوجوب وينفي كلّ ما عداه ، بينما الدليل المنفصل يدلّ على الترخيص وينفي كلّ ما عداه ، إلا أنّه من الواضح أنّ حكم العقل إذا تمّ موضوعه فهو حكم قطعي ؛ لأنّ موضوعات الأحكام العقليّة بمثابة العلل ، فإذا تمّ الموضوع فالعلّة موجودة فلا بدّ من ترتّب المعلول عليها وهو الوجوب ، ويستحيل الحكم بالترخيص.

فيكون هذا الدليل المنفصل غير صادر من الشارع أصلا إن كان ظنّي السند. وأمّا إن كان قطعي السند فلا بدّ من تأويله بحيث ينجسم مع حكم العقل القطعي ، وهذا معناه أنّه يمتنع الأخذ بهذا الدليل المنفصل الدالّ على الترخيص ؛ لأنّه مناف مع حكم العقل القطعي.

وهذه النتيجة لا يقول بها أحد حتّى الميرزا نفسه ؛ لأنّ الفقهاء وغيرهم يلتزمون بالقرائن المنفصلة وكونها قرينة على تحديد المراد من الكلام الصادر من المتكلّم ، ومفسّرة للمراد الجدّي من كلامه السابق ، بل إنّ القرائن المنفصلة واعتماد الشارع عليها كثيرة جدّا حتّى قيل : إنّه ( ما من عامّ إلا وقد خصّ ) فوجود المخصص المنفصل إذا دليل وكاشف على أنّ حكم العقل بالوجوب بالنحو المذكور غير صحيح ؛ لأنّ الشارع لا يصدر منه ما يخالف الحكم القطعي للعقل.

وأمّا الثاني فلأنّه يستلزم عدم إحراز الوجوب عند الشكّ في الترخيص المنفصل واحتمال وروده ؛ لأنّ الوجوب من نتائج حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهو معلّق بحسب الفرض على عدم ورود الترخيص ولو منفصلا ، فمع الشكّ في ذلك يشكّ في الوجوب.

وأمّا الاحتمال الثاني بأن يكون عدم الترخيص هو عدم الترخيص واقعا سواء المتّصل أو المنفصل ، فيلزم منه الإهمال والإجمال ، وذلك فيما إذا ورد أمر ( أكرم العالم ) واحتمل صدور الترخيص ولو منفصلا ، لكنّه لم يصل إلى المكلّف لظروف وأسباب كنسيان الراوي لما ذكره الإمام مثلا ، أو لضياعه مع الإشارة إلى ذلك ، فهناك أمر صادر وهناك ترخيص مشكوك ، ولكن يحتمل كونه صادرا أيضا.

ص: 363

وهذا يعني أنّ موضوع حكم العقل بالوجوب غير تامّ ؛ لأنّ الموضوع مركّب من صدور أمر وعدم صدور الترخيص ، فصدور الأمر متحقّق ولكن عدم صدور الترخيص مشكوك ، فلا يتمّ حكم العقل بالوجوب ؛ لأنّ الشكّ في صدور الترخيص وعدمه معناه الشكّ في الوجوب وعدمه ؛ لأنّ الوجوب معلّق فمع الشكّ في قيده وشرطه سوف يشكّ بالوجوب.

وحينئذ لا يحكم العقل بالوجوب ؛ لأنّ عدم الترخيص غير متحقّق ، ولا يحكم بالاستحباب ؛ لأنّ الترخيص أيضا غير متحقّق. وهذا يعني أنّ هذا الأمر ليس وجوبا وليس استحبابا.

وهذه نتيجة لا يلتزم بها أحد ، وإلا لكانت كلّ الأوامر الصادرة من الشارع مع احتمال وجود الترخيص مبتلية بالإجمال والإهمال ، وهذا يؤدّي إلى التعطيل في الأحكام وهو واضح البطلان.

وأمّا الثالث فهو خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في الوجوب الواقعي الذي يشترك فيه الجاهل والعالم ، لا في المنجّزيّة.

وأمّا الاحتمال الثالث بأن يكون حكم العقل معلّقا على عدم إحراز الترخيص وعدم علم المكلّف بالترخيص ، فهو خروج عن محلّ الكلام.

وتوضيحه : أنّ فرض كون حكم العقل معلّقا على عدم إحراز الترخيص أو على عدم علم المكلّف بالترخيص ، معناه أنّ المكلّف إذا أحرز وعلم بالترخيص فالعقل يحكم بالاستحباب ، وإذا أحرز وعلم بعدم الترخيص فالعقل يحكم بالوجوب ، وهذا معناه أنّ الوجوب يدور مدار العلم وإحراز عدم الترخيص وعدم ذلك.

وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في الوجوب الواقعي الثابت واقعا سواء علم به المكلّف أم لا ؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة يشترك فيها العالم والجاهل وليست مختصّة بالعالم دون الجاهل.

وأمّا الوجوب الظاهري فهو ثابت على العالم دون الجاهل ، بمعنى أنّ منجّزيّة الوجوب وكونه فعليّا بحقّ المكلّف فرع علم المكلّف به وإحرازه ، فإذا علم به وأحرزه فهو فعلي بحقّه ، وإذا جهله فهو ليس فعليّا في حقّه مع كون الوجوب ثابتا واقعا بحقّه ولكنّه معذور بسبب جهله.

ص: 364

وبعبارة أخرى : أنّ الوجوب الواقعي الذي هو محلّ الكلام لا يمكن إناطته وتعليقه على العلم والإحراز ، أو على عدم العلم والاحراز ؛ لأنّ قاعدة الاشتراك تثبت أنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة مطلقا سواء علم بها أم لا.

نعم ، المنجّزيّة والتي هي بمرتبة الوجوب الظاهري تكون منوطة ومعلّقة بالعلم وعدمه ، بمعنى أنّه إذا علم بالوجوب يتنجّز عليه ، وإذا جهله فلا يتنجّز عليه. والمنجّزيّة وعدمها من الأحكام الظاهريّة لا الواقعيّة ، ولذلك لا مانع من اختصاصها بالعالم دون الجاهل.

إذا تعليق الوجوب على الإحراز أو العلم بعدم الترخيص معناه أنّ الوجوب هنا وجوب ظاهري ، أي كونه منجّزا أو ليس بمنجّز. وهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّنا نتكلّم عن الوجوب الواقعي الثابت مطلقا ، سواء علم به أم لا.

ولو سلّم فبالإمكان إحراز الترخيص بعد صدور الأمر بأدلّة الأصول المؤمّنة. وهذا يعني أنّه لا وجوب مطلقا أو غالبا. وهذا لا يقوله أحد (1).

ص: 365


1- يضاف إلى هذه الردود بعض النقوض الأخرى من قبيل : 1 - إذا ورد أمر وحكم العقل بالوجوب ؛ لأنّه لم يقترن بالترخيص ، ثمّ بعد ذلك نسخ هذا الوجوب ، فبناء على هذا المسلك يلزم أو يحكم العقل بالاستحباب ؛ لأنّ الأمر دالّ على الطلب والدليل الناسخ رفع الوجوب فيتعيّن الاستحباب ، بينما المشهور عندهم هو الحكم بالجواز فقط. 2 - إذا ورد أمر عقيب توهّم الخطر ، فبناء على هذا المسلك ينبغي الحكم بالوجوب ؛ لأنّه أمر لم يقترن بالترخيص ، مع أنّ المشهور أنّه يدلّ على الجواز والإباحة ، بل لا يلتزم أحد حتّى الميرزا بكونه وجوبا ؛ لأنّ توهّم الحظر قرينة غير لفظيّة على عدم إرادة الوجوب. ولذلك لعلّ الميرزا يبرّر عدم دلالته على الوجوب باعتبار أنّ توهّم الحظر بنفسه قرينة ولو غير لفظيّة على الترخيص ، فيكون دالاّ على مسلكه على الاستحباب ، وهو أيضا خلاف البناء الفقهي. 3 - إذا ورد أمر واحد له متعلّقات متعدّدة علم بعدم إرادة الوجوب من بعضها كما إذا قيل : ( اغتسل للجمعة وللعيدين وللجنابة ) فبناء على مسلك الميرزا سوف لا تسلّم دلالة الأمر على الوجوب ، حتّى لو علم بعدم إرادته من بعضها لقيام الدليل الخاصّ على الترخيص ، مع أنّ المشهور هو انثلام هذه الدلالة على الوجوب ؛ لأنّ معناه أنّ ( اغتسل ) تكون دالّة على الوجوب وعلى الاستحباب معا ، وهو غير صحيح.

القول الثالث : أنّ دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق وقرينة الحكمة. وتقريب ذلك بوجوه :

القول الثالث : أنّ دلالة الأمر مادّة وهيئة على الوجوب ليست بالدلالة الوضعيّة كما هو المشهور ، وليست بحكم العقل كما هو مسلك الميرزا ، وإنّما الأمر يدلّ على الوجوب بالإطلاق وقرينة الحكمة ، والتي هي دلالة عامّة نوعيّة ، وتقريب الاستدلال بقرينة الحكمة من وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّ الأمر يدلّ على ذات الإرادة ، وهي تارة شديدة كما في الواجبات ، وأخرى ضعيفة كما في المستحبّات. وحيث إنّ شدّة الشيء من سنخه بخلاف ضعفه فتتعيّن بالإطلاق الإرادة الشديدة.

التقريب الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ الأمر بمادّته يدلّ على صرف الطلب وبصيغته على النسبة الإرساليّة بين الفاعل والمبدأ ، وحيث إنّ الطلب والإرادة متّحدان فالأمر بمادّته يدلّ على مفهوم الإرادة الصرفة ، وبصيغته يدلّ على الإرادة أيضا بتوسّط النسبة الإرساليّة حيث إنّه يستبطن الطلب.

وحينئذ فالأمر بمادّته وصيغته يدلّ على الطلب والإرادة المحضة الصرفة. وهذه الإرادة تارة تكون شديدة كما في الواجبات ، وأخرى تكون ضعيفة كما في المستحبّات. وهذا يعني أنّ الوجوب هو الإرادة الشديدة بينما الاستحباب هو الإرادة الضعيفة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ شدّة الشيء من سنخ الشيء ، فالإرادة الشديدة من سنخ الإرادة ؛ وذلك لأنّ الإرادة الوجوبيّة الشديدة هي الإرادة التامّة التي لا نقصان فيها ولا ضعف ، فلا يحتاج في بيان الإرادة الشديدة إلا إلى بيان الإرادة ، وهذا ما يتكفّل به لفظ الأمر بمادّته أو هيئته.

فالإرادة الشديدة إرادة بخلاف ضعف الشيء فإنّه ليس من سنخه ، فالإرادة الضعيفة ليست من سنخ الإرادة ؛ وذلك لأنّها تحتاج إلى مئونة زائدة وهي بيان النقص والضعف في الإرادة. فإنّ ضعف الإرادة ونقصها ليس إرادة ، فالإرادة الاستحبابيّة لا يكفي فيها بيان الإرادة باللفظ ، بل لا بدّ من بيان ما يدلّ على الضعف والنقصان.

والنتيجة هي : أنّه بالإطلاق وقرينة الحكمة تتعيّن الإرادة الشديدة ، أي الإرادة

ص: 366

الوجوبيّة ؛ وذلك لأنّها ليس فيها مئونة زائدة بخلاف الإرادة الاستحبابيّة ففيها مئونة زائدة ، فتنفى بالإطلاق ويتعيّن ما لا مئونة زائدة فيه. والوجه في ذلك :

لأنّها لا تزيد على الإرادة بشيء فلا يحتاج حدّها إلى بيان زائد على بيان المحدود ، بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدّها عن حقيقة الإرادة.

إنّ الإرادة الشديدة حدّها وتعريفها هو نفسه تعريف الإرادة والطلب ؛ لأنّ الوجوب والإرادة الشديدة من سنخ الإرادة كما تقدّم ، فحدّهما واحد وهو الطلب الذي هو السعي نحو المقصود ، بشكل يحافظ فيه على المبادئ والداعي ويمنع من تخلّفها.

فالوجوب حدّه الإرادة والطلب بنحو يمنع من التخلّف والترك ، وهذا الحدّ الوجوبي ليس شيئا زائدا عن حقيقة الإرادة والطلب ؛ لأنّ إرادة شيء تمنع من تركه والتخلّف عنه ، ولذلك لا يحتاج هذا الحدّ إلى بيان زائد عن بيان أصل الإرادة ، فيكون اللفظ الدالّ على الإرادة هو بنفسه دالاّ على هذا الحدّ أيضا.

وأمّا الإرادة الضعيفة فحدّها وتعريفها يختلف عن حدّ الإرادة والطلب ؛ لأنّ ضعف الشيء ليس من سنخه ، بل يحتاج إلى شيء آخر يدلّ عليه ، فتعريف وحدّ الإرادة الضعيفة هو الإرادة والطلب مع الترخيص في تركه ومخالفته.

وهذا يختلف عن تعريف وحدّ الإرادة والإرادة الشديدة ؛ لأنّ حدّهما هو الطلب مع المنع من التخلّف والترك. ولذلك كان حدّ الإرادة الضعيفة يحتاج إلى بيان زائد على أصل وحقيقة المحدود ، وهذا البيان الزائد لا بدّ من دليل يدلّ عليه ، ولا يكفي ذكر ما يدلّ على أصل الإرادة والطلب فقط.

وحينئذ نقول : إنّه إذا ورد أمر ( أكرم العالم ) ولم يذكر فيه ما يدلّ على الحدّ الزائد للإرادة الضعيفة تعيّن كون المراد من الإرادة والطلب في صيغة الأمر هنا هو الإرادة الشديدة ؛ لأنّه يكفي في بيان حدّها ذكر المحدود ، أي الإرادة فقط ؛ لأنّ الحدّ في الإرادة الضعيفة أمر وجودي وهو ذكر الترخيص ، بينما الحدّ في الإرادة الشديدة أمر عدمي وهو عدم التخلّف والمنع من الترك ، والأمر العدمي يكفي السكوت عنه بخلاف الأمر الوجودي. فبالإطلاق وقرينة الحكمة تتعيّن الإرادة الشديدة وهي الإرادة الوجوبيّة.

ص: 367

فلو كانت هي المعبّر عنها بالأمر لكان اللازم نصب القرينة على حدّها الزائد ؛ لأنّ الأمر لا يدل إلا على ذات الإرادة.

وأمّا لو قال : ( أكرم العالم ) وقصد من ذلك الإرادة الضعيفة والاستحباب لكان يجب أن ينصب قرينة تدلّ على ذلك ؛ لأنّنا قلنا : إنّ الإرادة الضعيفة تحتاج إلى بيان زائد عن أصل الإرادة ، ولا يكفي بيان الإرادة فقط ؛ لأنّ حدّها ليس من سنخ حد الإرادة الضعيفة ، فالأمر الموجود في الجملة لا يدلّ إلا على الإرادة المحضة ، أي ذات الإرادة فقط.

وأمّا الإرادة الاستحبابيّة الضعيفة فهي تحتاج إلى بيان زائد عن حدّ الإرادة ؛ لأنّهما سنخان مختلفان وحدّهما يختلف ؛ لأنّ حدّ الإرادة الضعيفة أمر وجودي فتكون إرادة الاستحباب من لفظ الأمر مع عدم نصب ما يدلّ على هذا الحدّ الزائد على خلاف المتعارف عند أهل المحاورة والعرف.

بينما لو كان يريد الإرادة الوجوبيّة الشديدة لكان هذا الكلام كافيا ؛ لأنّ حدّها من سنخ حدّ الإرادة ولا يحتاج إلى بيان زائد عن أصل بيان الإرادة ؛ لأنّهما شيء وسنخ واحد. فبيان أحدهما بيان للآخر أيضا ، فبالإطلاق وقرينة الحكمة ينتفي ما يدلّ على الإرادة الضعيفة ويتعيّن ما يدلّ على الإرادة الشديدة.

وقد أجيب (1) على ذلك : بأنّ اختلاف حال الحدّين أمر عقلي بالغ الدقّة وليس عرفيّا ، فلا يكون مؤثّرا في إثبات إطلاق عرفي يعيّن أحد الحدّين.

أمّا ما ذكره من بيان فهو فنّي ومقتضى الصناعة ، إلا أنّ إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المقام غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما تجري فيما إذا فرض لفظ موضوع لمعنى قابل للإطلاق وقابل للتقييد ، فإنّه إذا لم يذكر ما يدلّ على التقييد كان ذلك كافيا لاستفادة الإطلاق ؛ لأنّ إرادة التقييد مع عدم ذكر ما يدلّ عليه على خلاف أهل المحاورة والبناء العقلائي.

فقرينة الحكمة تعتمد على ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي من كلامه ، فلو كان يريد التقييد لكان ذكر ما يدلّ عليه ، فما دام لم يذكر ما يدلّ عليه فهو لا يريده كما هو مقتضى المحاورات العرفيّة.

ص: 368


1- نهاية الدراية 1 : 319.

وفي مقامنا وإن كان يوجد لفظ موضوع لمعنى يقبل التقييد والإطلاق - لأنّ لفظ الأمر مادّة وهيئة يدلّ على الطلب والإرادة وهي تنقسم إلى الإرادة الشديدة الوجوبيّة وإلى الإرادة الضعيفة الاستحبابيّة - إلا أنّ اختلاف الحدّين والتعريفين ليس من الأمور التي يلتفت إليها العرف ويدركها ، بل اختلاف الحدّين من الأمور العقليّة البالغة الدقّة التي لا تدرك إلا بالتحليل والتدقيق ؛ لأنّ كون الإرادة الشديدة الوجوبيّة من سنخ الإرادة ، وكون الإرادة الضعيفة الاستحبابيّة ليست من سنخها لا يمكن فهمها عرفا ، بل تحتاج إلى التأمّل والتدقيق العقلي البالغ.

وهذا معناه أنّ العرف لا يرى فرقا بين الوجوب والاستحباب في كونهما إرادة ؛ لأنّ فارق الوجوب عن الاستحباب أمر عقلي بالغ الدقّة ، فهو ليس موجودا بنظر العرف والبناء العقلائي ، ولذلك كان لا بدّ من دليل على إرادة الوجوب ، كما أنّه لا بدّ من دليل على إرادة الاستحباب عند العرف.

ثمّ لو سلّمنا بكون الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد ، فمع ذلك نقول : إنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات الوجوب ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة كما قلنا ظهور عرفي سياقي لحال المتكلّم ، والوجوب والاستحباب بهذين الحدّين ليسا من الظهورات العرفيّة ، بل هما من التحليلات العقليّة. فلا يؤثّر هذا الإطلاق في تعيين أحدهما ونفي الآخر ؛ وذلك لأنّ المرتكز المبني عليه الإطلاق هو العرف بينما الكلام هنا في الأمور العقليّة الدقيقة جدّا (1).

ص: 369


1- والمحقّق العراقي كأنّه التفت إلى هذا الإشكال : فأجاب عنه بأنّ هذين الحدّين وإن كانا من الأمور العقليّة إلا أنّهما مرتكزان عند العرف ، بحيث إنّ العقلاء لو التفتوا إلى ذلك لم ينكروا ، فهما من المرتكزات العقلائيّة التي تحتاج إلى التحليل والدقّة ليتمّ الالتفات ، ولكن الغفلة عنهما وعدم الالتفات الفعلي إليهما لا يضرّ في تعقّل العرف والعقلاء لهما لو التفتوا إليهما. وجوابه : أنّ العرف لا يلتفت إلى هذا الفارق ولو إجمالا وارتكازا ، بل هذا الفارق يحتاج إلى الخواصّ من أهل التدقيق والتحقيق. فحال الحدّين لا يدركهما حتى بعد التحليل إلا القليل من العلماء ، فهما ليسا من الأمور العرفيّة ولو ارتكازا. وبالجملة يضاف إلى ذلك : أنّ مفهوم الإرادة كلّي مشكّك لا ينطبق على أفراده بالتساوي ، بل بالتفاوت. وهذا يعني أنّ الوجوب والاستحباب أي الإرادة الشديدة والإرادة الضعيفة .. ... فردان من أفراد الإرادة ويدلّ عليه صحّة الحمل وعدم صحّة السلب ، فيحتاج كلّ منهما إلى دليل زائد عن الإرادة. بل لو كانت الإرادة المحضة والإرادة الشديدة متسانختين بينما الإرادة الضعيفة ليست إرادة لأنّها ليست من سنخها ، للزم المجاز في الصيغة والمادّة عند إرادة الاستحباب ؛ لأنّ الصيغة موضوعة للطلب وهو متّحد مع الإرادة وهي تدلّ على الإرادة الشديدة التي هي حدّ الوجوب. فالنتيجة : هي أنّ الصيغة تدلّ على الوجوب وضعا فيكون استعمالها في الاستحباب مجازا ؛ لأنّه استعمال في غير ما وضع له. وهذا لا يمكن قبوله عرفا.

ثانيها : وهو مركّب من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : أنّ الوجوب ليس عبارة عن مجرّد طلب الفعل ؛ لأنّ ذلك ثابت في المستحبّات أيضا ، فلا بدّ من فرض عناية زائدة بها يكون الطلب وجوبا.

التقريب الثاني : أنّ الأمر مادّة وهيئة كما تقدّم يدلّ على الطلب ، والطلب كما يتناسب مع الوجوب يتناسب مع الاستحباب أيضا. فالوجوب إذا ليس مجرّد طلب الفعل ؛ لأنّ طلب الفعل موجود في المستحبّات أيضا ، وهذا يعني أنّ الطلب حيثيّة مشتركة بينهما.

فلا بدّ إذا من فرض خصوصيّة وعناية زائدة يتميّز بها كلّ واحد منهما عن الآخر ، وعلى أساس تلك الخصوصيّة والعناية وبضمّها إلى الطلب يكون هناك وجوب واستحباب. هذا أوّلا.

وليست هذه العناية عبارة عن انضمام النهي والمنع عن الترك إلى طلب الفعل ؛ لأنّ النهي عن شيء ثابت في باب المكروهات أيضا.

الأمر الثاني : أنّ هذه العناية والخصوصيّة التي يتميّز بها الوجوب عن الاستحباب ليست هي النهي والمنع عن الترك منضمّا إلى الطلب ، بأن يقال : إنّ الوجوب هو طلب الفعل مع النهي عن تركه ؛ وذلك لأنّ النهي عن شيء ثابت في باب المكروهات أيضا ، فكيف ينشأ الوجوب من هذه الخصوصيّة النهي عن الترك مع أنّ هذه الخصوصيّة موجودة في المكروه؟

فإنّ هذه الخصوصيّة إن كانت مفيدة للّزوم لكان المكروه لازما أيضا ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ المكروه يجوز فعله ويجوز تركه أيضا. ولا يمكن لهذه

ص: 370

الخصوصيّة أن تفيد اللزوم هنا ولا تفيده هناك ؛ إذ هو ترجيح بلا مرجّح.

فلا بدّ من القول : إنّها ليست الخصوصيّة والعناية التي يحتاجها الوجوب زائدا على الطلب. مضافا إلى أنّه يلزم أن يكون الوجوب قد عرّف بجنسين لا بجنس وفصل ، وهو باطل.

وإنّما هي عدم ورود الترخيص في الترك ؛ لأنّ هذا الأمر العدمي هو الذي يميّز الوجوب عن باب المستحبّات والمكروهات.

الأمر الثالث : أنّ هذه الخصوصيّة والعناية التي بها يتحقّق الوجوب ويتميّز عن غيره من الأحكام ، إنّما هي عدم ورود الترخيص في الترك. فيكون الوجوب هو طلب الفعل مع عدم الترخيص في تركه ، وهذه الخصوصية أمر عدمي لا تحتاج إلى بيان زائد ؛ إذ يكفي فيها عدم ورود

الترخيص فيكفي السكوت عن الترخيص ليتحقّق عدمه.

وبهذا يتميّز الوجوب عن الاستحباب وعن المكروه وعن المحرّم ؛ لأنّ المكروه والمحرّم فيهما نهي عن الفعل ، والوجوب فيه طلب الفعل فحصل التغاير. والاستحباب فيه ترخيص في الترك مع طلب الفعل ، بينما الوجوب ليس فيه ترخيص بالترك.

ونتيجة ذلك : أنّ المميّز للوجوب أمر عدمي وهو عدم الترخيص في الترك ، فيكون مركّبا من أمر وجودي وهو طلب الفعل وأمر عدمي وهو عدم الترخيص في الترك. والمميّز للاستحباب أمر وجودي وهو الترخيص في الترك فيكون مركّبا من أمرين وجوديّين.

والنتيجة في هذه المقدّمة الأولى : أنّ المميّز للوجوب عن غيره هو هذه الخصوصيّة والتي هي أمر عدمي ، أي عدم الترخيص في الترك ، فيكون الوجوب مركّبا من شيئين :

أحدهما طلب الفعل والآخر عدم الترخيص في الترك.

وهذا يعنى أنّه مركّب من أمر وجودي وأمر عدمي والأمر العدمي هو الخصوصيّة المميّزة له عن غيره. بينما الاستحباب يتركّب من شيئين : أحدهما طلب الفعل والآخر الترخيص في الترك ، فيكون الاستحباب مركّبا من أمرين وجوديّين.

وهذا يعني أنّ المميّز للاستحباب عن غيره هو خصوصيّة وصفة وجوديّة لا عدميّة كما في الوجوب.

ص: 371

المقدّمة الثانية : أنّه كلّما كان الكلام وافيا بحيثيّة مشتركة ويتردّد أمرها بين حقيقتين : المميّز لإحداهما أمر عدمي والمميّز للأخرى أمر وجودي ، تعيّن بالإطلاق الحمل على الأوّل ؛ لأنّ الأمر العدمي أسهل مئونة من الأمر الوجودي.

المقدّمة الثانية وهي إثبات كبرى كلّيّة مفادها : أنّه إذا كان هناك أمران مشتركان في حيثيّة واحدة تكون جامعا بينهما ، وكان أحدهما يتميّز عن الآخر بحيثيّة وخصوصيّة عدميّة بينما الآخر يتميّز عن الأوّل بحيثيّة وخصوصيّة وجوديّة ، كان مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة هو حمل ما يدلّ على الحيثيّة المشتركة من دون ذكر قيد وخصوصيّة زائدة عليها أن تحمل هذه الحيثيّة على ذاك الأمر الذي يتميّز بالحيثيّة والخصوصيّة العدميّة ، لا على الأمر الذي تميّز بالخصوصيّة والحيثيّة الوجوديّة ؛ وذلك لأنّ الأمر العدمي أسهل مئونة من الأمر الوجودي.

فإنّهما وإن كانا ذات مئونة زائدة عن تلك الحيثيّة المشتركة بينهما إلا أنّ الحيثيّة الدالّة على الأمر العدمي يكفي في الدلالة عليها السكوت وعدم الإتيان بما يدلّ على الخصوصيّة العدميّة ، بينما الحيثيّة الدالّة على الأمر الوجودي لا يكفي فيها السكوت ، بل لا بدّ من التصريح بهذه الخصوصيّة الوجوديّة ، ولذلك كان الأمر العدمي أسهل مئونة من الأمر الوجودي.

فإذا كان المقصود ما يتميّز بالأمر الوجودي مع أنّه لم يذكر الأمر الوجودي ، فهذا خرق عرفي واضح ؛ لظهور حال المتكلّم في بيان تمام المراد بالكلام.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر الوجودي الذي يتميّز عن الأمر العدمي بخصوصيّة وحيثيّة وجوديّة إذا كان مقصودا من الكلام ولم يذكر المتكلّم هذه الخصوصيّة الوجوديّة الدالّة عليه فيكون بذلك خارقا لما هو المتعارف في مقام التخاطب والمحاورات ؛ لأنّ العرف يرى أنّ المتكلّم إذا كان في مقام المحاورة والتخاطب أو التشريع فهو يبيّن كلّ ما يكون له مدخليّة في مراده الجدّي بهذا الكلام ، فإن كان يريد المقيّد لزم ذكر ما يدلّ على القيد وإن كان يريد أمرا وجوديّا ، فلا بدّ أن يذكر هذه الخصوصيّة الوجوديّة التي يتميّز بها ، وإلا لكان بذلك خارجا عن أساليب المحاورات والخطابات العرفيّة.

وخرقه هذا يكون بمثابة من الوضوح بحيث لا يمكن للعرف أن يغضّ النظر عن هذه المخالفة ؛ لأنّه أراد المقيّد بالأمر الوجودي ، ومع ذلك لم يذكر هذا الأمر

ص: 372

الوجودي ، فهذا الخرق لا يتسامح به العرف ، بل يراه مستهجنا ؛ لأنّ طرق بيان الأمر الوجودي منحصرة في ذكره والدلالة عليه بالقرينة ، ومخالفته تكون واضحة جدّا.

وأمّا إذا كان المقصود ما يتميّز بالأمر العدمي فهو ليس خرقا لهذا الظهور بتلك المثابة عرفا ؛ لأنّ المميّز حينما يكون أمرا عدميّا كأنّه لا يزيد على الحيثيّة المشتركة التي يفي بها الكلام.

وأمّا الأمر العدمي الذي يتميّز بخصوصيّة وحيثيّة عدميّة فإذا كان هو المقصود من الكلام ، ولم يذكر المتكلّم ما يدلّ على هذه الخصوصيّة العدميّة ، كان أيضا خارقا لهذا الظهور العرفي لحال المتكلّم في أنّه في مقام البيان لتمام مدلوله الجدّي بهذا الكلام ، مع أنّه لم يبيّن هذه الخصوصيّة العدميّة الدخيلة في المراد.

إلا أنّ العرف يرى أنّ هذا الخرق والخروج عمّا هو متعارف في أساليب الكلام والمحاورات يمكن غضّ النظر عنه والمسامحة فيه ؛ وذلك لأنّ هذا الأمر العدمي لمّا كان يتميّز بخصوصيّة عدميّة ، فكأنّه لا يزيد عن تلك الحيثيّة المشتركة. فإذا كان الكلام وافيا في الدلالة على تلك الحيثيّة المشتركة ، وكان مقصود المتكلّم هو الأمر العدمي المتميّز بخصوصيّة عدميّة ولم يذكر ما يدلّ عليها ، لم يكن بنظرهم التسامحي خارقا للظهور العرفي ؛ لأنّهم ينزّلون هذا الأمر العدمي منزلة الحيثيّة المشتركة في كون اللفظ كافيا للدلالة عليهما معا ؛ لأنّ الحيثيّة العدميّة المميّزة للأمر العدمي يكفي فيها ولو مسامحة السكوت عنها وعدم ذكر ما يدلّ على الأمر الوجودي ، وحينئذ يكون الدالّ على الحيثيّة المشتركة ، دالاّ أيضا على الأمر العدمي بالنظر العرفي التسامحي.

والحاصل : أنّه يوجد خرق عرفي هنا أيضا ، إلا أنّ هذا الخرق العرفي أخفّ وأقلّ مئونة من الخرق العرفي السابق ؛ لأنّه هنا يوجد طريقان لبيان الأمر العدمي :

الأوّل : أن يذكر ما يدلّ عليه في الكلام بأن يأتي بالقرينة.

الثاني : أن يكفّ ويسكت عن بيان علّة الوجود ؛ لأنّ عدم بيان علّة الوجود هي نفسها علّة العدم أيضا.

وحينئذ يكون من قصد الوجوب من الحيثيّة المشتركة ولم يذكر ما يدلّ على الأمر العدمي خارقا للظهور العرفي بطريقه الأوّل ، لكنّه موافق له بطريقة الثاني ، فالمخالفة أقلّ من المخالفة في الاستحباب.

ص: 373

ولذلك عند ما يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر يتعيّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة الأقلّ ؛ لأنّ الأكثر فيه مئونة زائدة ، والوجه في ذلك أنّ الخصوصيّة العدميّة أقلّ مئونة من الخصوصيّة الوجوديّة ؛ لأنّه يكفي في بيان الخصوصيّة العدميّة مجرّد السكوت عن بيان الأمر الوجودي ولو بالنظر التسامحي العرفي ، بينما لا يكفي بيان الخصوصيّة الوجودية إلا ذكر ما يدلّ عليها في الكلام.

ومقتضى هاتين المقدّمتين تعيّن الوجوب بالإطلاق.

والنتيجة حينئذ : هي أنّ الوجوب يتعيّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وذلك بتطبيق هاتين المقدّمتين على مقامنا.

فنقول : إنّ الأمر بمادّته وهيئته يدلّ على الطلب ، وهو حيثيّة مشتركة بين الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي.

ثمّ إنّ الطلب الوجوبي يتميّز عن الطلب الاستحبابي بخصوصيّة عدميّة وهي عدم الترخيص في الترك.

بينما الطلب الاستحبابي يتميّز عن الطلب الوجوبي بخصوصيّة وجوديّة وهي الترخيص في الترك.

فإذا ورد أمر وتردّد بين الطلب الوجوبي وبين الطلب الاستحبابي تعيّن الطلب الوجوبي ؛ لأنّه كما تقدّم في المقدّمة الثانية أنّ ما يتميّز بخصوصيّة عدميّة أسهل وأخفّ مئونة وأقلّ خرقا للظهور العرفي من المتميّز بخصوصيّة وجوديّة عند عدم ذكر ما يدلّ على الخصوصيّة في كلّ منها ، فيكون مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة حمل الكلام على الأقلّ مئونة والأخفّ خرقا على أساس أنّ العرف يتسامحون في بيان الخصوصيّة العدميّة وينزّلون ما يتميّز بها منزلة الحيثيّة المشتركة ، فما يدلّ عليها يدلّ عليه أيضا مسامحة.

بينما في الخصوصيّة الوجوديّة لا يوجد تسامح عرفي من هذا القبيل ، بل عدم ذكر الخصوصيّة الوجوديّة - مع كونها مقصودة واقعا - مستهجن عرفا.

ويرد عليه : المنع من إطلاق المقدّمة الثانية ، فإنّه ليس كلّ أمر عدمي لا يلحظ أمرا زائدا عرفا ، ولهذا لا يرى في المقام أنّ النسبة عرفا بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقلّ والأكثر ، بل النسبة بين مفهومين متباينين ، فلا موجب لتعيين أحدهما بالإطلاق.

ص: 374

ويرد عليه : أنّ ما ذكر في المقدّمة الثانية ( من أنّ الأمر العدمي بنظر العرف المسامحي لا يلحظ كونه أمرا زائدا عن الحيثيّة المشتركة ، بل كأنّه إذا بيّن ما يدلّ على الحيثيّة المشتركة كان هذا كافيا للدلالة على ما يتميّز بالأمر العدمي كالوجوب ، فكأنّ حدّه لا يزيد عن حدّه ) ، فهذا على إطلاقه وعمومه بنحو القضيّة الكلّيّة ليس صحيحا. وإنّما يصحّ في بعض الأمور العدميّة لا كلّ الأمور العدميّة.

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة بين الأمر الوجودي وبين الأمر العدمي إن كانت نسبة الأقلّ والأكثر تمّت هذه الكبرى كما في موارد الإطلاق والتقييد ، فإنّ الإطلاق عدم لحاظ القيد بينما التقييد هو لحاظ القيد زائدا عن الطبيعة والماهيّة ، فيكون الإطلاق الملحوظ فيه ذات الطبيعة والماهيّة فقط بقطع النظر عن القيود.

بينما التقييد الملحوظ فيه الطبيعة مع القيد فهو أمر زائد يحتاج إلى بيان ودليل عليه بخلاف الإطلاق ، فإنّه يكفي بيان ما يدلّ على ذات الطبيعة والماهيّة. فالإطلاق هو الأقلّ والتقييد هو الأكثر ، فإذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر مع عدم وجود ما يدلّ على الأكثر تعيّن الأقلّ ، ولذلك يتعيّن الأقلّ بالإطلاق هنا ؛ لأنّه عرفا لا يلحظ فيه أمر زائد عن الماهيّة والطبيعة ، فكأنّ حدّها هو حدّه أيضا.

وأمّا إذا كانت النسبة بين الأمرين العدمي والوجودي نسبة التباين الكلّي ، كما في الوجوب والاستحباب فإنّهما أمران وجوديّان متضادّان لا يجتمعان على موضوع واحد من جهة واحدة ، فالعقل يرى أنّ حدّ الوجوب مباين لحدّ الاستحباب ؛ لأنّ الوجوب حدّه عدم الترخيص في الترك ، بينما الاستحباب حدّه الترخيص في الترك ، والترخيص وعدمه متباينان.

وأمّا النظر العرفي المسامحي الذي ينظر إلى المفاهيم بقطع النظر عن حدودها العقليّة الدقيقة فهو يرى أنّ الوجوب والاستحباب كلاهما طلب للفعل ، ولكن الوجوب طلب شديد ، بينما الاستحباب طلب ضعيف. إلا أنّ العرف مع ذلك لا يقول بأنّ النسبة بين الوجوب والاستحباب هي نسبة الأقلّ والأكثر لنطبّق عليهما الكبرى المذكورة في المقدّمة الثانية ؛ لأنّ النسبة ومعرفة حالها من شئون العقل لا العرف ، وقد تقدّم أنّ العقل يرى أنّ النسبة بينهما نسبة التباين.

وحينئذ لا يكون هناك فرق بين حدّ الوجوب وحدّ الاستحباب في لزوم ذكر ما

ص: 375

يدلّ عليه ، فإذا لم يذكره كان خرقا عرفيّا لظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان لتمام مراده الجدّي ، حتّى وإن كان المميّز للوجوب أمرا عدميّا ؛ لأنّ هذا الأمر العدمي يلحظ أمرا زائدا بنظر العرف عن أصل الحيثيّة المشتركة بين المفهومين المتباينين.

وعلى هذا فلا موجب لتعيين أحدهما بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح إذ لا فرق بين المفهومين المتباينين ولا ميزة لأحدهما على الآخر في كون كلّ منهما يتميّز بأمر زائد.

ثالثها : أنّ صيغة الأمر تدلّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ، ولمّا كان الإرسال والدفع مساوقا لسدّ تمام أبواب العدم للتحرّك والاندفاع ، فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول التصديقي أنّ الطلب والحكم المبرز بالصيغة سنخ حكم يشتمل على سدّ تمام أبواب العدم ، وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة.

التقريب الثالث : وهو مؤلّف من عدّة أمور :

الأمر الأوّل : أنّ صيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ؛ وذلك لأنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة فهي تدلّ على النسبة الإرساليّة أو النسبة الدفعيّة أو النسبة الطلبيّة حسب اختلاف التعابير عندهم ، والمقصود هو طلب تحقّق النسبة وإيقاعها من المرسل والمرسل إليه أو من المطلوب والمطلوب منه ، أو من المدفوع به نحو المدفوع إليه.

الأمر الثاني : أنّ الإرسال والطلب والدفع يساوق سدّ تمام أبواب العدم ؛ وذلك لأنّ التحرّك والاندفاع والانبعاث نحو تحقيق المطلوب والمرسل إليه في الخارج لا يتحقّق إلا إذا كانت جميع أبواب عدم التحرّك والاندفاع والإرسال مسدودة بتمامها ؛ لأنّه لو فرض كون باب من أبواب العدم مفتوحا ومرخّصا في دخوله لم يحصل المطلوب ولم يتحقّق الغرض من الإرسال والدفع نحو المراد والمطلوب والمرسل إليه. ولذلك عبّر بالمساوقة ؛ لأنّه لا يوجد مساواة حقيقيّة بينهما ، وإنّما في عالم الصدق الخارجي يكون الإرسال والاندفاع نحو تحقيق المقصود غير ممكن الوقوع والتحقّق إلا إذا كانت أبواب العدم مسدودة ، فتكون مقدّمة له فهي داخلة في أجزاء العلّة بهذا اللحاظ ، بمعنى أنّه يتوقّف عليها تحقّق المقصود في الخارج.

ص: 376

إذا بحسب المدلول التصوّري للصيغة هناك إرسال دفع وتحرّك وهو يساوق سدّ تمام أبواب العدم.

الأمر الثالث : أنّه وبمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّري وبين المدلول التصديقي الاستعمالي والجدّي ، يتعيّن أن يكون المقصود الجدّي والمراد التصديقي من الحكم والطلب الذي أبرز في الصيغة سنخ حكم يشتمل أيضا على سدّ تمام أبواب العدم ، بمعنى أنّ الشارع عند ما أخطر من الصيغة تصوّرا - الإرسال والتحرّك والدفع المساوق لسدّ تمام أبواب العدم - فهو أيضا في مرحلة المدلول التصديقي يريد استعمال هذه الصيغة بهذا المفاد تصوّرا ، ويريد هذا المفاد بنحو الإرادة الجدّية.

إذا فالمقصود الجدّي هو أيضا سدّ تمام أبواب العدم.

النتيجة : أنّ من جملة أبواب العدم التي لا بدّ من سدّها أيضا هو باب الترخيص في الترك ؛ لأنّ باب الترخيص في الترك لو بقي مفتوحا لم يتحقّق التحرّك والاندفاع نحو المقصود ، إذ يمكن للمكلّف أن يدخل من هذا الباب وبالتالي لا يحقّق المطلوب والمرسل إليه. فسدّ تمام أبواب العدم يقتضي سدّ باب الترخيص في المخالفة والترك.

وقد تقدّم سابقا أنّ الوجوب معناه عدم الترخيص في الترك والمخالفة والاستحباب معناه الترخيص في المخالفة والترك ، فيكون سدّ باب الترخيص في الترك مساويا لسدّ باب الاستحباب ، فإذا كان المتكلّم قد سدّ باب الاستحباب فهو يريد جدّا من الصيغة الوجوب أي عدم الترخيص في الترك ، وذلك على أساس الإطلاق ومقدّمات الحكمة التي مفادها أنّه لو كان يريد الاستحباب والترخيص في الترك والمخالفة لذكر ما يدلّ على ذلك تصوّرا ليكون مرادا تصديقا أيضا.

فما دام لم يذكر شيئا تصوّرا يدلّ على ذلك فهو لا يريده تصديقا وإلا لكان مخلاّ ببيان تمام مراده الجدّي من كلامه والذي هو على خلاف المتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، بل إنّ ذلك يعتبر شيئا مستهجنا جدّا.

فيتعيّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة الوجوب ؛ لأنّه قد أخطر تصوّرا سدّ تمام أبواب العدم والتي من جملتها باب الترخيص وهو يعني الوجوب ؛ لأنّه أيضا يسدّ باب الترخيص في المخالفة. فتكون بالنسبة بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقلّ والأكثر

ص: 377

في الدلالة ؛ لأنّه يكفي في الدلالة على الوجوب السكوت ؛ لأنّ أصالة التطابق بين الدلالات تعيّن الوجوب وسدّ تمام أبواب العدم.

بينما لا يكفي في الدلالة على الاستحباب إلا ذكر ما يدلّ على الترخيص وأنّ باب العدم لا يزال مفتوحا ؛ لأنّه أخطر تصوّرا سدّ تمام أبواب العدم ، فإذا كان يريد جدّا فتحها فيجب ذكر ما يدلّ على هذا التغاير والاختلاف بين الدلالات. فالوجوب هو الأقلّ والاستحباب هو الأكثر.

ولعلّ هذا التقريب أوجه من سابقيه ، فإن تمّ فهو ، وإن لم يتمّ يتعيّن كون الدلالة على الوجوب بالوضع.

وهذا التقريب صحيح في الجملة ، بمعنى أنّه تامّ في صيغة الأمر دون مادّته ؛ وذلك لأنّ الصيغة تدلّ على النسبة الإرساليّة المنتزعة من الخارج ، وهو يكون مساوقا لسدّ تمام أبواب العدم ، فيكون هذا التقريب وجيها وتامّا فيها. وأمّا مادّة الأمر فقد تقدّم أنّها تدلّ على الإرسال والطلب بنحو المعنى الاسمي ، أي بما هو مفهوم ذهني غير منتزع من الخارج.

وعندئذ لا بدّ أن نرى أنّ هذا المفهوم هل ناشئ عن شوق وملاكات ومبادئ وإرادة شديدة ، أو أنّه ناشئ عن مبادئ وملاكات وإرادة ضعيفة؟

ولذلك لا يكفي لاستكشاف سدّ تمام أبواب العدم إلا بعد تحقيق تلك المرتبة التي نشأ منها الإرسال الطلب فيحتاج إلى التقريبين السابقين لتعيين الإرادة الشديدة وقد تقدّم عدم تماميتهما.

ولذلك لا يكون هناك معيّن للوجوب إلا اللفظ بأن يقال : إنّ لفظ الأمر بمادّته وصيغته موضوع لغة للطلب والإرسال الناشئ من داع لزومي ، فهذا التقريب تامّ جزئيّا لا كلّيّا بخلاف مسلك الوضع فإنّه تام كلّيّا.

وتترتّب فوارق عمليّة عديدة بين هذه الأقوال على الرغم من اتّفاقها على الدلالة على الوجوب.

ثمّ إنّ هذه الأقوال الثلاثة كلّها تتّفق على أنّ الأمر بمادّته وهيئته يدلّ على الوجوب ، ولكنّها تختلف فيما بينها في كيفيّة استفادة الوجوب وفي كيفيّة الدلالة عليه. فبعضها كان بحكم الوضع ، وبعضها كان بحكم العقل ، وبعضها كان بحكم

ص: 378

الإطلاق ومقدّمات الحكمة. وبين هذه الأقوال الثلاثة فوارق ليس نظريّة فقط ، بل هناك فوارق عمليّة نذكر بعضها :

ومن جملتها : أنّ إرادة الاستحباب من الأمر مرجعها على القول الأوّل إلى التجوّز واستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، ومرجعها على القول الأخير إلى تقييد الإطلاق ، وأمّا على القول الوسط فلا ترجع إلى التصرّف في مدلول اللفظ أصلا.

من الفوارق النظرية : أنّه إذا ورد أمر من قبيل ( أكرم العالم ) وكان هناك قرينة لفظيّة أو لبيّة على أنّ المراد من الأمر هنا هو الاستحباب لا الوجوب ، فكيف يتمّ تخريج ذلك؟

أمّا بناء على القول بالوضع فتكون الصيغة موضوعة لغة للطلب الناشئ من داع لزومي ، وعليه فاستعماله في الطلب الناشئ من داع غير لزومي الذي هو الاستحباب يكون من باب المجاز ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير المعنى الذي وضع له ، والمصحّح لهذا الاستعمال المجازي هو وجود المناسبة والمشابهة بين المعنيين. وهذا يعني أنّ إرادة الاستحباب من الأمر فيها تصرّف في مدلول اللفظ اللغوي.

وأمّا بناء على القول بأنّ الدلالة على الوجوب بحكم الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، فاللفظ موضوع لغة للجامع بين الوجوب والاستحباب ، فلا مجازيّة في استعماله في الاستحباب كما لا مجازيّة في استعماله في الوجوب ؛ لأنّ اللفظ صالح للانطباق عليهما.

غاية الأمر أنّه يلزم تقييد الإطلاق في مرحلة المراد الجدّي أي المدلول التصديقي الثاني ، وأمّا المدلول الاستعمالي والمدلول التصوّري فتارة يبقيان على حالهما وأخرى ينتفيان ؛ وذلك لأنّه إذا كان القيد متّصلا كما في ( أكرم العالم العادل ) فإنّ المدلول الوضعي ينعقد وفقا للصورة المقيّدة ، فتكون مستعملة في المقيّد ابتداء ، وإذا كان القيد منفصلا كما في ( أكرم العالم ) ثمّ ورد ( لا يجوز إكرام الفاسق ) فيكون المدلول الوضعي والاستعمالي مستعملين في المطلق. غاية الأمر كون المراد الجدّي واقعا ليس هو المطلق وإنّما هو المقيّد.

وهذا يعني أنّه يوجد تصرّف في مدلول اللفظ وهو المدلول التصديقي الثاني دائما. وأمّا المدلولين التصوّري والاستعمالي فقد يتصرّف بهما وقد لا يتصرّف.

ص: 379

وأمّا بناء على القول بأنّ الدلالة على الوجوب بحكم العقل فهنا لا مجازيّة ولا تصرّف في المدلول أصلا لا تصوّرا ولا استعمالا ولا جدّا ، وذلك لأنّ الأمر موضوع للطلب أو النسبة الإرساليّة المتضمّنة للطلب ، والوجوب والاستحباب وصفان منتزعان عقلا من ورد الترخيص وعدم وروده ، وهذا يعني أنّ اللفظ مدلوله التصوّري والاستعمالي والجدّي هو الطلب ، وهذا محفوظ في موارد الوجوب وموارد الاستحباب ؛ لأنّهما خارجان عن مدلول اللفظ ولا يستفادان من اللفظ ، وإنّما يستفادان من حكم العقل المعلّق على الترخيص وعدمه ، وهذا معناه أنّه لا يوجد تصرّف أصلا على هذا القول ؛ لأنّ المدلول محفوظ في المراحل الثلاث : التصوّرية والاستعماليّة والجدّيّة.

وعليه ، فإذا جاءت أوامر متعدّدة في سياق واحد ، وعلم أنّ أكثرها أوامر استحبابيّة.

من الفوارق العمليّة أنّه إذا وردت أوامر متعدّدة في سياق واحد كما إذا قيل : ( اغتسل للجمعة وللعيدين وللجنابة وللزيارة ) ، أو ( اغتسل للجمعة ، اغتسل للعيدين ، اغتسل للجنابة ، اغتسل للزيارة ).

ثمّ علم من الخارج أنّ أكثرها أوامر استحبابيّة وليست وجوبيّة ، فهل يختلّ السياق الظاهر في كون الأوامر مستعملة في معنى واحد أو لا؟ فإنّ وحدة السياق دليل عرفا وعادة على وحدة المعنى ، فإذا علم بأنّ أكثر هذه الأوامر للاستحباب فهل ظهور الباقي في الوجوب يختلّ حفاظا على وحدة السياق ، أو أنّ وحدة السياق تختلّ فيكون بعض الأوامر للوجوب وبعضها للاستحباب؟

والجواب على هذا يختلف باختلاف المباني ، فنقول :

اختلّ ظهور الباقي في الوجوب على القول الأوّل ؛ إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذ تغاير مدلولات تلك الأوامر مع وحدة سياقها ، وهو خلاف ظهور السياق الواحد في إرادة المعنى الواحد من الجميع.

على القول الأوّل بأنّ الأمر موضوع لغة للوجوب يلزم اختلال ظهور الباقي في الوجوب ولا تشمله وحدة السياق ؛ لأنّ وحدة السياق ظاهرة في كون الأوامر كلّها مستعملة في معنى واحد ، بينما اختلاف وتغاير مدلولات تلك الأوامر معناه أنّ وحدة

ص: 380

السياق غير ظاهرة في كونها غير مستعملة في معنى واحد. فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور وحدة السياق في المعنى الواحد والالتزام بتعدّد المعنى وتغايره ، وبين إبقاء ظهور السياق في وحدة المعنى والالتزام بوحدة المعنى في الجميع حتّى في بقيّة الأوامر الظاهرة في الوجوب.

وهنا يقدّم وحدة السياق على ظهور الباقي في الوجوب ؛ لأنّ تعدّد المعاني في قوّة استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ؛ لأنّ وحدة السياق معناها أنّ مدلول الأمر في الجميع واحد.

فإذا كان بعض مدلوله استحبابا وبعضه الآخر وجوبا لزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى وهو مستحيل ؛ لأنّ اللفظ الواحد لا يستعمل إلا في معنى واحد ؛ لأنّ اللفظ يفنى في المعنى ، فإذا أفني في هذا لم يبق ما يدلّ على ذلك. وهنا وإن كان هناك ألفاظ متعدّدة إلا أنّ وحدة السياق في قوّة اللفظ الواحد ، فيلزم المحذور مع تعدّد المعاني.

وأمّا على القول الثاني فالوجوب ثابت في الباقي ؛ لعدم كونه دخيلا في مدلول اللفظ لتثلم وحدة المعنى في الجميع.

وأمّا على القول الثاني في كون الأمر مادّة وهيئة يدلّ على الطلب فقط ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما حكمان عقليّان خارجان عن مدلول اللفظ ، فهنا لا تنافي بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المدلولات وتغايرها بأن يكون بعضها وجوبا وبعضها استحبابا ؛ وذلك لأنّ المعنى المدلول عليه باللفظ والذي يجب حفظه بقرينة وحدة السياق هو الطلب فقط ، وهذا محفوظ في كلّ الأوامر ، سواء فيها الوجوبيّة والاستحبابيّة.

وأمّا دلالة بعضها على الوجوب وبعضها الآخر على الاستحباب فهذا لا ينثلم به وحدة السياق ؛ لأنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن مدلول اللفظ ، بمعنى أنّ اللفظ لم يستعمل إلا في معنى واحد في الجميع وهو الطلب ، وهذا الذي تقتضيه وحدة السياق.

وأمّا الوجوب والاستحباب فيحكم بهما العقل. فإذا ورد ترخيص حكم بالاستحباب ، وأمّا بقيّة الأوامر التي لم يرد فيه ترخيص فيحكم العقل بأنّها للوجوب.

ص: 381

والحاصل أنّنا نحافظ على وحدة السياق وعلى تعدّد المعاني ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر والحاكم فيهما متعدّد ؛ لأنّ الحكم بوحدة المعنى المدلول باللفظ هو الوضع ، بينما الحاكم بتعدّد المعاني وتغايرها هو العقل ، فلا تعارض ولا تنافي بينهما.

وكذلك الحال على القول الثالث ؛ لأنّ التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبيّة وبعضها استحبابيّة لا يعني - على هذا القول - تغاير مدلولاتها ، بل كلّها ذات معنى واحد ، ولكنّه أريد في بعضها مطلقا وفي بعضها مقيّدا.

وكذلك الحال بناء على القول الثالث من أنّ الأمر يدلّ على الطلب والإرادة ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما خارجان عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ كلاّ منهما فيه مئونة زائدة ، إلا أنّ الوجوب يتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة كما تقدّم.

فهنا لا يلزم التنافي والتعارض بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المعنى وتغايره ؛ وذلك لأنّ وحدة السياق تقتضي وحدة المعنى المدلول عليه باللفظ وهو هنا الطلب والإرادة. فتكون كلّ الأوامر مدلولها واحدا هو الطلب والإرادة.

وأمّا كون هذه الإرادة في بعضها شديدة تفيد الوجوب وفي بعضها الآخر ضعيفة تفيد الاستحباب فهذا خارج عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ ذلك تابع للإطلاق ومقدّمات الحكمة كما تقدّم.

ومن المعلوم أنّ قرينة الحكمة عبارة عن ظهور حالي سياقي يعيّن المراد الجدّي ، أي الدلالة التصديقيّة الثانية ، بينما المدلول اللفظي هو الدلالة التصوّريّة فلا تتّحد الجهة ليقع التنافي بين وحدة السياق وبين تعدّد المعنى. فالمعنى واحد وهو الإرادة ، غاية الأمر كانت هذه الإرادة مفيدة للوجوب ؛ لأنّها إرادة شديدة وكانت مفيدة للاستحباب ؛ لأنّها إرادة ضعيفة ، والمعيّن للإرادة الشديدة الوجوبيّة هو الإطلاق وقرينة الحكمة ، بينما المعيّن للإرادة الضعيفة والاستحباب هو التقييد وذكر ما يدلّ على ذلك لفظا ، والإطلاق والتقييد من شئون مقصود المتكلّم الجدّي لا من شئون الدلالة اللفظيّة الوضعيّة. فلا مانع من الالتزام بوحدة السياق وتعدّد المعنى.

ص: 382

الأوامر الإرشاديّة

ص: 383

ص: 384

الأوامر الإرشاديّة

ومهما يكن فالأصل في دلالة الأمر أنّه يدلّ على طلب المادّة وإيجابها ، ولكنّه يستعمل في جملة من الأحيان للإرشاد.

بناء على ما تقدّم فالأصل في دلالة الأمر سواء المادّة أو الهيئة أنّه يدلّ على طلب الفعل ، وأنّ هذا الطلب ناشئ من داع لزومي ، فهو يدلّ على الوجوب على اختلاف الأقوال في كيفيّة هذه الدلالة.

إلا أنّ الأمر قد يخرج عن هذه الدلالة كلّيّا فلا يكون دالاّ على طلب الفعل أصلا فضلا عن كونه وجوبا أو استحبابا ، وإنّما يكون مستعملا للإرشاد الى شيء آخر ينتزع ويفهم من الكلام ، كما في الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والبطلان ونحو ذلك.

وتوضيح ذلك :

فالأمر في قولهم : ( استقبل القبلة بذبيحتك ) ليس مفاده الطلب والوجوب ؛ لوضوح أنّ شخصا لو لم يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثما ، وإنّما تحرم عليه الذبيحة. فمفاد الأمر إذا الإرشاد إلى شرطيّة الاستقبال في التذكية ، وقد يعبّر عن ذلك بالوجوب الشرطي باعتبار أنّ الشرط واجب في المشروط.

إذا قيل : ( استقبل القبلة بذبيحتك ) فهذا الأمر ليس مفاده ومدلوله الطلب والوجوب النفسي التكليفي للاستقبال ، بحيث يجب عليه الإطاعة والامتثال وإذا خالف يكون مستحقّا للعقاب ؛ لأنّه من الواضح أنّ من خالف ولم يستقبل القبلة عند الذبح لم يكن آثما وعاصيا ولا يستحقّ العقاب ، وكذلك من أطاع واستقبل القبلة لم يكن مستحقّا للثواب ، ومن المعلوم أنّ الطلب والوجوب النفسي يستلزم العقاب على الترك والمخالفة ويستتبع الثواب على الالتزام والإطاعة. وهذا يعني أنّ هذا الأمر ليس مفاده الوجوب النفسي الذي تقدّم الحديث عنه.

ص: 385

وإنّما المفاد هنا الإرشاد إلى نكتة أخرى وهي أنّ الاستقبال شرط في الذبح ، بحيث إنّه إذا لم يستقبل ترتّب على ذلك حكم آخر وهو عدم الصحّة أو عدم الحليّة والتذكية ، والتي هي من الأحكام الوضعيّة التي يترتّب عليها بعض الأحكام التكليفيّة كحرمة الأكل مثلا.

فهذا الأمر يتفرّع منه مفهوم الشرطيّة ، ولذلك يعبّر عنه بالوجوب الشرطي والمقصود من هذا التعبير أنّ الاستقبال شرط في تحقّق المشروط وهو التذكية ، فيتّصف الاستقبال بالشرطيّة ؛ لأنّه إذا تحقّق تحقّق المشروط وإذا انتفى انتفى المشروط ، ويتّصف بالوجوب أيضا ، والمقصود الوجوب الوضعي بمعنى أنّه دخيل في المشروط وجودا وعدما.

والأمر في ( اغسل ثوبك من البول ) ليس مفاده طلب الغسل ووجوبه ، بل الإرشاد إلى نجاسته بالبول ، وأنّ مطهّره هو الماء.

وكذلك الحال في قولنا : ( اغسل ثوبك من البول ) ، فإنّ الأمر ليس مفاده هنا الوجوب النفسي التكليفي المستتبع للثواب والعقاب على الامتثال والمخالفة ؛ لوضوح أنّ من يخالف ولا يغسل الثوب لا يكون عاصيا وآثما ، وإنّما المراد من هذا الأمر هو الإرشاد إلى شيء آخر وهو أنّ البول سبب للنجاسة ، وأنّ الثوب المتنجّس بالبول يطهر بغسله بالماء.

ومن المعلوم أنّ النجاسة والطهارة من الأحكام الوضعيّة التي يترتّب عليهما أحكام أخرى من قبيل حرمة شرب الماء المتنجّس ، وعدم صحّة الوضوء به ، وعدم صحّة الصلاة بالثوب الملاقي للبول ، وهكذا.

فمثل هذا الأمر يسمّى بالأمر الإرشادي أيضا.

وأمر الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس مفاده إلا الإرشاد إلى ما في الدواء من نفع وشفاء.

وهذا الأمر الإرشادي في الشريعة الإسلاميّة له مناظر في الأحكام العرفيّة العقلائيّة ، كما في أوامر الطبيب للمريض بأن يستعمل الدواء المعيّن. فإنّ العرف لا يحمل أمر الطبيب على الوجوب النفسي التكليفي كما يحمل أوامر الرئيس والسيّد على ذلك.

ص: 386

وإنّما يفهمون من أوامر الطبيب أنّ هذا الدواء فيه نفع وشفاء للمريض ، وهذا معناه أنّه يرشد إلى المنفعة الموجودة في استعمال الدواء ، وأنّه يسبّب الشفاء من المرض.

وفي كلّ هذه الحالات تحتفظ صيغة الأمر بمدلولها التصوّري الوضعي ، وهو النسبة الإرساليّة ، غير أنّ مدلولها التصديقي الجدّي يختلف من مورد إلى آخر.

وفي هذه الحالات التي يكون الأمر فيها للإرشاد لا يعني ذلك أنّ صيغة الأمر موضوعة لمعنى آخر غير المعنى الموضوع له في الأوامر التي تفيد الطلب والوجوب ، بل الصيغة مستعملة وموضوعة في معناها التصوّري الوضعي السابق وهو النسبة الإرساليّة.

فالمدلول التصوّري الوضعي محفوظ في الصيغة ، غاية الأمر أنّ المدلول التصديقي الجدّي يختلف من مورد لآخر ، ففي هذه الحالات يكون المدلول التصديقي مخالفا للمدلول التصوّري ؛ لأنّ المراد الجدّي ليس هو الطلب والإرسال والوجوب ، بل الإرشاد.

بينما في حالات الأمر المفيد للطلب والوجوب يكون المدلول التصديقي الجدّي مطابقا للمدلول التصوّري الوضعي. فإذا كانت هناك قرينة ولو لبيّة على أنّ المراد الجدّي ليس هو الطلب والوجوب فيؤخذ بها ، وإن لم تكن هناك قرينة من هذا القبيل فمقتضى أصالة التطابق بين الدلالات كون المراد الجدّي هو الوجوب والطلب أيضا.

وهذا من قبيل المجازات ( اذهب إلى البحر وخذ من علمه ) فإنّ المدلول الوضعي التصوّري للبحر محفوظ ، إلا أنّه ليس مرادا جدّا لوجود هذه القرينة بخلاف ( اذهب إلى البحر ) ، فإنّ المراد الجدّي هو المعنى الوضعي التصوّري لأصالة التطابق بين الدلالات.

القسم الثاني : ونقصد به الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب. والكلام حولها يقع في مرحلتين :

القسم الثاني : ما يدلّ على الطلب بإعمال عناية في المقام سواء كانت لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة ، وذلك كالجمل الخبريّة التي تستعمل في إفادة الطلب ، سواء كان جملة اسميّة أو كانت جملة فعليّة. كما إذا قيل : ( إذا قهقه أعاد صلاته ) ، فإنّ استعمال الجمل الفعليّة كثير جدّا من قبيل ( يغتسل ) ( يعيد ) ( يصلي ) ( يصوم ).

ص: 387

ولا إشكال عندهم في صحّة استعمالها في الطلب ، ولكن اختلفوا في تخريج وتوجيه هذه الدلالة. واختلفوا أيضا في أنّها تدلّ على الطلب بنحو الوجوب أو على الطلب فقط الجامع بينه وبين الاستحباب؟ فالكلام يقع في مرحلتين :

الأولى : في تفسير دلالتها على الطلب ، مع أنّها جملة خبريّة مدلولها التصوّري يشتمل على صدور المادّة من الفاعل ، ومدلولها التصديقي قصد الحكاية ، فما هي العناية التي تعمل لإفادة الطلب بها؟

وفي تصوير هذه العناية وجوه :

المرحلة الأولى : في كيفيّة تفسير وتحليل دلالة هذه الجملة الخبريّة على الطلب. مع أنّها جملة خبريّة لا إنشائيّة.

ومن الواضح كما تقدّم أنّ الجملة الخبريّة مدلولها التصوّري النسبة التامّة التي فرغ عن تحقّقها ، فهناك نسبة صدوريّة بين الفاعل والمادّة قد تحقّقت وأحضرت إلى الذهن بما هي كذلك. ومدلولها التصديقي هو قصد الحكاية والإخبار عن وقوع هذه النسبة. فكيف استعملت هذه الجملة في الإنشاء والذي معناه النسبة التامّة التي ينظر إليها لا بما هي متحقّقة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والتحقّق؟ بحيث يكون مدلولها التصوّري هو النسبة الإرساليّة أو النسبة الطلبيّة ويكون مدلولها التصديقي جعل الحكم وإنشائه. فما هي هذه العناية التي جعلت هذه الجملة تخرج عن إفادة المعنى السابق وتفيد هذا المعنى الجديد؟

وللإجابة على ذلك وجدت عدّة اتّجاهات :

الأوّل : أن يحافظ على المدلول التصوّري والتصديقي معا ، فتكون الجملة إخبارا عن وقوع الفعل من الشخص ، غير أنّه يقيّد الشخص الذي يقصد الحكاية عنه بمن كان يطبّق عمله على الموازين الشرعيّة ، وهذا التقييد قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع لا نقل أنباء خارجيّة.

التفسير الأوّل : أن يقال : إنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب مستعملة في معناها الموضوع لها تصوّرا وتصديقا ، فهي تدلّ على وقوع النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل تصوّرا ، وتدلّ تصديقا على قصد الحكاية والإخبار عن تحقّق ووقوع هذه النسبة في الخارج. فالفعل وقع الفاعل في الخارج وتحقّق منه هذا بحسب المدلول المطابقي للجملة تصوّرا وتصديقا.

ص: 388

وأمّا العناية التي من أجلها استعملت في مقام الطلب والتي على أساسها كان للجملة دلالة على الطلب أيضا فهي أنّنا نقيّد الشخص الذي أخبر عن وقوع النسبة منه وقصد الحكاية عن إيجاده للنسبة في الخارج بالشخص الذي يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، بحيث إنّه لا يفعل ولا يترك إلا إذا كان هناك أمر ونهي فيمتثل للأمر ولا يخالفه وينزجر عن النهي ولا يرتكبه.

وحينئذ سوف تتشكّل دلالة التزاميّة مفادها أنّ هذه النسبة التي صدرت من هذا الشخص وأوقعها في الخارج وحكي وأخبر عن ذلك كان فعله ناتجا ومعلولا لوجود أمر شرعي بذلك.

فهناك ملازمة بين وقوع الفعل من هذا الشخص والإخبار عن ذلك ، وبين كون هذا الفعل الذي وقع منه قد نشأ من وجود أمر شرعي بذلك.

فالشارع هنا أخبرنا عن وقوع النسبة وتحقّقها والتي هي المعلول ، وبالملازمة نعرف أنّ هناك علّة ؛ لأنّ المعلول لا يقع من دون علّة ، والعلّة هي وجود أمر شرعي بإيقاع النسبة وإيجادها ؛ لأنّنا فرضنا أنّ الشخص من المتشرّعة الذين يطبّقون أعمالهم وفقا لتعاليم الشريعة.

فيكون استعمال الجملة الخبريّة هنا أشدّ وآكد في الدلالة على الطلب والإنشاء من الجملة الإنشائيّة ؛ وذلك لأنّه في الجمل الإنشائيّة يبرز الشارع مراده ومطلوبه ، وهو إيقاع النسبة الذي هو العلّة ، وأمّا تحقّق النسبة ووقوعها في الخارج أي المعلول فقد يتحقّق إن كان الشخص ملتزما ، وقد لا يتحقّق إن كان عاصيا.

وأمّا هنا فالشارع قد أخبرنا عن تحقّق المعلول وأنّ هذا الشخص قد امتثل وأطاع وحقّق مراد الشارع ومطلوبه وهو إيقاع النسبة وإيجادها أي العلّة ؛ لأنّ الإخبار عن تحقّق المعلول يكشف عن وجود العلّة بذلك.

وأمّا الدليل على أنّ العناية هنا هي تقييد الشخص بمن يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، فهو ظهور حال الشارع في أنّه في مقام التشريع وإنشاء مراده ومطلوبه ، فإنّ ظاهر حال الشارع في كونه في مقام بيان وإنشاء حكمه ، ومع ذلك استعمل هذه الجملة الخبريّة أنّه يريد من هذه الجملة أن تدلّ على إنشاء الحكم وجعله.

ولمّا كان مدلولها التصوّري والتصديقي لا يزال مستعملا في الإخبار والحكاية

ص: 389

وقصد وقوع النسبة وتحقّقها بالمطابقة كان هناك مدلول التزامي على أنّه يريد من ذلك جعل الحكم وإنشائه ، وهذا إنّما يتمّ فيما إذا فرضنا الشخص المخبر عنه لا يتصرّف إلا طبقا للموازين الشرعيّة ، فيكشف تصرّفه وفعله هذا عن وجود أمر شرعي بذلك ، وهو مطلوب.

وليس الشارع هنا في مقام الإخبار وقصد الحكاية عن قضايا تكوينيّة خارجيّة ؛ لأنّ ذلك على خلاف المفروض وعلى خلاف ظاهر حاله عند ما طرح عليه السؤال والقضيّة ، فإنّ طرح السؤال عليه لأجل بيان الحكم وإنشائه.

فكونه في مقام التشريع قرينة على تقييد الشخص بما ذكر.

الثاني : أن يحافظ على المدلول التصوّري وعلى إفادة قصد الحكاية ، ولكن يقال : إنّ المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدوريّة المدلولة تصوّرا ، بل أمر ملزوم لها وهو الطلب من المولى ، فتكون من قبيل الإخبار عن كرم زيد بجملة ( زيد كثير الرماد ) على نحو الكناية.

التفسير الثاني : أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في مدلولها التصوّري أي النسبة الصدوريّة بين الفاعل والفعل ، وفي مدلولها التصديقي أي قصد الحكاية والإخبار ، إلا أنّ المدلول التصديقي ليس هو قصد الحكاية والإخبار عن صدور النسبة وتحقّقها في الخارج المطابق للمدلول التصوّري ، بل المراد من المدلول التصديقي أمر آخر مغاير للمدلول التصوّري وهذا الأمر الآخر هو الملزوم لهذه النسبة الصدوريّة.

وذلك بأن يقال : إنّ الشارع قد أخبر عن اللازم وأراد الملزوم جدّا ، فالشارع عند ما قال : ( يعيد صلاته ) أخبرنا عن صدور النسبة وتحقّقها في الخارج ، ولكنّه لم يقصد الحكاية والإخبار عن هذا الأمر جدّا ، وإنّما مقصوده الجدّي هو ملزوم الإعادة أي طلب الإعادة وطلب إيقاع النسبة وإيجادها.

والدليل على ذلك : ظهور حال الشارع في أنّه في مقام البيان والتشريع للأحكام وليس في مقام الإخبار والحكاية عن القضايا التكوينيّة الخارجيّة ، فهو وإن استعمل الجملة الخبريّة في قصد الحكاية إلا أنّ مراده الجدّي لم يكن هو الحكاية والإخبار عن المدلول المطابقي ، أي تحقّق النسبة الصدوريّة كالإعادة ، وإنّما مراده الجدّي الحكاية والإخبار عن ملزوم هذه النسبة الصدوريّة. فإنّ الإعادة وتحقّقها ملزومها هو أنّها

ص: 390

مطلوبة ومرادة للشارع. فالقرينة هنا هي الكناية ، أي أنّه استعمل اللازم وأراد الملزوم.

وهذا نظير الإخبار عن كرم زيد وجوده بجملة ( زيد كثير الرماد ) أو ( زيد هزيل الفصيل ) ، فإنّه وإن استعمل الجملة في مدلولها التصوّري والتصديقي إلا أنّ مراده الجدّي ليس الإخبار والحكاية عن كثرة الرماد أو عن كون الفصيل هزيلا ، بل المراد قصد الحكاية والإخبار عن جوده وكرمه ؛ لأنّ الجود والكرم ملزوم لكثرة الرماد ، فيكون الكلام باللازم والمراد الملزوم.

وممّا يدلّ على ذلك أنّ هذه الجملة صحيحة سواء كان عند زيد رماد أو لا ، ولذلك لا توصف بالصدق والكذب من خلال وجود الرماد وعدم وجوده ، بل توصف بالصدق والكذب فيما إذا كان كريما أو لا.

وهنا كذلك فإنّ المدلول المطابقي وهو صدور النسبة والإخبار عن تحقّقه لا يوصف بالصدق والكذب ؛ لأنّه ليس مرادا جدّا ، وإنّما المراد الجدّي هو ملزوم ذلك أي طلب إيقاع النسبة وطلب إيجادها ، والذي هو أمر إنشائي لا يوصف بالصدق أو الكذب.

وهذا الاتّجاه يحافظ على المدلولين التصوّري والتصديقي إلا أنّ المراد الجدّي يختلف ؛ لأنّه لا يريد المدلول المطابقي ، بل يريد المدلول الالتزامي عن طريق الكناية.

الثالث : أن يفرض استعمال الجملة الخبريّة في غير مدلولها التصوّري الوضعي مجازا ، وذلك بأن تستعمل كلمة ( أعاد ) أو ( يعيد ) في نفس مدلول ( أعد ) أي النسبة الإرساليّة.

التفسير الثالث : ما ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه اللّه من أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والإنشاء يختلف مدلولها التصوّري ، فضلا عن المدلول التصديقي والمراد الجدّي فيما لو استعملت في مقام الإخبار والحكاية.

وهذا يعني أنّها مستعملة في غير معناها الذي وضعت له فتكون مجازا ؛ لأنّه بناء على مسلكه في الوضع من أنّه تعهّد يكون المدلول الوضعي مرتبطا بالمدلول التصديقي دائما. فإذا كان قاصدا الحكاية والإخبار من الجملة الخبريّة فهي مستعملة في معناها الحقيقي ، وإذا كان قاصدا منها الانشاء والطلب فهي مستعملة في معنى آخر غير المعنى الذي وضعت له فتكون مجازا.

وهذا يعني أنّ جملة ( يعيد ) و ( أعاد ) المستعملة في الطلب والإنشاء ليست

ص: 391

موضوعة لقصد الحكاية والإخبار ، وإنّما هي موضوعة لنفس المعنى الذي تدلّ عليه كلمة ( أعد ) وهو الطلب والإنشاء بنحو المعنى الحرفي ، أي النسبة الطلبيّة والنسبة الإرساليّة. فالقرينة والعناية هنا هي المجاز.

وهذا يعني عدم الحفاظ على المدلول التصوّري والتصديقي والمراد الجدّي للجملة الخبريّة.

ولا شكّ في أنّ الأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ؛ لعدم اشتماله على أيّ عناية سوى التقييد الذي تتكفّل به القرينة المتّصلة الحاليّة.

والأقرب من هذه التفاسير هو التفسير الأوّل ، أي أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في مدلولها التصوّري والتصديقي والجدّي. غاية الأمر كون الشخص الذي قصد الحكاية عنه قد قيّد بالشخص الملتزم بالموازين الشرعيّة فلا يخالف ولا يعصي ، بل يطيع ويمتثل دائما.

وهذا يعني أنّه لا يوجد عناية ولا تصرّف في اللفظ ولا في الدلالات الثلاث. وإنّما التصرّف في الشخص وهو خارج عن مدلول اللفظ.

بينما التفسير الثاني يتصرّف في المراد الجدّي وأنّ قصد الحكاية ليس هو المراد ، بل المراد ملزومه وهو الطلب والإنشاء فيتصرّف في الإرادة الجدّيّة ، فهناك عناية في المدلول التصديقي الثاني أي المراد الجدّي.

وكذلك الحال في التفسير الثالث فإنّه يتصرّف في المداليل الثلاثة التصوّري والاستعمالي والمراد الجدّي ، فالأقرب هو الأوّل لأنّه أقلّ عناية.

ولكن إذا كان هناك قرينة تعيّن أحد هذه التفسيرات فيؤخذ بها ومع عدم وجود القرينة على أحدهما يتعيّن الأوّل.

الثانية : في دلالتها على الوجوب.

بعد الفراغ عن كون الجملة الخبريّة المستعملة في الإنشاء تدلّ على الطلب بأحد التفسيرات المتقدّمة ، يبحث في كونها دالّة على الطلب الوجوبي أو على جامع الطلب الأعمّ من الوجوب والاستحباب؟ وهذا البحث مرتبط بالتفسيرات المتقدّمة حيث إنّ النتيجة تختلف بلحاظها ، فنقول :

أمّا بناء على الوجه الأوّل في إعمال العناية فدلالتها على الوجوب واضحة ؛

ص: 392

لأنّ افتراض الاستحباب يستوجب تقييدا زائدا في الشخص الذي يكون الإخبار بلحاظه ، إذ لا يكفي في صدق الإخبار فرضه ممّن يطبّق عمله على الموازين الشرعيّة ، بل لا بدّ من فرض أنّه يطبّقه على أفضل تلك الموازين.

أمّا على الوجه الأوّل في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ، وأنّه توجد عناية في الشخص المخبر عنه بأنّه ممّن يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، فتكون هذه العناية بنفسها دالّة أيضا على أنّ الطلب هنا هو الطلب الوجوبي ؛ لأنّ فرض هذا الشخص كونه ملتزما لا يعصي ولا يخالف ، بل ينقاد ويمتثل معناه أنّه امتثل وأطاع نتيجة وجود أمر وطلب ناشئ من داع لزومي فيه محركيّة وباعثيّة لكي يتحقّق الانبعاث والتحرّك منه ، والطلب الذي يكون بهذا الداعي إنّما هو الوجوب ، فكانت تلك العناية كافية في الدلالة على الوجوب أيضا ولا تحتاج إلى مئونة زائدة عليها.

وأمّا إرادة الاستحباب من الطلب المفاد تصوّرا من هذه الجملة فهو لا يكفي فيه تلك العناية الدالّة على الطلب ، بل لا بدّ من وجود عناية أخرى زائدة ؛ وذلك لأنّ فرض الشخص ممّن يطبّق أعماله على الموازين الشرعيّة وحده لا يكفي ، بل لا بدّ من قيد زائد في هذا الشخص ، وهو أنّه يطبّق أعماله على أفضل وأكمل وأحسن الموازين الشرعيّة. فهنا يستفاد الاستحباب ؛ لأنّه الفرد الأكمل والأفضل.

وحينئذ نقول : إنّ إطلاق الجملة الخبريّة يستفاد منه تلك العناية الدالّة على أنّ الشخص ممّن يطبّق أعماله على الموازين الشرعيّة والتي تدلّ على الوجوب. وأمّا الاستحباب فهو يحتاج إلى عناية إضافية وقيد زائد.

فعند الإطلاق وعدم وجود ما يدلّ على القيد الزائد نتمسّك بقرينة الحكمة لنفي العناية الإضافيّة والقيد الزائد ، حيث يدور الأمر بين مفهومين ، النسبة بينهما الأقلّ والأكثر من جهة العناية ، فيتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة العناية الأقلّ الدالّة على الوجوب ؛ لأنّه لو أراد الاستحباب ولم يذكر ما يدلّ على العناية الإضافيّة فيه كان خارقا للفهم العرفي ولأساليب المحاورة والتفاهم عندهم.

وأمّا بناء على الوجه الثاني فتدلّ الجملة على الوجوب أيضا ؛ لأنّ الملازمة بين الطلب والنسبة الصدوريّة المصحّحة للإخبار عن الملزوم ببيان اللازم إنّما هي في

ص: 393

الطلب الوجوبي ، وأمّا الطلب الاستحبابي فلا ملازمة بينه وبين النسبة الصدوريّة أو هناك ملازمة بدرجة أضعف.

وأمّا على الوجه الثاني في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ، وأنّه على نحو الكناية أي الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم ، فالجملة أيضا تدلّ على الوجوب ؛ وذلك لأنّ العناية الكنائيّة بين الأخبار عن النسبة الصدوريّة وبين إرادة طلب إيقاع النسبة إنّما تفيد الملازمة بينهما فيما إذا كانت هذه الملازمة المصحّحة للاستعمال الكنائي متحقّقة وموجودة حتما.

وبتعبير آخر : إنّ الكناية تحتاج إلى عناية ، وهذه العناية هي التي تصحّح الاستعمال الكنائي ، والعناية بين الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم إنّما هي وجود ملازمة بينهما. وهذه الملازمة لا بدّ أن تكون موجودة ومتحقّقة فعلا ؛ لأنّها إذا لم تكن موجودة فهذا معناه أنّه لا ملازمة فلا يصحّ الاستعمال الكنائي لعدم وجود العناية عندئذ.

وفي مقامنا العناية هي الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم ، والملازمة المصحّحة لهذه العناية هي أنّ الإخبار عن النسبة الصدوريّة وإرادة طلب إيجاد النسبة وإيقاعها إنّما تتحقّق فيما إذا كان طلب الإيجاد للنسبة محقّقا لصدور النسبة بالفعل وحتما ، وهذا الطلب الذي يفيد لزوم وحتميّة إيقاع النسبة وإيجادها إنّما هو الطلب الوجوبي ؛ لأنّ الوجوب طلب ناشئ من داع لزومي وليس فيه ترخيص في الترك.

بخلاف الطلب الاستحبابي فإنّه لا يستلزم قطعا تحقّق النسبة الصدوريّة ؛ لأنّ الاستحباب طلب مع الترخيص في الترك ، أي أنّه يسمح للمكلّف أن لا يحقّق النسبة ، ولذلك لا يكون هناك ملازمة بين الطلب الاستحبابي وبين موضوع النسبة وتحقّقها ، فلا تتمّ العناية الكنائيّة.

أو على الأقلّ الطلب الاستحبابي يحتمل فيه تحقّق النسبة وصدورها فيما إذا فعل ، ويحتمل عدم تحقّقها فيما إذا لم يفعل. فالنسبة الصدوريّة موجودة ولكن بدرجة أضعف وأقل من وجودها في الطلب الوجوبي ، فيتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة الملازمة الأقوى والأشدّ من الملازمة الأضعف ؛ لأنّها تحتاج إلى قيد وعناية زائدة في الاستعمال الكنائي.

وأمّا بناء على الالتزام بالتجوّز في مقام استعمال الجملة الخبريّة - كما هو

ص: 394

مقتضى الوجه الأخير - فيشكل دلالتها على الوجوب ، إذ كما يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرساليّة الناشئة من داع لزومي ، كذلك يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرساليّة الناشئة من داع غير لزومي.

وأما على الوجه الثالث في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب وأنّها مستعملة ابتداء وتصوّرا في النسبة الإرساليّة على سبيل المجاز ، فهنا يشكل استفادة الوجوب منها ؛ لأنّ النسبة الإرساليّة قد تكون ناشئة من داع لزومي فتكون الجملة الخبرية مفيدة للوجوب ، وقد تكون ناشئة من داع غير لزومي فتكون الجملة مفيدة للاستحباب.

ومجرّد كون الوجوب هو أقرب المجازات للمعنى الحقيقي الذي هو النسبة الإرساليّة ؛ لأنّ الوجوب يحقّق النسبة دون الاستحباب لا يوجب حمل الجملة الخبريّة عليه ؛ لأنّها مستعملة في المعنى المجازي وأقربيّة هذا دون ذاك لا تمنع من إرادة المعنى المجازي الأبعد أو البعيد.

ص: 395

ص: 396

النهي أو أدوات الزجر

ص: 397

ص: 398

النهي أو أدوات الزجر

وكلّ ما قلناه في جانب مادّة الأمر وهيئته ، والجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب ، يقال عن مادّة النهي وهيئته والنفي الخبري المستعمل في مقام النهي ، غير أنّ مفاد الأمر طلب الفعل ، ومفاد النهي الزجر عنه.

النهي تارة يكون بالمادّة كما إذا قال : ( أنهاك أن تفعل هذا الأمر الفلاني ).

وأخرى يكون بالصيغة والهيئة كما إذا قال : ( لا تسرق ) ( لا تشرب الخمر ).

وثالثة يكون بالجملة الخبرية المنفيّة كما إذا قال : ( المؤمن لا يسرق ولا يزني ).

أمّا مادّة النهي فهي كمادّة الأمر من حيث الدلالة على النهي بالمعنى الاسمي. فكما أنّ مادّة الأمر تدلّ على مفهوم الطلب بنحو المعنى الاسمي أي بما هو هو ، كذلك مادّة النهي تدلّ على مفهوم الزجر بنحو المعنى الاسمي أي بما هو هو.

وأمّا هيئة النهي فهي كهيئة الأمر من حيث الدلالة على الزجر وكونه تحريما. فكما أنّ هيئة الأمر تدلّ على الطلب أو النسبة الإرساليّة وعلى أنّه طلب وجوبي على اختلاف الأقوال في المسألة كما تقدّم ، فكذلك هيئة النهي تدلّ على الزجر أو النسبة الزجريّة وكونه زجرا تحريميّا وضعا أو بحكم العقل أو بالإطلاق.

وأمّا الجملة الخبريّة المستعملة في النهي فهي كالجملة الخبريّة المستعملة في الأمر ، فكما أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والإنشاء وكونه طلبا وجوبيّا على ساس إحدى العنايات المتقدّمة ، فكذلك الجملة الخبريّة المنفيّة تدلّ على النهي والزجر وكونه زجرا تحريميّا بإحدى تلك العنايات المتقدّمة.

والحاصل : أنّ كلّ ما تقدّم في الأمر مادّة وصيغة وجملة خبريّة فهو يجري في النهي أيضا مادّة وصيغة وجملة خبريّة منفيّة ، غاية الأمر أنّ الأمر يدلّ على الطلب بينما النهي يدلّ على الزجر.

ص: 399

وكما توجد أوامر إرشاديّة ، توجد نواه إرشاديّة أيضا ، والمرشد إليه : تارة يكون حكما شرعيّا كالمانعيّة في « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ».

وأخرى نفي حكم شرعي من قبيل ( لا تعمل بخبر الواحد ) فإنّه إرشاد إلى عدم الحكم بحجّيّته.

وثالثة يكون المرشد إليه شيئا تكوينيّا كما في نواهي الأطبّاء للمريض عن استعمال بعض الأطعمة إرشادا إلى ضررها.

النواهي الإرشاديّة كالأوامر الإرشاديّة ، فالصيغة لا تزال مستعملة في مدلولها التصوّري وهو النسبة الزجريّة ، ولكن المراد الجدّي التصديقي ليس هو الزجر والتحريم النفسي المستتبع للثواب على الإطاعة وللعقاب على المخالفة ، وإنّما المراد الجدّي منها هو الإرشاد إلى بعض الأحكام الوضعيّة كالمانعيّة والشرطيّة والفساد ونحو ذلك.

فالمرشد إليه من النهي الإرشادي على أنحاء منها :

1 - أن يكون المرشد إليه حكما شرعيّا وضعيّا ، كما في قوله : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » ، فإنّه إرشاد إلى مانعيّة غير المأكول من صحّة الصلاة ويكون موجبا لفسادها.

2 - أن يكون المرشد إليه نفي حكم شرعي وضعي ، كما في قوله : ( لا تعمل بخبر الواحد ) ، فإنّه إرشاد إلى نفي الحجّيّة التعبّديّة عنه ، أي أنّ خبر الواحد ليس حجّة ولا يجوز التعويل عليه شرعيّا.

3 - أن يكون المرشد إليه شيئا تكوينيّا ، كما في نواهي الأطبّاء كقوله : ( لا تأكل الرمّان ) لمن كان مريضا ، فإنّ هذا النهي إرشاد إلى أنّ الرمّان مضرّ لهذا المريض واقعا وتكوينا.

ص: 400

الفور والتراخي

ص: 401

ص: 402

الفور والتراخي

ثمّ إنّ الأمر لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإسراع بالإتيان بمتعلّقه ، ولا لزوم التباطؤ ؛ لأنّ الأمر لا يقتضي إلا الإتيان بمتعلّقه ، ومتعلّقه هو مدلول المادّة ، ومدلول المادّة طبيعي الفعل الجامع بين الفرد الآني والفرد المتباطأ فيه.

المقصود من الفور : هو لزوم الإسراع في الامتثال والإتيان بالمأمور به الذي هو متعلّق الأمر. والمقصود من التراخي : التأخير والتباطؤ في الامتثال.

وحينئذ نقول :

الأمر بمادّته وهيئته لا يدلّ على الفور ولا يدلّ على التراخي بحسب المدلول التصوّري الوضعي ؛ لأنّه لا يدلّ إلا على الطلب أو النسبة الإرساليّة فقط. وأمّا لزوم الإسراع أو التباطؤ فهو خارج عن مدلول اللفظ.

فمثلا ( أكرم العالم ) تدلّ صيغة الأمر على النسبة الإرساليّة بنحو الطلب الوجوبي لإكرام العالم ، فهناك نسبة بين الفعل أي المادّة والفاعل وهو المأمور أي المكلّف ، وهذه النسبة يراد تحقيقها وإيجادها ، فمتعلّق الأمر هو الإكرام أي المادّة ، والمادّة عبارة عن المفهوم الاسمي أي المطلق وكلّي الإكرام ، وهذا الإكرام المطلق كما يتناسب مع الفور كذلك يتناسب مع التراخي ، ولا معيّن لأحدهما على الآخر ولا ترجيح له ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فيثبت جواز الأمرين وأنّ المكلّف مخيّر بينهما.

ص: 403

ص: 404

المرّة والتكرار

ص: 405

ص: 406

المرّة والتكرار

كما أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإتيان بفرد واحد أو بأفراد كثيرة ، وإنّما تلزم به الطبيعة ، والطبيعة بعد إجراء قرينة الحكمة فيها يثبت إطلاقها البدلي فتصدق على ما يأتي به المكلّف من وجود لها ، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر.

المقصود من المرة هو لزوم الإتيان بالواجب المأمور به مرّة واحدة فقط ، بينما المقصود من التكرار لزوم الإتيان بالفعل أكثر من مرّة ، بل مرّات عديدة.

وهنا نقول : إنّ الأمر لا يدلّ بحسب المدلول الوضعي التصوّري لا على المرّة ولا على التكرار ؛ لأنّه يدلّ على الطلب والإرسال فقط بنحو المعنى الاسمي في المادّة وبنحو المعنى الحرفي في الهيئة.

وهذا يعني أنّ الأمر لا يقتضي إلا تحقّق النسبة بين الفعل والفاعل ، أي يتعلّق بالمادّة التي هي متعلّق الأمر ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) فإنّ الوجوب متعلّق بالإكرام الذي هو المادّة ، وهذه المادّة بعد إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة يثبت كونها مطلقة ، أي يراد إيجاد وتحقيق طبيعي الإكرام.

ومن المعلوم أنّ الطبيعي يتحقّق ويوجد بفرد واحد من أفراده ، وهذا يعني أنّ الإطلاق هنا بدلي ؛ لأنّه مخيّر في هذا الفرد الواحد من بين الأفراد جميعا ، وهذا الفرد الواحد كما يصدق في ضمن المرّة كذلك يصدق في ضمن المرّات الكثيرة ؛ لأنّ الطبيعة كما تصدق في الفرد الواحد تصدق أيضا في الأكثر ، ولذلك يكون الإتيان بالإكرام مرّة واحدة امتثالا وإطاعة ؛ لأنّه يحقّق المأمور به ، وكذلك لو أتي بالإكرام مرّات عديدة في عرض واحد إلا أنّه لا يتعيّن هذا دون ذلك ؛ إذ لا معيّن لأحدهما دون الآخر.

ص: 407

فلو قال الآمر : ( تصدّق ) تحقّق الامتثال بإعطاء فقير واحد درهما كما يتحقّق بإعطاء فقيرين درهمين في وقت واحد ، وأمّا إذا تصدّق المكلّف بصدقتين مترتّبتين زمانا فالامتثال يتحقّق بالفرد الأوّل خاصّة.

فمثلا لو قال المولى : ( تصدّق على الفقير ) فهنا متعلّق الأمر هو التصدّق ، وبعد إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة يثبت الإطلاق البدلي ، أي يجب التصدّق بفرد واحد من أفراد التصدّق على سبيل البدل والتخيير بين أفراده جميعا.

وعندئذ فإذا تصدّق المكلّف على فقير فأعطاه درهما فهو ممتثل مطيع للأمر ؛ لأنّه حقّق الطبيعة بفرد من أفرادها.

وإذا تصدّق على فقيرين معا في عرض واحد بأن أعطى لكلّ منهما درهما في زمان واحد فهو ممتثل بهما معا ؛ لأنّ الطبيعة تتحقّق بالأكثر ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

وأما إذا تصدّق على زيد الفقير فأعطاه درهما ثمّ بعد ذلك وبعد فاصل زماني تصدّق على عمرو فأعطاه درهما ، فهو يكون ممتثلا بالتصدّق الأوّل ؛ لأنّه يحقّق الطبيعة فإذا تحقّق متعلّق الأمر الذي هو التصدّق سقط الأمر عن الفاعليّة ، فلا موجب ولا مبرّر لامتثاله مرّة أخرى بنحو الوجوب ، فيكون التصدّق على الثاني ليس امتثالا للأمر والوجوب ؛ لأنّه سقط بتحقق متعلّقه ، ومع سقوط الأمر به لا يكون مأمورا ولا يكون فعله امتثالا لأمر المولى ؛ إذ لا أمر للمولى ليمتثل فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أي أنّ الامتثال موضوعه الأمر وحيث إنّه لا أمر فلا امتثال أيضا.

ص: 408

الإطلاق واسم الجنس

اشارة

ص: 409

ص: 410

الإطلاق واسم الجنس

الإطلاق يقابل التقييد ، فإن تصوّرت معنى وأخذت فيه وصفا زائدا أو حالة خاصّة - كالإنسان والعالم - كان ذلك تقييدا. وإذا تصوّرت مفهوم الإنسان ولم تضف إليه شيئا من ذلك فهذا هو الإطلاق.

الإطلاق والتقييد مفهومان متقابلان ولذلك توجد بينهما إحدى نسب التقابل كما سيأتي بيانه.

وأمّا تعريفهما : فالتقييد : هو لحاظ الطبيعة مع خصوصيّة زائدة عليها ، كما إذا تصوّرت معنى معيّن وأخذت فيه وصفا زائدا ، كأن تتصوّر الإنسان وتأخذ معه صفة العلم أي الإنسان العالم ، أو تتصوّر معنى معيّن وتأخذ فيه حالة من حالاته ، كأن تتصوّر الإنسان والقعود مثلا.

وأمّا الإطلاق : فهو لحاظ الطبيعة من دون أن يلحظ معها أي خصوصيّة زائدة لا وصفا ولا حالة ، كما إذا تصوّرت معنى معيّن ولم تضف إليه شيء آخر زائد عليه ، كأن تتصوّر الإنسان فقط من دون أن تأخذ معه العلم أو الجلوس أو أي شيء آخر.

فالتقييد إذا لحاظ الخصوصيّة بينما الإطلاق عدم لحاظ الخصوصيّة.

وقد وقع الكلام في أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الإطلاق فيكون الإطلاق قيدا في المعنى الموضوع له ، أو لذات المعنى الذي يطرأ عليه الإطلاق تارة والتقييد أخرى؟

اسم الجنس يدلّ على الماهيّة والطبيعة كالإنسان ، فإنّه يدلّ على الماهيّة المؤلّفة من الحيوان الناطق ، إلا أنّ اسم الجنس هل يدلّ على الماهيّة والطبيعة بما هي مجرّدة أو بما هي مطلقة؟

وقع الخلاف بينهم في ذلك : فذهب مشهور القدماء إلى أنّ اسم الجنس موضوع

ص: 411

للماهيّة الملحوظة بنحو الإطلاق أي الماهيّة المطلقة ، فيكون الإطلاق مستفادا من لفظ اسم الجنس بحيث يكون موضوعا للإطلاق ، فالإطلاق جزء وقيد دخيل في المعنى الذي وضع له اسم الجنس ، بحيث يكون اسم الجنس موضوعا للماهيّة بشرط إطلاقها. وهذا معناه أنّ استعمال اسم الجنس في الإطلاق لا يحتاج إلى دليل أو قرينة ؛ لأنّه استعمال للفظ فيما وضع له ، بينما يكون استعمال اسم الجنس في التقييد مجازا ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير ما وضع له فيحتاج إلى قرينة ودليل زائد عن اللفظ.

وذهب مشهور المتأخّرين عن سلطان العلماء إلى أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة بذاتها مجرّدة عن أي قيد آخر ، بمعنى أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات الماهيّة بما هي هي ، فالإطلاق والتقييد خارجان عن مدلول اللفظ ، وهذه الماهيّة بذاتها صالحة للانطباق على الإطلاق وصالحة أيضا للانطباق على التقييد ، فيكون استعمالها في التقييد او الإطلاق استعمالا حقيقيّا ؛ لأنّها تتضمّنهما.

فالإطلاق يحافظ ويتضمّن الماهيّة ، والتقييد كذلك فكان استعمال للّفظ فيما وضع له. ولكن يحتاج كلّ من التقييد والإطلاق إلى دالّ وقرينة زائدة له على اللفظ ؛ لأنّ اللفظ لا يتكفّل الدلالة على أحدهما.

ولتوضيح الحال تقدّم عادة مقدّمة لتوضيح أنحاء لحاظ المعنى واعتبار الماهيّة في الذهن ، لكي تحدّد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على أساس ذلك.

وقبل البدء ببيان القول الصحيح والاستدلال عليه تذكر عادة في الغالب مقدّمة لأجل بيان الأنحاء والاعتبارات التي تلاحظ في الذهن للماهيّة. فإنّ للماهيّة لحاظات وأنحاء ذهنيّة يمكننا على أساسها أن نحدّد المعنى الموضوع له اسم الجنس فنقول :

اعتبارات الماهيّة :

وحاصلها - مع أخذ ماهيّة الإنسان وصفة العلم كمثال - أنّ ماهيّة الإنسان إذا تتبّعنا أنحاء وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصّتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم ، وهما : الإنسان الواجد للصفة خارجا والإنسان الفاقد لها خارجا.

حاصل هذه المقدّمة - بعد أن نأخذ الإنسان كماهيّة وصفة العلم كمثال للتطبيق - يتركّب من أمور :

ص: 412

الأمر الأوّل : في أنحاء وجود الماهيّة في الخارج إنّ ماهيّة الإنسان بوجودها الخارجي : إمّا أن تكون واجدة لصفة العلم وإمّا أن تكون فاقدة لها. ففي الخارج إمّا أن يكون الإنسان عالما ، وإمّا أن لا يكون عالما. وهذا يعني أنّ هناك حصّتين من الوجود الخارجي لماهيّة الإنسان تتّصفان بالإمكان الوجودي بحيث يكون اتّصافهما بالوجود في الخارج وهما :

1 - الإنسان الواجد لصفة العلم في الخارج وهو الإنسان العالم.

2 - الإنسان الفاقد لصفة العلم في الخارج وهو الإنسان غير العالم.

ولا يتصوّر لها حصّة ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معا ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّة ثابتة في الخارج في عرض الحصّتين السابقتين.

ولا يمكن أن يوجد في الخارج حصّة ثالثة للماهيّة ينتفي عنها وجدان وفقدان صفة العلم ، بأن يكون في الخارج إنسان ليس واجدا لصفة العلم وليس فاقدا لصفة العلم. فإنّ مثل هذه الحصّة يستحيل وجودها في الخارج ؛ لأنّ العلم وعدم العلم نقيضان يستحيل ارتفاعهما ويستحيل اجتماعهما على موضوع واحد من جهة واحدة ، ولذلك يستحيل وجود إنسان في الخارج ينتفي عنه العلم وعدم العلم ؛ لأنّ ذلك معناه ارتفاع النقيضين عن موضوع واحد وهو مستحيل.

ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان أي ماهيّة الإنسان بما هي هي الجامعة بين الإنسان الواجد لصفة العلم والفاقد لصفة العلم يستحيل أن يكون موجودا في الخارج ، كحصّة ثالثة في عرض الحصّتين السابقتين. فلا يوجد في الخارج إلا حصّتان فقط الواجدة والفاقدة.

وأمّا الجامع بين الواجد والفاقد فيستحيل وجوده في الخارج ؛ لأنّ الجامع لا يتحقّق إلا ضمن الفرد في الخارج ويستحيل وجود الجامع مستقلاّ عن وجود الفرد ؛ إذ لو أمكن وجود الجامع مستقلاّ عن وجود الفرد وفي عرضه لكان جزئيّا ، وهو خلف المفروض.

مضافا إلى أنّ عالم الخارج عالم الاتّصاف المادي ومن المستحيل وجود المجرّدات في الخارج بما هي كذلك ، بل لا بدّ أن توجد في الخارج بما هي متّصفة بآثار الخارج الماديّة.

ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّليّة

ص: 413

التي ينتزعها من الخارج مباشرة نجد ثلاث حصص أو ثلاثة أنحاء من لحاظ الماهيّة ، كلّ واحد يشكّل صورة للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين الأخريين.

الأمر الثاني : في أنحاء وجود الماهيّة في الذهن.

عالم الذهن ينقسم إلى قسمين هما المعقولات الأوّليّة والمعقولات الثانويّة.

أمّا المعقولات الأوّليّة : فهي اللحاظات الذهنيّة التي ينتزعها العقل من الخارج ، بمعنى أنّ الانتزاع من الخارج والاتّصاف في الذهن.

وأمّا المعقولات الثانويّة : فهي اللحاظات الذهنيّة التي ينتزعها العقل من معقولاته الأوّليّة ، بمعنى أنّ الانتزاع من الذهن والاتّصاف في الذهن.

وكلامنا في هذا الأمر الثاني عن المعقولات الذهنيّة الأوّليّة ، فنقول : إنّنا إذا نظرنا إلى عالم الذهن في معقولاته المنتزعة من الخارج مباشرة نجد أنّ ماهيّة الإنسان ووصف العلم لها ثلاثة أنحاء أو ثلاثة اعتبارات ولحاظات ذهنيّة. بمعنى أنّه يوجد في الذهن حصص ثلاث لماهيّة الإنسان مع صفة العلم.

وكلّ واحد من هذه الحصص أو اللحاظات الثلاثة تختلف عن الحصّتين الأخريين ، فكلّها موجودة في عرض واحد بنحو مستقلّ.

وتوضيح ذلك :

لأنّ لحاظ ماهيّة الإنسان في الذهن :

تارة يقترن مع لحاظ صفة العلم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد أو لحاظ الماهيّة بشرط بشيء.

وأخرى يقترن مع لحاظ عدم صفة العلم ، وهذا نحو آخر من المقيّد ويسمّى لحاظ الماهيّة بشرط لا.

وثالثة لا يقترن بأيّ واحد من هذين اللحاظين ، وهذا ما يسمّى بالمطلق أو لحاظ الماهيّة لا بشرط.

وهذه حصص ثلاث عرضيّة في اللحاظ في وعاء الذهن.

إنّ الذهن عند ما يلاحظ ماهيّة الإنسان وصفة العلم يجد أنّ هناك ثلاثة أنحاء ولحاظات وحصص وهي :

1 - أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي مقترنة مع لحاظ صفة العلم ، بأن يلحظ

ص: 414

الإنسان المتّصف بالعلم أي الإنسان العالم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد أي لحاظ الماهيّة مقيّدة بلحاظ صفة العلم ، أو يسمّى بلحاظ الماهيّة بشرط شيء ؛ لأنّه أضاف إلى لحاظ الماهيّة شرطا ووصفا وهو العلم.

2 - أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي مقترنة مع لحاظ عدم صفة العلم ، بأن يلحظ الإنسان المتّصف بعدم العلم أي الإنسان غير العالم ، وهذا نحو آخر من أنحاء المقيّد ؛ لأنّه لاحظ الماهيّة مقيّدة بلحاظ عدم صفة العلم. ويسمّى بلحاظ الماهيّة بشرط لا ؛ لأنّه أضاف إلى الماهيّة شرطا ووصفا وهو عدم العلم.

3 - أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي هي مجرّدة عن اللحاظين السابقين ، أي يلحظ الإنسان غير المتّصف بالعلم وغير المتّصف بعدم العلم ، فلا يقترن الإنسان بأي واحد من هذين الوصفين. وهذا ما يسمّى بلحاظ الماهيّة لا بشرط ، أي أنّه لاحظ الماهيّة بما هي هي من دون أن يضيف إليها شرطا آخر ومن دون أن يقرنها بصفة أخرى لا العلم ولا عدم العلم. وهذا هو المطلق ، أو اللابشرط القسمي الذي هو قسم ثالث في مقابل القسمين الآخرين.

وهذه الحصص الثلاث موجودة في عرض واحد ، وكلّ واحد منها مستقلّ في وجوده عن الآخر ووعاء وجودها هو عالم الذهن بمعقولاته الأوّليّة.

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهيّة تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة وجودا وعدما ، وهي لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين.

الأمر الثالث : في الفرق بين الوجود الخارجي والوجود الذهني للماهيّة.

إذا نظرنا إلى اللحاظات الذهنيّة الثلاث الموجودة في وعاء المعقولات الأوّليّة وجدنا أنّها تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة وجودا وعدما وهي :

1 - لحاظ الوصف ، أي لحاظ الماهيّة مع الوصف فيها ، وهو ما يسمّى بشرط شيء.

2 - لحاظ عدم الوصف ، أي لحاظ الماهيّة مع عدم الوصف فيها ، وهو ما يسمّى بشرط لا.

3 - عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدمه ، أي لحاظ الماهيّة مع عدم اللحاظين ، لا لحاظ الوصف ولا لحاظ عدم الوصف ، وهو ما يسمّى اللابشرط القسمي.

ص: 415

وهذه اللحاظات الذهنيّة تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة هي : لحاظ الوصف ، ولحاظ عدم الوصف ، وعدم اللحاظين المذكورين.

ومن الواضح أنّ اللحاظ من شئون الذهن لا الخارج.

وأما الحصّتان الممكنتان للماهيّة في الخارج فتتميّز كلّ واحدة منهما بخصوصيّة خارجيّة وجودا وعدما ، وهي الوصف خارجا وعدمه كذلك.

الوجود الخارجي للماهيّة له حصّتان ممكنتان في الخارج كما تقدّم ، فإذا دقّقنا النظر في هاتين الحصّتين وجدنا أنّ إحداهما تتميّز بخصوصيّة وجوديّة في الخارج ، والأخرى تتميّز بخصوصيّة عدميّة في الخارج أيضا ، وهما :

1 - الماهيّة الواجدة لصفة العلم ، فإنّها تتميّز بوجود صفة العلم في الخارج.

2 - الماهيّة الفاقدة لصفة العلم ، فإنّها تتميّز بعدم صفة العلم فيها في الخارج.

فهاتان الحصّتان تتميّزان بخصوصيّتين خارجيّتين.

وتسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصص الثلاث للحاظ الماهيّة في الذهن بعضها عن بعض بالقيود الثانويّة ، وتسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصّتان في الخارج إحداهما عن الأخرى بالقيود الأوّليّة.

أي أنّ الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصص الثلاث ( بشرط شيء ، بشرط لا ، لا بشرط ) تسمّى بالقيود الثانويّة ؛ لأنّ اللحاظات موجودة في الذهن لأنّه وعاؤها. وأمّا الخارج فهو المنشأ للانتزاع.

بينما تسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصّتان الممكنتان في الخارج ( الماهيّة الواجدة للصفة والماهيّة الفاقدة لها ) بالقيود الأوّليّة ؛ لأنّ صفة العلم وعدمها منتزعان من الخارج وموجودتان في الخارج أيضا ، فهما من القيود الخارجيّة موطنا ومنشأ وعروضا واتّصافا.

ونلاحظ أنّ القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء - وهو لحاظ صفة العلم - مرآة لقيد أوّلي ، وهو نفس صفة العلم المميّز لإحدى الحصّتين الخارجيّتين.

ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط شيء مطابقا للحصّة الخارجيّة الأولى.

الأمر الرابع : في العلاقة بين القيود الأوّليّة والقيود الثانويّة.

أما القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء ، أي لحاظ صفة العلم فهو مرآة

ص: 416

كاشفة وحاكية عن القيد الأوّلي الذي هو نفس وجود صفة العلم في الخارج ، والذي كان مميّزا لإحدى الحصّتين الممكنتين في الخارج ، وهي الماهيّة الواجدة للوصف.

فالعلاقة بين لحاظ الماهيّة بشرط شيء وبين الماهيّة الواجدة للوصف علاقة المرآتية والحكاية والكاشفيّة ؛ وذلك لأنّ لحاظ صفة العلم يكشف عن وجود صفة العلم في الخارج ويحكي عنها.

ومن هنا يمكننا القول بأنّ لحاظ الماهيّة بشرط شيء مطابق للحصّة الخارجيّة الأولى ، فإنّ لحاظ صفة العلم مطابق لوجود صفة العلم في الخارج ، فكان القيد الثانوي مطابقا للقيد الأوّلي ، بمعنى أنّ القيد الثانوي مرآة يري ويحكي عن القيد الأوّلي ، فصفة العلم كانت ملحوظة في الذهن وفي نفس الوقت كانت موجودة في الخارج فحصل التطابق بينهما.

كما نلاحظ أنّ القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط لا - وهو لحاظ عدم صفة العلم - مرآة لقيد أوّلي ، وهو عدم صفة العلم المميّز للحصّة الخارجيّة الأخرى ، ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابقا للحصّة الخارجيّة الثانية.

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط لا أي لحاظ عدم صفة العلم فهو أيضا مرآة كاشفة وحاكية عن القيد الأوّلي الذي يميّز الحصّة الأخرى الممكنة في الخارج أي عدم صفة العلم في الخارج أو الماهيّة الفاقدة لصفة العلم.

فالعلاقة بين هذا القيد الثانوي وبين القيد الأوّلي الآخر هي علاقة المرآتيّة والكاشفيّة والحكاية ؛ لأنّ لحاظ عدم صفة العلم يكشف عن عدم وجود صفة العلم في الخارج ويحكي عنها.

ومن هنا يمكننا القول أيضا بأنّ لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابق للحصّة الخارجيّة الثانية ، بمعنى أنّ هذا القيد الثانوي يري ويحكي عن القيد الأوّلي. فعدم صفة العلم كان ملحوظا في الذهن وفي نفس الوقت أيضا كان هذا العدم وصفا خارجيّا للماهيّة فحصل التطابق بينهما.

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة لا بشرط - وهو عدم كلا اللحاظين - فليس مرآة لقيد أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ ، وعدم اللحاظ ليس مرآة لشيء ، ومن هنا كان المرئي بلحاظ الماهيّة لا بشرط ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد.

ص: 417

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة لا بشرط أي عدم اللحاظين فهو ليس مرآة ولا حاكيا أو كاشفا عن القيد الأوّلي.

وذلك لسببين :

الأوّل : أنّ عدم اللحاظين عبارة عن أمر عدمي والأمر العدمي لا يحكي ولا يكشف عن شيء ولا يكون ملحوظا به أي شيء في الخارج ؛ لأنّ العدم غير المضاف إلى صفة وجوديّة لا يحكي عن الخارج ولا يلحظ به شيئا خارجيّا ، ولذلك لا يكون حاكيا عن قيد أوّلي ؛ لأنّ القيد الأوّلي ما كان موجودا في الخارج. والعدم المطلق لا يحكي عن الوجود ؛ لأنّهما نقيضان لا يجتمعان مطلقا.

الثاني : أنّ عدم اللحاظين كما قلنا : إنّ معناه عدم لحاظ صفة العلم وعدم لحاظ صفة اللاّعلم ، ومن الواضح كما تقدّم سابقا أنّ الماهيّة في الخارج لها حصّتان فقط هما الماهيّة بقيد العلم أي الواجدة للعلم ، والماهيّة بقيد عدم العلم أي الماهيّة الفاقدة للعلم. وأمّا الماهيّة بما هي هي مجرّدة عن العلم واللاّعلم فهي غير موجودة في الخارج بنحو مستقلّ ؛ لأنّ العلم واللاّعلم لا يرتفعان عن الماهيّة ؛ لأنّهما نقيضان. وهذا يعني أنّه لا يوجد شيء مقابل لهذا القيد الثانوي لكي يحكي ويكشف عنه ويكون مرآة له.

ومن هنا نعرف أنّ الملحوظ والمرئي والمحكي بلحاظ الماهيّة لا بشرط هو ذات الماهيّة ، أي الماهيّة بما هي مجرّدة عن قيد الاتّصاف بالعلم الذي هو المقيّد ، ومجرّدة عن قيد الاتّصاف بعدم العلم الذي هو المطلق ، وهذه الماهيّة محفوظة ضمنهما ؛ لأنّ الماهيّة تتحقّق ضمن الفرد المقيّد الواجد للعلم وضمن الفرد المطلق الفاقد للعلم. ولا توجد بنحو مستقلّ عنهما.

وعلى هذا الأساس صحّ القول بأنّ المرئي والملحوظ باللحاظ الثالث اللابشرطي جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما ، وإن كانت نفس الرؤية واللحاظ متباينة في اللحاظات الثلاثة.

الأمر الخامس : في بيان حقيقة اللاّبشرط.

تقدّم أنّ اللحاظ الثالث من اللحاظات الذهنيّة للماهيّة هو عدم اللحاظين ، أي الماهيّة لا بشرط. وتقدّم أنّ هذا اللحاظ الذهني موجود بنحو مستقلّ عن اللحاظين

ص: 418

الآخرين فهو قسم ثالث مباين لهما ، ولذلك فإنّه يوجد بين هذه اللحاظات تباين وتناف ؛ لأنّ كلّ قسم يباين ويغاير القسم الآخر وإلا للزم التداخل وهو على خلاف حقيقة القسمة.

إلا أنّ الملحوظ والمرئي بهذا اللحاظ الثالث أي لا بشرط قلنا : إنّه لا يحكي عن قيد أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ والعدم لا وجود له في الخارج. فالملحوظ والمرئي هو ذات الماهيّة بما هي هي قابلة للانطباق على المطلق وقابلة للانطباق على المقيّد ؛ لأنّ الماهيّة بما هي هي محفوظة في الماهيّة المقيّدة وفي الماهيّة المطلقة ، ولهذا يصحّ لنا القول بأنّ هذا المرئي والملحوظ جامع بين المرئي والملحوظ في اللحاظين الآخرين ؛ لأنّ الملحوظ باللّحاظ ( بشرط شيء ) هو الماهيّة المقيّدة والواجدة للوصف ، والملحوظ باللّحاظ ( بشرط لا ) هو الماهيّة الفاقدة للوصف. والجامع بين الماهيّة الواجدة والماهيّة المقيّدة هو ذات الماهيّة الموجودة في الذهن والملحوظة باللّحاظ ( لا بشرط ).

والحاصل : أنّ نفس اللحاظ اللابشرطي قسم مباين للّحاظين الآخرين أي لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف.

وأمّا الملحوظ والمرئي باللحاظ اللابشرطي ( أي الماهيّة بما هي هي ) فهو جامع بين الملحوظين باللّحاظين الآخرين أي ( الماهيّة الواجدة للوصف والماهيّة الفاقدة للوصف ) ؛ لأنّ الماهيّة بما هي هي موجودة ومحفوظة في هاتين الحصّتين والملحوظتين ، ولذلك نقول :

فاللحاظ اللابشرطي بما هو لحاظ يقابل اللحاظين الآخرين وقسم ثالث لهما ، ولهذا يسمّى باللابشرط القسمي ، ولكن إذا التفت إلى ملحوظه مع الملحوظ في اللحاظين الآخرين كان جامعا بينهما ، لا قسما في مقابلهما ، بدليل انحفاظه فيهما معا ، والقسم لا يحفظ في القسم المقابل له.

وحاصل الكلام في هذا اللحاظ الثالث هو : أنّ اللحاظ اللابشرطي بما هو لحاظ من اللحاظات الذهنيّة الثلاثة فهو قسم مقابل ومباين ومغاير للّحاظين الآخرين ، أي لحاظ الماهيّة بشرط شيء ولحاظ الماهيّة بشرط لا ؛ لأنّ اللحاظات الذهنيّة متباينة فيما بينها ولأنّها موجودة كلّها في الذهن في عرض واحد. فكان كلّ واحد منهما قسيما مباينا للآخر ، فهو مفهوم مباين للمفهومين الآخرين ؛ لأنّ المفاهيم متباينة فيما بينها.

ص: 419

وأمّا إذا نظرنا إلى اللحاظ اللابشرطي بما هو ملحوظ ومحكي ، فقد قلنا : إنّ الملحوظ فيه ( هو الماهيّة بما هي هي ) ، فاذا قارنّا بين هذا الملحوظ اللابشرطي وبين الملحوظ باللّحاظين الآخرين أي ( الماهيّة الواجدة للوصف والماهيّة الفاقدة ) وجدنا أنّه يكون جامعا بين الملحوظين بشرط شيء وبشرط لا ، وليس قسما مقابلا ومباينا لهما. والدليل على ذلك هو أنّ هذا الملحوظ فيه وهو الماهيّة بما هي هي محفوظة وموجودة ضمن الماهيّة الواجدة وضمن الماهيّة الفاقدة ؛ لأنّهما يتركّبان من الماهيّة وزيادة ( وجود الوصف وعدم وجود الوصف ). ومن المعلوم أنّ ما يكون محفوظا في غيره هو الجامع لا القسم ؛ لأنّ ما يكون قسما لغيره يشترط فيه أن يكون مباينا ومغايرا له ؛ لأنّ الأقسام لا تتداخل فيما بينها. فالتداخل يدلّ على أنّه ليس قسما ، وانحفاظه فيهما يدلّ على أنّه جامع بينهما ؛ لأنّ الجامع ينحفظ ضمن أفراده (1).

ثمّ إذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأوّليّة للذهن إلى وعاء المعقولات الثانويّة التي ينتزعها الذهن من لحاظاته وتعقّلاته الأوّليّة وجدنا أنّ الذهن ينتزع جامعا بين اللحاظات الثلاثة للماهيّة المتقدّمة ، وهو عنوان لحاظ الماهيّة من دون أن يقيّد هذا اللحاظ بلحاظ الوصف ولا بلحاظ عدمه ولا بعدم اللحاظين.

الأمر السادس : ذكرنا أنّ عالم الذهن ينقسم إلى المعقولات الأوّليّة وإلى المعقولات الثانويّة ، وقد تقدّم الكلام عن المعقولات الأوّليّة وقلنا : إنّها ثلاثة وهي : لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف وعدم اللحاظين.

وأمّا المعقولات الثانويّة ، وهي اللحاظات التي ينتزعها العقل من اللحاظات

ص: 420


1- وهذا يعني أنّ اللابشرط بالحمل الأوّلي أي كمفهوم ذهني فهو مباين للمفهومين الآخرين ؛ لأنّ المفاهيم الذهنيّة متباينة. وأمّا اللابشرط بالحمل الشائع أي كمصداق ومحكي ومرئي فإنّ النسبة بينه وبين المصداقين المحكيّين الآخرين هو العموم والخصوص مطلقا ؛ لأنّهما أخصّ منه وهو أعمّ منهما يشملهما فهو جامع لهما. ونظير ذلك الإنسان والعالم فإنّهما كمفهومين متباينين ؛ لأنّ ذات الإنسان وحقيقته تختلف عن ذات العالم وحقيقته ، إلا أنّهما من ناحية الصدق الخارجي بينهما عموم من جهة. فبالحمل الأوّل كمفهوم متباينين ؛ لأنّ ذات الإنسان وحقيقته تختلف عن ذات العالم وحقيقته ، إلا أنّهما من ناحية الصدق الخارجي بينهما عموم من جهة. فبالحمل الأوّل كمفهوم فهما متباينان ، لكنّها بالحمل الشائع كمصداق فهما يصدقان معا في بعض الموارد. ومقامنا من هذا القبيل.

الموجودة في المعقولات الأوّليّة ، فتكون هذه المعقولات الثانويّة موطنها الذهن ومنشأ انتزاعها الذهن أيضا ، والاتّصاف والعروض في الذهن.

وحينئذ نقول : إنّ العقل إذا التفت ونظر إلى معقولاته الأوّليّة الثلاثة أي ( لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين ) أمكنه أن ينتزع منها لحاظا جامعا بينها ينطبق عليها جميعا ويكون محفوظا ضمنها. وهذا اللحاظ هو عنوان : ( لحاظ الماهيّة ) من دون أن يؤخذ في هذا اللحاظ أي لحاظ آخر ، لا لحاظ الوصف ولا لحاظ عدم الوصف ولا لحاظ عدم اللحاظين.

فإنّ لحاظ الماهيّة جامع بين هذه اللحاظات الثلاثة لانحفاظه فيها ، فإنّ لحاظ الوصف يتضمّن لحاظ الماهيّة وزيادة وهي لحاظ الوصف ، ولحاظ عدم الوصف يتضمّن لحاظ الماهيّة مع زيادة وهي لحاظ عدم الوصف ، ولحاظ عدم اللحاظ يتضمّن لحاظ الماهيّة مع زيادة وهي عدم اللحاظين. ولذلك لا يكون ( لحاظ الماهيّة ) قسما مباينا لهذه الأقسام الثلاثة ، بل هو جامع بينها لانحفاظه فيها ، والقسم لا ينحفظ في القسم الآخر.

وهذا جامع بين لحاظات الماهيّة الثلاثة في الذهن ، ويسمّى بالماهيّة اللابشرط المقسمي تمييزا له عن لحاظ الماهيّة اللابشرط القسمي ؛ لأنّ ذاك أحد الأقسام الثلاثة للماهيّة في الذهن ، وهذا هو الجامع بين تلك الأقسام الثلاثة.

وهذا المعقول الثانوي وهو ( لحاظ الماهيّة ) جامع بين المعقولات الأوّليّة الثلاثة ؛ لأنّه محفوظ فيها وليس قسما لأنّ القسم لا ينحفظ في القسم الآخر المباين له. ويسمّى هذا الجامع بالماهيّة اللابشرط المقسمي.

ووجه التسمية بذلك لأجل تمييزه عن اللحاظ الثالث أي لحاظ الماهيّة باللابشرط القسمي.

فإنّ اللابشرط موجود فيهما معا إلا أنّ اللحاظ الثالث كان قسما مباينا للحاظين الآخرين ، ولذلك عبّر عنه بالقسمي أي أنّه قسم ثالث. وأمّا هذا اللحاظ الثانوي فهو جامع بين الأقسام الثلاثة ، ولذلك يعبّر عنه بالمقسمي أي أنّه مقسم لجميع هذه الأقسام ، والمقسم هو الجامع المحفوظ ضمن الأقسام.

وبعبارة أخرى نقول : إنّ لحاظ الماهيّة باللابشرط المقسمي من ناحية اللحاظ

ص: 421

والملحوظ يكون جامعا بين اللحاظات الثلاثة وبين الملحوظ فيها.

بينما لحاظ الماهيّة باللابشرط القسمي من ناحية اللحاظ مباين للقسمين واللحاظين الآخرين ، إلا أنّ الملحوظ فيه جامع بين الملحوظ في اللحاظين الآخرين كما تقدّم.

وبهذا ينتهي الكلام عن هذه المقدّمة. ونعود للكلام عن اسم الجنس.

إذا توضّحت هذه المقدّمة فنقول :

لا شكّ في أنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة اللابشرط المقسمي ؛ لأنّ هذا جامع - كما عرفت - بين الحصص واللحاظات الذهنيّة لا بين الحصص الخارجيّة.

والآن لا بدّ من معرفة المعنى الموضوع له اسم الجنس الذي وقع الخلاف فيه بين المتقدّمين والمتأخّرين ، فنقول : إنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة اللابشرط المقسمي والذي هو المعقول الثانوي الجامع بين المعقولات الأوّليّة ؛ وذلك لأنّ الواضع عند ما يضع اللفظ للمعنى يضعه للمعنى الموجود في الخارج ، أو يضعه لمعنى يكون حاكيا وكاشفا عن الخارج ، واللابشرط المقسمي جامع بين اللحاظات الذهنيّة فهو لا يحكي إلا عمّا هو موجود في الذهن ومقيّد باللحاظ الذهني ، وما يكون مقيّدا باللحاظ الذهني لا يكون مطابقا للخارج ولا حاكيا عنه ، ولذلك فهو أمر ذهني محض.

وهذا اللحاظ ليس جامعا بين الحصص الخارجيّة ليصحّ وضع اللفظ له.

فلو فرضنا وضع اسم الجنس لهذا اللحاظ لكان معناه ذهنيّا محضا لا ينطبق ولا يحكي عن الخارج ، وهذا خلف الغرض من الوضع ، كما تقدّم بيانه في بحث القضايا الحقيقيّة والخارجيّة.

وملخّصه : أنّ الواضع غرضه من إحضار الصورة الذهنيّة أن تكون حاكية وكاشفة عن الخارج ، فكان الوضع بإزاء الصورة الذهنيّة لا بما هي مقيّدة بالذهن ، ولا بما هي لحاظ ذهني محض ، بل بما هي مرآة للخارج. ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي موطنه ومنشأ انتزاعه والعروض والاتّصاف فيه إنّما هو في الذهن فقط. فلم تتمّ الحكاية والكاشفيّة فيه عن الخارج.

كما أنّه ليس موضوعا للماهيّة المأخوذة بشرط شيء أو بشرط لا ؛ لوضوح عدم دلالة اللفظ على القيد غير الداخل في حاقّ المفهوم.

وكذلك فإنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة بشرط شيء أي للإنسان المقيّد

ص: 422

بالعلم ، ولا للماهيّة بشرط لا أي للإنسان المقيّد بعدم العلم ؛ وذلك لأنّ اسم الجنس لا يدلّ إلا على الطبيعة والماهيّة التي تكون محفوظة في ضمن الطبيعة الواجدة للقيد ، والفاقدة له.

وأمّا كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوصف أو عدم الوصف فهو على خلاف الوجدان والتبادر ، إذ لا يفهم من اسم الجنس إلا ذات الطبيعة ، وأمّا ما يكون خارجا عن الطبيعة وطارئا عليها فهو ليس مدلولا لاسم الجنس ؛ لأنّ العلم وعدم العلم من الصفات التي تعرض على الماهيّة والطبيعة ليسا دخيلين في حاقّ الطبيعة والماهيّة والمفهوم ؛ إذ العلم وعدم العلم ليسا من الأمور الذاتيّة المقوّمة للماهيّة والطبيعة ، بل لو فرض كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوصف أو عدمه فهذا يجعله غير قابل للإطلاق مع أنّ الوجدان شاهد على خلافه ؛ إذ إنّ اسم الجنس كما أنّ معناه محفوظ في الطبيعة المقيّدة فكذلك محفوظ أيضا في الطبيعة المطلقة. من دون أن يكون هناك مجازيّة.

فيتعيّن كونه موضوعا للماهيّة المعتبرة على نحو اللابشرط القسمي. وهذا المقدار ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وحينئذ يتعيّن كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة على نحو اللابشرط القسمي ؛ إذ بعد انتفاء كونه موضوعا لتلك الأنحاء الثلاثة لم يبق إلا هذا النحو.

وهذا المقدار لا خلاف فيه بين المتقدّمين والمتأخّرين. فهو القدر المتيقّن من كلماتهم ؛ لأنّ الماهيّة على نحو اللابشرط القسمي تدلّ على ذات الماهيّة ، وذات الماهيّة محفوظة ضمن المطلق وضمن المقيّد كما تقدّم ، وبالتالي تكون الماهيّة بذاتها جامعا بين الحصّتين الخارجيّتين ، فكان هذا المعنى مطابقا للخارج ؛ لأنّها موجودة ومحفوظة ضمن الحصّتين الواجدة للعلم والفاقدة له.

وإنّما الكلام في أنّه هل هو موضوع للصورة الذهنيّة الثالثة - التي تمثّل الماهيّة اللابشرط القسمي - بحدّها الذي تتميّز به عن الصورتين الأخريين ، أو لذات المفهوم المرئي بتلك الصورة وليست الصورة ، بحدّها إلا مرآة لما هو الموضوع له؟

وقع الخلاف والنزاع بين المتقدّمين والمتأخّرين في شيء آخر وهو : أنّنا ذكرنا أنّ الماهيّة اللابشرط القسمي تارة ينظر إليه بما هو لحاظ ذهني في مقابل اللحاظين

ص: 423

الآخرين ، أي لحاظ عدم اللحاظين والذي يكون قسما ثالثا من المعقولات الأوّليّة الذهنيّة في مقام لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف.

وأخرى ينظر إليه بما هو ملحوظ. فإنّ اللابشرط القسمي يحكي عن ذات الماهيّة المحفوظة في الماهيّة المقيّدة والماهيّة المطلقة ، أي الواجدة للوصف والفاقدة له ، والتي تكون جامعا بينهما ومقسما للملحوظ باللحاظين المذكورين لانحفاظها ضمنهما.

فالمتقدّمون ذهبوا إلى أنّها موضوعة للاّبشرط القسمي بما هو لحاظ ، والمتأخّرون ذهبوا إلى أنّها موضوعة له بما هو ملحوظ.

وبتعبير آخر : هل اسم الجنس موضوع للصورة الذهنيّة الثالثة المقابلة للصورتين الذهنيّتين الأخريين ، فيكون حدّها وهو اللحاظ الثالث أي عدم اللحاظين جزءا من المعنى الموضوع له اسم الجنس ، أو أنّ اسم الجنس موضوع للمفهوم المرئي والمحكي والملحوظ بتلك الصورة الثالثة ، فتكون الماهيّة بذاتها هي الموضوع له اسم الجنس ، وحدّها وهو عدم اللحاظين ليس جزءا دخيلا من المعنى؟ المتقدّمون على الأوّل ، والمتأخّرون على الثاني.

فعلى الأوّل يكون الإطلاق مدلولا وضعيّا للّفظ ، وعلى الثاني لا يكون كذلك ؛ لأنّ ذات المرئي والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل إلا على ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المقيّد أيضا. ولهذا أشرنا سابقا (1) إلى أنّ المرئي باللحاظ الثالث جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما.

والفارق بين القولين هو :

أنّنا إذا قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي على نحو اللحاظ وبحدّه أي عدم اللحاظين ، فهذا يعني أنّ اسم الجنس يدلّ وضعا على الطبيعة المطلقة ، فيكون استعماله في الطبيعة المقيّدة مجازا ؛ لأنّه استعمال في غير ما وضع له.

وأمّا كونه موضوعا للطبيعة المطلقة فلأنّ عدم اللحاظين صار جزءا دخيلا من المعنى ، وعدم اللحاظين معناه عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف ، وهذا تعبير عن حقيقة الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف.

ص: 424


1- أي في نفس هذه المقدّمة التي وضعت لتوضيح أنحاء لحاظ الماهيّة.

وأمّا إذا قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي بما هو ملحوظ ، فهذا معناه أنّ اسم الجنس موضوع للمرئي والمحكي وهو ذات الماهيّة ، وهي محفوظة ضمن الماهيّة المطلقة وضمن الماهيّة المقيّدة فلا مجازيّة في أحدهما ؛ لأنّها محفوظة فيهما معا.

فكان اللفظ دالاّ على معناه الموضوع له. وأمّا الإطلاق والتقييد فهما أمران طارئان على الماهيّة يحتاج كلّ واحد منهما إلى دليل خاصّ يدلّ عليه.

وهذا تقدّم سابقا حيث ذكرنا إنّ الملحوظ في الصورة الثالثة أي عدم اللحاظين جامع للملحوظ والمرئي في اللحاظين الآخرين ؛ لأنّ الماهيّة بذاتها محفوظة ضمن الماهيّة الواجدة والماهيّة الفاقدة.

ولا شكّ في أنّ الثاني هو المتعيّن وقد استدلّ على ذلك بأمرين :

والصحيح ما عليه المتأخّرون من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي على نحو الملحوظ والمرئي فيه. والدليل على ذلك أمران :

أوّلا بالوجدان العرفي واللغوي

الدليل الأوّل : أنّ الوجدان شاهد على أنّ اسم الجنس يدلّ على الطبيعة والماهيّة بما هي هي لا بما هي مقيّدة بالإطلاق ؛ إذ إنّ أهل اللغة وأهل المحاورات العرفيّة يرون أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات الماهيّة من دون أن يكون لوصف الإطلاق أيّة مدخليّة في المعنى الموضوع له ، ولذلك لا يحكمون بالمجاز عند استعمالها في الطبيعة المقيّدة ، فهذا الوجدان اللغوي والوجدان العرفي أي الفهم والبناء العرفي شاهد وحاكم بأنّ الإطلاق والتقييد وصفان عارضان وطارئان على الماهيّة وخارجان عن المعنى الموضوع له.

وثانيا بأنّ الإطلاق حدّ للصورة الذهنيّة الثالثة ، فأخذه قيدا معناه وضع اللفظ للصورة الذهنيّة المحدّدة به ، وهذا يعني أنّ مدلول اللفظ أمر ذهني ولا ينطبق على الخارج.

الدليل الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ وضع اسم الجنس للماهيّة اللابشرط القسمي بحدّه اللحاظي ، أي عدم اللحاظين يلزم منه كون هذا الحدّ جزءا دخيلا في المعنى الموضوع له اسم الجنس ، وهذا اللحاظ أمر ذهني فيلزم أن يكون اللفظ موضوعا للصورة الذهنيّة المحدّدة بهذا الحدّ اللحاظي ، ولازم ذلك عدم انطباق

ص: 425

هذا المعنى على الخارج ؛ لأنّ ما يكون مقيّدا ومحدّدا بما هو أمر ذهني يستحيل أن يوجد إلا في الذهن ؛ لأنّ وجوده في الخارج يعني تجريده عن هذا الحدّ والأمر الذهني وهو خلاف أخذه قيدا فيه.

وهذا اللازم مستحيل فيكون الملزوم باطلا ومستحيلا.

ووجه الاستحالة أنّ المقصود والغرض من إحضار المعنى في الذهن أن يكون حاكيا عن الخارج ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة يتوسّط بها للحكم على الخارج ؛ لأنّ الحكم على الصورة الذهنيّة المقيّدة بالذهن يفرغ الحكم عن الهدف والمقصود منه.

وعلى هذا فاسم الجنس لا يدلّ بنفسه على الإطلاق كما لا يدلّ على التقييد ، ويحتاج إفادة كلّ منهما إلى دالّ ، والدالّ على التقييد خاصّ عادة ، وأمّا الدالّ على الإطلاق فهو قرينة عامّة تسمّى بقرينة الحكمة على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

والنتيجة : هي أنّ اسم الجنس لا يدلّ إلا على الماهيّة بذاتها القابلة للإطلاق والتقييد لانحفاظها فيهما ، وعليه فيحتاج كلّ من الإطلاق والتقييد إلى دليل يدلّ عليه ؛ لأنّه لا يستفاد من اللفظ إلا الماهيّة فقط.

والدالّ على التقييد يكون عادة وغالبا دليلا خاصّا ؛ لأنّ التقييد أمر وجودي والأمر الوجودي يحتاج إلى علّة وجوديّة ، هذا يعني أنّ الدليل عليه أمر خاصّ وهو وجود لفظ أو قرينة تدلّ على التقييد.

وأمّا الدالّ على الإطلاق فهذا قرينة عامّة كلّيّة تسمّى بقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق أمر عدمي وهو عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف ، والعدم يكفي فيه عدم علّة الوجود ، ولذلك يكفي فيه السكوت فلا يحتاج إلى دليل خاصّ ، بل يكفي ألاّ تذكر علّة التقييد.

وسيأتي الكلام مفصّلا حول كيفيّة استفادة الإطلاق بقرينة الحكمة. إن شاء اللّه تعالى.

ص: 426

التقابل بين الإطلاق والتقييد

اشارة

ص: 427

ص: 428

التقابل بين الإطلاق والتقييد

عرفنا أنّ الماهيّة عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره ، تارة تكون مطلقة ، وأخرى مقيّدة ، وهذان الوصفان متقابلان.

الماهيّة إذا لاحظها الحاكم أو الواضع فتارة يلاحظها مطلقة من جهة القيود ، وأخرى يلاحظها مقيّدة بوصف أو حالة ، فماهيّة الإنسان تارة تلاحظ من دون أخذ قيد فيها ، وأخرى تلاحظ مع وجود قيد فيها.

والإطلاق والتقييد مفهومان متقابلان لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد بأن تكون الماهيّة مطلقة ومقيّدة معا.

غير أنّ الأعلام اختلفوا في تشخيص هويّة هذا التقابل. فهناك القول بأنّه من تقابل التضادّ وهو مختار السيّد الأستاذ (1). وقول آخر بأنّه من تقابل العدم والملكة (2) ، وقول ثالث بأنّه من تقابل التناقض (3).

اختلفوا في تشخيص نوعيّة التقابل بين التقييد والإطلاق حيث إنّ التقابل على أربعة أنواع ؛ فذكروا ثلاثة أقوال :

1 - ما ذهب إليه السيّد الخوئي : من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدّين ، أي أنّهما أمران وجوديّان يتعاقبان على موضوع واحد ، لا يجتمعان على موضوع واحد من جهة واحدة في زمن واحد.

2 - ما ذهب إليه المحقّق النائيني : من أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها ، فهما

ص: 429


1- المحاضرات 2 : 173 و 179.
2- القائل هو المحقّق النائيني في أجود التقريرات 1 : 103 و 520 وحكاه عن سلطان العلماء في فوائد الأصول 1 : 565.
3- وهذا ما تبنّاه المؤلّف نفسه كما سيأتي في المتن.

أمران وجودي وعدمي ، ولكن العدم حيث تصحّ الملكة فيكون الإطلاق هو عدم التقييد حيث يصحّ التقييد لا عدم التقييد مطلقا.

3 - ما اختاره السيّد الشهيد : من أنّ التقابل بينهما تقابل التناقض فهما أمران وجودي وعدمي ، فيكون الإطلاق هو عدم التقييد مطلقا ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر ، ولا يجتمعان ولا يرتفعان معا عن الموضوع الواحد.

وأمّا مدرك هذه الأقوال فهو :

وذلك لأنّ الإطلاق إن كان هو مجرّد عدم لحاظ وصف العلم وجودا وعدما تمّ القول الثالث.

وإن كان عدم لحاظه حيث يمكن لحاظه تمّ القول الثاني ، وإن كان الإطلاق لحاظ رفض القيد تمّ القول الأوّل.

الوجه في اختلاف نوعيّة التقابل بينهما هو الاختلاف في بيان حقيقة الإطلاق على أقوال ثلاثة.

وأمّا التقييد فاتّفقوا على أنّه لحاظ القيد والوصف فلذلك فهو أمر وجودي.

وأمّا الإطلاق فإن كانت حقيقته عدم لحاظ القيد وجودا وعدما ، فعدم اللحاظ أمر عدمي مقابل ومناقض للّحاظ. فنحن تارة نلاحظ القيد وجودا كأن نلاحظ وجود صفة العلم في الإنسان ، وأخرى نلاحظ عدم وجود صفة العلم في الإنسان ، وكلاهما تقييد ؛ لأنّهما لحاظان واللحاظ أمر وجودي ، وثالثة لا نلحظ شيئا زائدا على الماهيّة ، أي أنّنا لا نلاحظ الوصف والقيد لا وجودا ولا عدما فعدم اللحاظ مناقض للّحاظ. ولذلك يكون القول الثالث تامّا.

وإن كانت حقيقته عدم لحاظ القيد وجودا وعدما في المورد الذي يمكن فيه لحاظ القيد ومع ذلك لم يلاحظ ، كان الإطلاق عدما لوجود القيد حيث يكون التقييد ، فإذا لم يكن التقييد ممكنا فهذا يعني أنّه يستحيل الإطلاق أيضا ، وأمّا إذا كان التقييد ممكنا ومع ذلك لم يلاحظ بل لوحظت الماهيّة فقط ولم يلاحظ القيد معها كان الإطلاق متحقّقا ، فيكون القول الثاني تامّا نظير العمى والبصر.

وإن كانت حقيقته لحاظ رفض القيد أي لحاظ عدم مدخليّة القيد في الماهيّة فاللحاظ أمر وجودي فيكونان معا أمرين وجوديّين فيتمّ القول الأوّل ؛ لأنّ الإطلاق

ص: 430

عبارة عن لحاظ عدم القيد بينما التقييد عبارة عن لحاظ القيد ، فكلاهما أمر لحاظي واللحاظ أمر وجودي.

والفوارق بين هذه الأقوال تظهر فيما يلي :

1 - لا يمكن تصوّر حالة ثالثة غير الإطلاق والتقييد على القول الثالث ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ويمكن افتراضها على القولين الأوّلين وتسمّى بحالة الإهمال.

والفوارق بين هذه الأقوال الثلاثة تظهر في موردين :

المورد الأوّل : بناء على القول الثالث من أنّها متقابلان تقابل النقيضين ، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهذا معناه أنّه إذا ثبت الإطلاق في مورد ارتفع التقييد والعكس ، ولا يمكن أن تفترض حالة لا تكون مطلقة ولا تكون مقيّدة ؛ لأنّ افتراض مثل هذه الحال معناه ارتفاع النقيضين وهو مستحيل. وكذلك لا يمكن افتراض حالة تكون مطلقة ومقيّدة معا ؛ لأنّه يعني اجتماع النقيضين وهو مستحيل أيضا. فدائما إمّا أن يثبت الإطلاق أو يثبت التقييد ولا واسطة.

وأمّا بناء على القول الثاني من أنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، فهما لا يجتمعان على مورد واحد ؛ لاستحالة اجتماع الوجود والعدم في موضوع واحد. إلا أنّهما يمكن ارتفاعهما وذلك في المورد الذي لا يكون قابلا للتقييد ، فإنّه أيضا لا يكون قابلان للإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق بناء على هذا القول هو عدم التقييد في المورد الذي يمكن ويصحّ فيه التقييد لا عدمه مطلقا ، نظير العمى والبصر اللذين يرتفعان عن الحجر ؛ لأنّه لا يقبل البصر فهو لا يقبل العمى أيضا ، ولكنّهما لا يجتمعان معا بأن يكون المورد مبصرا وأعمى معا. إذا هناك واسطة بينهما تسمّى بحالة الإهمال والإجمال أي لا مقيّد ولا مطلق.

وكذلك الأمر بناء على القول الأوّل من أنّهما متقابلان تقابل الضدّين ، فإنّ الضدّين لا يجتمعان فلا يكون شيء ما أبيض وأسود في وقت واحد من جهة واحدة ، ولكن الضدّين يرتفعان وذلك بثبوت الضدّ الثالث فيمكن ألاّ يكون أبيض ولا يكون أسود بأن يكون أصفر مثلا. وهكذا الحال هنا فإنّ الإطلاق والتقييد لا يجتمعان معا ولكنّهما يمكن ارتفاعهما ، فهناك واسطة بينهما تسمّى بالإهمال والإجمال أيضا.

ص: 431

2 - يرتبط إمكان الإطلاق بإمكان التقييد على القول الثاني ، فلا يمكن الإطلاق في كلّ حالة لا يمكن فيها التقييد.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، فيستحيل الإطلاق أيضا على القول المذكور ؛ لأنّ الإطلاق بناء عليه هو عدم التقييد في الموضع القابل ، فحيث لا قابليّة للتقييد لا إطلاق.

المورد الثاني : في العلاقة بين التقييد والإطلاق في الحالات الثلاثة : الاستحالة والوجوب والإمكان.

أمّا على القول الثاني من أنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، فهناك تلازم بينهما في الإمكان والاستحالة دائما وأحيانا الوجوب.

وتوضيحه : أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكنا في مورد ما إذا كان التقييد في ذلك المورد ممكنا أيضا ومع ذلك لم يقيّد ، فعدم التقييد في المورد الذي يمكن فيه التقييد يستلزم ثبوت الإطلاق فيكون الإطلاق واجبا. وأمّا إذا لم يمكن التقييد في مورد ما وكان مستحيلا فإنّه يستلزم استحالة الإطلاق أيضا.

والحاصل : أنّه في المورد الذي يمكن فيه التقييد يمكن فيه الإطلاق أيضا ، وفي المورد الذي يستحيل فيه التقييد يستحيل فيه الإطلاق أيضا. وفي المورد الذي يمكن فيه التقييد ولا يقيّد يكون الإطلاق واجبا.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الإنسان بالعلم ممكن فيكون الإطلاق ممكنا أيضا. وعليه فإذا لم يقيّد بالعلم مع إمكانه كان ثبوت الإطلاق ضروريّا وواجبا.

وأمّا تقييد الحكم بالعلم به فهو مستحيل ؛ لما تقدّم سابقا ولما سيأتي في محلّه من أنّه يستلزم الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر. فحيث كان التقييد بالعلم به مستحيلا فيكون الإطلاق مستحيلا أيضا ؛ لأنّ الإطلاق يمكن حيث يمكن التقييد ويستحيل حيث يستحيل التقييد ، فهنا إهمال وإجمال ؛ لأنّه ليس قابلا للتقييد ولا للإطلاق.

وهذا خلافا لما إذا قيل بأنّ مردّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إلى التناقض ، فإنّ استحالة أحدهما حينئذ تستوجب كون الآخر ضروريّا ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

وأمّا بناء على القول الثالث من أنّ التقابل بينهما تقابل النقيضين ، فيكون هناك

ص: 432

تلازم بينهما وجودا وعدما ، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر وإذا استحال أحدهما وجب الآخر. ولا يمكن استحالتهما معا ولا وجودهما معا.

فإذا كان التقييد في مورد مستحيلا كما في المثال السابق وهو ( أخذ العلم بالحكم في الحكم ) كان ذلك معناه أنّ الإطلاق ضروري الوجود فيكون واجبا ؛ لأنّ النقيضين لا يرتفعان فإذا ارتفع التقييد ثبت الإطلاق لا محالة.

وليس أحدهما مرتبطا بإمكان الآخر ، فإنّ نسبة الإمكان لا تتصوّر بينهما ؛ لأنّه إمّا أن يثبت السلب أو يثبت الايجاب.

وأمّا إذا قيل بأنّ مردّه إلى التضادّ فتقابل التضادّ بطبيعته لا يفترض امتناع أحد المتقابلين بامتناع الآخر ولا ضرورته.

وأمّا بناء على القول الأوّل من أنّهما متقابلان تقابل الضدّين ، فالتضادّ يعني بذاته أنّهما لا يجتمعان على مورد واحد ، وأمّا ارتفاعهما عنه أو عدم ارتفاعهما فهذا قد يكون وقد لا يكون. وعليه فإذا ارتفع أحدهما فقد يرتفع الآخر وقد لا يرتفع ، فإذا استحال أحدهما وامتنع ثبوته ووجوده فقد يستحيل ويمتنع الآخر ، وقد يكون ضروريّا وواجبا. فهناك حالتان من التضادّ إذا ، هما :

1 - الضدّان اللذان لهما ثالث كالألوان فإنّ السواد والبياض ضدّان ولكن يوجد لهما ثالث وأكثر كالأخضر وغيره. فهنا إذا وجد أحدهما ارتفع الآخر قطعا ؛ لأنّ الضدّين لا يجتمعان. وأمّا إذا ارتفع أحدهما فليس ضروريّا أن يكون الآخر ثابتا ؛ إذ يمكن ثبوت السواد عند ارتفاع البياض ويمكن ارتفاعه أيضا بأن يثبت الأصفر.

2 - الضدّان اللذان لا ثالث لهما كالطهارة والنجاسة ، فهنا لا يمكن اجتماعهما ، وكذلك إذا ارتفع أحدهما فإنّ الآخر يكون وجوده وثبوته ضروريّا ؛ إذ لا يوجد حالة ثالثة لهما.

ولذلك قال السيّد الشهيد بأنّ التضادّ بطبيعته أي بذاته لا يفترض ارتفاع الآخر عند ارتفاع الأوّل ولا يفترض ضرورة ثبوته عند ارتفاع الأوّل ، بل قد يرتفع كما في الصورة الأولى وقد لا يرتفع كما في الصورة الثانية.

والسيّد الخوئي قال بأنّ الإطلاق والتقييد من الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالطهارة والنجاسة ، فتكون النتيجة هنا كالنتيجة مع القول بأنّهما نقيضان.

ص: 433

والصحيح : هو القول الثالث دون الأوّلين ؛ وذلك لأنّ الإطلاق نريد به الخصوصيّة التي تقتضي صلاحيّة المفهوم للانطباق على جميع الأفراد ، وهذه الخصوصيّة يكفي فيها مجرّد عدم لحاظ أخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد.

الصحيح من بين الأقوال الثلاثة هو القول الثالث ، أي أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد بنحو التناقض ، فالتقييد هو لحاظ القيد بينما الإطلاق هو عدم لحاظ القيد في كلّ الحالات.

والدليل على ذلك هو أنّ الإطلاق يراد به شمول المفهوم لكلّ الأفراد التي يصلح الانطباق عليها ، فعند ما يقال : إنّ هذا المفهوم مطلق معناه أنّ هذا المفهوم له صلاحيّة الانطباق والشمول لكلّ الأفراد التي تصلح للدخول تحت المفهوم ، فيكون الإطلاق على هذا يشتمل على خصوصيّة تفيد العموم والشمول لكلّ الأفراد.

وهذه الخصوصيّة المفيدة للإطلاق يكفي في تحقّقها ألاّ يلاحظ شيء أو قيد زائد على المفهوم والماهيّة.

فمثلا الإنسان عند ما يكون مطلقا أي شاملا لكلّ الأفراد التي ينطبق عليها ماهيّة الإنسان يكفي لثبوت الإطلاق ألاّ يلاحظ شيء آخر أو قيد زائد على ماهيّة الإنسان بأن تلاحظ الماهيّة فقط ولا يلحظ القيد ، وهذا معناه أنّه يكفي في الخصوصيّة التي يتميّز بها الإطلاق عدم لحاظ القيد مع الماهيّة ، وعدم لحاظ القيد مفهوم مناقض للتقييد الذي هو لحاظ القيد ، فكانت النسبة بينهما هي التناقض ويدلّ على ذلك أيضا :

لأنّ كلّ مفهوم له قابليّة ذاتيّة للانطباق على كلّ فرد يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابليّة تجعله صالحا لإسراء الحكم الثابت له إلى أفراده شموليّا أو بدليّا.

إنّ كلّ مفهوم له قابلية وصلاحيّة لأن ينطبق ويشمل كلّ الأفراد التي تتضمّن وتحفظ هذا المفهوم ، بمعنى أنّ كلّ فرد ومصداق يكون واجدا ومتضمّنا وحافظا لهذا المفهوم ، فالمفهوم يشمله ويصلح للانطباق عليه ، وهذه القابليّة ذاتيّة للمفهوم لا تنفكّ عنه.

فالإنسان مثلا كمفهوم له صلاحيّة الانطباق على كلّ الأفراد والمصاديق الخارجيّة التي تحفظ فيها الحيوانيّة الناطقيّة ، ولذلك فهو يشمل الإنسان العالم والجاهل على حدّ سواء ؛ لأنّ كلاّ منهما يحفظ مفهوم الإنسان ويتضمّن ماهيّته.

ص: 434

وهذا معناه أنّ الإطلاق لازم ذاتي للمفهوم ؛ لأنّ الماهيّة الصالحة للانطباق على كلّ الأفراد هو نفسه معنى الإطلاق. إذا فهذه القابليّة تجعل المفهوم صالحا لإسراء الحكم الثابت له لكلّ الأفراد التي انطبق عليها لاشتمالها على المفهوم أيضا.

فعند ما يقال : ( أكرم الإنسان ) فهذا الحكم الثابت للإنسان يسري إلى كلّ فرد من الأفراد الخارجيّة التي تتضمّن مفهوم الإنسان.

غاية الأمر أنّ هذا الإسراء قد يكون شموليّا كما في ( إكرام الإنسان ) حيث يسري الحكم لكلّ الأفراد. وقد يكون بدليّا كما في ( صلّ ) فإنّه لا يشمل كلّ أفراد الصلاة ، بل يكفي فرد واحد من أفراد الصلاة على نحو البدليّة.

وهذه القابليّة بحكم كونها ذاتيّة لازمة له ، ولا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه.

ثمّ إنّ قابليّة المفهوم لأن ينطبق على كلّ الأفراد التي يحفظ بها المفهوم كما قلنا ذاتيّة للمفهوم ، فكلّ مفهوم له قابليّة ذاتيّة. وبحكم كونها ذاتيّة فهي لازمة للمفهوم ولا تنفكّ عنه ؛ لأنّ الذاتي لا ينفكّ عن الذات.

وهذا معناه أنّ كلّ مفهوم من ذاتيّاته أن ينطبق على كلّ أفراده ، سواء كانت دائرة المفهوم واسعة كما في ( أكرم الإنسان ) حيث يشمل المفهوم كلّ فرد من الأفراد المتّصفة لماهيّة الإنسان أي ( الحيوان الناطق ) سواء كان عالما أم جاهلا. أو كانت دائرة المفهوم ضيّقة كما في ( أكرم الإنسان العالم ) ، فإنّ المفهوم هنا صالح للانطباق على كلّ الأفراد من الإنسان العالم أيضا.

وهذه القابليّة لا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ؛ لأنّ صلاحيّة الانطباق على كلّ الأفراد كما تقدّم يكفي فيها ألاّ يلاحظ القيد مع الماهيّة ، وإنّما تلاحظ الماهيّة بنفسها فقط.

والتقييد لا يفكّك بين هذا اللازم وملزومه ، وإنّما يحدث مفهوما جديدا مباينا للمفهوم الأوّل ؛ لأنّ المفاهيم كلّها متباينة في عالم الذهن حتّى ما كان بينهما عموم مطلق في الصدق ، وهذا المفهوم الجديد له قابليّة ذاتيّة أضيق دائرة من المفهوم الأوّل.

دفع إشكال مقدّر ، حاصله : أنّه تقدّم أنّ الإطلاق لازم ذاتي للمفهوم ؛ لأنّ

ص: 435

الإطلاق معناه وجود خصوصيّة تجعل المفهوم قابلا للانطباق على كلّ ما يصلح له المفهوم ، فما دام الإطلاق لازما ذاتيّا لا ينفكّ عن المفهوم فكيف في موارد التقييد انفكّ هذا اللازم عن المفهوم؟ لأنّه من الواضح أنّه في حال التقييد لا يكون المفهوم صالحا للانطباق على الأفراد غير الواجدة للقيد مع كونها واجدة ومتضمّنة للمفهوم أيضا.

فإذا قيل مثلا : ( أكرم الإنسان العالم ) لم يكن مفهوم الإنسان صالحا للانطباق على الجاهل غير العالم ، مع أنّ الجاهل واجد لماهيّة الإنسان. والحال أنّ الذاتي لا ينفكّ عن الذات ، فيلزم ألاّ يكون الإطلاق ذاتيّا للمفهوم وإلا لما انفكّ في موارد التقييد عنه ؛ لأنّ انفكاكه عنه خلف ذاتيّته له.

والجواب : أنّ التقييد لا يفكّك بين اللازم وملزومه ، أي لا يفكّك بين المفهوم والإطلاق بمعنى القابليّة والصلاحيّة للانطباق على كلّ الأفراد المتضمّنة للمفهوم ليلزم المحذور المذكور ؛ وذلك لأنّ التقييد يوجد مفهوما جديدا غير المفهوم السابق ، وهذا المفهوم الجديد مباين للمفهوم السابق وأفراده تختلف عن أفراد ذلك المفهوم.

فقولنا : ( أكرم الإنسان ) يختلف مفهوما عن قولنا : ( أكرم الإنسان العالم ) ؛ لأنّ ( الإنسان ) كمفهوم يغاير ويباين ( الإنسان العالم ) ، بمعنى أنّ الصورة الذهنيّة التي ترتسم لمفهوم ( الإنسان ) تغاير وتباين الصورة الذهنيّة التي ترتسم لمفهوم ( الإنسان العالم ) ؛ وذلك لأنّ المفاهيم الذهنيّة متباينة بمعانيها ؛ لأنّ حقيقة كلّ مفهوم تختلف تصوّرا عن حقيقة الآخر حتّى وإن كان بين المفاهيم نسبة العموم والخصوص مطلقا في عالم الصدق الخارجي.

( فالإنسان ) و ( الإنسان العالم ) كصورتين ومفهومين بالحمل الأوّلي متباينان ومتغايران ؛ لأنّ الأوّل حقيقته ( الحيوان الناطق ) بينما حقيقة الثاني ( الحيوان الناطق ذو صفة العلم ).

وإن كانا بالحمل الشائع والمصداق الخارجي ينطبق أحدهما على الآخر بحيث تكون أفراد هذا المفهوم داخلة ضمن أفراد المفهوم الآخر ، فإنّ الإنسان العالم بكلّ أفراده داخل تحت أفراد الإنسان أيضا.

والحاصل : أنّ التقييد يوجب حصول مفهوم آخر مباين للمفهوم الأوّل بالحمل

ص: 436

الأوّلي. وهذا المفهوم الجديد له قابليّة وصلاحيّة ذاتيّة للانطباق على كلّ أفراده ، كما هو الحال في المفهوم السابق. غاية الأمر أنّ المفهوم السابق كانت أفراده أوسع دائرة بينما المفهوم الجديد دائرة أفراده أضيق.

وفي كلا الحالين هناك صلاحيّة للمفهوم في كلّ منهما لأن ينطبق على كلّ الأفراد التي ينحفظ فيها المفهوم. فالمفهوم الأوّل ينطبق على كلّ الأفراد المتضمّنة لماهيّة ومفهوم الإنسان ، بينما المفهوم الجديد ينطبق على كلّ الأفراد المتضمّنة لماهيّة مفهوم الإنسان العالم. فلا اختلاف ولا فرق بينهما من حيث قابليّة كلّ منهما للانطباق على كلّ الأفراد ومن حيث كون هذه القابليّة لازمة لا تنفكّ عنه. غاية الأمر الفرق بينهما في أنّ هذه القابليّة الذاتيّة في الأوّل أوسع دائرة من جهة الأفراد بينما في الثاني أضيق دائرة من هذه الناحية.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق يكفي فيه مجرّد عدم التقييد.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق معناه الصلاحيّة والقابليّة للانطباق على كلّ الأفراد التي يحفظ فيها المفهوم. وهذا يكفي فيه مجرّد عدم التقييد ، ولا يحتاج إلى ملاحظة القيود ورفضها.

وبهذا الصدد يجب أن نميّز التقابل بين الإطلاق الثبوتي والتقييد المقابل له - وهذا ما كنّا نتحدّث عنه فعلا - عن التقابل بين الإطلاق الإثباتي - أي عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق بقرينة الحكمة - والتقييد المقابل له.

وحينئذ لا بدّ من التمييز بين نحوين من الإطلاق والتقييد :

الأوّل : الإطلاق والتقييد الثبوتيّان ، والمراد بهما هو أنّ الحاكم أو الواضع إمّا أن يلاحظ في قرارة نفسه الإطلاق أو يلاحظ التقييد ، أي أنّه إمّا أن يجعل الحكم أو اللفظ للصورة الذهنيّة المطلقة أو للصورة الذهنيّة المقيّدة.

وهذا ما كنّا نتحدّث عنه بالفعل وقلنا : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل النقيضين.

الثاني : الإطلاق والتقييد الإثباتيّان ، والمراد بهما مرحلة الدلالة والكاشفيّة عمّا هو موجود في ذهن الحاكم أو الواضع. فإنّ التقييد الإثباتي معناه ذكر القيد الكاشف عن التقييد الثبوتي ، والإطلاق معناه عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق الثبوتي.

ص: 437

فهنا لا بدّ للدلالة على التقييد والكشف عنها من ذكر القيد ، بينما يكفي في الدلالة على الإطلاق والكشف عنه عدم ذكر القيد.

وهنا تختلف نسبة التقابل بين الإطلاق والتقييد الإثباتيّين عن الثبوتيّين ؛ لأنّ الإثباتيّين يرتبطان بعالم الدلالة والكاشفيّة والتي مردّها إلى ظهور حال المتكلّم لمعرفة مراده الجدّي من كلامه ، وأنّه هل يريد جدّا الإطلاق أو أنّه يريد جدّا التقييد؟ ولذلك نقول :

فإنّ مردّ التقابل بين الإطلاق الإثباتي والتقييد المقابل له إلى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيد إنّما يكشف عن الإطلاق في حالة يمكن فيها للمتكلّم ذكر القيد. كما مرّ في الحلقة السابقة (1).

إنّ الإطلاق والتقيد الإثباتيّين مردّهما إلى عالم الكشف والدلالة عن المراد الجدّي للمتكلّم. والمراد الجدّي لكلّ متكلّم يرتبط بظهور حاله وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في شخص كلامه.

وحينئذ نقول : إنّ المتكلّم إن ذكر القيد في كلامه فيكشف هذا عن كونه مريدا للتقييد ثبوتا ؛ لأنّ عالم الإثبات يكشف ويدلّ على عالم الثبوت.

وأمّا إذا لم يذكر القيد فعدم ذكر القيد يكون كاشفا ودالاّ على أنّه لا يريد التقييد جدّا ، وأنّه ثبوتا لم يلاحظ القيد ، وهذا يعني أنّه أراد الإطلاق.

إلا أنّ هذا متوقّف على أن يكون المتكلّم قادرا على ذكر القيد ومع ذلك لم يذكره فيدلّ ويكشف عدم ذكره على الإطلاق ، وأمّا إذا لم يكن قادرا على ذكر القيد لوجود محذور ( كالاستحالة مثلا ) فهنا لا يكشف عدم ذكره للقيد عن كونه لا يريد التقييد جدّا وثبوتا ؛ إذ من المحتمل أنّه يريد التقييد ثبوتا وجدّا ولكنّه لم يذكر القيد لعدم إمكان ذلك.

وبهذا يظهر أنّ الكاشف عن التقييد إنّما يكون بذكر القيد ، وأمّا الكاشف عن الإطلاق فهو عدم ذكر القيد في الحالة التي يمكن فيها ذكر القيد ومع ذلك لم يذكره. وهذا يعني أنّ الإطلاق هو عدم ذكر القيد في الموضع القابل للتقييد. وهذا يعني أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

ص: 438


1- في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

وهذا خلافا للإطلاق والتقييد الثبوتيّين حيث إنّ النسبة بينهما هي تقابل التناقض (1).

ص: 439


1- والنكتة : هي أنّ عالم الثبوت لا يرتبط بالألفاظ وإنّما يرتبط بالصورة الذهنيّة واللحاظ ، والشارع أو الواضع عند ما يلتفت إلى عالم الثبوت والمراد الجدّي الواقعي فهو : إمّا أن يتصوّر الإطلاق ، وإمّا أن يتصوّر التقييد ، ولا ارتباط لهاتين الصورتين ولا تتوقّف إحداهما على الأخرى ؛ لأنّ الصورتين متباينتان في عالم الذهن ، فهو إمّا يريد الإطلاق ، وإمّا يريد التقييد ولا توجد حالة الإهمال ، إذ لا واسطة بينهما. ولذلك تكون النسبة بينهما هي التناقض. وأمّا عالم الإثبات والدلالة فهو يرتبط بالألفاظ ومدى دلالتها على المعنى الذي يريده المتكلّم ، ومن هنا ترتبط الدلالة على الإطلاق بالدلالة على التقييد ، بمعنى أنّ المتكلّم إذا أراد التقييد فإنّه يذكر ما يدلّ عليه ، وأمّا إذا أراد الإطلاق فقد يذكر ما يدلّ عليه وقد يكتفي بالسكوت. وفي هذه الحالة لا يكون السكوت وحده كافيا للدلالة على الإطلاق ، بل يرتبط بإمكان ذكر القيد ، فإنّه قد يريد القيد ومع ذلك سكت عنه ولم يذكره لوجود المانع والمحذور ، فلذلك يكون السكوت دالاّ على الإطلاق بشرط أن يكون المورد في نفسه قابلا وصالحا للتقييد ولا محذور من ذكر القيد. ولذلك تكون النسبة هي الملكة والعدم.

ص: 440

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة

ص: 441

ص: 442

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة

قد يقول المولى : ( أكرم الفقير العادل ) ، وقد يقول : ( أكرم الفقير ) ، ففي الحالة الأولى يكون موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري للكلام حصّة خاصّة من الفقير ، أي الفقير العادل. وبحكم الدلالة التصديقيّة الأولى نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل الكلام لإخطار صورة حكم متعلّق بالحصّة الخاصّة ، وبحكم الدلالة التصديقيّة الثانية نثبت أنّ المولى جادّ في هذا الكلام ، بمعنى أنّ هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقة وليس هازلا.

تقدّم في الحلقة السابقة أنّ هناك ثلاث دلالات للكلام :

الأولى : مرحلة الدلالة التصوّريّة ، وهي الصورة الذهنيّة التي تخطر في الذهن عند وجود اللفظ مطلقا.

الثانية : مرحلة الدلالة الاستعماليّة أو التصديقيّة الأولى ، وهي أنّ المتكلّم قد أراد استعمال اللفظ في هذا المعنى أي في الصورة الذهنيّة التي أخطرها اللفظ في الذهن.

الثالثة : مرحلة الدلالة الجدّيّة أو التصديقيّة الثانية ، وهي أنّ المتكلّم أراد جدّا إخطار هذا المعنى في الذهن ، فهو مراد له جدّا لا هزلا أو تقيّة.

والأصل هو أن تتطابق هذه الدلالات الثلاث فيما بينها فما يخطره في الذهن فيكون مراده استعمالا وجدّا ، إلا إذا نصب قرينة على خلاف ذلك.

بعد ذلك نقول : إنّ المتكلّم أو الشارع عند ما يتصوّر موضوع حكمه إمّا أن يتصوّره مطلقا ، أو يتصوّره مقيّدا ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الإطلاق والتقييد الثبوتيين متقابلان تقابل النقيضين. ولذلك تارة يقول الشارع : ( أكرم الفقير العادل ) ، وأخرى يقول : ( أكرم الفقير ).

ففي الحالة الأولى : كان موضوع الحكم مركّبا من مفهومين مندمجين معا يؤلّفان

ص: 443

مفهوما واحدا هو الفقير العادل أي الحصّة الخاصّة من الفقير لا الفقير مطلقا الشامل للعادل وغيره. فليس موضوع الحكم هو الفقير بما هو هو ، بل الفقير مع خصوصيّة أخرى زائدة توجب تحصيصه.

وهذه الحصّة الخاصّة من الفقير أي الفقير العادل هي موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة التي ترتسم عند سماع هذا اللفظ ( الفقير العادل ) إنّما هي الحصّة الخاصّة لا مطلق الفقير.

وعلى أساس التطابق بين الدلالات الثلاث نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل كلامه لإخطار هذه الصورة الذهنيّة الخاصّة ، فهو قصد هذا الإخطار استعمالا. فالمتكلّم أخطر واستعمل قاصدا أن يرتسم في الذهن صورة الحكم الذي موضوعه هو الحصّة الخاصّة.

وأيضا نثبت أنّ المتكلّم قد أراد جدّا هذه الحصّة الخاصّة التي أخطرها واستعملها ، فهو جادّ في كلامه وليس هازلا أو في التقيّة ، فيكون مراده الجدّي هو الحكم على الحصّة الخاصّة من الفقير لا مطلق الفقير.

وبحكم ظهور الحال في التطابق بين الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية يثبت أنّ الحكم الجدّي المدلول للدلالة التصديقيّة الثانية متعلّق بالحصّة الخاصّة ، كما هو كذلك في الدلالة التصديقيّة الأولى.

والمنشأ للتطابق بين الدلالتين التصديقيّتين الأولى والثانية هو ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد جدّا ما قصد استعماله وإخطاره على أساس حالة التطابق بين الدلالات كما تقدّم.

فكما أنّ الدلالة التصديقيّة الأولى أي الاستعماليّة كان منشأ ثبوتها أصالة التطابق بينها وبين الدلالة التصوّريّة التي هي المدلول الوضعي للكلام ، فكذلك الحال بالنسبة للدلالتين التصديقيّة الأولى والثانية.

وبهذا الطريق نستكشف من أخذ قيد العدالة في المثال ، أو أيّ قيد من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوّري والتصديقي الأوّلي كونه قيدا في موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدّا ، وذلك ما يسمّى بقاعدة احترازيّة القيود.

وعن طريق أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث نستطيع أن نثبت أنّ ذكر قيد

ص: 444

العدالة في موضوع الحكم ( أكرم الفقير العادل ) أو أي قيد آخر ، أنّ هذا القيد داخل في موضوع الحكم بنحو الجدّية ، وأنّه موجود ثبوتا في نفس الشارع أو المتكلّم ؛ وذلك لأنّ هذا القيد قد أخذ في الصورة الذهنيّة التي تكوّن المدلول التصوّري الوضعي ، وقد استعمل المتكلّم هذا القيد قاصدا إخطاره في الذهن ، وبالتالي فهو يريده جدّا لا هزلا أو تقيّة.

والحاصل : أنّ ذكر القيد إثباتا يدلّ ويكشف عن وجود القيد ودخالته في الموضوع ثبوتا أيضا على أساس أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت.

وهذا ما يسمّى بقاعدة احترازيّة القيود ، التي معناها أنّ كلّ قيد يذكر فهو لأجل الاحتراز والاجتناب عن دخول الأفراد الفاقدة للقيد في موضوع الحكم ، فيتجنّب من شمول الحكم لغير الواجد للقيد ويتحرّز عن ذلك ، فيكون الحكم منتفيا عن الفاقد للقيد.

ومرجع ظهور التطابق الذي يبرّر هذه القاعدة إلى ظاهر حال المتكلّم أنّ كلّ ما يقوله يريده جدّا ، والدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى بمجموعهما يكوّنان الصغرى لهذا الظهور ، إذ يثبتان ما يقوله المتكلّم فتنطبق حينئذ الكبرى التي هي مدلول لظهور التطابق المذكور.

وقاعدة احترازيّة القيود مرجعها إلى أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل من جهة وبين المدلول التصديقي الثاني من جهة ثانية.

وهذا التطابق مرجعه أيضا ظهور حال المتكلّم بأنّ كلّ ما يقوله ويذكره في كلامه ويخطره في ذهن السامع تصوّرا واستعمالا فهو يريده جدّا ؛ لأنّه إذا لم يكن مرادا له جدّا ومع ذلك ذكره تصوّرا واستعمالا فيكون بذلك خارقا ومخالفا لأصالة التطابق بين الدلالات الثلاث من دون أن ينصب قرينة على ذلك ، فيكون قد أخطر واستعمل صورة لا يريدها جدّا ، وهذا قبيح عرفا وعلى خلاف المتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، وخلف كونه في مقام البيان لمراده الجدّي بكلامه.

وهذا الظهور ( كلّ ما يقوله يريده جدّا ) يتألّف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى فهي أنّ هذا ما قاله ، وأمّا الكبرى فهي كلّ ما يقوله يريده جدّا. فلا بد إذا من إحراز الصغرى لكي تنطبق عليها الكبرى وتتحقّق القاعدة والظهور. وحينئذ

ص: 445

نقول : إنّ الدلالتين التصوريّة والتصديقيّة الأولى يحقّقان بمجموعهما الصغرى ؛ لأنّ ما قاله يثبت من خلال ذكر ما يدلّ على الصورة الذهنيّة واستعماله بقصد إخطار هذه الصورة في الذهن.

فاللفظ يدلّ على الصورة الذهنيّة واستعماله بمعناه التصوّري يدلّ على قصد إخطاره في الذهن ، ومجموعهما يكوّن أنّ هذا ما قاله.

وحينئذ تطبّق الكبرى ( ما يقوله يريده ) لإثبات أنّ هذا هو مراده الجدّي على أساس التطابق بين الدلالات الثلاث.

وقاعدة الاحترازيّة التي تقوم على أساس هذا الظهور تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، إلا أنّها إنّما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفي أي حكم آخر من قبيله ، وبهذا اختلفت عن المفهوم في موارد ثبوته حيث يقتضي انتفاء طبيعي الحكم وسنخه بانتفاء الشرط ، على ما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

ثمّ إنّ قاعدة احترازيّة القيود - التي أساسها أصالة التطابق الذي مرجعه إلى ظهور حال المتكلّم في أنّه كلّ ما يقوله فهو يريده جدّا - تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد.

فإذا قيل : ( أكرم الفقير العادل ) ووجد في الخارج فقير غير عادل فلا يجب إكرامه ؛ لأنّ ذكر القيد في الكلام إثباتا يدلّ على أنّ له مدخليّة في ثبوت الحكم ، فمع عدمه ينتفي الحكم.

إلا أنّ نفي الحكم عن الفاقد للقيد والوصف لا على أساس أنّ للجملة مفهوما ، فإنّ المشهور هو عدم ثبوت المفهوم للجملة الوصفية كما سيأتي ، وإنّما ينتفي الحكم على أساس ذاك الظهور ، وهو لا يقتضي أكثر من انتفاء الحكم عند فقدان الوصف ، ولكنّه لا يمنع من ثبوت الحكم بوصف آخر لهذا الفرد الفاقد للقيد يكون مشابها لهذا الحكم.

وعليه ، فيكون المنتفي بقاعدة الاحترازيّة هو شخص الحكم الذي كان موضوعا مقيدا بهذا القيد عن الفرد الفاقد للقيد ، وليس المنتفي هو كلّي وطبيعي الحكم عن الفرد الفاقد للقيد في كلّ الأحوال وعلى الإطلاق.

وبهذا اختلفت القاعدة عن موارد المفهوم في حالات ثبوته كما في جمل الغاية

ص: 446


1- في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : تعريف المفهوم.

والحصر. فإذا قيل مثلا : ( لا تكرم إلا العالم ) أو ( إنّما يجب إكرام العالم ) دلّ ذلك على انتفاء طبيعي وكلّي وجوب الإكرام عن غير العالم ، كما سيأتي.

وأمّا هنا فلا ينتفي في قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) إلا شخص وجوب الإكرام عن الفقير غير العادل ، ولكن قد يثبت وجوب الإكرام للفقير بطريق آخر غير العدالة ، كأن يكون عالما مثلا ويأتي دليل يدلّ على وجوب إكرام العالم مطلقا ، سواء الفقير وغيره وسواء العادل وغيره.

وأمّا في الحالة الثانية فقد أنيط الحكم في مرحلة المدلول التصوّري بذات الفقير ، وقد تقدّم أنّ مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الإطلاق ، والدلالة التصديقيّة الأوّليّة إنّما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصوريّة للكلام.

وبهذا ينتج أنّ المتكلّم قد أفاد بقوله ثبوت الحكم للفقير ، ولم يفد دخل قيد العدالة في الحكم ولم يقل ذلك ، لا أنّه أفاد الإطلاق وقال به ؛ لأنّ صدق ذلك يتوقّف على أن يكون الإطلاق دخيلا في مدلول اللفظ وضعا ، وقد عرفت عدمه.

وأمّا في الحالة الثانية : أي إذا قال الشارع : ( أكرم الفقير ) ، فقد تقدّم سابقا أنّ اسم الجنس موضوع للدلالة على الماهيّة بما هي هي من دون مدخليّة للتقييد والإطلاق فيها ، فالتقييد والإطلاق ليسا داخلين في الدلالة الوضعيّة لاسم الجنس. ولذلك فالحكم هنا معلّق ومنصبّ على الفقير ذاته من دون مدخليّة لوصف الإطلاق أو التقييد ، مع كونه صالحا للانطباق عليهما.

وحينئذ نقول : إنّ المدلول الوضعي لاسم الجنس - والذي هو ذات الفقير - هو المدلول تصوّرا - لأنّ الدلالة التصوّريّة هي الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ واسم الجنس - لا يدلّ على أكثر من الماهيّة ذاتها ، وعلى أساس أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل نثبت أنّ المتكلّم قد قصد استعمال اللفظ في الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها وضعا وتصوّرا. فيكون المراد الاستعمالي هو ذات الفقير أيضا مجرّدة عن التقييد والإطلاق.

فينتج من ذلك أنّ الحكم ثابت على الفقير بذاته ؛ لأنّ المتكلّم قد أفاد ذلك من الكلام الذي قاله ، ولم يثبت أنّه أفاد التقييد وأنّ العدالة دخيلة في الحكم ؛ لأنّه لم يقل

ص: 447

ولم يذكر قيد العدالة في اللفظ. وهذا معناه أنّ لفظ العدالة لم يكن دخيلا في الصورة الذهنيّة التي قد أخطرها واستعمل اللفظ بها.

وكذلك لا يثبت أنّه أفاد الإطلاق أيضا ؛ لأنّه لم يذكر ما يدلّ عليه لفظا ، والإطلاق ليس دخيلا في المعنى الموضوع له اسم الجنس أيضا ؛ ليقال : إنّ ذكر اسم الجنس يتضمّن الدلالة على الإطلاق ؛ لأنّ هذا القول مبنيّ على أن يكون الإطلاق جزءا من المعنى الموضوع له اسم الجنس ، وهو مقالة المتقدّمين التي تقدّم سابقا بطلانها.

والحاصل : أنّ المفاد هنا هو كون الحكم ثابتا على ذات الفقير ، من دون أن يكون قد أفاد التقييد أو الإطلاق في كلامه. نعم ، اللفظ صالح للانطباق عليهما معا كما تقدّم.

يبقى أن نثبت المراد الجدّي لهذا المتكلّم ؛ لأنّ المراد الجدّي إمّا أن يكون الإطلاق أو يكون التقييد. ولذلك نقول :

فقصارى ما يمكن تقريره أنّه لم يذكر القيد ولم يقله. وهذا يحقّق صغرى لظهور حالي سياقي ، وهو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان موضوع حكمه الجدّي بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله من القيود لا يريده في موضوع حكمه. وبذلك نثبت أنّ قيد العدالة غير مأخوذ في موضوع الحكم في الحالة الثانية ، وهو معنى الإطلاق ، وهذا ما يسمّى بقرينة الحكمة أو ( مقدّمات الحكمة ).

وأمّا المراد الجدّي للمتكلّم فيمكن إثباته من خلال ظهور حال سياقي مفاده : ( أنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده ) بتقريب أنّ المتكلّم غاية ما أفاد من قوله : ( أكرم الفقير ) هو وجوب الإكرام على ذات الفقير من دون أن يذكر قيدا لا تصوّرا ولا استعمالا.

وهذا يحقّق الصغرى لذاك الظهور السياقي ، حيث يقال : إنّ المتكلّم لم يذكر القيد تصوّرا ولا استعمالا ، وكلّ ما لا يقوله من القيود فهو لا يريده جدّا ، فينتج أنّه لا يريد القيد جدّا ، وإذا ثبت أنّ المراد الجدّي ليس هو التقييد فيكون الإطلاق هو المراد الجدّي ؛ لأنّهما نقيضان ثبوتا.

فالصغرى وهي ( ما لا يقوله من القيود ) تتحقّق بمجموع الدلالتين التصوّريّة

ص: 448

والتصديقيّة الأولى ، حيث يثبت على أساسهما أنّه لم يفد القيد تصوّرا واستعمالا ، فيتحقّق أنّه لم يقل القيد.

والكبرى وهي ( ما لا يقوله فهو لا يريده ) تنطبق على الصغرى ، فينتج أنّه لا يريد القيد جدّا فيثبت الإطلاق.

والمرجع في هذا الظهور هو ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام الموضوع المعلّق عليه الحكم جدّا ، فإذا كان موضوع حكمه الجدّي مقيّدا فكان اللازم ذكر القيد ، وإلا لكان مخلاّ بما هو متعارف مع كونه قادرا على ذكره ولم يكن هناك مانع أو محذور منه. فإذا لم يذكر القيد مع توفّر الدواعي لذكره كشف ذلك عن كونه غير دخيل في موضوع حكمه الجدّي ، فيثبت أنّ موضوع الحكم ليس مقيّدا بهذا القيد ولا بذاك فيثبت الإطلاق ؛ لأنّه عدم ذكر القيد.

وهذا الظهور الحالي السياقي يسمّى بقرينة أو مقدّمات الحكمة.

وبالمقارنة نجد أنّ الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق غير الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود. فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّ ما يقوله يريده. والإطلاق يعتمد على ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ويمكن القول بأنّ الظهور الأوّل هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظي للكلام والمدلول التصديقي إيجابيّا ( نريد بالمدلول اللفظي : المدلول المتحصّل من الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى ) ، وأنّ الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبيّا.

وأمّا الفارق بين القاعدتين ( أي قاعدة احترازية القيود وقرينة الحكمة ) فهو أنّ الظهور الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود يختلف عن الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة.

فالظهور في قاعدة الاحترازيّة هو ( كلّ ما يقوله فهو يريده جدّا ) ، بينما الظهور في قرينة الحكمة والإطلاق هو ( كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده جدّا ).

فكلّ منهما يعتمد على ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، غير أنّه يختلف تقريره بينهما سلبا وإيجابا.

فالظهور الذي تعتمد عليه قاعدة الاحترازيّة مرجعه إلى أصالة التطابق بين

ص: 449

الدلالات الثلاث إيجابيّا ، بمعنى أنّ المدلول اللفظي للكلام ( والذي يتكوّن من مجموع الدلالتين التصوّريّة والتصديقيّة الأولى ) يتطابق مع المراد الجدّي الذي هو المدلول التصديقي ، والذي مرجعه إلى ظهور حال المتكلّم. وهذا التطابق إيجابيّ ؛ لأنّه يعتمد على ذكر القيد ووجوده لإثبات كونه مرادا جدّا.

بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة مرجعه إلى أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث سلبا ، بمعنى أنّ المدلول اللفظي المتكوّن من الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى يتطابق سلبيّا مع المراد الجدّي الذي هو المدلول التصديقي الثاني ؛ لأنّ المدلول اللفظي يثبت أنّه لم يقل القيد ، فينتج أنّه لا يريده ، فكان هناك تطابق بالسلب بينهما.

والقدر المشترك بين الظهورين هو أنّهما يعتمدان على أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث ، والاختلاف بينهما في كيفيّة التطابق سلبا وإيجابا.

ويلاحظ أنّ ظهور حال المتكلّم في التطابق الإيجابي - أي في أنّ ما يقوله يريده - أقوى من ظهور حاله في التطابق السلبي ؛ أي في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ومن هنا صحّ القول بأنّه متى ما تعارض المدلول اللفظي لكلام مع إطلاق كلام آخر قدّم المدلول اللفظي على الإطلاق وفقا لقواعد الجمع العرفي.

ويترتّب على الفارق المذكور ثمرة عمليّة وهي : أنّ الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود أقوى من الظهور الذي تعتمد عليه مقدّمات الحكمة ، ولذلك يتقدّم الظهور الأوّل على الظهور الثاني عند تعارضهما.

توضيح ذلك : أنّ ظهور قاعدة احترازيّة القيود كان التطابق الإيجابي بين الدلالات والذي كان مرجعها إلى ذكر ما يدلّ على القيد لفظا ، ومن الواضح أنّ ذكر القيد لفظا نصّ صريح في كونه مرادا للمتكلّم جدّا. بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق ومقدّمات الحكمة كان التطابق السلبي بين الدلالات والذي مرجعه إلى عدم ذكر القيد والذي هو ظاهر في كونه غير مراد جدّا للمتكلّم.

وعليه ، فإذا تعارض النصّ مع الظاهر قدّم الأوّل على الثاني وفقا لقواعد الجمع العرفي عند التعارض غير المستقرّ كما سيأتي.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان ظاهره الإطلاق على أساس ذلك الظهور الحالي

ص: 450

السياقي بأنّ كلّ ما لا يقوله من القيود فهو لا يريده جدّا ، فيستنتج أنّه لا يريد التقييد جدّا ، بل يريد الإطلاق.

إلا أنّ هذا هو ظاهر الكلام وليس الكلام نصّا صريحا في الدلالة على الإطلاق ؛ إذ لا يوجد في الكلام لفظ يدلّ على الإطلاق. فإذا قيل بعد ذلك : ( لا تكرم العالم الفاسق ) كان نصّا في عدم وجوب إكرام العالم الفاسق ، وأنّ العدالة دخيلة في موضوع الحكم ، فعند تعارضهما يقدّم النصّ على الظاهر ؛ لأنّه يصلح للقرينيّة في تفسير المراد الجدّي كما سيأتي تفصيله في بحث التعارض.

من هنا كان التقييد والتخصيص والنصّ والأظهر مقدّما على الإطلاق والعامّ والظاهر أو المجمل ، وهذا فارق عملي مهمّ بينهما.

ويتّضح مما ذكرناه أنّ جوهر الإطلاق يتمثّل في مجموع أمرين :

الأوّل : يشكّل الصغرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ تمام ما ذكر وقيل موضوعا للحكم بحسب المدلول اللفظي للكلام هو الفقير ، ولم يؤخذ فيه قيد العدالة.

والثاني : يشكّل الكبرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ ما لم يقله ولم يذكره إثباتا لا يريده ثبوتا ؛ لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدّي بالكلام.

وتسمّى هاتان المقدّمتان بمقدّمات الحكمة.

والخلاصة : أنّ قرينة الحكمة تتألّف من مجموع أمرين :

الأوّل : وهو الصغرى ومفاده : أنّ ما ذكره المتكلّم وما قاله في كلامه إنّما هو اسم الجنس الذي يدلّ على ذات الماهيّة مجرّدة عن الإطلاق والتقييد ، فكانت ذات الماهيّة هي تمام الموضوع للحكم. ويدلّ على ذلك المدلول اللفظي الذي يتكوّن من مجموع دلالتين هما : الدلالة التصوّريّة الوضعيّة التي تدلّ على المعنى الموضوع له اللفظ ، والدلالة التصديقيّة الأولى التي تدلّ على أنّه قصد استعمال وإخطار هذه الصورة في الذهن ، فينتج منهما أنّ تمام الموضوع الذي أنيط به الحكم هو ذات الماهيّة فقط.

الثاني : وهو الكبرى ومفاده : أنّ ما لا يقوله وما لا يذكره من القيود في كلامه فهو لا يريده جدّا وليس دخيلا في موضوع حكمه. فكلّ القيود منتفية ؛ لأنّه لم

ص: 451

يذكرها. وهذا يعتمد على ظهور حال المتكلّم في التطابق بين مقام الإثبات أي المدلول اللفظي وبين مقام الثبوت أي المراد الجدّي ، ومرجعه إلى ظهور حالي سياقي مفاده أنّ المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في كلامه ، فكلّ ما لا يذكره فهو ليس دخيلا في مراده الجدّي وإلا لكان ذكره ، وبما أنّه لم يذكر القيد إثباتا ولفظا فهو لا يريده ثبوتا وجدّا.

وهاتان المقدّمتان تؤلّفان معا قرينة الحكمة.

فإذا تمّت هاتان المقدّمتان تكوّنت للكلام دلالة على الإطلاق وعدم دخل أيّ قيد لم يذكر في الكلام. ولا شكّ في أنّ هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس الكلام ؛ لأنّ دخله في موضوع الحكم يكون طبيعيّا حينئذ ما دام القيد داخلا في جملة ما قاله ، وتختلّ بذلك المقدّمة الصغرى.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان فتتكوّن للكلام دلالة على الإطلاق ، وأنّه ليس للقيود مدخليّة في موضوع الحكم ما دامت لم تذكر.

وهذا معناه أنّه إذا ذكر القيد في الكلام سوف تختّل الدلالة على الإطلاق ؛ لانتفاء المقدّمة الأولى وهي ( أنّه تمام موضوع الحكم هو ذات الماهيّة ) ؛ لأنّه أبرز في كلامه أنّ تمام الموضوع ليس ذات الماهيّة ، بل الماهيّة مع القيد ، فيكون للقيد المذكور مدخليّة في موضوع الحكم جدّا على أساس ذكره لفظا ، فتنطبق عليه قاعدة الاحترازيّة في القيود ، وهي أنّ ( كلّ ما يقوله من القيود فهو يريده جدّا ). وهذا ممّا لا إشكال فيه كما اتّضح ممّا تقدّم.

وإنّما وقع الشكّ والبحث في حالتين :

الأولى : إذا ذكر القيد في كلام منفصل آخر فهل يؤدّي ذلك إلى عدم دلالة الكلام الأوّل على الإطلاق رأسا كما هي الحالة في ذكره متّصلا ، أو أنّ دلالة الكلام الأوّل على الإطلاق تستقرّ بعدم ذكر القيد متّصلا ، والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضا لظهور قائم بالفعل ، وقد يقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي؟

تقدّم أنّه لا إشكال في اختلال مقدّمات الحكمة ، وعدم تماميّة مقدّماتها فيما إذا ذكر القيد متّصلا ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) ، فإنّ الكلام ينعقد رأسا على

ص: 452

الماهيّة المقيّدة لا المطلقة ؛ تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود في أنّ ( كلّ ما يقوله فهو يريده ) ، ولا تجري مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق ونفي القيود ؛ لأنّ المفروض أنّه ذكر القيود في كلامه.

إلا أنّه وقع الإشكال والخلاف بينهم فيما إذا ورد المقيّد منفصلا ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) ثمّ ورد ( أكرم العالم العادل ). فهل يكون المقيّد المنفصل كالمقيّد المتّصل رافعا لأصل الدلالة على الإطلاق ، بمعنى أنّه لا ينعقد ظهور في الإطلاق أصلا عند مجيء هذا المقيّد فيكون مجيئه كاشفا عن عدم وجود الإطلاق من أوّل الأمر على نحو الشرط المتأخّر ، بأن يكون الإطلاق وانعقاده مشروطا بأن لا يأتي قيد متّصل أو منفصل فيما بعد ، أو على نحو الشرط المقارن بأن يكون الإطلاق في كلّ زمان زمان مشروطا بأن لا يقترن بالمقيّد المتّصل أو المنفصل ، أو لا يكون المقيّد المنفصل رافعا للدلالة على الإطلاق في الكلام السابق؟

بمعنى أنّ الكلام السابق ينعقد له ظهور في الإطلاق ويستقرّ هذا المدلول والظهور إلى أن يأتي المقيّد المنفصل ، فحينئذ يقع التعارض بين هذا الإطلاق وبين التقييد الذي يدلّ على المقيّد المنفصل ، وحينئذ قد يقدّم هذا المقيّد المنفصل على الإطلاق ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الظهور الذي يعتمد عليه التقييد هو أصالة التطابق بين الدلالات إيجابا ، بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة هو التطابق بين الدلالات سلبا ، والأوّل أقوى من الثاني ؛ لأنّه نصّ صريح فيعتبر قرينة لتفسير المراد من الإطلاق ويتقدّم عليه للقرينة النوعيّة العرفيّة.

ذهب المحقّق النائيني إلى الأوّل مشترطا في تماميّة الإطلاق وانعقاد مقدّمات الحكمة ألاّ يكون هناك قيد سواء متّصلا أو منفصلا. فالمقيّد المتّصل والمنفصل عنده يرفعان أصل الظهور من رأس.

بينما ذهب المشهور إلى الثاني حيث اشترطوا عدم المقيّد المتّصل في تماميّة الإطلاق ، وأمّا المنفصل فهو لا مدخليّة له في مقدّمات الحكمة وانعقاد الإطلاق ، بل يكون معارضا له.

والمنشأ لهذا الاختلاف هو :

ويتحدّد هذا البحث على ضوء معرفة أنّ ذلك الظهور الحالي الذي يشكّل

ص: 453

الكبرى ، هل يقتضي كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه أو بمجموع كلماته؟

إنّ الظهور الحالي السياقي الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة وهو ( كلّ ما لا يقوله لا يريده ) ، والذي يشكّل الكبرى من مقدّمات الحكمة ، ما ذا يراد به؟

هنا احتمالان :

الأوّل : أنّ يراد به أنّ المتكلّم في مقام بيان موضوع حكمه كاملا بشخص كلامه. فالمتكلّم يكون ظاهر حاله بيان تمام مراده الجدّي بهذا الكلام الذي يذكره ، فما دام لم يذكر في كلامه القيد فهو لا يريده جدّا. وبالتالي لا يضرّ وجود القيد المنفصل فيما بعد في رفع أصل انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق.

الثاني : أنّ يراد به أنّ المتكلّم في مقام بيان مراده الجدّي لا بشخص هذا الكلام ، وإنّما بمجموع الكلمات الصادرة منه في هذا الموضوع ، فما دام لم ينته من بيان موضوعه فله الحقّ بأن يأتي بما يدلّ على التقييد لاحقا ، كما هو الحال بالنسبة للمدرّس مثلا. وبالتالي يكون ذكر القيد منفصلا عن الكلام الأوّل رافعا لأصل ظهوره في الإطلاق رأسا كما هو الحال بالنسبة للمقيّد المتّصل.

والفارق بين هذين الاحتمالين هو :

فعلى الأوّل يكون صغراه عدم ذكر القيد متّصلا بالكلام ، ويكون ظهور الكلام في الإطلاق منوطا بعدم ذكر القيد في شخص ذلك الكلام ، فلا ينهدم بمجيء التقييد في كلام منفصل.

وعلى الثاني يكون صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلام منفصل ، فينهدم أصل الظهور بمجيء القيد في كلام آخر.

فعلى الاحتمال الأوّل من كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في شخص كلامه ، تكون مقدّمات الحكمة عبارة عن عدم ذكر القيد في خصوص هذا الكلام ، أي عدم ذكر القيد متّصلا في الكلام.

وعندئذ تكون الصغرى لهذا الظهور الحالي ( كلّ ما لا يقوله لا يريده ) عبارة عن أنّه لم يذكر القيد ولم يقله في هذا الكلام متّصلا ، فتتمّ المقدّمات وينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

ص: 454

وحينئذ فإذا جاء المقيّد المنفصل كان معارضا لهذا الظهور المنعقد فعلا على الإطلاق ويجمع بينهما جمعا عرفيّا بتقديم التقييد على الإطلاق ؛ لأنّه قرينة على تفسير المراد.

ولا يكون المقيّد المنفصل هادما ورافعا للظهور من أساسه ، إذ المفروض أنّ مقدّمات الحكمة كانت تامّة ابتداء ، غاية الأمر وجد الآن ما يعارضها ، فتترتّب عليهما أحكام التعارض غير المستقرّ.

بينما على الاحتمال الثاني من كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في مجموع كلماته لا بشخص كلامه ، فتكون مقدّمات الحكمة متوقّفة على ألاّ يأتي المقيّد مطلقا ، سواء المتّصل أو المنفصل ؛ لأنّه إذا جاء بالقيد فيما بعد كان مجيؤه هادما ورافعا للظهور المنعقد ظاهرا في الإطلاق ، وكاشفا عن كون المراد الجدّي هو التقييد أيضا من أوّل الأمر ؛ لأنّنا فرضنا أنّ مقدّمات الحكمة والإطلاق متوقّفة على عدم ذكر القيد مطلقا ولو منفصلا ، فيكون ذكره منفصلا شرطا في عدم تحقّق الإطلاق من أوّل الأمر.

يبقى تحديد ما هو الصحيح من هذين الاحتمالين فنقول :

والمتعيّن بالوجدان العرفي الأوّل ، بل يلزم على الثاني عدم إمكان

التمسّك بالإطلاق في موارد احتمال البيان المنفصل ؛ لأنّ ظهور الكلام في الإطلاق إذا كان منوطا بعدم ذكر القيد ولو منفصلا فلا يمكن إحرازه مع احتمال ورود القيد في كلام منفصل.

والصحيح هو الأوّل أي أنّ مقدّمات الحكمة متوقّفة على عدم ذكر القيد في شخص كلامه ، فيكون المقيّد المنفصل معارضا للظهور في الإطلاق لا رافعا له من أوّل الأمر. والدليل على ذلك :

أوّلا : الوجدان العرفي القاضي بأنّ المتكلّم يبيّن تمام مراده الجدّي وتمام موضوع حكمه ، وكلّ ما له مدخليّة فيه في شخص كلامه ، فلو كان يريد التقييد لكان اللازم عليه أن يأتي بالمقيّد متّصلا ، وإلا لكان مخلاّ وخارقا للمتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، بأن يكون مراده التقييد ومع ذلك لا يأتي بما يدلّ عليه ، مع كونه قادرا على ذكره ويكون ذلك مستهجنا عندهم غير مألوف.

ص: 455

ومن المعلوم أنّ الشارع سار على طريقة العقلاء في التفاهم والتخاطب ، سواء الأمور التكوينيّة أو التشريعيّة ، ولا يعلم بوجود طريقة أخرى انفرد بها الشارع عن العقلاء ، وإلا لكان بيّنها وذكر حدودها وشروطها ، ولكنّه لم يفعل فهذا دليل على أنّه قد أمضى سيرة العقلاء في هذا المورد. وهذا دليل حلّي.

وثانيا : بالنقض فيما لو قيل بالاحتمال الثاني ؛ لأنّه إذا كانت مقدّمات الحكمة والإطلاق متوقّفة على عدم ذكر القيد مطلقا ولو منفصلا لزم من ذلك الإجمال والإهمال في موارد احتمال وجود أو صدور المقيّد المنفصل ، لكنّه لم يصل إلينا بعد لظروف وأسباب.

ففي مثل هذه الحالة لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ولا في التقييد ؛ وذلك لأنّه لا يحرز قطعا بوجود المقيّد ليقال بالتقييد ، ولا يحرز عدم القيد ليقال بالإطلاق ؛ لأن احتمال القيد المنفصل يعني أنّه يحتمل التقييد ويحتمل الإطلاق ولا معيّن لأحدهما على الآخر.

ولا يمكن التمسّك بقرينة الحكمة لإثبات الإطلاق هنا ؛ إذ لا يحرز موضوعها إذ من جملة مقدّماتها ألاّ يوجد القيد المنفصل أيضا وهذا غير محرز ، بل هو مشكوك ، فيشكّ إذا في تحقّق موضوع مقدّمات الحكمة ، ومع الشكّ في تحقّق الموضوع لا يمكن التمسّك بالإطلاق والعام ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ والمطلق في الشبهة المصداقيّة وهو ممنوع.

وحينئذ سوف يبتلي الكلام بالإجمال ، وهذا ما يؤدّي إلى التعطيل في الأحكام ، فلا يكون للحكم في هذه الحالة محركيّة ولا باعثيّة ؛ إذ لا يعلم المكلّف لأي شيء يتحرّك ونحو أي فرد يتّجه. وهذا لا يمكن الالتزام به أصلا فيكون هذا النقض منبّها ودليلا على عدم صحّة هذا الاحتمال.

الثانية : إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب ، فهل يمنع عن دلالة الكلام على الإطلاق أو لا؟ وتوضيح ذلك أنّ المطلق إذا صدر من المولى :

الحالة الثانية التي وقع فيها الإشكال والخلاف بينهم فيما إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب بين المتكلّم والسامع ، وكان هذا القدر المتيقّن ممّا يصحّ الاعتماد عليه ، فهل يكون القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الكلام في الإطلاق فيما إذا جاء الكلام خاليا من ذكر هذا القدر المتيقّن ، أو لا يكون مانعا من انعقاده؟

ص: 456

مثال ذلك : أن يسأل السائل عن وجوب إكرام الفقير العادل ، ثمّ يأتي الجواب مطلقا بوجوب إكرام الفقير ، من دون أن يذكر في الكلام قيد العدالة ، فهل يوجب ذلك منع انعقاد الجواب في الإطلاق وانصرافه إلى هذا القدر المتيقّن ، أو لا يوجب ذلك؟

لا إشكال في أنّه إذا كان هناك انصراف للكلام لهذا القدر المتيقّن من باب كثرة الاستعمال أو ندرة الأفراد الأخرى كان الكلام منصرفا إليه ولا ينعقد إطلاقه ؛ لأنّ ذلك يوجب وضعا تعيّنا للفظ في هذا القدر المتيقّن فينصرف الكلام إليه.

إلا أنّ مورد بحثنا ليس هذا النحو من القدر المتيقّن ، ولتوضيح ذلك نذكر الحالات التالية :

فتارة تكون حصصه متكافئة في الاحتمال فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصّة دون تلك ، أو بالعكس ، أو شموله لهما معا. وهذا معناه عدم وجود قدر متيقّن ، وفي مثل ذلك تتمّ قرينة الحكمة بلا إشكال.

الحالة الأولى : أن تكون حصص المطلق كلّها متكافئة ومتساوية بالنسبة إليه ، بحيث تكون درجة احتمال انطباق المطلق على هذه الحصّة مساويا لدرجة انطباقه على تلك ، ولا ترجيح لانطباقه على إحداهما دون الأخرى. فيمكن أن ينطبق المطلق على هذه الحصّة دون تلك أو العكس ، ويحتمل أيضا شموله لكلّ الحصص ، إلا أنّ انطباقه على إحدى الحصص فقط من دون وجود دليل خاصّ يكون ترجيحا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح ، وهو قبيح عقلا.

وحينئذ يقال : إنّ مقدّمات الحكمة تكون تامّة في هذا المورد ؛ لأنّه وإن كان الممكن انطباق المطلق على إحدى الحصص لكنّه يحتاج إلى ذكر ما يدلّ على ذلك ، فما لم يذكر ما يدلّ على ذلك فهو لا يريده جدّا ، فينتج أنّه أراد الشمول لكلّ الحصص لا بعضها فقط.

وفي هذه الحالة لا يوجد قدر متيقّن في البين ؛ لأنّ نسبة الحصص إلى المطلق نسبة واحدة. ولا إشكال عندهم هنا في تحقّق الإطلاق وتماميّة مقدّمات الحكمة.

وثانية تكون إحدى الحصّتين أولى بالحكم من الحصّة الأخرى ، غير أنّها أولويّة

ص: 457

علمت من خارج ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن من الخارج ، والمعروف في مثل ذلك تماميّة قرينة الحكمة أيضا.

الحالة الثانية : أن يكون لبعض حصص المطلق أولويّة على غيرها ، بمعنى أنّ المطلق لا إشكال في انطباقه عليها وعلى غيرها ، ولكن انطباقه عليها كان بنحو لا يمكن استثناؤها وإخراجها منه فيما لو أريد التقييد وإخراج بعض الأفراد منه ، فتمتاز هذه الحصّة عن غيرها من الحصص بكون المطلق أشدّ وأقوى في انطباقه عليها مع كونها كغيرها من جهة شموليّة المطلق.

وهذه الأولويّة علمت من خارج الكلام ، بمعنى أنّه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على هذه الأولويّة ، وإنّما علمت الأولويّة من الخارج بأن كان العرف يرى أقوائيّة هذه الحصّة في تمثيلها للمطلق من غيرها ، أو كان العقل يرى أنّه لو أريد التخصيص لكان في غير هذه الحصّة ؛ لكونها أشدّ وأقوى من غيرها.

مثال ذلك : أن يقال : ( أكرم العالم ) ، وكان للعالم الفقيه أولويّة في انطباق المطلق عليه ، بمعنى أنّ الشارع لو أراد أن يستثني أحدا من المطلق لكان غير هذه الحصّة ؛ وذلك لوجود خصائص ومميّزات أخرى خارجيّة يتّصف بها هذا الفقيه تجعله أولى من غيره في انطباق العالم عليه.

وهنا أيضا تتمّ مقدّمات الحكمة ؛ لأنّه لم يذكر في الكلام ما يدلّ على هذه الحصّة دون غيرها ، وليس هناك انصراف لها دون غيرها. ومجرّد أولويّته وأكمليّتها لا يوجب كون المطلق منصرفا إليها دون غيرها. فهذا النحو وإن كان من القدر المتيقّن لكنّه خارج عن اللفظ ؛ لأنّ أولويّته علمت بقرائن خارجيّة كالعرف أو العقل ولم تعلم من اللفظ.

وثالثة يكون نفس الكلام صريحا في تطبيق الحكم على إحدى الحصّتين ، كما إذا كانت هي مورد السؤال وجاء المطلق كجواب على هذا السؤال ، من قبيل أن يسأل شخص من المولى عن ( إكرام الفقير العادل ) فيقول له : ( أكرم الفقير ) ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب.

الحالة الثالثة : أن يكون للمطلق حصص كثيرة ولكن كان انطباقه وشموله لإحدى الحصص قدرا متيقّنا من نفس الكلام ، بمعنى أنّ الكلام يصرّح بأنّ هذه

ص: 458

الحصّة هي القدر المتيقّن من المطلق بحيث لا يمكن إخراجها منه فيما لو أريد التقييد ، وكان مع ذلك المطلق يحتمل أن يكون شاملا لكلّ الحصص الأخرى ، فهنا لو اعتمد المتكلّم على هذا القدر المتيقّن من الكلام لإرادة التقييد لكان كلامه وافيا بذلك أيضا ؛ لصحّة الاعتماد على ما اكتنف كلامه من قيود.

مثال ذلك : سؤال السائل للإمام عن ماء بئر ( بضاعة ) فأجابه الإمام : « خلق اللّه الماء طهورا » ، ومثاله أيضا أن يسأل شخص عن وجوب إكرام الفقير العادل هل يجب أو لا؟ فيجيبه : أنّه يجب إكرام الفقير.

فهنا يمكن أنّ المتكلّم يريد الإطلاق من كلامه ؛ لأنّه لم يذكر في كلامه ما يدلّ على التقييد. ولكن مع ذلك يمكن أن يكون مريدا للتقييد واعتمد على ما ذكره السائل من قيد واكتفى به. فكلا الأمرين محتمل.

وهذا النحو يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهنا وقع البحث بينهم في أنّ هذا القدر المتيقّن هل يكفي لتعيين التقييد أو لا يكفي لذلك ، بل يبقى الكلام على إطلاقه؟ فهنا قولان :

وقد اختار صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه (1) أنّ هذا يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق ، إذ في هذه الحالة قد يكون مراده مختصّا بالقدر المتيقّن وهو الفقير العادل في المثال ؛ لأنّ كلامه واف ببيان القدر المتيقّن ، فلا يلزم حينئذ أن يكون قد أراد ما لم يقله.

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق وذلك لاختلال مقدّمات الحكمة أو على الأقلّ لا يحرز تحقّق هذه المقدّمات.

وتوضيح ذلك : أنّ مقدّمات الحكمة إن كانت تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده للمخاطب ، فهنا يكون هذا القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد مقدّمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ مراده الذي يريد إفهامه للسامع مختصّ بالقدر المتيقّن لوضوحه لدى السامع ؛ ولأنّه يصحّ للمتكلّم أن يعتمد على هذا القدر الموجود عند المخاطب ولا يذكره في كلامه ما دام يريد تفهيمه بالخصوص ؛ لأنّ المخاطب قد ارتكز

ص: 459


1- كفاية الأصول : 287.

في ذهنه الفقير العادل فيكون كلام المتكلّم وإن كان مطلقا بظاهره لكنّه يصحّ إرادة التقييد ؛ لأنّ هذا القدر المتيقّن يمكن الاعتماد عليه لأجل إفهام المخاطب ، ولا يكون بذلك مخلاّ بقواعد اللغة والمحاورات العرفيّة ؛ لأنّ هذا القدر بيّن وجلي لدى السامع فيكون المتكلّم مبيّنا لتمام المراد للمخاطب.

وأمّا إن كانت مقدّمات الحكمة تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده في كلامه بقطع النظر عن المخاطب ، بمعنى أنّ المتكلّم أراد أن يبيّن ما هو موضوع الحكم بتمامه بهذا الكلام الذي يذكره ، فهنا لا يكون القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الإطلاق ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة تامّة ؛ وذلك لأنّه لم يذكر في كلامه ما يدلّ على التقييد. وهذا معناه تحقّق الصغرى لكبرى ؛ لأنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده فينتج أنّه لا يريد التقييد وإلا لكان ذكره ، فعدم ذكره يدلّ على عدم إرادته وأنّ الموضوع ليس مقيّدا.

فإذا استظهر الأوّل كان القدر المتيقّن مانعا من الإطلاق ، وإن لم يستظهر فيكون هناك تردّد وشكّ في أنّ المتكلّم هل هو في مقام بيان تمام مراده للمخاطب ، أو أنّه في مقام بيان تمام مراده في شخص كلامه؟

وحينئذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة أيضا ؛ إذ لا يحرز أنّ المتكلّم كان تمام موضوعه ما ذكره هو ، بل يمكن أن يكون تمام موضوعه ما ذكره هو والسائل أيضا. وما دام هذا الاحتمال موجودا فلا يتعيّن الإطلاق دون التقييد ؛ لأنّه لو أراد التقييد لكان هذا القدر المتيقّن كافيا للاعتماد عليه ، فيتمّ الظهور الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود من أنّ كلّ ما يقوله يريده ؛ لأنّ هذا القيد قد ذكر في الكلام واتّضح لدى المخاطب فالاعتماد عليه صحيح.

وما دام هناك شكّ وتردّد فلا يثبت الإطلاق ، وأمّا التقييد وكون وجوب الإكرام للفقير العادل فهو ممّا لا إشكال فيه ، سواء كان مريدا للتقيد أو للإطلاق فيؤخذ به. وأمّا الفقير غير العادل فهو مشكوك كونه موضوعا للحكم فلا يمكن الأخذ به ، والنتيجة هي نتيجة التقييد أيضا.

والجواب على ذلك : أنّ ظاهر حال المتكلّم كما عرفت في كبرى قرينة الحكمة أنّه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدّي بالكلام ، فإذا كانت العدالة

ص: 460

جزءا من الموضوع يلزم أن لا يكون تمام الموضوع بيّنا ، إذ لا يوجد ما يدلّ على قيد العدالة.

والجواب على ما ذكره صاحب ( الكفاية ) : أنّنا نستظهر الاحتمال الثاني ؛ لأنّ الظهور الذي يعتمد عليه في قرينة الحكمة هو أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في شخص كلامه ، ولا علاقة للمخاطب في ذلك. فكلّ ما يكون دخيلا في موضوع الحكم على مستوى الجعل والثبوت والمراد الجدّي لا بدّ أن يأتي المتكلّم بما يدلّ عليه في مرحلة الإثبات والدلالة اللفظيّة.

وحينئذ فإذا لم يكن وصف العدالة دخيلا في مراده الجدّي كان كلامه وافيا بذلك ، وتتمّ مقدّمات الحكمة في أنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده جدّا ، وحيث إنّه لم يقل العدالة في كلامه فهو لا يريدها جدّا.

وأمّا إذا كان يريد العدالة ومع ذلك لم يذكر في كلامه ما يدلّ عليها لكان مخلاّ بما هو المتفاهم عرفا في المحاورات ؛ لأنّه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على قيد العدالة ومع ذلك كان دخيلا في مراده الجدّي ، فهو مخلّ في بيان تمام موضوع حكمه ، وهذا قبيح بنظر العرف والعقلاء ؛ لأنّ موضوعه ليس بيّنا بتمامه في كلامه.

ومجرّد أنّ الفقير العادل هو المتيقّن في الحكم لا يعني أخذ قيد العدالة في الموضوع ، فقرينة الحكمة تقتضي إذن عدم دخل قيد العدالة حتّى في هذه الحالة.

وأمّا ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ القدر المتيقّن لا إشكال في انطباق الموضوع عليه فهو صحيح ، بمعنى أنّ المتكلّم لو أراد أن يخرج بعض الأفراد فلا يخرج هذا القدر المتيقّن. إلا أنّ هذا ليس مرتبطا ببيان موضوع حكمه الجدّي ؛ لأنّ بيان الموضوع جدّا يرتبط بعالم الثبوت والواقع ، وأنّ الموضوع واقعا وثبوتا هل هو المطلق أو المقيّد؟

فإذا كان موضوع حكمه ثبوتا هو المطلق لكان وافيا ببيان تمام موضوع حكمه ؛ إذ لم يذكر القيد في كلامه فتتمّ قرينة الحكمة لنفي هذا القيد وكلّ قيد آخر محتمل ؛ لأنّه لم يقله وكلّ ما لا يقوله فهو لا يريده.

وأمّا إذا كان موضوع حكمه ثبوتا هو المقيّد لكان مخلاّ بالبيان ؛ لأنّه لم يذكر في كلامه قيد العدالة ومع ذلك كان هو تمام موضوع حكمه ثبوتا ، وهذا مخالف للظهور

ص: 461

الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود من أنّ كلّ ما يكون دخيلا في موضوع حكمه من القيود فهو يذكره ويقوله ، والحال أنّه لم يذكر ما يدلّ عليه في كلامه (1).

وبذلك يتّضح أنّ قرينة الحكمة - أي ظهور الكلام في الإطلاق - لا تتوقّف على عدم المقيّد المنفصل ، ولا على عدم القدر المتيقّن ، بل على عدم ذكر القيد متّصلا.

وبهذا ظهر أنّ قرينة الحكمة تعتمد فقط على عدم ذكر القيد متّصلا ، خلافا لما ذكره الميرزا من اشتراط عدم ذكر القيد منفصلا أيضا ، وخلافا لما ذكره صاحب ( الكفاية ) من توقّفها على عدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ لأنّ الظهور الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة لإفادة الإطلاق هو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده الجدّي لموضوع حكمه في شخص كلامه فقط.

هذا هو البحث في أصل الإطلاق وقرينة الحكمة.

ص: 462


1- نعم هذا القدر المتيقّن يعتبر المصداق الأوّل والأهمّ بحيث لا يمكن استثناؤه فيما بعد ، وهذه هي فائدة القدر المتيقّن ؛ بل لو كان القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق لكان القدر المتيقّن من الخارج مانعا عنه أيضا ؛ إذ لا فرق بينهما حينئذ من جهة صحّة اعتماد المتكلّم عليهما لو كان مراده الجدّي بيان موضوع الحكم للمخاطب. وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي.

تنبيهات

ص: 463

ص: 464

تنبيهات

وتكميلا لنظريّة الإطلاق لا بدّ من الإشارة إلى عدّة تنبيهات :

التنبيه الأوّل : أنّ أساس الدلالة على الإطلاق - كما عرفت - هو الظهور الحالي السياقي ، وهذا الظهور دلالته تصديقيّة. ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدالّة على الإطلاق ناظرة إلى المدلول التصديقي للكلام ابتداء ، ولا تدخل في تكوين المدلول التصوّري.

ولأجل استيعاب البحث حول نظريّة الإطلاق وقرينة الحكمة نذكر عدّة تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في أنّ الإطلاق مرتبط بالدلالة التصديقيّة الثانية أي المراد الجدّي ، ولا يرتبط بالمدلول التصوّري.

وتوضيح ذلك : أنّ الإطلاق مرجعه كما تقدّم إلى ظهور حالي سياقي مفاده أنّ ( ما لا يقوله لا يريده ). وهذا الظهور مرتبط بمراد المتكلّم الواقعي في مرحلة الثبوت ، فإنّ مراده لا يخلو إمّا أن يكون منصبّا على الصورة الذهنيّة المطلقة ، أو على الصورة الذهنيّة المقيّدة. ومعرفة هذا المراد الجدّي والاستدلال عليه مرتبط بالمتكلّم وإرادته ، وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده فإذا لم يذكر القيد ولم يقله فهو لا يريده ، فالإطلاق يعتمد إذا على تحديد المراد الجدّي.

ومن المعلوم كما تقدّم أنّ المراد الجدّي يتمّ تحديده على أساس الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهذه الدلالة خارجة عن المدلول اللفظي ؛ لأنّ المدلول اللفظي للكلام يتمّ تحديده من خلال الدلالتين التصوريّة والتصديقيّة الأولى.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان المدلول التصوّري للعالم هو ذات المفهوم والماهيّة ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ اسم الجنس موضوع لذات الماهيّة بما هي هي مجرّدة عن التقييد والإطلاق ، ثمّ على أساس التطابق بين الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة

ص: 465

الأولى يثبت أنّ المتكلّم قد قصد استعمال اللفظ في هذا المعنى أي ذات الماهيّة ، وأنّه قصد إخطار هذه الصورة في ذهن السامع. وعلى أساس هاتين الدلالتين يتمّ تحديد المدلول اللفظي الوضعي ، فيثبت أنّ هذا اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي الموضوع له وهو ذات الماهيّة بما هي هي.

وأمّا الدلالة التصديقيّة الثانية وتحديد المراد الجدّي للمتكلّم وأنّه قصد وأراد جدّا هذه الصورة التي أفادها في ذهن المتكلّم واستعمل اللفظ فيها ، فهذا يتمّ تحديده خارجا عن المدلول اللفظي ؛ لأنّ اللفظ بنفسه لا يدلّ على أنّه أراد ذلك جدّا ، إذ قد يكون هازلا أو في حالة التقيّة والخوف مثلا.

وعليه فلا بدّ من إثبات المراد الجديّ من الرجوع إلى ظهور حال المتكلّم ، وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في شخص كلامه ليثبت أنّه يريد جدّا هذه الصورة ، وهذا مرجعه إلى المتكلّم لا إلى الألفاظ.

وبذلك ظهر أنّ الإطلاق دلالته تصديقيّة دائما وليست تصوّريّة ، بمعنى أنّ الإطلاق ليس دخيلا في الصورة الذهنيّة الموضوع لها اللفظ أو المستعمل فيها ؛ لأنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة ذاتها وبحكم التطابق يثبت أنّه مستعمل في هذا المعنى أيضا ، ولا يتدخّل الإطلاق في المدلول اللفظي التصوّري الوضعي للكلام أصلا.

خلافا لما إذا قيل بأنّ الدلالة على الإطلاق وضعيّة ؛ لأخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، فإنّها تدخل حينئذ في تكوين المدلول التصوّري.

وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور من القدماء : من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة المطلقة ، فهنا يكون الإطلاق جزءا دخيلا في المعنى الموضوع له اللفظ ، فيدخل في الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ. وهذا معناه أنّ لفظ اسم الجنس كما يدلّ على الماهيّة وضعا وتصوّرا كذلك يدلّ على الإطلاق ، فيكون الإطلاق دخيلا في المدلول التصوّري الوضعي للّفظ ، ولا يحتاج في إثباته والاستدلال عليه إلى ظهور حالي سياقي ؛ إذ يثبت ابتداء ومن أوّل الأمر أنّ الإطلاق هو المراد الجدّي للمتكلّم ما لم ينصب قرينة على خلافه. فبناء على هذا القول لا نحتاج إلى دليل على الإطلاق ، وإنّما نحتاج إلى دليل على التقييد فقط.

ص: 466

وكذلك يكون الإطلاق مرتبطا بعالم الألفاظ والمدلول التصوّري الوضعي ، وليس مرتبطا بالمدلول التصديقي الثاني والمراد الجدّي فقط. وهذا فارق جوهري وأساسي بين القولين المتقدّمين في حقيقة اسم الجنس والمعنى الموضوع له.

التنبيه الثاني : أنّ الإطلاق تارة يكون شموليّا يستدعي تعدّد الحكم بتعدّد ما لطرفه من أفراد ، وأخرى بدليّا يستدعي وحدة الحكم. فإذا قيل : ( أكرم العالم ) كان وجود الإكرام متعدّدا بتعدّد أفراد العالم ، ولكنّه لا يتعدّد في كلّ عالم بتعدّد أفراد الإكرام.

التنبيه الثاني : في الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي ولا إشكال في أنّ الإطلاق تارة يكون شموليّا وأخرى يكون بدليّا.

والمراد من الشموليّة هنا أنّ الإطلاق يستدعي ويستلزم تعدّد الحكم وتكثّره بلحاظ تعدّد وكثرة ما لطرفه من أفراد ، فيسري الحكم من الماهيّة إلى أفرادها جميعا ، كما في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، فإنّ الحكم المنصبّ على ماهيّة البيع يسري ويتعدّد ويتكثّر بلحاظ تعدّد وتكثّر أفراد البيع في الخارج ، فيكون كلّ بيع حلالا أي كلّ فرد فرد من أفراد البيع متّصفا بالحلّيّة.

ومثاله أيضا ( لا تكذب ) فإنّ الحرمة متعلّقة بالكذب ، لكنّه ينحلّ ويسري إلى الأفراد جميعا فكلّ فرد فرد من أفراد الكذب حرام ، وهكذا.

والمراد من البدليّة أنّ الإطلاق يستدعي ويستلزم وحدة الحكم فلا يتعدّد ولا يتكثّر ، بل يبقى ثابتا للماهيّة فقط ولا يسري منها إلى أفرادها وإن كانت كثيرة جدّا ، بحيث لا يقتضي أكثر من إيجاد هذه الطبيعة فقط ولو في فرد واحد من أفرادها ، ولا يوجب إيجاد كلّ الأفراد ، ومثاله ( أعتق رقبة ) فإنّ وجوب العتق منصبّ على ماهيّة الرقبة ، وهنا لا يجب إلا عتق رقبة واحدة فقط ، أي إيجاد فرد واحد لا كلّ فرد من أفراد الرقبة يتّصف بالوجوب. فالحكم ثابت للماهيّة فقط والتي تتحقّق بفرد واحد ، ولا يسري إلى أفرادها ، وكذلك ( صلّ ) فإنّه وجوب واحد متعلّق بماهيّة الصلاة ولا يسري إلى كلّ أفرادها أيضا ، وهكذا.

وقد يكون في دليل واحد إطلاق شمولي من جهة وإطلاق بدلي من جهة أخرى ، كما في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فمن جهة ( أكرم ) يكون الإطلاق بدليّا بمعنى أنّه يجب

ص: 467

إيجاد ماهيّة الإكرام ولو بفرد واحد من أفرادها ولا يجب إيجاد كلّ أفراد الإكرام ، فالحكم ثابت للماهيّة ولا يسري منها إلى أفرادها ، فهو إطلاق بدلي.

وأمّا من جهة ( العالم ) فهو إطلاق شمولي ؛ لأنّ وجوب الإكرام منصبّ على ماهيّة العالم ، وهذا الوجوب يتعدّد ويتكثّر بما للعالم من أفراد ومصاديق في الخارج ، وهذا يعني أنّ الحكم سرى من الماهيّة إلى أفرادها.

فتكون النتيجة أنّه يجب إكرام كلّ فرد فرد من أفراد العالم ولكن لا يجب إلا إكرام واحد فقط لا أكثر.

ومن هنا قد يثار إشكال مفاده :

وقد يقال : إنّ قرينة الحكمة تنتج تارة الإطلاق الشمولي وأخرى الإطلاق البدلي.

ويعترض على ذلك بأنّ قرينة الحكمة واحدة فكيف تنتج تارة الإطلاق الشمولي وأخرى الإطلاق البدلي؟!

الإشكال الوارد هنا هو : أنّ قرينة الحكمة تارة تنتج الشموليّة وأخرى تنتج البدليّة ، والحال أنّ قرينة الحكمة واحدة ومرجعها واحد وهو ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان والتفهيم بمراده الجدّي ، فكلّ ما لا يقوله فهو لا يريده ، وهذا يثبت الإطلاق ، فكيف نتج بعد ذلك الشموليّة والبدليّة من هذا الأمر الواحد؟

وبتعبير آخر : أنّه ما دام الدالّ على الإطلاق شيئا واحدا فكيف كان هنا شموليّا وهناك بدليّا؟ إذ المفروض أنّ تكون النتيجة واحدة ؛ لأنّ السبب والمرجع واحد أيضا.

فكيف صدر عن الشيء الواحد أمران مختلفان؟!

وقد أجيب على هذا الاعتراض بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ (1) من أنّ قرينة الحكمة لا تثبت إلا الإطلاق بمعنى عدم القيد ، وأمّا البدليّة والاستغراقيّة فيثبت كلّ منهما بقرينة إضافيّة.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه أهمّها ثلاثة :

الجواب الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ قرينة الحكمة لا تنتج إلا شيئا واحدا فقط وهو عدم القيد ؛ لأنّ الإطلاق الذي ينتج من قرينة الحكمة هو عدم لحاظ القيد

ص: 468


1- محاضرات في أصول الفقه 4 : 106 - 110.

في الموضوع ، أو رفض القيد كما هي مقالته رحمه اللّه وهذا الأمر كما هو موجود بلحاظ الإطلاق الشمولي موجود بلحاظ الإطلاق البدلي ، فلا يلزم صدور شيئين عن مسبّب واحد.

وأمّا الشموليّة والبدليّة فهما وصفان خارجان عن قرينة الحكمة ، ويحتاج كلّ واحد منهما إلى دليل خاصّ غير قرينة الحكمة. فقرينة الحكمة تثبت الإطلاق فقط ، وأمّا كونه شموليّا أو بدليّا فهو يحتاج إلى قرينة أخرى وعناية إضافيّة غير قرينة الحكمة. وتوضيح ذلك :

فالبدليّة في الإطلاق في متعلّق الأمر مثلا تثبت بقرينة إضافيّة ، وهي : أنّ الشموليّة غير معقولة ؛ لأنّ إيجاد جميع أفراد الطبيعة غير مقدور للمكلّف عادة.

والشموليّة في الإطلاق في متعلّق النهي مثلا تثبت بقرينة إضافيّة وهي : أنّ البدليّة غير معقولة ؛ لأنّ ترك أحد أفراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجة إلى النهي.

أنّ قرينة الحكمة تثبت الإطلاق فقط ، بمعنى أنّ الموضوع هو الماهيّة بذاتها مجرّدة عن القيود. فالبدليّة تحتاج إلى عناية زائدة وهي : أنّه إذا قيل : ( أكرم العالم ) أو ( صلّ ) فهنا متعلّق الأمر وهو الإكرام أو الصلاة يثبت كون الإطلاق فيهما بدليّا بقرينة عقليّة أو عقلائيّة عرفيّة ، وهي أنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان بكلّ أفراد الصلاة أو كلّ أنواع الإكرام ، فإيجاد كلّ أفراد طبيعة الإكرام والصلاة غير مقدور للمكلّف إمّا عقلا أو عادة وعرفا ، فعلى أساس عدم القدرة في إيجاد كلّ أفراد الطبيعة تتعيّن البدليّة ؛ لأنّ الشموليّة فيها محذور عدم القدرة ، والشارع لا يكلّف بغير المقدور عقلا أو عرفا.

وأمّا الشموليّة فتثبت بعناية أخرى وهي : إذا قيل : ( لا تكذب ) فهنا متعلّق النهي وهو طبيعي الكذب الذي له أفراد عديدة في الخارج ، لا يمكن أن يكون المراد منه البدليّة بمعنى عدم الكذب ولو مرّة واحدة ؛ لأنّ عدم الكذب ولو مرّة واحدة حاصل وثابت ؛ إذا لا يمكن لشخص أن يكذّب بكلّ أنواع الكذب وأفراده ؛ لأنّ ذلك غير مقدور له عقلا أو عادة ، فيكون إرادة البدليّة مستحيلا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

والأمر بشيء حاصل ومفروغ عنه لغو ، فعلى أساس محذور اللغويّة يثبت أنّ المتعلّق هنا مطلق بنحو الإطلاق الشمولي ، فيكون مكلّفا بالامتناع عن إيجاد كلّ أفراد الكذب وليس عن بعض الأفراد فقط ؛ لأنّه حاصل ومتحقّق فالتكليف به لغو.

ص: 469

وبهذا ظهر أنّ عناية البدليّة هي عدم القدرة على إيجاد كلّ أفراد الطبيعة ، بينما عناية الشموليّة هي لغويّة ترك بعض أفراد الطبيعة فقط ، وكلا هاتين العنايتين يحكم بهما العقل أو العرف.

وهما خارجان عن مدلول قرينة الحكمة ؛ لأنّها تثبت الإطلاق فقط بمعنى عدم مدخليّة القيد في الموضوع.

ولا يصلح هذا الجواب لحلّ المشكلة ؛ إذ توجد حالات يمكن فيها الإطلاق الشمولي والبدلي معا ، ومع هذا يعيّن الشمولي بقرينة الحكمة ، كما في كلمة ( عالم ) في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فلا بدّ إذا من أساس لتعيين الشموليّة أو البدليّة غير مجرّد كون بديله مستحيلا.

إلا أنّ هذا الجواب لا يصلح حلاّ للمشكلة ؛ لأنّه وإن كان تامّا في بعض الحالات إلا أنّه ليس تامّا في بعضها الآخر ، فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان الإطلاق شموليّا ، وأمّا إذا قيل : ( أكرم عالما ) كان الإطلاق بدليّا ، فكلمة ( العالم ) يمكن فيها البدليّة والشموليّة معا وتعيين أحدهما يحتاج إلى سبب آخر غير ما ذكره السيّد الخوئي ؛ لأنّه ذكر أنّ محذور اللغويّة يعيّن الشموليّة بينما استحالة التكليف بغير المقدور يعيّن البدليّة.

ففي هذا المورد كلمة ( العالم ) يمكن أن تكون شموليّة ؛ لإمكان إكرام كلّ أفراد العالم ، ويمكن أن تكون بدليّة بإكرام بعض الأفراد ، ولكن مع ذلك تتعيّن الشموليّة دون البدليّة بقرينة الحكمة ، مع أنّه لا محذور في إرادة البدليّة أيضا.

فلو كان الملاك للشموليّة هو محذور اللغويّة في البدليّة لم تتمّ الشموليّة ؛ إذ لا محذور هنا بإكرام بعض الأفراد. ولو كان الملاك للبدليّة استحالة الشموليّة لم تتمّ البدليّة هنا ؛ لأنّ الشموليّة غير مستحيلة ؛ إذ يمكن للمكلّف إكرام كلّ أفراد العالم ، مع أنّ السيّد الخوئي يلتزم بالشموليّة هنا رغم أنّه لا محذور في البدليّة ، وهذا مخالف لما ذكره من الملاك (1).

ص: 470


1- ويلزم ممّا ذكر أيضا : أن تكون الأحكام الشرعيّة كلّها بدليّة ؛ وذلك لأنّ التكليف بغير المقدور إن كان هو ملاك البدليّة فحيث إنّ الأحكام التكليفيّة كلّها مقيّدة بالقدرة ؛ لأنّه لا يمكن للمكلّف أن يأتي بكلّ الأفراد فتكون كلّها بدليّة ... ويلزم أيضا أن يكون مثل ( أكرم العالم ) بدليّا ؛ إذ يستحيل إكرام كلّ أفراد العالم ، كما أنّه يستحيل إيجاد كلّ إفراد الإكرام ، فالاستحالة موجودة فيهما معا ، فلما ذا كان هذا بدليّا وذاك شموليّا مع وحدة الملاك فيهما؟ وبهذا ظهر أنّه لا بدّ من وجود ملاك آخر وأساس ثابت يبتني عليه البدليّة والشموليّة غير ما ذكره السيّد الخوئي.

الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي رحمه اللّه (1) من أنّ الأصل في قرينة الحكمة انتاج الإطلاق البدلي ، والشموليّة عناية إضافيّة بحاجة إلى قرينة ؛ وذلك لأنّ هذه القرينة تثبت أنّ موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون قيد ، والطبيعة بدون قيد تنطبق على القليل والكثير وعلى الواحد والمتعدّد.

الجواب الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ قرينة الحكمة تنتج الإطلاق البدلي فقط ، وأمّا الإطلاق الشمولي فيحتاج إلى عناية زائدة.

وتوضيح ذلك : أنّ قرينة الحكمة تثبت أنّ موضوع الحكم

هو الطبيعة والماهيّة فقط مجرّدة عن القيود ، وذات الماهيّة كما تنطبق على كلّ الأفراد تنطبق على بعضها ، فهي توجد بفرد من أفرادها وتوجد بأكثر من ذلك. فالثابت دائما هو البعض ؛ لأنّه القدر المتيقّن ، بينما الجميع على نحو الشموليّة ، فهذا يحتاج إلى عناية زائدة إضافيّة غير قرينة الحكمة.

وبتعبير آخر : أنّ البدليّة بمعنى وحدة الحكم وعدم تعدّده ثابت بمجرّد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه يثبت أنّ موضوع الحكم هو ذات الطبيعة ، فالحكم واحد والموضوع واحد. وأمّا الشموليّة بمعنى تعدّد الحكم بتعدّد الأفراد فهذا أمر زائد يحتاج إلى قرينة وعناية تثبت أنّ الحكم موضوعه كلّ الأفراد لا ذات الماهيّة فقط ؛ لأنّ ذات الماهيّة ينطبق على القليل والكثير ، والقليل هو المتيقّن ؛ لأنّ الطبيعة توجد بفرد من أفرادها ، وأمّا الكثير فهو يحتاج إلى دليل آخر.

فلو قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق كفى في الامتثال إكرام الواحد ؛ لانطباق الطبيعة عليه. وهذا معنى كون الإطلاق من حيث الأساس

ص: 471


1- كلماته في هذه المسألة مشوّشة للغاية ، ولعلّ أقرب ما ورد فيها إلى ما نسب إليه في المتن ما جاء في مقالات الأصول 1 : 501 ، ولكنّه لم يتبنّاه بل ردّه ببيان له ، وتمسّك بفكرة أخرى في هذه المسألة ، فراجع.

بدليّا دائما ، وأمّا الشموليّة فتحتاج إلى ملاحظة الطبيعة سارية في جميع أفرادها ، وهي مئونة زائدة تحتاج إلى قرينة.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) جرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق ، بمعنى أنّ موضوع الحكم هو ذات الطبيعة من دون قيد ، وإذا ثبت كون الطبيعة بذاتها هي موضوع الحكم فهذا معناه أنّه يجب الإكرام لذات العالم ، ومن المعلوم أنّ ذات العالم تتحقّق وتوجد بفرد من أفرادها فيتحقّق الامتثال بإكرام واحد من العالم. وهذا معنى ما يقال : إنّ الأصل في الإطلاق كونه بدليّا ، أي يكفي فرد واحد في تحقيق الامتثال.

وأمّا الشموليّة وكون الحكم متعدّدا بتعدّد الأفراد فهذا شيء زائد على وجوب إكرام الماهيّة ؛ لأنّه يعني إسراء الوجوب إلى الأفراد ، فلا بدّ إذا من إثبات أنّ هذا الحكم موضوعه الأفراد أيضا وهذا لا يكفي فيه قرينة الحكمة ؛ لأنّها لا تثبت أنّ الأفراد هي موضوع الحكم فلا بدّ من عناية إضافيّة زائدة لإثبات الشموليّة.

وبتعبير آخر : أنّ قرينة الحكمة تثبت الإطلاق بمعنى عدم القيود ، أي أنّ الماهيّة بذاتها مجرّدة عن القيود هي الموضوع ، والبدليّة هنا تعني أنّه يكفي إيجاد فرد واحد من أفراد الماهيّة ؛ لأنّ الماهيّة يكفي في تحقّقها فرد واحد من أفرادها.

وأمّا الشموليّة فهي تعني أنّ الحكم موضوعه ليس خصوص الماهيّة بذاتها ، بل الماهيّة بكل أفرادها أي الماهيّة مع كلّ القيود المتصوّرة فيها ، وهذا لا يثبت بالإطلاق ؛ لأنّه ينفي القيود لا أنّه يجمع القيود ، فتحتاج إلى عناية زائدة لإثبات أنّ الحكم على كلّ الأفراد (1).

الثالث : أن يقال - خلافا لذلك - : إنّ الماهيّة عند ما تلحظ بدون قيد وينصبّ عليها حكم إنّما ينصبّ عليها ذلك بما هي مرآة للخارج ، فيسري الحكم نتيجة

ص: 472


1- وفيه : أنّه وقع خلط بين الإطلاق والعموم فالإطلاق الشمولي لا ينظر فيه إلى الأفراد بخلاف العموم. فإنّ الأفراد مدلول تصوّري لألفاظ العموم والمقصود من الإطلاق الشمولي : أنّ الحكم منصبّ على الماهيّة وهي متعلّق الحكم ، ولكن هذا الحكم ينحلّ إلى أحكام عديدة تبعا لكثرة أفراد الماهيّة في الخارج ، إلا أنّ هذه الأفراد ليست هي موضوع الحكم وإنّما هي مصداق موضوعه فقط.

لذلك إلى كلّ فرد خارجي تنطبق عليه تلك المرآة الذهنيّة ، وهذا معنى تعدّد الحكم وشموليّته.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الأصل في قرينة الحكمة أنّها تنتج الإطلاق الشمولي ، وأمّا الإطلاق البدلي فيحتاج إلى عناية إضافيّة زائدة.

وتوضيح ذلك : إذا قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة ثبت أنّ موضوع الحكم هو ذات الماهيّة وطبيعة العالم بما هي هي ، ومن المعلوم أنّ الطبيعة والماهيّة إنّما تؤخذ في الذهن وفي موضوع الحكم تصوّرا لا بقيد الوجود الذهني أو اللحاظ الذهني ، وإنّما تؤخذ كذلك بما هي مرآة وحاكية وكاشفة عن الخارج ، وحينئذ فيكون كلّ فرد في الخارج صالحا لأن تنطبق عليه هذه الصورة بحيث تكون المرآتيّة بين الماهيّة والفرد في الخارج ثابتة لكلّ الأفراد ؛ إذ لا أولويّة ولا مرجّح لأحدها على الآخر. وهذا معناه أنّ الحكم يسري من الطبيعة والماهيّة التي انصبّ عليها الحكم من دون قيد إلى الأفراد في الخارج ، وهذا هو معنى الشموليّة ؛ إذ لا يراد من الشموليّة أكثر من كون الحكم متعدّدا بتعدّد الأفراد ، وهنا ثبت أنّ كلّ فرد من أفراد الماهيّة صالح للمرآتية ولانطباق الماهيّة عليه فيسري حكمها إليه ، والنتيجة هي سريان الحكم إلى كلّ الأفراد.

وأمّا البدليّة كما في متعلّق الأمر فهي التي تحتاج الى عناية ، وهي تقييد الماهيّة بالوجود الأوّل ، فقول : ( صلّ ) يرجع إلى الأمر بالوجود الأوّل ، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني ، وعلى هذا فالأصل في الإطلاق الشموليّة ما لم تقم قرينة على البدليّة.

وأمّا البدليّة فهي تحتاج إلى عناية إضافيّة غير قرينة الحكمة ، فإذا قيل : ( صلّ ) كان متعلّق الأمر وهو الصلاة مطلقا بدليّا ، بمعنى كفاية فرد واحد من أفراد الصلاة يحتاج إلى عناية وقرينة ؛ لأنّ الأصل هو الشمول لكلّ الأفراد والبدليّة معناها الاكتفاء بفرد واحد وهو الفرد الأوّل ، وهذا تقييد زائد لا بدّ فيه من العناية كأن يقال مثلا : إنّ إيجاد كلّ أفراد الصلاة متعذّر أو متعسّر ، أو يقال : إنّ المطلوب هو إيجاد الطبيعة وهي توجد بفرد من أفرادها.

وعلى كلّ حال فالبدليّة تحتاج إلى العناية ؛ لأنّها تعني الاكتفاء بالفرد الأوّل دون

ص: 473

حاجة إلى غيره. وقد عرفت أنّ الأصل في قرينة الحكمة أنّها تفيد الإطلاق الشمولي ، أي السريان لكلّ الأفراد لا بعضها.

وتحقيق الحال في المسألة يوافيك في بحث أعلى إن شاء اللّه تعالى.

وحاصله تارة يبحث بلحاظ الحكم ، وأخرى يبحث بلحاظ الامتثال.

أمّا بلحاظ الحكم فبمعنى هل أنّ الحكم واحد أم هو متعدّد؟ فالبدليّة تعني وحدة الحكم والشموليّة تعني تعدّده.

فهنا يقال : الصحيح هو التفصيل بين موضوع الحكم وبين متعلّقة ، فإذا قيل : ( أكرم العالم ) كان المتعلّق هو الإكرام والموضوع هو العالم.

فمن حيث المتعلّق فالأصل هو البدليّة ما لم تقم قرينة على الشموليّة ؛ لأنّ الحكم منصبّ على الطبيعة بمعنى حكم واحد لإيجاد الطبيعة أو لإعدامها.

ومن حيث الموضوع فالأصل هو الشموليّة ما لم تقم قرينة على البدليّة ؛ لأنّ كلّ فرد صالح لانطباق الموضوع عليه ، فالأفراد متساوية هنا ، والسرّ في ذلك أنّ الموضوع يستبطن قضيّة شرطيّة بخلاف المتعلّق ، ( فأكرم العالم ) من جهة الموضوع معناها بالتحليل ( إن وجد عالم فأكرمه ) ، وهو قضيّة حقيقيّة موضوعها مقدّر الوجود ، فمتى وجد العالم يثبت له الوجوب وهو معنى الشموليّة.

وأمّا من جهة المتعلّق فهو لا ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة ؛ لأنّ الإكرام لا يفرض مقدّر الوجود بل يطلب وجوده وتحقيقه.

وأمّا بلحاظ الامتثال فالشموليّة والبدليّة بمعنى أنّه هل يكتفى بامتثال واحد أو لا بدّ من تعدّد الامتثال؟

فهنا تكون البدليّة والشموليّة خارجان عن قرينة الحكمة ، وإنّما العقل هو الذي يحكم بتحقّق الامتثال بفرد أو بالأفراد ، ففي موارد الأمر يحكم العقل بامتثال الطبيعة وإيجادها ضمن فرد واحد فيتحقّق الامتثال به ، وأمّا في موارد النهي فيحكم العقل بأنّ الطبيعة لا تنعدم الا بكلّ أفرادها فالامتثال لا يتحقّق إلا بكلّ الأفراد.

التنبيه الثالث : إذا لاحظنا متعلّق النهي في ( لا تكذب ) ومتعلّق الأمر في ( صلّ ) نجد أنّ الحكم في الخطاب الأوّل يشتمل على تحريمات متعدّدة بعدد أفراد

ص: 474

الكذب ، وكلّ كذب حرام بحرمة تخصّه ، ولو كذب المكلّف كذبتين يعصي حكمين ويستحقّ عقابين.

التنبيه الثالث : في وحدة العقاب وتعدّده.

وهذا البحث من نتائج الشموليّة والبدليّة في الحكم. حيث قلنا : إنّ البدليّة تقتضي وحدة الحكم ، وهذا يعني أنّه يوجد تكليف واحد له امتثال واحد وعصيان واحد. وأمّا الشموليّة فهي تقتضي تعدّد الحكم وهذا معناه وجود تكاليف عديدة لكلّ منها عصيان وامتثال ، فإذا تركها جميعا تعدّد العقاب.

ففي متعلّق النهي مثلا ( لا تكذب ) قلنا : إنّ الإطلاق هنا شمولي بلحاظ عالم الامتثال ؛ لأنّ النهي يقتضي إعدام الطبيعة وعدم إيجادها في الخارج ، ومن الواضح أنّ إعدام الطبيعة لا يكون إلا بإعدام كلّ أفرادها ؛ إذ لو بقي فرد من أفرادها موجودا في الخارج لم تعدم الطبيعة ؛ لأنّها موجودة ضمنه.

وهذا معناه أنّ الحكم بحرمة الكذب ينحلّ إلى تحريمات عديدة بعدد الأفراد ، فلكلّ فرد من أفراد الكذب حرمة خاصّة به ، والمطلوب من المكلّف الامتناع عن كلّ هذه الأفراد ، فإذا عصى كان لكلّ فرد من الكذب عصيان خاصّ به يعاقب عليه مستقلاّ عن الفرد الآخر من الكذب ؛ لأنّه تكليف آخر له امتثال وعصيان مستقلاّن عن الأوّل.

فكلّما تعدّد الكذب من المكلّف كان عاصيا بعددها وكان معاقبا كذلك.

وأمّا الحكم في الخطاب الثاني فلا يشتمل إلا على وجوب واحد ، فلو ترك المكلّف الصلاة لكان ذلك عصيانا واحدا ويستحقّ بسببه عقابا واحدا. وهذا من نتائج الشموليّة في إطلاق متعلّق النهي التي تقتضي تعدّد الحكم ، والبدليّة في إطلاق متعلّق الأمر الذي يقتضي وحدة الحكم.

وأمّا في متعلّق الأمر من قبيل ( صلّ ) فقد تقدّم أنّ الإطلاق هنا بدلي بلحاظ عالم الامتثال ؛ وذلك لأنّ الأمر يقتضي إيجاد الطبيعة في الخارج وهي توجد بالفرد الأوّل من أفرادها ، فيكون ما سواه غير متعلّق للأمر وليس مأمورا به. وهذا معناه أنّ الحكم واحد غير متعدّد ، فإذا امتثله كان مستحقّا للثواب ، وإذا عصى ولم يمتثل للمأمور به كان مخالفا لحكم واحد ، وبالتالي لا يستحقّ إلا عقابا واحدا فقط.

ص: 475

وهذا الفرق بين متعلّق النهي ومتعلّق الأمر في وحدة العقاب وتعدّده فرع الشموليّة والبدليّة في متعلّقيهما ، حيث إنّ الإطلاق في متعلّق النهي شمولي وهو يقتضي تعدد الحكم ، وبالتالي تعدّد العقاب والعصيان. بينما الإطلاق في متعلّق الأمر بدلي وهو يقتضي وحدة الحكم ووحدة العقاب والعصيان.

ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهي في حالة لا يعبّر إلا عن تحريم واحد ، كما في النهي المتعلّق بماهيّة لا تقبل التكرار ، من قبيل ( لا تحدث ) بناء على أنّ الحدث لا يتعدّد ، ففي هذه الحالة يكون التحريم واحدا كما أنّ الوجوب في ( صلّ ) واحد.

وهنا مورد نخرج فيه عن الأصل ، حيث تقدّم أنّ الأصل في متعلّق النهي هو الشموليّة.

وهذا الاستثناء يكون فيه الإطلاق في متعلّق النهي بدليّا خلافا للأصل ، وذلك فيما إذا كان النهي متعلّقا بماهيّة وطبيعة لا تقبل التكرار والتعدّد ، فحينئذ لا يكون هناك إلا تحريم واحد وله عقاب واحد فقط ، من قبيل ( لا تحدث ) أو ( لا تفطر ) ؛ إذ الحدث والإفطار لا يتعدّد ولا يتكرّر ؛ لأنّ من أحدث بالبول مثلا صار محدثا ، فإذا أحدث بالغائط أيضا أو بالنوم لم يحدث من جديد ، بناء على أنّ المراد من الحدث هو الحدث بعد الطهارة فلا يشمل موارد الحدث بعد الحدث.

وهكذا في قوله ( لا تفطر ) فإنّ من أفطر بالأكل صار مفطرا وتحقّقت طبيعة الإفطار في الخارج ، فإذا شرب بعد ذلك لا يقال : إنّه أفطر مرّة ثانية ؛ لأنّ الإفطار لا يشمل إلا من تناول المفطر بعد أن كان صائما والذي تناول الماء بعد الأكل لم يفطر بعد صيامه ، وإنّما أفطر بعد إفطار.

وهذه المسألة محلّ كلام عندهم ؛ إذ يوجد قولان : أحدهما أنّ الحدث والإفطار لا يتكرّران ، والآخر أنّهما يتكرّران.

فبناء على عدم تكرّرهما سوف يكون النهي المتعلّق بالحدث وبالإفطار نهيا واحدا فقط ؛ لأنّ الحدث أو الإفطار يتحقّق بالفرد الأوّل منهما دون الثاني والثالث ، وهكذا.

فكما أنّ متعلّق الأمر في ( صلّ ) يكون فيه حكم واحد أو عصيان واحد ، كذلك الحال هنا يكون هناك تحريم واحد أو عصيان واحد.

وهذا المورد خرج عن الأصل بقرينة أنّ الماهيّة لا تتعدّد ولا تتكرّر في الخارج.

ص: 476

إلا أنّه مع ذلك يبقى هناك فرق بين متعلّق الأمر وبين هذا النحو من متعلّق النهي وهو :

ولكن مع هذا نلاحظ أنّ هناك فارقا يظلّ ثابتا بين الأمر والنهي ، أو بين الوجوب والتحريم ، وهو أنّ الوجوب الواحد المتعلّق بالطبيعة لا يستدعي إلا الإتيان بفرد من أفرادها ، وأمّا التحريم الواحد المتعلّق بها فهو يستدعي اجتناب كلّ أفرادها ولا يكفي أن يترك بعض الأفراد.

يبقى أنّ هناك فارقا بين الأمر والنهي أو بين الوجوب والتحريم. فصحيح أنّ هذا التحريم واحد كما هو الحال في الوجوب فيكون له عصيان واحد ؛ لأنّه تكليف واحد. إلا أنّه مع ذلك نجد أنّ الوجوب والأمر المتعلّق بالطبيعة ( أكرم ) يستدعي إيجاد الطبيعة في الخارج ، والطبيعة توجد بفرد من أفرادها.

وهذا معناه أنّه يكفي في امتثال متعلّق الأمر إيجاد فرد من الأفراد فقط. وأمّا النهي والتحريم فهو وإن كان واحدا لوجود القرينة على ذلك فإنّه عصيان واحد ؛ لأنّه حكم واحد ، إلا أنّه لا يكفي في امتثال متعلّق النهي أن يعدم فردا من الأفراد ، بل لا بدّ من إعدام كلّ الأفراد ليتحقّق الامتثال ؛ لأنّ الطبيعة لا تنعدم إلا بكلّ أفرادها.

وهذا يعني أنّه يوجد فارق بينهما في عالم الامتثال ، فالأمر يمتثل بفرد من إفراده ، بينما النهي الواحد كالنهي المتعدّد لا يتحقّق امتثاله إلا بترك كلّ الأفراد لا بعضها.

والوجه في هذا هو :

وهذا الفارق ليس مردّه إلى الاختلاف في دلالة اللفظ أو الإطلاق ، بل إلى أمر عقلي وهو أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولكنّها لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها. وحيث إنّ النهي عن الطبيعة يستدعي انعدامها فلا بدّ من ترك سائر أفرادها ، وحيث إنّ الأمر بها يستدعي إيجادها فيكفي إيجاد فرد من أفرادها.

وهذا الفارق ليس منشؤه الاختلاف في دلالة اللفظ ، فإنّ اللفظ يدلّ على شيء واحد وهو الطبيعة والماهيّة ، حيث تقدّم أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة بذاتها. فنقول : ( لا تحدث ) و ( صلّ ) يدلّ اسم الجنس فيهما على طبيعي الحدث والصلاة ، فليس هناك اختلاف بينهما في دلالة اللفظ.

وكذلك ليس منشأ الاختلاف هنا الاختلاف في الإطلاق ، فإنّ الإطلاق فيهما

ص: 477

واحد وهو بمعنى كون الطبيعة والماهيّة من دون قيد في موضوع الحكم. فقولنا : ( لا تحدث ) و ( صلّ ) يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيهما على حدّ سواء ، والنتيجة واحدة وهي أنّ الطبيعة لم يؤخذ فيها قيد أصلا.

فالصحيح أنّ منشأ الاختلاف هو التحليل العقلي القائل بأنّ الطبيعة والماهيّة توجد بفرد من أفرادها ولا تنعدم إلا بانعدام كلّ أفرادها.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الأمر يستدعي إيجاد الطبيعة ، وهذا يكفي فيه إيجاد فرد من الأفراد فيتحقّق الامتثال ويسقط التكليف. بينما النهي يستدعي إعدام الطبيعة ، وهذا لا يكفي فيه إعدام بعض أفرادها ؛ لأنّها تبقى موجودة ضمن البعض الآخر. ولذلك كان إعدامها يقتضي إعدام كلّ أفرادها ؛ ليتحقّق الامتثال ويسقط التكليف.

التنبيه الرابع : أنّه في الحالات التي يكون الإطلاق فيها شموليّا يسري الحكم إلى كلّ الأفراد ، فيكون كلّ فرد من الطبيعة المطلقة شموليّا موضوعا لفرد من الحكم ، كما في الإطلاق الشمولي للعالم في ( أكرم العالم ).

التنبيه الرابع : في تصوير الشموليّة وتعدّد الحكم.

تقدّم سابقا أنّ الشموليّة تعني تعدد الحكم وتكثّره تبعا لتعدّد الأفراد وكثرتها ، بحيث يكون لكلّ فرد من الأفراد حكم مستقلّ يجب امتثاله ويكون له ثواب وعقاب مستقلاّ عن بقيّة الأفراد ، فإذا قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة يثبت وجوبات عديدة بتعدّد الأفراد لماهيّة العالم ، فلكلّ عالم وجوب وامتثال وعصيان وعقاب وثواب مستقلاّ عن سائر الأفراد. فالشموليّة تعني السريان للحكم من الطبيعة إلى الأفراد بعد جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

والسؤال هنا : أنّ هذا التكرار والشموليّة في الحكم هل هي ثابتة في عالم الجعل أو في عالم المجعول؟

والمقصود من عالم الجعل التشريع والواقع الثبوتي ، بينما المقصود من عالم المجعول هو عالم الخارج ، حيث يكون الحكم فعليّا تبعا لفعليّة القيود والشروط وتحقّقها في الخارج.

والجواب : أنّ الشموليّة والسريان بلحاظ عالم المجعول والفعليّة. وتوضيح ذلك :

ص: 478

ولكن هذا التكثّر في الحكم والتكثّر في موضوعه ليس على مستوى الجعل ولحاظ المولى عند جعله للحكم بوجوب الإكرام على طبيعي العالم ، فإنّ المولى في مقام الجعل يلاحظ طبيعي العالم ولا يلحظ العلماء بما هم كثرة ، فبنظره الجعلي ليس لديه إلا موضوع واحد وحكم واحد ، ولكن التكثّر يكون في مرحلة المجعول.

توضيح الجواب : أنّ الشموليّة والتكثّر في الحكم وفي موضوعه راجعة إلى عالم المجعول والفعليّة ، لا إلى عالم الجعل والإنشاء واللحاظ المولوي عند جعل الحكم.

فكما تقدّم سابقا أنّ المولى عند ما يصبّ حكمه على الموضوع إنّما يصبّه على الموضوع المتصوّر في ذهنه بما هو حاك عن الخارج لا بقيد اللحاظ الذهني ، وهنا المولى عند ما صبّ وجوب الإكرام على العالم إنّما صبّه على الصورة الذهنيّة لطبيعة العالم وهي واحدة ، فكان الحكم واحدا أيضا بلحاظ وحدة الموضوع في عالم الجعل والإنشاء.

وبتعبير آخر : أنّ المولى أحضر في ذهنه صورة العالم وهي موضوع واحد ، وهو الطبيعة الواجدة لصفة العلم وصبّ على هذا الموضوع الواحد الكلّي حكما واحدا كلّيّا أيضا وهو وجوب الإكرام. ولذلك فلا تكثّر ولا تعدّد في عالم الجعل لا للموضوع ولا للحكم ، بل كلاهما واحد كلّي.

وأمّا في عالم المجعول أي فعليّة الحكم في الخارج ، فهذا يرتبط بتحقّق الموضوع خارجا والموضوع في الخارج لا يكون فعليّا ، إلا إذا تحقّقت كلّ قيوده وشروطه ، فإذا وجد في الخارج عالم وجب إكرامه ، وهذا ما تقدّم سابقا من أنّ الأحكام الشرعيّة الحقيقيّة تنحلّ إلى قضيّة شرطيّة موضوعها مقدّر الوجود.

وحينئذ يحصل التكثّر والشمول ؛ لأنّ طبيعة العالم لها في الخارج مصاديق عديدة والحكم منصبّ على الطبيعة ، فكلّما وجد مصداق للعالم كان الموضوع متحقّقا فينصبّ عليه الحكم ، وهكذا يحصل التكثّر بلحاظ الموضوع نظرا لكثرة مصاديقه وبتبع تكثّر الموضوع يتكثّر الحكم أيضا.

والنتيجة : أنّ الحكم واحد في عالم الجعل وكذا الموضوع ، بينما هما متكثّران في عالم المجعول.

ص: 479

وقد ميّزنا سابقا (1) بين الجعل والمجعول ، وعرفنا أنّ فعليّة المجعول تابعة لفعليّة موضوعه خارجا ، فيتكثّر وجوب الإكرام المجعول في المثال تبعا لتكثّر أفراد العالم في الخارج.

وعلى أساس التمييز بين الجعل والمجعول الذي تقدّم سابقا ، حيث إنّ الجعل هو عالم إنشاء الحكم ولحاظه وواقعه ، بينما عالم المجعول هو عالم فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، فإذا وجد الموضوع في الخارج صار الحكم فعليّا فيسمّى بالحكم المجعول. وأمّا إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج فيسمّى بالحكم الجعلي.

ولذلك لا مانع من وحدة الحكم والموضوع في عالم الجعل وتكثّرهما في عالم المجعول ؛ لأنّ الأوّل راجع إلى المولى وكيفيّة حكمه وموضوعه ، بينما الثاني راجع إلى عالم الخارج والمصاديق الخارجيّة للموضوع.

والخطاب الشرعي مفاده ومدلوله التصديقي إنّما هو الجعل ، أي الحكم على نحو القضيّة الحقيقيّة ، وليس ناظرا إلى فعليّة المجعول ، وهذا يعني أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم في موارد الإطلاق الشمولي إنّما يكون في مرتبة غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.

بعد أن عرفنا أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم إنّما تكون بلحاظ عالم المجعول لا الجعل ، نقول : إنّ الخطابات الشرعيّة من قبيل ( أكرم العلماء ) ( لا تكذب ) ونحوهما مفادها التصديقي ومدلولها الجدّي إنّما هو عالم الجعل ، فقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (2) مفادها الجدّي ومدلولها التصديقي هو إنشاء حكم بوجوب الحجّ على المستطيع في عالم الجعل والتشريع والواقع الثبوتي. وهذا معناه أنّ هناك حكما بنحو القضيّة الحقيقيّة مفاده ( كلّما وجد مستطيع وجب عليه الحجّ ) ؛ لأنّ الخطابات الشرعيّة كلّها تبرز الأحكام بنحو القضيّة الحقيقيّة التي يكون موضوعها مقدّر الوجود. ففي عالم الجعل ليس إلا حكم واحد على موضوع واحد.

وليست الخطابات الشرعيّة ناظرة إلى فعليّة المجعول ؛ لأنّ فعليّة المجعول إنّما تتحقّق إذا تحقّق الموضوع في الخارج فعلا ، فإذا لم يتحقّق الموضوع فلا حكم. والأحكام

ص: 480


1- في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.
2- آل عمران : 97.

الشرعيّة يصدرها الشارع ويجعلها من دون أن ينظر إلى تحقّق الموضوع في الخارج وعدمه ؛ لأنّه يجعلها على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يكون الموضوع فيها مقدّرا ومفترضا ، سواء كان موجودا في الخارج فعلا أم لا ؛ لأنّه يكفي في صدق القضيّة الشرطيّة صدق طرفيها في عالم الذهن.

وعلى هذا فتكون الشموليّة وتكثّر الحكم في الإطلاق الشمولي ثابتة في مرتبة تختلف عن المرتبة التي هي مفاد الدليل الشرعي والخطاب المولوي ، فإنّ الخطاب مفاده ومدلوله إنّما هو عالم الجعل وفي هذا العالم الحكم والموضوع واحد ، بينما الشموليّة والتكثّر إنّما هي في عالم المجعول أي فعليّة الحكم التابعة لفعليّة الموضوع بعد تحقّق كلّ قيوده وشروطه.

ومن هنا صحّ القول بأنّ السريان بمعنى تعدّد الحكم وتكثّره الثابت بقرينة الحكمة ليس من شئون مدلول الكلام ، بل هو من شئون عالم التحليل والمجعول.

وحاصل الكلام : أنّ السريان والشموليّة التي تعني تكثّر الحكم وتعدّده بعد جريان قرينة الحكمة لإثبات أنّ الموضوع هو الطبيعة من دون قيد ، ليس من شئون مدلول الكلام ؛ لأنّ الكلام لا يدلّ على أكثر من ثبوت الحكم للموضوع ، والموضوع هو الطبيعة وهي واحدة ، فالحكم الثابت لها واحد أيضا.

إذا فلا شموليّة ولا تكثّر بلحاظ مدلول الكلام ومفاده ؛ لأنّ المدلول والمفاد ينظران إلى عالم الجعل والإنشاء والتشريع ، بل السريان والشمول والتكثّر في الحكم من شئون عالم المجعول ، أي فعليّة الموضوع وتحقّقه في الخارج المتوقّف على تحقّق الشروط والقيود المأخوذة في الموضوع. فكلّما تحقّق مصداق للموضوع ثبت له الحكم وهذا في عالم المجعول والفعليّة ، فهناك أحكام عديدة بالتحليل العقلي وإن كان مفاد الكلام حكما واحدا.

* * *

ص: 481

ص: 482

أدوات العموم

ص: 483

ص: 484

أدوات العموم

تعريف العموم وأقسامه :

العموم : هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ ، وباشتراط أن يكون مدلولا عليه باللفظ يخرج المطلق الشمولي ، فإنّ الشموليّة فيه ليست مدلولة للكلام ؛ لأنّها من شئون عالم المجعول ، والكلام إنّما ينظر إلى عالم الجعل ، خلافا للعامّ فإنّ تكثّر الأفراد فيه ملحوظ في نفس مدلول الكلام وفي عالم الجعل.

عرّف السيّد الشهيد العموم بقوله : ( هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ ) من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ شمول الحكم لكلّ أفراد العالم وتعدّد الحكم وتكثّره تبعا ما للموضوع من أفراد ومصاديق إنّما هو بدلالة لفظة ( كلّ ) على العموم والشمول والتكثّر.

وهذا معناه أنّ الاستيعاب والشمول هنا مدلول اللفظ والكلام ، فيكون العموم مفادا للدليل ، وحيث إنّ مفاد الدليل هو عالم الجعل واللحاظ فيكون المتكلّم قد لاحظ الشمول والتكثّر والاستيعاب في مرحلة سابقة عن المجعول.

وبهذا يظهر فرق العموم عن الاطلاق الشمولي وإن كانا معا يفيدان الاستيعاب والشمول والتكثّر ، إلا أنّ الإطلاق الشمولي يدلّ على الاستيعاب بتوسّط قرينة الحكمة ، ولذلك لا يكون الاستيعاب المدلول عليه بالإطلاق مدلولا للّفظ ؛ لأنّ اللفظ لا يدلّ إلا على الطبيعة والماهيّة مجرّدة عن القيود ، بل الاستيعاب فيه بلحاظ عالم التحليل العقلي والمجعول ، كما تقدّم في التنبيه الرابع من تنبيهات الإطلاق.

وأمّا العموم فهو مدلول لفظي للكلام حيث يوجد ما يدلّ عليه في الكلام ، ولذلك فهو موجود في عالم التصوّر والوضع ، وعالم الجعل والتشريع.

ص: 485

ولذلك كان قيد ( المدلول عليه باللفظ ) مخرجا للإطلاق الشمولي ؛ لأنّه ليس مدلولا للّفظ بل هو مدلول لقرينة الحكمة وعالم المجعول والفعليّة (1).

ودلالة الكلام على الاستيعاب تفترض عادة دالّين :

أحدهما : يدلّ على نفس الاستيعاب ، ويسمّى بأداة العموم.

والآخر : يدلّ على المفهوم المستوعب لأفراده ، ويسمّى بمدخول الأداة.

ففي قولنا ( أكرم كلّ فقير ) الدالّ على الاستيعاب كلمة ( كلّ ) ، والدالّ على المفهوم المستوعب لأفراده كلمة ( فقير ).

ثمّ إنّ الدلالة على الاستيعاب والعموم تفترض عادة وجود دالّين ، وهذا يتمّ في الأدوات التي تدلّ على الاستيعاب والعموم بنحو المعنى الاسمي ، من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) حيث نحتاج إلى دالّ على الاستيعاب وإلى مدخول لأداة العموم فقط.

وأمّا في الأدوات التي تدلّ على الاستيعاب والعموم بنحو المعنى الحرفي فالدلالة تحتاج إلى ثلاثة دوالّ هي : الأداة والمدخول والنسبة.

ففي الأدوات الدالّة على الاستيعاب بنحو المعنى الاسمي يوجد دالاّن هما :

الأوّل : الدالّ الذي يدلّ على الاستيعاب والعموم ويسمّى بأداة العموم من قبيل كلمة ( كلّ ) في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ الدالّ على الاستيعاب هنا هو كلمة ( كلّ ) ؛ لأنّها موضوعة لغة للعموم والاستيعاب. فإذا لم يكن هذا الدالّ موجودا فلا استيعاب ولا عموم من قبيل المركّبات والأعداد ، كالعشرة فإنّها تشمل أفرادها لا من باب العموم بل من باب دلالة الشيء على نفسه وأجزائه التي يتركّب منها ، فإنّ هذه الأجزاء صفة واقعيّة للعشرة إذا فقد جزء منها تنعدم العشرة.

وثانيا : الدالّ الذي يدلّ على المفهوم المستوعب لأفراده ويسمّى بمدخول الأداة من قبيل كلمة ( فقير ) في قولنا : ( أكرم كلّ فقير ) فإنّ الدالّ على المفهوم الذي استوعب أفراده هو كلمة ( فقير ).

ص: 486


1- ويمكن تعريف العامّ بقولنا : ( هو استيعاب مفهوم وضعا لمفهوم آخر ) ، فإنّ كلمة ( كلّ ) تستوعب كلّ أفراد مفهوم ( العالم ) في قولنا : ( أكرم كل عالم ) ، فالعموم سنخ مفهوم يدخل على مفهوم آخر فيستوعب أفراده التي ينطبق عليها.

فالدلالة على العموم تعتمد عادة على هذين الدالّين ، فإذا فقد أحدهما لم يكن هناك عموم واستيعاب.

وأداة العموم الدالّة على الاستيعاب : تارة تكون اسما وتدلّ على الاستيعاب بما هو مفهوم اسمي كما في ( كلّ ) و ( جميع ) وكافّة وعامّة ) ، وأخرى تكون حرفا وتدلّ عليه بما هو نسبة استيعابيّة كما في ( لام الجمع ) في قولنا : ( العلماء ) بناء على أنّ الجمع المعرّف ب- ( اللام ) يدلّ على العموم ، فإنّ أداة العموم فيه هي ( اللام ) ، واللام حرف ، فإذا دلّت على الاستيعاب فهي إنّما تدلّ عليه بما هو نسبة. وسيأتي تصوير ذلك إن شاء اللّه تعالى.

تنقسم الأدوات الدالّة على العموم إلى قسمين :

الأوّل : الأدوات الدالّة على العموم بنحو المعنى الاسمي فتكون دالّة على الاستيعاب والعموم بما هو مفهوم اسمي ، من قبيل دلالة ( كلّ وجميع وكافّة وعامّة ) ، فإنّ هذه الألفاظ موضوعة لغة للدلالة على العموم ، وبما أنّها أسماء فهي تدلّ على العموم بنحو المعنى الاسمي ، أي على مفهوم العموم والاستيعاب بما هو صورة ذهنيّة يمكن أن يتصوّر مستقلاّ عن الطرفين والنسبة.

فكلمة ( كلّ ) مثلا موضوعة لغة لمفهوم العموم والاستيعاب ، سواء كانت ضمن طرفين أو لا ، ولذلك لا تحتاج إلى النسبة والطرفين في الخارج ، بل هي كصورة ومفهوم تدلّ على العموم ، ولذلك يصحّ وضع كلمة ( عموم ) مكانها.

نعم ، يختلف نحو دلالتها على العموم باختلاف مدخولها ، فتارة تدلّ على استيعاب الأجزاء من قبيل ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، وأخرى تدلّ على استيعاب الأفراد من قبيل ( اقرأ كلّ كتاب ). وسيأتي توضيح ذلك.

الثاني : الأدوات الدالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي فتكون دالّة على النسبة الاستيعابيّة ، ولذلك فهي تحتاج دائما إلى الطرفين ؛ لأنّ النسبة يستحيل تعقّلها من دون طرفين كما تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة.

فمثلا ( الألف ) و ( اللام ) في الجمع تدلّ على العموم بنحو المعنى الحرفي في قولنا : ( أكرم العلماء ) ، ودلالتها عليه بنحو النسبة الاستيعابيّة ؛ لأنّ الحروف موضوعة لغة للنسب باختلاف أنحائها ، فتكون ( الألف ) و ( اللام ) الداخلة على الجمع - بناء على

ص: 487

دلالتها على العموم حيث يوجد خلاف فيها كما سيأتي توضيحه - دالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي الذي يستحيل تعقّله من دون طرفين.

أقسام العموم :

ثمّ إنّ العموم ينقسم إلى الاستغراقي والبدلي والمجموعي ؛ لأنّ الاستيعاب لكلّ أفراد المفهوم يعني مجموعة تطبيقاته على أفراده ، وهذه التطبيقات : تارة تلحظ عرضيّة ، وأخرى تبادليّة ، فالثاني هو البدلي ، والأوّل إن لوحظت فيه عناية وحدة تلك التطبيقات فهو المجموعي ، وإلا فهو عموم استغراقي.

ينقسم العموم إلى ثلاثة أقسام هي :

الأوّل : العموم الاستغراقي من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ أداة العموم هنا تدلّ على استيعاب كلّ أفراد مفهوم العالم ، بنحو يكون هناك وجوبات وامتثالات متعدّدة بتعدّد ما للعالم من أفراد ، وهذا هو معنى الشموليّة والاستغراقيّة.

الثاني : العموم البدلي من قبيل ( أكرم أيّ عالم ) ، فإنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد العالم بنحو البدليّة ، بمعنى أنّه يكفي تطبيق الحكم على أي فرد من أفراد العالم ، وهذا معناه أنّ الحكم واحد فقط غاية الأمر أنّه توجد عدّة تطبيقات يمكن تطبيق الحكم على واحد منها. فالحكم ثابت لكلّ الأفراد ولكن على سبيل البدل.

الثالث : العموم المجموعي من قبيل ( أكرم كلّ عشرة من العلماء ) فهنا تدلّ الأداة على استيعاب مجموع أجزاء العشرة بنحو يكون إكرام العشرة بكاملها امتثالا واحدا والتخلّف عن واحد منها بمثابة التخلّف عنها جميعا ، فالحكم واحد بالنسبة للعشرة بنحو يكون مجموع العشرة موضوعا

واحدا للحكم ، كالاعتقاد بالأئمّة الاثني عشر مثلا.

والوجه في هذا التقسيم هو : أنّ العموم أو الاستيعاب معناه تطبيق المفهوم على أفراده ، وحينئذ نقول :

تارة تكون تطبيقات المفهوم على أفراده في عرض واحد بحيث تكون نسبة المفهوم إلى أفراده نسبة التساوي وكلّها تمثّله على حدّ سواء من دون أولويّة لبعضها على البعض الآخر.

ص: 488

وأخرى تكون تطبيقات المفهوم على أفراده طوليّة ، بمعنى أنّ بعضها يكون بديلا عن البعض الآخر في حالة عدم وجوده أو عند عدم تطبيق المفهوم عليه.

فإذا كانت التطبيقات في مرتبة طوليّة تبادليّة كان العموم بدليّا من قبيل ( أكرم أيّ عالم ) أي أنّ كلّ فرد من أفراد العالم يمكن تطبيق المفهوم عليه ويكون صالحا لذلك ، إلا أنّه لا يجب التطبيق عليها جميعا ، بل يكفي تطبيقه على واحد منها فقط على نحو يكون له بدل في حالة عدم تطبيق المفهوم عليه.

وأمّا إذا كانت التطبيقات على الأفراد في مرتبة عرضيّة أي الأفراد كلّها كانت في رتبة واحدة ، فهنا إذا كان هناك عناية توجب كون هذه التطبيقات العرضيّة للأفراد بنحو واحد أي الأفراد مجتمعة معا كان العموم مجموعيّا ، من قبيل ( أكرم مجموع العلماء ) أو ( أكرم كلّ عشرة من العلماء ). وإذا لم يكن هناك عناية زائدة كانت التطبيقات العرضيّة على الأفراد بنحو الاستقلال أي لكلّ فرد منها تطبيق مستقلّ عن الآخر ، فالعموم استغراقي من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) أي كلّ فرد فرد مستقلاّ عن الآخر.

وقد يقال (1) : إنّ انقسام العموم إلى هذه الأقسام إنّما هو في مرحلة تعلّق الحكم به ؛ لأنّ الحكم إن كان متكثّرا بتكثّر الأفراد فهو استغراقي ، وإن كان واحدا ويكتفى في امتثاله بأيّ فرد من الأفراد فهو بدلي ، وإن كان يقتضي الجمع بين الأفراد فهو مجموعي.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ هذه الأقسام الثلاثة المذكورة لا ترجع إلى العموم ، فإنّ العموم فيها بمعنى واحد وهو شمول المفهوم لما يصلح أن ينطبق عليه من الأفراد للمدخول ، فإنّ المدخول في الثلاثة يصلح لأن ينطبق على كلّ أفراده. فلا فرق بين قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) و ( أكرم أيّ عالم ) و ( أكرم مجموع العلماء ) من ناحية كون العموم فيها جميعا بالنحو الذي ذكرناه.

نعم ، يأتي هذا التقسيم بلحاظ تعلّق الحكم وكيفيّته في عالم الجعل والتشريع.

وتوضيحه : أنّ الحكم إن كان متعدّدا ومتكثّرا بلحاظ تعدّد وتكثّر الأفراد بحيث يكون لكلّ فرد امتثالا وعصيانا خاصّا به كان الحكم بنحو العموم الاستغراقي.

ص: 489


1- قاله المحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 253.

وإن كان الحكم واحدا وقد تعلّق بالموضوع بنحو يكتفى بفرد من أفراده على نحو البدل ويكون امتثال الفرد الأوّل مجزيا عن غيره فالعموم بدلي.

وإن كان الحكم واحدا ولكنّه يقتضي الجمع بين أفراد الموضوع بحيث يكون الجميع بقوّة امتثال واحد ، فإذا أخلّ ببعضها لم يتحقّق الامتثال أصلا كان العموم مجموعيّا.

والحاصل : أنّ هذه الأقسام الثلاثة راجعة إلى كيفيّة لحاظ المولى لحكمه ، وهل هو حكم واحد على موضوع واحد أو هو حكم واحد على موضوع متعدّد بنحو يكون مجموع الأفراد موضوع الحكم ، أو هو أحكام متعدّدة بتعدّد أفراد الموضوع؟

وأمّا إذا لم يكن هناك حكم فهذه الصور الثلاث تفيد معنى واحدا ، وهو العموم بمعنى شمول المفهوم لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه من الأفراد.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الانقسام يمكن افتراضه بقطع النظر عن ورود الحكم ؛ لوضوح الفرق بين التصوّرات التي تعطيها كلمات من قبيل ( جميع العلماء ) و ( أحد العلماء ) و ( مجموع العلماء ) ، حتّى لو لوحظت بما هي كلمات مفردة وبدون افتراض حكم ، فالاستغراقيّة والبدليّة والمجموعية تعبّر عن ثلاث صور ذهنيّة للعموم ينسجها ذهن المتكلّم وفقا لغرضه ؛ توطئة لجعل الحكم المناسب عليها.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ هذه الأقسام الثلاثة إنّما هي تقسيمات للعموم نفسه ، سواء كان هناك حكم أم لا ، وليس مردّها إلى كيفيّة تعلّق الحكم ولحاظ المولى ، وذلك لوضوح الفرق بين الصور الذهنيّة التي تعطيها هذه الكلمات الثلاث الدالّة على الاستغراقيّة والبدليّة والمجموعيّة ، فإنّ ( جميع العلماء ) يدلّ على صورة ذهنيّة ، وهي كلّ أفراد العلماء تختلف عن الصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( مجموع العلماء ) ، فإنّها تدلّ على صفة معيّنة لهؤلاء الأفراد من العلماء وهي كونهم منضمّين ومجتمعين معا ، وتختلف عن الصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( أيّ عالم ) فإنّها تدلّ على فرد ما من أفراد العلماء غير معيّن ولا محدّد.

إذا هذه الصور الذهنيّة المختلفة موجودة في عالم الذهن قبل أن يطرأ الحكم على الموضوع ؛ لأنّ الحكم ينصبّ على الصورة الذهنيّة فيلزم أن تكون موجودة قبله لا بعده.

ص: 490

وبتعبير آخر : أنّ الحكم ينصبّ على ما هو ثابت وموجود في الذهن ، فإذا لم يكن هناك اختلاف في الذهن بين هذه الصورة الثلاث فكيف حصل الاختلاف بينها بعد تعلّق الحكم بها؟! إذ الحكم في عالم الجعل واحد كما تقدّم.

وهذا يستلزم افتراض أنّ الصور الذهنيّة مختلفة فيما بينها من أوّل الأمر ثمّ يتعلّق بها الحكم بما هي كذلك ، فيستنتج منه تكثّر الحكم لكلّ الأفراد أو لمجموع الأفراد أو لأحد الأفراد.

والحاصل : أنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة والبدليّة تعبّر عن صور ذهنيّة يخترعها الذهن وإن لم يكن هناك حكم أصلا ، وبعد ذلك تقع موضوعا للحكم فيختلف باختلافها ، ولا يمكن أن تختلف الصور باختلاف الحكم ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم واحد في الجميع وهو ( وجوب الإكرام ).

* * *

ص: 491

ص: 492

نحو دلالة أدوات العموم

اشارة

ص: 493

ص: 494

نحو دلالة أدوات العموم

لا شكّ في وجود أدوات تدلّ على العموم بالوضع ككلمة ( كلّ ) و ( جميع ) ونحوهما من الألفاظ الخاصّة بإفادة الاستيعاب ، غير أنّ النقطة الجديرة بالبحث فيها وفي كلّ ما يثبت أنّه من أدوات العموم هي : أنّ إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الأداة - أي ( عالم ) مثلا في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) - هل يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ، أو أنّ دخول أداة العموم على الكلمة يغنيها عن قرينة الحكمة وتتولّى الأداة نفسها دور تلك القرينة؟

لا إشكال في أنّه توجد أدوات موضوعة لغة لإفادة العموم والاستيعاب من قبيل كلمة ( كلّ وجميع وعامّة وكافّة وقاطبة وعموم وأي ومجموع ) ... إلى آخره ) ، وهذا مما لا شكّ فيه ، وليس هو محلّ الكلام فعلا ، وإنّما الجدير بالبحث هنا هو أنّ العموم معناه استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر ، وهذا معناه أنّ الحكم يسري ويشمل كلّ الأفراد ابتداء ومن أوّل الأمر.

فإذا قلنا : ( أكرم كلّ عالم ) كانت الأداة دالّة على إرادة كلّ الأفراد من مدخولها الذي هو العالم. والسؤال هنا هو : هل سريان الحكم إلى الأفراد يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ليثبت أنّ الأداة قد دخلت على الطبيعة والماهيّة من دون قيد فتستوعب كلّ أفرادها ، أو أنّ سريان الحكم للأفراد يكفي فيه دخول أداة العموم على المدخول ولا تحتاج إلى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ، فتكون نفس الأداة تفيد الاستيعاب لكلّ الأفراد بنفسها لغة ووضعا ، فتكون الأداة قد قامت بدور قرينة الحكمة بنفسها واستغنت عنها؟

وجهان بل قولان في المسألة ، ولكلّ وجه منشأ يعتمد عليه ، وهو :

ص: 495

وظاهر كلام صاحب ( الكفاية ) (1) رحمه اللّه أنّ كلا الوجهين ممكن من الناحية النظريّة ؛ لأنّ أداة العموم إذا كانت موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول تعيّن الوجه الأوّل ؛ لأنّ المراد بالمدخول لا يعرف حينئذ من ناحية الأداة ، بل من قرينة الحكمة. وإذا كانت موضوعة لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعيّن الوجه الثاني ؛ لأن مفاد المدخول صالح ذاتا للانطباق على تمام الأفراد ، فيتمّ تطبيقه عليها فعلا بتوسّط الأداة مباشرة ، وقد استظهر - بحقّ - الوجه الثاني.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ كلا الوجهين المذكورين من احتياج أدوات العموم إلى قرينة الحكمة وعدم احتياجها إليها ممكن ثبوتا من الناحية النظريّة والتحليل العقلي ؛ وذلك على أساس وجود احتمالين في تفسير المعنى الموضوع له في أدوات العموم. فهنا وجهان :

الأوّل : أن تكون أدوات العموم موضوعة لغة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، فهنا يتعيّن الوجه الأوّل من كون الأدوات تحتاج إلى الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ المراد مفاد للدلالة التصديقيّة الثانية ، أي الإرادة الجديّة والتي تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام موضوع الحكم واقعا وثبوتا.

فهنا لا بدّ من تحديد المراد من المفهوم أوّلا وأنّه الطبيعة بما هي هي أو الطبيعة المقيّدة ، فبعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة يثبت أنّ المدخول للأداة هو ذات الطبيعة والماهيّة مجرّدة عن أي قيد ، فيثبت أنّ الأداة قد استوعبت كلّ الأفراد لهذه الطبيعة والماهيّة التي لم يؤخذ فيها قيد.

والحاجة إلى قرينة الحكمة على هذا الاحتمال واضحة ؛ إذ قد يكون المدخول مقيّدا وقد يكون مطلقا ؛ لأن وضع الأداة في كلتا الصورتين واحد وهو استيعاب ما يراد من المدخول ، فقد يراد الأفراد لهذا المفهوم المقيّد أو لذاك المفهوم المطلق ، فتحديد المراد لا بدّ أن يتمّ في مرحلة لاحقة عن أداة العموم ؛ ليعرف ما المراد من المدخول الذي أريد استيعاب تمام أفراده.

وهذا الوجه ذهب إليه المحقّق النائيني وجماعة.

الثاني : أن تكون أدوات العموم موضوعة لغة لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول

ص: 496


1- كفاية الأصول : 254.

للانطباق عليه ، فهنا يتعيّن الوجه الثاني من كون أدوات العموم غير محتاجة إلى قرينة الحكمة ، بل تقوم هي نفسها بدور هذه القرينة ؛ وذلك لأنّ المدخول - وهو اسم الجنس - موضوع لغة للماهيّة والطبيعة مجرّدة عن الإطلاق والتقييد.

وقد تقدّم سابقا أنّ الطبيعة والماهيّة من لوازمها الذاتيّة أنّ لها قابليّة للشمول والانطباق على كلّ فرد تنحفظ فيه الماهيّة ، ولذلك قلنا : إنّ الإطلاق لازم ذاتي للماهيّة لا ينفكّ عنها حتّى مع وجود الدليل على التقييد ؛ لأنّ الإطلاق يراد به الصلاحيّة والقابليّة للانطباق على كلّ الأفراد.

ومن هنا كان المدخول بنفسه صالحا للانطباق على كلّ الأفراد التي تتضمّن هذا المفهوم. وعليه ، فتكون أداة العموم بنفسها دالّة على استيعاب كلّ الأفراد التي يصلح المفهوم - الذي دخلت عليه - للانطباق عليها ؛ لأنّ هذه القابليّة ذاتيّة للمفهوم الذي هو مدخول الأداة ، ولذلك لا تحتاج إلى قرينة الحكمة أصلا ، بل هي تدلّ على تمام الأفراد التي يصلح الانطباق عليها ابتداء ومباشرة ، سواء كان مقيّدا بوصف أو بعدمه.

ثمّ إنّ صاحب ( الكفاية ) قد استظهر الوجه الثاني ، وهو الصحيح والمختار عند السيّد الشهيد. إلا أنّ الاستظهار إثباتا لا يكفي دليلا لتعيين أحد الوجهين دون الآخر ، ولذلك لا بدّ من البرهنة على ذلك فنقول :

وقد يبرهن على إبطال الوجه الأوّل ببرهانين :

البرهان الأوّل (1) : لزوم اللغويّة منه ، كما تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (2).

ذكر السيّد الخوئي برهانا يبطل فيه الوجه الأوّل من كون الأداة متوقّفة على قرينة الحكمة في الدلالة على الاستيعاب والعموم ؛ وذلك للزوم اللغويّة. ومحذور اللغويّة ذكره في مقامين :

المقام الأوّل : محذور اللغويّة في وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، وتوضيحه : أنّ أدوات العموم ما دامت محتاجة إلى قرينة الحكمة للدلالة وضعا على الاستيعاب ، بمعنى أنّه لا بدّ من جريان قرينة الحكمة أوّلا في المدخول ثمّ بعد ذلك تدلّ الأداة على الاستيعاب ، لأمكن الاستغناء عنها عند جريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ قرينة

ص: 497


1- جاء هذا البرهان في المحاضرات 5 : 159.
2- في بحث العموم ، تحت عنوان : أدوات العموم ونحو دلالتها.

الحكمة بعد جريانها تثبت أنّ الطبيعة لم يؤخذ فيها قيد فهي تشمل كلّ الأفراد الواجدة للقيد والفاقدة له.

وحينئذ لا يكون هناك فائدة من وضع أدوات للعموم ؛ لأنّ العموم والاستيعاب قد تمّ وحصل بواسطة قرينة الحكمة ، فكانت الأدوات موضوعة لما هو حاصل ومتحقّق فعلا فيكون وضعها لغوا.

ولا يمكن أن نتصوّر كونها مؤكّدة للعموم والاستيعاب ؛ لأنّ الرتبة مختلفة بين أداة العموم وقرينة الحكمة مع أنّ الأداة تدلّ على العموم تصوّرا ، بينما قرينة الحكمة تدلّ عليه تصديقا ، ومعه لا يتعقّل التأكيد لاستلزامه وحدة الرتبة بين المؤكّد والمؤكّد وهي هنا مختلفة.

المقام الثاني : لزوم اللغويّة في مقام الاستعمال والتفهيم للمراد الجدّي من قبل المتكلّم ؛ لأنّ العموم لا وجود له قبل قرينة الحكمة على هذا الوجه فيكون استعمال أداة العموم بلا معنى.

والعموم المستفاد من الكلام إنّما هو بقرينة الحكمة وهو غير العموم وضعا وتصوّرا ؛ لأنّها تدلّ على العموم تصديقا وجدّا. فلا فائدة من استعمال أداة العموم ؛ لأنّها من دون قرينة الحكمة لا تفيد الاستيعاب ، ومعها يكون الاستيعاب لقرينة الحكمة لا للأداة. فكان استعمالها لغوا باطلا.

ولكنّ التحقيق عدم تماميّة هذا البرهان ؛ لعدم لزوم لغويّة وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، ولا لغويّة استعمالها في مقام التفهيم من قبل المتكلّم.

والتحقيق : أنّ هذا البرهان غير تامّ ؛ لأنّه لغويّة لا في عالم الوضع من قبل الواضع ، ولا في عالم الاستعمال من قبل المتكلّم ؛ وذلك لوجود فائدة يمكن على أساسها تصحيح الوضع والاستعمال ، وتوضيح ذلك :

وذلك لأنّ العموم والإطلاق ليس مفادهما مفهوما وتصوّرا شيء واحد ، فإنّ أداة العموم مفادها الاستيعاب وإرادة الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، وأمّا قرينة الحكمة فلا تفيد الاستيعاب ولا ترى الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، بل تفيد نفي الخصوصيّات ولحاظ الطبيعة مجرّدة عنها ، فالتكثّر ملحوظ في العموم ، بينما الملحوظ في الإطلاق ذات الطبيعة.

ص: 498

إنّ محذور اللغويّة المذكور لا مورد له هنا ؛ لأنّه يكفي في رفع اللغويّة أن يكون أحد المفهومين مؤكّدا للآخر أو تكون الصورة الذهنيّة في أحدهما مختلفة عن الصورة الذهنيّة في الآخر وإن كان بينهما في عالم الصدق الخارجي تصادق.

فإذا استطعنا أن نثبت أحد هذين الأمرين بين أدوات العموم وبين قرينة الحكمة لم يكن هناك محذور في وجودهما معا بلحاظ الاستعمال ولم يكن هناك محذور في وضع أدوات العموم.

وفي مقامنا يوجد كلا النحوين الرافعين لمحذور اللغويّة في الوضع والاستعمال.

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ العموم المدلول عليه بأدوات العموم مفاده التصوّري الاستيعاب والشمول لكلّ الأفراد بنحو يكون المفهوم الموجود في الذهن يري الأفراد ويكشف عنها ، فتكون الأفراد موجودة تصوّرا ومفهوما عند الدلالة على العموم بأدوات العموم ، فإذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) كانت الصورة الذهنيّة لكلمة ( كلّ ) هي الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد فكان لها دلالة تصوّريّة وضعيّة على الأفراد ، وأنّ الأفراد هي الصورة الذهنيّة التي تحكي عنها أداة العموم. فعلى مستوى مفاد الخطاب ومدلوله التصوّري كان هناك استيعاب وشمول لكلّ الأفراد.

وأمّا العموم المدلول عليه بقرينة الحكمة فهو ليس مفادا ومدلولا تصوّريّا للخطاب ؛ لأنّ قرينة الحكمة تفيد الشمول والاستيعاب في مرحلة الدلالة التصديقيّة الثانية عند تحديد المراد الجدّي للمتكلّم.

فإذا قيل مثلا : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة ثبت أنّ المراد الجدّي هو ماهيّة العالم والطبيعة المجرّدة عن القيود والخصوصيّات ، فيستفاد من قرينة الحكمة العموم بمعنى نفي القيود والخصوصيّات ، وبمعنى أنّ المدلول التصوّري للخطاب هو ذات الطبيعة والماهيّة من دون قيد ، ولا ترى قرينة الحكمة الأفراد في مرحلة المدلول التصوّري ، وإنّما الأفراد تتعيّن في مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي.

والحاصل : أنّه يوجد فرق بين العموم المستفاد من أدوات العموم وبين العموم المستفاد من قرينة الحكمة ، وهو أنّ العموم في أدوات العموم مدلول تصوّري للخطاب ، والأدوات ترى الأفراد تصوّرا ومفهوما.

بينما العموم في قرينة الحكمة مدلول تصديقي للخطاب ، وهي لا ترى تصوّرا

ص: 499

ومفهوما إلا ذات الطبيعة والماهيّة من دون أخذ القيود والخصوصيّات ، فيكون التكثّر في الأدوات ملحوظا تصوّرا بينما الملحوظ تصوّرا في قرينة الحكمة هو الطبيعة والماهيّة ذاتها.

وعندئذ نقول :

وهذا يكفي لتصحيح الوضع حتّى لو لم ينته إلى نتيجة عمليّة بالنسبة الى الحكم الشرعي ؛ لأنّ الفائدة المترتّبة من الوضع إنّما هي إفادة المعاني المختلفة. وكذلك يكفي لتصحيح الاستعمال ؛ إذ قد يتعلّق غرض المستعمل بإفادة التكثّر بنفس مدلول الخطاب.

وبهذا يظهر أنّه لا لغويّة لأدوات العموم لا في الوضع ولا في الاستعمال.

أمّا أنّه لا لغويّة في الوضع فلأنّه يكفي في وضع الألفاظ للمعاني أن تكون هذه المعاني مختلفة ومتغايرة تصوّرا ، بحيث تكون الصورة الذهنيّة لهذا المعنى غير تلك الصورة للمعنى الآخر. وإن كان بينهما تصادق واتّحاد تامّ في الخارج فإنّ الصدق الخارجي بين المعاني لا يضرّ في كونها مختلفة ومتغايرة تصوّرا ومفهوما ، من قبيل ( الإنسان والناطق ) فإنّ الصورة الذهنيّة مختلفة بينهما لكنّهما في عالم الصدق الخارجي متساويان.

وفي مقامنا الصورة الذهنيّة لأدوات العموم هي العموم والاستيعاب للأفراد تصوّرا ، بينما الصورة الذهنيّة لقرينة الحكمة هي ذات الماهيّة والطبيعة ، فلم يكن هناك لغويّة في وضع أدوات العموم ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة تختلف عن الصورة الذهنيّة لقرينة الحكمة وإن كان بينهما اتّحاد وتصادق في عالم الصدق الخارجي ؛ إذ لا فرق في الخارج بين العموم المستفاد من الأداة والعموم المستفاد من قرينة الحكمة في كونهما معا يدلاّن على الاستيعاب لكلّ الأفراد.

وأمّا أنّه لا لغويّة في الاستعمال فلأنّه يكفي في تصحيح استعمالهما معا في خطاب واحد أن يكون هناك غرض للمتكلّم من وراء استعمالهما معا. فإنّ قرينة الحكمة تفيد العموم والاستيعاب على أساس دلالة السكوت عن ذكر القيد في الكلام فكانت دلالتها على العموم سلبيّة أو سكوتيّة. بينما أدوات العموم نص صريح في العموم والشمول فكانت دلالتها على العموم إيجابيّة ووجوديّة ؛ لأنّه يوجد في

ص: 500

الخطاب لفظ يدلّ على العموم. وحينئذ قد يكون غرض المتكلّم أن يدلّ على العموم بنحو آكد وأشدّ ، وهو الإتيان بأداة العموم وعدم الاكتفاء بقرينة الحكمة ؛ لأنّ الدلالة الإيجابيّة أقوى وأشدّ وآكد من الدلالة السلبيّة كما تقدّم سابقا.

فهذا البرهان غير تامّ كما ظهر ممّا ذكرنا.

البرهان الثاني : أنّ قرينة الحكمة ناظرة - كما تقدّم في بحث الإطلاق - إلى المدلول التصديقي الجدّي ، فهي تعيّن المراد التصديقي ولا تساهم في تكوين المدلول التصوّري. وأداة العموم تدخل في تكوين المدلول التصوّري للكلام.

فلو قيل بأنّها موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول - الذي تعيّنه قرينة الحكمة وهو المدلول التصديقي - كان معنى ذلك ربط المدلول التصوّري للأداة بالمدلول التصديقي لقرينة الحكمة ، وهذا واضح البطلان.

ذكر السيّد الشهيد رحمه اللّه برهانا على بطلان كون الأداة موضوعة لغة لاستيعاب ما يراد من المدخول. حاصله : تقدّم أنّ قرينة الحكمة ناظرة إلى تحديد المراد الجدّي للمتكلّم ولذلك فهي ترتبط بالدلالة التصديقيّة الثانية ، ولا ربط لها بالمدلول التصوّري أو الدلالة التصديقيّة الاولى أي الإرادة الاستعماليّة. فالمدلول اللفظي للكلام الذي يتكوّن من الدلالتين التصوريّة والاستعماليّة لا يرتبط بقرينة الحكمة أصلا ، وهي أيضا لا تدخل في تكوينه وتحديد الصورة الذهنيّة أو الإرادة الاستعماليّة.

وعرفنا أنّ أداة العموم موضوعة لغة للدلالة على العموم والاستيعاب فهي ترتبط بالمدلول التصوّري ، ولذلك فهي تحدّد الصورة الذهنيّة للّفظ.

فإذا قيل بأنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول كان معنى ذلك أنّ المدلول التصوّري للأداة الدالّ على العموم والاستيعاب مرتبط بالمدلول التصديقي للمدخول ؛ لأنّه هو الذي يحدّد المراد ، وهذا يلزم منه أن يكون المدلول التصوّري للأداة مرتبطا بالمدلول التصديقي للمدخول. وهذا واضح البطلان لأحد أمرين :

لأنّ المدلول التصوّري لكلّ جزء من الكلام إنّما يرتبط بما يساويه من مدلول الأجزاء الأخرى أي بمدلولاتها التصوّريّة.

الأمر الأوّل : أنّ الكلام الواحد كقولنا : ( أكرم كلّ عالم ) يرتبط المدلول التصوّري لكلّ جزء من أجزائه بالمدلول التصوّري للجزء الآخر ، بمعنى أنّ المدلولات التصوّريّة

ص: 501

لأجزاء الجملة لا بدّ أن تكون مرتبطة فيما بينها. ففي المثال المذكور يكون المدلول التصوّري لوجوب الإكرام مرتبطا بالمدلول التصوّري لكلمة ( كلّ ) الدالّة تصوّرا ووضعا على العموم والاستيعاب ، وهي بدورها مرتبطة بالمدلول التصوّري لكلمة ( عالم ) الدالّة تصوّرا على ذات الماهيّة والطبيعة.

وعندئذ يكون في الذهن مدلولا تصوّريّا وصورة ذهنيّة مترابطة ، وهي وجوب الإكرام الشامل والمستوعب لكلّ أفراد ذات الماهيّة وطبيعة العالم.

فلو قلنا : إنّ الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، كان معنى ذلك أنّ المدلول التصوّري لكلمة ( كلّ ) في المثال المذكور مرتبطا بالمدلول التصديقي والمراد الجدّي لكلمة ( عالم ) ، وهذا معناه التفكيك بين المدلولات التصوريّة لأجزاء الكلام الواحد ، ويلزم منه ألاّ يكون في الذهن صورة مترابطة فيما بينها قصد المتكلّم إحضارها وإخطارها في ذهنه وذهن السامع. وهذا واضح البطلان ؛ لأنّه يلغي المدلول التصوّري والمدلول الاستعمالي للكلام.

وبتعبير آخر : أنّ المدلول التصوّري للأداة ليس مرتبطا بالمدلول التصوّري للمدخول بناء على هذا الغرض ؛ لأنّ المدلول التصوّري للمدخول غير معيّن الآن وإنّما يتعيّن في مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي ؛ لتوقّفه على قرينة الحكمة ، فيلزم أيضا أن يكون المدلول التصوّري للأداة غير معيّن أيضا ، وهذا معناه أنّه تصوّرا لا يوجد معنى معيّن قصد المتكلّم إحضاره وإخطاره. وهذا بديهي البطلان ؛ لوضوح أنّ المتكلّم يستعمل اللفظ للدلالة على المعنى الموضوع له ويستعمله فيه كذلك ؛ لشهادة الوجدان بذلك.

فكان هذا الاحتمال مخالفا للوجدان العرفي واللغوي من كون الكلام الواحد مترابط الأجزاء تصوّرا واستعمالا ، ويكون كلّ مدلول من أجزائه تصوّرا واستعمالا مرتبطا بالمدلول التصوّري والاستعمالي للجزء الآخر ، وبعد ذلك يتحدّد المراد الجدّي من الكلام.

ولا شكّ في أنّ للأداة مدلولا تصوّريّا محفوظا حتّى لو خلا الكلام الذي وردت فيه من المدلول التصديقي نهائيّا ، كما في حالات الهزل ، فكيف يناط مدلولها الوضعي بالمدلول التصديقي؟!

ص: 502

الأمر الثاني : أنّه بناء على الفرض المذكور من كون الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول يلزم دائما أن يكون معنى الأداة متوقّفا على المدلول التصديقي والمراد الجدّي للمدخول.

فإذا لم يكن للمدخول مدلول تصديقي كان لازمه أنّه لا يوجد للأداة معنى أصلا.

وهذا واضح البطلان ، بدليل أنّه إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) وكان القائل هازلا أو مكرها أو في حالة تقيّة وأمثال ذلك كان المدلول التصديقي والمراد الجدّي للكلام منتفيا.

فبناء على الوجه المذكور يلزم ألاّ يكون لأداة العموم أي معنى أصلا ، مع أنّنا نحسّ وجدانا أنّ لهذا الكلام مدلولا تصوّريّا وصورة ذهنيّة مترابطة ومحفوظة حتّى مع عدم وجود الإرادة الجدّيّة ؛ لأنّ السامع لهذه الجملة يتصوّر المعنى الذي تدلّ عليه هذه الجملة تصوّرا ويخطر في ذهنه ( وجوب الإكرام لكلّ أفراد العالم ) ، غاية الأمر أنّه ليس مرادا جدّا للمتكلّم ؛ لعدم جريان قرينة الحكمة في المقام ؛ إذ لا تجري قرينة الحكمة مع العلم بعدم كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده الجدّي كما في الهزل والتقيّة.

فهذا الوجه مخالف للوجدان القاضي بأنّ الصورة الذهنيّة محفوظة للكلام حتّى مع عدم إرادته جدّا ؛ لأنّه بناء على هذا الفرض يلزم عدم انحفاظ الصورة الذهنيّة للأداة ؛ لأنّها مرتبطة بالمراد الجدّي والمدلول التصديقي وهو منتف في الحالات المذكورة فيلزم انتفاؤها أيضا ، وهو بديهي البطلان كما تبيّن.

وبهذا يتّضح أنّ الوجه الثاني الذي استظهره صاحب ( الكفاية ) هو الصحيح ، وهو كون الأداة موضوعة لما يصلح أن ينطبق عليه المدخول.

ص: 503

ص: 504

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد

ص: 505

ص: 506

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد

يلاحظ أنّ كلمة ( كلّ ) مثلا ترد على النكرة فتدلّ على العموم والاستيعاب لأفراد هذه النكرة. وترد على المعرفة فتدلّ على العموم والاستيعاب أيضا ، لكنّه استيعاب لأجزاء مدلول تلك المعرفة لا لأفرادها.

ومن هنا اختلف قولنا : ( اقرأ كل كتاب ) عن قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ).

العموم الأجزائي هو الاستيعاب والشمول لكلّ جزء من المدخول ، وهذا يكون في أدوات العموم الداخلة على المعرفة من قبيل ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، فهنا تستوعب ( كلّ ) كلّ جزء من أجزاء الكتاب.

وأمّا العموم الأفرادي فهو الاستيعاب والشمول لكلّ فرد فرد من أفراد المدخول ، وهذا يكون في أدوات العموم الداخلة على النكرات من قبيل ( اقرأ كلّ كتاب ) ، فهنا تستوعب ( كلّ ) كلّ فرد من أفراد الكتاب.

وهذا شيء نحسّ به وجدانا وهو موافق لقول أهل اللغة العربيّة أيضا. ولذلك فلا شكّ في وجود صورتين ذهنيّتين من الاستيعاب تدلّ عليهما كلمة ( كلّ ) ونحوها. وهاتان الصورتان مختلفتان فيما بينهما ، فإنّ الصورة الذهنيّة التي تعطيها جملة ( اقرأ كلّ الكتاب ) تفيد أنّ هناك حكما واحدا على موضوع واحد ، فيكون له امتثال واحد وعصيان واحد أيضا ، بحيث إنّ الامتثال يتحقّق بقراءة كلّ أجزاء الكتاب بينما يتحقّق العصيان بترك جزء منه ، فالعموم الأجزائي كالعموم المجموعي من هذه الناحية ، بحيث يكون المجموع موضوعا واحدا لحكم واحد ، فلا تكثّر ولا شموليّة في الحكم والموضوع.

بينما الصورة الذهنيّة التي تعطيها جملة ( اقرأ كلّ كتاب ) تفيد أنّ هناك أحكاما متعدّدة متكثّرة بعدد ما للموضوع من أفراد ومصاديق ، ولذلك فهناك امتثالات

ص: 507

متعدّدة ، وهناك أيضا مخالفات عديدة بترك كلّ فرد فرد من هذه الأفراد ؛ لأنّ كلّ فرد موضوع مستقلّ لحكم مستقلّ عن الآخر.

وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي : هل أنّ لأداة العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب؟ وإلا كيف فهم منها في الحالة الأولى استيعاب الأفراد وفي الحالة الثانية استيعاب الأجزاء؟!

والنقطة الجديرة بالبحث هنا هي : هل أنّ هذا الاختلاف في المعنى والصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( كلّ ) عند دخولها على المعرفة تارة وعلى النكرة أخرى ، مردّه الى وجود وضعين مستقلّين في اللغة العربيّة لكلمة ( كلّ ) ، بحيث إنّ الواضع وضعها تارة لاستيعاب الأجزاء إذا دخلت على المعرفة ، ووضعها أخرى لاستيعاب الأفراد إذا دخلت على النكرة؟ أو مردّ ذلك إلى شيء آخر مع الحفاظ على كونها موضوعة لغة لمعنى واحد ، وهو الاستيعاب والشمول لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، غاية الأمر أنّ المدخول إذا كان معرّفا كان يصلح للانطباق على أجزائه فقط دون أجزاء غيره لنكتة التعيين والتشخّص في المعرفة ، وإذا كان متكثّرا كان صالحا للانطباق على كلّ الأفراد والمصاديق لنكتة الشيوع والانتشار في النكرة؟

وإلا فكيف حصل هذا الاختلاف في كلمة ( كلّ ) إذا ما دام الوضع فيها واحدا ولا توجد قرينة على ذلك؟!

وقد أجاب المحقّق العراقي رحمه اللّه (1) على هذا السؤال بأنّ ( كلّ ) تدلّ على استيعاب مدخولها للأفراد ، ولكنّ اتجاه الاستيعاب نحو الأجزاء في حالة كون المدخول معرّفا ب- ( اللام ) ، من أجل أنّ الأصل في ب- ( اللام ) أن يكون للعهد ، والعهد يعني تشخيص الكتاب في المثال المتقدّم ، ومع التشخيص لا يمكن الاستيعاب للأفراد ؛ فيكون هذا قرينة عامّة على اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء كلّما كان المدخول معرّفا ب- ( اللام ).

أجاب المحقّق العراقي على السؤال المذكور : بأنّ الأصل في كلمة ( كلّ ) أن تدلّ على استيعاب الأفراد كما في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) فإنّها تدلّ على استيعاب تمام الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها ؛ لأنّ العموم معناه الشمول والاستيعاب

ص: 508


1- مقالات الأصول 1 : 433.

لكلّ فرد من أفراد المدخول من حيث إنّ العموم يري الأفراد تصوّرا ، فالحكم منصبّ على الأفراد جميعا بنحو يكون كلّ فرد موضوعا مستقلاّ للحكم ، ولهذا كان الأصل في العموم هو الاستغراق الذي معناه التكثّر والتعدّد في الحكم بعدد ما للموضوع من أفراد ومصاديق ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بقرينة وعناية إضافيّة.

وعلى هذا الأساس كانت دلالة ( كلّ ) على العموم الأجزائي تحتاج إلى قرينة وعناية زائدة ؛ لأنّ استيعاب الأجزاء معناه العموم المجموعي بحيث تكون كلّ الأجزاء موضوعا واحدا ينصبّ عليها حكم واحد ، فلا تعدّد ولا تكثّر في الحكم ، وهذا على خلاف الأصل الأوّلي من العموم الذي يعني الاستيعاب والشمول وتعدّد الحكم وتكثّره.

ففي قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ) كانت العناية الزائدة التي من أجلها اتّجهت كلمة ( كلّ ) نحو العموم الأجزائي على خلاف أصلها ، هي ( الألف ) و ( اللام ) ، حيث إنّ ( الألف ) و ( اللام ) دالّة على العهد ، والعهد معناه التعيين والتشخيص وهو معنى الوحدة والجزئيّة.

فإذا دخلت أداة العموم ( كلّ ) على المعرّف ب- ( اللام ) الدالّة على التعيين والوحدة لم تكن دالّة على استيعاب تمام الأفراد والمصاديق ؛ لأنّ الوحدة تتنافى مع التعدّد والتكثّر ، ولذلك تكون دالّة على أجزاء هذا الشيء الواحد الذي يتكوّن منها ، فكان العموم هنا أجزائيّا على أساس هذه القرينة العامّة.

ومن هنا أمكننا القول جوابا على السؤال المطروح بأنّ الأصل في كلمة ( كلّ ) أن تدلّ على العموم الأفرادي ، وتخرج عن هذا الأصل للدلالة على العموم الأجزائي بقرينة عامّة ، هي وجود ( اللام ) الدالّة على العهد ، والذي معناه التعيين والتشخيص والوحدة والذي يتنافى مع التكثّر والتعدّد (1).

ص: 509


1- والصحيح : أنّه يمكن أن يفرض الأصل بالعكس أيضا ، بأن يقال : إنّ الأصل في أداة العموم أن تكون موضوعة لاستيعاب الأجزاء كما في ( اقرأ كلّ الكتاب ). ويخرج عن هذا الأصل للدلالة على العموم الأفرادي لقرينة زائدة ، وهي التنوين الدالّ على الشيوع والانتشار كما في ( اقرأ كلّ كتاب ) فإنّ التنوين يدل على الواحد الشائع المنتشر وهو يتناسب مع التعدّد والتكثّر. مضافا إلى أنّ أداة العموم تفيد توحيد المتكثّرات في مفهوم وحداني ، ولذلك تفيد الدلالة على كلّ أجزاء هذا الأمر الوحداني المتضمّن لهذه المتكثّرات ... إلا أنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ العموم الأجزائي والعموم الأفرادي كلّ منهما يحتاج إلى قرينة زائدة ؛ لأنّ أداة العموم موضوعة للاستيعاب الكمّي لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول. وحينئذ إن كان المدخول صالحا للانطباق على الأفراد كان الاستيعاب الكمّي متّجها نحو الأفراد كما في ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ المدخول له قابليّة وصلاحيّة لأن ينطبق على كلّ فرد من أفراد العالم. وإن كان المدخول صالحا للانطباق على الأجزاء فقط كان الاستيعاب الكمّي متّجها نحو الأجزاء كما في قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، فإنّ الكتاب صالح للانطباق على أجزائه فقط ولا صلاحيّة له للانطباق على الأفراد بسبب وجود ( اللام ) الدالّة على العهد والتعيين المتنافي مع الأفراد ؛ لأنّها تعني الكثرة والتعدّد. ومن هنا صحّ القول جوابا على السؤال المذكور بأنّ أداة العموم ( كلّ ) موضوعه لغة لمعنى واحد وهو الاستيعاب الكمّي لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، وأمّا العموم الأجزائي والعموم الأفرادي فكلّ منهما كان لأجل قرينة تدلّ عليه ، وليس أحدهما موضوعا للأداة دون الآخر.

ص: 510

دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم

اشارة

ص: 511

ص: 512

دلالة الجمع المعرّف ب- ( اللام ) على العموم

قد عدّ الجمع المعرّف ب- ( اللام ) من أدوات العموم ، ولا بدّ من تحقيق كيفيّة دلالة ذلك على العموم ثبوتا أوّلا ، ثمّ تفصيل الكلام في ذلك إثباتا.

ذكر من أدوات العموم الجمع المعرّف ب- ( اللام ) كما في قولنا : ( أكرم العلماء ) حيث يقال : إنّ ( اللام ) الداخلة على الجمع من أدوات العموم ، فهي تدلّ على العموم والاستيعاب بنحو المعنى الحرفي أي على النسبة الاستيعابيّة.

وتحقيق الكلام في ذلك يقع في مقامين :

الأوّل : يبحث عن كيفيّة دلالة الجمع المعرّف ب- ( اللام ) على العموم ، وأنّه كيف يتمّ تصوير دلالته على العموم ثبوتا ليتعقّل ذلك؟

الثاني : يبحث إثباتا حول هذه الدلالة بعد فرض وجود تصوير ثبوتي ممكن لها ، فيبحث في أنّ هذه الدلالة الثبوتيّة على العموم ما هو الدليل عليها إثباتا ، وما هو الدالّ عليها من الألفاظ الموجودة في الكلام؟

أمّا الأمر الأوّل فهناك تصويرات لهذه الدلالة :

منها أن يقال : إنّ الجمع المعرّف ب- ( اللام ) يشتمل على ثلاثة دوال :

أمّا الأمر الثبوتي فيمكن تصوير دلالة الجمع المعرّف ب- ( اللام ) على العموم بعدّة تصويرات ، منها ما هو المختار عندنا من أنّ الجمع المعرف ب- ( اللام ) ( العلماء ) يشتمل على ثلاثة دوالّ ، لكلّ منها مدلول خاصّ ، وهذه المداليل الثلاثة معا تشكّل صورة ذهنيّة تدلّ على العموم والاستيعاب وتوضيح ذلك :

أحدها : مادّة الجمع التي تدلّ في كلمة ( العلماء ) على طبيعي العالم.

الدالّ الأوّل : هو مادّة الجمع فإنّ الجمع في قولنا : ( العلماء ) المادّة التي يدلّ عليها هي طبيعي العالم أي ذات ماهيّة العالم ، وهذا المعنى الذي تدلّ عليه المادّة مفهوم اسمي.

ص: 513

والآخر : هيئة الجمع التي تدلّ على مرتبة من العدد لا تقلّ عن ثلاثة من أفراد تلك المادّة.

الدالّ الثاني : هو هيئة الجمع ، فإنّ الهيئة التي صيغت فيها المادّة تسمّى بهيئة الجمع ، وهذه الهيئة تدلّ على مرتبة من الجمع لا تقلّ عن ثلاثة ؛ لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة مع إمكان دلالتها على بقيّة المراتب الأخرى أيضا فهي لا بشرط من جهة الزيادة.

وهذا المفهوم الذي تدلّ عليه الهيئة مفهوم اسمي ، وهو التعدّد من أفراد المادّة.

والثالث : ( اللام ) ، وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام أفراد المادّة.

الدالّ الثالث : هو ( اللام ) الداخلة على الجمع ، وهذه ( اللام ) يفرض كونها دالّة على العموم والاستيعاب بأحد النحوين الآتيين في البحث الإثباتي ، وتكون ( اللام ) دالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي ؛ لأنّها حرف يدلّ على النسبة القائمة بين طرفين فعلا.

ويكون الاستيعاب مدلولا ل- ( اللام ) بما هو معنى حرفي ونسبة استيعابية قائمة بين المستوعب وهو مدلول هيئة الجمع والمستوعب وهو مدلول مادّة الجمع.

والنتيجة من هذه المداليل الثلاثة أنّ ( اللام ) بما أنّها معنى حرفي فلا بدّ أن تكون متقوّمة فعلا بطرفيها ، ولا بدّ أن يكون الطرفان من المعاني الاسميّة التي يمكن تصوّرها مستقلّة عن الجملة ، وهنا تكون ( اللام ) رابطة بين المدلول في هيئة الجمع وهو التعدّد وبين المدلول في مادّة الجمع وهو الطبيعة والماهيّة.

وحينئذ تكون ( اللام ) دالّة على نسبة قائمة بين المفهومين المذكورين ، وهذه النسبة هي النسبة الاستيعابيّة بين المستوعب وهو مدلول الهيئة وبين المستوعب وهو مدلول المادّة. فتكون لها دلالة على استيعابيّة بنحو المعنى الحرفي لجميع أفراد هذه الطبيعة.

وأمّا الأمر الثاني : فإثبات اقتضاء ( اللام ) الداخلة على الجمع للعموم يتوقّف على إحدى دعويين :

إمّا أن يدّعى وضعها للعموم ابتداء ، وحيث إنّ ( اللام ) الداخلة على المفرد لا تدلّ على العموم ، فلا بدّ أن يكون المدّعى وضع ( اللام ) الداخلة على الجمع بالخصوص لذلك.

وأمّا البحث الإثباتي فلكي تكون ( اللام ) الداخلة على الجمع تفيد العموم لا بدّ من وجود دلالة فيها على العموم ، وهذه الدلالة يمكن إثباتها بإحدى دعويين :

ص: 514

الدعوى الأولى : أن تكون ( اللام ) الداخلة على الجمع موضوعة لغة لإفادة العموم والاستيعاب ، بخلاف ( اللام ) الداخلة على المفرد فإنّها لا تدلّ على العموم ، وهذا يفترض كون ( اللام ) مشتركا لفظيّا لئلاّ يلزم المجازيّة في البين ، فتكون ( اللام ) موضوعة لغة لوضعين :

الأوّل : ( اللام ) الداخلة على المفرد المفيدة للعهد والتعيين أو للجنس كقولنا : ( قرأت الكتاب ) و ( أكرم العالم ).

الثاني : ( اللام ) الداخلة على الجمع المفيدة للعموم والاستيعاب كقولنا : ( أكرم العلماء ).

فإذا ثبت ذلك كان العموم المستفاد من ( اللام ) الداخلة على الجمع بالوضع فلا يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة ، بل يتمسّك بأصالة الحقيقة في الوضع لإثبات الوضع.

وإمّا أن يدّعى أنّها تدلّ على معنى واحد في موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع ، وهو التعيّن في المدخول ، على ما تقدّم في معنى ( اللام ) الداخلة على اسم الجنس في الحلقة السابقة (1).

الدعوى الثانية : أن تكون ( اللام ) موضوعة لغة لوضع واحد ومعنى فارد سواء كانت داخلة على المفرد أو على الجمع ، وهذا المعنى هو التعيين في المدخول.

وعليه فلا يفترق قولنا : ( أكرم العالم ) عن قولنا : ( أكرم العلماء ) في كون ( اللام ) الداخلة على المفرد والجمع مفيدة للتعيين في المدخول ؛ لأنّ الأصل في ( اللام ) أن تدلّ على العهد وهو معناه التشخّص والتعيّن في المدخول.

فتكون الصورة الذهنيّة المفادة من المدخول معهودة ومشخّصة ومعيّنة ، سواء بالعهد الذكري أو الحضوري أو بالاستئناس الخاصّ أو العامّ في الذهن. غاية الأمر أنّ التعيّن يختلف معناه من جهة المدخول لا من جهة ( اللام ) وتوضيحه :

فإذا كان مدخولها اسم الجنس كفى في التعيّن المدلول عليه ب- ( اللام ) تعيّن الجنس الذي هو نحو تعيّن ذهني للطبيعة ، كما تقدّم (2) في محلّه.

فإذا دخلت ( اللام ) على اسم الجنس كقولنا : ( أكرم العالم ) كانت مفيدة للتعيّن

ص: 515


1- وفي بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.
2- الحلقة الثانية ، في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

والتشخص للطبيعة والجنس والماهيّة ، ومن المعلوم أن الماهيّة والطبيعة متعيّنة ومتشخّصة ومتميّزة عن غيرها من الماهيّات والطبائع والأجناس بما هي صورة ذهنيّة ومفهوم.

فإنّ طبيعة ( العالم ) في المثال مشخّصة ومتعيّنة ذهنا ومفهوما عن غيرها من الصور الذهنيّة ؛ لأنّ مفهوم العالم يختلف عن مفهوم العادل والجاهل والحيوان ونحو ذلك فإذا يكفي في حصول التعيّن للجنس والطبيعة أن تكون متعيّنة ذهنا ومفهوما.

وبعد تعيّنها كذلك يستفاد الشموليّة والاستيعاب بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ، بحيث يثبت أنّ الطبيعة لم يؤخذ معها قيد ، وبالتالي فهي تنطبق على كلّ فرد يتضمّنها ويحفظ المفهوم فيها ، وهو معنى الشمول والعموم لكلّ الأفراد.

فالتعيّن الذهني للطبيعة بما هي كمفهوم لا يستفاد منها العموم والشمول ؛ لأنّ الطبيعة كذلك تصدق على فرد واحد من أفرادها ، فلكي يثبت الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد لا بدّ من توسّط قرينة الحكمة.

وإذا كان مدخولها الجمع فلا بدّ من فرض التعيّن في الجمع ، ولا يكفي التعيّن الذهني للطبيعة المدلولة لمادّة الجمع.

وإذا دخلت ( اللام ) على الجمع كقولنا : ( أكرم العلماء ) كانت مفيدة للتعيّن أيضا ، إلا أنّ هذا التعيّن ليس للماهيّة والطبيعة وإنّما التعيّن في الجمع.

والوجه في ذلك هو : أنّ مدخول ( اللام ) هنا هو الجمع ، والمفروض أنّ ( اللام ) موضوعة لغة لتعيّن المدخول ، فإذا لا بدّ من فرض التعيّن للجمع ؛ لأنّه المدخول.

وأمّا تعيّن الماهيّة والطبيعة المدلول عليها بالمادّة من قبيل ( العالم ) في مثالنا ، فهذا التعيّن في الماهيّة لا يكفي ولا يغني عن التعيّن في الجمع ؛ وذلك للمنافاة بينهما ، فإن التعيّن في الماهيّة تقدّم أنّه يكفي فيه التشخّص والتعيّن الذهني وهو يتحقّق بالفرد الأوّل منه ؛ لأنّ الماهيّة ذاتها توجد بفرد من أفرادها ، بينما التعيّن في الجمع لا يكفي فيه أقلّ من ثلاثة ؛ لأنّ أقلّ مراتب الجمع هي الثلاثة ، ولذلك لا يكفي في تعيّن المدخول الذي هو الجمع أن يكون هناك تعيّن للماهيّة والطبيعة.

وحينئذ فلا بدّ أن نفرض التعيّن في مرتبة من مراتب الجمع يتحقّق فيها التشخّص والتميّز والتعيّن. وعليه ، فلا بدّ من التفتيش عن تلك المرتبة من الجمع التي يتمّ فيها التعيّن والتميّز عن غيرها ، ولذلك نقول :

ص: 516

وتعيّن الجمع بما هو جمع إنّما يكون بتحدّد الأفراد الداخلة فيه ، وهذا التحدّد لا يحصل إلا مع إرادة المرتبة الأخيرة من الجمع المساوقة للعموم ؛ لأنّ أية مرتبة أخرى لا يتميّز فيها - من ناحية اللفظ - الفرد الداخل عن الخارج.

التعيّن المقصود من الجمع هو تحديد الأفراد الداخلة في الجمع عن الأفراد الخارجة ، فقولنا : ( أكرم العلماء ) تدلّ ( اللام ) على التعيّن في الجمع ، وهذا التعيّن في العلماء لا يتمّ إلا إذا حدّدت الأفراد الداخلة فيه من الأفراد الخارجة عنه.

وليس المقصود من التعيّن في الجمع تحديد مرتبة وعدد معيّن من الجمع كما قال صاحب ( الكفاية ) : ليقال : إنّ كلّ مرتبة من مراتب الجمع متعيّنة بنفسها كصورة ذهنيّة ومفهوم ، حيث إنّ الثلاثة مرتبة من الجمع وهكذا في الأربعة والخمسة إلى آخره. وكلّ واحدة من هذه المراتب لها تعيّن في نفسها ؛ لأنّها صورة ومفهوم يختلف عن الصورة والمفهوم في المرتبة الأخرى ، فيكون التعيّن في الجمع على هذا هو المرتبة الدنيا من الجمع ؛ لأنّها المرتبة التي لا شكّ في انطباق الجمع عليها.

وإنّما المقصود من التعيّن ما ذكرناه من تحديد الأفراد الداخلة وتمييزها عن الأفراد الخارجيّة. وهذا لا يكفي فيه التحدّد في المرتبة ؛ لأنّ كلّ مرتبة وإن كانت متعيّنة ومحدّدة في نفسها إلا أنّه لا يعلم الأفراد الداخلة فيها ؛ لأنّ كلّ مرتبة كالثلاثة والأربعة صالحة للانطباق على هذه الثلاثة وعلى تلك ، وهكذا.

وعليه ، فلا يحصل التعيّن والتحدّد في الجمع في عالم الصدق الخارجي وإن كان متحقّقا في عالم الذهن والمفهوم والصورة ، وحيث إنّ المطلوب من المفهوم أن يكون حاكيا عن الخارج فلا بدّ من فرض التعيّن والتحديد في الخارج لا في الذهن فقط.

والتعيّن للأفراد في الخارج لا يعلم ولا يتحقّق إلا إذا أريد من الجمع المرتبة العليا والأخيرة منه ، وهي المرتبة التي تكون فيها كلّ الأفراد داخلة في المدخول والطبيعة ؛ لأنّه إذا أريد هذه المرتبة من الجمع كان معناه أنّ كلّ فرد فرد من أفراد المدخول داخلا في هذا الجمع ومرادا في الصورة الذهنيّة ، وهذا يساوق العموم ؛ لأنّ العموم معناه الاستيعاب لكلّ الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها.

وأمّا المراتب الأخرى من الجمع كالثلاثة والأربعة وغيرهما فلا تفيد التعيّن

ص: 517

والتحدّد ؛ لأنّه لا يعلم فيها الفرد الداخل من الفرد الخارج. فيبقى التردّد والحيرة في كلّ هذه المراتب وهذا يتنافى مع دلالة اللام على التشخّص والتعيّن.

وبهذا ظهر أنّ ( اللام ) الداخلة على الجمع تفيد التعيّن والتشخص ، وهذا لا يحصل إلا في المرتبة الأخيرة من الجمع ، فيكون المراد من ( أكرم العلماء ) وجوب إكرام كلّ الأفراد التي ينطبق عليها هذا الجمع ، وهذا يعني العموم ؛ لأنّ لازم تعيّن المرتبة العليا هو الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد ، فالاستيعاب هنا لم يكن مدلولا ( اللام ) ، بل كان لازما لمدلولها (1).

ص: 518


1- نعم ، نحتاج هنا الى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ؛ لأنّ كون التعيّن لا يحصل إلا بالمرتبة العليا. غاية ما يفيد كون الأفراد التي ينطبق عليها المدخول داخلة ، وأمّا أنّ هذا المدخول وهذه الأفراد هل هي أفراد الطبيعة المطلقة أو أنّها أفراد الطبيعة المقيّدة؟ فهذا لا يمكن إثباته من الكلام واللفظ أو ( اللام ) أو المرتبة العليا من الجمع ، بل لا بدّ من إثباته بالإطلاق وقرينة الحكمة.

النكرة في سياق النهي أو النفي

ص: 519

ص: 520

النكرة في سياق النهي أو النفي

ذكر بعض (1) : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي من أدوات العموم.

ذكر البعض : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي كقولنا : ( لا تكرم فاسقا ) ، أو في سياق النفي كقولنا : ( لم أكرم فاسقا ) ، يجعلها دالّة على العموم. فيكون الدالّ على العموم عندهم هو السياق لا النكرة نفسها ؛ لأنّه تقدّم في مباحث اسم الجنس أنّ النكرة تدلّ على الوحدة بسبب التنكير. وعليه ، لا يمكن استفادة العموم والشمول من النكرة ؛ لأنّ العموم يتنافى مع الوحدة المستفادة من تنوين النكرة. ولذلك قال السيّد الشهيد :

وأكبر الظنّ أنّ الباعث على هذه الدعوى أنّ النكرة - كما تقدّم في حالات اسم الجنس من الحلقة السابقة (2) - يمتنع إثبات الإطلاق الشمولي لها بقرينة الحكمة ؛ لأنّ مفهومها يأبى عن ذلك.

وعليه ، فيمكن أن يكون السبب الداعي للقول بأنّ السياق هو الدالّ على العموم لا النكرة ، هو أنّ النكرة نفسها لا تقبل الإطلاق الشمولي ، كقولنا : ( أكرم عالما ) فإنّ التنوين دالّ على الوحدة والوحدة لا تنسجم ولا تتناسب مع الشمول والاستيعاب لكلّ فرد فرد من الأفراد ؛ لأنّ الوحدة في الطبيعة يدلّ على فرد واحد من الأفراد على نحو البدل.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة الحديث عن حالات اسم الجنس ، وهناك ذكرنا أنّ النكرة المطعمة بحيثيّة التنكير يمتنع الإطلاق الشمولي فيها ، فلا يستفاد منها العموم

ص: 521


1- كالمحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 254.
2- في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.

والاستيعاب والشمول لكلّ فرد فرد ، بل تفيد فردا واحدا شائعا من بين الأفراد ، وهذا يتناسب مع الإطلاق البدلي.

والوجه في إباء النكرة عن الإطلاق الشمولي أنّ التنكير يعني تقييد الماهيّة والطبيعة بالوحدة ، ومع التقييد لا تجري قرينة الحكمة ؛ لأنّها تثبت الماهيّة مجرّدة عن القيود وهو خلف المفروض ؛ لأنّها مقيّدة بقيد الوحدة المدلول عليه بالتنوين.

بينما نجد أنّنا نستفيد الشموليّة في حالات وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي ، فلا بدّ أن يكون الدالّ على هذه الشموليّة شيئا غير إطلاق النكرة نفسها ، فمن هنا يدّعى أنّ السياق - أي وقوع النكرة متعلّقا للنهي أو النفي - من أدوات العموم ؛ ليكون هو الدالّ على هذه الشموليّة.

وأمّا في حالات وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي نجد أنّنا نستفيد الشموليّة والعموم. فلأجل التوفيق بين ما يحسّ به الوجدان من إفادة الشموليّة والعموم في النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي ، وبين ما تقدّم في الحلقة السابقة من أنّ النكرة لا يستفاد منها الشموليّة لأنّها منوّنة بتنوين التنكير الدالّ على الوحدة ، يقال - جمعا بين هذين الأمرين - : إنّ السياق نفسه هو الدالّ على هذه الشموليّة والعموم. وبناء عليه يدّعى أنّ السياق من أدوات العموم فيكون دالاّ على العموم بنحو المعنى الحرفي ؛ لأنّ السياق هيئة تركيبيّة ، وقد تقدّم أنّ الهيئات كلّها موضوعة للنسب المحتاجة إلى طرفين دائما ؛ لأنّ النسبة متقوّمة بطرفيها ، ويكون السياق دالاّ على النسبة الاستيعابيّة. ولذلك يفترض هنا وجود ثلاثة دوالّ أحدها دالّ على النسبة ، والآخران دالاّن على المفهومين المستوعب والمستوعب.

ولكنّ التحقيق : أنّ هذه الشموليّة - سواء كانت على نحو شموليّة العامّ أو على نحو شموليّة المطلق - بحاجة إلى افتراض مفهوم اسمي قابل للاستيعاب والشمول لأفراده بصورة عرضيّة ؛ لكي يدلّ السياق حينئذ على استيعابه لأفراده ، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضي كما تقدّم ، فمن أين يأتي المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب لكي يدلّ السياق على عمومه وشموله؟

والتحقيق : أنّ هذه الدعوى غير صحيحة ؛ وذلك لأنّنا عرفنا أنّ الدلالة على الاستيعاب والعموم تحتاج إلى دالّين على الأقلّ كما في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ).

ص: 522

فهناك دالاّن كلمة ( كلّ ) الدالّة على الاستيعاب وكلمة ( عالم ) الدالّة على الطبيعة التي استوعبت أفرادها. وهكذا الحال بالنسبة للإطلاق الشمولي فتحتاج إلى دالّين أيضا كقولنا : ( أكرم العالم ) ، فإنّ كلمة ( العالم ) دالة على الطبيعة والماهيّة وقرينة الحكمة تدلّ على الشمول لكلّ أفراد هذه الطبيعة.

وهنا نحتاج إلى دالّين على هذه الشموليّة ولا بدّ أن يكونا معا مفهومين اسميّين ؛ لأنّ الحروف تحتاج إلى طرفين ومفهومين اسميّين تربط بينهما. وهنا السياق المفروض دلالته على العموم من الهيئات التركيبيّة والهيئات كلّها معان حرفيّة موضوعة للنسب على اختلافها ، والنسبة متقوّمة بطرفيها كما تقدّم.

وحينئذ نسأل : ما هو المفهوم الذي استوعبت كلّ أفراده؟

والجواب : أنّه لا يوجد في قولنا : ( لا تكرم فاسقا ) أو ( ما أكرمت فاسقا ) إلا كلمة ( فاسق ).

وعندئذ يشكل عليهم بأنّ كلمة الفاسق الواردة في السياق منوّنة بتنوين التنكير وهو يفيد الإطلاق البدلي ؛ لأنّ النكرة المنوّنة تفيد الوحدة وهي تتناسب مع الإطلاق البدلي فيكون هناك شموليّة بدليّة بين الأفراد. بينما المطلوب هنا أن يكون هناك مفهوم يدلّ على الشموليّة العرضيّة بين الأفراد بحيث تكون الأفراد كلّها في مرتبة واحدة وينطبق عليها المفهوم كلّها معا دون تفاوت بينها. فكيف حصل الاستيعاب والشمول إذا؟!

والحاصل : أنّ المفهوم الاسمي الموجود هو النكرة المنوّنة وهي دالّة على الشيوع والشمول البدلي العرضي ، والمطلوب من المفهوم المستوعب أن يكون شاملا لأفراده عرضيّا لا بدليّا.

وعليه ، فمن أين يأتي هذا المفهوم الاسمي الذي ينطبق ويشمل كلّ أفراده بعرض واحد لكي يكون هناك استيعاب وشمول سواء بنحو العموم أو الإطلاق؟

ومن هنا نحتاج إذا إلى تفسير للشموليّة التي نفهمها من النكرة الواقعة في سياق النهي والنفي ، ويمكن أن يكون ذلك بأحد الوجهين التاليين :

والصحيح أنّ النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي تدلّ على الشمول إلا أنّ هذه الشموليّة ليست بنحو العموم لما تقدّم آنفا. وعليه ، فنحتاج إلى تفسير آخر غير العموم

ص: 523

لتفسير هذه الشموليّة المستفادة من السياق ، وهذا التفسير يمكن أن يكون بأحد وجهين :

الأوّل : أن يدّعى كون السياق قرينة على إخراج الكلمة عن كونها نكرة ، فيكون دور السياق إثبات ما يصلح للإطلاق الشمولي. وأمّا الشموليّة فتثبت بإجراء قرينة الحكمة في تلك الكلمة بدون حاجة إلى افتراض دلالة السياق نفسه على الشموليّة والعموم.

الدعوى الأولى : للسيّد الشهيد : وهي أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي يخرجها من كونها منوّنة بتنوين التنكير ، ويفيد أنّها منوّنة بتنوين التمكين. فهناك أربع حالات للنكرة لا تكون فيها منوّنة بتنوين التنكير ، بل منوّنة بتنوين التمكين وهي :

الأولى : النكرة في سياق النهي كقولنا : ( لا تكرم فاسقا ) فهي بقوّة قولنا : ( لا تكرم الفاسق ).

الثانية : النكرة في سياق النفي كقولنا : ( ما أكرمت فاسقا ) فهو أيضا كقولنا : ( ما أكرمت الفاسق ).

الثالثة : النكرة في سياق الاستفهام كقولنا : ( هل أكرمت فاسقا ) فهي كقولنا : ( هل أكرمت الفاسق ).

الرابعة : النكرة المضافة لنكرة كقولنا : ( أكرم عالم قرية ) فهي كقولنا : ( أكرم عالم القرية ).

ففي هذه الموارد الأربعة تكون النكرة منوّنة بتنوين التمكين ، وهذا يعني أنّها صالحة للانطباق على كلّ فرد من أفرادها ، فيكون السياق هنا قد أكسب النكرة هذه الصلاحيّة لاستيعاب كلّ أفرادها بعد أن أخرجها عن تنوين التنكير المفيد للوحدة والمتنافي مع الاستيعاب والشمول لكلّ الأفراد. فالسياق يثبت أنّ الماهيّة ليست مقيّدة. وعليه ، فتصلح للإطلاق بإجراء قرينة الحكمة فيها.

وحينئذ يبقى علينا إثبات الشموليّة لكلّ الأفراد بعد أن أثبتنا أنّه يوجد في الكلام مفهوم اسمي صالح لأن يستوعب كلّ الأفراد ، وهذا يمكن إثباته بواسطة الإطلاق وقرينة الحكمة في النكرة لإثبات أنّها تدلّ على طبيعة ( الفاسق ) في المثال من دون قيد ، فيثبت شمولها وعمومها لكلّ الأفراد.

ص: 524

ولا نحتاج للقول بأنّ السياق نفسه من أدوات العموم ، فإنّ الشموليّة والاستيعاب لكلّ الأفراد لا تتوقّف عليه ، بل يثبتها الإطلاق وقرينة الحكمة. وليس دور السياق إلا إعطاءها الصلاحيّة للانطباق على كلّ الأفراد والتي كانت قد فقدتها بتنوين التنكير الدالّ على الوحدة.

الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) (1) رحمه اللّه من أنّ الشموليّة ليست مدلولا لفظيّا ، وإنّما هي بدلالة عقليّة ؛ لأنّ النهي يستدعي إعدام متعلّقه ، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد واحد.

الدعوى الثانية : لصاحب ( الكفاية ) حيث قال : إنّ الشموليّة والاستيعاب المستفادين من وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي لا تستفاد من دلالة السياق. وعليه ، فلا يكون هناك دالّ لفظي على الشموليّة والاستيعاب. وإنّما الدالّ على الاستيعاب والشمول في النكرة - بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في النكرة لإثبات كونها دالّة على الطبيعة والماهيّة من دون قيد - يثبت بقرينة عقليّة وهي أنّ إعدام الطبيعة المفاد من النهي وانتفاءها المفاد من النفي لا يمكن تحقّقهما إلا بانعدام تمام الأفراد ؛ لأنّه لو بقي فرد واحد من أفراد الطبيعة لم تكن معدومة ومنتفية. فعلى أساس هذه القرينة العقليّة نستطيع تفسير الشموليّة في هذه النكرة ، ولا نحتاج إلى ادّعاء كون السياق من أدوات العموم ، أو أنّه أخرجها من تنوين التنكير إلى تنوين التمكين.

غير أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تعيّن طريقة امتثال النهي وأنّ امتثاله لا يتحقّق إلا بترك جميع أفراد الطبيعة ، ولا تثبت الشموليّة بمعنى تعدّد الحكم والتحريم بعدد تلك الأفراد ، كما هو واضح.

ويرد عليه : أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تثبت لنا كيفيّة امتثال النهي أو كيفيّة تحقّق النفي ، فإنّ العقل يحكم بأنّ النهي المتعلّق بالطبيعة المفيد للزجر عنها لا يتحقّق هذا الزجر والانزجار من المكلّف في عالم الخارج إلا بانعدام كلّ أفراد الطبيعة ؛ لأنّ ارتكاب فرد منها لا يكون زجرا وانزجارا عنها. وكذلك انتفاء الطبيعة لا يكون خارجا إلا بانتفاء كلّ أفرادها ؛ لأنّ وجود وإيجاد فرد من الأفراد يتنافى مع انتفائها لأنّها توجد بفرد واحد من الأفراد.

ص: 525


1- كفاية الأصول : 254.

والحاصل : أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تعيّن لنا كيفيّة

وطريقة الامتثال للنهي أو للنفي.

وأمّا أنّ الحكم في عالم الجعل هل هو متكثّر ومتعدّد أو هو حكم واحد؟ فهذا لا يمكن إثباته بهذه الدلالة العقليّة. والمطلوب من العموم إثبات أنّ الحكم متعدّد بتعدّد الأفراد في عالم الجعل والتشريع ، بحيث تكون الأفراد موضوعة للأحكام المتعدّدة والمتكثّرة ، على خلاف الإطلاق الشمولي الذي معناه أنّ الحكم واحد وموضوعه واحد أيضا ، ولكنّه بعد الإطلاق وقرينة الحكمة ينحلّ إلى أحكام عديدة في عالم المجعول والامتثال لا في عالم الجعل واللحاظ.

فكان ينبغي لصاحب ( الكفاية ) تعيين الشموليّة بالإطلاق وقرينة الحكمة لا بالدلالة العقليّة.

ص: 526

الفهرس

الإهداء... 5

المقدمة... 7

تمهيد... 11

تعريف علم الأصول... 13

موضوع علم الأصول... 29

الحكم الشرعي وتقسيماته... 43

شمول الحكم للعالم والجاهل... 53

الحكم الواقعي والظاهري... 63

شبهة التضادّ ونقض الغرض... 75

شبهة تنجّز الواقع المشكوك... 93

الأمارات والأصول... 99

التنافي بين الأحكام الظاهريّة... 111

وظيفة الأحكام الظاهريّة... 117

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة... 123

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام... 131

تنسيق البحوث المقبلة... 145

حجّيّة القطع... 149

العلم الإجمالي... 163

حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي... 177

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة... 193

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة... 207

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة... 219

ص: 527

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي... 231

إثبات الأمارة لجواز الإسناد... 249

إبطال طريقيّة الدليل... 257

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة... 265

الدليل الشرعي... 269

البحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي... 271

الدليل الشرعي اللفظي... 271

المعاني الحرفيّة... 285

هيئات الجمل... 311

الجملة التامّة والجملة الناقصة... 317

الجملة الخبريّة والإنشائيّة... 327

الثمرة... 339

الأمر أو أدوات الطلب... 347

الأوامر الإرشاديّة... 383

النهي أو أدوات الزجر... 397

الفور والتراخي... 401

المرّة والتكرار... 405

الإطلاق واسم الجنس... 409

التقابل بين الإطلاق والتقييد... 427

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة... 441

تنبيهات... 463

أدوات العموم... 483

نحو دلالة أدوات العموم... 493

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد... 505

دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم... 511

النكرة في سياق النهي أو النفي... 519

الفهرس... 527

ص: 528

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 426

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

2

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الثاني

مباحث الألفاظ

الدليل الشرعي اللفظي

إثبات صغری الدليل الشرعي

حجية الظهور

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

المفاهيم

اشارة

ص: 5

ص: 6

المفاهيم

تعريف المفهوم :

لا شكّ في أنّ المفهوم مدلول التزامي للكلام ، ولا شكّ أيضا في أنّه ليس كلّ مدلول التزامي يعتبر مفهوما بالمصطلح الأصولي.

ومن هنا احتجنا إلى تعريف يميّز المفهوم عن بقية المدلولات الالتزاميّة.

المفهوم : هو المدلول الالتزامي للكلام ، بخلاف المنطوق فإنّه المدلول المطابقي للكلام ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه. إلا أنّ المداليل الالتزاميّة للكلام كثيرة وليس كلّها تسمّى مفهوما بالمصطلح الأصولي ، بل خصوص واحد منها ، ولذلك تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.

فمثلا حرمة الضدّ مدلول التزامي لوجوب ضدّه ، فإذا وجبت الصلاة كان مدلولها الالتزامي حرمة تركها أو فعل المنافي لها المؤدّي إلى فواتها. ووجوب المقدّمة مدلول التزامي لوجوب ذيها ، فإذا وجب الحجّ وجب السفر إلى مكّة قبل يوم عرفة للنائي.

وبطلان العبادة مدلول التزامي للنهي عنها ، فإذا قيل : ( لا تصلّ في المغصوب ) كان لازمه بطلان الصلاة فيه. ووجوب صلاة الجمعة يدلّ بالالتزام على عدم وجوب الظهر يوم الجمعة ، وطلوع الفجر يدلّ بالالتزام على ذهاب الليل. ووجود أحد الضدّين يدلّ بالالتزام على انتفاء الضدّ الآخر. ووجود الوصف يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، وهكذا الشرط والغاية ونحو ذلك.

ومن الواضح أنّ هذه المدلولات الالتزاميّة ليست كلّها مفهوما بالمصطلح الأصولي وإن كانت مفهوما لفظيّا للكلام ، بمعنى أنّها تفهم من وراء هذه الألفاظ ؛ ولأجل ذلك نحتاج في بيان المفهوم بالمصطلح الأصولي إلى تعريف يميّز هذا المدلول الالتزامي الذي يسمّى مفهوما أصوليّا عن سائر المداليل الالتزاميّة الأخرى.

ص: 7

وعليه وجدت عدّة تعريفات للمفهوم ، أهمّها :

وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه اللّه بهذا الصدد : أنّ المفهوم هو اللازم البيّن مطلقا أو اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ في مصطلح المناطقة (1).

عرّف المحقّق النائيني المفهوم بقوله : ( هو المدلول الالتزامي للجملة على وجه يكون بيّنا بالمعنى الأخصّ ) وفقا لما جاء في تعريف ( فوائد الأصول ) (2).

إلا أنّ السيّد الخوئي في أجود التقريرات فسّر كلام الميرزا بنحو يتناسب مع اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ أيضا.

ولأجل اختلاف التقريرات ردّد السيّد الشهيد بقوله : ( هو اللازم البيّن مطلقا أو اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ).

والمقصود من هذين المصطلحين هو المصطلح المنطقي لهما.

فاللازم البيّن بالمعنى الأخصّ : هو ما يلزم من تصوّر ملزومه تصوّره بلا حاجة إلى توسّط شيء آخر. كتصوّر الحرارة بمجرّد تصوّر النار ، وكتصوّر البرودة عند تصوّر الثلج.

واللازم البيّن بالمعنى الأعمّ : هو ما يلزم من تصوّره وتصوّر ملزومه وتصوّر النسبة بينهما الجزم بالملازمة. كتصوّر أنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يحتاج إلى تصوّر الاثنين والأربعة والنسبة بينهما.

والحاصل : أنّه يشترط في المفهوم أن يكون لازما بيّنا بالمعنى الأخصّ ، بمعنى أنّ الذهن ينتقل من تصوّر المعنى للّفظ إلى تصوّر معنى آخر خارج عن اللفظ ، بنحو يكون التلازم بينهما عقليّا من دون حاجة إلى توسّط شيء آخر غير تصوّر اللفظ ومعناه.

ونلاحظ على ذلك : أنّ بعض الأدلّة التي تساق لإثبات مفهوم الشرط مثلا تثبت المفهوم كلازم عقلي بحت دون أن يكون مبيّنا على ما يأتي (3) إن شاء اللّه تعالى.

ص: 8


1- راجع فوائد الأصول 1 : 477 ، أجود التقريرات 1 : 414.
2- فوائد الأصول 1 : 378.
3- في بحث مفهوم الشرط.

ويرد على هذا التعريف سواء أريد منه اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ أو بالمعنى الأخصّ أو كليهما ، أنّهم قد استدلّوا على ثبوت المفهوم في بعض الجمل بأدلّة عقليّة أو فلسفيّة محضة غير بيّنة ولا واضحة عرفا. من قبيل استدلالهم على ثبوت مفهوم الشرط بالقاعدة الفلسفية القائلة ب- ( أنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، وهذه القاعدة ليست عرفيّة ولا بيّنة أصلا ، بل هي لازم غير بيّن.

مضافا إلى أنّ بعض اللوازم بالمعنى الأخصّ ليست من المفهوم ، فمثلا إذا قيل : ( إنّ الماء مطهّر ) فلازمه الأخصّ البيّن عرفا أنّه طاهر ، مع أنّ هذا اللازم ليس مفهوما بالمصطلح الأصولي.

فهذا التعريف غير تامّ ؛ لأنّه غير مانع كما في النقض الأوّل ، وغير جامع كما في النقض الثاني.

فالأولى أن يقال : إنّ المدلول الالتزامي تارة يكون متفرّعا على خصوصيّة الموضوع في القضيّة المدلولة للكلام بالمطابقة على نحو يزول باستبداله بموضوع آخر ، وأخرى يكون متفرّعا على خصوصيّة المحمول بهذا النحو ، وثالثة يكون متفرّعا على خصوصيّة الربط القائم بين طرفي القضيّة على نحو يكون محفوظا ولو تبدّل كلا الطرفين.

والتحقيق : أنّ المدلول الالتزامي للكلام على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : أن يكون المدلول الالتزامي متفرّعا على خصوصيّة الموضوع الموجود في الكلام ، بنحو إذا أبدلنا هذا الموضوع بموضوع آخر انتفى المدلول الالتزامي السابق. كما إذا قيل مثلا : ( أكرم ابن العالم ) فإنّه يدلّ التزاما على وجوب إكرام العالم نفسه ، إلا أنّ هذا المدلول الالتزامي مرتبط بهذا الموضوع بخصوصه ؛ وذلك لوجود خصوصيّة وملاك فيه ، فلو أبدل بموضوع آخر كقولنا : ( أكرم اليتيم ) فلا يدلّ التزاما على وجوب إكرام أمّه مثلا.

وهذا النحو من المدلول الالتزامي ليس من المفهوم المصطلح بشيء ، وإن أطلق عليه اسم مفهوم الأولويّة أو مفهوم الموافقة ؛ لأنّ البحث أصوليّا عن مفهوم المخالفة فقط.

الثاني : أن يكون المدلول الالتزامي متفرّعا على خصوصيّة في المحمول الموجود في

ص: 9

الكلام ، بنحو إذا أبدل هذا المحمول بآخر لم يثبت المدلول الالتزامي الذي كان ثابتا من قبل ، كما إذا قلنا : ( صلّ ) فإنّ وجوب الصلاة يلزم منه وجوب مقدّماتها كالوضوء ونحوه ، إلا أنّ هذا المدلول الالتزامي ينتفي لو كانت الصلاة مباحة ، فإنّه لا يجب تهيئة المقدّمات عندئذ. وهذا ليس من المفهوم المصطلح أيضا.

الثالث : أن يكون المدلول الالتزامي متفرّعا على خصوصيّة الربط الموجود بين طرفي القضيّة أي بين الموضوع والمحمول ، بأن كان هناك ربط مخصوص بين الموضوع والمحمول وكان المدلول الالتزامي متفرّعا عن هذا الربط ، فهذا إذا أبدلنا الموضوع والمحمول بآخرين مع بقاء خصوصيّة الربط فإنّ المدلول الالتزامي يبقى على حاله ولا ينتفي ؛ من قبيل قولنا : ( صم إلى الليل ) فإنّ الموضوع هو الصيام والمحمول هو الوجوب إلى الليل.

فلأجل الارتباط الخاصّ بين الموضوع والمحمول وهو أنّ وجوب الصوم معلّق على الليل يستلزم انتفاء وجوب الصوم إذا دخل الليل ، وهذا المدلول الالتزامي لا يتغيّر ولا يتبدّل حتّى لو غيّرنا الطرفين بآخرين ما دام الربط المذكور موجودا ؛ لأنّ المدلول الالتزامي كان متفرّعا على هذا الربط وعلى خصوصيّة في الموضوع أو المحمول. وهذا هو المفهوم بالمصطلح الأصولي.

ولتوضح ذلك قال السيّد الشهيد :

فقولنا : ( إذا زارك ابن كريم وجب احترامه ) يدلّ التزاما على وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته ، وعلى وجوب تهيئة المقدّمات التي يتوقّف عليها احترام الابن الزائر ، وعلى أنّه لا يجب الاحترام المذكور في حالة عدم الزيارة.

فهذه الجملة فيها ثلاثة أنحاء من المداليل الالتزاميّة :

الأول : المدلول الالتزامي المتفرّع على الموضوع لخصوصيّة فيه ، وهو وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته ؛ لأنّه إذا وجب احترام ابنه فمن الأولى احترامه هو نفسه ، وهذا ما يسمّى بمفهوم الموافقة والأولويّة.

الثاني : المدلول الالتزامي المتفرّع على خصوصيّة المحمول ، وهو وجوب تهيئة المقدّمات للاحترام ، فإنّ وجوب المقدّمات لازم لوجوب الاحترام نفسه.

الثالث : المدلول الالتزامي المتفرّع على الربط الخاصّ بين الموضوع والمحمول ، وهو

ص: 10

عدم وجوب الإكرام إذا انتفت الزيارة ، بمعنى أنّه لا إكرام للكريم إذا لم تتحقّق منه الزيارة.

وحينئذ نقول :

والمدلول الأوّل مرتبط بالموضوع ، فلو بدّلنا ابن الكريم باليتيم مثلا لم يكن له هذا المدلول.

والمدلول الثاني مرتبط بالمحمول وهو الوجوب ، فلو بدّلناه بالإباحة لم يكن له هذا المدلول.

أمّا المدلول الالتزامي الأوّل فهو مرتبط بالموضوع ؛ لأنّ إكرام الكريم نفسه فرع خصوصيّة الموضوع ، وهي أنّه إذا وجب إكرام ابنه فمن الأولى وجوب إكرامه هو. وهذا يعني أنّنا لو أبدلنا ( ابن الكريم ) ب- ( اليتيم ) وقلنا : ( أكرم اليتيم ) لم يكن لهذا الكلام دلالة التزاميّة كالسابق ؛ إذ لا يدلّ على وجوب إكرام أمّه مثلا.

وكذلك الحال في المدلول الالتزامي الثاني ؛ لأنّه مرتبط بالمحمول. فإنّ المقدّمات تجب فيما إذا كان ذو المقدّمة واجبا ، وأمّا إذا كان مستحبّا فإنّه لا تكون مقدّماته مستحبّة أيضا.

والمدلول الثالث متفرّع على الربط الخاصّ بين الجزاء والشرط ، ومهما غيّرنا من الشرط والجزاء يظلّ المدلول الثالث بروحه ثابتا معبّرا عن انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، وإن كان التغيير ينعكس عليه فيغيّر من مفرداته تبعا لما يحدث في المنطوق من تغيّر في المفردات. وهذا هو المفهوم.

وأمّا المدلول الثالث وهو انتفاء وجوب الاحترام عند انتفاء الزيارة ، فهذا متفرّع عن الربط المخصوص بين الجزاء والشرط ، وهو كون الجزاء متوقّفا على الشرط ، فإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء.

وهذا المدلول الالتزامي يبقى ثابتا حتّى لو تغيّر الشرط والجزاء وأبدلناهما بشرط وجزاء آخرين ، فإنّه يبقى هذا الربط المخصوص بين الشرط والجزاء - وهو التوقّف - ثابتا لا يتغيّر.

نعم ، تتغيّر المفردات في المفهوم تبعا لتغيّرها في المنطوق ، فقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) وقولنا : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) لا يختلفان من حيث كون الجزاء

ص: 11

متوقّفا على الشرط ، وهو المدلول الالتزامي المسمّى بالمصطلح الأصوليّ مفهوما. نعم ، تتغيّر المفردات من المجيء والإكرام إلى زوال الشمس والصلاة ، وهذا التغيّر في المفردات لا يضرّ في بقاء المدلول الالتزامي المذكور ؛ لأنّه متفرّع على الربط المخصوص فمتى تحقّق هذا الربط تحقّق المفهوم ، ولا ارتباط له بالموضوع أو المحمول لينتفي بانتفائهما.

وهذا هو المفهوم المصطلح عليه أصوليّا ، ولكن بشرط آخر وهو :

لكن على أن يتضمّن انتفاء طبيعي الحكم لا شخص الحكم المدلول عليه بالخطاب ، تمييزا للمفهوم عن قاعدة احترازيّة القيود التي تقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد.

والشرط الآخر في المفهوم هو أن يكون المنتفي طبيعي الحكم لا شخصه ، فقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يدلّ على انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء على أساس الربط المخصوص بين الشرط والجزاء وهو التوقّف ، لكن المنتفي هو كلّي وطبيعي وجوب الإكرام لا وجوب خاصّ ، بمعنى أنّه لا يجب إكرامه مطلقا إذا لم يأت حتّى لو كان عالما أو عادلا أو فقيرا... إلى آخره.

وبهذا اختلف المفهوم في موارد ثبوته عن قاعدة احترازيّة القيود ، فإنّ المنتفي فيها هو شخص الحكم المعلّق على الوصف أو القيد.

فإذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) دلّ ذكر قيد العدالة في القضيّة على أنّ الحكم ينتفي عن العالم إذا لم يكن عادلا ، ولكنّه لا يدلّ على انتفاء طبيعي وكلّي وجوب الإكرام عن العالم ، ولذلك لا مانع من إكرامه بوصف آخر كأن يكون فقيرا مثلا.

والحاصل في تعريف المفهوم أن يقال : ( إنّ المفهوم هو المدلول الالتزامي المتفرّع عن خصوصيّة الربط القائم بين طرفي القضيّة بنحو يكون المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه ).

وبهذا التعريف تخرج المداليل الالتزاميّة المتفرّعة عن خصوصيّة في الموضوع فقط ، أو في المحمول فقط ، ويخرج المدلول الالتزامي المتفرّع على الربط القائم بين طرفي القضيّة إذا لم يكن المنتفي فيه طبيعي الحكم أيضا.

ص: 12

ضابط المفهوم :

ونريد الآن أن نعرف الربط المخصوص الذي يؤخذ في المنطوق ويكون منتجا للمفهوم.

وتوضيح ذلك : أنّا إذا أخذنا الجملة الشرطيّة كمثال للقضايا التي يبحث عن ضابط ثبوت المفهوم لها ، نجد أنّ لها مدلولا تصوّريّا ومدلولا تصديقيّا.

وحينما نفترض المفهوم للجملة الشرطيّة : تارة نفترضه على مستوى مدلولها التصوّري ، بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم يكون داخلا في المدلول التصوّري للجملة. وأخرى نفترضه على مستوى مدلولها التصديقي بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم لا يكون مدلولا عليه بدلالة تصوّريّة ، بل بدلالة تصديقيّة.

بعد أن عرفنا أنّ المفهوم هو المدلول الالتزامي للكلام على نحو يوجب انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء موضوعه ، لا بدّ أن نعرف النكتة والملاك في كيفيّة اقتناص المفهوم من الجملة ليتمّ تطبيق ذلك على كلّ الجمل التي ادّعي دلالتها على المفهوم لنرى أنّ هذا الضابط هل هو موجود فيها فيثبت لها المفهوم ، أو لا فلا يثبت لها المفهوم؟

فهذا الربط الخاصّ بين طرفي القضيّة متى يتحقّق ، وما هو ملاكه؟

ففي قولنا : ( إذا جاءك زيد أكرمه ) إذا أردنا إثبات المفهوم لهذه القضيّة علينا إثبات وجود الربط الخاصّ فيها الموجب لانتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الموضوع أو الشرط.

وبما أنّ لكلّ جملة مدلولا تصوّريّا ومدلولا تصديقيّا فلا بدّ إذا أن يقع البحث عن اقتناص ضابط المفهوم في مقامين :

المقام الأوّل : في مرحلة المدلول التصوّري للجملة ، وهو المدلول اللفظي والصورة الذهنيّة التي وضعت لها ، فإنّ كلّ لفظ موضوع لمعنى. فالجملة الشرطيّة مثلا ما هو المعنى الذي وضعت له لنرى أنّ هذا المعنى هل يفي بالربط المخصوص لاستفادة المفهوم أو لا؟ فإذا كان وافيا به تصوّرا فهو ثابت استعمالا وتصديقا جدّيّا.

المقام الثاني : في مرحلة المدلول التصديقي للجملة ، وذلك فيما إذا لم يكن المعنى الموضوع للجملة كافيا في الربط المخصوص ، فيبحث عن وجود نكتة إثباتيّة دلاليّة

ص: 13

على أساسها يثبت هذا الربط الخاصّ ، كالإطلاق وقرينة الحكمة مثلا على ما سيأتي توضيحه.

والحاصل : أنّ البحث عن ضابط المفهوم والربط الخاصّ الموجب للمفهوم يقع في مقامين :

الأوّل : المرحلة الثبوتيّة وهي مرحلة المدلول التصوّري للجملة.

الثاني : المرحلة الإثباتيّة وهي مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي للجملة.

وسوف نبحث عن هذين المقامين تباعا ، فنقول :

أمّا الضابط لإفادة المفهوم في مرحلة المدلول التصوّري فهو أن يكون الربط المدلول عليه بالأداة أو الهيئة في هذه المرحلة من النوع الذي يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ ربط قضيّة أو حادثة بقضيّة أو حادثة أخرى إذا أردنا أن نعبّر عنه بمعنى اسمي وجدنا بالإمكان التعبير عنه بشكلين :

فنقول تارة : ( زيارة شخص للإنسان تستلزم أو توجد وجوب إكرامه ).

ونقول أخرى : ( إنّ وجوب إكرام شخص يتوقّف على زيارته أو هو معلّق على فرض الزيارة وملتصق بها ).

أمّا المقام الأوّل : فإذا أخذنا الجملة الشرطيّة كمثال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فإثبات المفهوم والربط الخاصّ في مرحلة المدلول التصوّري والوضعي للجملة متوقّف على إثبات أنّ الربط المدلول عليه في هذه الجملة سواء كان الدالّ هو الأداة أي أداة الشرط أو كان الدالّ هو الهيئة أو تفريع الجزاء على الشرط ، وهذا الترديد في العبارة لأجل وجود قولين بينهم ، فبعض يقول : إنّ الدالّ على الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء هو الأداة ، بينما يقول البعض الآخر. كالأصفهاني. إنّ الدالّ على الربط الخاصّ هو تفريع الجزاء على الشرط بالفاء الموجودة أو المقدّرة ، وعلى كلّ فالربط الخاصّ المدلول عليه في الجملة لكي يكون وافيا بضابط المفهوم لا بدّ أن يكون هذا الربط بنحو يكون موجبا ومستلزما لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.

فارتباط قضيّة بقضيّة أخرى إذا كان دالا على الانتفاء عند الانتفاء كان موجبا لاستفادة المفهوم.

ص: 14

وحيث إنّ الجملة الشرطيّة الدالّة على الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء سواء بالأداة أو بالهيئة من المعاني الحرفيّة ، فهي تدلّ على هذا الربط الخاصّ بنحو المعنى الحرفي ، وهكذا الحال في سائر الجمل التي يبحث حول دلالتها عن المفهوم.

وهذا المعنى الحرفي يوازيه معنى اسمي ؛ لأنّ كلّ معنى حرفي يوجد معنى اسمي مواز له ، فإذا أردنا أن نعبّر عن هذا الربط الخاصّ الذي هو معنى حرفي بالمعنى الاسمي الموازي له وجدنا أنّ هناك نحوين من التعبير :

ففي قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) تارة نعبّر عن الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء بقولنا : ( مجيء زيد مستلزم وموجد لوجوب إكرامه ) بحيث يكون المعنى الحرفي هو النسبة الإيجاديّة أو النسبة الاستلزاميّة.

وأخرى نعبّر عن هذا الربط بقولنا : ( وجوب إكرام زيد متوقّف أو معلّق أو ملتصق بمجيئه ) بحيث يكون المعنى الحرفي هو النسبة التوقّفيّة أو التعليقيّة أو الالتصاقيّة.

فإذا يوجد نحوان من الممكن أن تكون الجملة الشرطيّة موضوعة لهما هما :

1 - أن تكون موضوعة للنسبة الإيجاديّة أو الاستلزاميّة.

2 - أن تكون موضوعة للنسبة التوقّفيّة أو الالتصاقيّة أو التعليقيّة.

وحينئذ يأتي البحث التالي :

ففي القول الأوّل استعملنا معنى الاستلزام ، وفي القول الثاني استعملنا معنى التوقّف والتعليق والالتصاق ، والمعنى الأوّل لا يدلّ التزاما على الانتفاء عند الانتفاء ، والثاني يدلّ عليه.

فإذا كانت الجملة الشرطيّة مثلا موضوعة لغة للربط الخاصّ وللنسبة الاستلزاميّة الموازية لمفهوم الاستلزام كمعنى اسمي فلا يمكن استفادة المفهوم للجملة ؛ إذ لا يكون هذا المعنى وافيا ودالا بالالتزام على الانتفاء عند الانتفاء.

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة الإيجاديّة أو الاستلزاميّة معناها أنّ هذا موجد لذاك أو سبب وعلّة له ، فإذا وجد الشرط وجد الجزاء ؛ لأنّ الشرط علّة وسبب ومستلزم للجزاء. إلا أنّ هذا لا يعني أنّه إذا انتفى الشرط انتفى الجزاء أيضا ؛ إذ لعلّ هناك سببا وعلّة وموجدا للجزاء غير هذا الشرط.

فنفس الإيجاد والاستلزام لا يكفي وحده على مستوى المدلول التصوّري الوضعي

ص: 15

للجملة في اقتناص المفهوم ، وإنّما نحتاج في إثباته إلى الإطلاق وقرينة الحكمة في الشرط لإثبات كونه العلّة الوحيدة المنحصرة للجزاء ، وهذا بحث إثباتي تصديقي لا علاقة له بالمدلول التصوّري للجملة.

وأمّا إذا كانت الجملة موضوعة لغة بحسب المدلول التصوّري الوضعي للربط الخاصّ وللنسبة التوقّفية أو التعليقية أو الالتصاقيّة كانت استفادة المفهوم والانتفاء عند الانتفاء ثابتة ومتحقّقة في مرحلة المدلول التصوّري للجملة ؛ وذلك لأنّ الجملة الشرطيّة مثلا معناها على هذا الفرض أنّ الجزاء معلّق ومتوقّف وملتصق بالشرط ، فإذا وجد الشرط وجد الجزاء ، وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء أيضا ؛ لأنّ المعيّة والالتصاق فيهما تفترض أنّهما معا دائما وجودا وعدما ، وهذا معناها لانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ الجزاء يدور مدار الشرط إذ هو معلّق عليه وملتصق به.

وعلى هذا التفسير سوف تكون الجملة الشرطيّة مثلا وغيرها من الجمل أيضا دالّة على المفهوم وضعا وتصوّرا ؛ لأنّها تدلّ على الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء إلا وهو النسبة التوقّفية أو الالتصاقيّة أو التعليقيّة.

وبهذا ظهر أنّ الاستلزام يكون بمثابة الموجبة الجزئيّة التي تسكت عن بقيّة الأفراد ، بينما التوقّف بمثابة الموجبة الكلّيّة التي تتحدّث عن كلّ الأفراد.

فلكي تكون الجملة الشرطيّة مثلا مشتملة في مرحلة المدلول التصوّري على ضابط إفادة المفهوم ، لا بدّ أن تكون دالّة على ربط الجزاء بالشرط بما هو معنى حرفي مواز للمعنى الاسمي للتوقّف والالتصاق ، لا على الربط بما هو معنى حرفي مواز للمعنى الاسمي لاستلزام الشرط للجزاء.

والحاصل : أنّ دلالة الجملة الشرطيّة - مثلا - وغيرها أيضا على المفهوم في مرحلة المدلول التصوّري الوضعي للجملة متوقّف على أمرين :

الأمر الأوّل : أن تكون دالّة على الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، وهذا معناه أنّه لا بدّ أن تكون موضوعة لغة لمعنى حرفي وللنسبة الموازية للمعنى الاسمي الذي هو التوقّف أو الالتصاق أو التعليق ، كما تقدّم توضيحه. لا أن تكون موضوعة لغة للمعنى الحرفي والنسبة الموازية لمفهوم الاستلزام والإيجاد الاسمي بين الشرط والجزاء ، فإذا ثبت ذلك كانت الجملة دالّة وضعا على

ص: 16

المفهوم من دون حاجة إلى أدلّة إثباتيّة تصديقيّة كالإطلاق بقرينة الحكمة ونحو ذلك.

ولا بدّ - إضافة إلى ذلك - أن يكون المرتبط على نحو التوقّف والالتصاق طبيعي الوجوب لا وجوبا خاصّا ، وإلا لم يقتض التوقّف إلا انتفاء ذلك الوجوب الخاصّ ، وهذا القدر من الانتفاء يتحقّق بنفس قاعدة احترازيّة القيود ولو لم نفترض مفهوما.

والأمر الثاني : أن يكون المرتبط طبيعي الحكم لا شخصه ، ففي الجملة الشرطيّة المذكورة مثلا يكون الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء موجبا لانتفاء طبيعي الجزاء عند انتفاء الشرط ، فعندها يتحقّق المفهوم للجملة ، وهو أنّه لا وجوب مطلقا لإكرام زيد عند عدم مجيئه ، وأمّا انتفاء شخص الحكم فقط فهو لا يكفي لإفادة المفهوم ؛ وذلك لأنّ انتفاء شخص الحكم ثابت على أساس قاعدة احترازيّة القيود وإن لم يكن هناك مفهوم أصلا.

توضيح ذلك : أنّ قاعدة احترازيّة القيود توجب أنّ القيد المذكور في الكلام دخيل في موضوع الحكم ، بحيث إنّ الفاقد للوصف والقيد ينتفي عنه هذا الحكم المقيّد به ، فإذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) دلّت احترازيّة القيود على أنّ كلّ قيد يقوله في الكلام يكون دخيلا في المراد الجدّي.

وهذا معناه أنّ وجوب إكرام العالم يشترط فيه العدالة ، فإن لم يكن عادلا كان وجوب إكرامه منتفيا إلا أنّ وجوب الإكرام المنتفي عنه من جهة كونه عالما غير عادل ، وهذا لا يمنع ثبوت وجوب الإكرام للعالم غير العادل بقيد وملاك آخر كأن يكون فقيرا أو هاشميّا مثلا.

وعلى هذا فنقول : إنّ المفهوم كمصطلح أصولي هو انتفاء طبيعىّ الحكم لا شخصه ؛ لأنّه لو أريد انتفاء الشخص فقط كان البحث عن المفهوم للجملة لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ، إذ انتفاء شخص الحكم ثابت بقاعدة الاحترازيّة ، فما الحاجة لإثبات انتفاء هذا الشخص ثانيا على أساس المفهوم؟!

وأمّا لو كان المنتفي هو الطبيعي والكلّي لكان للمفهوم معنى تأسيسيّ جديد لم يكن موجودا من قبل ، وهذا معناه أنّ المنتفي هو طبيعي الحكم بما هو هو من دون نظر إلى الأفراد وليس المنتفي هو صرف الطبيعة ؛ لأنّ الطبيعة الصرفة تتحقّق بفرد من أفرادها ، فلو

ص: 17

كان المنتفي هو الصرف لكان معناه أنّ المنتفي هو فرد من أفرادها وهذا لا فائدة منه كما تقدّم ، بل المراد انتفاء الطبيعة بما هي هي من دون لحاظ شيء آخر عليها.

وإذا ثبتت دلالة الجملة في مرحلة المدلول التصوّري على النسبة التوقّفية والالتصاقيّة ثبت المفهوم ، ولو لم يثبت كون الشرط علّة للجزاء أو جزء علّة له ، بل ولو لم يثبت اللزوم إطلاقا وكان التوقّف لمجرّد صدفة.

فإذا تمّ هذان الأمران كان للجملة مفهوم على مستوى المدلول التصوّري الوضعي ، ولا نحتاج إلى المرحلة الإثباتيّة لإثبات أنّ الشرط علّة تامّة أو جزء العلّة التامّة للجزاء كما هو مسلك المشهور ، بل ما دامت الجملة دالّة تصوّرا على التوقّف والالتصاق بنحو المعنى الحرفي يثبت المفهوم ، وإن كان الجزاء متفرّعا على الشرط لمجرّد الصدفة المحضة ولم يكن بينهما علّة انحصاريّة أو علّة تامّة أو جزء علّة أو حتّى لزوم أيضا. فإذا قيل : ( إذا جاء الأستاذ كانت الساعة التاسعة ) وكان هناك توقّف بينهما ولو صدفة كفى ذلك في استفادة المفهوم وأنّه لا تكون الساعة التاسعة إذا لم يأت.

وأمّا على مستوى المدلول التصديقي للجملة ، فقد تكشف الجملة في هذه المرحلة عن معنى يبرهن على أنّ الشرط علّة منحصرة أو جزء علّة منحصرة للجزاء ، وبذلك يثبت المفهوم.

وأمّا المقام الثاني : وهو إثبات المفهوم على مستوى المدلول التصديقي للجملة في المراد الجدّي ، فإذا أخذنا الجملة الشرطيّة كمثال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، وقلنا : إنّ المدلول التصوّري الوضعي ليس هو النسبة التوقّفية ، بل كان النسبة الاستلزاميّة أو الإيجاديّة ، فمع ذلك يمكن أن يدّعى استفادة المفهوم أي الانتفاء عند الانتفاء على أساس وجود دلالة إثباتيّة تصديقيّة كما سيأتي بيانه مفصّلا عند الكلام في الجمل

الشرطيّة ، وإن كان الصحيح عدم تماميّة شيء ممّا ذكر ، ولكن مع ذلك نقول : قد يدّعى وجود دلالة إثباتيّة لإفادة أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء أو جزء علّة منحصرة ، فإذا ثبت كون الجزاء علّة تامّة منحصرة مثلا كان معنى ذلك أنّ الجزاء يتوقّف وجوده على الشرط ، فإذا عدم الشرط انعدم الجزاء أيضا ، فثبت المفهوم.

وإثبات العلّيّة الانحصاريّة في الشرط يتوقّف على أدلّة وبراهين منها :

وهذا من قبيل المحاولة الهادفة لإثبات المفهوم تمسّكا بالإطلاق الأحوالي للشرط

ص: 18

لإثبات كونه مؤثّرا على أي حال ، سواء سبقه شيء آخر أم لا ، ثمّ لاستنتاج انحصار العلّة بالشرط من ذلك ، إذ لو كانت للجزاء علّة أخرى لما كان الشرط مؤثّرا في حال سبق تلك العلّة.

من الأدلّة الإثباتيّة على وجود الربط الخاصّ في الجملة الشرطيّة مثلا وهو الانتفاء عند الانتفاء الإطلاق وقرينة الحكمة.

وتقريب ذلك : إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ثبت بالإطلاق الأحوالي للشرط أنّه علّة تامّة منحصرة للجزاء ، بمعنى أنّ المجيء علّة لإكرام زيد في جميع حالاته وهي ما إذا ( جاء زيد ) من دون وجود شيء آخر مع هذا المجيء ، وفيما إذا ( جاء زيد ) وكان مسبوقا أو ملحوقا بشيء آخر كالفقر أو العدالة أو العلم أو المرض ونحو ذلك من قيود وأوصاف أخرى.

فبالإطلاق الأحوالي للشرط نثبت أنّه لو كان هناك شيء آخر مقارن لهذا الشرط أو بديل عنه أو لاحق له للزم ذكره في الكلام بالعطف ب- ( الواو ) أو ب- ( أو ) ، وبما أنّه لم يقل ذلك فهو لا يريده ، فيثبت أنّ المجيء شرط وحيد وعلّة تامّة منحصرة ، للجزاء ، فيكون مؤثّرا مطلقا وفي كلّ الحالات سواء كان معه شيء أو لا ، أو سبقه شيء أو لا ، أو لحقه شيء أو لا.

وهذا معناه أنّه لو كان هناك وصف آخر كالعدالة مثلا موجودة ومتحقّقة في زيد ، وكان هناك علّة أخرى للجزاء تقدّمت أو قارنت المجيء لكان معنى ذلك أنّ الشرط المؤثّر في الجزاء هو هذه العلّة لا المجيء ، فيكون ذكر المجيء لغوا وتحصيلا للحاصل.

وهذا معناه أنّ المجيء لم يكن علّة مؤثّرة في الجزاء ، وهذا مخالف للإطلاق الأحوالي للمجيء الذي ذكر شرطا.

فعلى أساس هذه القرينة ومقدّمات الحكمة والإطلاق الأحوالي نثبت كون الشرط علّة منحصرة للجزاء فنثبت المفهوم.

ومن الأدلّة أيضا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة في الجزاء.

ومن الأدلّة التمسّك بالقاعدة الفلسفيّة القائلة : إنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ، وسيأتي تفصيل ذلك.

فإنّ هذا انتزاع للمفهوم من المدلول التصديقي ؛ لأنّ الإطلاق الأحوالي للشرط

ص: 19

مدلول لقرينة الحكمة ، وقد تقدّم سابقا أنّ قرينة الحكمة ذات مدلول تصديقي ولا تساهم في تكوين المدلول التصوّري.

هذا ما ينبغي أن يقال في تحديد الضابط.

فاستفادة المفهوم من هذه الأدلّة الإثباتيّة معناه أنّ المفهوم ثابت في مرحلة المدلول التصديقي للكلام لا في المدلول التصوّري ؛ وذلك لأنّ الإطلاق الأحوالي في الشرط مرجعه إلى قرينة الحكمة ، وهي ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان لتمام موضوع حكمه ، فلو كان يريد القيد لذكر ما يدلّ عليه فما دام لم يذكره فهو لا يريده.

وهنا لو كان يريد علّة أخرى جزءا أو بدلا عن المجيء لذكر ذلك ، فما لم يذكر يثبت أنّ المجيء هو تمام الشرط المؤثّر في الجزاء. ومن الواضح أنّ قرينة الحكمة إنّما تجري لإثبات المدلول التصديقي الثاني وهو المراد الجدّي للمتكلّم ، وليس لها علاقة في تكوين المدلول التصوّري للكلام ؛ لأنّ مرجعها إلى ظهور حال المتكلّم وظهور حاله لا علاقة له بمدلول اللفظ الوضعي والتصوّري.

ولذلك قلنا : إنّ هذه الأدلّة على فرض تماميّة شيء منها فهي تثبت المفهوم على مستوى المدلول التصديقي لا التصوّري.

هذا تمام الكلام في تحديد ضابط المفهوم على ضوء تصوّرات السيّد الشهيد.

وأمّا المشهور فقد اتّجهوا إلى تحديد الضابط للمفهوم في ركنين ، كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) :

أحدهما : استفادة اللزوم العلّي الانحصاري.

والآخر : كون المعلّق مطلق الحكم لا شخصه.

وأمّا المشهور فقد سلكوا في تحديد ضابط المفهوم مسلكا آخر وهو أنّ ثبوت المفهوم للجملة يتوقّف على ركنين إذا تحقّقا تمّ المفهوم ، وإذا انتفى أحدهما على الأقلّ فلا مفهوم للجملة ، وهذان الركنان هما :

الأوّل : استفادة اللزوم العلّي الانحصاري ، فمثلا إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كانت الجملة دالّة على المفهوم إذا كان الشرط فيها

ص: 20


1- في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : ضابط المفهوم.

علّة منحصرة للجزاء ، وكان تفريع الجزاء على الشرط لزوميّا لا من قبيل الاتّفاق والصدفة.

وهذا الركن يمكن إثباته بأحد الأدلّة التي سيأتي التعرّض لها كقرينة الحكمة والإطلاق في الشرط أو الجزاء.

الثاني : كون المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه ، ففي الجملة المذكورة يجب أن يكون المنتفي هو كلّي وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء ؛ لأنّه لو انتفى شخص الإكرام لكان الإكرام ثابتا بشرط آخر ، فلا يكون للجملة مفهوم.

وهذا الركن يمكن إثباته أيضا بالإطلاق وقرينة الحكمة كما سيأتي.

والحال أنّ استفادة المفهوم عند المشهور تنحصر في المدلول التصديقي ؛ لأنّ كلّ الأدلّة المذكورة عندهم تثبت المراد الجدّي للمتكلّم ، ولا مدخليّة لها في تحديد المدلول التصوّري للجملة.

ولا كلام لنا فعلا في الركن الثاني.

أمّا الركن الثاني وهو كون المعلّق الكلّي والطبيعي فلا كلام لنا فيه بالفعل ، وهذا لا ينفي وجود الكلام فيه والإشكال عليه ، فهو قضيّة مطلقة عامّة ، أي أنّه بالفعل لا كلام وأمّا أنّه بالقوّة يوجد كلام أو لا فهذا مسكوت عنه ، وسيأتي أنّ ما ذكروه لإثبات ذلك غير تامّ.

وأمّا الركن الأوّل فالالتزام بركنيّته غير صحيح ؛ إذ يكفي في إثبات المفهوم - كما تقدّم - دلالة الجملة على الربط بنحو التوقّف ولو كان على سبيل الصدفة.

وأمّا الركن الأوّل وهو كون المفهوم متوقّفا على استفادة اللزوم العلّي الانحصاري فلا نسلّم به ؛ إذ يكفي كما ذكرنا في استفادة المفهوم على

مستوى المدلول التصوّري أن يكون هناك ربط خاصّ بنحو يوجب الانتفاء عند الانتفاء. وهذا يتحقّق إذا كان الربط الخاصّ بنحو التوقّف والالتصاق بنحو المعنى الحرفي ، ولا يشترط أن يكون هناك لزوم علي انحصاري ، بل يثبت المفهوم إذا كان هناك توقّف والتصاق ولو لم يكن هناك انحصار علي أو لم يكن هناك علّة تامّة ، أو لم يكن هناك علّيّة أصلا ، بل ولو لم يكن هناك لزوم بأن كان التوقّف مجرّد صدفة

ص: 21

واتّفاق ، فإنّ المدار في ثبوت المفهوم على التوقّف والالتصاق مهما كان نوعه وكيفما اتّفق (1).

مورد الخلاف في ضابط المفهوم :

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه اللّه (2) ذهب إلى أنّه لا خلاف في أنّ جميع الجمل التي تكلّم العلماء عن دلالتها على المفهوم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، أي على التوقّف ؛ وذلك بدليل أنّ الكلّ متّفقون على انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد شرطا أو وصفا ، وإنّما اختلفوا في انتفاء

ص: 22


1- قد يشكل على كلام السيّد الشهيد بقولنا : إنّ التوقّف ولو صدفة ما ذا يراد منه؟ فإذا كان المراد أنّ الجزاء متوقّف على الشرط وجودا وعدما ، بحيث كان الجزاء يدور مدار الشرط كان معنى ذلك هو العلّيّة الانحصاري التي قالها المشهور ؛ لأنّ التوقّف كمعنى حرفي عبارة عن النسبة المتقوّمة بالطرفين فيكون مفهوم التوقّف منتزعا من الخارج. فإذا كان الشرط والجزاء في الخارج يحدثان معا وينتفيان معا ، وكان وجود أحدهما موجبا لوجود الآخر وانتفاؤه موجب لانتفائه ، فهذا معناه أنّه علّة تامّة منحصرة ؛ إذ لا وجود لهذا المفهوم في الخارج إلا في العلّة التامّة المنحصرة. وإذا كان المراد من التوقّف ولو صدفة هو المصطلح المعروف للصدفة أي احتمال الوقوع واحتمال العدم ، فهذا يعني أنّه يحتمل وجود الجزاء عند وجود الشرط ويحتمل انتفاؤه عند انتفائه ، ويحتمل أيضا عدم وجوده عند وجود الشرط أو عدم انتفائه عند انتفاء الشرط ، وبالتالي لا يكون مجيء زيد موجبا لمجيء عمرو ؛ إذ قد يوجبه وقد لا يوجبه ، فكيف يتمّ المفهوم إذا؟ والحاصل : أنّه على التفسير الأوّل للتوقّف الصدفتي يكون النزاع لفظيّا بين المشهور والسيّد الشهيد ؛ لأنّهما يتّفقان في النتيجة العمليّة ، وأمّا على التفسير الثاني فلا يكون هناك مفهوم أصلا. هذا ، ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بقولنا : إنّ التوقّف لا يتوافق في الخارج على العلّيّة دائما ، بل قد يحصل مع العلّيّة وقد يحصل بدونها ، فيكون التوقّف أعمّ من العلّيّة في كلام المشهور ؛ وذلك لإمكان فرض التوقّف في الخارج في المفاهيم المتضايفة كقولنا : إنّ تعقّل البنوّة متوقّف على تعقّل الأبوّة ، والفوق على التحت وهكذا ، فإنّ المتضايفين يتوقّف أحدهما على الآخر وجودا وعدما في الخارج ، ولهذا يكون للتوقّف المذكور معنى أعمّ من قول المشهور ، فصحّ ذكره والاعتماد عليه ولو صدفة أيضا.
2- مقالات الأصول 1 : 396 - 397 ، نهاية الأفكار 1 : 470 - 473.

طبيعي الحكم ، فلو لا اتّفاقهم على أنّ الجملة تدلّ على الربط الخاصّ المذكور لما تسالموا على انتفاء الحكم ولو شخصا بانتفاء القيد.

ذكر المحقّق العراقي أنّ ضابط المفهوم ينبغي أن ينصبّ حول ما إذا كان المنتفي هو طبيعي الحكم أو شخصه ، فإذا ثبت أنّ المنتفي طبيعي الحكم كان للجملة مفهوم وإلا فلا.

وحينئذ فلا نحتاج للبحث عن الركن الأوّل وهو كون الموضوع أو الشرط أو الوصف أو الغاية ونحو ذلك علّة تامّة منحصرة ، والوجه في ذلك أنّهم قد اتّفقوا على أنّ جميع الجمل التي وقعت محلاّ للكلام وموردا للنزاع عندهم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف كما فسّره السيّد الشهيد.

فمثلا قولنا : ( أكرم العالم العادل ) لا إشكال عندهم أنّ وصف العدالة دخيل في ملاك الحكم بنحو يكون هو العلّة لوجوب إكرام العالم ، بحيث إنّ العالم لو لم يكن عادلا فلا يجب إكرامه ، وإنّما موضع الخلاف بينهم في أنّ المنتفي عند انتفاء وصف العدالة هل هو طبيعي الحكم ليثبت المفهوم للوصف ، أو شخصه فلا مفهوم له؟

وهكذا الحال في جملة الغاية كقولنا : ( صم إلى الليل ) فإنّ الليل أخذ حدّا وعلّة لانتهاء الصيام فلا صوم بعد الليل ، إلا أنّ المنتفي هل هو طبيعي الصوم بحيث لا يوجد فرد من أفراد الصوم يكون في الليل أو الشخص فقط؟

وفي الجملة الشرطيّة : ( إذ جاءك زيد فأكرمه ) تدلّ على أنّه إذا انتفى المجيء انتفى وجوب الإكرام ، إلا أنّ المنتفي هو الطبيعي أو الشخصي فهذا يحتاج إلى دليل.

وهكذا يتّضح أنّهم متّفقون على الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء في جميع الجمل المطروحة للبحث ، وإنّما الخلاف بينهم في أنّ المنتفي فيها هل هو الطبيعي أو الشخصي؟

وعليه ، فينبغي أن يكون ضابط المفهوم هو الركن الثاني فقط دون الأوّل ؛ إذ لو لا أنّهم متّفقون على أنّ هذه الجمل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء والربط الخاصّ لم يكن هناك وجه لانتفاء شخص الحكم أيضا ، مع أنّهم متّفقون على أنّه في جمل الوصف واللقب والعدد ونحوها ممّا لا مفهوم فيها ينتفي شخص الحكم بانتفاء

ص: 23

الوصف أو القيد أو اللقب. وهذا معناه أنّ الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء موجود فيها ، وإلا لم ينتف حتّى شخص الحكم.

واستدلّ المحقّق العراقي على ما ذكره بأنّهم يجمعون بين المطلق والمقيّد المثبتين بحمل المطلق على المقيّد كقولنا : ( أعتق رقبة ) وقولنا : ( أعتق رقبة مؤمنة ) حيث يفسّرون المراد من المطلق هو المقيّد ، ويكون المراد شيئا واحدا وهو عتق الرقبة المؤمنة فقط.

وهذا دليل صريح منهم على أنّ الوصف علّة تامّة منحصرة لوجوب الإكرام ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، وكان توجد علّة أخرى لم يكن هناك حاجة لهذا الجمع ؛ ولصحّ وجوب عتق الرقبة الكافرة أيضا ، فجمعهم بينهما دليل على وجود الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء في الجملة الوصفيّة.

وإن لم يكن لها مفهوم من جهة أنّ المنتفي هو شخص الحكم لا الطبيعي ، ففهمهم للتنافي بين المطلق والمقيّد دليل على وجود الربط الخاصّ في الجملة الوصفيّة ، وإلا فليكن المقيّد هو الأفضل والأهمّ من المصاديق مثلا.

وعلى هذا الأساس فالبحث في إثبات المفهوم في مقابل المنكرين له ينحصر في مدى إمكان إثبات أنّ طرف الربط الخاصّ المذكور ليس هو شخص الحكم ، بل طبيعيّة ؛ ليكون هذا الربط مستدعيا لانتفاء الطبيعي بانتفاء القيد ، وإمكان إثبات ذلك مرهون بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الجزاء ونحوها ممّا يدلّ على الحكم في القضيّة.

فالخلاف بين المثبتين للمفهوم والمنكرين له يجب أن ينصبّ حول إمكانيّة استفادة أنّ الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء هل يوجب انتفاء شخص الحكم فقط ، أو كلّي الحكم؟ فإذا كان المنتفي هو شخص الحكم لم يكن للجملة مفهوم وإن كان هناك انتفاء عند الانتفاء ، وإذا كان المنتفي الطبيعي كان للجملة مفهوم.

فالركن الأوّل وهو الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء سواء بنحو العليّة أو التوقّف لا يكفي وحده لإثبات المفهوم ، والبحث فيه لا معنى له لاتّفاقهم عليه.

وأمّا إثبات أنّ المنتفي هو الطبيعي لا الشخصي فهذا يحتاج إلى أدلّة من قبيل الإطلاق وقرينة الحكمة في هيئة الجزاء في الجمل الشرطيّة مثلا ، أو في هيئة الجملة المتضمّنة للحكم ، كالهيئة الحصريّة والاستثنائيّة والغائيّة ونحو ذلك.

ص: 24

فمثلا إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يثبت للجملة مفهوم إذا جرت قرينة الحكمة في الجزاء أي في مفاد هيئة ( أكرمه ) لإثبات أنّ الوجوب المدلول عليه في الهيئة المذكورة هو كلّي وجوب الإكرام لا شخص خاصّ منه ، إذ لو كان شخص الوجوب هو المعلّق والمتفرّع والمعلول للشرط لكان ينبغي للمتكلّم أن يبيّن ذلك في كلامه ، فما لم يذكر ذلك كان معناه أنّ المنتفي هو كلّي الوجوب عند انتفاء الشرط ؛ إذ لو كان يوجد مع غيره لكان يجب ذكره في الكلام فما لم يذكره فهو لا يريده.

وهكذا يعود البحث في ثبوت المفهوم لجملة : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) أو لجملة : ( أكرم الإنسان العالم ) إلى أنّه هل يجري الإطلاق في مفاد أكرم في الجملتين لإثبات أنّ المعلّق على الشرط أو الوصف طبيعي الحكم أو لا؟

ونسمّي هذا بمسلك المحقّق العراقي في إثبات المفهوم.

ففي الجملة الشرطيّة : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) لكي يثبت المفهوم فيها لا بدّ من إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة في مفاد هيئة الجزاء. بينما في الجملة الوصفيّة :

( أكرم الإنسان العالم ) لا يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة في مفاد هيئة الجزاء فلا مفهوم ، وأمّا إذا جرى الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الجملة الوصفيّة فيكون لها مفهوم.

وهذا يسمّى بمسلك المحقّق العراقي في إثبات المفهوم.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الركن الأوّل لا يمكن الاستغناء عنه ؛ لأنّ الربط الخاصّ والانتفاء عند الانتفاء كما يتحقّق بالعلّيّة والتوقّف كذلك يتحقّق بالاستلزام أيضا ، وقد تقدّم أنّ الاستلزام لا يكفي في إثبات المفهوم.

وعليه ، فلا يكفي أن يكون هناك انتفاء عند الانتفاء ، بل لا بدّ من إثبات أنّ هذا الانتفاء هل هو بنحو العلّيّة كما هو المشهور ، أو بنحو التوقّف كما هو المختار؟ ولذلك يكون البحث في الركن الأوّل غير مفروغ عنه.

مضافا إلى أنّ هيئة الجزاء في الجملة الشرطيّة والجملة الوصفيّة المذكورتين واحد ، فلما ذا جرى الإطلاق وقرينة الحكمة في أحدهما دون الآخر؟

* * *

ص: 25

ص: 26

مفهوم الشرط

اشارة

ص: 27

ص: 28

مفهوم الشرط

ذهب المشهور إلى دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، وقرّب ذلك بعدّة وجوه :

المشهور أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم ، إلا أنّ التقريبات التي ذكروها لذلك غير تامّة ؛ لقصورها عن إفادة ضابط المفهوم وفقا لتصوّرات المشهور حيث أنّ الركن الأوّل عند المشهور هو إثبات اللزوم العلّي الانحصاري.

فذكروا لإثبات هذا الركن وجوها : بعضها يثبت المدلول للجملة الشرطيّة في مرحلة المدلول التصوّري كالوضع والتبادر والانصراف ، وبعضها يثبت المفهوم في مرحلة المدلول التصديقي كالإطلاق وقرينة الحكمة في الشرط.

وسوف نذكر هذه الوجوه تباعا مع المناقشة في كلّ واحد منها فنقول :

الأوّل : دعوى دلالة الجملة الشرطيّة بالوضع على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وذلك بشهادة التبادر.

الدليل الأوّل : أنّ الجملة الشرطيّة بأداتها أو بهيئتها موضوعة لغة للّزوم العلّي الانحصاري. بمعنى أنّ الشرط فيها علّة منحصرة للجزاء ، فتكون دلالتها على الربط العلّي الانحصاري على مستوى الدلالة التصوّريّة الوضعيّة ، والشاهد على ذلك هو التبادر ، فإنّه علامة الحقيقة.

فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يتبادر إلى الذهن أنّ وجوب الإكرام معلول للمجيء ، وأنّ المجيء هو العلّة المنحصرة للإكرام دون غيره.

فالركن الأوّل تامّ ، وبضمّ الركن الثاني كما سيأتي يثبت المفهوم ، وهذا الوجه ذكره صاحب ( المعالم ).

وعلى الرغم من صحّة هذا التبادر اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة وهي :

ص: 29

أنّها تؤدّي إلى افتراض التجوّز عند استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم الانحصار ، وهو خلاف الوجدان ، فكأنّه يوجد في الحقيقة وجدانان لا بدّ من التوفيق بينهما :

أحدهما : وجدان التبادر المدّعى في هذا الوجه.

والآخر : وجدان عدم الاحساس بالتجوّز عند استعمال الجملة الشرطيّة في حالات عدم الانحصار.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا التبادر المدّعى على فرض صحّته إلا أنّه يصطدم بشبهة تمنع من الأخذ به ما لم تحلّ هذه الشبهة ، وحاصلها : أنّنا لا نحسّ بالمجازيّة في الموارد التي تستعمل فيها الجملة الشرطيّة ولا يكون الشرط فيها علّة تامّة منحصرة ، أو علّة تامّة ، أو لا يكون هناك لزوم أصلا.

فمثلا إذا قيل : ( إذا أكلت في شهر رمضان فقد أفطرت ) فإنّها لا تدلّ على أنّ الأكل هو العلّة التامّة المنحصرة ؛ إذ توجد علل أخرى للإفطار كالشرب وغيره. وإذا قيل : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) لا تدلّ على أنّ خفاء الجدران هو العلّة التامّة ؛ وذلك لوجود خفاء الأذان أيضا فكان الشرط جزء العلّة لا العلّة التامّة.

وإذا قيل : ( إذا جاء المدرّس إلى الدرس كانت الساعة التاسعة ) ليس فيها عليّة ولا لزوم أصلا ؛ إذ هي مجرّد صدفة واتّفاق.

فمع كلّ هذا لا نحسّ أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في هذه الموارد مجاز ، مع أنّه بناء على ما ذكر من كونها موضوعة لغة للربط العلّي الانحصاري بشهادة التبادر الدالّ على الحقيقة يجب أن تكون هذه الموارد مستعملة مجازا ؛ لأنّها مستعملة في غير ما وضعت له.

ففي الحقيقة يوجد إحساسان ووجدانان عرفيّان هما :

1 - الإحساس المدّعى وهو كون الجملة موضوعة للربط العلّي الانحصاري بشهادة التبادر.

2 - الإحساس والوجدان القاضي بعدم المجازيّة في موارد استعمالها في غير المعنى المذكور.

وهذان الوجدانان متعارضان ؛ لأنّها إن كانت موضوعة للربط العلّي الانحصاري

ص: 30

لزم المجازيّة في بقيّة الموارد ، وإن لم يكن هناك مجازيّة في سائر الموارد لم تكن موضوعة للربط العلّي الانحصاري ، فأحدهما يعارض الآخر ويكذّبه ، فلا بدّ من حلّ لهذا التعارض بين هذين الوجدانين ، وإلا لم يمكن الأخذ بأيّ منهما (1).

الثاني : دعوى دلالة الجملة الشرطيّة على اللزوم وضعا ، وعلى كونه لزوما علّيّا انحصاريّا بالانصراف ؛ لأنّه أكمل أفراد اللزوم.

الدليل الثاني : أنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة لإفادة اللزوم فقط ، بمعنى أنّ هناك ملازمة وترتّب بين الشرط والجزاء ، فإذا تحقّق الشرط تحقّق الجزاء ، وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، والشاهد على ذلك هو التبادر والوجدان السابق. فالشرط إذا علّة للجزاء.

وأمّا كون هذا اللزوم والعلّيّة في الشرط منحصرة فهذا يثبت بالانصراف ؛ وذلك لأنّ العلّيّة الانحصاريّة أكمل أفراد اللزوم العلّي ، بمعنى أنّ اللزوم العلّي له أفراد منها اللزوم العلّي الانحصاري ، ومنها اللزوم العلّي غير الانحصاري ، والفرد الأكمل منهما هو الأوّل. ولذلك إذا أطلق اللزوم العلّي انصرف إلى الفرد الأكمل من أفراده وهو اللزوم العلّي الانحصاري.

ولوحظ على ذلك أنّ الأكمليّة لا توجب الانصراف ، وأنّ الاستلزام في فرض الانحصار ليس بأقوى منه في فرض عدم الانحصار.

ص: 31


1- وعلى هذا ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى عدم دلالة الشرطيّة على الربط العلّي الانحصاري ؛ لتعارضها مع الوجدان الآخر ، ولذلك أنكر دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ؛ إذ لا يعلم كونها موضوعة للربط العلّي الانحصاري ولا يمكن إثبات ذلك ، ولكنّه مع ذلك فقد التزم بالمفهوم للجملة الشرطيّة فقهيّا ، وإن أنكره أصوليّا. وذهب آخرون إلى أنّ اللزوم العلّي الانحصاري يستفاد من الإطلاق وقرينة الحكمة لا بالوضع ، ولذلك فسّروا الوجدان الآخر بأنّه لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة. والصحيح : هو صحّة الوجدان الثاني لا الأوّل ، فإنّ الجملة الشرطيّة ليست موضوعة للّزوم العلّي الانحصاري ، بل هي موضوعة للربط الخاصّ بمعنى التوقّف وهو أعمّ من العلّيّة واللزوم والصدفة المحضة ، ولذلك يكون استعمال الجملة في الموارد التي لا مفهوم فيها على نحو الحقيقة ؛ لأنّ التوقّف موجود فيها ، غاية الأمر أنّ الركن الثاني وهو انتفاء طبيعي الحكم غير متحقّق ، وسيأتي توضيح ذلك.

يلاحظ على هذه الدعوى : أنّنا ننكر الدلالة على الانحصاريّة المذكورة سواء الصغرى أو الكبرى ، وتوضيحه :

أمّا الكبرى فما ذكر من كون الأكمليّة موجبة للانصراف ممنوع ؛ لأنّ الانصراف إنّما يتحقّق في صورتين : الأولى كثرة الاستعمال ، والثانية ندرة الأفراد الأخرى غير الفرد المدّعى الانصراف إليه ، وفي غير هاتين الصورتين لا يكون هناك انصراف وإن كان أحد الأفراد أكمل من غيره.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم الإنسان ) فإنّه يعمّ كلّ فرد من أفراده ولا ينصرف إلى خصوص الإنسان المؤمن مثلا بحجّة كونه الفرد الأكمل من أفراد الإنسان ، بل لا بدّ أن يكون الانصراف ناشئا من مناسبات الاستعمال للّفظ في الفرد الخاصّ ، أو يكون ناشئا نتيجة الأنس الذهني ببعض الأفراد دون غيره كذلك.

وأمّا الصغرى وهي كون اللزوم العلّي الانحصاري أكمل من اللزوم العلّي غير الانحصاري فهي ممنوعة أيضا ، والوجه في ذلك أنّ معنى العلّيّة واللزوم في كلا الفردين على حدّ سواء ، من دون أشدّيّة أو أولويّة ؛ إذ العلّيّة واللزوم معناهما أنّه إذا وجد هذا وجد ذاك ، وإذا انتفى هذا انتفى ذاك ، وهذا المعنى موجود في كلا الفردين بنحو واحد ، ومجرّد كون العلّة هنا منحصرة وكونها هناك غير منحصرة لا يوجب تفاوتا بأصل العلّيّة واللزوم ، وهذا معناه أنّه لا أكمليّة أصلا (1).

الثالث : دعوى دلالة الأداة على الربط اللزومي وضعا ، ودلالة تفريع الجزاء على الشرط في الكلام على تفرّعه عنه ثبوتا ، وكون الشرط علّة تامّة له لأصالة التطابق بين مقام الإثبات والكلام ومقام الثبوت والواقع ، ودلالة الإطلاق الأحوالي في الشرط على أنّه علّة تامّة بالفعل دائما ، وهذا يستلزم عدم وجود علّة أخرى للجزاء ، وإلا لكانت العلّة في حال اقترانها المجموع لا الشرط بصورة مستقلّة ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، فيصبح الشرط جزء العلّة ، وهو خلاف الإطلاق الأحوالي المذكور.

ص: 32


1- مضافا إلى المناقشة في أصل كون الشرطيّة موضوعة للّزوم ، فإنّ لازم هذه الدعوى كونها في غير موارد اللزوم كالاتفاقيّات مثلا مجازا مع أنّنا لا نحسّ بالمجازيّة فيها. وهذا شاهد ومنبّه على عدم صحّة وضع الشرطيّة للّزوم أصلا ، كما سيأتي بيانه.

الدليل الثالث لإثبات مفهوم الشرط ناظر إلى الدلالة التصوّريّة ، وهذا الدليل مركّب من ثلاث مقدّمات :

المقدّمة الأولى : إثبات الربط اللزومي بين الشرط والجزاء ، وهذا الأمر يمكن إثباته بدعوى أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بأداتها على الربط اللزومي ، بمعنى كونها موضوعة لغة للربط اللزومي دون الاتفاقيّات ، فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) دلّت الأداة على أنّ هناك ملازمة بين المجيء والإكرام ، فيكون استعمالها في الاتفاقيّات مجازا.

والدليل على أنّها موضوعة للربط اللزومي هو الوجدان العرفي والتبادر الدالّ على الحقيقة.

المقدّمة الثانية : إثبات كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، وهذا الأمر يمكن إثباته بأصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت ، أو بين عالم الكلام وعالم الواقع ، بتقريب : أنّ الجملة المذكورة تدلّ إثباتا على تفريع الجزاء على الشرط بدلالة الفاء الموجودة في الجزاء حقيقة أو تقديرا ، والفاء موضوعة لغة لإفادة تفريع هذا على ذاك وكونه مرتّبا عليه ، إذا في المرحلة الإثباتيّة تدلّ الجملة على التفرّع والترتيب بين الشرط والجزاء.

وحينئذ نقول : بناء على أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت أو الكلام والواقع ينتج أنّ التفرّع والترتّب موجود واقعا وفي نفس المتكلّم ، فيكون المراد الجدّي للمتكلّم هو كون الجزاء مترتّبا ومتفرّعا على الشرط واقعا وحقيقة وثبوتا.

ومن الواضح أنّ التفرّع والتّرتب الواقعي بين الجزاء والشرط معناه أنّ الشرط علّة تامّة للجزاء ؛ لأنّه لو لم يكن علّة تامّة له لم يكن متفرّعا عليه واقعا ، فالتفرّع والترتّب واقعا يستلزم العليّة التامّة ؛ لأنّ عدم كون الشرط علّة أو عدم كونه علّة تامّة معناه أنّ الجزاء ليس متفرّعا عليه ، فلو لم يكن الشرط علّة لما وجد الجزاء ولما تفرّع عليه ، وإذا كان علّة ناقصة أي جزء علّة لما كان متفرّعا عليه أيضا ، بل عليه وعلى شيء آخر.

وبهذا يثبت كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، إذ التفرّع معناه أنّه يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه فيتمّ الترتّب بينهما.

المقدّمة الثالثة : إثبات كون الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وهذا يمكن إثباته بالإطلاق الأحوالي للشرط.

ص: 33

بتقريب : أنّ الإطلاق في الشرط يفيد أنّ الشرط وحده هو العلّة التامّة والمنحصرة للجزاء ؛ إذ لو كان هناك علّة أخرى للجزاء للزم ذكرها في الكلام معطوفة على الشرط ب- ( أو ) ، ولو كان الشرط جزء العلّة للزم ذكر الجزء الآخر معطوفا ب- ( الواو ) ، فما دام المتكلّم لم يذكر ذلك يثبت أنّ الشرط وحده علّة تامّة منحصرة للجزاء.

وهذا معناه أنّ الشرط في كلّ حالاته يؤثّر في الجزاء ، سواء قارنه شيء أو سبقه أو لحقه ، أو كان وحده. ففي جميع هذه الحالات يكون المؤثّر هو الشرط فقط ، إذ لو كان هناك علّة مقارنة للشرط أو سابقة عليه ولم يكن الشرط مؤثّرا في الجزاء ، بل كانت تلك العلّة السابقة هي المقارنة أو كانا معا العلّة لأنّ العلل المستقلّة إذا اجتمعت معا وتقارنت كان المجموع المركّب منها هو العلّة لا كلّ واحدة بخصوصها.

وهذا مخالف للإطلاق الأحوالي في الشرط المثبت ؛ لكون الشرط علّة تامّة منحصرة ، إذ فرض المقارنة معناه أنّه جزء علّة وفرض السبق معناه أنّه توجد علّة أخرى غيره ، وكلا هذين الأمرين قد نفاهما الإطلاق الأحوالي للشرط.

فإذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم بعد ضمّ الركن الثاني ، وهو كون المنتفي طبيعي الحكم لا شخصه.

ولا يخفى أنّ المقدّمة الأولى تثبت اللزوم لو تمّت دعوى وضع الأداة لذلك.

وأمّا المقدّمة الثانية فهي لا تثبت العلّة التامّة ، بل تثبت العلّيّة فقط ، والتماميّة تحتاج إلى الإطلاق الأحوالي للشرط كما هو الحال بالنسبة للانحصاريّة.

وأمّا تعبير السيّد الشهيد بقوله : ( علّة تامّة بالفعل دائما ) فهذا إشارة إلى قضيّتين موجّهتين :

الأولى : المطلقة العامّة الدالّة على تحقّق النسبة بالفعل ووقوعها في الخارج.

الثانية : الدائمة المطلقة الدالّة على دوام الثبوت والاتّصاف بين المحمول والموضوع وأنّ الانفكاك بينهما لم يقع.

ويكون المراد هنا أنّ الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء فعلا ، بمعنى أنّه في الواقع الخارجي علّة تامّة منحصرة ، وأنّ هذا الأمر واقع ومتحقّق في الخارج ، وأنّ اتّصاف الجزاء يكون معلولا للشرط على نحو العلّة التامّة المنحصرة ، وهذا الاتّصاف لا ينفكّ ولم يتحقّق الانفكاك بينهما أصلا في الخارج.

ص: 34

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية :

أوّلا : أنّه لا ينفي - لو تمّ - وجود علّة أخرى للجزاء فيما إذا احتمل كونها مضادّة بطبيعتها للشرط ، أو دخالة عدم الشرط في علّيّتها للجزاء ، فإنّ احتمال علّة أخرى من هذا القبيل لا ينافي الإطلاق الأحوالي للشرط ؛ إذ ليس من أحوال الشرط حينئذ حالة اجتماعه مع تلك العلّة.

ويرد على هذا الوجه ملاحظات ثلاث :

الملاحظة الأولى : أنّ الإطلاق الأحوالي للشرط يثبت أنّ الشرط في جميع حالاته علّة تامّة للجزاء ، وهذه الحالات هي وجود الشرط وحده ووجوده مقارنا لعلّة أخرى ووجوده مسبوقا بعلّة ووجوده ملحوقا بعلّة ، ففي هذه الحالات يكون الشرط هو العلّة لما تقدّم في البرهان بعد إجراء الإطلاق الأحوالي.

إلا أنّه يمكننا أن نفترض حالتين لهذه العلّة الأخرى بحيث لا تكون من هذه الحالات الأربع التي تثبت فيها كون الشرط العلّة التامّة المنحصرة ، وحينئذ لا يكون الإطلاق الأحوالي نافيا لهما ؛ لأنّهما ليس من حالات الشرط.

وتوضيح ذلك : أن نفترض أنّ العلّة الأخرى للجزاء مضادّة بطبيعتها للشرط بحيث لا يمكن اجتماعهما أبدا لاستحالة اجتماع الضدّين ، ففي هذه الحالة تكون العلّة الأخرى مؤثّرة على نحو الاستقلال في الجزاء ، فلم يكن الشرط هو العلّة الوحيدة حينئذ ؛ لأنّ هذه الحالة ليست من حالات الشرط لتكون منفيّة بالإطلاق الأحوالي ؛ كما إذا قيل مثلا : ( إذا كسفت الشمس تجب صلاة الآيات ) فهذا لا يمنع من قولنا : ( إذا خسف القمر تجب صلاة الآيات ) ؛ لأنّ الخسوف والكسوف لا يمكن اجتماعهما معا.

ويمكننا أن نفترض أيضا أنّ العلّة الأخرى للجزاء قد أخذ فيها عدم الشرط أي عدم العلّة الأخرى ، فهنا لا يمكن اجتماعهما معا ، لأنّه إذا وجدت العلّة الأخرى فهذا يعني أنّ عدم العلّة الأولى أي الشرط هو المحقّق ، وإذا وجدت العلّة الأولى أي الشرط فالعلّة الثانية منتفية ؛ لأنّ قيدها وهو عدم العلّة الأولى - أي الشرط - منتف ؛ إذ الثابت هو الشرط لا عدمه.

فحينئذ لا تكون هذه العلّة الثانية من حالات الشرط والعلّة الأولى ؛ ليكون الإطلاق الأحوالي للشرط نافيا لها.

ص: 35

كما إذا قيل مثلا : ( إذا رأت الصبيّة الدم قبل التسع فهو ليس بحيض ) فهذا لا يمنع من قولنا : ( إذا يئست المرأة فالدم الذي تراه ليس بحيض ) ، فإنّ الصبية واليائسة لا يجتمعان ؛ لأنّ اليائسة قد أخذ فيها ألا تكون صبيّة ؛ لأنّها التي تبلغ الخمسين أو الستين عاما.

وكقولنا : ( إذا تطهّرت الطهارة المائيّة جاز لك مسّ الآيات ) و ( إذا تيمّمت جاز لك مسّ الآيات ) فإنّ التيمّم قد أخذ فيه عدم الوضوء والغسل كما لا يخفى ، بحيث إنّه إذا توضّأ فلا تيمّم وإذا تيمّم فلا وضوء.

ثانيا : أنّ كون الشرط علّة للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط في الكلام الكاشف عن التفريع الثبوتي والواقعي ؛ وذلك لأنّ التفريع الثبوتي لا ينحصر في العلّيّة بدليل أنّ التفريع ب- ( الفاء ) كما يصحّ بين العلّة والمعلول كذلك بين الجزء والكلّ ، والمتقدّم زمانا والمتأخّر كذلك ، فلا معيّن لاستفادة العلّيّة من التفريع.

الملاحظة الثانية : أنّ دعوى دلالة التفريع في الكلام على التفرّع في الواقع المستدلّ بها على العلّيّة غير تامّة ؛ لأنّ دعوى التفرّع الثبوتي وإن كانت صحيحة تبعا لأصالة التطابق بين الثبوت والإثبات ، أو الواقع والكلام ، إلا أنّ هذا التفرّع لا يتلازم مع العلّيّة بمجرّده ، أي أنّ إطلاق التفرّع الثبوتي لا يقتضي كون هذا التفرّع بنحو العلّيّة ؛ وذلك لأنّ التفرّع أعمّ من العلّيّة فلا ينحصر التفرّع واقعا بالعلّيّة ، بل يشملها هي وجزء العلّة أيضا ، ويشمل تفرّع الكلّ على الجزء ، ويشمل تفرّع المتأخّر في الزمان على المتقدّم.

وتوضيح ذلك : أنّ التفريع بالفاء الموجود إثباتا في الكلام كما يصحّ بين العلّة والمعلول فيقال : ( إذا شربت السم فتموت ) ، كذلك يصحّ التفرّع بين الجزء والكلّ. فإنّ الكلّ لا يوجد في الواقع إلا بعد وجود جميع الأجزاء فوجوده في الخارج متفرّع عن وجودها ، ولذلك يصحّ أن يقال : ( بنيت الجدران والسقف والأبواب والنوافذ فصارت غرفة ).

وكذلك يصحّ التفرّع الثبوتي بين المتقدّم والمتأخّر زمانا ، فيقال : ( إذا طلع الفجر فتطلع الشمس ) فإنّ طلوع الشمس متأخّر زمانا عن طلوع الفجر في الزمان ، وإنّ أحدهما ليس علّة للآخر.

ص: 36

وكذلك يصحّ التفرّع الثبوتي بين شيئين متزامنين إلا أنّ بينهما اختلافا في الرتبة ، كما في المعلولين لعلّة واحدة ، كقولنا : ( غلى الماء فتبخّر ) فإنّهما معا معلولان لسخونة الماء بالحرارة ، أو كقولنا : ( فتحت الباب بالمفتاح فانفتح ).

وهكذا يتّضح أنّ التفريع ب- ( الفاء ) كما ينسجم مع العلّيّة ينسجم مع غيرها أيضا ، ولا يتعيّن بأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت كون التفرّع الثبوتي بنحو العلّيّة ، بل هو أعمّ أيضا. ولذلك يحتاج إثبات العلّيّة إلى أمر آخر غير أصالة التطابق. ولا يكفي مجرّد التطابق لإثبات العلّيّة ؛ لأنّ ثبوت الأعمّ لا يقتضي ثبوت الأخصّ ، بل يحتمل ثبوته ويحتمل عدمه.

ثالثا : إذا سلّمنا استفادة علّيّة الشرط للجزاء من التفريع ، نقول : إنّ كون الشرط علّة تامّة للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط ؛ لأنّ التفريع يتناسب مع كون المفرّع عليه جزء العلّة.

الملاحظة الثالثة : لو سلّمنا أنّ التفريع بين الشرط والجزاء ثبوتا بنحو العلّيّة ، إلا أنّه مع ذلك نقول : إنّ هذه العلّيّة الثبوتيّة بينهما كما تصحّ فيما إذا كان الشرط علّة تامّة للجزاء كذلك تصحّ فيما إذا كان الشرط جزء العلّة ؛ لأنّ التفرّع الثبوتي بنحو العلّيّة يتناسب مع العلّة التامّة ومع جزء العلّة أيضا ؛ لأنّ المعلول يترتّب ويتفرّع على العلّة إذا كانت تامّة ، ويترتّب على جزئها الأخير إذا كانت أجزاؤها الأخرى متحقّقة أيضا.

ولذلك لا يكفي مجرّد العلّيّة لإثبات أنّها علّة تامّة إذ قد تكون علّة ناقصة أو جزء العلّة التامّة فقط ؛ لأنّه كما يصحّ أن يقال : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) كذلك يصحّ أن يقال : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فالتفريع العلّي ثابت في الحالين فيحتاج تعيين أحدها إلى طريق آخر غير مجرّد التفرّع.

وهذا الطريق يمكن إثباته بالإطلاق الأحوالي للشرط بأن يقال :

وإنّما يثبت بالإطلاق ؛ لأنّ مقتضى إطلاق ترتيب الجزاء على الشرط أنّه يترتّب عليه في جميع الحالات ، مع أنّه لو كان الشرط جزءا من العلّة التامّة لاختصّ ترتّب الجزاء على الشرط بحالة وجود الجزء الآخر ، فإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط في جميع الحالات ينفي كون الشرط جزء العلّة.

نعم ، يمكن إثبات أنّ العلّة تامّة وليست جزء علّة ، وذلك عن طريق الإطلاق

ص: 37

الأحوالي في الشرط بأن يقال : إنّ الإطلاق في الشرط يقتضي كونه علّة للجزاء في جميع الحالات ، أي سواء سبقه شيء أو تأخّر عنه شيء أو قارنه شيء أو لم يوجد شيء آخر.

ففي هذه الحالات الأربع يثبت كون الشرط هو العلّة التامّة للجزاء ، إذ لو كان هناك علّة أخرى أو كان الشرط جزء العلّة لوجب على المتكلّم أن يذكرها ؛ لأنّ الشرط إذا لم يكن علّة تامّة كان معنى ذلك أنّه ليس المؤثّر في الجزاء ، بل هو مع الجزء الآخر ، ولذلك لا بدّ من ذكر الجزء الآخر أيضا ؛ كأن يقال مثلا : ( إذا خفيت الجدران وخفي الأذان فقصّر ) ولا يكتفي بقوله : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) فاكتفاؤه بالشرط من دون ذكر للجزء الآخر يدلّ على أنّ الشرط هو العلّة التامّة للجزاء. ولو كان جزء العلّة فقط لكان معناه أنّ الجزاء لا يترتّب على الشرط في كلّ الحالات بل في بعضها فقط ، وهي حالة اجتماعه مع الجزء الآخر.

وهذا خلاف الإطلاق الأحوالي في الشرط الذي يثبت كونه العلّة في جميع الحالات المذكورة.

وبهذا يظهر أنّ الإطلاق الأحوالي للشرط يثبت لنا كونه علّة تامّة ، وكذلك يثبت لنا كونه العلّة التامّة المنحصرة كما تقدّم سابقا ، وأوردنا عليه الملاحظة الأولى.

فهذا الإطلاق الأحوالي يثبت كون الشرط علّة تامّة وينفي كونه جزء علّة ، وأمّا ما هو المراد من نفيه لجزء العلّة؟ فهذا توضيحه فيما يلي :

إلا أنّه إنّما ينفي النقصان الذاتي للشرط ( والنقصان الذاتي معناه كونه بطبيعته محتاجا في إيجاد الجزاء إلى شيء آخر ) ولا ينفي النقصان العرضي الناشئ من اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ( حيث إنّ هذا الاجتماع يؤدّي إلى صيرورة كلّ منهما جزء العلّة ) ؛ لأنّ هذا النقصان العرضي لا يضرّ بإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط.

المقصود من النقصان الذاتي : أنّ الشرط بطبيعته وفي نفسه ليس ممّا يتفرّع عليه الجزاء ، بل يحتاج في ذاته إلى الجزء الآخر فهو جزء للعلّة وليس علّة تامّة.

والمقصود من النقصان العرضي : أنّ الشرط بطبيعته ونفسه ممّا يتفرّع عليه الجزاء ،

ص: 38

إلا أنّه عند ما يجتمع مع علّة أخرى يصبح كلاهما العلّة ، أي المجموع منهما ، فصار كلّ منهما جزء العلّة ، فهذا نقصان عرضي بسبب اجتماع العلّتين معا ؛ لأنّه من المستحيل أن يكون كلا العلّتين تامّتين في حالة اجتماعهما ؛ لأنّه لا يجتمع مؤثّرين على معلول واحد في زمان واحد.

وأمّا النقصان العرضي فالإطلاق الأحوالي لا ينفيه عن الشرط وليس مخالفا له ؛ لأنّه يعني أنّ الشرط لو وجد مستقلاّ فهو علّة تامّة وهذا موافق للإطلاق الأحوالي.

وأمّا إذا وجدت معه علّة تامّة أخرى فهل يكون أيضا علّة تامّة مع كونها الأخرى علّة تامّة؟ فهذا لا يمكن للإطلاق الأحوالي إثباته للشرط ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع مؤثّرين مستقلّين على معلول واحد ، وهذا يستحيل عقلا ؛ لأنّ المعلول إذا وجد مع الأولى فلا يوجد مع الثانية في نفس الوقت. وكذا العكس لاستحالة اجتماع المثلين ، فلأجل هذه الاستحالة يتحوّل الشرط في هذا الفرض إلى جزء علّة ، وهذا التحوّل عرضي وليس ذاتيّا ؛ لأنّه لو انفرد واستقلّ لكان علّة تامّة للجزاء.

وبهذا ظهر أنّ الإطلاق الأحوالي غاية ما يثبت به أنّ الشرط بنفسه علّة تامّة وينفي كونه جزء العلّة لو كان منفردا ومستقلاّ ، وأمّا أنّه يصبح جزء علّة بالعرض لأجل اجتماعه مع علّة تامّة أخرى فهذا لا نظر فيه للإطلاق الأحوالي ولا يمكنه أن ينفيه أصلا ، وإلا لكان هناك محذور عقلي في ذلك.

وعليه ، فكما يصحّ التفرّع فيما إذا كان الشرط علّة تامّة كذلك يصحّ التفرّع فيما لو كان جزء علّة بالعرض أيضا. فلا يثبت المطلوب من كون الشرط علّة تامّة دائما.

مضافا إلى الإشكال الأوّل أيضا في إثبات الانحصاريّة بالشرط ؛ لأنّنا نفترض علّة أخرى للجزاء لا تجتمع مع الشرط أو أخذ عدم الشرط في علّيّتها ، فيكون هذا الوجه باطلا في دعاويه الثلاث جميعا.

الرابع : ويفترض فيه أنّا استفدنا العلّيّة على أساس سابق ، فيقال في كيفيّة استفادة الانحصار : إنّه لو كانت هناك علّة أخرى فإمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ سببا للحكم ، وإمّا أن يكون السبب هو الجامع بين العلّتين بدون دخل لخصوصيّة كلّ منهما في العلّة ، وكلاهما غير صحيح.

ص: 39

أمّا الأوّل فلأنّ الحكم موجود واحد شخصي في عالم التشريع ، والموجود الواحد الشخصي يستحيل أن تكون له علّتان.

وأمّا الثاني فلأنّ ظاهر الجملة الشرطيّة كون الشرط بعنوانه الخاصّ دخيلا في الجزاء.

الوجه الرابع : لإثبات مفهوم الشرط أن يقال : إنّ اللزوم مستفاد من وضع الجملة الشرطيّة بأداتها أو بهيئتها لذلك لغة ، فيكون المدلول اللغوي التصوّري للجملة هو اللزوم.

والعلّيّة تستفاد أيضا كما تقدّم في الوجه السابق من دلالة التفرّع بمقتضى أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت ، فما دام قد ذكر التفرّع في الكلام فهو يريده ثبوتا ، ويثبت أنّ التفرّع بنحو العلّيّة ؛ لأنّ التفرّع ظاهر في ذلك. أو يقال بأنّ العليّة مستفادة من الوضع أيضا.

وهكذا الحال بالنسبة للتماميّة فيمكن استفادتها من الإطلاق الأحوالي للشرط الذي ينفي عنه النقصان في جميع الحالات.

يبقى كون هذه العلّة التامّة هي العلّة الوحيدة المنحصرة ، فهذا ما يمكن إثباته بالتقريب التالي :

إذا فرض وجود علّة أخرى للجزاء غير الشرط بأن كانت هناك علّتان للجزاء إحداهما الشرط والأخرى شيء آخر ، فلا يخلو الأمر إمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ علّة للجزاء كأن يقال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) و ( إذا كان زيد عالما فأكرمه ) ، فكان كلّ من المجيء والعلم بعنوانه الخاصّ علّة للإكرام.

وإمّا أن تكون كلتا العلّتين مؤثّرة في الجزاء لا بعنوانها الخاصّ ، بل بما هي مصداق للعلّة الحقيقيّة والتي هي الجامع بين العلّتين ، كأن تكون علّة الجزاء مثلا الإفطار وكان كلّ من الأكل والشرب مصداقا لهذه العلّة ، فيقال : ( إذا أكلت في شهر رمضان فكفّر ) و ( إذا شربت فيه فكفّر ) فالأكل والشرب علّتان للجزاء بما هما مصداقان للعلّة الحقيقيّة التي هي الجامع بينهما أي ( الإفطار ) ، فكأنّه قيل : ( إذا أفطرت في شهر رمضان فكفّر ) وكان الأكل والشرب مصداقين للإفطار. وكلا هذين الاحتمالين باطل.

ص: 40

إذا فلا يوجد علّة أخرى للجزاء ، والوجه في بطلانهما هو : أمّا الأوّل بأن كان كلّ من العلّتين بعنوانهما الخاصّ علّة تامّة مستقلّة للجزاء ، فحيث إنّ الجزاء وجود واحد شخصي في عالم التشريع - ويقصد من ذلك أنّ الوجوب مثلا الذي هو مدلول هيئة الجزاء واحد بالنوع أو بالشخص في عالم الجعل والتشريع والواقع - فيستحيل أن يكون صادرا عن علّتين ؛ لأنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ، كما هو مقتضى القاعدة الفلسفيّة.

فلا بدّ إذا من فرض علّة واحدة أثّرت في المعلول الواحد ، وهذا معناه أنّ الافتراض الأوّل باطل ؛ لأنّه يستلزم تعدّد العلل مع وحدة المعلول ، وهو مخالف للقاعدة الفلسفيّة المذكورة (1).

وأمّا الثاني بأن كان الجامع بين العلّتين هو العلّة المؤثّرة في الجزاء كالوجوب مثلا فهنا لا يأتي المحذور السابق ؛ لأنّ الجامع واحد وقد صدر منه واحد أيضا ، إلا أنّ هذا على خلاف الظاهر والفهم العرفي من الجملة الشرطيّة.

فإنّ قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، الظاهر منه كون الشرط بعنوانه الخاصّ هو العلّة للجزاء ؛ لأنّه المتبادر والمنسبق إلى الذهن العرفي ، وهذا معناه أنّ العلّة هي الشرط لا أنّ الشرط مصداق للعلّة الحقيقيّة ، فالعرف لا يفهم أنّ هذا الشرط كان مصداقا للعلّة وليس هو نفسه العلّة ، وإنّما العقل هو الذي يحلّل هذا الأمر فيكون هذا الفرض مخالفا للظاهر وللفهم العرفي ، والشارع سار على طريقة

ص: 41


1- إنّ القاعدة المذكورة ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) إن كانت مختصّة بالواحد الشخصي فيكون تصوير المحذور بهذا الشكل : إنّ الواحد الشخصي لا يصدر إلا من واحد شخصي ، وبما أنّ الوجوب الذي هو مدلول الجزاء واحد شخصي باعتبار ملاكاته ومبادئه فلا بدّ من صدوره من واحد شخصي أيضا ، فيستحيل كون العلّتين معا كلّ منهما علّة مستقلّة للوجوب. وإن كانت شاملة للواحد النوعي فيكون تصوير المحذور بهذا الشكل : إنّ الواحد بالنوع لا يصدر إلا من الواحد بالنوع ، وحيث إنّ الوجوب واحد بالنوع بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، أو بلحاظ عالم المجعول ، فلا بدّ أن يصدر من واحد بالنوع أيضا لا هذا بخصوصه ولا ذاك ، فيستحيل إذا كون كلا العلّتين بعنوانهما الخاصّ علّة مستقلّة للوجوب ، بل لا بدّ من فرض علّة واحدة بالنوع تكون هي العلّة للوجوب.

العقلاء في التفاهم والتخاطب وليس له مسلك آخر.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد علّة أخرى للجزاء لا بعنوانها الخاصّ ولا بما هي مصداق لعنوان جامع بينها وبين الشرط ، فيكون الشرط هو العلّة الوحيدة للجزاء.

والجواب : أنّ بالإمكان اختيار الافتراض الأوّل ، ولا يلزم محذور ، وذلك بافتراض جعلين وحكمين متعدّدين في عالم التشريع ، أحدهما معلول للشرط بعنوانه الخاصّ ، والآخر معلول لعلّة أخرى ، فالبيان المذكور إنّما يبرهن على عدم وجود علّة أخرى لشخص الحكم لا لشخص آخر مماثل.

وجواب هذا البرهان : أنّنا نختار الشقّ الأوّل من الافتراضين المذكورين بأن نقول :

إنّه توجد علّة أخرى للجزاء بعنوانها الخاصّ بحيث تكون هناك علّتان مستقلّتان للجزاء كلّ منهما مؤثّرة فيه بعنوانها الخاصّ.

ولا يرد المحذور ( إنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، وأنّه كيف صدر الوجوب من علّتين مع أنّه واحد بالشخص أو بالنوع؟

لأنّنا نفترض أنّ كلاّ من العلّتين مؤثّر في جعل وجوب غير الوجوب الذي تجعله الأخرى كالخيارات الموجبة للفسخ.

وبتعبير آخر : نفترض أنّ الشرط علّة للجزاء بعنوانه الخاصّ ( إذا أكلت في شهر رمضان فكفّر ).

ونفترض أيضا علّة أخرى لا لهذا الجزاء بعنوانه الخاصّ والشخصي ، بل لجزاء مماثل له فنقول : ( إذا شربت في شهر رمضان فكفّر ) بنحو يكون وجوب الكفّارة في الأكل غيره في الشرب وإنّما هو مماثل ومشابه له.

فكان الجزاء في كلّ من العلّتين المستقلّتين مشابها ومماثلا للآخر ، وليس الجزاء فيهما واحد شخصي جزئي ليقال بأنّه يستحيل اجتماع علّتين مستقلّتين على شيء واحد شخصي.

وبهذا يتّضح أنّ البرهان المذكور لا يتمّ هنا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ على أنّه يستحيل اجتماع علّتين على شيء واحد أو يستحيل صدور الواحد من المتعدّد ، وهنا لم يصدر الواحد من متعدّد ، بل كلّ وجوب صدر من علّة مستقلّة ؛ لأنّ هذا الوجوب ليس هو نفس ذلك الوجوب ، بل هو وجوب آخر مماثل له. وإذا فرض

ص: 42

اجتماع هاتين العلّتين معا بأن أكل وشرب فيكون المجموع منهما هو العلّة ، كما تقدّم بسبب طرو النقصان العرضي عليهما بسبب اجتماعهما (1).

الخامس : ويفترض فيه أيضا أنّا استفدنا العلّيّة على أساس سابق ، فيقال في كيفيّة استفادة الانحصار : إنّ تقييد الجزاء بالشرط على نحوين :

أحدهما : أن يكون تقييدا بالشرط فقط ، والآخر أن يكون تقييدا به أو بعدل له على سبيل البدل.

والنحو الثاني : ذو مئونة ثبوتيّة (2) تحتاج في مقام التعبير عنها إلى عطف العدل ب- ( أو ) ، فإطلاق الجملة الشرطيّة بدون عطف ب- ( أو ) يعيّن النحو الأوّل. وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه اللّه (3) : أنّ هذا إطلاق في مقابل التقييد ب- ( أو ) الذي يعني تعدّد العلّة ، كما أنّ هناك إطلاقا للشرط في مقابل التقييد ب- ( الواو ) الذي يعني كون الشرط جزء العلّة ، وكون المعطوف عليه ب- ( الواو ) الجزء الآخر.

الوجه الخامس : لإثبات مفهوم الشرط هو أن يقال : إنّنا نستفيد اللزوم من خلال الوضع بأن ندعي أنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة للربط اللزومي. ونستفيد العليّة من خلال التفرّع بأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت ، أو على أساس الوضع أيضا. يبقى استفادة العلّة التامّة وكونها منحصرة وهذا يثبت بالتقريب التالي :

ص: 43


1- ومن هنا كان الأصل الأوّلي هو عدم تداخل المسببات فيما بينها ، فإذا أكل ثمّ بعد ذلك شرب كان هناك وجوبان للكفّارة بحسب الأصل الأوّلي ، إلا إذا قام دليل خاصّ على التداخل وعدم تكرار الكفّارة. يضاف إلى ذلك عدم صحّة الاستدلال بالقاعدة الفلسفيّة في مقامنا ؛ لأنّ الوجوب مثلا إن أريد به الوجوب الثابت في عالم الجعل والتشريع فهو معلول للشارع لا للشرط أو لغيره ، بمعنى أنّ الشارع هو الذي يجعل الوجوب لا الشرط ، وإنّما دور الشرط التقييد والتحصيص فقط. وإن أريد به الوجوب في عالم المجعول فهو مجرّد اعتبار محض لا وجود له ؛ لأنّ عالم المجعول عالم افتراضي ليس إلا.
2- الظاهر وقوع تصحيف من الطبع في الكلمة وأنّ الصحيح إثباتيّة ، إذ لا معنى وجيه للمئونة الثبوتيّة.
3- أجود التقريرات 1 : 418.

أمّا الانحصار فوجهه : أنّه لا إشكال في أنّ قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كون الجزاء فيه مقيّدا بالشرط ، بمعنى أنّه إذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، وليس الجزاء مطلقا من ناحية الشرط بحيث إنّه إذا وجد الشرط لا يوجد الجزاء ؛ لأنّ هذا مخالف للظاهر من الجملة الشرطيّة.

ثمّ إنّ تقييد الجزاء بالشرط يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون تقييدا بالشرط فقط ، وهو معنى كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

الثاني : أن يكون تقييدا بالشرط أو بعدل آخر بديل عن الشرط وهو معنى عدم الانحصار بالشرط.

فإذا كان الشرط علّة منحصرة وكان التقييد بالشرط فقط كانت الجملة كافية يبذلك ؛ لأنّه لم يذكر فيها سوى الشرط فقط : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ولا نحتاج إلى مئونة زائدة لا ثبوتا ولا إثباتا.

وإذا كان للشرط علّة بدليّة أو عدل آخر فهذا يحتاج إلى مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا ؛ لأنّه حينئذ لا يكفي ذكر الشرط وحده في التعبير عن وجود علّة أخرى بديلة عنه ، بل لا بدّ من ذكر شيء في الكلام يدلّ عليها أيضا ، فيقال : ( إذا جاء زيد أو كان عالما فأكرمه ) ، وهذا يعني أنّنا نحتاج إلى عطف العلّة الأخرى على الشرط ب- ( أو ) للدلالة على البدليّة.

وحيث إنّ الجملة الشرطيّة لم يذكر فيها العطف ب- ( أو ) ، وكانت مطلقة من هذه الناحية فيتعيّن كون المراد هو الاحتمال الأوّل ؛ لأنّه لو أراد الاحتمال الثاني لذكر ما يدلّ عليه ، فحيث لم يذكر ذلك فهو لا يريده ، فبالإطلاق وقرينة الحكمة يتعيّن الأوّل دون الثاني ، وهذا معناه أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.

وأمّا العلّة التامّة فوجهها : أنّ تقييد الجزاء بالشرط فيه احتمالان أيضا :

الأوّل : أن يكون الشرط علّة تامّة للجزاء ، بمعنى أنّ تقيّد الجزاء بالشرط بنحو تقيّد المعلول بعلّته التامّة.

الثاني : أن يكون الشرط جزء العلّة ، بمعنى أنّ تقيّد الجزاء بالشرط بنحو تقيّد المعلول بالجزء الأخير من العلّة.

ص: 44

والاحتمال الأوّل لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، بل يكفي أن يذكر الشرط وحده : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

وأمّا الاحتمال الثاني فهو يحتاج إلى مئونة ثبوتيّة زائدة لا بدّ من التعبير عنها بذكر شيء إثباتا ، كأن يقال : ( إذا جاء زيد وكان عالما فأكرمه ).

فإطلاق الجملة الشرطيّة وعدم العطف ب- ( الواو ) معناه أنّ الشرط هو العلّة التامّة للجزاء ؛ لأنّه لو كان جزء العلّة للزم العطف ب- ( الواو ) ، وحيث إنّه لم يذكر ذلك إثباتا فهو لا يريده ثبوتا ، فيثبت كون الشرط علّة تامّة للجزاء.

والحاصل : أنّ العلّة التامّة نثبتها بالإطلاق وقرينة الحكمة في مقابل التقييد ب- ( الواو ) ، وكون العلّة منحصرة نثبتها بالإطلاق وقرينة الحكمة في مقابل التقييد ب- ( أو ).

وكلّ هذه الوجوه الخمسة تشترك في الحاجة إلى إثبات أنّ المعلّق على الشرط طبيعي الحكم ، وذلك بالإطلاق وإجراء قرينة الحكمة في مفاد الجزاء.

وأمّا الركن الثاني فالوجوه الخمسة المذكورة تحتاج إلى إثباته ، وذلك بالإطلاق وقرينة الحكمة في الجزاء بأن يقال : إنّ طبيعي الحكم في كلّ أحواله معلّق على الشرط بحيث ينتفي كلّ فرد من أفراده بانتفاء الشرط ، لا أنّه ينتفي شخص الحكم فقط بانتفاء الشرط كما تقدّم سابقا.

والتحقيق : أنّ الربط المفترض في مدلول الجملة الشرطيّة : تارة يكون بمعنى توقّف الجزاء على الشرط ، وأخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه للجزاء ؛ كما عرفنا سابقا (1).

والتحقيق فيما ذكره الميرزا هو : أنّ تقيّد الجزاء بالشرط المستفاد من تفريع الجزاء على الشرط في الجملة الشرطيّة ، حيث إنّ مقتضى التفرّع على الشرط أن يكون الجزاء مقيّدا بالشرط وليس مطلقا بحيث يوجد إذا انتفى الشرط أو ينتفي إذا وجد الشرط ، فهذا التقيّد ما ذا يراد به؟

هل يراد أنّ الجزاء مقيّد بالشرط بمعنى كونه متوقّفا على الشرط وملتصقا به ومعلّقا عليه إذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء؟ أو يراد أنّ الجزاء

ص: 45


1- في ضابط المفهوم.

مقيّد بالشرط بمعنى أنّ الشرط يستلزم ويوجد الجزاء بحيث إذا وجد الشرط وجد الجزاء ، وأمّا إذا انتفى الشرط فقد ينتفي الجزاء وقد لا ينتفي كذلك؟

فعلى الأوّل يتمّ إثبات المفهوم بلا حاجة إلى ما افترضه المحقّق النائيني رحمه اللّه من إطلاق مقابل للتقييد ب- ( أو ) ؛ وذلك لأنّ الجزاء متوقّف على الشرط بحسب الفرض ، فلو كان يوجد بدون الشرط لما كان متوقّفا عليه.

فإن كان التقيّد بمعنى التوقّف بنحو المعنى الحرفي أي النسبة التوقّفيّة فيثبت للجملة الشرطيّة مفهوم بلا حاجة إلى الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد ب- ( أو ) ؛ لأنّ معنى توقّف الجزاء على الشرط - كما تقدّم سابقا - أنّ الجزاء معلّق وملتصق ومتوقّف على الشرط ، وهذا معناه أنّ الجزاء يدور مدار الشرط وجودا وعدما ، وهذا هو الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء.

وبذلك يكون الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء - عند المشهور - ويكون المفهوم ثابتا على مستوى المدلول التصوّري بلا حاجة إلى التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة ، سواء المقابل ل- ( أو ) أو المقابل ل- ( الواو ) ؛ لأنّهما في رتبة متأخّرة ، إذ يثبتان المفهوم - لو تمّا - في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي.

وبهذا ظهر أنّه على هذا الاحتمال لا معنى لما ذكره الميرزا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وعلى الثاني لا يمكن إثبات الانحصار والمفهوم بما سمّاه الميرزا بالإطلاق المقابل ل- ( أو ) ؛ لأنّ وجود علّة أخرى لا يضيّق من دائرة الربط الاستلزامي بين الشرط والجزاء ، فلا يكون العطف ب- ( أو ) تقييدا لما هو مدلول الخطاب لينفى بالإطلاق ، بل إفادة لمطلب إضافي.

وأمّا إن كان التقيّد بمعنى الاستلزام والإيجاد بنحو المعنى الحرفي ، فلا يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم حتّى وإن جرى الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد ب- ( أو ) أو ( الواو ).

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة الاستلزاميّة أو الإيجاديّة يعبّر عنها بالمفهوم الاسمي الموازي لها بقولنا : ( مجيء زيد مستلزم أو موجد لإكرامه ) ، وهذا معناه بيان علّيّة المجيء لوجوب الإكرام على نحو القضيّة الموجبة الجزئيّة ، فإذا تحقّق المجيء تحقّق وجوب الإكرام ؛ لأنّ المعلول يوجد إذا وجدت علّته.

ص: 46

وأمّا إذا انتفى المجيء فمن المحتمل انتفاء وجوب الإكرام بأن كان المجيء علّة تامّة منحصرة ، ومن المحتمل أيضا عدم انتفائه مطلقا ؛ إذ قد يكون له علّة أخرى يثبت بثبوتها ؛ لأنّ طبيعة الاستلزام تقتضي هذا المعنى لا أكثر ، وعليه فيكون المنتفي هو شخص هذا الوجوب ولا يمنع ذلك من ثبوت شخص آخر للوجوب مماثل لهذا بعلّة أخرى.

والحاصل : أنّ الاستلزام يثبت لنا قضيّة موجبة جزئيّة وهي أنّ الشرط علّة للجزاء ، وأمّا كون الشرط هو العلّة التامّة الوحيدة والمنحصرة للجزاء فهذا لا يثبت بمجرّد الاستلزام ، بل نحتاج في إثباته إلى مطلب آخر.

وأمّا ما ذكره الميرزا من إمكانيّة إثبات الانحصار بالإطلاق وقرينة الحكمة النافي للتقييد ب- ( أو ) فهو وإن صحّ إلا أنّه لا يفيد ذلك.

ببيان : أنّ الربط الاستلزامي العلّي بين الشرط والجزاء لا يتضيّق ولا يتوسّع ؛ لأنّه قضيّة جزئيّة ومن الواضح أنّ القضايا الجزئيّة تمتنع في نفسها من الصدق على كثيرين ، ولذلك فهي غير قابلة للتوسعة أصلا لتكون قابلة للتضييق.

فإذا قلنا : ( مجيء زيد علّة لوجوب إكرامه ) لا يكون وجود علّة أخرى والتقييد ب- ( أو ) موجبا لتضييق علّيّة المجيء لوجوب الإكرام ، بل يكون إفادة لمطلب آخر زائد لم يكن موجودا ، وهو أنّه يوجد علّة أخرى للوجوب ، ووجود العلّة الأخرى لا يؤثّر في علّيّة الشرط للجزاء سلبا أو إيجابا ؛ لأنّ علّيّة الشرط كانت بنحو أنّ هذا يستلزم ذاك ، وهذا الاستلزام لا يتبدّل ولا يتغيّر مع وجود العلّة الأخرى.

فإذا قلنا : شرب السمّ علّة للموت ، وقلنا : الاحتراق علّة للموت ، والغرق علّة للموت لا يؤثّر أحدهما في علّيّة الآخر تضييقا أو توسعة ؛ لأنّ العلّيّة معناها أنّ هذا يستلزم ذاك ، وهذا المعنى موجود في كلّ هذه العلل.

وبهذا يتّضح أنّ وجود ( أو ) وعدم وجودها لا يؤثّر في كون الشرط مستلزما للجزاء سلبا أو إيجابا. وعليه فلا يكون الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد ب- ( أو ) موجبا للتوسعة ؛ لأنّ وجود ( أو ) لا يوجب التقييد أصلا ، حيث إنّ المفهوم الثابت في الجملة الشرطيّة بناء على هذا الاحتمال مفهوم جزئي لا يقبل الإطلاق ولا التضييق.

ص: 47

ولذلك لا معنى لجريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الإطلاق إنّما يجري في المفاهيم الكلّيّة القابلة للتضييق ك- ( العالم ) مثلا في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فيجري الإطلاق لنفي القيود التي لو كانت موجودة لكانت موجبة للتضييق في مفهوم العالم كقولنا : ( أكرم العالم العادل ).

فإذا نفينا القيود يثبت أنّ المفهوم واسع غير مقيّد ، وبالتالي فهو يشمل كلّ الأفراد القابل للانطباق عليها ، سواء العادل والفاسق بخلاف تقييده بالعادل ، فإنّه يوجب اختصاصه بأفراد العالم العادل فقط دون الفاسق.

وأمّا هنا فإنّ وجود التقييد ب- ( أو ) كعدمه لا يوجب سعة ولا ضيقا في علّيّة الشرط للجزاء ؛ إذ العلّيّة لا تقبل التوسعة والتضييق في نفسها ، بل هي إمّا أن توجد وإمّا أن تعدم عن الشرط. وبهذا يمكننا ذكر قاعدة كلّيّة مفادها :

وليس كلّما سكت المتكلّم عن مطلب إضافي أمكن نفيه بالإطلاق ، ما لم يكن المطلب المسكوت عنه مؤدّيا إلى تضييق وتقييد في دائرة مدلول الكلام.

بيان هذه القاعدة : أنّ المطلب الإضافي المسكوت عنه على نحوين :

تارة يكون المطلب الإضافي المسكوت عنه موجبا - على فرض وجوده - للتضييق والتقييد في مدلول الكلام المذكور.

وأخرى لا يكون هذا المطلب المسكوت عنه موجبا - على فرض وجوده - للتضييق والتقييد كذلك.

فإذا كان المطلب المسكوت بالنحو الأوّل أمكن نفيه بالإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه لو كان موجودا للزم وجود مفهوم آخر مباين للمفهوم الموجود والمدلول عليه في الكلام ، فيقال في نفيه : إنّ المتكلّم لو كان يريده جدّا وواقعا للزم أن يذكر ما يدلّ عليه في الكلام ، فما لم يذكر شيئا وسكت عن إفادته فهو لا يريده جدّا فيثبت كون المفهوم المراد هو المفهوم الواسع لا المفهوم الضيق.

كما في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّه لو كان يريد غير هذا المفهوم الواسع وكان مراده الجدّي التقييد لكان ذكر ما يدلّ عليه ؛ لأنّ هذا المفهوم الآخر المقيّد يوجب وجود مفهوم آخر مباين للمفهوم الأوّل أضيق منه دائرة ، فما دام سكت عن إفادة هذا المطلب الإضافي فهو لا يريده جدّا ، وإلا لكان ذكر ما يدلّ عليه في الكلام.

ص: 48

فهنا يجري الإطلاق وقرينة الحكمة ويكون لجريان الإطلاق فائدة وهي إثبات المفهوم الواسع ونفي المفهوم الضيق.

وأمّا إذا كان المطلب المسكوت عنه من النحو الثاني ، فلا معنى لإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة لنفيه ؛ لأنّ وجوده وعدمه لا يؤثّر في المفهوم المدلول عليه في الكلام ؛ إذ المفروض أنّ هذا المطلب الإضافي لا يوجب وجوده التضييق في المفهوم الموجود ولا يوجب عدمه التوسعة فيه أيضا ؛ لأنّنا فرضنا أنّ المفهوم المدلول عليه في الكلام قضيّة جزئيّة وهي لا تقبل التوسعة كما لا تقبل التضييق ؛ لأنّ الجزئي لا ينطبق إلا على نفسه وليس لديه قابلية للانطباق على غيره لينفى ذلك بالإطلاق.

فهنا لا يكون للإطلاق فائدة أصلا وبالتالي يلغو جريانه ؛ لأنّه لو جرى لم يكن لجريانه فائدة ، وكلّ ما كان وجوده يستلزم اللغويّة فهو باطل.

ومقامنا من النحو الثاني ؛ لأنّ النسبة الاستلزاميّة المدلول عليها بالجملة الشرطيّة قضيّة جزئيّة غير قابلة للتوسعة أو التضييق ، فحتّى لو كان هناك تقييد ب- ( أو ) فهو لا يوجب ضيقا في مفهوم الربط الاستلزامي فضلا عن عدم وجوده ، ولذلك لا يجري الإطلاق هنا ؛ لأنّه لغو وبلا فائدة.

وبذلك صحّ قولنا : ( ليس كلّ مطلب إضافي سكت عنه أمكن نفيه بالإطلاق ). والمراد منها أنّ المطلب المسكوت عنه قد ينفى بالإطلاق إذا كان من النحو الأوّل ، ولا ينفى بالإطلاق إذا كان من النحو الثاني.

فالأولى من ذلك كلّه أن يستظهر عرفا كون الجملة الشرطيّة موضوعة للربط بمعنى التوقّف والالتصاق من قبل الجزاء بالشرط ، وعليه فيثبت المفهوم.

والصحيح أن نقول : إنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة لإفادة الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، بمعنى أنّها موضوعة للنسبة التوقّفيّة ، فإنّ هذا النحو من الربط يكفي وحده لإثبات المفهوم من دون حاجة إلى ما ذكر من الوجوه السابقة ؛ لأنّ توقّف الجزاء على الشرط معناه أنّ الجزاء ملتصق بالشرط فإذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، ولا يكون للجزاء علّة أخرى في حال انتفاء الشرط ؛ لأنّ وجود مثل هذه العلّة يتنافى مع التوقّف المدلول عليه في الجملة.

فإذا استظهرنا من الجملة الشرطيّة التوقّف كان ذلك كافيا لإفادة أنّ هناك التصاقا بين

ص: 49

الشرط والجزاء ، وأنّ هذا الربط لا ينفكّ أبدا ، وهو معنى العلّيّة الانحصاريّة عند المشهور.

وهذا المعنى يدلّ عليه الوجدان العرفي والتبادر والمنساق إلى الذهن أيضا.

ويضاف إلى ذلك الركن الثاني وهو كون المعلّق على الشرط هو طبيعي الجزاء لا شخصه ، وهذا ما نثبته بالإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد الهيئة.

وأمّا ما نحسّه من عدم التجوّز في حالات عدم الانحصار فيمكن أن يفسّر بتفسيرات أخرى ، من قبيل أنّ هذه الحالات لا تعني عدم

استعمال الجملة الشرطيّة في الربط المذكور ، بل عدم إرادة المطلق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يثلم الإطلاق وقرينة الحكمة ، ولا يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

يبقى تفسير استعمال الجملة الشرطيّة في الموارد التي لا مفهوم لها ، حيث نحسّ بالوجدان أنّ استعمالها في سائر الجمل ليس مجازا ، فكيف يتمّ التوفيق بين عدم الإحساس بالمجازيّة في تلك الموارد وبين ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة؟ وهذا الأمر يمكننا بيانه بما يلي :

تارة تستعمل الجملة الشرطيّة ويكون لها مفهوم كقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

وأخرى تستعمل ولا يكون الشرط علّة منحصرة ، بل هناك علل أخرى فلا يكون لها مفهوم ، كقولنا : ( إذا كسفت الشمس فصلّ ).

وثالثة تستعمل ولا يكون الشرط علّة تامّة بل جزء العلّة ، وهذه أيضا لا مفهوم لها ، كقولنا : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ).

ورابعة تستعمل ولا يكون هناك لزوم بين الشرط والجزاء ، بل وإن لم يكن فيها ربط أصلا بأن كانت لمجرّد صدفة واتّفاق ، كقولنا : ( إذا جاء زيد تكون الساعة التاسعة ).

وخامسة تستعمل ولا يكون هناك أي ربط أصلا بين الشرط والجزاء ، كقولنا : ( إذا كان الإنسان ناطقا فالحصان صاهل ).

وسادسة يكون الجزاء جملة إخباريّة ، كقولنا : ( إذا شربت السمّ فتموت ).

فنقول في بيان عدم ثبوت المفهوم في هذه الجمل ، ما يلي :

أمّا الجملة الأولى : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فالجملة موضوعة لغة للتوقّف ، والذي

ص: 50

معناه الانتفاء عند الانتفاء ، وبضمّ كون المعلّق هو طبيعي الجزاء لا شخصه يثبت للجملة مفهوم.

وأمّا الجملة الثانية : ( إذا كسفت الشمس فصلّ ) فهذه لا مفهوم لها ؛ لأنّ الإطلاق في الجزاء مختلّ حيث ثبت أنّ الجزاء يثبت مع علّة أخرى وقد بيّن المتكلّم ذلك ، فيكون قد قيّد الجزاء بقوله : ( إذا خسف القمر فصلّ ) ، فالجملة مستعملة في معناها الموضوعة له وهو التوقّف ، غاية الأمر أنّ الركن الثاني هو المختلّ لعدم جريان الإطلاق ؛ لأنّه قد بيّن التقييد وذكره ولو منفصلا ، فلا مجازيّة هنا.

وأمّا الجملة الثالثة : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فكان الشرط جزء العلّة لا العلّة التامّة ، فهذا أيضا ناشئ من عدم جريان الإطلاق في الشرط حيث ثبت القيد بدليل آخر ، وهو قوله : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) الدالّ على أنّ الشرط وحده ليس العلّة بل هو جزءها ، وهذا لا يلزم المجازيّة ؛ لأنّ الجملة تدلّ على التوقّف أيضا بين الشرط والجزاء ، غاية الأمر كان التوقّف على جزء العلّة.

وأمّا الجملة الرابعة : ( إذا جاء زيد فتكون الساعة العاشرة ) ، فهي كالجملة السادسة :

( إذا شربت السمّ فتموت ) ، الجزاء فيها إخبار عن قضيّة خارجيّة أي إخبار عن النسبة التصادقيّة في الخارج بين هذا وذاك ، ولا مفهوم لهذه الجملة ؛ لأنّه يعلم بكذب هذه النسبة التصادقيّة وأنّ التصادق بينهما كان خطأ لا واقعيّة له ، فلا مجازيّة أيضا ؛ لأنّ الجملة تدلّ على التوقّف إلا أنّ المتوقّف عليه هو النسبة وقد تبيّن كذبها.

وأمّا الجملة الخامسة : ( إذا كان الإنسان ناطقا فالحصان صاهل ) ، فهي خطأ في التركيب وغلط ، إذ لا يوجد فيها أي نحو من التوقّف ولو ادّعاء ؛ لأنّ كون الحصان صاهلا لا يرتبط أصلا بكون الإنسان ناطقا ، فهذا من الخطأ في الاستعمال.

وبهذا يتمّ التوفيق بين ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة في موارد التوقّف وبين عدم المجازيّة في موارد عدم ثبوت المفهوم للجملة بالنحو الذي ذكرناه.

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع :

يلاحظ في كلّ جملة شرطية تواجد ثلاثة أشياء ، وهي : الحكم والموضوع والشرط ، والشرط تارة يكون أمرا مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، وأخرى يكون محقّقا لوجوده.

ص: 51

تتألّف الجملة الشرطيّة من أداة الشرط ، والشرط ، والموضوع ، والجزاء ، كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

ف- ( إذا ) أداة شرط ، والمجيء هو الشرط ، وزيد هو الموضوع ، ووجوب الإكرام هو مفاد الجزاء.

ثمّ إنّ الشرط الموجود في الجملة على قسمين :

الأوّل : أن يكون الشرط مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ المجيء الذي هو الشرط مغاير لزيد الذي هو موضوع الحكم ، بحيث إنّه إذا انتفى الشرط يبقى الموضوع موجودا.

الثاني : أن يكون الشرط محقّقا وموجدا لموضوع الحكم في الجزاء ، بحيث إذا انتفى الشرط ينتفي الموضوع أيضا ؛ لأنّه يوجد بالشرط ، كما في قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ الشرط الذي هو رزق الولد ، والموضوع الذي هو الولد ليسا متغايرين ؛ لأنّ الولد لا يتحقّق إلا إذا رزقه اللّه تعالى ، فإذا انتفى الرزق فلا وجود للولد أصلا ، وهذا ما يسمّى بالجملة الشرطيّة المسوقة لتحقّق الموضوع.

ومن هنا يبحث في هذين القسمين حول ثبوت المفهوم للشرطيّة فيهما ، ولذلك قال :

فالأوّل كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فإنّ موضوع الحكم زيد ، والشرط المجيء ، وهما متغايران.

والثاني كما في قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ موضوع الحكم بالختان هو الولد ، والشرط أن ترزق ولدا ، وهذا الشرط ليس مغايرا للموضوع ، بل هو عبارة أخرى عن تحقّقه ووجوده.

أمّا النحو الأوّل فالموضوع ثابت سواء تحقّق الشرط أو انتفى ، ولذلك يبحث في مثل هذه الجملة حول ثبوت المفهوم لها ، فبعد انتفاء الشرط عن الموضوع هل يبقى الحكم ثابتا للموضوع أم أنّه ينتفي عنه؟

بينما في النحو الثاني فالشرط محقّق وموجد للموضوع ، بحيث إنّه لو لا الشرط لم يكن الموضوع موجودا ، ولهذا فإذا انتفى الشرط انتفى الموضوع أيضا. فلا معنى للبحث عن ثبوت المفهوم لمثل هذه الجملة ؛ لأنّ الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 52

ومفهوم الشرط ثابت في الأوّل ، فكلّما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط دلّت الجملة الشرطيّة على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.

أمّا القسم الأوّل وهو كون الشرط مغايرا للموضوع فلا إشكال في ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة كما تقدّم سابقا ؛ لأنّها تدلّ على التوقّف والالتصاق للشرط بالجزاء ، وبهذا يمكننا بيان ضابطة كلّيّة مفادها :

كلّما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة ، بحيث ينتفي الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط كما هو مقتضى التوقّف بينهما ، وهذا ما كنّا نبحث عنه فعلا فيما سبق.

وأمّا حالات الشرط المحقّق للموضوع فهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشرط المحقّق لوجود الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ، كما في مثال الختان المتقدّم.

والآخر : أن يكون الشرط أحد أساليب تحقيقه ، كما في : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّ مجيء الفاسق بالنبإ عبارة أخرى عن إيجاد النبأ ، ولكنّه ليس هو الأسلوب الوحيد لإيجاده ؛ لأنّ النبأ كما يوجده الفاسق يوجده العادل أيضا.

بعد أن عرفنا المراد من الشرط المحقّق للموضوع ، وأنّه عبارة عن نوع اتّحاد بين الشرط والموضوع بحيث يكون الشرط هو المحقّق والموجد للموضوع ، نبحث حول ثبوت المفهوم لهذه الجمل وعدم ثبوته.

فنقول : إنّ هذه الجمل على قسمين :

الأوّل : أن يكون الشرط المحقّق لوجود الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقّق الموضوع ، بحيث لا يمكن تحقّق ووجود الموضوع من دون هذا الشرط ، فليس هناك طريقة أخرى ولا أسلوب آخر لتحقّق الموضوع غير هذا الشرط ، كما في مثال الختان : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) ، فإنّ رزق الولد يحقّق ويوجد الولد وهو الأسلوب الوحيد لتحقّقه ؛ إذ لا يمكن أن يوجد الولد في الخارج من دون أن يكون مرزوقا من اللّه عزّ وجلّ ؛ لأنّه إذا لم يرزق الإنسان ولدا فلا مجال لتحقّقه ووجوده.

الثاني : أن يكون الشرط أحد أساليب وطرق تحقّق الموضوع بحيث يمكن أن يتحقّق

ص: 53

الموضوع بشرط آخر أيضا ، فهنا نحوان وطريقان لتحقّق الموضوع ، أحدهما الشرط الموجود ، والآخر شرط آخر ، كما في قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّ النبأ الذي هو موضوع الحكم بوجوب التبيّن له نحوان من التحقّق والوجود ، فتارة يتحقّق بمجيء الفاسق بالنبإ ، وأخرى يتحقّق بمجيء العادل بالنبإ ، وهذا معناه أنّ الشرط الموجود وإن كان محقّقا للموضوع وموجدا له ، إلا أنّه ليس الأسلوب الوحيد لذلك ؛ لأنّ النبأ يتحقّق بشرط آخر أيضا وهو مجيء العادل.

ولذلك يبحث في ثبوت المفهوم وعدم ثبوته للجمل الشرطيّة المسوقة لتحقّق الموضوع على أساس هذين التقسيمين ، فنقول :

ففي القسم الأوّل : لا يثبت مفهوم الشرط ؛ لأنّ مفهوم الشرط من نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على وجه مخصوص ، فإذا كان الشرط عين الموضوع ومساويا له فليس هناك في الحقيقة ربط للحكم بالشرط وراء ربطه بموضوعه ، فقولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) في قوّة قولنا : ( اختن ولدك ).

إنّ مفهوم الشرط متوقّف على وجود ربطين في الجملة الشرطيّة : أحدهما : ربط الحكم بالموضوع ، والآخر : ربط الحكم وموضوعه بالشرط.

والربط الأوّل لا يوجب ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ؛ لأنّ كلّ حكم مرتبط بموضوعه بحيث إذا انتفى الموضوع انتفى الحكم المرتبط به ، كما هو الحال في كلّ جملة فيها موضوع وحكم ، كقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ وجوب الإكرام مرتبط بالعالم الذي هو الموضوع ، فإذا انتفى الموضوع ينتفي الحكم المرتبط به تبعا للعلاقة بين الحكم والموضوع ، وهو المسمّى بالسالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا الربط الثاني فهو يوجب ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ، فيما إذا كان ربط الحكم وموضوعه بالشرط بالنحو الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء وهو التوقّف.

فقولنا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) يرتبط وجوب إكرام زيد بمجيئه ، فهنا إذا انتفى المجيء ينتفي وجوب إكرام زيد ؛ لأنّه متوقّف ومعلّق على مجيئه كما تقدّم سابقا ويكون للجملة مفهوم.

والحاصل : أنّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة موقوف على أن يكون هناك ربط بين

ص: 54

الحكم وموضوعه بالشرط ، ويكون هذا الربط موجبا للانتفاء عند الانتفاء بنحو التوقّف.

وأمّا ربط الحكم بموضوعه فهو لا علاقة له بالمفهوم أصلا ؛ لأنّ كلّ حكم مرتبط بموضوعه بحيث ينتفي إذا انتفى الموضوع ويكون انتفاؤه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وفي مقامنا لكي يكون للجملة المسوقة لتحقّق الموضوع مفهوم يجب أن يكون هناك ربط بين الحكم وموضوعه بالشرط ، ولا يكفي أن يكون الحكم مرتبطا بالموضوع فقط.

وعليه ، فإذا كان الشرط المسوق لتحقيق الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقّقه بحيث كان الموضوع لا يوجد إلا بالشرط المذكور ولا يوجد مع غيره ، فهذا معناه أنّ الموضوع والشرط متساويان ومتّحدان معا ، فيكون أحدهما تعبيرا عن الآخر ، وليس شيئا زائدا عنه ، وبالتالي لا يكون لدينا إلا ربط واحد فقط وهو ربط الحكم بالموضوع ؛ لأنّ الشرط بحسب الفرض هو نفس الموضوع فربط الحكم بالشرط تعبير آخر عن ربط الحكم بالموضوع فهناك ربط واحد ، وهذا الربط الواحد لا يكفي لثبوت المفهوم.

فقولنا مثلا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) يوجد فيها ربط واحد ، وهو أنّ وجوب الختان مرتبط برزق الولد أو مرتبط بالولد فإنّهما شيء واحد ، ولا معنى لأن نقول : إنّ وجوب ختان الولد مرتبط برزق الولد ؛ لأنّه يكون حينئذ من القضيّة بشرط المحمول وهي بقوّة قولنا : ( اختن ولدك ) أي بقوّة الموجبة الحمليّة ، فإذا انتفى الولد فلا وجوب للختان من باب المفهوم ، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا في القسم الثاني : فيثبت المفهوم ؛ لأنّ ربط الحكم بالشرط فيه أمر وراء ربطه بموضوعه ، فهو تقييد وتعليق حقيقي. وليس قولنا : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) في قوّة قولنا : ( تبيّنوا النبأ ) ؛ لأنّ القول الثاني لا يختصّ بنبإ الفاسق بينما الأوّل يختصّ به ، وهذا الاختصاص نشأ من ربط الحكم بشرطه فيكون للجملة مفهوم.

وأمّا إذا كان الشرط أحد أساليب تحقّق الموضوع ، فهذا معناه أنّه يوجد ربطان في الجملة الشرطيّة ، أحدهما ربط الحكم بموضوعه والآخر ربط الحكم وموضوعه

ص: 55

بالشرط ، فيثبت للجملة مفهوم ، حيث يكون هناك ربط آخر زائدا عن ربط الحكم بموضوعه ، وهذا الربط الآخر ربط حقيقي وليس ربطا صوريّا وتعبيرا آخر عن ربط الحكم بالموضوع.

فقولنا : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) هناك ربط لوجوب التبيّن بالنبإ وهناك ربط آخر وهو ربط وجوب تبيّن النبأ بمجيء الفاسق ، وهذا الربط الثاني ربط حقيقي وليس تعبيرا آخر عن الربط الأوّل ؛ لأنّ المفروض أنّ مجيء الفاسق ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقّق النبأ ، بل يتحقّق النبأ بغيره أيضا أي بمجيء العادل ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ يثبت للجملة مفهوم ؛ لأنّ الموضوع متحقّق أيضا مع مجيء العادل حين انتفاء الفاسق فلا يجب التبيّن.

وليست هذه الجملة : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) في قوّة قولنا : ( تبيّنوا النبأ ) ؛ لأنّ الجملة الأولى الشرط فيها هو مجيء الفاسق فالحكم بوجوب التبيّن للنبإ مرتبط ومعلّق على مجيء الفاسق ، بينما في الجملة الثانية يكون وجوب التبيّن شاملا لمجيء الفاسق ومجيء العادل ، وهذا غير محتمل من قوله تعالى ؛ لأنّه يجعل العادل كالفاسق وهو خلاف الظاهر من الآية (1).

ص: 56


1- هذا كلّه بناء على أنّ الموضوع في الآية هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق ، فيكون للجملة مفهوم. وأمّا إذا كان الموضوع هو نبأ الفاسق والشرط هو مجيء الفاسق فيكون الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ؛ إذ من الواضح أنّ نبأ الفاسق لا يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق فيكون الشرط متّحدا مع الموضوع ، فيوجد ربط واحد فقط وليس هناك ربطان ، ولذلك لا يكون للجملة مفهوم. والصحيح : هو الأوّل أي أنّ الموضوع هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق ، وبما أنّه ليس الأسلوب الوحيد فيثبت للجملة مفهوم.

مفهوم الوصف

ص: 57

ص: 58

مفهوم الوصف

إذا تعلّق حكم بموضوع وأنيط بوصف في الموضوع ، كوصف العدالة الذي أنيط به وجوب الإكرام في : ( أكرم الفقير العادل ) فهل يدلّ بالمفهوم على انتفاء طبيعي الحكم بوجوب الإكرام عن غير العادل من الفقراء ، بعد الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود؟

الوصف على أنحاء أربعة ، هي :

الأول : أن يكون مساويا للموصوف ، كقولنا : ( أكرم الإنسان الناطق ) ، فهنا لا شكّ في عدم المفهوم ؛ لأنّ انتفاء أحد المتساويين يوجب انتفاء الآخر ، فإذا انتفى الناطق ينتفي الإنسان ، وبالتالي ينتفي موضوع الحكم فيكون الحكم منتفيا من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الثاني : أن يكون الوصف أعمّ من الموصوف كقولنا : ( أكرم الإنسان الهاشمي ) فهاهنا أيضا لا مفهوم ؛ لأنّ انتفاء الأعمّ يوجب انتفاء الأخصّ ، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذان الموردان خارجان عن محلّ الكلام أصلا.

الثالث : أن يكون بين الوصف والموصوف عموم وخصوص من وجه ، كقوله علیه السلام : « في الغنم السائمة زكاة » فإنّ السوم والغنم قد يجتمعان ويفترقان ، ولذلك فإذا انتفى أحدهما قد يبقى الآخر وقد ينتفي ، فيدخل هذا المورد في محلّ الكلام.

الرابع : أن يكون الوصف أخصّ من الموصوف ، كقولنا : ( أكرم الإنسان العادل ) فإنّ العادل أخصّ من الإنسان ، فإذا انتفى قد ينتفي الإنسان ، وقد لا ينتفي ؛ لأنّ الأخصّ إذا انتفى لا يوجب انتفاء الأعمّ جزما ، وهذا داخل في محلّ الكلام أيضا.

ثمّ إنّ الوصف دخيل في موضوع الحكم بلا شكّ ، فقولنا : ( أكرم الفقير العادل ) لا

ص: 59

شكّ في أنّ وصف العدالة دخيل في الموضوع ، وذلك بناء على قاعدة احترازيّة القيود في أنّ المتكلّم كلّ ما يذكره في كلامه فهو يريده جدّا.

وقد ذكر هنا وصف العدالة فيكون دخيلا في موضوع الحكم ، ولذلك إذا انتفى وصف العدالة ينتفي شخص هذا الحكم بوجوب إكرام الفقير ، أي أنّ الفقير غير العادل لا يجب إكرامه من جهة العدالة جزما ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه.

وإنّما الكلام في أنّه هل ينتفي طبيعي وجوب الإكرام عند انتفاء الوصف أم لا؟ وهذا معناه أنّه هل للجملة الوصفيّة مفهوم أم لا؟ وهذا ما ينبغي البحث عنه هنا ، فنقول :

والجواب : أنّه على مسلك المحقّق العراقي رحمه اللّه في إثبات المفهوم يفترض أنّ دلالة الجملة المذكورة على الربط المخصوص المستدعي لانتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسلّمة ، وإنّما يتّجه البحث إلى أنّ المربوط بالوصف والذي ينتفي بانتفائه هل يمكن أن نثبت كونه طبيعي الحكم بالإطلاق وقرينة الحكمة أو لا؟

فإذا أخذنا بمسلك المحقّق العراقي القائل بأنّ كلّ الجمل المبحوث عنها في ثبوت المفهوم لها أو عدم ثبوته تدلّ على ذاك الربط المخصوص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء - أي التوقّف أو العلّيّة - كما تقدّم سابقا عند الحديث عن ضابط المفهوم وأسمينا هذا المسلك بمسلك المحقّق العراقي ، وهذا يعني أنّ الركن الأوّل مفروغ عنه.

يبقى الكلام في إثبات الركن الثاني وهو أنّ المنتفي والمعلّق عليه هل هو طبيعي الحكم أو شخصه؟ وهذا يثبت عند إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مدلول الهيئة الدالّة على الحكم ، فإذا جرت قرينة الحكمة يثبت أنّ المعلّق هو الطبيعي فيكون المنتفي أيضا هو الطبيعي ، وإلا كان المعلّق والمنتفي شخص الحكم فقط.

وعلى هذا فلا بدّ من البحث حول جريان الإطلاق في الجملة الوصفيّة أو عدم جريانه فنقول :

والصحيح : أنّه لا يمكن ؛ لأنّ مفاد هيئة ( أكرم ) مقيّدة بمدلول المادّة باعتباره طرفا لها ، ومدلول المادّة مقيّد بالفقير ؛ لأنّ المطلوب إكرام الفقير ، والفقير مقيّد بالعدالة تقييد الشيء بوصفه. وينتج ذلك أنّ مفاد هيئة ( أكرم ) هو حصّة خاصّة من وجوب الإكرام يشتمل على التقييد بالعدالة ، فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص

ص: 60

بين مفاد أكرم والوصف انتفاء تلك الحصّة الخاصّة عند انتفاء العدالة - وهذا واضح - لانتفاء طبيعي الحكم.

والصحيح أنّ الإطلاق وقرينة الحكمة لا يمكن إجراؤها في مفاد الهيئة.

وتوضيح ذلك : أنّ قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) تدلّ هيئة ( أكرم ) فيه على وجوب الإكرام ، وهذا الوجوب مقيّد بالإكرام بحيث تجب هذه المادّة لا غيرها ، وهذا ناتج عن طبيعة العلاقة بين الحكم والمادّة التي ينصبّ عليها بحيث يكون هناك نسبة بين الحكم ومادّته وكلّ منهما يقع طرفا لهذه النسبة.

ثمّ إنّ الإكرام المدلول عليه من مادّة ( أكرم ) مقيّد أيضا بالفقير ؛ لأنّ وجوب الإكرام موضوعه الفقير فيكون هناك نسبة أخرى طرفها الأوّل وجوب الإكرام والثاني الفقير.

ثمّ إنّ الموضوع وهو الفقير مقيّد أيضا بوصف العدالة فهناك نسبة ثالثة بين الفقير والعدالة تنتج تقيّد الفقير بالعدالة تقيّد الوصف بموصوفه.

وينتج من خلال هذه النسب الثلاث أو من هذه التقييدات الثلاثة أنّ وجوب الإكرام مقيّد بالفقير العادل ، فهناك نسبة واحدة من مجموع هذه النسب وهي أنّ وجوب الإكرام منصبّ على الفقير العادل ، وهذا يعني أنّ هذا الوجوب له حصّة خاصّة من الفقير وهو خصوص العادل لا مطلق الفقير ، وهذا معناه أنّ هناك حصّة خاصّة من وجوب الإكرام وهي وجوب إكرام الفقير العادل على نحو القضيّة الموجبة الجزئيّة ، فيثبت للفقير العادل وجوب إكرام ، وأمّا غيره فمسكوت عنه سلبا وإيجابا.

ومنشأ ذلك أنّ وجوب الإكرام قد حصّص إلى حصص متعدّدة وإحدى هذه الحصص هي وجوب إكرام الفقير العادل ؛ لأنّ كلّ نسبة تقييديّة من هذه النسب هي نسبة ناقصة ، والنسبة الناقصة توجب التحصيص ، فينتج من المجموع نسبة تقييديّة محصّصة بحصّة خاصّة.

والحاصل : أنّ هذا الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف أي بين وجوب إكرام الفقير وبين العادل مفاده كون هذا الوجوب الثابت هو حصّة خاصّة من الوجوب لا مطلق الوجوب ؛ لأنّ الوصف يفيد التحصيص ، فالثابت هو شخص الحكم والمنتفي هو شخص الحكم أيضا لا الطبيعي.

ص: 61

إذ لا يمكن جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد الهيئة ( أكرم ) ؛ وذلك لأنّه إن أريد من الإطلاق لمفاد الهيئة الإطلاق الأحوالي ، فمن الواضح أنّ الوجوب لا يثبت في كلّ الحالات ، بل في خصوص الفقير العادل تبعا لتقيّد الحكم بموضوعه والموضوع بوصفه ، وإن أريد من الإطلاق الإطلاق الأفرادي أي كلّ أفراد الوجوب حتّى الوجوب الثابت لغير الفقير ولغير العادل فهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الوجوب هنا مقيّد بالفقير تبعا لتقييد الإكرام بالفقير.

وبهذا يتّضح أنّه لا يمكن جريان الإطلاق ؛ لأنّ الوجوب مقيّد ومع وجود القيد لا يجري الإطلاق ، ولذلك فلا مفهوم للجملة الوصفيّة.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي ، فبالإمكان أن نضيف إلى ذلك أيضا منع دلالة الجملة الوصفيّة على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي ، وسلكنا المسلك المختار من أنّ إثبات المفهوم يتوقّف على ركنين أحدهما إثبات التوقّف ، والآخر إثبات أنّ المعلّق هو الطبيعي ، والثاني قد اتّضح ممّا سبق عدم تماميّته ، ونضيف إلى ذلك أنّ الركن الأوّل أيضا وهو التوقّف الموجب للانتفاء عند الانتفاء غير موجود أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّ الجملة الوصفيّة كقولنا : ( أكرم الفقير العادل ) لا بدّ من البحث فيها لإثبات ما يدلّ على التوقّف ، سواء بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الاسمي ، وسيتّضح عدم وجود شيء في الجملة

الوصفيّة يصلح لإثبات التوقّف أصلا ، وبيان ذلك :

فإنّ ربط مفاد ( أكرم ) بالوصف إنّما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديّتين ؛ لأنّ مفاد هيئة الأمر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل ، وهي مرتبطة بنسبة ناقصة تقييديّة بالفقير ، وهذا مرتبط بنسبة ناقصة تقييديّة بالعادل ، ولا يوجد ما يدلّ على التوقّف والالتصاق لا بنحو المعنى الاسمي ولا بنحو المعنى الحرفي.

إنّ قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) تحتوي على عدّة نسب تقييديّة ، وهي :

1 - نسبة تقييديّة بين الحكم والمادّة ، أي بين الوجوب والإكرام.

2 - نسبة تقييديّة بين وجوب الإكرام وبين الفقير.

ص: 62

3 - نسبة تقييديّة بين الفقير والعادل.

4 - نسبة تقييديّة بين وجوب إكرام الفقير وبين العادل.

والنسبة التقييديّة الأخيرة بين الوجوب والوصف إنّما تثبت بتوسّط نسبتين تقييديّتين ناقصتين هما النسبة التقييديّة بين الوجوب والإكرام ؛ لأنّ الوجوب منصبّ على الإكرام الذي هو الفعل ، وهذا بدوره - أي الإكرام - مرتبط بالفقير بنسبة تقييديّة ناقصة ؛ لأنّه موضوع الحكم.

والفقير أيضا مرتبط بالعادل ارتباط الوصف بموصوفه ، فينتج نسبة تقييديّة بين الوجوب والوصف على هذا الأساس.

وإذا لاحظنا هذه النسب التقييديّة لم نجد فيها نسبة تدلّ على مفهوم التوقّف والالتصاق بما هو معنى حرفي ، وإذا لاحظنا أطراف النسب أيضا لم نجد فيها مدلولا اسميّا يدلّ على التوقّف أيضا ؛ إذ لا يوجد في الجملة الوصفيّة أداة أو هيئة تدلّ على التوقّف والالتصاق. إذا فالركن الأوّل منتف.

فالصحيح : أنّ الجملة الوصفيّة ليس لها مفهوم. نعم ، لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة وفقا لما نبّهنا عليه في الحلقة السابقة (1).

وبهذا ظهر أنّ الجملة الوصفيّة لا مفهوم لها ، إذ لا يوجد فيها ما يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء بنحو التوقّف والالتصاق ، فضلا عن كون المعلّق ليس هو الطبيعي ، بل شخص الحكم لعدم جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الحكم ؛ لأنّها مقيّدة بحسب الفرض بحصّة خاصّة.

نعم ، الجملة الوصفيّة تدلّ على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف ، فإذا لم يكن الفقير عادلا فلا يجب إكرامه بشخص هذا الوجوب ، وهذا لا يمنع من وجوب إكرام الفقير من جهة وحيثيّة أخرى ككونه عالما مثلا ، وبهذا تكون الجملة الوصفيّة دالّة على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة ، والمفهوم إنّما يثبت إذا كان الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الكلّيّة أي انتفاء الطبيعي.

ص: 63


1- في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : مفهوم الوصف.

ص: 64

مفهوم الغاية

ص: 65

ص: 66

مفهوم الغاية

ومن الجمل التي وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية ، من قبيل قولنا : ( صم إلى الليل ) ، فيبحث عن دلالتها على انتفاء طبيعي وجوب الصوم بتحقّق الغاية.

من الجمل التي يبحث حول ثبوت المفهوم لها جملة الغاية ، كقولنا : ( صم إلى الليل ) ، فإنّ الليل غاية للصوم بحيث إذا دخل الليل تتحقّق الغاية ، ويرتفع وجوب الصوم ؛ لأنّ المغيى وهو وجوب الصوم لا يدخل في الغاية وهو دخول الليل.

وكقوله علیه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (1) وقوله علیه السلام : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (2).

فيبحث هنا في أنّ المنتفي بعد تحقّق الغاية هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم ، أي بعد تحقّق الليل في المثال المذكور هل ينتفي طبيعي وجوب الصوم فلا صوم أصلا في الشريعة بعد دخول الليل ، أو أنّ المنتفي بعد دخول الليل شخص الحكم بحيث يمكن أن نفترض وجوبا آخر للصوم بعد دخول الليل أيضا؟

ولا شكّ هنا في دلالة الجملة على الربط بالنحو الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ معنى الغاية يستبطن ذلك ، فمسلك المحقّق العراقي في جملة الغاية واضح الصواب. ومن هنا يتّجه البحث إلى أنّ المغيّى هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم المجعول والمدلول لذلك الخطاب؟ فعلى الأوّل يثبت المفهوم ، دونه على الثاني.

ص: 67


1- الكافي 5 : 313 / 39 ، باب المملوك يباع وله مال. من لا يحضره الفقيه 3 : 341 / 4208.
2- تهذيب الأحكام 1 : 285 / 832.

لا شكّ في أنّ جمل الغاية تدلّ على الربط المخصوص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، إمّا بنحو التوقّف أو بنحو العلّيّة ؛ وذلك لأنّ معنى الغاية في اللغة هو انتهاء الحكم المثبت في المغيّى.

ففي قولنا : ( صم إلى الليل ) تدلّ الغاية على أنّ وجوب الصوم ينتهي عند حلول الليل ، وهذا تعبير آخر عن كون وجوب الصوم متوقّف على الليل ، فإذا كان هناك ليل فلا وجوب للصوم ، وإن لم يكن الليل بل كان النهار موجودا فالصوم ثابت ووجوبه متحقّق.

فمفهوم الانتهاء يدلّ بالالتزام أو بالتضمّن على التوقّف أو على العلّيّة عند المشهور. فالركن الأوّل متحقّق وثابت.

يبقى الكلام في الركن الثاني وهو أنّ المنتفي بعد دخول الليل وتحقّق الغاية هل هو طبيعي الحكم فلا وجوب أصلا للصوم بعد تحقّق الليل ، أو أنّ المنتفي هو شخص الحكم بمعنى أنّ هذا الوجوب منتف وأمّا وجوب آخر للصوم حتّى بعد دخول الليل فهذا مسكوت عنه قد يثبت وقد لا يثبت؟

ولذلك فمسلك المحقّق العراقي تامّ هنا ، بمعنى أنّه في جمل الغاية لا إشكال في ثبوت الركن الأوّل وهو الانتفاء عند الانتفاء ، وإنّما الكلام في الركن الثاني فقط ، فهل يمكننا إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في جملة الغاية بلحاظ الهيئة الدالّة على الحكم أو لا يمكننا ذلك؟ (1).

ص: 68


1- وقد أجاب المحقّق العراقي عن ذلك بأنّ الغاية إن رجعت إلى النسبة الحكميّة فلا إشكال في جريان الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات أنّ المعلّق هو الطبيعي فيثبت للجملة مفهوم ، بخلاف ما إذا كانت الغاية راجعة للحكم أو للموضوع فلا تجري قرينة الحكمة فلا يثبت المفهوم ، ثمّ استظهر أنّ جمل الغاية كلّها ترجع الغاية فيها إلى النسبة الحكميّة ، ولذلك فيثبت لها المفهوم عنده. 1 - أن تكون الغاية راجعة للموضوع ، كقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فهنا إلى المرافق غاية للموضوع أي ( الأيدي ). 2 - أن تكون الغاية راجعة للحكم ، كقولنا : ( الصوم واجب إلى الليل ) فإلى الليل هنا غاية للحكم وهو الوجوب. 3 - أن تكون الغاية راجعة لمتعلّق الحكم ، كقولنا : ( صم إلى الليل ) فإلى الليل هنا غاية للصوم الذي هو متعلّق للوجوب. 4 - أن تكون الغاية راجعة للنسبة الحكميّة كقولنا : ( أكرم زيدا إلى أن يقدم الحاج ) فالغاية هنا راجعة إلى النسبة الوجوبيّة المدلول عليها من هيئة الجزاء في ( أكرم ) فإنّه يدلّ على النسبة ، فيكون المراد ( وجوب إكرام زيد مغيّا بقدوم الحاجّ ). وهذا النحو الأخير هو الذي استظهره المحقّق العراقي في كلّ الجمل الشرطيّة. وأمّا المحقّق النائيني ومدرسته فذهب إلى التفصيل بين هذه الأنحاء الأربعة ، بالشكل التالي : إذا كانت الغاية راجعة لمتعلّق الحكم أو للموضوع فلا مفهوم. إذا كانت الغاية راجعة للنسبة الحكميّة فيثبت المفهوم. إذا كانت الغاية راجعة للحكم فقال الميرزا بعدم ثبوت المفهوم وقالت مدرسته بثبوته.

ولتوضيح المسألة : يمكننا أن نحوّل الغاية من مفهوم حرفي مفاد بمثل ( حتّى ) أو ( إلى ) إلى مفهوم اسمي مفاد بنفس لفظ ( الغاية ) ، فنقول : تارة ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ، ونقول أخرى : ( جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب ).

والتحقيق أن يقال : إنّ جمل الغاية تدلّ على الغاية فيها بعض الحروف الموضوعة لغة للغاية ، ككلمتي ( إلى ) و ( حتّى ) فإذا قلنا : ( صم إلى الليل ) كانت الجملة دالّة على الغاية بنحو المعنى الحرفي ، وكلّ معنى حرفي يوازيه معنى اسمي ، فإذا أردنا أن نعبّر عن هذا المعنى الاسمي الموازي للمعنى الحرفي وجدنا أنّه بالإمكان التعبير عنه بأحد تعبيرين هما :

1 - وجوب الصوم مغيّا بدخول الليل.

2 - جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بدخول الليل.

فعلى الأوّل يثبت للجملة مفهوم بخلافه على الثاني.

بيان ذلك :

وبالمقارنة بين هذين القولين نجد أنّ القول الأوّل يدلّ عرفا على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، لأنّ هذا هو مقتضى الإطلاق. فكما أنّ قولنا : ( الربا ممنوع ) يدلّ على أنّ طبيعي الربا ومطلقه ممنوع ، كذلك قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا ) يدلّ على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا ، فوجوب الصوم بمثابة الربا ، ( ومغيّا ) بمثابة ( ممنوع ) ، فتجري قرينة الحكمة على نحو واحد.

ص: 69

أمّا القول الأوّل : فهو يدلّ عرفا على أنّ المغيّى هو طبيعي الحكم لا شخصه ، لجريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه ، فإنّ هذه الجملة تتركّب من طرفين ، الأوّل قولنا : ( وجوب الصوم ) وهذا الطرف بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة يثبت كون الوجوب هو كلّي وطبيعي الوجوب ؛ لأنّ اسم الجنس المحلّى ب- ( اللام ) أو المضاف إلى المحلّى ب- ( اللام ) يجري فيه الإطلاق لإثبات العموم والاستغراق ، كما تقدّم.

فيكون المقصود أنّ كلّي وطبيعي وجوب الصوم مغيّا بدخول الليل وليس المغيّى شخص هذا الوجوب فقط ، فهو على وزان قولنا : ( أحلّ اللّه البيع ) أي كلّ بيع بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في البيع الذي هو اسم جنس.

وكقولنا : ( الربا ممنوع ) فإنّ هذه الجملة لها طرفان ، الأوّل وهو ( الربا ) يجري فيه الإطلاق لإثبات كونه مطلق الربا لا ربا مخصوصا ، والآخر ممنوع وهو حكم ، فوجوب الصوم بمنزلة الربا ؛ لأنّ كلاّ منهما وقع موضوعا لحكم ، وكلّ واحد منهما اسم جنس محلّى ب- ( اللام ) ، فيجري الإطلاق وقرينة الحكمة فيهما على حدّ واحد ، فيثبت أنّ الموضوع مطلق وشامل لكلّ الأفراد.

والدليل على ذلك هو الوجدان العرفي القاضي بعدم الفرق بين هذين النحوين ، والقاضي بالتعارض فيما لو ثبت هناك وجوب آخر للصوم حتّى بعد دخول الليل ، فإنّ التعارض بينهما دليل على أنّ المنتفي بعد دخول الليل إنّما هو كلّي وجوب الصوم لا وجوبا خاصّا منه.

ولذلك يكون لجمل الغاية مفهوم إذا رجعت الغاية فيها إلى هذا النحو من التعبير.

وأمّا القول الثاني فلا يدلّ على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، بل يدلّ على إصدار وجوب مغيّا بالغروب ، وهذا لا ينافي أنّه قد يصدر وجوب آخر غير مغيّا بالغروب ، فالقول الثاني إذن لا يثبت أكثر من كون الغروب غاية لذلك الوجوب الذي تحدّث عنه.

وأمّا القول الثاني : فهو لا يدلّ عرفا على أنّ الطبيعي هو المغيّى بالغروب ؛ لأنّ قولنا : ( جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب ) مشتمل على نسب تقييديّة ناقصة وهي :

ص: 70

1 - وجوب الصوم ، أي أنّ الشارع أنشأ وجعل الوجوب على هذه المادّة التي هي الصوم.

2 - الصوم المغيّى ، أي أنّ هذا الصوم متّصف بكونه مغيّا.

3 - المغيّى بالغروب ، وهذه الغاية هي الغروب.

وينتج من ذلك أنّ الصوم المغيّى بالغروب قد شرّعه الشارع وجعله واجبا.

وهذا لا ينافي أن يصدر من الشارع تشريعا آخر لصوم غير مغيّا بالغروب ويجعله واجبا ، فلا منافاة بين الدليلين لو صدرا من الشارع ؛ لأنّ كلاّ منهما يتحدّث عن وجوب للصوم غير الآخر وعن صوم غير الآخر ، فلا تعارض بينهما ، بل يكون كلّ منهما موجبة جزئيّة فقط ، والمنتفي في كلّ منهما إنّما هو شخص الحكم المبرز والمجعول لا مطلق الحكم والوجوب.

وبهذا يظهر أنّ القول الثاني لا يمكن أن يثبت المفهوم لجملة الغاية ؛ لأنّه لا يثبت أكثر من كون الغروب ودخول الليل قد جعل غاية لذاك الوجوب الذي جعله الشارع والذي هو وجوب مقيّد لا مطلق ، ولأجل ذلك فلا يمكن جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه ؛ لأنّ الوجوب المرتبط بالغاية إنّما يرتبط بها عن طريق نسبتين ناقصتين تقييديّتين هما : ( وجوب الصوم ) و ( الصوم المغيّى ) ، فيكون هناك حصّة خاصّة من الوجوب كما هو مقتضى التحصيص المستفاد من الجملة الوصفيّة الناقصة.

فإذا اتّضح هذا يتبيّن أنّ إثبات مفهوم الغاية في المقام وأنّ المغيّى هو طبيعي الحكم ، يتوقّف على أن تكون جملة ( صم إلى الليل ) في قوّة قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ، لا في قوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب ).

فإذا أردنا أن نثبت أنّ للغاية مفهوما يجب أن نستظهر من جمل الغاية أنّ المغيى فيها هو طبيعي الحكم لا شخصه ، وهذا الاستظهار يتوقّف على إثبات أن تكون جملة الغاية في قوّة القول الأوّل لا القول الثاني.

فجملة ( صم إلى الليل ) لكي يكون لها مفهوم يجب أن تكون في قوّة قولنا :

( وجوب الصوم مغيّا بالليل ) فحينئذ يكون للجملة مفهوم ؛ لأنّ المعلّق عليه هو طبيعي الحكم بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه لأنّه اسم جنس محلّى ب- ( اللام ).

وأمّا إذا كانت هذه الجملة بقوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالليل ) فلا

ص: 71

يستفاد منها أنّ المغيّى هو الطبيعي ، ولا يجري الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات ذلك ، وبالتالي لا يكون للجملة مفهوم ؛ لأنّ الوجوب هنا مقيّد بالصوم المغيّى ، أي بحصّة خاصّة من الصوم وهو هذا الصوم المغيّى بالغروب ، وأنّ الشارع قد جعله واجبا.

وهذا لا ينفي ولا يعارض أن يجعل الشارع وجوبا آخر لصوم غير مغيّا بالغروب ، كأن يجعل وجوبا للصوم المغيّى بالزوال أو بعد منتصف الليل ، وهكذا.

ولا شكّ في أنّ الجملة المذكورة في قوّة القول الثاني لا الأوّل ؛ إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلا وإبرازه بذلك الخطاب ، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الأوّل ، فلا مفهوم للغاية إذا ، وإنّما تدلّ على انتفاء شخص الحكم كما تدلّ على السالبة الجزئيّة التي كان الوصف يدلّ عليها أيضا كما تقدّم.

والصحيح : أنّ الجملة المذكورة في قوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب ) لا في قوّة قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ؛ وذلك لأنّه يستفاد من قولنا : ( صم إلى الليل ) جعل وإنشاء حكم فعلي بوجوب الصوم إلى الليل.

وهذا الحكم الفعلي يبرز إلى المكلّف من خلال هذا الدليل الكاشف عن كون هذا الوجوب مجعولا ثبوتا من الشارع ، وهذا يتناسب مع القول الثاني لا الأوّل ، فلا مفهوم للغاية إذا ؛ لأنّه فرع كون المغيّى هو الطبيعي.

وفي النسب الناقصة كما هنا لا يمكن إثبات أنّ المغيّى هو الطبيعي ؛ لأنّ النسب الناقصة وخصوصا النسبة التقييديّة تفيد حصّة خاصّة فقط.

نعم ، تدلّ جملة الغاية على انتفاء شخص الحكم بعد تحقّق الغاية ، فلا يجب الصوم بعد دخول الليل ، بمعنى أنّ هذا الوجوب للصوم يرتفع وينتفي بنحو السالبة الجزئيّة ، وهو لا يمنع من الموجبة الجزئيّة بأن يكون هناك وجوب للصوم إلى ما بعد الغروب أيضا ، إذا لا تنافي بين الجزئيّتين السالبة والموجبة مع اختلاف الجهة فيهما.

* * *

ص: 72

مفهوم الاستثناء

ص: 73

ص: 74

مفهوم الاستثناء

ونفس ما تقدّم في الغاية يصدق على الاستثناء ، فإنّه لا شكّ في دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى ، ولكنّ المهمّ تحقيق أنّ المنفي عن المستثنى بدلالة أداة الاستثناء هل هو طبيعي الحكم أو شخص ذلك الحكم؟

جملة الاستثناء ، كقولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) ، والاستثناء لغة يدلّ على إخراج شيء عن الحكم الثابت في المستثنى منه ، وهذا معناه أنّ الفسّاق لا يشملهم الحكم بوجوب الإكرام ، فهي تستبطن الدلالة على التوقّف ؛ لأنّ الوجوب متوقّف على غير الفسّاق.

ولذلك فهي تدلّ على الربط المخصوص الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، فيكون مسلك المحقّق العراقي تامّا هنا أيضا ، بمعنى أنّ البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن إثبات أنّ المنتفي هو الطبيعي أو لا يمكن ذلك بعد الفراغ من كونها تفيد انتفاء شخص الحكم عن المستثنى تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود؟

والشاهد على أنّها تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء هو التعارض عرفا بين قولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) وبين قولنا : ( أكرم الفسّاق ).

والاستثناء كالغاية له حالات أربع أيضا :

1 - أن يكون الاستثناء راجعا للمتعلّق ، كقولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) فهنا الاستثناء من وجوب الإكرام ، وكقولنا : ( لا تصدّق إلا الثقة ).

2 - أن يكون الاستثناء راجعا للموضوع ، كقوله تعالى : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ) فهنا الاستثناء للمرأة من أحد ، وكذا قولنا ( أكرم العالم غير الفاسق ).

3 - أن يكون الاستثناء راجعا للحكم كقولنا : ( إكرام الفقراء واجب إلا الفسّاق ) فالاستثناء من الوجوب.

ص: 75

4 - أن يكون الاستثناء راجعا للنسبة ، كقولنا : ( أكرم العلماء إلا أن يفسق أحدهم ) أي أنّ وجوب إكرام العلماء يستثنى منه فسق أحدهم.

وهنا أيضا لو حوّلنا الاستثناء في قولنا : ( يجب إكرام الفقراء إلا الفسّاق ) إلى مفهوم اسمي لوجدنا أنّ بالإمكان أن نقول تارة : ( وجوب إكرام الفقراء يستثنى منه الفسّاق ) ، وأن نقول أخرى : ( جعل الشارع وجوبا لإكرام الفقراء مستثنى منه الفسّاق ) ، والقول الأوّل يدلّ على الاستثناء من الطبيعي ، والقول الثاني يدلّ على الاستثناء من شخص الحكم.

ولأجل معرفة أنّ للجملة مفهوما نحوّل الجملة من دلالتها على الاستثناء بنحو المعنى الحرفي إلى الاستثناء بنحو المعنى الاسمي ، فإنّ كلّ حرف يوازيه اسم ، فكلمة ( إلا ) ونحوها من الأدوات الدالّة على الاستثناء ( ما عدا ، ما خلا ، حاشا ، سوى وغير ) يوازيها معنى اسمي يدلّ على الاستثناء ، وهو نفس مفهوم الاستثناء ، ولذلك نجد أنّه بالإمكان التعبير عن هذا المعنى الاسمي بأحد نحوين :

1 - أن نقول بدل قولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) ( وجوب إكرام الفقراء مستثنى منه الفساق ).

2 - أن نقول بدلا عن الجملة المذكورة ( جعل الشارع وجوبا لإكرام الفقراء مستثنى منه الفسّاق ).

وبالمقارنة بين هذين النحوين نجد أنّ النحو الأوّل منهما يدلّ على المفهوم ؛ وذلك لإمكان جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في موضوع الحمليّة وهو ( وجوب إكرام الفقراء ) ، فإنّه على وزان قولنا : ( الربا ) في جملة : ( الربا حرام ) ، أي أنّه اسم جنس محلّى ب- ( اللام ) أو مضاف للمحلّى ب- ( اللام ) ، فيجري فيه الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات العموم والاستغراق لكلّ الأفراد ، فيكون الاستثناء راجعا إلى طبيعي الوجوب ، أي أنّ الفسّاق استثني طبيعي وجوب إكرامهم فلا إكرام لهم أبدا.

بينما النحو الثاني لا يدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الجملة لا تدلّ على أكثر من أنّ هناك وجوبا مجعولا من الشارع على الفقراء المستثنى منهم الفسّاق ، وهذا لا يمنع من وجود وجوب آخر لا يستثنى منه الفسّاق ، أي أنّ المنتفي والمستثنى هو شخص الحكم لا الطبيعي.

ص: 76

ولا يمكن هنا إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الوجوب في هذه الجملة مقيّد بحصّة خاصّة من الفقراء وهم الفقراء المستثنى منهم الفسّاق ، فإنّ تقيّد الفقراء بالفسّاق عبارة عن نسبة تقييديّة ناقصة وهي تقيّد التحصيص.

فهناك إذا حصّة خاصّة من الوجوب جعلها الشارع ، وهذا لا ينفي ولا يعارض بقيّة الحصص ؛ لأنّ الجزئيّة الموجبة لا تعارض الجزئيّة السالبة مع اختلاف الجهة فيهما.

وبهذا يتّضح أنّ جملة الاستثناء إن رجعت إلى النحو الأوّل كان لها مفهوم ، وإلا فلا ، ولذلك نقول :

فإن رجعت الجملة الاستثنائيّة إلى مفاد القول الأوّل كان لها مفهوم ، وإن رجعت إلى مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم ، وهذا هو الأصحّ كما مرّ في الغاية.

والصحيح هو أنّ جملة الاستثناء ترجع إلى النحو الثاني لا الأوّل ، ولذلك فلا مفهوم لها (1).

ص: 77


1- إلا أنّه في تقريرات بحثه أثبت المفهوم للجملة الاستثنائيّة فيما إذا كان الاستثناء راجعا للحكم كقولنا : ( أكرم العلماء إلا الفسّاق ) أو ( لا تصدّق أحدا إلا الثقة ) ؛ لأنّ الاستثناء يدلّ على الاقتطاع وهو لا يكون إلا في النسب التامّة ، وهذا يعني تماميّة النسبة في قولنا : ( أكرم العلماء ) أو ( لا تصدّق أحدا ) ، وبالتالي يجري الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الحكم لإثبات أنّه الطبيعي لا الشخصي. والوجدان يشهد لذلك ، فإنّ العرف يرى أنّ القائل : ( الإنسان أسود إلا الزنجي ) قد كذب مرّتين لا مرّة واحدة ، وليس ذلك إلا لثبوت المفهوم للجملة وإلا لم يكن كاذبا إلا مرّة واحدة فقط. وأمّا في الجملة الاستثنائيّة المنفية فلا تحتاج إلى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ نفي الطبيعة لا يكون إلا بتمام أفرادها كما تقدّم سابقا.

ص: 78

مفهوم الحصر

ص: 79

ص: 80

مفهوم الحصر

لا شكّ في أنّ كلّ جملة تدلّ على حصر حكم بموضوع تدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الحصر يستبطن انتفاء الحكم المحصور عن غير الموضوع المحصور به.

الجملة الحصرية ، كقولنا : ( إنّما العالم زيد ) ، وكقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) ، وقولنا : ( العالم زيد ).

والحصر لغة يدلّ على كلا الركنين في المفهوم ، أي على التوقّف وعلى أنّ المحصور هو طبيعي الحكم لا شخصه ، ولذلك كان مفهوم الحصر أقوى المفاهيم ؛ لأنّ دلالته عليه بكلا ركنيه وضعيّة ، فلا نحتاج إلى قرينة خارجيّة أصلا.

ومعنى الحصر إفادة تأكيد الربط الحاصل والموجود في الجملة قبل دخول أداة الحصر عليها ، فقولنا مثلا : ( زيد عالم ) هناك ربط بين زيد والعلم إلا أنّه لا ينفي العلم عن غيره ، فإذا دخلت أداة الحصر فصارت الجملة : ( إنّما العالم زيد ) أفادت معنى جديدا لم يكن موجودا في الجملة وهو أنّ هذا الربط بين العلم وزيد بنحو الحصر ، أي أنّه العلم محصور على زيد ومتوقّف ثبوته على زيد ولا يوجد إلا معه ، فإذا انتفى زيد انتفى العلم ، فالربط الخاصّ متحقّق إذا.

والحصر بنفسه قرينة على أنّ المحصور طبيعي الحكم لا حكم ذلك الموضوع بالخصوص ، إذ لا معنى لحصره حينئذ ؛ لأنّ حكم الموضوع الخاصّ مختصّ بموضوعه دائما. وما دام المحصور هو الطبيعي فمقتضى ذلك ثبوت المفهوم ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وأمّا الركن الثاني وهو أنّ المحصور هو طبيعي الحكم فهذا مستفاد من أداة الحصر أيضا ؛ لأنّ شخص الحكم محصور بموضوعه ومختصّ به دائما تبعا للعلاقة بين الحكم وموضوعه.

ص: 81

فقولنا : ( يجب إكرام زيد ) يفيد أنّ هناك وجوبا خاصّا بإكرام زيد ومحصور به ولا ينطبق على غيره ؛ لأنّ الخاصّ لا ينطبق إلا على نفسه. فإذا دخلت أداة الحصر ( إنّما يجب إكرام زيد ) دلّت على أنّ الحكم المحصور هو طبيعي الوجوب لا شخصه ؛ لأنّ شخصه محصور في رتبة سابقة فلا معنى لحصره من جديد ، بل لا يكون لأداة الحصر فائدة أصلا من حصر شخص الحكم إلا التأكيد الذي هو خلاف الظاهر من وضع أدوات الحصر في اللغة ؛ لأنّ الأصل فيه أنّه موضوع لمعنى جديد. وبذلك يثبت الركن الثاني أيضا.

والنتيجة ثبوت المفهوم لجملة الحصر بلا إشكال منهم.

وإنّما الكلام في تعيين أدوات الحصر ، فمن جملة أدواته كلمة ( إنّما ) ، فإنّها تدلّ على الحصر وضعا بالتبادر العرفي.

نعم ، وقع الخلاف بينهم في تعيين أدوات الحصر ، ومن جملة هذه الأدوات التي وقع النزاع فيها كلمة ( إنّما ).

فقال الشيخ الأنصاري بعدم دلالتها على الحصر ؛ لأنّ موارد استعمالها مختلفة ، ولا يوجد في الفارسيّة مرادف لها ليعرف ما هو المتبادر منها.

وأجابه في ( الكفاية ) بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللغة والعرف ، والعرف اللغوي والمتبادر أنّ هذه الكلمة تدلّ على الحصر. ولذلك قال السيّد الشهيد بأنّ التبادر العرفي من هذه الكلمة هو الحصر.

ومن أدواته جعل العامّ موضوعا مع تعريفه والخاصّ محمولا ، فيقال : ( ابنك هو محمّد ) بدلا عن أن نقول : ( محمّد هو ابنك ) ، فإنّه يدلّ عرفا على حصر البنوّة بمحمّد ، والنكتة في ذلك أنّ المحمول يجب أن يصدق بحسب ظاهر القضيّة على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، ولا يتأتّى ذلك في فرض حمل الخاصّ على العامّ إلا بافتراض انحصار العام بالخاصّ.

ومن الأدوات التي وقع النزاع فيها كون العامّ المعرّف هو الموضوع وكون الخاصّ هو المحمول ، كقولنا : ( العالم هو زيد ) و ( ابنك هو محمّد ) ، فإنّ الأصل في هاتين الجملتين هو ( زيد هو العالم ) و ( محمّد هو ابنك ).

ولا إشكال في دلالة هذا السياق على الحصر للتبادر وللفهم العرفي ، حيث يفهم

ص: 82

من الجملة الأولى حصر العالميّة بزيد ، ومن الثانية حصر البنوّة بمحمّد ، فلا عالم غير زيد ، ولا ابن غير محمّد.

والسرّ في ذلك أنّه في القضيّة الحمليّة يجب أن يصدق المحمول على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، فقولنا : الإنسان ضاحك أو الإنسان ماش أو الإنسان حيوان ناطق يجب أن يصدق المحمول الذي هو حكم على تمام أفراد الموضوع سواء كان الصدق بينهما في المفهوم والمصداق أو في المصداق فقط.

وفي مقامنا : ( ابنك هو محمّد ) يجب أن يصدق محمّد على تمام أفراد الابن ليتمّ الحمل ويكون صحيحا ، وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا لم يكن هناك ابن آخر سوى محمّد ، فحينئذ يكون محمّد صادقا على تمام ما يصدق عليه الابن ، وهذا هو الحصر ، أي أنّ كلّ أفراد البنوّة ينطبق عليها محمّد وهذا معناه أنّه لا ابن غيره. فيكون العامّ وهو الابن منحصرا بالخاصّ ليتمّ صدق الخاصّ على تمام أفراد العام (1).

ص: 83


1- وخالف في ذلك بعض ، كصاحب ( الكفاية ) حيث ادّعى بعدم كفاية ذلك لإفادة الحصر ، بل لا بدّ من قرينة خاصّة على ذلك. ومن الجمل التي وقع النزاع فيها العدد واللقب ، ولا شكّ في عدم المفهوم لهما ولا كلام فيهما زائدا عمّا تقدّم.

ص: 84

تحديد دلالات الدليل الشرعي

اشارة

ص: 85

ص: 86

الدليل الشرعي غير اللفظي

اشارة

الدليل الشرعي غير اللفظي يشتمل على الفعل والتقرير ، فيقع البحث في كلّ منهما.

والدليل الشرعي غير اللفظي هو كلّ ما يصدر عن المعصوم علیه السلام ممّا ليس من نوع الكلام ، ويكون له دلالة على الحكم الشرعي باعتباره موقفا من المعصوم علیه السلام .

وهذا يشمل نحوين : فتارة يقوم المعصوم بفعل ما يكون دالا على حكم شرعي ، وأخرى يسكت عن فعل تمّ بمحضره أو سمع بفعل فسكت عنه ، فهذا يسمّى بالتقرير والإمضاء لهذا الفعل ، وسوف نبحث عن كلا القسمين :

دلالات الفعل :

تقدّم منّا في الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل أو الترك ، وأنّه إن اقترن بقرينة فيتحدّد مدلوله على أساس تلك القرينة ، وإن وقع مجرّدا كان له بعض الدلالات من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم حرمته ، ودلالة تركه على عدم وجوبه ، ودلالة الإتيان به على وجه عبادي على مطلوبيّته ، إلى غير ذلك.

تقدّم فى الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل والترك ، وهناك قلنا : إنّه توجد حالتان لذلك :

فتارة يقترن فعل أو ترك المعصوم بقرينة حاليّة أو مقاليّة سابقة أو لاحقة تفيد بأنّ هذا الفعل مختصّ بالمعصوم ، كما في تعدّد الزوجات أكثر من أربعة أو وجوب التهجّد بالليل أو جواز الزواج بهبة المرأة نفسها ، ونحو ذلك ممّا علم اختصاصه به.

ص: 87

وقد تكون القرينة دالّة على أنّ فعله هذا إرشادي وتعليمي فيؤخذ به أيضا ، كالدليل اللفظي من قبيل ما ورد عنه في أمر الحجّ كقوله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : « خذوا مناسككم عنّي » أو « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » فهذا قرينة على أنّ فعله ليس مختصّا به ، وأنّه لأجل التعليم والإرشاد ويجب الأخذ والعمل به.

وأخرى لا تكون هناك قرائن من هذا القبيل لتعيّن الوجه الذي وقع عليه الفعل هل هو من الأمور المختصّة به أو هو من الأمور التي يجب الأخذ والاقتداء به فيها؟ فهنا لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن من فعله وهو :

إن كان هناك فعل فيدلّ فعله على عدم الحرمة ؛ لأنّ المعصوم لا يفعل الحرام. وإن كان هناك ترك دلّ تركه على عدم وجوبه ؛ لأنّ المعصوم لا يترك الواجب. وإن كان لهذا الفعل أو الترك وجه عبادي بأن كان لا يتأتّى هذا الفعل أو الترك إلا من قبل الشارع فيستفاد كون الفعل مطلوبا وراجحا ، وكون الترك مرجوحا خصوصا إذا تكرّر منه ذلك بنفس الظروف.

وقد يقال أكثر من ذلك بأن يكون فعله دالا على الاستحباب لا على مجرّد الجواز فقط ، وأن يكون تركه دالا على الكراهة لا على مجرّد عدم الحرمة ، بناء على أنّ المعصوم لا يفعل المكروه ولا يترك الأولى ، خاصّة إذا كان الفعل عباديّا ، كالصلاة مثلا.

إلا أنّ الحكم المستكشف من الفعل لا يمكن تعميمه لكلّ الحالات ؛ لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، وإنّما يثبت ذلك الحكم في كلّ حالة مماثلة لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل كونها مؤثّرة في ثبوت ذلك الحكم ، على ما مرّ سابقا (1).

ثمّ إنّ فعل المعصوم الكاشف عن الحكم الشرعي بطريق الإنّ ، حيث إنّ فعله معلول للحكم الشرعي ، لا يمكن تعميمه وإطلاقه لكلّ الحالات والظروف حتّى تلك التي لم تكن موجودة حين فعله أو تركه ؛ وذلك لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، حيث إنّ الإطلاق والعموم من شئون الألفاظ والفعل ليس لفظا ؛ ليجري فيه الإطلاق أو ليثبت كونه عامّا.

ص: 88


1- الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : دلالة الفعل.

وعليه ، فإذا كانت هناك حالة مختلفة عن الحالات التي وقع فيها الفعل ، أو احتمل وجود ظروف لها مدخليّة في فعله ، فلا يمكن إسراء الحكم المستكشف من هذا الفعل إلى تلك الحالات التي لا توجد فيها تلك الظروف التي يحتمل مدخليّتها في الفعل ، وإنّما يقتصر في دلالة الفعل على ذاك الحكم فيما إذا كان هناك ظروف مشابهة لظروف المعصوم ؛ لأنّها القدر المتيقّن ، بحيث يعلم أنّ هذه الظروف هي المؤثّرة في صدور الفعل منه.

وبهذا يظهر أنّ تعميم الحكم المستكشف من الفعل يشترط فيه إحراز تلك الظروف التي كانت موجودة حين صدوره منه ، وأمّا غيرها من الحالات والظروف فلا يمكن تعدية هذا الحكم لها ، إذ لا دليل على ذلك (1).

دلالات التقرير :

سكوت المعصوم عن موقف يواجهه يدلّ على إمضائه : إمّا على أساس عقلي باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف متّفقا مع غرضه لكان سكوته نقضا للغرض ، أو باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف سائغا شرعا لوجب على المعصوم الردع عنه والتنبيه عليه.

وإمّا على أساس استظهاري باعتبار ظهور حال المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.

إذا سكت المعصوم عن موقف جرى بمرأى وبمسمع منه فإنّ سكوته هذا يدلّ على إمضائه ، وذلك بإحدى النكات التالية :

الأولى : نقض الغرض ، فإنّ هذا الموقف الذي سكت عنه المعصوم إذا كان متّفقا مع غرضه فكان سكوته عنه حسنا عقلا ، وأمّا إن لم يكن متّفقا مع غرضه كمعصوم

ص: 89


1- وقد يقال : إنّ نفس مقام العصمة والنبوّة والإمامة ظرف وحالة من الحالات التي وقع الفعل فيها ، ولذلك فلا يمكن تعميم الحكم والعمل به حتّى وإن اتّحدت سائر الظروف المحتملة ؛ لأنّ مقام العصمة غير موجود عندنا. والجواب : أنّ هذه الشبهة واضحة الدفع ؛ لأنّ الآيات الدالّة على وجوب الاقتداء والتأسّي بالنبي والإمام تدلّ على وجوب العمل وفقا لما فعله المعصوم ، وهي بنفسها دالّة على إلغاء خصوصيّة هذا المقام وعدم اعتباره مانعا من التأسّي والاقتداء به.

فيكون السكوت عنه قبيحا عقلا ؛ لأنّه يكون قد نقض غرضه بنفسه والعاقل لا يقدم على ذلك ، إذا فالفعل المذكور ليس مخالفا لغرض المعصوم وإلا لردع عنه لو كان كذلك.

وغرض المعصوم هو أنّه بحكم عصمته فهو يهدف إلى إيجاد مجتمع صالح من خلال تعليمه وإرشاده وتوجيهه نحو الصواب والصراط القويم ، فهذا الفعل المسكوت عنه يجب أن يصبّ في هذا الطريق والغرض ، وإلا لكان المعصوم يسمح بعدم تحقّق غرضه ، وهذا ما يأباه مقام العصمة المفروض ، فيكون عدم الردع دالا عقلا على إمضائه وكونه مشروعا.

الثانية : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ المعصوم بوصفه مكلّفا كغيره من الناس يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا الموقف المسكوت عنه مصداقا للمعروف فيكون سكوته عنه جائزا وموافقا لتكليفه ، وأمّا إذا كان هذا الموقف منكرا فالسكوت عنه حرام ، بل يجب عليه النهي والردع عنه وقلعه من جذوره وبيان مفاسده وأضراره. فإذا سكت عنه كشف سكوته عن عدم كونه منكرا أو حراما أو غير مشروع ، وإلا لكان المعصوم مخلاّ بتكليفه وهذا يأباه مقام العصمة ، فالعقل يحكم بمشروعيّة هذا الموقف نتيجة لسكوت المعصوم عنه الكاشف عن حسنه شرعا.

وهذا طبعا يشترط فيه توفّر سائر الشروط والظروف للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتي من جملتها عدم التقيّة أيضا ، فإذا أحرز أنّ شروط الأمر والنهي لم تكن متحقّقة كما إذا كان في مورد التقيّة ونحوها لم يستكشف من سكوته كون هذا الموقف سائغا شرعا.

الثالثة : ظهور حال المعصوم ، فإنّ المعصوم هو المسئول عن تقويم الزيغ والاعوجاج وإيجاد الصلاح والاستقامة في المجتمع ، ولذلك فهو بحكم هذه المسئوليّة يقوم دائما بمراقبة المجتمع الإسلامي وتصحيح التصرّفات وتوجيهها نحو الخير والصلاح ، فإذا كان هذا الموقف غير منسجم مع هذا الشيء بأن كان يؤدّي بالمجتمع إلى الانحراف عن جادّة الصواب لكان الواجب يحتّم عليه تقويمهم وردعهم عن ذلك ، وبما أنّه سكت عنه فيستكشف من ظهور حاله بأنّه في مقام المراقبة والتوجيه أنّ هذا الموقف

ص: 90

ليس منافيا مع تلك الأمور التي يراقبها المعصوم ويصونها من الضياع والانحراف.

وهذا استظهار لحال المعصوم وهو لا يتوقّف على توفّر شروط الأمر والنهي.

والموقف قد يكون فرديّا ، وكثيرا ما يتمثّل في سلوك عامّ يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة ، ومن هنا كانت السيرة العقلائيّة دليلا على الحكم الشرعي ، ولكن لا بذاتها ، بل باعتبار تقرير الشارع لها وإمضائه المكتشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه ، وفي هذا المجال ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة.

ثمّ إنّ الموقف الذي يواجهه المعصوم على نحوين :

الأوّل : أن يواجه المعصوم موقفا فرديّا كأن يقوم شخص أو بعض الأشخاص بالقيام بفعل معيّن أو بترك فعل كذلك ، ومثل هذا الموقف يكون سكوت المعصوم عنه متحدّدا بظروف وشروط ومن ضمنها وجود خصوصيّة لهذا الشخص أو الأشخاص ، ولذلك يكون سكوته كاشفا عن الحكم الشرعي لهؤلاء لا لغيرهم ، إلا إذا اتّحدت الظروف معهم تماما وأحرز ذلك.

الثاني : أن يواجه المعصوم موقفا عامّا وهو الأكثر ، وهذا ما يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة ، بأن يكون للعقلاء جميعا موقف ما يعملون على أساسه ويتصرّفون من خلاله في مختلف النواحي والأغراض والشئون ، وهذا الموقف الذي هو سلوك عامّ للعقلاء إذا سكت المعصوم عنه ولم يردع دلّ سكوته على إمضائه ، وكونه مشروعا وجائزا ويصبّ في غرضه.

ولهذا كانت السيرة العقلائيّة كاشفة عن الحكم الشرعي لا بذاتها ونفسها ، بل بضمّ سكوت وإمضاء المعصوم وعدم ردعه عنها ، فإنّ مجرّد السيرة وبناء العقلاء على أمر لا يكون بنفسه موجبا لوجود حكم شرعا يصحّح عملهم ، بل العكس هو الصحيح. نعم مع سكوت المعصوم وعدم ردعه تكون سيرتهم كاشفة عن الحكم ، ولذلك لا بدّ من إحراز عدم ردع المعصوم عن هذه السيرة لتكون دالّة على الحكم الشرعي إنّا.

ثمّ إنّ هذه السيرة العقلائيّة تنقسم إلى قسمين.

أو بتعبير آخر : أنّ الموقف الذي يتّخذه العقلاء بشكل عامّ يكون على نوعين :

أحدهما : السيرة بلحاظ مرحلة الواقع ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن

ص: 91

باعتباره الموقف الذي ينبغي اتّخاذه واقعا في نظر العقلاء ، سواء كان مرتبطا بحكم تكليفي - كالسيرة على إناطة التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظيّا - أو بحكم وضعي ، كالسيرة على التملّك بالحيازة في المنقولات.

النوع الأوّل : السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة : والمقصود من ذلك أن يتّخذ العقلاء موقفا ما باعتباره أنّه الموقف الذي ينبغي للشارع اتّخاذه واقعا ، فيكون بناؤهم العقلائي على أنّ هذا الموقف الذي ساروا عليه وتبانوا واتّفقوا عليه بما هم عقلاء ينبغي أن يكون له نظير في الشريعة واقعا ، بأن يكون هناك حكم واقعي على طبق الموقف الذي اتّخذوه ، وهذا يمكن إثباته بلحاظ سكوت المعصوم وعدم ردعه عن موقفهم ، فمعناه أنّه يوجد حكم واقعي على طبقه.

ثمّ إنّ هذا الموقف تارة يكون بلحاظ حكم واقعي تكليفي ، وأخرى يكون بلحاظ حكم واقعي وضعي.

فإذا كان موقف العقلاء وسيرتهم على حلّيّة شيء ونحوها من الأحكام التكليفيّة كان موقفهم هذا بلحاظ الحكم الواقعي التكليفي ، من قبيل بناء العقلاء على أنّه يجوز التصرّف بمال الغير بمجرّد طيب نفسه ولو لم يأذن بذلك لفظيّا ، فيكفي عندهم الرضا القلبي للمالك وإن لم يتلفّظ بذلك ، فهذا موقف على الجواز الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة.

وإذا كان موقفهم وسيرتهم على حكم معاملي كالملكيّة ونحوها فيكون موقفهم بلحاظ الحكم الواقعي الوضعي ، من قبيل بناء العقلاء على أنّ الحيازة سبب للملكيّة فيحكمون بأنّ من حاز شيئا من المشتركات العامّة لكلّ الناس فهو مالك له ، ومن الواضح كون الملكيّة من الأحكام الوضعيّة.

والنوع الآخر : السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظنّ ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن في حالة الشكّ في أمر واقعي اكتفاء بالظنّ مثلا ، من قبيل السيرة على الرجوع إلى اللغوي عند الشكّ في معنى الكلمة واعتماد قوله وإن لم يفد سوى الظنّ ، أو السيرة على رجوع كلّ مأمور في التعرّف على أمر مولاه إلى خبر الثقة ، وغير ذلك من البناءات العقلائيّة على الاكتفاء بالظنّ أو الاحتمال في مورد الشكّ في الواقع.

ص: 92

النوع الثاني : السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة : والمقصود من ذلك اكتفاء العقلاء بالظنّ عند الشكّ في الأمر الواقعي ، فيعتمد العقلاء على الظنّ والاكتفاء به عند انسداد الواقع أمامهم كموقف وطريق للعمل ظاهرا.

ثمّ إنّ اعتمادهم على هذا الظنّ بوصفه حكما ظاهريّا له نحوان :

فتارة يعملون بالظنّ ويكتفون به كموقف وحلّ عملي ظاهري في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، كاعتمادهم على قول اللغوي الموجب للظنّ بوضع الكلمات لمعانيها فيما إذا شكّ بوضع كلمة لهذا المعنى أو لغيره ، فيرجع إلى اللغوي ويعتمد على قوله مع أنّه لا يفيد سوى الظنّ ، وليس ذلك إلا لأنّ الظنّ باعتقادهم هو الطريق الوحيد للعمل ظاهرا عند انسداد الواقع والعلم.

وأخرى يعتمدون على الظنّ ويكتفون به في مجال أغراضهم التشريعيّة ، من قبيل اكتفاء المأمورين العرفيّين بخبر الثقة المفيد للظنّ للاطّلاع على أوامر المولى العرفي في حالة انسداد الواقع والعلم بأوامره. فيجعلون الظنّ كالعلم منجّزا ومعذّرا ، بحيث يستحقّ المأمور المؤاخذة عند عدم امتثاله لأوامر المولى إذا أخبره الثقة بها ، ويكون معذورا إذا اعتمد على خبر الثقة وكان مخالفا للواقع فيما إذا كان شاكّا في الواقع أو محتملا له ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر البناءات العقلائيّة كالظهور واليد.

وبهذا ظهر أنّ السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة تشمل الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة معا.

والسيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة تشمل الأغراض التكوينيّة والأغراض التشريعيّة معا.

وعليه ، فلا بد من الحديث عن كلا هذين النوعين لنرى سكوت المعصوم وعدم ردعه للموقف العقلائي ما ذا يثبت به؟

أمّا النوع الأوّل : فيستدلّ به على أحكام شرعيّة واقعيّة ، كحكم الشارع بإباحة التصرّف في مال الغير بمجرّد طيب نفسه ، وبأنّ من حاز يملك ، وهكذا. ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه ، حيث إنّ الشارع لا بدّ أن يكون له حكم تكليفي أو وضعي فيما يتعلّق بذلك التصرّف ، فإن لم يكن مطابقا لما يفترضه العقلاء ويجرون عليه من حكم كان على المعصوم أن يردعهم عن ذلك ، فسكوته يدلّ على الإمضاء.

ص: 93

أمّا النوع الأوّل : وهو السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة كجواز التصرّف في ملك الغير بمجرّد رضاه وكالملكيّة بمجرّد الحيازة ، فيمكن الاستدلال بهذه السيرة على ثبوت الحكم الواقعي على طبق هذه السيرة ، فيستكشف منها أنّ الشارع قد حكم بجواز التصرّف بملك الغير بمجرّد رضاه ، وأنّه قد حكم بالملكيّة بمجرّد الحيازة.

وتقريب ذلك : أنّ للشارع أحكاما واقعيّة ثابتة في كلّ الوقائع والقضايا إمّا بنحو التفصيل أو بنحو العموم ، وهذا معناه أنّ للشارع حكما بشأن تحقّق الملكيّة بالحيازة أو عدمها ، وبجواز التصرّف في ملك الغير أو بحرمته ، فإذا كان هذا الموقف العقلائي موافقا للحكم الشرعي الواقعي كان سكوت المعصوم عنه صحيحا وله مبرّر عقلي وبالتالي يكون سكوته إمضاء لصحّة البناء العقلائي.

وأمّا إذا لم يكن هذا الموقف العقلائي مطابقا للواقع بمعنى أنّ الشارع لم يكن حكمه الواقعي على وفق ما سار عليه العقلاء ، فهنا يجب على المعصوم المعاصر والشاهد لهذا الموقف أن يردع عنه وينبّههم إلى الموقف الشرعي الصحيح ، وحيث إنّه سكت ولم يردع دلّ سكوته على أنّ هذا الموقف ليس مخالفا للشرع ، وإلا لكان المعصوم مفوّتا لغرضه أو راضيا بالمنكر أو لا يريد بناء مجتمع صالح ، وهذه كلّها مستحيلة بحقّه لمقام العصمة التي يتّصف بها ، والتي تجعله مدافعا عن الشريعة وناهيا عن المنكر ورادعا عنه - مع توفّر شروطه - ومرشدا وهاديا لبناء مجتمع صالح وعادل ، ولذلك تجري هنا كلّ تلك الأدلّة الثلاثة التي ذكرت لاستكشاف الإمضاء من سكوته وعدم ردعه ، وبالتالي يثبت الحكم الشرعي الواقعي وأنّه مطابق لما قامت عليه السيرة العقلائيّة.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ، ولذلك تكون السيرة العقلائيّة حجّة أي منجّزة ومعذّرة لا بذاتها ، وإنّما بواسطة إمضاء المعصوم لها المستكشف من سكوته وعدم ردعه.

وأمّا النوع الثاني : فيستدلّ به عادة على أحكام شرعيّة ظاهريّة ، كحكم الشارع بحجّيّة قول اللغوي وحجّيّة خبر الثقة ، وهكذا.

وفي هذا النوع قد يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه ، وتوضيح الاستشكال : أنّ التعويل على الأمارات الظنّيّة كقول اللغوي وخبر الثقة له مقامان :

وأمّا النوع الثاني من السيرة وهو السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة كحجّيّة خبر

ص: 94

الثقة وقول اللغوي المفيدين للظنّ فقط ، فيراد من خلال سيرة العقلاء على العمل بذلك أن يستكشف أنّ الشارع أيضا قد حكم ظاهرا بحجّيّة خبر الثقة وقول اللغوي ، فيما إذا شكّ المكلّف في الحكم الواقعي وانسدّ عليه باب العلم بالواقع.

وهنا يثار إشكال في تطبيق أدلّة الإمضاء على سكوت المعصوم بحيث يقال : إنّ سكوت المعصوم وعدم ردعه عن سيرة العقلاء لا يضرّ ولا يؤثّر في نقض غرضه أو عدم نهيه عن المنكر أو في ظهور حاله ؛ لأنّ هذه السيرة لا تتنافى مع ذلك.

ولتوضيح الإشكال لا بدّ من التوسّع والتفصيل ، فنقول : إنّ سيرة العقلاء على العمل والاكتفاء بالأمارات الظنّيّة كحكم ظاهري يرجع إليه كخبر الثقة وقول اللغوي لها مجالان :

المقام الأوّل : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص لأغراضه الشخصيّة التكوينيّة ، من قبيل أن يكون لشخص غرض في أن يستعمل كلمة معيّنة في كتابه ، فيرجع إلى اللغوي في فهم معناها ليستعملها في الموضع المناسب ، ويكتفي في هذا المجال بالظنّ الحاصل من قول اللغوي.

المقام الأوّل : أن يكون المراد التعويل على الظنّ الحاصل من قول اللغوي وخبر الثقة في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ، كما إذا كان هناك غرض لشخص في معرفة وفهم المعنى اللغوي لكلمة ما ليعلم معناها ، فيرجع إلى اللغوي ويأخذ بقوله في فهم ومعرفة معناها وإن لم يفده قوله إلا الظنّ فقط ، وبالتالي يكتفي بقوله كمرجع له ويرتّب عليه الآثار المطلوبة منه فيستعملها في الموضع المناسب الذي أخبر اللغوي به.

أو أن يكون هناك غرض شخصي لإنسان في الاعتماد على خبر الثقة في معرفة بعض الأمور الشخصيّة التكوينيّة فيرجع إليه ويأخذ بخبره ، كما هو الحال بخبر الطبيب مثلا أو المهندس ونحوهما ، ويرتّب الأثر التكويني على إخبارهم هذا وإن لم يفد سوى الظنّ.

المقام الثاني : التعويل عليها بصدد تحصيل المأمور لمؤمّن أمام الآمر ، أو لتحصيل الشخص الآمر لمنجّز للتكليف على مأموره ، من قبيل أن يقول الآمر : ( أكرم العالم ) ولا يدري المأمور أنّ كلمة ( العالم ) هل تشمل من كان لديه علم وزال علمه أو لا؟

ص: 95

فيرجع إلى قول اللغوي لتكون شهادته بالشمول منجّزة وحجّة للمولى على المكلّف ، وشهادته بعدم الشمول معذّرة وحجّة للمأمور على المولى.

المقام الثاني : أن يكون التعويل على الظنّ الحاصل من قول اللغوي وخبر الثقة من أجل تحصيل منجّز أو معذّر وهو الحجّيّة بالمصطلح الأصوليّ ، بمعنى أنّ الآمر يرجع إلى قول اللغوي أو خبر الثقة ليكون قولهما منجّزا لتكاليفه وأوامره على مواليه وعبيده ومأموريه ، ويرجع المأمور إليهما ليكون قولهما معذّرا عن التكليف المحتمل أو المشكوك.

من قبيل أن يأمر المولى العرفي بقوله : ( أكرم العالم ) ولا يعلم المأمور أنّ كلمة العالم هل تشمل جميع العلماء حتّى من كان عالما ثمّ زال عنه العلم ، أو أنّه يختصّ بمن هو عالم بالفعل؟

وبالتالي فهو يشكّ في وجوب إكرام من هو فاقد للعلم فعلا ولكنّه كان متلبّسا به من قبل. فيرجعان إلى قول اللغوي ليرى ما هو قوله في ذلك ، وهل أنّ كلمة العالم التي هي من المشتقّات تشمل من كان متلبّسا بالمبدإ وزال عنه أو أنّها تختصّ بالمتلبّس بالمبدإ فعلا؟

فإذا شهد بأنّ الكلمة تشمل الموردين كان قوله حجّة بمعنى كونه منجّزا للتكليف على المأمور فيجب عليه الامتثال ويستحقّ العقاب على المخالفة ، وإذا شهد بأنّ الكلمة مختصّة بالعالم فعلا فيكون حجّة بمعنى كونه معذّرا للمأمور عند عدم امتثال إكرام من زال عنه العلم فعلا وكان الآمر يريد إكرامه واقعا.

وهكذا الحال بالنسبة لخبر الثقة يرجع إليه الآمر والمأمور في التنجيز والتعذير عن الأحكام التكليفيّة التي لا يعلم بها ، فيكون إخباره بالإلزام منجّزا للتكليف وإخباره بالترخيص مؤمّنا ومعذّرا عن التكليف.

وبعد أن اتّضح ذلك نرجع إلى بيان الإشكال فنقول :

وعلى هذا فبناء العقلاء على الرجوع إلى اللغوي والتعويل على الظنّ الناشئ من قوله : إن كان المقصود منه بناء العقلاء في المقام الأوّل فهذا لا يعني حجّيّة قول اللغوي بالمعنى الأصولي أي المنجّزيّة والمعذّريّة ؛ لأنّ التنجيز والتعذير إنّما يكون بالنسبة إلى الأغراض التشريعيّة التي فيها آمر ومأمور ، لا بالنسبة إلى

ص: 96

الأغراض التكوينيّة ، فلا يمكن أن يستدلّ بالسيرة المذكورة على الحجّيّة شرعا.

إنّ السيرة العقلائيّة بلحاظ الأحكام الظاهريّة إن كان المقصود منها السيرة القائمة على الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، أي المقام الأوّل فمن الواضح أنّ الاعتماد على قول اللغوي أو خبر الثقة لتحصيل الأغراض التكوينيّة الشخصيّة لا يرتبط بالحجّيّة كمصطلح أصولي الذي هو عبارة عن المنجّزيّة والمعذّريّة ؛ إذ لا يوجد في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة تكاليف شرعيّة ولا يوجد آمر ومأمور ليكون قول الآمر منجّزا أو عدم امتثال المأمور معذورا فيه.

ولذلك لا يصلح هذا القسم من السيرة للاستدلال به على أنّ الشارع قد جعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة ( منجّزا ومعذّرا ) ؛ لأنّ الحجّيّة الشرعيّة تفترض مسبقا وجود علاقة مولويّة بين الآمر والمأمور ، وتفترض أنّ المأمور يجب عليه إطاعة وامتثال أوامر المولى بحيث يكون التخلّف عنها موجبا للذمّ والعقاب ، فالحجّيّة إذا من شئون الأغراض التشريعيّة لا الأغراض التكوينيّة.

وبهذا يكون هذا النحو من السيرة خارجا عن محلّ الكلام تخصّصا ؛ إذ محلّ الكلام حول الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة شرعا ، وهذه السيرة تثبت أنّ العقلاء يعوّلون على قول اللغوي وخبر الثقة في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة لا التشريعيّة ، فالاستدلال بها باطل تماما.

وإن كان المقصود بناء العقلاء في المقام الثاني فمن الواضح أنّ جعل شيء منجّزا أو معذّرا من شأن المولى والحاكم لا من شأن المأمور ، فمردّ بناء العقلاء على جعل قول اللغوي منجّزا ومعذّرا إلى أنّ سيرة الآمرين انعقدت على أنّ كلّ آمر يجعل قول اللغوي حجّة في فهم المأمور لما يصدر عنه من كلام بنحو ينجّز ويعذّر.

وإن كان المقصود من السيرة وبناء العقلاء هو المقام الثاني ، أي الأغراض التشريعيّة ، بمعنى أنّ العقلاء يجعلون قول اللغوي وخبر الثقة حجّة بين الآمر والمأمور ، فيكون منجّزا ومعذّرا ، فهذا يدخل في مورد الكلام ويمكن أن يستدلّ به ولكن بنحو آخر وهو : أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة لغير العلم تحتاج إلى جعل خاصّ من قبل نفس المولى والحاكم ، بمعنى أنّ المولى والحاكم يعتبر أنّ هذا الطريق حجّة بينه وبين

ص: 97

مواليه بحيث يكون منجّزا ومعذّرا ، ولا ارتباط ولا مدخليّة للمأمورين في ذلك ، فليس لهم حقّ التدخّل بما هم مأمورون في شئون المولى.

وعليه فمعنى سيرتهم وبنائهم أنّ سيرة الآمرين والحكّام قد انعقدت على جعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة لا سيرة المأمورين ، إذ لا مدخليّة لهم في جعل شيء حجّة وعدم ذلك ، فيكون المقصود من سيرة العقلاء خصوص سيرة الآمرين والموالي والحكّام من العقلاء ، وأنّهم جعلوا قول اللغوي حجّة منجّزا ومعذّرا ، ويمكن تعميم السيرة للمأمورين أيضا بأن يقال :

وبعبارة أشمل : إنّ سيرة كلّ عاقل اتّجهت إلى أنّه إذا قدّر له أن يمارس حالة آمريّة يجعل قول اللغوي حجّة على مأموره.

أو يقال : إنّ سيرة العقلاء تشمل كلّ الناس سواء الآمرين والمأمورين لا خصوص الآمرين فقط ، وذلك بأن نفترض أنّ كلّ عاقل لو قدّر له أن يصبح حاكما وآمرا فهو يتّخذ خبر الثقة وقول اللغوي حجّة بينه وبين مواليه ومأموريه ، وهذا يشمل الآمرين والمأمورين ؛ لأنّهم من العقلاء فتنطبق هذه القضيّة الشرطيّة بالفعل على الآمرين وبالقوّة على المأمورين ، وحينئذ نقول :

ومن الواضح أنّ السيرة بهذا المعنى لا تفوّت على الشارع الأقدس غرضه ، حتّى إذا لم يكن قد جعل قول اللغوي حجّة ومنجّزا ومعذّرا بالنسبة إلى أحكامه ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة يمارسها كلّ مولى في نطاق أغراضه التشريعيّة مع مأموريه ، ولا يهمّ الشارع الأغراض التشريعيّة للآخرين.

وحينئذ يرد الإشكال وهو : أنّ هذه السيرة بهذا المعنى وهي أنّ سيرة الآمرين انعقدت فعلا أو سيرة العقلاء جميعا فرضا وتقديرا على العمل بقول اللغوي وخبر الثقة في نطاق الأحكام التشريعيّة الظاهريّة ، لا تضرّ بالأحكام التشريعيّة للشارع الأقدس ولا تفوّت غرضه حتّى وإن لم يجعل خبر الثقة وقول اللغوي حجّة ( منجّزا ومعذّرا ) ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة المفروض أنّها سيرة بين كلّ آمر مع مأموريه بلحاظ أغراضه التشريعيّة لا بلحاظ الأغراض التشريعيّة للآخرين.

إذ لا مولويّة لهذا الشارع على سائر الموالي والحكّام الآخرين ليعتبر سيرته بينه وبين مواليه ومأموريه حجّة على أولئك ويجب عليهم العمل على وفقها ، بل كلّ شارع

ص: 98

ومولى وحاكم له مولويّة وسلطة على خصوص مواليه ومأموريه ولا علاقة له بغيره من الموالي والحكّام.

وعليه فسيرة الآمرين العقلائيّين إنّما تثبت أنّ الآمرين قد اتّفقوا على جعل قول اللغوي حجّة ، إلا أنّ اتّفاقهم هذا لا يلزم الشارع الأقدس ولا يجب عليه أن يسير وفقا لآراء العقلاء ، بل هم أنفسهم لا يعتبرونه ملزما باتّباع سيرتهم ؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ كلّ شارع له الحريّة المطلقة في أن يجعل ما يشاء حجّة بينه وبين مأموريه ومواليه ولا يجب عليه الالتزام بسيرة الآخرين واتّباع آرائهم.

ولذلك لا يكون سكوت المعصوم وعدم ردعه عن سيرة العقلاء هذه كاشفا عن إمضائه ورضاه بها ، إذ لا يجب عليه الالتزام بها وهي ليست ملزمة له أصلا لكي يتّخذ منها موقفا إيجابا أو سلبا ، بل لا يعنيه ذلك ؛ لأنّ كلّ شارع إنّما يحدّد العلاقة بينه وبين مأموريه هو نفسه لا غيره ، ولذلك لا يكون هناك ضرر من سيرتهم في حال عدم الردع عنها ، وإن كان الشارع الأقدس لا يقبلها ، بل عليه أن يبيّن ما جعله حجّة بينه وبين مأموريه بقطع النظر عن سيرة العقلاء.

فكم فرق بين سيرة العقلاء على ملكيّة الحائز ، وسيرتهم على حجّيّة قول اللغوي ؛ لأنّ السيرة الأولى تقتضي سلوكا لا يقرّه الشارع إذا كان لا يرى الحيازة سببا للملكيّة.

وأمّا ما تقتضيه السيرة الثانية من سلوك فلا يتجاوز الالتزام بأنّ قول اللغوي منجّز ومعذّر في علاقات الآمرين بالمأمورين من العقلاء ، ولا يضرّ الشارع ذلك على أي حال.

فهناك فرق شاسع بين السيرتين المذكورتين وهو : أنّ السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة تفترض أنّ العقلاء قد اتّخذوا موقفا وسلوكا لو كان خطأ وغير مقبول لدى الشارع لكان مؤثّرا على أغراضه التشريعيّة ؛ لأنّ العقلاء اعتبروا أنّ الحيازة سبب للملكيّة ، وأنّ الرضا القلبي كاف لجواز التصرّف في ملك الغير.

وهذا الأمر وغيره من الأحكام التشريعيّة التي لا بدّ أن يكون للشارع فيها حكم إن كان مطابقا لغرضه فسكوته معتبر وصحيح عقلا ، وإن كان مخالفا له فيكون سكوته مع عدم قبوله لسيرتهم ناقضا لغرضه وهدفه وهو قبيح عقلا صدوره من العاقل

ص: 99

الحكيم ، ولذلك كان بناء العقلاء يمسّ مباشرة أحكام الشارع ولذلك كان سكوته إمضاء وقبولا بها.

وأمّا السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة التي تتعلّق بالأغراض التشريعيّة للآمرين والمأمورين ، فقد تقدّم أنّ هذا البناء إنّما يحدّد ويلزم كلّ آمر مع مأموريه بما جعله حجّة بينه وبينهم بحيث يكون منجّزا ومعذّرا ، ولا ارتباط لذلك بغيره من الآمرين ، ولو فرض اتّفاق الآمرين من العقلاء جميعا على جعل شيء حجّة فهو لا يلزم الشارع الأقدس بأن يجعله حجّة أيضا ؛ لأنّ كلّ شارع له الخيار ومطلق الحريّة في أن يجعل أي شيء يراه مناسبا حجّة بينه وبين مأموريه ولا يلزمه أحد بذلك ولا يختار له أحد الطريق ويفرضه عليه ، إذ لا مولويّة لأحد عليه كما هو المفروض.

ولذلك لا يكون سكوت المعصوم وعدم ردعه قبولا ببناء العقلاء وإمضائه لحجّيّة قول اللغوي أو خبر الثقة حتّى بلحاظ أحكامه التشريعيّة ، إذ لا ربط له بهم كما لا ربط لهم به ؛ ولأنّ سيرتهم إنّما تلزم من كان من الآمرين العرفيّين فقط ، وأمّا الشارع الأقدس فلا يمكنهم إلزامه بما يرونه ويتّفقون عليه ، بل العكس هو الصحيح ، ولذلك لا مجال للاستدلال بالسيرة على جعل الحجّيّة الظاهريّة في مجال الأغراض التشريعيّة.

فإن قال قائل : لما ذا لا يفترض بناء العقلاء على أنّ قول اللغوي حجّة بلحاظ كلّ حكم وحاكم وأمر وآمر بما فيهم الشارع ، فيكون هذا البناء مضرّا بالشارع إذا لم يكن قد جعل الحجّيّة لقول اللغوي؟!

فإذا قيل : نفترض أنّ الشارع داخل في السيرة العقلائيّة أيضا باعتباره من جملة العقلاء ، بل هو رئيس العقلاء ، وحيث إنّ العقلاء قد اتّفقوا على أنّ كلّ عاقل إذا مارس حالة الآمريّة والحاكميّة فهو يجعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة ، فيكون الشارع داخلا في سيرتهم.

وعليه ، فإذا كان مخالفا لهم فيجب أن يردعهم عن ذلك ، فمع سكوته وعدم ردعه يستكشف إمضاؤه وقبوله لهذه السيرة حتّى بلحاظ أغراضه التشريعيّة ، وإلا لكان بناؤهم مضرّا بالشارع ومفوّتا لغرضه وهو قبيح عقلا.

قلنا : إنّ كون قول اللغوي منجّزا لحكم أو معذّرا عنه أمر لا يعقل جعله واتّخاذ قرار به ، إلا من قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة إلى مأموره ومكلّفه ، فكلّ أب مثلا

ص: 100

قد يجعل الأمارة الفلانيّة حجّة بينه وبين أبنائه بلحاظ أغراضه التشريعيّة التي يطلبها منهم ، ولا معنى لأن يجعلها حجّة بالنسبة إلى سائر الآباء الآخرين مع أبنائهم ، وهكذا يتّضح أنّ الحجّيّة المتبانى عليها عقلائيّا إنّما هي في حدود الأغراض التشريعيّة لأصحاب البناء أنفسهم فلا يضرّ الشارع ذلك.

كان الجواب : أنّ فرض دخول الشارع في البناء والاتّفاق العقلائي مصادرة على المدّعى ؛ وذلك لأنّ جعل قول اللغوي مثلا حجّة ومنجّزا ومعذّرا لا يعقل صدوره وجعله واتّخاذ قرار به إلا من قبل نفس الجاعل للحجّيّة بينه وبين مأموريه ومواليه ، ولا ربط لذلك ببقيّة الآمرين وليس ملزما لهم إلا أن يكون داخلا معهم في الاتّفاق المذكور ، وهنا الاتّفاق إنّما صدر من الموالي العرفيّين ولا يعلم بدخول الشارع معهم في سيرتهم ، فلا يكون بناؤهم حجّة عليه وملزما له ويجب قبوله وإمضاؤه ؛ لأنّ كلّ آمر وحاكم هو الذي يحدّد كيفيّة العلاقة بينه وبين مأموريه ولا شأن له بالآخرين ، كما أنّه لا شأن للآخرين به.

فمثلا الأب له ولاية على أبنائه فإذا جعل الأب بينه وبين أبنائه أمارة معيّنة حجّة منجّزة ومعذّرة كان ذلك ملزما له فقط ، ولا يكون ملزما لسائر الآباء مع أبنائهم ، فإنّ كلّ أب منهم له الحقّ بأن يجعل الأمارة التي يراها مناسبة بينه وبين أبنائه ، ولا يضرّه الاتّفاق المبرم بين ذاك الأب وأبنائه.

وهنا الاتّفاق والبناء المذكور إنّما صدر من الآمرين العقلائيّين العرفيّين فيكون حجّة وملزما لكلّ آمر وحاكم من العقلاء والموالي العرفيّين ، ولا يكون ملزما للشارع الأقدس ليكون سكوته عنه إمضاء وقبولا ، أو ليجب الردع عنه إذا كان مخالفا لما يراه حجّة بينه وبين مأموريه.

فالاستدلال بالسيرة إذا غير تامّ للفارق الكبير بين العقلاء والشارع الأقدس.

والأسس الثلاثة المذكورة سابقا لا تجري هنا ؛ لأنّ تفويت الغرض إنّما يضرّ لو كانت السيرة مضرّة بأغراض الشارع التشريعيّة ، وقد تبيّن أنّها غير مضرّة بغرضه فسكوته ليس نقضا للغرض ، مضافا إلى أنّها ليست منكرا لينهى عنه ؛ إذ هي خارجة عن نطاق تشريعاته.

وأمّا ظهور حاله في مجتمع صالح فهو غير تامّ ؛ لأنّ العقلاء ليسوا مخالفين للطريق

ص: 101

القويم ؛ إذ هم متّبعون لما يرونه بعقولهم صحيحا ولا يضرّ ذلك بالأغراض التشريعيّة للشارع الأقدس.

وليس بالإمكان تصحيح الاستدلال بالسيرة على الحجّيّة بأفضل من القول بأنّها تمسّ الشارع ؛ لأنّها توجب على أساس العادة الجري على طبقها حتّى في نطاق الأغراض التشريعيّة لمولى لم يساهم في تلك السيرة ، وتوحي ولو ارتكازا وخطأ بأنّ مؤدّاها مورد الاتّفاق من الجميع ، وبذلك تصبح مستدعية للردع على فرض عدم التوافق ، ويكون السكوت عندئذ كاشفا عن الإمضاء.

والصحيح : أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائيّة بلحاظ الأحكام الظاهريّة تامّ ، وبالتالي تكون حجّة مع عدم الردع عنها.

وبيان ذلك : أنّ السيرة والبناء متّفق عليه من جميع العقلاء سواء الآمرين والمأمورين فعلا وقوّة كما تقدّم ، وهذا البناء والاتّفاق معناه أنّ كلّ آمر وحاكم حتّى وإن لم يكن داخلا فعلا في هذا الاتّفاق والبناء ، إلا أنّه يعتبر مساهما ومشاركا فيه ويكون بنظرهم ملزما بالجري على طبق هذا البناء والاتّفاق.

وعلى هذا فيرتكز في أذهان العقلاء ولو خطأ واشتباها أنّ الشارع الأقدس أيضا يسير وفقا لهذا البناء في تنظيم علاقاته بينه وبين مأموريه عند الشكّ وعدم العلم ، ويعتبرون أنّه موافق لبنائهم واتّفاقهم ؛ لأنّه لو لم يكن موافقا لهم لكان عليه أن يردعهم ويبيّن لهم الطريق الذي يجعله حجّة بينه وبين مواليه ومأموريه.

ولذلك تكون هذه السيرة من شأنها الإضرار بالأحكام التشريعيّة للشارع الأقدس فيما إذا لم يكن موافقا لها ؛ لأنّ هذا الارتكاز يمسّ بصورة مباشرة أحكام الشارع أيضا ؛ لأنّ هذا الارتكاز يوحي أنّ الشارع موافق على بنائهم ، إذ لو لم يكن موافقا لبيّن ذلك ، فسكوته وعدم ردعه يعتبر إمضاء عندهم وإن كان خطأ واشتباها. إلا أنّه بعد حصوله وتحقّقه يكون مضرّا بالأحكام التشريعيّة للشارع ومفوّتا لغرضه في حالة عدم التوافق معهم ، وهذا يحتّم عليه الردع والنهي وعدم السكوت ، فالسكوت إذا يكشف عن الإمضاء.

وبهذا نعرف أنّ الشرط في الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على الحجّيّة بمعناها الأصوليّ - المنجّزيّة والمعذّريّة - أن تكون السيرة العقلائيّة في مجال التطبيق قد

ص: 102

افترضت - ارتكازا - اتّفاق الشارع مع غيره في الحجّيّة ، وجرت في علاقاتها مع الشارع على أساس هذا الافتراض ، أو أن تكون على الأقلّ بنحو يعرّضها لهذا الافتراض والجري.

وبهذا ظهر أنّه يشترط للاستدلال بالسيرة العقلائيّة على الحجّيّة بالمعنى الأصوليّ أي المنجّزيّة والمعذّريّة أن تكون السيرة مرتكزة عند العقلاء ، ويكون هذا الارتكاز يفترض - ولو خطأ واشتباها - أنّ الشارع قد اتّفق مع العقلاء ببنائهم هذا وأمضاه بمجرّد سكوته عن سيرتهم.

وهذا يتطلّب أن تكون السيرة مستحكمة عند العقلاء لا يشذّ عنها عاقل ، فإنّها إذا صارت بهذه الكيفيّة من الاستحكام والارتكاز فسوف تشكّل ضررا على أحكام الشارع فيما إذا كان غير راض عنها ، ويتوجّب الردع عنها والنهي عنها في حالة مخالفتها مع المجعول حجّة من قبل الشارع.

أو تكون على الأقلّ بنحو يجعلها لأن تكون مستحكمة ومرتكزة بحيث توجب افتراض أنّ الشارع معهم.

وحينئذ يمكن الاستدلال بها على إمضاء الشارع ؛ لأنّه لو سكت عنها ولم يردع لكان العقلاء يتعاملون مع الأحكام الشرعيّة للشارع كما يتعاملون مع أحكامهم أنفسهم نتيجة لهذا الافتراض الارتكازي ، بل يمكن القول أكثر من ذلك وهو :

وهذا معنى قد يثبت في السيرة العقلائيّة على العمل بالأمارات الظنيّة في المقام الأوّل أيضا أي في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، فإنّها كثيرا ما تولّد عادة وذوقا في السلوك يعرّض المتشرّعة بعقلائيّتهم إلى الجري على طبق ذلك في الشرعيّات أيضا ، فلا يتوقّف إثبات الحجّيّة بالسيرة على أن تكون السيرة جارية في المقام الثاني ومنعقدة على الحجّيّة بالمعنى الأصوليّ.

بل يمكن الاستدلال بالسيرة العقلائيّة المنعقدة على العمل بالأمارات الظنيّة في المقام الأوّل ، أي في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة بتقريب : أنّ هذه السيرة وإن كانت بلحاظ الأغراض الشخصيّة وليست منعقدة فعلا على الحجّيّة بالمعنى الأصوليّ ، إلا أنّها إذا كانت مستحكمة ومرتكزة فهي توحي وتفترض لدى المتشرّعة

ص: 103

من العقلاء بوصفهم عقلاء أن يسيروا ويجروا على طبق هذه السيرة في الأغراض التشريعيّة أيضا ، حتّى وإن كان هذا الإيحاء والارتكاز مخطئا.

وهذا معناه أنّ هذه السيرة في الأغراض التكوينيّة من الممكن في كثير من الأحيان أن تؤثّر وتمسّ الأغراض التشريعيّة ولو في اعتقاد المتشرّعة الخاطئ ، حيث إنّهم يحسّون نتيجة لارتكاز السيرة عندهم بأنّ الشارع يقبل بها ويرضاها في مجال أغراضه التشريعيّة بلحاظ مرحلة الظاهر أي الحجّيّة الأصوليّة ، ممّا يعرّض أحكامه للضياع ويكون مفوّتا لغرضه إذا لم يردع عنها فيما إذا كانت مخالفة لما يجعله حجّة ، وبالتالي يكون السكوت عنها إمضاء لهذا الارتكاز الخاطئ عند المتشرّعة وبالتالي يكون تطبيقه على التشريعيّات ممضى ومقبولا عند الشارع ؛ لأنّه سكت ولم يردع عنها.

وبهذا نعرف أنّه لا يتوقّف الاستدلال بالسيرة على كونها منعقدة فعلا على الحجّيّة ، بل حتّى لو كانت منعقدة على الأغراض التكوينيّة ولكنها كانت مستحكمة ومرتكزة ، وتفترض اتّفاق الشارع بإسراء هذا البناء على أحكامه التشريعيّة ، لكانت حجّة أيضا على الاستدلال بأنّ الشارع قد جعل الحجّيّة الأصوليّة لقول اللغوي ولخبر الثقة.

والحاصل : أنّ الاستدلال بالسيرة بقسميها يتوقّف على وجود هذا المرتكز والإيحاء ولو كان خاطئا ؛ لأنّه يمسّ مباشرة أو بالالتزام الأحكام التشريعيّة للشارع فالسكوت عنها إمضاء لها.

ومهما يكن الحال فلا شكّ في أنّ معاصرة السيرة العقلائيّة لعصر المعصومين علیهم السلام شرط في إمكان الاستدلال بها على الحكم الشرعي ؛ لأنّ حجّيّتها ليست بلحاظ ذاتها ، بل بلحاظ استكشاف الإمضاء الشرعي من التقرير وعدم الردع ، فلكي يتمّ هذا الاستكشاف يجب أن تكون السيرة معاصرة لظهور المعصومين علیهم السلام لكي يدلّ سكوتهم على الإمضاء.

وهنا شرط آخر مضافا إلى وجود الارتكاز الموحي ولو خطأ برضا الشارع بقبول البناء العقلائي ، وهو اشتراط معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام ، وهذا الشرط واضح ؛ لأنّ السيرة ليست دليلا على الحكم الشرعي بنفسها ، وإنّما بعد ضمّ الإمضاء المستكشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه ، وهذا يفترض وجود المعصوم وكونه

ص: 104

حاضرا ومعاصرا لهذه السيرة لتكون على مرأى ومسمع منه ، لكي يكون سكوته عنها موجبا للإمضاء.

وأمّا إذا لم تكن السيرة معاصرة للمعصوم فلا تكون حجّة لاختلال الركن الثاني ، إذ ما دام المعصوم غير حاضر وغير معاصر للسيرة فكيف يحرز أنّه أمضاها ، فإنّ الإمضاء تابع لسكوته وسكوته فرع وجوده ومعاصرته ، فإذا لم يكن موجودا كانت حجيّة السيرة منتفية من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذا واضح.

وأمّا أنّه كيف يمكننا نحن في هذا العصر أن نثبت أنّ السيرة المتحقّقة فعلا من العقلاء كانت معاصرة للمعصوم؟ فهذا الأمر يمكن إثباته بعدّة طرق تقدّمت مفصّلا في الحلقة السابقة ، ولذلك قال الشهيد :

وأمّا السيرة المتأخّرة فلا يدلّ عدم الردع عنها على الإمضاء كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، وأمّا كيف يمكن إثبات أنّ السيرة كانت قائمة فعلا في عصر المعصومين فقد مرّ بنا البحث عن ذلك في الحلقة السابقة (2).

قد يقال : إنّه بالإمكان الاستدلال بالسيرة القائمة فعلا على الحكم الشرعي ، وذلك من خلال سكوت الحجّة - عجّل اللّه فرجه - عنها فإنّه معاصر لهذه السيرة فيكون سكوته عنها إمضاء لها.

ويرد عليه : أنّ نفس مرحلة الغيبة والاختفاء وعدم الظهور يمنع من الاستدلال بسكوته ؛ لأنّ هذه المرحلة تحتّم عليه عدم التعرّض لشئون الناس والتدخّل في تصرّفاتهم وإلا لما احتيج إلى الغيبة.

وقد يقال : إنّ المعصوم قد أمضى السيرة العقلائيّة لا بما هي سيرة شخصيّة منعقدة على أمر معيّن فحسب ، بل أمضاها بما هي نوع أي أنّ كلّ سيرة عقلائيّة تنعقد على أمر فهي حجّة.

وفيه : أنّ السيرة ليست دليلا لفظيّا كما أنّ الإمضاء المستكشف من السكوت ليس دليلا لفظيّا ، ولذلك لا يكون هناك إطلاق ولا عموم أصلا.

ص: 105


1- ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : السيرة.
2- ضمن البحث عن وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عنوان : الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي.

وبهذا نعرف أنّ السيرة المتأخّرة المعاصرة للحجة علیه السلام لا يمكن الاستدلال بها على الحكم الشرعي من خلال سكوته عنها ؛ لأنّه ليس مكلّفا بالأمر والنهي ، وليس مكلّفا بإرشاد وهداية المجتمع وتوجيهه ، وإلا لما كان غائبا. نعم ، يمكن الاستدلال بهذه السيرة المعاصرة لنا بعد إثبات كونها معاصرة للمعصومين علیهم السلام غير الحجّة ( عجّل اللّه فرجه ).

وقد تقدّم سابقا عدّة طرق لإثبات معاصرتها ، نشير إليها إجمالا :

1 - إثبات المعاصرة بالنقل التاريخي والشهادة.

2 - إثبات عدم التغيّر والتبدّل أو أصالة الثبات ، وذلك إذا كانت السيرة معتمدة على نكات فطريّة عامّة لكلّ العقلاء.

3 - استقراء الأوضاع الاجتماعيّة في مختلف المجتمعات وملاحظة النقاط المتّفق عليها ، بحيث يمكننا تعميم الحكم من خلال ذلك إلى سائر المجتمعات الأخرى الآتية والماضية.

4 - أن يكون هناك لازم إذا لم تكن هذه السيرة معاصرة وكان الموضوع محلّ ابتلاء للناس عادة ، وهذا اللازم هو كثرة السؤال عنه ، والحال أنّ هذا اللازم منتف ، إذا ينتفي الملزوم فتثبت المعاصرة.

5 - أن يكون هناك بديل إذا لم تكن السيرة معاصرة وكان مهمّا بحيث يجب نقله تاريخيّا ؛ لأنّه سوف يكون سلوكا غريبا مخالفا للعادة ، وحيث إنّ هذا البديل لم ينقل مع توفّر الدواعي لنقله ، فيدلّ على عدم وجوده وأنّ السيرة كانت معاصرة.

إلا أنّ اشتراط المعاصرة إنّما هو في السيرة التي يراد بها إثبات حكم شرعي كلّي ، والكشف بها عن دليل شرعي على ذلك الحكم ، وهي التي كنّا نقصدها بهذا البحث بوصفها من وسائل إثبات الدليل الشرعي.

وهذا الشرط - المعاصرة - إنّما هو في السيرة التي يراد بها اكتشاف الحكم الشرعي الكلّي وإثباته ، أو الكشف عن دليل شرعي كلّي يصلح للاستدلال والاستنباط في كلّ الحالات والظروف والعصور.

وما تقدّم من بحوث إنّما كان يقصد هذا النوع من السيرة ، فإنّ التملّك بالحيازة أو جواز التصرّف استنادا على الرضا القلبي حكم شرعي كلّي يعمّ كلّ الأزمنة

ص: 106

والعصور ، وكذلك الاستناد إلى قول اللغوي وخبر الثقة ليس مختصّا بزمان دون آخر ، فهي كلّها أحكام شرعيّة كلّيّة.

فهذا النوع من السيرة يحتاج إلى إثبات المعاصرة ليكون السكوت إمضاء لها ، وكاشفا عن هذا الحكم الشرعي الكلّي.

ولكن هناك نحو آخر من السيرة لا يكشف عن الدليل الشرعي على حكم كلّي ، وإنّما يحقّق صغرى لحكم شرعي كلّي قد قام عليه الدليل في المرتبة السابقة.

إلا أنّه يوجد نحو آخر من السيرة العقلائيّة وهو السيرة العقلائيّة على تحقيق صغرى الحكم الشرعي ، بعد أن كان الحكم الشرعي الكلّي مفروغا من ثبوته لقيام الدليل الخاصّ عليه في مرتبة سابقة ، والمقصود من كون السيرة محقّقة لصغرى الحكم هو :

أنّ السيرة تارة تكون منقّحة لفرد حقيقي من أفراد الموضوع ، بمعنى أنّها توجد مصداقا حقيقيا لموضوع الحكم الكلّي.

فمثلا قوله تعالى : ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) المقصود من المعروف هو ما كان معروفا وشائعا ، وهذا الموضوع له مصاديق عديدة ، فإذا قامت السيرة على أنّ هذا الشيء معروف كانت بذلك موجدة لمصداق حقيقي لهذا الموضوع الذي هو موضوع لحكم شرعي كلّي بوجوب الإمساك.

وأخرى تكون منقّحة لفرد ادّعائي بمعنى أنّها توجد فردا اعتباريّا كما في الاتّفاقيّات بين المتعاملين ، فإنّ غالب الاتّفاقيّات تشكّل صغرى لحكم شرعي كلّي المدلول عليه بقوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » فتكون كلّ الشروط الضمنيّة دخيلة في العقد وإن لم تذكر في متنه ، وذلك لقيام السيرة على مدخليّتها واعتبارها.

وبهذا يتّضح أنّ هذا النحو من السيرة لا يحتاج إلى إثبات كونها معاصرة ؛ لأنّه لا يراد بها اكتشاف حكم شرعي كلّي ، بل يراد بها اكتشاف تطبيقي ومصداقي لموضوع الحكم الشرعي ، ومن المعلوم أنّ تشخيص الموضوع والمصداق خارجا بيد المكلّف ولا مدخليّة للشارع به ، ولذلك لم نحتج إلى معاصرتها للمعصوم ، وإلى ذلك أشار السيّد الشهيد بقوله :

وإلى هذا النحو من السيرة ترجع على الأغلب البناءات العقلائيّة التي يراد بها

ص: 107

تحليل مرتكزات المتعاملين ومقاصدهما النوعيّة في مقام التعامل بنحو يحقّق صغرى لأدلّة الصحّة والنفوذ في باب المعاملات.

فإنّ أغلب البناءات العقلائيّة ترجع إلى هذا النحو من السيرة ، أي إلى تحقيق الصغرى وإثبات الموضوع أو مصداق هذا الموضوع ، خصوصا البناءات العقلائيّة في موارد التعامل والعقود ، حيث إنّ السيرة تحقّق لنا المقاصد التي يقصدها المتعاملين نوعا ، أي أنّ كلّ متعاملين باعتبارهما النوعي يقصدان شروطا ضمنيّة وهي ما قامت عليه السيرة والبناء العرفي العقلائي وإن لم تذكر في متن العقد. ولذلك تكون هذه الشروط الضمنيّة موضوعا للأحكام الشرعيّة بوجوب الوفاء بها وبصحّتها ونفوذها شرعا ، وترتيب الآثار عليها.

ومثال ذلك : ما يقال من انعقاد السيرة العقلائيّة على اشتراط عدم الغبن في المعاملة ، بنحو يكون هذا الاشتراط مفهوما ضمنا وإن لم يصرّح به ، وعلى هذا الأساس يثبت خيار الغبن بالشرط الضمني في العقد ، فإنّ السيرة العقلائيّة المذكورة لم تكشف عن دليل شرعي على حكم كلّي ، وإنّما حقّقت صغرى لدليل : « المؤمنون عند شروطهم » (1).

ومثال ذلك : قيام السيرة والبناء العقلائي على اشتراط عدم الغبن في المعاملة ، فإنّ العقلاء يحكمون بأنّ كلّ متعاملين يبنيان على عدم الغبن ، بحيث إنّ كلّ واحد منهما لا يرضى بأن يكون مغلوبا ومقهورا وخاسرا في المعاملة ، بل يصرّ دائما لتحقيق الربح والفائدة ، فإذا علم أنّ هذه المعاملة فيها خسارة محقّقة فلا يقدم عليها.

ولذلك كان عدم الغبن شرطا ضمنيّا عند كلّ متعاملين ، وهذا معناه أنّ المعاملة تقع مشروطة من أساسها بأن لا يكون هناك غبن ، فإذا ظهر كون أحدهما مغبونا بنحو لا يرضى به العرف - حيث إنّه لا بدّ أن يكون هناك تفاوت في كلّ معاملة - ولا يتسامح بمقداره كان له خيار فسخ المعاملة بنظرهم واعتقادهم ؛ لأنّ الآخر يجب عليه الوفاء بتعهّده وشروطه ومن جملة هذه الشروط هو عدم الغبن الذي هو شرط ضمني.

فإذا حكم العقلاء بذلك تحقّقت صغرى لحكم شرعي كلّي وهو وجوب الوفاء بالشروط والالتزامات والتعهّدات لكلّ مؤمن ؛ لقوله علیه السلام : « المؤمنون عند

ص: 108


1- وسائل الشيعة 15 : 30 ، أبواب المهور ، ب 20 ، ح 4.

شروطهم ». وهذا الشرط - عدم الغبن - كان موجودا ضمن العقد لبناء العقلاء واتّفاقهم وسيرتهم على ذلك ، وعليه فيجب الوفاء به ، ومقتضاه جواز فسخ المعاملة للطرف الآخر ، فكانت هذه السيرة محقّقة لشرط من الشروط في المعاملة وهو عدم الغبن فيطبّق عليها الحكم الشرعي المفروغ عن ثبوته وهو وجوب الوفاء بالشرط.

وكلّ سيرة من هذا القبيل لا يشترط في تأثيرها على هذا النحو أن تكون معاصرة للمعصومين علیهم السلام ؛ لأنّها متى ما وجدت أوجدت صغرى لدليل شرعي ثابت ، فيتمسّك بإطلاق ذلك الدليل لتطبيق الحكم على صغراه.

ومن هنا نعرف أنّ كلّ سيرة من هذا القبيل لا يشترط فيها أن تكون معاصرة للمعصوم علیه السلام ؛ وذلك لأنّها لا تثبت الحكم الشرعي الكلّي ليقال باحتياجها إلى الإمضاء المستكشف من السكوت ، وإنّما هذه السيرة تثبت لنا مصداقا وتطبيقا من تطبيقات الحكم الشرعي وتفترض أنّ هذا موضوع ومصداق لذاك الحكم ، إمّا حقيقة وإمّا ادّعاء واعتبارا.

وهذا معناه أنّها تشخّص موضوع الحكم أو مصداقه أو فرد من أفراد الموضوع ، وهذا لا مدخليّة للشارع به ليسكت أو يردع عنه ؛ إذ الشارع لا يتدخّل في تحقيق وتشخيص المواضيع إلا إذا كانت هذه المواضيع من اختراع الشارع ، وأمّا إذا كانت موضوعات أحكامه واضحة ومفهومة عرفا فمصداقها يكون بيد العقلاء ، فمتى ما وجدت السيرة بهذا النحو كان معناها أنّها توجد الصغرى للدليل الشرعي بتطبيق الكبرى عليها ، وينتج من ذلك ترتيب آثار الحكم الشرعي على هذا الموضوع والمصداق. ومن هنا كان دليل خيار الغبن ثابتا باشتراطه الضمني المستكشف من جريان السيرة العقلائيّة عليه.

وبهذا نفرّق بين هذه السيرة وبين السيرة السابقة التي كنّا نتحدّث عنها ، فإنّها كانت تثبت الحكم الشرعي الكلّي من خلال سكوت المعصوم وعدم ردعه ، ولذلك احتاجت لمعاصرة المعصوم ليتحقّق سكوته ويحرز إمضاؤه.

وهناك فوارق أخرى بين السيرتين ، فإنّ السيرة التي يستكشف بها دليل شرعي على حكم كلّي تكون نتيجتها ملزمة حتّى لمن شذّ عن السيرة ، فلو فرض أنّ شخصا لم يكن يرى - بما هو عاقل - أنّ طيب نفس المالك كاف في جواز

ص: 109

التصرّف في ماله وشذّ في ذلك عن عموم الناس ، كانت النتيجة الشرعيّة المستكشفة بسيرة عموم الناس ملزمة له ؛ لأنّها حكم شرعي كلّي.

ومن جملة الفوارق بين السيرتين :

إنّ السيرة التي يستكشف بها حكم شرعي كلّي كالتملّك بالحيازة وجواز التصرّف بملك الغير بمجرّد رضاه القلبي وحجيّة خبر الثقة وقول اللغوي ، إذا ثبت بالإمضاء المستكشف من السكوت وعدم الردع ، كانت هذه السيرة مثبتة للحكم الشرعي الكلّي ، ومن المعلوم أنّ الأحكام الشرعيّة الكليّة عامّة لكلّ الناس في مختلف العصور والأزمنة إلى يوم القيامة.

وهذا معناه أنّه لو شذّ بعض الأشخاص عن هذه السيرة ولم يعتبروا أنّ الحيازة سبب للملكيّة ، أو أنّ خبر الثقة ليس حجّة لم يكن رأيهم صحيحا ، بل كان مخالفا للحكم الشرعي ؛ لأنّ هذه السيرة قد ثبت بها الحكم الشرعي فلا يحقّ لأحد من الناس أن يشذّ عنه ويخالفهم بحجّة أنّه لم يدرك هذا الأمر ، أو أنّه لم يكن من أبناء السيرة التي انعقدت على هذا الأمر ، أو أنّه لم يساهم في الاتّفاق والبناء ، إذ مثل هذه الدعوى لا تسمع ويكون ملزما بالجري وفقا لما ثبت بالسيرة ، وهذا معناه أنّ هذه السيرة ملزمة لكلّ الناس ؛ لأنّها تثبت حكما شرعيّا كلّيّا والأحكام الشرعيّة الكلّيّة شاملة لكلّ المكلّفين كالصلاة والصيام.

وأمّا السيرة التي تحقّق صغرى لمفاد دليل شرعي فلا تكون نتيجتها ملزمة لمن شذّ عنها ؛ لأنّ شذوذه عنها معناه أنّ الصغرى لم تتحقّق بالنسبة إليه فلا يجري عليه الحكم الشرعي.

ففي المثال المتقدّم لخيار الغبن إذا شذّ متعاملان عن عرف الناس وبنيا على القبول بالمعاملة والالتزام بها ولو كانت غبنيّة لم يثبت لأي واحد منهما خيار الغبن ؛ لأنّ هذا يعني عدم الاشتراط الضمني ومع عدم الاشتراط لا يشملهما دليل « المؤمنون عند شروطهم » مثلا.

وأمّا في السيرة التي يستكشف منها صغرى لحكم شرعي ، أي يعرف بها المصداق والموضوع للحكم الشرعي الكلّي ، فهذه السيرة ليست ملزمة لكلّ الناس حتّى الذين لا يرون ولا يبنون على هذا الأمر ، بل كانوا يبنون على خلافه ؛ وذلك لأنّه في فرض

ص: 110

شذوذهم عن هذه السيرة وعدم البناء عليها معناه أنّ هذه الصغرى والمصداق لم يتحقّق بالنسبة إليهم ، فإذا لم تتحقّق الصغرى فلا يمكن تطبيق الكبرى ؛ إذ من الواضح أنّه مع عدم تحقّق الموضوع لا معنى لفرض تحقّق الحكم وإلزامهم بالعمل به ، بل يكون منتفيا لانتفاء موضوعه.

فمثلا إذا شذّ بعض المتعاملين عن السيرة القائلة باشتراط عدم الغبن في المعاملة ورضيا فيما بينهم على القبول بالمعاملة حتّى وإن كانت غبنيّة وإن لم يصرّحا بذلك ، فإنّ هذا معناه عدم ثبوت خيار الغبن لأي منهما ؛ لأنّهما قد رضيا بالغبن. وهذا معناه أنّه لا يوجد شرط ولو ضمنا لأحدهما بالخيار عند ظهور الغبن ، بل الشرط على خلاف ذلك ، أي أنّهما اشترطا ضمنا عدم الفسخ وقبول المعاملة وإن ظهر الغبن فيها ، وهذا بمثابة إسقاط للخيار أو بمثابة عدم الاشتراط الضمني فلا يشمله « المؤمنون عند شروطهم » ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يوجب الوفاء بالشروط سواء الصريحة أو الضمنيّة لا يمكن تطبيقه في المقام ؛ لأنّ صغراه وهي وجود الشرط غير متحقّقة ؛ لأنّ الشرط قد ألغي ببنائهم على قبول المعاملة مطلقا أو صار هناك شرط آخر وهو إسقاط الخيار وإن ظهر الغبن فيما بعد ، وبالتالي لا يمكن إلزامهما بفسخ المعاملة إذا رضيا بها إذ لا موضوع لذلك.

* * *

ص: 111

ص: 112

البحث الثاني : إثبات صغرى ، الدليل الشرعي

اشارة

ص: 113

ص: 114

البحث الثاني

إثبات صغرى الدليل الشرعي

بعد أن تكلّمنا عن الدلالات العامّة للدليل الشرعي نريد أن نتكلّم الآن عن وسائل إثبات صدور الدليل من الشارع.

وهي على نحوين :

أحدهما : وسائل الإثبات الوجداني.

والآخر : وسائل الإثبات التعبّدي.

فالكلام يقع في قسمين :

اشارة

كان الحديث فيما تقدّم من بحوث حول إثبات الدلالات العامّة للدليل الشرعي ، أي أنّ الدليل الشرعي ما هو مفاده وما هو مدلوله ، وذكرنا لذلك مباحث الألفاظ من عموم وإطلاق ومفهوم إلى آخره.

وبعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثانية من البحث وهي إثبات صدور الدليل من الشارع ، أي أنّ هذا الدليل الذي دلّ على هذا المطلب هل هو صادر من الشارع أم لا؟ وكيف يمكننا أن نثبت كونه صادرا من الشارع؟

وهنا يوجد طريقان لإثبات صدور الدليل من الشارع :

الأوّل : الوسائل الوجدانيّة وهي الطرق التي تثبت لنا صدور الدليل من الشارع بنحو اليقين والقطع والجزم كالتواتر والإجماع.

الثاني : الوسائل التعبّديّة وهي الطرق والأمارات التي جعلها الشارع حجّة لإثبات الأدلّة عند الشكّ والاحتمال وانسداد باب العلم والواقع كخبر الثقة مثلا. فالبحث يقع في مقامين :

ص: 115

ص: 116

القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني
اشارة

ص: 117

ص: 118

القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني

تمهيد :

المقصود بالإثبات الوجداني : اليقين ، ولمّا كانت وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلينا كلّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال كالتواتر والإجماع ونحوهما على ما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، فمن المناسب أن نتحدّث بإيجاز عن كيفيّة تكوّن اليقين على أساس حساب الاحتمال فنقول :

المقصود من الإثبات الوجداني هو حصول القطع واليقين ، فهذه الوسائل توجب القطع واليقين بصدور الدليل من الشارع وجدانا وتكوينا ، ونحن نرى أنّ وسائل الإثبات الوجداني كالتواتر والإجماع كلّها تعتمد على حساب الاحتمال وهو حساب رياضي ذكر مفصّلا في كتاب ( الأسس المنطقيّة للاستقراء ).

ولذلك كان لا بدّ لنا من الحديث ولو بصورة موجزة وإجماليّة عن هذا المبدأ لنرى كيف يحصل اليقين والقطع على أساسه.

وهذا المبنى خلافا لمشهور الأصوليّين حيث اعتمدوا على حصول اليقين من التواتر والإجماع على قضايا بديهيّة منطقيّة ، بينما في الحقيقة لا بدّ أن يحصل اليقين من قضايا استنتاجيّة حدسيّة ، وسنرى أنّ كلّ ما ذكروه يعود في نهايته إلى كونه مصادرة أوّليّة.

ولهذا سوف نعقد البحث أوّلا للحديث عن هذا المبدأ ثمّ كيفيّة تطبيقه على تلك الوسائل التي تثبت وجدانا الدليل الشرعي ، فنقول :

ص: 119


1- ضمن البحث عن وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عناوين : الخبر المتواتر والإجماع وسيرة المتشرّعة.

إنّ اليقين - كما عرفنا في مباحث القطع - موضوعي وذاتي ، ونحن حينما كنّا نتكلّم عن حجّيّة القطع بعد افتراض تحقّقه لا نفرّق بين القسمين ، إذ نقول بحجّيّتهما معا كما تقدّم (1) ، ولكن حينما نتكلّم عن الوسائل الموجبة للإثبات والإحراز فمن المعقول أن نهتمّ بالتمييز بين أدوات اليقين الموضوعي وغيرها ؛ ابتعادا بقدر الإمكان عن التورّط في غير اليقين الموضوعي.

تقدّم سابقا أنّ اليقين يقسّم إلى قسمين : موضوعي وذاتي.

فاليقين الذاتي هو اليقين الحاصل من عوامل ذاتيّة ونفسيّة يتأثّر بها القاطع ولا يكون ناشئا من مبرّرات منطقيّة.

واليقين الموضوعي هو اليقين الحاصل من مبرّرات منطقيّة وموضوعيّة تفترض على الإنسان أن يقطع بالقضيّة.

وعند ما كنّا نتحدّث سابقا عن حجّيّة القطع لم نفرّق بين هذين النحوين من اليقين ؛ لأنّ اليقين بعد تحقّقه وحصوله يكون حجّة منجّزا ومعذّرا ولا يمكن للشارع أن يردع عنه ، نعم يمكنه أن يردع عن مقدّماته ومناشئه كما تقدّم.

وأمّا هنا فلا بأس من التفرقة بين هذين النحوين من اليقين لنعرف الطرق والوسائل والأدوات التي تثبت لنا اليقين الموضوعي لكي نسير معها ونبتعد بالتالي عن كلّ المبرّرات والأدوات التي توجب القطع الذاتي.

ومن هنا كان للتفرقة بين النحوين وجه معقول. ولذلك نتحدّث عن اليقين الموضوع وكيفيّة حصوله لكي لا نتورّط باليقين الذاتي ، فنقول :

واليقين الموضوعي قد يكون أوّليّا ، وقد يكون مستنتجا ، واليقين الموضوعي المستنتج بقضيّة ما له سببان :

ثمّ إنّ اليقين الموضوعي يقسّم إلى قسمين :

الأوّل : اليقين الموضوعي الأوّلي أي البديهي والضروري ، وهو اليقين الحاصل من مجرّد التوجّه إلى طرفي القضيّة بحيث لا يحتاج فيه إلى إعمال الفكر والنظر ، وإنّما يشترط فيه فقط سلامة الحواس ، كاليقين الحاصل من القضيّة القائلة بأنّ النقيضين لا

ص: 120


1- في هذه الحلقة ، ضمن البحث عن حجّيّة الظهور ، تحت عنوان : حجّيّة القطع غير المصيب وحكم التجرّي.

يجتمعان أو بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، فإنّ القطع والتصديق بهذا النحو من القضايا لا يحتاج الى أكثر من تصوّر معنى النقيضين ومعنى الاجتماع ليحكم العقل بأنّه مستحيل.

الثاني : اليقين الموضوعي المستنتج من قضيّة ما أي اليقين الذي يحتاج إلى إعمال فكر ونظر ، كاليقين الحاصل من الأقيسة أو من الاستقراء ، فإنّ هذا اليقين يحتاج إلى إعمال فكر ونظر وتوفّر مقدّمات لتكون النتيجة قطعيّة وصحيحة.

وهذا اليقين الاستنتاجي له سببان هما القياس والاستقراء.

والبحث عن القياس محلّه المنطق ، وأمّا الاستقراء فهو الذي يعتمد عليه بحثنا هنا أي حساب الاحتمالات ، فإنّه قائم على أساس الاستقراء كما سيأتي توضيحه.

أحدهما : اليقين الموضوعي بقضيّة أخرى تتضمّن أو تستلزم تلك القضيّة ، ويكون الاستنتاج حينئذ قائما على أساس قياس من الأقيسة المنطقيّة.

السبب الأوّل هو القياس ، فإنّه ينتج يقينا موضوعيّا مستنتجا من قضيّة أخرى على أساس أحد الأقيسة المنطقيّة ، بحيث تكون النتيجة متضمّنة أو مستلزمة لتلك القضيّة.

فمثال القضيّة المتضمّنة ، كقولنا : ( زيد إنسان ، وكلّ إنسان ناطق ، إذا زيد ناطق ) فإنّ هذه النتيجة متضمّنة في القضيّة الثانية ؛ لأنّ قولنا : ( كلّ إنسان ناطق ) يشمل زيد ؛ لأنّه إنسان أيضا.

ومثال القضيّة المستلزمة ، كقولنا : ( إذا كان زيد عالما فيجب إكرامه ، ولكنّه ليس بعالم ، إذا لا يجب إكرامه ) فهذه النتيجة لازم لكونه غير عالم ، إذ العالم يجب إكرامه بمقتضى القضيّة الشرطيّة وبمقتضى مفهومها لا يجب إكرام غير العالم ، والمفهوم مدلول التزامي للكلام.

والآخر : اليقين الموضوعي بمجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضيّة المستنتجة ، ولكنّ كلّ واحدة منها تشكّل قيمة احتماليّة بدرجة ما لإثبات تلك القضيّة ، وبتراكم تلك القيم الاحتماليّة تزداد درجة احتمال تلك القضيّة حتّى يصبح احتمال نقيضها قريبا من الصفر ، وبسبب ذلك يزول لضآلته ، وكون الذهن البشري مخلوقا على نحو لا يحتفظ باحتمالات ضئيلة قريبة من الصفر.

السبب الثاني لحصول اليقين الموضوعي هو الاستقراء المبني على حساب

ص: 121

الاحتمالات ، فإنّ القضيّة المراد إثباتها والتوصّل إلى اليقين بها ليست موجودة ضمن القضايا المراد الاستدلال بها ، وليست ملازمة لها كما هو الحال في القياس ، وإنّما هناك مجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضيّة المراد استنتاجها والتيقّن بها.

وإنّما هذه القضايا تشكّل بمجموعها قيمة احتماليّة بدرجة ما لإثبات هذه القضيّة بحيث تكون كلّ قضيّة فيها درجة من الاحتمال تضمّ إلى الدرجة الموجودة في القضيّة الأخرى ليحصل من المجموع على أساس الضرب حاصل لقيمة الصدق واليقين كبيرة جدّا ، ويحصل مقابل ذلك حاصل لقيمة النقيض أي لاحتمال الكذب والخلاف درجة ضئيلة جدّا قريبة من الصفر.

وبسبب ضآلة هذه القيمة الاحتماليّة للكذب والنقيض وبسبب أنّ الذهن البشري مفطور على عدم الاحتفاظ بقيمة كهذه تكون هذه القيمة قريبة من العدم ، بحيث إنّها تزول عمليّا وإن كانت بالدقّة العقليّة المتناهية لا تزال موجودة.

وبالتالي يحصل المستقرئ على يقين مستنتج من خلال استقراء مجموع هذه القضايا.

ولمزيد توضيح نضرب المثال التالي :

ومثال ذلك : أنّ نشاهد اقتران حادثة معيّنة بأخرى مرّات كثيرة جدّا ، فإنّ هذه الاقترانات المتكرّرة لا تتضمّن ولا تستلزم أن تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ، إذ قد يكون اقترانهما صدفة ويكون للحادثة الأخرى علّة غير منظورة ، ولكن حيث إنّ من المحتمل في كلّ اقتران الا يكون صدفة وإلاّ تكون هناك علّة غير منظورة فيعتبر كلّ اقتران قرينة احتماليّة على علّيّة إحدى الحادثتين للأخرى ، وبتعدّد هذه القرائن الاحتماليّة يقوى احتمال العلّيّة حتّى يتحوّل إلى اليقين.

إذا شاهدنا اقتران حادثة بأخرى مرّات عديدة بحيث كان هذا الاقتران متكرّرا كثيرا ، فإنّه من المحتمل أن تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ؛ لأنّ هذا الاحتمال يبرّر لنا الاقتران المتكرّر بينهما ، فإنّ العلّة إذا وجدت وجد المعلول بعدها ، ولكن يحتمل أيضا ألا تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ، بل يكون اقترانهما معا مجرّد صدفة ، ويكون هناك علّة كانت موجودة لكنّنا لا نعلم بها هي التي برّرت وجود الحادثة الأخرى.

ص: 122

فلأجل تعيين أحد الاحتمالين نقول : إنّ كلّ اقتران من هذه الاقترانات الكثيرة جدّا يبعد كونه صدفة ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر ولا تكون دائميّة. والحال هنا أنّ هذا الاقتران قد تكرّر دائما ضمن هذه الاقترانات الكثيرة ، فهذا يبعّد الصدفة ، يبقى أنّ هناك علّيّة بين الحادثتين إلا أنّ هذا الفرض أيضا يحتمل فيه أمران :

1 - أن تكون العلّة للحادثة الأخرى هي الحادثة الأولى وهي منظورة وموجودة.

2 - أن تكون العلّة للحادثة الأخرى هي حادثة ثالثة غير منظورة ولا نعلم بها ، ولكنّها كانت توجد صدفة عند ما تقترن الحادثة الأولى بالثانية.

ولأجل إثبات الاحتمال الأوّل دون الثاني نقول : إنّ كلّ اقتران للحادثة الأخرى بالحادثة الأولى عبارة عن قيمة احتماليّة بدرجة ما يثبت أنّ الحادثة الأولى هي العلّة للحادثة الأخرى ، وهذه القيمة الاحتماليّة موجودة في كلّ اقتران بين الحادثتين.

فإذا كانت هناك اقترانات كثيرة جدّا فإنّ القيمة الاحتماليّة لكون الحادثة الأولى علّة للحادثة الثانية سوف تكون كبيرة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة لكون العلّة هي تلك الحادثة غير المنظورة التي اقترنت صدفة في مجموع هذه الاقترانات الكبيرة جدّا سوف تكون ضئيلة جدّا ، الحاصلة من ضرب كلّ قيمة احتماليّة في كلّ اقتران بمثلها في الاقتران الآخر ، بحيث يكون الحاصل من مجموع ضرب القيم الاحتماليّة ببعضها عبارة عن رقم ضئيل جدّا لا يحتفظ العقل البشري بمثله ، بل يراه قريبا من الصفر والعدم.

وبذلك يحصل اليقين عمليّا بأنّ الحادثة الأولى هي العلّة للحادثة الثانية ، وهذا هو المسمّى بحساب الاحتمالات.

وهذا المبدأ يرتكز على أمور ثابتة مبرهن عليها في الرياضيّات ، وهي :

1 - أنّ الصدفة لا تتكرّر دائما ، فإذا تكرّرت فهي ليست صدفة.

2 - أنّ القيمة الاحتماليّة لكلّ اقتران تضرب بالقيمة الاحتماليّة للآخر فيما إذا لم تكن احتمالات المخالفة والكذب متلازمة ، بل كانت متفاوتة وليس لها مبرّر واحد دائما ، وإنّما كان لها مبرّرات عديدة. وهذا القانون سوف يضعف القيمة الاحتماليّة لاحتمال المخالفة والكذب وسوف يقوّي بدرجة عالية جدّا احتمال الصدق ؛ لأنّه ذو مبرّر واحد.

ص: 123

فإذا أخذنا القضيّة التجريبيّة التالية :

تناول حبّة الأسبرين والشفاء من الصداع ، ثمّ كرّرنا هذه التجربة مرّتين ، واحتملنا في كلّ تجربة من هاتين التجربتين أن يكون الأسبرين هو علّة الشفاء ، واحتملنا أيضا أن يكون علّة الشفاء حادثة أخرى كانت موجودة عند تناول الأسبرين ، كأن يكون قد شرب الأسبرين والشاي فشفي من الصداع ، ثمّ شرب الأسبرين والنعناع فشفي من الصداع ، فهنا سوف يتكوّن لنا علم إجمالي من أربعة أطراف وهو :

1 - أن تكون العلّة الأخرى للشفاء من الصداع موجودة في التجربة الأولى فقط.

2 - أن تكون العلّة الأخرى موجودة في التجربة الثانية فقط.

3 - أن تكون العلّة الأخرى موجودة في التجربتين معا.

4 - أن تكون العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين أصلا.

فهنا سوف يتوزّع رقم اليقين (1) على هذه الاحتمالات الأربعة فيكون لكلّ احتمال قيمة 1 / 4 بالتساوي.

والآن علينا أن نجمع القيم الاحتماليّة لإثبات أنّ الأسبرين هو العلّة ، ونجمع أيضا القيم الاحتماليّة التي تثبت أنّ العلّة هي حادثة أخرى غير منظورة.

فنقول : فعلى الاحتمال الأوّل وهو أنّ العلّة موجودة في التجربة الأولى فقط ، فالموجود فيها هو الأسبرين فيكون قيمة 1 / 4 لصالح علّيّة الأسبرين ؛ لأنّها الحادثة الموجودة في التجربة الأولى.

وهكذا بالنسبة للاحتمال الثاني ، فإنّ الأسبرين هو الموجود في التجربة الثانية فيكون قيمة 1 / 4 أيضا لصالحه.

وعلى الاحتمال الثالث فإنّ الأسبرين كالعلّة الأخرى موجود في التجربتين معا ، فيكون قيمة الربع لصالحهما.

وأمّا على الاحتمال الرابع حيث يفرض فيه أنّ العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين فالقيمة الاحتماليّة سوف تكون لصالح الأسبرين أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّ العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين.

والوجه في ذلك أنّ العلّة لو كانت غير الأسبرين لما تخلّفت في التجربتين الأولى والثانية ، فمثلا لو كانت العلّة هي الشاي في التجربة الأولى فكيف تحقّق المعلول في

ص: 124

الثانية مع غيره؟ ولو كان النعناع في التجربة الثانية هو العلّة فكيف تحقّق المعلول في الأولى؟ ولو كانت العلّة غير موجودة في التجربتين فكيف تحقّق المعلول فيهما مع عدم وجود الشاي والنعناع معا فيهما؟ فالتخلّف دليل على أنّ الأسبرين هو العلّة بناء على الاحتمالات الثلاثة ؛ لأنّه موجود فيها جميعا. فمبرّر كونه علّة موجود بخلاف غيره.

والنتيجة هي : أنّ القيمة الاحتماليّة التي تكون لصالح علّيّة الأسبرين من خلال هاتين التجربتين وبناء على هذه الأطراف الأربعة للعلم الإجمالي سوف تكون 3 / 4 ، بينما علّيّة الحادثة الأخرى غير المنظورة سوف تكون 1 / 4.

ثمّ إنّ هذه القيمة سوف تنقسم أيضا بالتساوي بين الأسبرين وبين العلّة الأخرى غير المنظورة ؛ لأنّه يحتمل أنّ العلّة الموجودة في التجربتين هي الأسبرين ، كذلك يحتمل كونها العلّة الأخرى فيكون لكلّ منهما نصف الربع أي 1 / 8.

وتكون القيمة النهائيّة لعلّيّة الأسبرين هي مجموع 3 / 4+ 1 / 8 6+ 1 / 8 7 / 8 وفي مقابلها 1 / 8 للعلّة الأخرى.

فإذا تكرّرت هذه التجربة مرّة ثالثة فإنّ أطراف العلم الإجمالي سوف تكون أزيد من أربعة أي ستّة أطراف ، وفي التجربة الرابعة سوف تكون أطراف العلم الإجمالي ثمانية ، وهكذا. وتكون القيمة الاحتماليّة لصالح علّيّة الأسبرين في التجربة الثالثة 13 / 16 ، بينما القيمة الاحتماليّة للعلّة الأخرى 1 / 16 ، وفي التجربة الرابعة تكون القيمة الاحتماليّة للآسبرين 31 / 32 ، وللعلّة الأخرى 1 / 32.

فإذا كرّرت التجربة عشرات المرّات أو مئات المرّات فسوف تكون القيمة الاحتماليّة لصالح علّيّة الأسبرين كبيرة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة للعلّة الأخرى ضئيلة جدّا لا يحتفظ الذهن البشري بمثلها عادة ، فتصل إلى قريب من الصفر والعدم ، وتكون بحكم الملغاة عمليّا ، وإن كانت هذه القيمة الاحتماليّة موجودة بالدقّة العقليّة المتناهية.

والقاعدة التي يعتمد عليها حساب الاحتمال هي قاعدة ضرب الكسور ببعضها لتكون قيمة احتمال الخلاف والكذب كسرا كبيرا جدّا ، وكلّما كان الكسر كبيرا جدّا كان قريبا من الصفر.

ص: 125

والوجه في اعتماد هذا المبدأ على قاعدة ضرب الكسور لا على قاعدة جمع الكسور هو : أنّ قاعدة جمع الكسور إنّما تكون فيما إذا لم يكن هناك احتمال الخلاف والكذب.

فمثلا إذا أعطى شخص لزيد 1 / 4 ثمّ أعطاه شخص آخر 1 / 4 ثمّ أعطاه شخص ثالث 1 / 4 ثمّ أعطاه شخص رابع 1 / 4 ، فهنا يكون مجموع ما أعطاه الأشخاص الأربعة لزيد هو واحد ، أي حاصل جمع 1 / 4+ 1 / 4+ 1 / 4 1 / 4 1 / 4* 1+ 1+ 1+ 1 / 4 4 / 4 1 ؛ لأنّه هنا لا يوجد احتمال الكذب والخلاف ؛ لأنّه يعلم يقينا بأنّ كلّ شخص أعطاه 1 / 4 ولا يحتمل الكذب أو الخلاف.

وهكذا الحال فيما إذا كان عليه لكلّ شخص من هؤلاء الأربعة ( 1 / 4 ) فإنّه يكون مدينا (1).

وأمّا قاعدة ضرب الكسور فهي تكون فيما إذا كان هناك احتمال للخلاف والكذب ، ولكن كانت احتمالات الصدق لها مبرّر واحد ، بينما احتمالات الكذب لها مبرّرات عديدة ومختلفة.

كما هو الحال في مقامنا ، فإنّ مبرّر صدق علّيّة الأسبرين للحادثة الأخرى التي اقترنت بها واحد ؛ لأنّ الأسبرين موجود في كلّ التجارب ، بينما احتمال علّيّة غيره لها مبرّرات كثيرة ، فتارة يكون هو الشاي وأخرى هو النعناع وهكذا ، واحتمال علّيّة هذه الأمور الأخرى كلّها بعيد ؛ لأنّ العلّة إذا وجدت فلا يتخلّف عنها المعلول أبدا ، واحتمال علّيّة شيء آخر صادف وجوده في كلّ هذه التجارب غير الأسبرين بعيد جدّا أيضا ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر. وسيأتي مثل ذلك في التواتر والإجماع أيضا.

ونسمّي كلّ يقين موضوعي بقضيّة مستنتجة على أساس قياس منطقي باليقين الموضوعي الاستنباطي ، وكلّ يقين موضوعي بقضيّة مستنتجة على أساس تراكم القرائن الاحتماليّة باليقين الموضوعي الاستقرائي.

وهكذا ظهر أنّ اليقين على قسمين : قياسي واستقرائي.

فاليقين المعتمد على القياس يكون مستنتجا من قياس منطقي ويكون يقينا استنباطيّا ، أي أنّ القضيّة المستنبطة والتي حصل اليقين بها موجودة ضمن إحدى القضيّتين أو مستلزمة لإحدى القضيّتين.

ص: 126

واليقين المعتمد على الاستقراء يكون مستنتجا من تراكم القيم الاحتماليّة على أساس استقراء وتتبّع عدّة تجارب ، ولا تكون القضيّة المراد استنتاجها واليقين بها متضمّنة أو مستلزمة لإحدى القضيّتين ، بل هي أجنبيّة عنها ، وإنّما تحصل من مجموع التجارب.

والنتيجة في القياس مستبطنة دائما في المقدّمات ؛ لأنّها إمّا أصغر منها أو مساوية لها ، والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنة في المقدّمات التي تكوّن منها الاستقراء ؛ لأنّها أكبر وأوسع من مقدّماتها.

والفارق بين هذين النوعين من اليقين الموضوعي الاستنتاجي هو : أنّ النتيجة في اليقين الموضوعي الاستنباطي المعتمد على القياس تكون دائما مستبطنة ضمن المقدّمات ؛ لأنّها إمّا أصغر أو مساوية.

فمثلا قولنا : ( زيد إنسان ، وكلّ إنسان ناطق ، إذا زيد ناطق ) فهنا القضيّة المستنتجة وهي ( زيد ناطق ) موجودة ضمن إحدى المقدّمتين وهي ( كلّ إنسان ناطق ) ؛ لأنّ زيد مصداق من الإنسان فهو أصغر منه.

وقولنا : ( كلّ إنسان ناطق ، وكلّ ناطق حيوان ، إذا كلّ إنسان حيوان ) تكون النتيجة المستنتجة وهي ( كلّ إنسان حيوان ) مساوية لإحدى المقدّمتين وهي ( كلّ ناطق حيوان ) ؛ لأنّ الناطق والإنسان متساويان.

فدائما في اليقين الاستنباطي القياسي النتيجة فيه موجودة في إحدى المقدّمتين ؛ لأنّها إمّا أصغر أو مساوية لها. وأمّا النتيجة في اليقين الاستنتاجي الاستقرائي فهي ليست موجودة ضمن إحدى المقدّمتين ؛ لأنّها أكبر وأوسع وأعمّ منهما ، وهما أصغر منها ، والوجه في ذلك أنّ الاستقراء والتتبّع إنّما هو للقضايا الجزئيّة ومن هذه الجزئيّات يستنتج قاعدة كلّيّة.

والطرق التي تذكر عادة لإثبات الدليل الشرعي وإحرازه وجدانا من التواتر والإجماع والسيرة كلّها من وسائل اليقين الموضوعي الاستقرائي ، كما سنرى إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ كلّ الطرق والوسائل التي تذكر عادة في علم الأصول لإثبات وإحراز الدليل الشرعي وجدانا ، وأنّه صادر من الشارع يقينا كلّها تعتمد على اليقين

ص: 127

الموضوعي الاستقرائي وبالتالي على حساب الاحتمالات ، سواء في ذلك الإجماع أو التواتر أو السيرة العقلائيّة التي تثبت الحكم الشرعي الكلّي لا التي تحقّق الصغرى ، ولا سيرة المتشرّعة فإنّهما خارجان كما سيأتي ؛ خلافا للمشهور حيث إنّ هذه الوسائل عندهم من وسائل اليقين الموضوعي القياسي ، وسيأتي عدم تماميّة مدّعاهم.

* * *

ص: 128

التواتر
اشارة

ص: 129

ص: 130

التواتر

الخبر المتواتر من وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي.

وقد عرّف في المنطق : بأنّه إخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبموجب هذا التعريف يمكن أن نستخلص أنّ المنطق يفترض أن القضيّة المتواترة ، مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى ، وهي تواجد عدد كبير من المخبرين. والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ كلّ عدد من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب.

الخبر المتواتر من جملة وسائل الإثبات والإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه ، فإنّ التواتر يفيد اليقين الموضوعي الاستنتاجي. إلا أنّ الخلاف هو : في أنّ هذا اليقين هل هو من قسم اليقين الموضوعي الاستنباطي أم هو من نوع اليقين الموضوعي الاستقرائي؟

ذهب المشهور إلى الأوّل حيث عرّفوا التواتر تبعا للمنطق الأرسطي بأنّه : ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب ) ، وهذا التعريف للتواتر مستنتج من مجموع قضيّتين :

1 - الصغرى : وهي وجود عدد كبير من الأخبار أو المخبرين.

2 - الكبرى : وهي أنّ إخبار هذه الجماعة الكبيرة من الأخبار أو المخبرين يمتنع اجتماعها على الكذب.

والنتيجة : هي أنّ هذه الأخبار أو المخبرين التي تبلغ من الكثرة هذا الحدّ يمتنع اجتماعها على الكذب فتكون صادقة ، وبالتالي يحصل اليقين منها.

أمّا الصغرى فلا كلام لنا فيها ؛ لأنّها ثابتة وجدانا بالحسّ حيث إنّ هذه الإخبارات موجودة فعلا.

ص: 131

وإنّما الكلام في الكبرى التي اعتمد عليها المشهور ، فنقول :

وهذه الكبرى يفترض المنطق أنّها عقليّة ، ومن القضايا الأوّليّة في العقل ، ومن هنا عدّ المتواترات في القضايا الضروريّة الستّ التي تنتهي إليها كلّ قضايا البرهان.

ذهب المشهور تبعا للمنطق الأرسطي أنّ هذه الكبرى ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقها على الكذب ) من القضايا العقليّة البديهيّة والضروريّة والأوّليّة التي لا تحتاج إلى البرهان والدليل ولا إلى إعمال الفكر والنظر. ولذلك عدّ المنطق الأرسطي المتواترات من جملة القضايا الستّ الأوّليّة التي يعتمد عليها كلّ برهان ودليل استنتاجي. وهذه القضايا الستّ هي : الأوّليّات والمشاهدات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات والفطريّات.

فكلّ برهان ودليل لا بدّ أن يرجع إلى إحدى هذه القضايا ؛ ليكون الاستدلال به صحيحا ومنتجا لقضيّة يقينيّة موضوعيّة على أساس القياس الاستنباطي.

وهذه القضايا نفسها لا تحتاج إلى دليل وبرهان ، بل العقل البشري بفطرته التي خلق عليها يؤمن ويصدّق بهذه القضايا بمجرّد الالتفات إليها ، من دون حاجة إلى إعمال الفكر والنظر.

وعليه ، فكبرى القياس لا بدّ أن تعود إلى إحدى هذه القضايا الستّ ؛ ليكون القياس الاستنباطي منتجا لليقين ، وإلا فلا يكون منتجا إلا الظنّ فقط.

وهذا التفسير المنطقي للقضيّة المتواترة يشابه تماما تفسير المنطق نفسه للقضيّة التجريبيّة التي هي إحدى تلك القضايا الستّ ، فإنّه يرى أنّ علّيّة الحادثة الأولى للحادثة الثانية ( التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ) مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى وهي أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ، والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائميّا.

وتفسير المشهور للقضيّة المتواترة يشبه تماما تفسيرهم للقضيّة التجريبيّة في المنطق التي هي إحدى القضايا الستّ الأوّليّة ، فالمنطق يرى أنّ استنتاج العلّيّة من اقتران الحادثتين معا مرّات عديدة معتمد على مقدّمتين :

ص: 132

1 - الصغرى ، وهي أنّ الاقتران للحادثة الثانية بالأولى كان في مرّات عديدة.

2 - الكبرى ، وهي أنّ الصدفة والاتّفاق لا يكون دائميّا.

فالنتيجة هي أنّ هذا الاقتران المتكرّر للحادثة الثانية بالأولى الثابت بالتجربة ليست اتّفاقا وصدفة ، بل هو بنحو العلّيّة.

والصغرى ثابتة وجدانا بالحسّ ؛ لأنّ هذه الاقترانات موجودة فعلا أمامنا بالتجربة.

وأمّا الكبرى فيفترض المنطق الأرسطي أنّها بديهيّة وأوّليّة يؤمن بها العقل بمجرّد تصوّرها ولا نحتاج إلى دليل وبرهان ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا.

وبكلمة أخرى :

بمعنى أنّه يمتنع أن يكون هذا الاقتران في كلّ هذه المرّات صدفة ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر لهذه الدرجة ، وهذه الكبرى يعتبرها المنطق قضيّة عقليّة أوّليّة ، ولا يمكن في رأيه أن تكون ثابتة بالتجربة ؛ لأنّها تشكّل الكبرى لإثبات كلّ قضيّة تجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هي بنفسها قضيّة تجريبيّة؟!

فالمنطق الأرسطي يؤمن بأنّ الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا فإذا تكرّرت فهي ليست صدفة ، بل تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر إلى هذه الدرجة ، فالاستمرار والدوام في التكرّر بنفسه يدلّ على أنّه ليس صدفة ، ولا يحتاج إلى إعمال فكر ونظر وبرهان ، ولذلك اعتبرها قضيّة بديهيّة.

ولا يمكن أن تكون هذه الكبرى وهي : ( أنّ المرّات الكثيرة جدّا يمتنع أن تكون صدفة واتّفاقا ) قضيّة تجريبيّة يقام عليها البرهان والدليل ، وإلا لامتنع الوصول إلى قضيّة يقينيّة من التجربة ؛ إذ سوف تكون كلّ تجربة بحاجة إلى تجربة أخرى ، وكلّ قضيّة لا بدّ من إجراء التجربة عليها مجدّدا وهذا يؤدّي عندهم إلى الدور أو التسلسل الممتنع.

ولذلك قالوا باستحالة كون هذه الكبرى ثابتة بالتجربة وبالبرهان ، وإنّما العقل يؤمن ويصدّق بها إيمانا أوّليّا ، ولذلك تشكّل الكبرى والأساس الذي يعتمد عليه القياس الاستنباطي في كلّ القضايا التجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هذه الكبرى تجريبيّة أيضا وثابتة بالدليل والبرهان؟!

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مردّها إلى

ص: 133

نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة ؛ لأنّ كذب المخبر يعني افتراض مصلحة شخصيّة معيّنة دعته إلى إخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبرين معناه افتراض أنّ مصلحة المخبر الأوّل في الإخفاء اقترنت صدفة بمصلحة المخبر الثاني في الإخفاء ، والمصلحتان معا اقترنتا صدفة بمصلحة المخبر الثالث في الشيء نفسه وهكذا ، على الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم ، فهذا يعني أيضا تكرّر الصدفة مرّات كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضيّة التجريبيّة والقضيّة المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار إليهما واعتقد بأنّ القضيّة المستدلّة ليست بأكبر من مقدّماتها.

ثمّ إنّنا إذا لاحظنا الكبرى في القضيّة التجريبيّة وهي : ( أنّ الاتّفاق والصدفة لا يتكرّر دائما ) ، والكبرى في القضيّة المتواترة : ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقهم على الكذب ) ، وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مرجعها إلى الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة ، أي أنّها تعتمد على أنّ الاتّفاق والصدفة لا يتكرّران دائما.

وبيان ذلك : أنّ الإخبارات الكثيرة التي حصلنا عليها بالحسّ والوجدان من الممكن أن تكون صادقة ، ومن المحتمل أن تكون كاذبة كلّها ، ثمّ إنّ مبرّرات صدقها جميعا واحد وهو أن يكون مضمون هذه الإخبارات قد صدر فعلا من المتكلّم ، ولهذا فإنّ كثرة الإخبار عنه صادقة ولها مبرّر معقول.

وأمّا مبرّرات كذبها فهي مختلفة كثيرا وافتراض وحدتها معناه أنّ كذب المخبر الأوّل معناه وجود مصلحة له في الكذب والإخفاء للواقع ، والحقيقة هي التي دفعته إلى الكذب وتغيير الواقع وهذا معقول في نفسه ، ولكن مصلحة الثاني في الكذب إن لوحظت في نفسها فهي كالمصلحة الأولى ، ولكن اقتران المصلحتين معا في الكذب فى شيء واحد احتمال وإن كان معقولا ولكنّه يعني أنّ المصلحتين قد اقترنتا صدفة للكذب في هذا الخبر بالخصوص.

فإذا كان هناك أخبار كثيرة جدّا فهذا يعني اقتران المصلحة في الكذب والإخفاء في كلّ خبر منها ببقيّة الأخبار لمجرّد الصدفة والاتّفاق ؛ لأنّ المفروض أنّ هؤلاء المخبرين

ص: 134

من أصناف شتّى من الناس ومن مناطق مختلفة ومن مذاهب دينيّة وسياسيّة وطبقات اجتماعيّة وإلى غير ذلك ، فكون اتّفاق الجميع على مصلحة الكذب والواقع في خصوص هذا الخبر صدفة واتّفاقا من دون أن يجمعهم على الكذب أمر واحد بعيد في نفسه ، بل غير معقول ؛ لأنّه يعني أنّ الصدفة تتكرّر دائما أو غالبا أو كثيرا جدّا.

فيكون ذاك المبرّر وهو كون المتكلّم قد صدر منه هذا الكلام هو العلّة التي تبرّر اتّفاقهم على الإخبار ، لا الكذب والمصلحة في الإخفاء ، رغم اختلافهم الشديد من جميع النواحي والجهات الذي يقتضي اقتران هذه المصالح المختلفة معا صدفة واتّفاقا.

وبهذا ظهر أنّ المنطق الأرسطي يؤمن بالقضيّة المتواترة كإيمانه بالقضيّة التجريبيّة بأنّها تعتمد على أحد الأقيسة المنطقيّة المؤلّف من المقدّمتين المشار إليهما سابقا.

ويؤمن أيضا بأنّ القضيّة المستنتجة التي حصل اليقين بها هي قضيّة مستبطنة في المقدّمتين : إمّا لأنّها أصغر ، أو لأنّها مساوية. وبالتالي ليست أكبر من المقدّمات.

هذا خلاصة رأي المشهور والمنطق الأرسطي.

ولكن الصحيح أنّ اليقين بالقضيّة التجريبيّة والمتواترة يقين موضوعي استقرائي ، وأنّ الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتماليّة الكثيرة في مصبّ واحد.

فإخبار كلّ مخبر قرينة احتماليّة من المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب ، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتماليّة على العلّيّة بينهما ، ومن المحتمل بطلانها - أي القرينة - لإمكان افتراض علّة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية ، غير أنّها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة ، فإذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتماليّة وازداد احتمال القضيّة المتواترة أو التجريبيّة ، وتناقص احتمال نقيضها حتّى يصبح قريبا من الصفر جدّا ، فيزول تلقائيّا لضآلته الشديدة.

والصحيح أنّ اليقين المستنتج من القضيّتين المتواترة والتجريبيّة عبارة عن يقين موضوعي استقرائي مبني على مبدأ حساب الاحتمالات الذي يبتني على أنّ تراكم القيمة الاحتماليّة الكثيرة لها مصبّ واحد فقط.

وتوضيح ذلك : أمّا في القضيّة التجريبيّة فقد تقدّم أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى يشكّل قرينة احتماليّة على أنّ هذا الاقتران بينهما إنّما هو لأجل أنّ الحادثة

ص: 135

الأولى علّة للحادثة الثانية ، ولكن يحتمل في الوقت نفسه ألا تكون إحداهما علّة للأخرى ، بل هناك علّة أخرى غير منظورة كانت توجد صدفة كلّما اقترنت الحادثة الثانية بالأولى. وقلنا : إنّ تكرّر اقتران الحادثة الأولى والثانية يشكّل قيمة احتماليّة كبيرة لفرضيّة أنّ إحداهما علّة للثانية ، وفي الوقت نفسه تتضاءل وتتناقص القيمة الاحتماليّة لافتراض علّة أخرى غير منظورة كانت توجد صدفة عند كلّ اقتران بين الحادثتين ، وكلّما كان التكرار كثيرا جدّا ، وكلّما ازدادت التجارب كانت القيمة الاحتماليّة لافتراض العلّيّة أكبر وكانت القيمة الاحتماليّة لافتراض علّة أخرى غير منظورة أضعف ، حتّى تصل القيمة الاحتماليّة لفرض العلّة الأخرى غير المنظورة إلى درجة قريبة من الصفر وتزول تلقائيّا وعمليّا ؛ لأنّ الذهن البشري لا يحتفظ بهكذا قيم احتماليّة ضئيلة جدّا.

وهذا الكلام ذاته يقال في القضايا المتواترة ، فإنّ كلّ إخبار من الإخبارات يشكل قيمة احتماليّة لصدق إخباره وكون المتكلّم الذي يحكي عنه بأنّه قال هذا الكلام قد صدر منه هذا الكلام واقعا وحقيقة.

ولكن يحتمل أيضا أن يكون هذا الإخبار مخالفا للواقع ، وأنّ المخبر قد كذب وأخفى الواقع وغيّره وبدّله لمصلحة دعته إلى ذلك ، فإذا جاء إخبار ثان بنفس مضمون الخبر الأوّل كان ذلك يشكّل قيمة احتماليّة لفرضيّة صدق الخبر وصدور الكلام من المتكلّم أزيد ، وكان احتمال الكذب والخلاف أضعف ؛ وذلك لأنّ مبرّر الصدق في الخبرين واحد ، وهو صدور الكلام من المتكلّم واقعا ، ولذلك أخبر عنه الأوّل والثاني ، بينما مبرّر الكذب في الخبرين متعدّد ؛ لأنّ معناه أنّ مصلحة الأوّل في الكذب قد اقترنت صدفة واتّفاقا مع مصلحة الثاني في الكذب مع اختلافهما في الأهواء والمذاهب والاتّجاهات والأفكار والاعتقادات والأماكن ونحو ذلك.

فإذا تكرّرت الإخبارات كثيرا ازدادت القيمة الاحتماليّة للصدق ؛ لأنّ مبرّرها واحد ، بينما تتضاءل القيمة الاحتماليّة للكذب ؛ لأنّ مبرّرات الكذب متعدّدة واقترانها فيما بينها ليست إلا صدفة واتّفاقا ، وكلّما كان هناك مبرّرات متعدّدة ومختلفة وغير متلازمة ومترابطة فيما بينها نطبّق قانون الضرب ممّا يؤدّي إلى تضاؤل القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الكذب إلى درجة ضئيلة جدّا قريبة من الصفر.

ص: 136

فمثلا إذا كان هناك إخباران عن قضيّة ما فهنا توجد قيمة احتماليّة لكلّ من الصدق والكذب موزّعة على أساس رقم اليقين (1) بالنحو التالي :

ففي الفرض المذكور يوجد لدينا علم إجمالي مكوّن من أربعة أطراف في هذين الخبرين كما تقدّم في القضيّة التجريبيّة ، بحيث تكون القيمة الاحتماليّة لكلّ طرف هي 1 / 4 ، وهذه القيمة سوف تكون لصالح فرضيّة الصدق في ثلاثة أطراف أي 3 / 4 ويكون 1 / 4 في الطرف الرابع موزّعا بالتساوي بين فرضيّة الصدق وفرضية الكذب ، فيكون حاصل القيمة الاحتماليّة لافتراض الصدق 3 / 4 نصف الربع أي 1 / 8 7 / 8 ويقابلها قيمة احتماليّة بدرجة 1 / 8 لفرضيّة الكذب.

فإذا كانت الإخبارات ثلاثة ازدادت أطراف العلم الاجمالي وتوزّع رقم اليقين عليها بالتساوي ويكون لصالح فرضيّة الصدق 7 / 8+ نصف الثمن أي 1 / 16 من مجموع القيمة الاحتماليّة في الأطراف ، وهو عبارة عن 7 / 8+ 1 / 16 14+ 1 / 16 15 / 16 ، ويقابلها 1 / 16 لصالح فرضيّة الكذب ، وهكذا الحال كلّما تعدّدت الإخبارات كلّما ازدادت القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الصدق وتناقصت القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الكذب إلى أن تصل إلى درجة قريبة من الصفر فتزول.

ونفس الكبرى التي افترضها المنطق القديم ليست في الحقيقة إلا قضيّة تجريبيّة أيضا ، ومن هنا نجد أنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبيّة يرتبط بكلّ ما له دخل في تقوية القرائن الاحتماليّة نفسها ، فكلّما كانت كلّ قرينة احتماليّة أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمّع القرائن الاحتماليّة أسرع.

وبهذا ظهر أنّ نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّتان التجريبيّة والمتواترة التي افترضها المنطق الأرسطي القديم وسار عليها المشهور هي بنفسها قضيّة تجريبيّة وليست بديهيّة ، بمعنى أنّ ( الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا ) التي هي الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة القائلة : ( بأنّ اجتماع عدد كبير من المخبرين على الكذب ممتنع ) والقضيّة التجريبيّة القائلة : ( بأنّ الصدفة والاتّفاق لا تتكرّران ) ، ليست قضيّة بديهيّة أوّليّة ، بل هي قضيّة استدلاليّة تحتاج إلى إعمال الفكر والنظر وهي مستنتجة من خلال التجربة والاستقراء القائم على مبدأ حساب الاحتمالات ، وهذا معناه أنّها أكبر من مقدّماتها دائما.

ص: 137

ويدلّ على ذلك : أنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبيّة يرتبط بكلّ ما له دخالة في تقوية وازدياد القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الصدق والعلّيّة ، وكلّ ما له دخالة في تضعيف القيم الاحتماليّة لفرضيّة الكذب والعلّة الأخرى غير المنظورة.

وبتعبير آخر : أنّه كلّما كانت الظروف المختلفة في شتّى النواحي والميادين مختلفة بين المخبرين كلّما كان احتمال الصدق أقوى وأوضح ، وكلّما كانت القيمة الاحتماليّة أسرع ازديادا لصالح فرضيّة الصدق ؛ لأنّ الاختلاف في تلك الأمور سواء بالخبر والقضيّة المتواترة يقوّي عدم الكذب ؛ إذ يصعب الاتّفاق على الكذب مع هذا الاختلاف والبون الشاسع بين المخبرين.

وهكذا الحال بالنسبة للقضيّة التجريبيّة ، فإنّه كلّما كان الاقتران بين الحادثتين موجودا رغم اختلاف الظروف المكانيّة والزمانيّة والمناخيّة كان معنى ذلك أنّ افتراض العلّيّة أقوى وأوضح من افتراض علّة أخرى غير منظورة.

وهكذا أيضا فيما إذا كانت الظروف في القضيّتين قريبة من بعضها وكان الاختلاف قليلا ، فإنّ القيمة الاحتماليّة لافتراض الصدق والعلّيّة سوف يكون أبطأ وأقلّ ، ويحتاج إلى إخبارات واقترانات عديدة لكي تترسّخ فكرة الصدق والعلّيّة.

وهذا الأمر واضح وجدانا وهو منبّه أيضا على بطلان ما يفترضه المنطق الأرسطي من كون هذه الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة والتجريبيّة بديهيّة وأوّليّة ؛ إذ فرضها أوّليّة معناه أنّ الظروف العوامل التي ذكرناها لن يكون لها تأثير قوّة وضعفا أو وضوحا وغموضا في افتراض الصدق والكذب ؛ لأنّ القضايا البديهيّة لا تتأثّر ولا تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأزمنة.

فمثلا الكلّ أكبر من الجزء ، أو النقيضان لا يجتمعان لا يختلف فيها أحد من الناس أبدا مهما اختلفت ظروفهما وأهوائهما وأمكنتهما بشرط سلامة الحواسّ طبعا. فعدم الاختلاف في القضايا البديهيّة والاختلاف في هذه الكبرى دليل على أنّها ليست بديهيّة وأوّليّة ، أو على الأقلّ شاهد وجداني على ذلك.

وعلى هذا الأساس نلاحظ أنّ مفردات التواتر إذا كانت إخبارات يبعد في كلّ واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصيّة تدعو إلى الإخبار بصورة معيّنة - إمّا لوثاقة المخبر أو لظروف خارجيّة - حصل اليقين بسببها بصورة أسرع. وكذلك

ص: 138

الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ، فإنّه كلّما كان احتمال وجود علّة غير منظورة أضعف كانت الدلالة الاحتماليّة لكلّ اقتران على العلّيّة أقوى ، وبالتالي يكون اليقين بالعلّيّة أسرع وأرسخ.

ومن هنا يظهر أنّه كلّما كانت الإخبارات في القضيّة المتواترة إخبارات يبعد في كلّ واحد منها الكذب والمصلحة في الإخفاء والتزوير كانت القيمة الاحتماليّة للصدق أقوى وأرسخ ، وحصل اليقين بصورة أسرع ممّا لو كانت الإخبارات لا يبعد فيها الكذب ، أو كان احتمال الكذب ليس بعيدا بتلك المثابة فإنّ حصول اليقين سوف يكون بطيئا ومحتاجا إلى مفردات أكثر من الإخبار.

فمثلا وثاقة الراوي وعدالته تكون القيمة الاحتماليّة لخبره أكبر من القيمة الاحتماليّة لخبر المجهول أو الضعيف أو الأقلّ وثاقة وعدالة ، وكذلك الظروف المحيطة بالراوي أو الرواية أو القضيّة المخبر بها من خوف وتقية ، أو كونها ممّا ينتظر فيها الإخبار والنصّ أو عدم ذلك ، وكذلك الظروف السلبيّة والاجتماعيّة ونحو ذلك فكلّها تؤثّر سلبا أو إيجابا على القيمة الاحتماليّة للصدق ، وتجعل اليقين يختلف سرعة وبطءا.

ونفس هذا الكلام يجري في القضيّة التجريبيّة ، فإنّه كلّما كان احتمال العلّيّة أكبر وأقوى وأوضح نتيجة الاقترانات الكثيرة كان حصول اليقين بعلّيّة الحادثة الأولى للثانية أقوى وأسرع ممّا لو كان احتمال العلّيّة أضعف أو أبعد من احتمال العلّة الأخرى غير المنظورة.

فإنّ هذا الاختلاف والتفاوت يؤثّر على مفردات القضيّة التجريبيّة والمتواترة سلبا وإيجابا ، فنحتاج مثلا إلى عدد غير كبير فيما إذا كانت القيمة الاحتماليّة للصدق والعلّيّة أقوى وأوضح ، بينما نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا ممّا إذا لم تكن قويّة وواضحة ، وقوّتها وضعفها راجع إلى الظروف المحيطة بالقضيّتين ، والوجه في هذا الاختلاف هو :

وليس ذلك إلا لأنّ اليقين في المتواترات والتجريبيّات ناتج عن تراكم القرائن الاحتماليّة وتجمّع قيمها الاحتماليّة المتعدّدة في مصبّ واحد ، وليس مشتقّا من قضيّة عقليّة أوّليّة كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق.

والوجه في هذا الاختلاف راجع إلى وحدة المصبّ وتعدّده ، فكلّما كان المصبّ

ص: 139

واحدا والمبرّر للصدق والعلّيّة واحدا كانت القرائن والقيم الاحتماليّة أكبر وأسرع وأوضح ممّا لو كان المصبّ متعدّدا والمبرّر مختلفا ، فإنّ القيم والقرائن الاحتماليّة تكون أقلّ وأضعف. وهذا الاختلاف شاهد آخر على أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّتان المتواترة والتجريبيّة ليست إلا قضيّة مستنتجة من تراكم القيم الاحتماليّة القائم على مبدأ حساب الاحتمال والاستقراء والتتبّع للمفردات الجزئيّة.

بخلاف مذهب المشهور المعتمد على المنطق الأرسطي القديم القائل بأنّ هذه الكبرى أوّليّة وبديهيّة ومستنتجة من القياس المنطقي الاستنباطي ، فإنّه على هذا المذهب يجب ألا يحصل مثل هذا الاختلاف والتفاوت ؛ إذ القضايا البديهيّة يصدّق بها العقل البشري في مختلف الظروف والأمكنة والعصور والأشخاص مع سلامة حواسّهم.

فالاختلاف والتفاوت سرعة وبطأ يؤكّد ويشهد أنّ هذه الكبرى مستنتجة على أساس الاستقراء لا على أساس القياس. وبالتالي تكون أكبر من مقدّماتها لا أصغر ولا مساوية.

الضابط للتواتر :

والضابط في التواتر الكثرة العدديّة ، ولكن لا يوجد تحديد دقيق لدرجة هذه الكثرة التي يحصل بسببها اليقين بالقضيّة المتواترة ؛ لأنّ ذلك يتأثّر بعوامل موضوعيّة مختلفة وعوامل ذاتيّة أيضا.

تقدّم أنّ القضيّة المتواترة يحصل اليقين بها على أساس حساب الاحتمالات نتيجة تجمّع القيم الاحتماليّة من المفردات الكثيرة ، وهذا معناه أنّ الكثرة العدديّة هي السرّ والنكتة والملاك في التواتر ، فكلّما كان هناك مفردات أكثر كان حصول اليقين أقوى وأشدّ وأرسخ.

إلا أنّ هذه الكثرة العدديّة لا تحديد لها برقم معيّن ، فلا يوجد تحديد دقيق لهذه الكثرة ، وما هو العدد الموجب لحصول اليقين ؛ وذلك لأنّ حصول اليقين يرتبط بالقيمة الاحتماليّة لكلّ خبر ، فقد تكون القيمة الاحتماليّة لخبر ضئيلة ، وتكون في آخر أكبر ، وهكذا.

وهذا التفاوت والاختلاف يرجع إلى عوامل عديدة بعضها عوامل موضوعيّة ترتبط

ص: 140

بنفس القضيّة المتواترة من حيث المخبر ونوعيّة الخبر والظروف وما إلى ذلك ، وبعضها عوامل ذاتيّة نفسيّة ترتبط بالسامع ومدى وثاقته واطمئنانه بالراوي أو القضيّة وما إلى ذلك.

وما قيل : من أنّ العدد المطلوب في التواتر 313 أو 12 أو 70 أو أكثر من 4 وما إلى ذلك ليست إلا تحديدات وهميّة وخياليّة ؛ بناء على ما ذكرناه من المبنى الصحيح لحصول اليقين من القضيّة المتواترة.

نعم ، لعلّ منشأ هذه التحديدات هو المنطق الأرسطي الذي اعتمد على أنّ الكبرى في القضيّة المتواترة بديهيّة ، وهي أنّ اجتماع عدد كبير على الكذب ممتنع ، فإنّهم يسلّمون بهذه الكبرى فبحثوا في الصغرى فقط ، وهو مقدار هذا العدد الذي يمتنع تواطؤه على الكذب.

والحاصل : أنّه يوجد عوامل موضوعيّة وعوامل ذاتيّة تؤثّر على القيمة الاحتماليّة ، وسوف نتحدّث عنها بالتفصيل :

أمّا العوامل الموضوعيّة :

فمنها : نوعيّة الشهود من حيث الوثاقة والنباهة.

أمّا العوامل الموضوعيّة فهي العوامل المرتبطة بنفس الخبر من حيث المضمون والسند ، وهي على أنحاء :

الأوّل : نوعيّة الشهود الذين أخبروا بمضمون الحادثة التي سمعوها أو شاهدوها ، فإنّه إذا شهد الثقة النبيه الفطن الذي يعرف بذكائه وأنّه لا ينسى وأنّه ثقة كبير لا يكذب فإنّ القيمة الاحتماليّة لصدق خبره سوف تكون كبيرة ، وأكبر ممّا لو كان هذا المخبر ضعيف الحال معروف بالنسيان وعدم الفطنة ، أو أنّه يكذب في بعض الأحيان ، أو أنّه مجهول الحال لا يعرف عنه شيء من هذه النواحي ، فإنّ ذلك يوجب كون القيمة الاحتماليّة لصدق خبره ضعيفة وضئيلة.

والثمرة العمليّة بين هذه الحالات أنّه إذا كان ثقة فطنا فإنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة سوف يكون أسرع ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بينما في غير هذه الحالة تحتاج إلى مفردات أكثر ؛ لأنّ القيم الاحتماليّة تكون ضئيلة وضعيفة ، ولذلك لا يحصل اليقين منه بسرعة ، بل يكون حصوله بطيئا ويحتاج إلى عدد أكبر من سابقه.

ص: 141

ومنها : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ؛ إذ بقدر ما يشتدّ التباعد والتباين يصبح احتمال اشتراكهم جميعا في كون هذا الإخبار الخاصّ ذا مصلحة شخصيّة داعية إليه بالنسبة إلى جميع أولئك المخبرين - على ما بينهم من اختلاف في الظروف - أبعد بحساب الاحتمال.

الثاني : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ، فإنّه إذا كانت المسالك السياسيّة والدينيّة والمذهبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والعقائديّة مختلفة بين الشهود الذين يخبرون بالقضيّة فإنّ درجة احتمال صدقهم سوف تكون أكبر بكثير ممّا لو كانوا متّفقين في بعض هذه الأمور أو في أكثرها.

والوجه في ذلك : أنّ مبرّر صدقهم مع كونهم مختلفين في هذه المسالك والظروف يكون واحدا ، وهو أنّ هذه القضيّة قد صدرت فعلا وواقعا ، بينما يكون مبرّر كذبهم متعدّدا ؛ إذ معناه افتراض اقتران مصالحهم صدفة ، وهذا بعيد بحساب الاحتمال ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق أكبر وحصول اليقين أسرع.

وأمّا لو كانت هذه المسالك والظروف متقاربة أو متشابهة أو متّفقة في أكثرها أو في جلّها فإنّ مبرّر الكذب حينئذ لن يكون متعدّدا ؛ إذ المفروض أنّهم متّفقون في الأهواء والمصالح ، فيكون هناك مصلحة واحدة مشتركة هي التي دعتهم للكذب ، مع احتمال صدقهم أيضا بأن تكون قد صدرت هذه الواقعة فعلا ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة وضعيفة أو مساوية لاحتمال الكذب ، وعليه نحتاج إلى مفردات أكثر ويكون حصول اليقين بطيئا ممّا كان عليه سابقا (1).

ومنها : نوعيّة القضيّة المتواترة ، وكونها مألوفة أو غريبة ، لأنّ غرابتها في نفسها تشكّل عاملا عكسيّا.

الثالث : نوع القضيّة ، فإنّ القضيّة المتواترة التي يخبر بها إذا كانت مألوفة بحيث إنّه من المتوقّع صدورها ؛ لأنّها كانت مورد حاجة أو موضع ابتلاء للناس ، فإنّ درجة التصديق بها سوف تكون أسرع وأكبر ممّا لو كانت هذه القضيّة غريبة وغير معتادة

ص: 142


1- وهذا العامل قد التفت إليه بعض من القدماء فاشترط في التواتر أن يكون المخبرون من بلدان متعدّدة أو من أديان مختلفة ، وليس ذلك إلا لأنّهم أحسّوا بفطرتهم ووجدانهم أنّ هذا الاختلاف يقوّي اليقين أكثر ويجعله أرسخ ممّا لو كانوا متّفقين في المسكن والمذهب.

ولا يتوقّع صدورها ، فإنّ درجة احتمال الصدق تكون ضئيلة وحصول اليقين يكون أبطأ. وبالتالي سوف تكون درجة احتمال الكذب وعدم الصدور أقوى ، ولذلك نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا وإلى عدد أكبر بكثير من الحالة السابقة لكي يترسّخ اليقين في النفوس.

ومنها : درجة الاطّلاع على الظروف الخاصّة لكلّ شاهد بالقدر الذي يبعّد أو يقرّب بحساب الاحتمال افتراض مصلحة شخصيّة في الإخبار.

الرابع : اطّلاع الشاهد المخبر على هذه القضيّة ومدى تصديقه وإيمانه بما يخبر به ، فإنّه إذا كان قد شاهد القضيّة أو سمعها فإنّ درجة إيمانه وتصديقه بالقضيّة يقينيّة ؛ لأنّها معتمدة على الحسّ ، ولذلك فإنّ نقله لها وإخباره عنها سوف يشكّل قيمة احتماليّة كبرى للصدق ، وبالتالي يبعد كونه ذا مصلحة شخصيّة دعته للإخبار ، بينما إذا كان إيمانه وتصديقه لما يخبر به لا يصل إلى درجة اليقين ، بل كان يظنّ بذلك نتيجة اعتماده على الحدس والاستنتاج ، فإنّ إخباره لن يكون ذا قيمة احتماليّة كبيرة لصالح الصدق والوقوع ؛ إذ يحتمل كبيرا خطؤه في تحليله واستنتاجه ؛ ولذلك يكون حصول اليقين أسرع وأقوى وأرسخ في النحو الأوّل دونه في النحو الثاني ، بل تحتاج إلى مفردات عديدة وكثيرة جدّا.

وبتعبير آخر : إنّ هذا المخبر إذا كان متأثّرا بظروف خاصّة تحيط به دعته إلى الإخبار عن القضيّة دون أن يكون قد رآها أو سمعها وإنّما استنتجها بحدسه فقط ، فسوف تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب أو لوجود مصلحة دعته لهذا الإخبار قويّة وأكبر ، بخلاف ما إذا لم يكن متأثّرا بأي نحو من العوامل والظروف الخاصّة ، بل كان يخبر مجرّدا عن انطباعاته وتصوّراته ، فإنّ اليقين يكون أسرع حصولا وأرسخ ولا نحتاج إلى مفردات كثيرة.

ومنها : درجة وضوح المدرك المدّعى للشهود ، ففرق بين الشهادة بقضيّة حسيّة مباشرة كنزول المطر ، وقضيّة ليست حسيّة ، وإنّما لها مظاهر حسيّة كالعدالة ؛ وذلك لأنّ نسبة الخطأ في المجال الأوّل أقلّ منها في المجال الثاني ، وبهذا كان حصول اليقين في المجال الأوّل أسرع.

الخامس : وضوح المدرك المدّعى للشهود أو عدمه :

ص: 143

فكلّما كانت القضيّة المخبر بها والتي يشهد عليها قضيّة حسيّة مباشرة يمكن إدراكها بالحواسّ ، كنزول المطر أو حدوث الزلزلة ونحو ذلك كانت درجة الصدق والقيمة الاحتماليّة وحصول اليقين أقوى وأسرع وأرسخ ، بينما إذا كانت القضيّة المشهود بها قضيّة حدسيّة استنتاجيّة من خلال بعض المظاهر الحسيّة كالإخبار عن العدالة لشخص من خلال كونه يصلّي ويصوم مثلا ، فإنّ درجة احتمال الصدق وحصول اليقين والقيمة الاحتماليّة تكون أقلّ وأبطأ وتحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا.

والفرق بين هذين النحوين تابع للملاك الموجود فيهما : فإنّه إذا كانت القضيّة حسيّة كان احتمال الخطأ والاشتباه والغفلة والنسيان وعدم التذكّر بعيد جدّا في نفسه ؛ لأنّ الأصل أن يكون الإنسان المشاهد للحادثة سليم الحواسّ وملتفتا وذاكرا لكلّ ما يجري أمامه ، وأنّ ما ينقله هو كلّ ما رآه أو سمعه دون زيادة أو نقصان ، ولذلك يكون التصديق أقوى وأسرع وأرسخ.

وأمّا إذا كانت القضيّة حدسيّة فإنّ احتمال الخطأ والغفلة والاشتباه في الاستنتاج والحدس الذي اعتقد به الشخص المخبر ليس بعيدا في نفسه ، وذلك لكثرة الخطأ في الاستنتاجات والاعتقادات الظنيّة ، فيحتمل احتمالا كبيرا أنّ ما استنتجه غير صحيح ، أو أنّه لا يدلّ على ما حدس به واعتقده بتلك المثابة التي حصل عليها ، أو أنّ هذه الشواهد كانت برأينا غير كافية لحصول الحدس بالعدالة مثلا ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة وتحتاج إلى مفردات كثيرة لحصول اليقين وترسّخه في الذهن.

والسرّ في ذلك أنّ استنتاجات الأشخاص ونظريّاتهم وأفكارهم تختلف عن بعضها كثيرا ، بخلاف الحسيّات فإنّه مع سلامة الحواسّ لا يختلف اثنان فيما يشاهدانه أو يسمعانه.

إلى غير ذلك من العوامل التي يقوم تأثيرها إيجابا أو سلبا على أساس دخلها في حساب الاحتمال وتقييم درجته.

فكلّ عامل من العوامل التي ذكرناها مضافا الى عوامل أخرى لم نذكرها لها تأثير سلبي أو إيجابي على درجة التصديق وعلى مفردات القضيّة وعلى القيمة الاحتماليّة.

وأمّا العوامل الذاتيّة :

ص: 144

فمنها : طباع الناس المختلفة في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة ،

فإنّ هناك حدّا أعلى من الضآلة لا يمكن لأي ذهن بشري أن يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه ، مع الاختلاف بالنسبة إلى ما هو أكبر من الاحتمالات.

الأوّل : من العوامل الذاتيّة والنفسيّة التي تختلف باختلاف الأشخاص الذين ينقل إليهم الخبر المشهود به هو طباع الناس ، فإنّ الطبائع مختلفة بين الناس إلى درجة لا تجد اثنين متّفقين على طبع واحد ، إلا أنّه يوجد بعض القواسم المشتركة لهذه الطبائع لا اختلاف فيها.

فإذا بلغت القيمة الاحتماليّة للكذب وعدم الصدق درجة كبيرة جدّا ، بحيث إنّ الذهن البشري السليم لا يحتفظ بمثل هذه القيمة ولا يلتفت إليها أبدا في سيرته وتعامله الخارجي بأن كانت درجة احتمال الخلاف والكذب واحدا من مئات الآلاف أو آلاف الآلاف ، فإنّه لا يعتني بها مطلقا نظريّا وعمليّا ، وكأنّها غير موجودة أصلا.

نعم ، هناك بعض القيم الاحتماليّة تختلف فيها طبائع الناس ، فبعض الناس يحتفظ ببعضها ويعتني بها عمليّا ، والبعض الآخر لا يلتفت إليها أصلا ، أو يلتفت إليها ولكنّه لا يعتني بها عمليّا.

وهذا معناه أنّ القيم الاحتماليّة سوف تتأثّر زيادة وضآلة بمدى احتفاظ الذهن البشري لهذه الدرجة ، وبالتالي سوف تؤثّر سلبا أو إيجابا على حصول اليقين ، أو على سرعته وبطئه أو على رسوخه وارتكازه ، ممّا يتطلّب قلّة أو كثرة المفردات.

ومنها : المبتنيات القبليّة التي قد توقّف ذهن الإنسان وتشلّ فيه حركة حساب الاحتمال وإن لم تكن إلا وهما خالصا لا منشأ موضوعي له.

الثاني : المبتنيات القبليّة التي يؤمن بها الشخص الذي ينقل إليه القضيّة ، فمثلا إذا كان لهذا الشخص بعض المعتقدات الخاطئة أو بعض الشبهات حول العصمة أو حول علم المعصوم ونحو ذلك ، فإنّ نقل القضيّة التي تخبر عن سعة علمه أو غير ذلك سوف تتعارض مع معتقداته وإن لم تكن إلا وهما وخيالا ولا أساس لها من الصحّة ، إلا أنّها على كلّ حال سوف تقف حاجزا بين هذا الشخص وبين حصوله على اليقين والتصديق ، بحيث يحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا لتزيل تلك المبتنيات من ذهنه.

وأمّا إذا كانت المبتنيات القبليّة متّفقة مع القضيّة المخبر بها ، فإنّ درجة اليقين سوف

ص: 145

تكون أسرع حصولا وأرسخ في ذهنه ، ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة لحصول ذلك.

فهذه المبتنيات القبليّة لها تأثير سلبي أو إيجابي في القيمة الاحتماليّة ، ولها تأثير على حصول اليقين والتصديق كذلك.

ومنها : مشاعر الإنسان العاطفيّة التي قد تزيد أو تنقص من تقييمه للقرائن الاحتماليّة ، أو من قدرته على التشبّث بالاحتمال الضئيل تبعا للتفاعل معه إيجابا أو سلبا.

الثالث : المشاعر العاطفيّة فإنّ القضيّة المخبر بها إذا كانت على خلاف مشاعره وإحساساته سوف تكون القيمة الاحتماليّة لدرجة التصديق ضئيلة ، وبالتالي درجة احتمال الكذب كبيرة فيحتاج إلى مفردات أكثر ويكون حصول اليقين أبطأ.

وأمّا إذا كانت القضيّة المخبر بها موافقة لعواطفه وإحساساته ومشاعره ، فإنّ درجة احتمال الصدق فيها سوف تكون أكبر ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بل يكون حصول اليقين عنده أسرع وأرسخ.

فهذه كلّها مؤثّرات نفسيّة وذاتيّة تختلف باختلاف الأشخاص ، وتبعا لها تختلف القيم الاحتماليّة للصدق والكذب ويكون حصول اليقين مختلفا أيضا سرعة وبطأ.

وهذه العوامل تسمّى بالمضعّف الكيفي الذي يضاف إلى المضعّف الكمّي الناتج عن حساب الاحتمال.

تعدد الوسائط في التواتر :

إذا كانت القضيّة الأصليّة المطلوب إثباتها ليست موضعا للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة ، وإنّما هي منقولة بواسطة شهادات أخرى - كما هو الغالب في الروايات - فلا بدّ من حصول أحد أمرين ليتحقّق ملاك التواتر.

المقصود من تعدّد الوسائط في التواتر هو أن يكون نقل القضيّة المطلوب إثباتها ليس من المخبر المباشر الذي رأى أو سمع القضيّة ، وإنّما ينقلها عنه شخص أو أكثر ، كأن ينقل زيد عن عمرو أنّه سمع أو رأى خسوف القمر ، فهنا كيف يحصل التواتر؟

وهل هو كالنقل المباشر من دون واسطة في ابتنائه على حساب الاحتمالات؟

أو إنّه يوجد طريق آخر لذلك؟

ص: 146

علما بأنّ أغلب القضايا المتواترة قد نقلت إلينا بالواسطة لا مباشرة ، فكيف يتمّ تحصيل اليقين مع هذه الواسطة؟

وكيف يتحقّق ملاك ومناط التواتر الذي هو تجميع القيم الاحتماليّة؟

وهنا يوجد طريقان لتحصيل اليقين من النقل مع الواسطة : أحدهما على مبنى المشهور ، والآخر على المسلك الصحيح ، فنقول :

أحدهما : أن تكون كلّ واحدة من تلك الشهادات الأخرى موضوعا للإخبار المباشر المتواتر ، وهكذا يلحظ التواتر في كلّ حلقة.

الطريق الأوّل : مسلك المشهور وهو أنّ نقل القضيّة المتواترة مع الواسطة يحتاج إلى أن تكون كلّ حلقة من الحلقات التي تؤلّف بمجموعها الخبر متواترة أيضا ؛ وذلك لأنّ كلّ حلقة وواسطة تعتبر إخبارا مستقلاّ في نفسه.

فإذا قال زيد بأنّ عمرا سمع أو رأى خسوف القمر أو الزلزلة ، فهذا معناه أنّه يخبر عن عمرو. فلكي يثبت إخبار عمرو في نفسه لا بدّ أن يكون النقل عنه متواترا أيضا بأن يخبر جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب بأنّ عمرا سمع أو رأى تلك القضيّة ، فإذا تحقّق التواتر ثبت قول عمرو بأنّه شاهد أو سمع.

وأمّا القضيّة نفسها فلا بدّ أيضا أن ينقلها جماعة كثيرة أيضا يمتنع تواطؤها على الكذب لتكون يقينيّة ، وهذا يفترض أنّ التواتر لا بدّ أن يلحظ في كلّ حلقة من حلقات السلسلة ، بأن ينقل جماعة كثيرة عن عمرو وجماعة كثيرة عن كلّ واحد من الذين شاهدوا أو رأوا أو سمعوا القضيّة.

فلو فرضنا على سبيل المثال أنّ الذين نقلوا القضيّة مباشرة كان عددهم 100 ، فلا بدّ أن يكون خبر كلّ واحد من هؤلاء المائة قد نقل إلينا متواترا ، بأن يكون مثلا مائة نقلوا عن الأوّل ومائة أخرى نقلت عن الثاني وهكذا ، فيكون مجموع المفردات في هذا المثال 100* 100 يساوي 10000 ، هذا إذا كانت الواسطة واحدة.

وأمّا إذا كانت الواسطة أكثر فنحتاج إلى مفردات أكثر ، فلو نقل بكر عن زيد عن عمرو بأنّه شاهد أو سمع القضيّة فلا بدّ من إثبات التواتر في نقل بكر وإثبات التواتر في نقل زيد ، فحيث إنّ العدد كان في الواسطة الأولى عبارة عن 10000 مخبر

ص: 147

فتكون المفردات في الواسطة الثانية حاصل ضرب 10000* 100 ويساوي 1000000 أي مليون مخبر.

ومن الواضح أنّ الأخبار التي نقلت إلينا بالواسطة لا تقلّ الواسطة فيها عن اثنين ، بل هي أكثر من ذلك عادة ، وهذا معناه أنّه لا بدّ على الأقلّ من مليون مخبر ليتحقّق التواتر عندنا ، وهذا فرض خيالي ونادر بل لعلّه لم يقع أصلا في أية حادثة أصلا ، لذلك يكون هذا الطريق بلا فائدة أصلا أو نادرا جدّا.

والآخر : أن نبدأ عمليّة تجميع القرائن الاحتماليّة على أساس حساب الاحتمال من القيم الاحتماليّة للخبر غير المباشر ، فتلحظ القيمة الاحتماليّة لقضيّة يشهد شخص بوجود شاهد بها ، وتجمع مع قيم احتماليّة مماثلة ، وهكذا حتّى يحصل الإحراز الوجداني.

الطريق الآخر ما هو الصحيح والمختار من أنّنا نجمع القيم الاحتماليّة التي نحصل عليها من هذا الخبر غير المباشر على أساس حساب الاحتمالات ، بحيث إنّنا نلحظ القيمة الاحتماليّة للقضيّة التي يشهد شخص بوجود شخص سمعها أو رآها ، وبعد أن تحصل هذه القيمة الاحتماليّة المبتنية على أساس أنّ صدق المخبر متوقّف على صدق الشخص الذي شاهد القضيّة تضاف إلى القيم الاحتماليّة المماثلة أو المشابهة لها والتي استنتجناها من سائر الإخبارات غير المباشرة.

وبعد تجميع القيم الاحتماليّة هذه من كافّة الإخبارات سوف يحصل الإحراز الوجداني.

فمثلا لو أخبر زيد بأنّ عمرا شاهد خسوف القمر ، أو وقوع الزلزلة ، فهنا القيمة الاحتماليّة لإخبار زيد في نفسه هي 1 / 2 ؛ لأنّ كلّ خبر في نفسه يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.

وكذلك أيضا القيمة الاحتماليّة لإخبار عمرو عن القضيّة ، فإنّه في نفسه يساوي 1 / 2 ، إلا أنّ المفروض هنا أنّ صدق زيد متوقّف على صدق عمرو ، إذ لو كان عمرو كاذبا لم يكن إخبار زيد بوقوع الحادثة عن طريق عمرو صادقا. نعم ، إخباره في نفسه بأنّ عمرا شاهد القضيّة يحتمل الصدق والكذب ، وعلى هذا فتكون القيمة الاحتماليّة لهذا الإخبار غير المباشر وفقا لقاعدة الاحتمال المشروط هي القيمة الاحتماليّة لإخبار

ص: 148

زيد ضرب القيمة الاحتماليّة لإخبار عمرو على القيمة الاحتماليّة لإخبار زيد ، أي :

أ * أ * ب 1 / 2 * 1 / 2 1 / 2 1 / 2 * 1 / 4 1 / 8 ، فتكون القيمة الاحتماليّة لهذا الخبر هي 1 / 8 ، ثمّ إنّ هذه القيمة الاحتماليّة أي 1 / 8 تضاف إلى سائر القيم الاحتماليّة المستنتجة من الإخبار الأخرى ؛ ليحصل الإحراز الوجداني واليقين الموضوعي.

فلو فرضنا أنّ قيمة الكذب في هذا الخبر هي 7 / 8 ؛ لأنّها القيمة المقابلة لقيمة الصدق ، فيما إذا كان هناك خبران سوف تقلّ وتضعف القيمة الاحتماليّة للكذب ؛ وذلك لأنّ محور الصدق واحد وهو ثبوت القضيّة واقعا ، بينما محور الكذب متعدّد وهو المصالح المختلفة المتنوعة لكلّ شخص ؛ إذ يبعد اتّفاق مصالحهم صدفة على الكذب ؛ لأنّ الصدفة كما تقدّم لا تتكرّر دائما ، وهذا معناه أنّ 7 / 8 تضرب باثنين فتكون النتيجة 7 / 16 احتمال الكذب ويقابلها 9 / 16 احتمال الصدق.

وإذا جاء خبر ثالث سوف تضرب 7 / 16 باثنين فتكون النتيجة وهكذا... حتّى يصل الأمر إلى كسر ضئيل لا يحتفظ به الذهن البشري.

والوجه في أنّنا نضرب باثنين هو أنّه كلّما جاء خبر جديد كان هناك علم إجمالي مكوّن من أطراف مضاعفة عن السابق ، فإنّ أطراف العلم الإجمالي في الخبرين هي أربعة ، بينما تكون في الأخبار الثلاثة ثمانية وفي الأربعة ستة عشر وهكذا ، ولذلك يضرب باثنين.

وهذا طريق صحيح ، غير أنّه يكلّف افتراض عدد أكبر من الشهادات غير المباشرة ؛ لأنّ مفردات الجمع أصغر قيمة منها في حالة الشهادات المباشرة.

وهذا الطريق صحيح ومنتج وله آثار وثمرات عمليّة بحيث يكون منتجا لليقين بعدد معقول عقلا وعرفا ، وليس حالة خياليّة أو نادرة ؛ لأنّه يعتمد على تجميع القيم الاحتماليّة على أساس حساب الاحتمال وضرب الكسور في القيم المخالفة التي ليس لها محور واحد.

وهذا الطريق كالطريق السابق في استنادهما على نكتة واحدة وأساس واحد ، وهو حساب الاحتمال ، وضرب القيم الاحتماليّة المخالفة ، غاية الأمر أنّه في الإخبار المباشر لم نكن نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا من الإخبارات المباشرة ؛ وذلك لأنّ درجة

ص: 149

احتمال الكذب كانت في نفسها ضئيلة ، بينما هنا فإنّ درجة احتمال الكذب في نفسها ليست ضئيلة ، ولذلك نحتاج إلى مفردات أكثر بكثير ممّا كنّا نحتاجه في الإخبار المباشر ، ولكن عددها ليس كبيرا بحيث يصبح فرضا نادرا ، بل هو معقول وواقع أيضا.

أقسام التواتر :
اشارة

إذا واجهنا عددا كبيرا من الأخبار فسوف نجد إحدى الحالات التالية :

التواتر على أقسام ثلاثة :

التواتر الإجمالي ، والتواتر المعنوي ، والتواتر اللفظي.

وسنتكلّم عن كلّ واحد منها بالتفصيل :

الحالة الأولى : أن لا يوجد بين المدلولات الخبريّة مشترك يخبر الجميع عنه ، كما إذا جمعنا بطريقة عشوائيّة مائة رواية من مختلف الأبواب ، ففي هذه الحالة من الواضح أنّ كلّ واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر.

القسم الأوّل : التواتر الإجمالي :
اشارة

وتوضيحه ضمن النقاط التالية :

الأولى : أن نعلم إجمالا بوجود مائة رواية كاذبة ضمن الروايات الموجودة عندنا في الكتب الأربعة مثلا ، فإذا التقطنا مائة رواية بصورة عشوائيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة ، فإنّ هذه المائة تشكّل طرفا من أطراف العلم الإجمالي.

فهنا نتساءل : هل تكون هذه المائة كاذبة لكونها طرفا للعلم الإجمالي ويجب الاجتناب عنها على أساس منجّزيّة العلم الإجمالي المذكور للاجتناب عن كلّ أطرافه أم لا؟

وهنا لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لكلّ أطرافه ، وإلا لكانت كلّ مائة مائة يجب الاجتناب عنها ، والمفروض أنّ أطراف العلم الإجمالي هنا كثيرة جدّا بحيث تصل إلى عدد كبير للغاية ، وبالتالي تكون النتيجة الاجتناب عن كلّ الأحاديث الموجودة ضمن الكتب الأربعة وهذا لا يقوله أحد.

ولا إشكال أيضا في أنّه لا يثبت صحّة أو كذب كلّ واحد من هذه المائة ، فلو

ص: 150

أخذ كلّ رواية من هذه الروايات المائة فلا يمكننا إثبات صحّتها أو كذبها بالعلم الإجمالي المذكور ، وإلا لانحلّ العلم الإجمالي ضمن الأفراد المعلوم كذبها وصار هناك شكّ بدوي في غيرها ، فنجري البراءة ويزول العلم الإجمالي.

ومن هنا يتّضح أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لتمام أطرافه لكثرتها التي تجعله من الشبهة غير المحصورة ، وأنّ كلّ واحد من مفردات أطرافه لا علم تفصيلي فيه لا سلبا ولا إيجابا.

وإنّما يقع الكلام في إثبات أحدها على سبيل العلم الإجمالي لكي ترتّب عليه آثار العلم الإجمالي.

النقطة الثانية : نعم ، يقع الكلام في أنّنا هل يمكننا إثبات صحّة واحد من هذه الروايات المائة على سبيل الإجمال ، بأن يكون هناك علم إجمالي بصدق رواية واحدة ضمن هذه الروايات المائة أم لا يمكننا ذلك؟

فإذا استطعنا إثبات صحّة واحدة من الروايات ضمن المائة فيمكننا ترتيب آثار العلم الإجمالي بوجود رواية صحيحة غير معلومة تفصيلا ، وبالتالي يجب الأخذ بهذه الرواية التي ثبت صدقها لكونها حجّة منجّزة أو معذّرة.

والتحقيق في ذلك : أنّ قيمة احتمال كذب الجميع ضئيلة جدّا ؛ لوجود مضعّف وهو عدد الاحتمالات التي ينبغي أن تضرب قيمها من أجل الحصول على قيمة احتمال كذب الجميع ، وكلّما كانت عوامل الضرب كسورا تضاءلت نتيجة الضرب تبعا لزيادة تلك العوامل ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكمّي ، فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلا جدّا ، ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحد على الأقلّ.

النقطة الثالثة : إنّنا على أساس حساب الاحتمالات نستطيع أن نثبت صدق رواية واحدة على الأقلّ ضمن مائة رواية مأخوذة عشوائيّا.

وبيان ذلك : أنّ أطراف العلم الإجمالي المذكور كثيرة جدّا ، وهذا معناه وجود المضعّف الكمّي الذي يعتمد عليه حساب الاحتمالات ، وعلى أساس هذا المضعّف الكمّي سوف تكون القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة ضئيلة جدّا.

وأمّا أطراف هذا العلم الإجمالي الكثيرة جدّا فيمكننا الحصول عليها عن طريق حساب التوافق ، فإنّنا لو فرضنا أنّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة تبلغ عشرة

ص: 151

آلاف رواية ، فإنّ العلم الإجمالي بكذب مائة من هذه الروايات تكون أطرافه مكوّنة من حاصل ضرب عشرة آلاف في نفسها فتبلغ الأطراف مائة مليون طرف ؛ لأنّه يمكننا أن نفرض المائة الأولى من الواحد إلى المائة ، والمائة الثانية من الاثنين إلى المائة وواحد ، والثلاثة إلى المائة والاثنين ، وهكذا.

وهذا معناه أن القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة سوف تكون 1 / 100000000 أي واحد من مائة مليون ؛ لأنّ رقم اليقين وهو الواحد يقسم بالتساوي على أطراف العلم الإجمالي ، وهذه قيمة احتماليّة ضئيلة جدّا ؛ لأنّها ناتجة عن ضرب عوامل الضرب التي هي أطراف العلم الإجمالي. وكلّما كانت عوامل الضرب كسورا كانت القيمة ضئيلة جدّا تبعا لكثرة وازدياد عوامل الضرب أي ( أطراف العلم الإجمالي ).

وبهذا ظهر أنّه على أساس هذا المضعّف الكمّي سوف تكون قيمة احتمال كذب هذه المائة بجميع مفرداتها ضئيلة جدّا ، وفي مقابل ذلك سوف يحصل اطمئنان بصدق واحدة من هذه الروايات المائة ؛ لأنّ قيمة احتمال الصدق تكون مقابلة لقيمة احتمال الكذب ، وحيث إنّ قيمة احتمال الكذب هي 1 / 100000000 فسوف تكون قيمة الصدق هي 9999999 / 100000000 ، وبهذا فإذا أخذنا واحدة من الروايات فإنّنا سوف نطمئنّ بصدقها.

يبقى هناك تساؤل آخر وهو :

هل يمكننا الوصول إلى اليقين بصدق هذه الرواية التي أخذناها من مجموع المائة أو لا يمكننا ذلك؟ وهذا ما نبحثه ضمن النقطة الرابعة ، فنقول :

ولكنّ هذا الاطمئنان يستحيل أن يتحوّل إلى يقين ، بسبب الضآلة.

ووجه الاستحالة : أنّنا نعلم إجمالا بوجود مائة خبر كاذب في مجموع الأخبار ، وهذه المائة التي التقطناها تشكّل طرفا من أطراف ذلك العلم الإجمالي ، وقيمة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها تساوي قيمة احتمال انطباقه على أيّة مائة أخرى تجمع بشكل آخر ، فلو كان المضعّف الكمّي وحده يكفي لإفناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أيّة مائة نفرضها ، وهذا يعني زوال العلم الإجمالي ، وهو خلف.

النقطة الرابعة : أنّ القيمة الاحتماليّة بصدق رواية من المائة التي التقطناها عشوائيّا

ص: 152

يستحيل أن تصبح يقينا استنادا إلى ضآلتها ؛ إذ لا يوجد هناك مضعّف كيفي على أساسه تزول تلك القيمة الاحتماليّة للكذب.

فهنا دعويان :

الأولى : عدم وجود المضعّف الكيفي في هذه الروايات ؛ لأنّ المفروض أنّنا التقطناها عشوائيّا من مختلف الأبواب فلا يوجد فيها قاسم مشترك ، ولا تتحدّث عن موضوع واحد ، وألفاظها مختلفة ، ومضامينها متعدّدة ، ورواتها مختلفون وكلّ واحد منهم يروي حديثا غير الآخر ولا يرتبط معه بشيء.

وهذا معناه أنّ النسبة بين هذه الروايات المائة فيما بينها هي نسبة التباين والاختلاف ، فهناك احتمال كذب كلّ واحد من الروايات بنحو معتدّ به وهو النصف المقابل للصدق ، وليس أحدهما أكثر من الآخر ولا يمكن تضعيف احتمال الكذب في كلّ رواية ؛ لعدم وجود المضعّف الكيفي المذكور ، فتبقى القيمة الاحتماليّة على حالها.

الثانية : أنّ المضعّف الكمّي الموجود والذي على أساسه تضاءلت القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة بجميع مفرداتها لا يكفي وحده لإفادة اليقين وزوال هذا الكسر وإن كان ضئيلا جدّا.

والوجه في ذلك هو : أنّنا حصلنا في النقطة الثالثة على نتيجة وهي أنّ كذب هذه المائة بجميع أفرادها ضئيل جدّا ، وبالتالي فإنّ صدق رواية واحدة منها على الأقلّ كبير جدّا ، إلا أنّ هذه القيمة الاحتماليّة للصدق ليست إلا اطمئنانا ولا تتحوّل إلى اليقين ؛ إذ لو تحوّلت إلى اليقين على أساس هذا المضعّف الكمّي لفعلنا ذلك في كلّ مائة أخرى ، وبالتالي نصل إلى اليقين بكلّ خبر خبر من مجموع الروايات في الكتب الأربعة ، وهذا يعني القطع بصدق جميع الروايات ، وهذا مخالف للعلم الإجمالي بكذب مائة رواية فيها ؛ لأنّه يعني زوال العلم الإجمالي مع أنّه موجود قطعا.

وبيان ذلك : أنّه لو حصلنا على اليقين بأنّ المائة من واحد إلى مائة فيها رواية صادقة ، وأنّ المائة من اثنين إلى مائة وواحد فيها رواية صادقة ، وأنّ المائة من ثلاثة إلى مائة واثنين فيها رواية صادقة وهكذا... سوف نصل في نهاية الأمر إلى أنّ كلّ مائة مائة من هذه الروايات في كلّ منها رواية صادقة.

وبالتالي سوف تكون كلّ الروايات صادقة ؛ لأنّ المئات التي نحصل عليها من عشرة

ص: 153

آلاف حديث قلنا : إنّها مائة مليون طرف ، فلو كان في كلّ مائة منها رواية واحدة صادقة لكان مجموع الروايات الصادقة هو حاصل تقسيم مائة مليون على عشرة آلاف مجموع الروايات ، وتكون النتيجة هي عشرة آلاف رواية صادقة وهي كلّ الروايات ، وهذا معناه أنّنا حصلنا على اليقين بصدق كلّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة ، وهذا معناه زوال العلم الإجمالي بكذب مائة رواية منها ، وهو خلف المفروض.

وبهذا اتّضح أنّ القيمة الاحتماليّة لصدق رواية من مائة في جميع أطراف العلم الإجمالي لا يمكن أن تتحوّل إلى اليقين ، بل لا تتعدّى الاطمئنان فقط ، وحينئذ ننتقل إلى النقطة الخامسة وهي :

وهكذا نعرف أنّ درجة احتمال صدق واحد من الأخبار على الأقلّ تبقى اطمئنانا ، وحجّيّة هذا الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة العقلائيّة على العمل بالاطمئنان ، وهل تشمل الاطمئنان الإجمالي المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه أو لا؟ إذ قد يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه الاطمئنانات الإجماليّة.

النقطة الخامسة : هل أنّ هذه القيمة الاحتماليّة المفيدة للاطمئنان بصدق رواية من مائة حجّة أم لا؟

وهذا البحث مرتبط بأنّ دليل حجّيّة الاطمئنان والذي هو السيرة العقلائيّة هل يشمل كلّ اطمئنان سواء كان منشؤه العلم الإجمالي القائم على حساب الاحتمالات أو كان منشؤه الفهم العرفي المسامحي فقط؟

ولعلّ الصحيح هو أنّ السيرة العقلائيّة لم تنعقد على العمل بالاطمئنان الناتج عن العلم الإجمالي القائم على حساب الاحتمالات ؛ لعدم وجود مثل هذا العلم الإجمالي في حياتهم وسيرتهم العمليّة ، ولو فرض وجوده فهو نادر جدّا لا يمكن الاستدلال بالسيرة على مثله ، وبالتالي لا يكون مثل هذا الاطمئنان حجّة (1).

ص: 154


1- وهذا هو الصحيح بنظر السيّد الشهيد ؛ ولذلك لم يذكر هذا القسم من أقسام التواتر في الحلقة الثانية ، ولعلّ ذكره هنا مسامحة واضحة ؛ لأنّه لا يؤدّي إلى اليقين بل إلى الاطمئنان فقط ، والمطلوب من التواتر إفادة اليقين ؛ لأنّه من وسائل الإحراز الوجداني لا التعبّدي كما تقدّم سابقا. ولعلّ ذكره هنا من باب مناسبة المنهجة العلميّة فقط.

الحالة الثانية : أن يوجد بين المدلولات الخبريّة جانب مشترك يشكّل مدلولا تحليليّا لكلّ خبر ، إمّا على نسق المدلول التضمّني أو على نسق المدلول الالتزامي ، مع عدم التطابق في المدلول المطابقي بكامله ، كالإخبارات عن قضايا متغايرة ولكنّها تتضمّن جميعا مظاهر من كرم حاتم مثلا.

القسم الثاني هو التواتر المعنوي :

والمقصود من التواتر المعنوي هنا خصوص قسميه التضمّني والالتزامي ، وأمّا القسم الثالث من التواتر المعنوي فهو داخل في الحالة الثالثة أي التواتر اللفظي ، كما سيأتي.

والتواتر المعنوي هنا أن يكون هناك قاسم مشترك بين الإخبارات بحيث يكون هذا الجانب مدلولا تحليليّا لكلّ خبر ، بمعنى أنّه إذا أردنا أن نحلّل كلّ خبر وجدنا أنّه يدلّ على هذا الجانب إمّا بالتضمّن أو بالالتزام ، إلا أنّه لا يوجد اتّفاق وتطابق بين هذه الإخبارات لا باللفظ ، فكلّ خبر له لفظ يختلف عن الآخر ، ولا بالمعنى المطابقي فكلّ خبر له مدلول مطابقي غير الآخر.

مثال ذلك : أن يخبر الأوّل عن كون زيد قد قرأ كتابا في النحو ، والثاني على أنّه قرأ بعض كتاب من المنطق ، والثالث على أنّه طالع كتب الشعر والأدب ، وهكذا...

فهذه الإخبارات مختلفة لفظا ومعنى من حيث المدلول المطابقي ، ولكنّها بالتحليل يوجد جانب مشترك بينها ، وهي أنّه قد قرأ بعض الصفحات على الأقلّ وهذا مدلول تضمّني تحليلي لكلّ خبر.

أو أن يخبر شخص عن كون حاتم قد ذبح جزورا لضيوفه ، وآخر على أنّه تصدّق بماله ، والثالث على أنّه يطعم الفقراء ، وهكذا... فإنّ هذه الإخبارات كلّها تدلّ بالتحليل عن كونه كريما ، وهذا مدلول التزامي لكلّ خبر من هذه الإخبارات المختلفة باللفظ والمعنى أي المدلول المطابقي.

فهنا هل يمكننا أن نثبت بالتواتر هذا المدلول التضمّني أو الالتزامي

أو لا يمكننا ذلك؟

والجواب : أنّه يمكننا ذلك ونصل إلى اليقين أيضا ؛ وذلك لوجود المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي أيضا ، وبيان ذلك :

ولا شكّ هنا في وجود المضعّف الكمّي الذي رأيناه في الحالة السابقة ، يضاف

ص: 155

إليه مضعّف آخر وهو : أنّ افتراض كذب الجميع يعني وجود مصلحة شخصيّة لدى كلّ مخبر دعته إلى الإخبار بذلك النحو ، وهذه المصالح الشخصيّة إن كانت كلّها تتعلّق بذلك الجانب المشترك ، فهذا يعني أنّ هؤلاء المخبرين على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم اتّفق صدفة أن كانت لهم مصالح متماثلة تماما.

وإن كانت تلك المصالح الشخصيّة تتعلّق بالنسبة إلى كلّ مخبر بكامل المدلول المطابقي ، فهذا يعني أنّها متقاربة ، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكيفي يضاف إلى ذلك المضعّف الكمّي.

لا إشكال هنا في وجود المضعّف الكمّي المذكور سابقا ، بحيث إنّ القيمة الاحتماليّة لكذب الجميع تكون قيمة ضئيلة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة للصدق تكون كبيرة جدّا على أساس الضرب في القيم الاحتماليّة ، كما تقدّم سابقا في القضيّة التجريبيّة والمتواترة.

فإنّ كلّ خبر بنفسه يشكّل قيمة احتماليّة للصدق مساوية للقيمة الاحتماليّة للكذب ، ولكن إذا لوحظ كلّ خبر مع غيره فإنّ القيمة الاحتماليّة للصدق سوف تزداد ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب سوف تضعف وتتضاءل ؛ لأنّه إذا أخذنا الخبرين الأوّلين سوف يتشكّل علم إجمالي مكوّن من أربعة أطراف ، وتكون القيمة الاحتماليّة للصدق فيه 7 / 8 ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب 1 / 8 ، فإذا أخذ ثلاثة أخبار تكون القيمة الاحتماليّة للكذب 1 / 16 وفي الأربعة تكون 1 / 32 وهكذا. إلى أن تصل القيمة الاحتماليّة للكذب ضئيلة جدّا يقابلها قيمة احتماليّة للصدق كبيرة جدّا ، وهذا هو المضعّف الكمّي.

ثمّ إنّ هذه القيمة الاحتماليّة للكذب تزول وتصل إلى اليقين ، وذلك على أساس مضعّف آخر يضاف إلى المضعّف الكمّي ، وعلى أساس هذا المضعّف الكيفي سوف تكون القيمة الاحتماليّة للكذب أكثر ضآلة ممّا كانت عليه ؛ وذلك للأسباب التالية :

عرفنا فيما سبق أنّ العوامل الموضوعيّة والذاتيّة تشكّل بمجموعها المضعّف الكيفي ، وهنا العوامل الموضوعيّة معناها أنّنا إذا لم نفترض الصدق والجزم بصدور هذه القضيّة المخبر عنها وأنّها ليست ثابتة واقعا فهذا معناه أنّ كلّ مخبر قد كذب في إخباره ، وكذبه هذا ناتج عن وجود مصلحة شخصيّة دعته إلى الكذب. وهذا معناه أنّنا

ص: 156

نفترض وجود مصالح شخصيّة للمخبرين جميعا هي التي دعتهم إلى الاختلاق والكذب ، بينما المبرّر الوحيد للصدق هو ثبوت القضيّة واقعا.

وهنا إذا لاحظنا هذه المصالح الشخصيّة المتعدّدة تارة نجدها متّفقة تماما وأخرى نجدها متقاربة.

فإذا كانت المصلحة الشخصيّة لكلّ مخبر في أنّ يخبر بذاك المدلول التحليلي ( التضمّني أو الالتزامي ) الذي نريد إثباته بالتواتر ، فهذا معناه افتراض عدد كبير من المصالح الشخصيّة قد اتّفقت صدفة على ذاك الجانب ، على الرغم من الاختلاف بين المخبرين في الظروف والأحوال والأمكنة والمذاهب والمستوى العلمي والثقافي ونحو ذلك ، وهذا بعيد في نفسه بحساب الاحتمالات ، فإنّه إذا كانت تلك العوامل الموضوعيّة مختلفة كانت مبرّرات الكذب والخلاف والصدفة بعيدة جدّا في نفسها ، ممّا يجعل مبرّر الصدق والثبوت أقوى وأرسخ.

وإذا كانت المصلحة الشخصيّة لكلّ مخبر تدعوه إلى الإخبار بمدلول كلامه المطابقي فقط من دون أن يلاحظ المدلول التحليلي لكلامه ( التضمّني أو الالتزامي ) ، فهذا معناه أنّ هذه المصالح الشخصيّة على الرغم من الاختلاف في العوامل الموضوعيّة بينهم قد كانت متقاربة جدّا فيما بينها ؛ لأنّها جميعا تتضمّن أو تستلزم ذاك الجانب المشترك ، وهذا وإن كان محتملا لكنّه بعيد أيضا بحساب الاحتمالات.

وهكذا نصل إلى اليقين بعد ضمّ المضعّف الكيفي إلى المضعّف الكمّي بناء على حساب الاحتمالات.

ولهذا نجد أن قوّة الاحتمال التي تحصل في هذه الحالة أكبر منها في الحالة السابقة ، والاحتمال القوي هنا يتحوّل إلى يقين بسبب ضآلة احتمال الخلاف ، ولا يلزم من ذلك أن ينطبق هذا على كلّ مائة خبر نجمعها ؛ لأنّ المضعّف الكيفي المذكور لا يتواجد إلا في مائة تشترك ولو في جانب من مدلولاتها الخبريّة.

وبالمقارنة بين هذه الحالة والحالة السابقة نجد أنّ القيمة الاحتماليّة للصدق هنا أكبر بكثير من القيمة الاحتماليّة للصدق هناك ؛ وذلك لأنّه هناك كان يوجد فقط المضعّف الكمّي والذي على أساسه حصل الاطمئنان بالصدق ؛ لأنّ درجة احتمال الكذب كانت بنسبة واحد من مائة مليون ، بينما هنا فإنّ هذه النسبة سوف تتضاءل أكثر ؛

ص: 157

لوجود المضعّف الكيفي في الإخبار جميعا. ولذلك سوف تضرب هذه القيمة الاحتماليّة للكذب بنفسها فتكون نسبة الكذب واحدا من آلاف الملايين.

ولذلك لا تقاس هذه الحالة على تلك أو العكس ؛ لأنّه في الحالة الأولى لم يكن هناك مضعّف كيفي في جميع الإخبارات. نعم ، يوجد مضعّف كيفي في كلّ مائة تشترك جميعا في جانب من مدلولاتها الخبريّة ، كأن تكون هذه المائة من باب الصوم جميعا أو الصلاة ، وهكذا.

ولكنّ المفروض أنّنا حصلنا على كلّ مائة عشوائيّا من مختلف الأبواب الفقهيّة ، بحيث لم يكن بينها جانب مشترك أو كان بين بعضها جانب مشترك لكنّه خفي وضئيل.

الحالة الثالثة : أن تكون الإخبارات مشتركة في المدلول المطابقي بالكامل ، كما إذا نقل المخبرون جميعا أنّهم شاهدوا قضيّة معيّنة من قضايا كرم حاتم ، وفي هذه الحالة يوجد المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي معا.

القسم الثالث : التواتر المعنوي واللفظي : والمقصود هنا أن تكون الأخبار كلّها متّفقة في المدلول المطابقي ، بحيث يخبر الجميع عن حادثة وواقعة واحدة معيّنة ، وهذا الاتّفاق في المدلول المطابقي قد يكون بلحاظ المعنى فقط دون الألفاظ وهو التواتر المعنوي بلحاظ القسم الثالث منه ، وقد يكون بلحاظ المعنى واللفظ أيضا وهو التواتر اللفظي.

فإذا أخبر جماعة كثيرة تصل إلى حدّ التواتر عن قضيّة معيّنة شخصيّة بحيث كان مدلولهم المطابقي واحدا ، بأن أخبروا عن كون حاتم قد ذبح جزورا لضيوفه ، فهنا يوجد كلا المضعّفين ( الكمّي والكيفي ) ، والنتيجة هي أنّ القيمة الاحتماليّة للكذب سوف تكون ضئيلة جدّا على أساس المضعّف الكمّي وحده ، فإذا انضمّ إليه المضعّف الكيفي سوف تزول هذه القيمة الاحتماليّة للكذب وبالتالي يحصل اليقين بثبوت هذه القضيّة.

غير أنّ هذا اليقين يختلف سرعة وشدّة ورسوخا ووضوحا بين ما إذا كان المدلول المطابقي متّفقا بالمعنى فقط وبين ما إذا كان متّفقا بالمعنى واللفظ معا ، فإنّ الثاني أقوى وأرسخ وأسرع من الأوّل ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 158

ولكن المضعّف الكيفي هنا أشدّ قوّة منه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّ مصالح الناس المختلفين كلّما افترض تطابقها وتجمّعها صدفة في محور أضيق كان ذلك أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات ؛ لما بينهم من الاختلاف والتباين في الظروف والأحوال ، فكيف أدّت مصلحة كلّ واحد إلى نفس ذلك المحور الذي أدّت إليه مصلحة الآخرين ، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى إذا كان الكلّ ينقلون واقعة واحدة بالشخص فاحتمال الخطأ فيهم جميعا أبعد ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدة بينها جانب مشترك.

أمّا كون المضعّف الكيفي هنا أقوى وأرسخ منه في الحالة السابقة فلأنّه إذا كانت المصالح الشخصيّة - التي هي مبرّر الكذب والمفروض أنّها مختلفة من شخص لآخر نتيجة اختلاف ظروفه وأحواله والعوامل الموضوعيّة التي تدعوه لذلك - قد فرض اجتماعها واتّفاقها صدفة على محور واحد فتكون القيمة الاحتماليّة للكذب ضئيلة جدّا أكثر ممّا إذا كانت المصالح الشخصيّة قد اتّفقت صدفة على محاور متعدّدة يوجد بينها جانب مشترك أي مدلول تحليلي ( تضمّني أو التزامي ).

وعليه ، فإذا كان جميع الرواة ينقلون واقعة واحدة متّفقة بمدلولها المطابقي فضلا عن التضمّني والالتزامي ، فاحتمال كذبهم واتّفاق مصالحهم على ذلك أبعد بكثير ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدة متّحدة بالمدلول التضمّني أو الالتزامي ولكنّها مختلفة بالمدلول المطابقي.

وهنا حيث إنّ المدلول المطابقي للجميع واحد بخلافه في الحالة السابقة ، فاحتمال الكذب واجتماع مبرّراته على محور واحد رغم تعدّدها سوف يكون أبعد وأكثر ضآلة من احتمال الكذب واجتماع المبرّرات على محاور مختلفة يوجد بينها جامع أو جانب مشترك ، كما هو مقتضى حساب الاحتمالات والمضعّف الكيفي.

وعلى هذا الأساس نقول أيضا :

وفي هذه الحالة كلّما كان التوحّد في المدلول أوضح ، والتطابق في الخصوصيّات بين إخبارات المخبرين أكمل ، كان احتمال الصدق أكبر والمضعّف الكيفي أقوى أثرا.

ص: 159

ومن هنا كان اشتمال كلّ خبر على نفس التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤدّيا إلى تزايد احتمال الصدق بصورة كبيرة.

والمضعّف الكيفي في هذه الحالة يختلف بين ما إذا كان النقل دقيقا جدّا بحيث كان المدلول المطابقي للجميع واحدا في اللفظ والمعنى ، وبين ما إذا كان المدلول المطابقي متّفقا بالمعنى دون الألفاظ ، فلأنّه إذا كان نقل التفاصيل كاملة في كلّ الأخبار بنحو واحد ، كان احتمال الكذب واجتماع المصالح على ذلك المحور الضيّق جدّا أبعد بكثير ممّا إذا اختلفوا في نقل التفاصيل أو نقلها البعض دون الآخر.

فلو أنّهم جميعا أخبروا بكافّة التفاصيل التي تمّت فيها تلك الحادثة ، كذبح حاتم الجزور لضيوفه بحيث نقل الجميع عدد الضيوف وكيفيّة الذبح والمناسبة لذلك وتاريخها ومكانها ، كان ذلك أقوى وأرسخ ممّا لو نقل البعض ذلك أو اختلفوا في بعض هذه التفاصيل ، وهذا سوف يؤثّر سرعة ورسوخا على اليقين. فإنّه إذا كان هناك اتّفاق في كافّة التفاصيل فسوف يكون احتمال الصدق كبيرا جدّا ، واحتمال الكذب ضئيلا جدّا ، ويكون حصول اليقين أسرع ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بخلاف ما إذا تفاوت نقل التفاصيل زيادة ونقصانا ، فإنّه يحتاج إلى مفردات أكثر من السابق ويكون حصول اليقين أقلّ سرعة منه كما هو واضح.

ومن أهمّ أمثلة ذلك : التطابق في صيغة الكلام المنقول ، كما إذا نقل الجميع كلاما لشخص بلفظ واحد ؛ لأنّنا نتساءل حينئذ : هل اتّفق أن كانت للجميع مصلحة في إبراز نفس الألفاظ بعينها مع إمكان أداء المعنى نفسه بألفاظ أخرى؟! أو كان هذا التطابق في الألفاظ عفويّا وصدفة؟! وكلّ ذلك بعيد بحساب الاحتمالات.

ومن هنا نستكشف أنّ هذا التطابق ناتج عن واقعيّة القضيّة وتقيّد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.

ومن أهمّ أمثلة التطابق والتوحّد في المدلول المطابقي والخصوصيّات هو التطابق في صيغة الكلام المنقول بلفظه ، فإذا أخبر الجميع بخبر واحد متّفق لفظا ومعنى وبكافّة التفاصيل والخصوصيّات كان ذلك أقوى وأشدّ بكثير من اختلافهم في ذلك.

لأنّنا نتساءل هنا : هل اتّفق صدفة أن كانت مصالح الجميع في الكذب أن ينقلوا

ص: 160

جميعا هذا الخبر المتّحد لفظا ومعنى؟ أو أنّ مصالحهم الشخصيّة رغم العوامل الموضوعيّة المختلفة لكلّ واحد التي تدعوه للكذب قد اتّفقت على إبراز ذلك الكلام بلفظه رغم إمكانيّة أدائه بالمعنى ، أو مع الاختلاف ولو اليسير بينهم؟!

فإنّ ذلك كلّه بعيد في نفسه على أساس حساب الاحتمالات ؛ لأنّه يفترض حدّا أعلى من الصدفة والاتّفاق لا يحتمله العقل أصلا. وعليه ، فيكون المبرّر الوحيد لهذا النقل هو صدقهم جميعا ، وأنّه قد صدر هذا الكلام بألفاظه المعيّنة من المتكلّم ، ولذلك نقلوه كاملا حفاظا على الدقّة والأمانة في النقل.

فيستكشف من هذا الاتّفاق في اللفظ أنّ الواقعة والقضيّة ثابتة واقعا ، إذ لا مبرّر لهذا الاتّفاق سوى الصدق فقط.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح الوجه في أقوائيّة التواتر اللفظي من المعنوي ، والمعنوي من الإجمالي ، كما هو واضح.

وبناء على ما تقدّم يتّضح لنا الوجه في أقوائيّة التواتر اللفظي على المعنوي ، والمعنوي على الإجمالي ، فإنّه رغم وجود المضعّف الكمّي في الجميع إلا أنّ المضعّف الكيفي يختلف حاله بينهم ، فإنّ المضعّف الكيفي ليس موجودا أصلا في التواتر الإجمالي أو هو موجود بنسبة ضئيلة جدّا ، ولذلك لم نحصل على اليقين منه ، بل غاية ما نحصل عليه منه هو الاطمئنان والذي ليس بحجّة هنا ، بينما هذا المضعّف الكيفي موجود في التواتر المعنوي واللفظي معا ، ولكن وجوده في التواتر اللفظي أوضح وأشدّ وأكبر منه في التواتر المعنوي كما هو واضح.

* * *

ص: 161

ص: 162

الإجماع
اشارة

ص: 163

ص: 164

الإجماع

الإجماع يبحث عن حجّيّته في إثبات الحكم الشرعي.

تارة : على أساس حكم العقل المدّعى بلزوم تدخّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ ، وهو ما يسمّى بقاعدة اللطف.

منشأ الإجماع هو العامّة حيث استدلّوا به على صحّة خلافة البعض بدعوى إجماع أهل الحلّ والعقد أو المدينة ونحو ذلك ، والكلام هنا في حجّيّة الإجماع.

استدلّ لحجّيّته بوجوه :

الأوّل : قاعدة اللطف أو الطريقة الحسيّة ، والمقصود منها - بنحو مختصر - هو : أنّ حكمة اللّه وعدله يوجبان عليه تعالى الا يترك عباده يقعون في المفاسد أو تفوت عليهم المصالح ، ولذلك يجب عليه أن يقرّبهم إلى كلّ ما فيه مصلحة وخير لهم ، ويبعّدهم عن كلّ ما فيه مفسده وضرر عليهم ، سواء في ذلك الأمور التكوينيّة أو الأمور التشريعيّة.

وهذه القاعدة استند عليها القدماء كالشيخ الطوسي وغيره للاستدلال على وجوب إرسال الرسل ونصب الأئمّة علیهم السلام .

وبهذه القاعدة يراد الاستدلال على حجّيّة الإجماع أيضا بتقريب :

إنّ الشارع إذا رأى العلماء قد أجمعوا على رأي ما ، فإن كان صوابا فيكون سكوته وعدم ردعه عنه صحيحا ؛ لتطابقه مع المصالح إن كان بنحو الوجوب أو المفاسد إن كان بنحو التحريم. وأمّا إذا لم يكن صوابا فالواجب يقتضي بحكم عدالته أن يبثّ الخلاف فيما بينهم ولو بإيجاد رأي مخالف لما اتّفقوا عليه ، وإلا لوقعوا في المفسدة أو لفاتت عليهم المصلحة ، وهذا لا يعقل صدوره من الشارع الحكيم العادل.

ص: 165

وبهذا يتّضح أنّ العقل يحكم بمدركاته العمليّة أنّ ما ينبغي للشارع فعله هو هذا الأمر وغير ذلك يقبح صدوره منه تعالى عن ذلك ، ولذلك كانت قاعدة اللطف عقليّة ؛ لأنّها من مدركات العقل العملي الحاكم بما ينبغي أن يكون.

وأخرى : على أساس قيام دليل شرعي على حجّيّة الإجماع ولزوم التعبّد بمفاده ، كما قام على حجّيّة خبر الثقة والتعبّد بمفاده.

الثاني : أن يستدلّ على حجّيّة الإجماع من خلال وجود دليل شرعي على حجّيّته ، فيكون الإجماع حجّة تعبّدا ، كما هو كذلك بالنسبة لخبر الثقة حيث قام الدليل الشرعي من آيات وروايات على حجّيّته ، فيؤخذ بالإجماع من باب كونه كاشفا تعبّديّا على الحكم الشرعي لا من باب كونه كاشفا وجدانيّا ، غاية الأمر كون الإجماع أحسن حالا من خبر الثقة ؛ لأنّه عبارة عن خبر عالي السند لوجود المعصوم بين المجمعين.

وثالثة : على أساس إخبار المعصوم وشهادته بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ، كما في الحديث المدّعى : « لا تجتمع أمّتي على خطأ » (1).

الثالث : أن يستدلّ على الإجماع بأنّ المعصوم قد شهد وأخبر بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ، فإذا كان هناك إجماع فهو مطابق للواقع ، وهذا دليل إنّي أي يستكشف من الإجماع وجود حكم شرعي واقعي مطابق له.

وهذا المسلك سلكه العامّة حيث ادّعوا أنّ النبيّ قد شهد بصحّة الإجماع ومطابقته للواقع بقوله : « لا تجتمع أمتي على ضلالة ». وهي أعمّ من الإثم والخطأ والمعصية والانحراف.

لكنّهم فسّروا الضلالة بخصوص الخطأ ، ولذلك نقل السيّد الشهيد الحديث هنا بالمعنى وفقا لتفسيراتهم ، فيكون الإجماع حجّة ؛ لأنّه يكشف عن الحكم الشرعي عن طريق إخبار المعصوم بأنّ الإجماع مطابق للواقع دائما.

ص: 166


1- لم نعثر عليه بهذا اللفظ سوى ما ذكره السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 608 ، إلا أنّ الموجود في مظانّه لا تجتمع أمّتي على ضلالة. انظر : سنن ابن ماجة 2 : 1303 الحديث 3950، كنوز الحقائق 2 : 287 الحديث 8854 ، كشف الخفاء 2 : 470 الحديث 2999.

ورابعة باعتباره كاشفا عن دليل شرعي ؛ لأنّ المجمعين لا يفتون عادة إلا بدليل ، فيستكشف بالإجماع وجود الدليل الشرعي على الحكم الشرعي.

الرابع : أن يكون مستند الإجماع هو الحدس والاستنتاج القائمين على الاستقراء وتتبّع فتوى العلماء ، فإنّه إذا كانت فتوى العلماء واحدة استنتج من ذلك وجود مدرك شرعي استدلّ به على هذا الحكم الشرعي ؛ لأنّ العلماء لا يفتون إلا إذا كان هناك دليل شرعي يستندون عليه بحسب العادة والغالب ، وإن كان يحتمل استنادهم في فتواهم على دليل عقلي مثلا إلا أنّ الأغلب والأكثر هو استنادهم على دليل شرعي.

وهذا أيضا معناه أنّ الإجماع يستكشف منه بطريق الإنّ وجود الدليل الشرعي وليس هو دليلا شرعيّا بنفسه ، إلا أنّ هذا الدليل الشرعي المستكشف من الإجماع هنا ليس رواية وحديثا لفظيّا ، وإنّما هو بناء عقلائي أو متشرّعي كان مرتكزا في الأذهان على أساس عمل المعصوم أو سكوته مثلا ، وإلا لنقل لنا ذلك المستند اللفظي ولكان الاستدلال به أولى.

ويقوم هذا المسلك على أساس حساب الاحتمالات كما سيأتي توضيحه ، وهو المسلك الصحيح المختار.

والفارق بين الأساس الرابع لحجّيّة الإجماع والأسس الثلاثة الأولى ، أنّ الإجماع على الأسس الأولى يكشف عن الحكم الشرعي مباشرة ، وأمّا على الأساس الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم.

والفارق بين هذه المستندات أنّه بناء على الأسس الثلاثة لحجّيّة الإجماع يكون الاجماع بنفسه حجّة شرعا يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهو في نفسه دليل يعتمد عليه لاستنباط الحكم الشرعي ، غاية الأمر أنّ حجّيّته تارة تكون بحكم العقل وأخرى بحكم الشارع ، لكنّه على كلّ حال دليل وعلّة يستكشف بها الحكم الشرعي المعلول له ، فهو طريق للاستدلال من العلّة إلى المعلول.

وأمّا بناء على الأساس الرابع فإنّ الإجماع في نفسه ليس دليلا شرعيّا على الحكم ، وإنّما هو طريق يستكشف من خلال وجود الدليل الشرعي على الحكم فيكون كاشفا عن الدليل ، والدليل هو الكاشف عن الحكم.

وهذا معناه أنّ الإجماع إنّما يكون معلولا لوجود الدليل الشرعي ، إذ لو لا وجود

ص: 167

الدليل الشرعي لما حدث إجماع ، فهو طريق للاستدلال من المعلول على العلّة التي يستنبط منها الحكم الشرعي.

والحاصل : أنّ الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يعتبر دليلا مباشرا على الحكم ؛ لأنّه علّة له. بينما على الأساس الرابع لا يكون الإجماع دليلا مباشرا على الحكم ، وإنّما يدلّ على الدليل الشرعي وهو بدوره يدلّ على الحكم فهو دليل غير مباشر على الحكم.

وهناك فارق آخر أيضا وهو :

والبحث عن حجّيّة الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعي على الحكم الشرعي ، والبحث عن حجّيّته على الأساس الأخير يدخل في نطاق إحراز صغرى الدليل الشرعي ، ويعتبر من وسائل إثبات هذا الدليل ، وهذا ما نتناوله في المقام.

وهناك فارق آخر بين هذه المستندات ، فإنّه بناء على الأسس الثلاثة الأولى لحجّيّة الإجماع يخرج الإجماع عن عنوان بحثنا أي ( وسائل الإثبات الوجداني لصدور الدليل الشرعي ) ؛ لأنّه بناء على الأساس الأوّل فالإجماع حجّة بدليل العقل ، فيكون كاشفا عن الحكم الشرعي على أساس الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيثبت بالإجماع الحكم الشرعي لا الدليل الشرعي.

وبناء على الأساس الثاني فالإجماع حجّة ؛ لأنّ الشارع قد جعل الحجّيّة له على أساس وجود دليل شرعي لفظي أو غير لفظي ، كالسيرة مثلا على حجيّة الإجماع ولزوم العمل والتعبّد بمفاده ، فيستكشف بالإجماع الحكم الشرعي أيضا على أساس كونه حجّة شرعا يجب العمل به ، ولا يستفاد منه ثبوت الدليل الشرعي على الحكم.

وبناء على الأساس الثالث فالإجماع حجّة ؛ لأنّ المعصوم قد شهد بأنّه لا يخطأ بل يصيب الواقع ، وهذا يعني أنّه إذا قام الإجماع على شيء فهذا الشيء ثابت واقعا ، وهو الحكم الذي أجمع العلماء عليه.

والحاصل : أنّه بناء على الأسس الثلاثة يستكشف من الإجماع الحكم الشرعي لا الدليل الشرعي ، وهذا الحكم كان دليله الإجماع ، والإجماع بنفسه ليس دليلا

ص: 168

شرعيّا ؛ لأنّ الدليل الشرعي إنّما هو الكتاب والسنّة اللفظيّة وغير اللفظيّة ، أي الآيات والروايات وفعل المعصوم وتقريره ، وهو ليس منها. وعليه ، فيكون البحث عن الإجماع حينئذ بحثا عن دليل غير شرعي يراد الاستدلال به على الحكم الشرعي ، وهذا معناه أنّه خارج عن عنوان بحثنا ؛ لأنّ البحث هنا معقود لإثبات صدور الدليل على الحكم الشرعي لا لإثبات الحكم نفسه.

وأمّا بناء على الأساس الرابع ، فإنّ الإجماع كان يثبت الحكم الشرعي بتوسّط كشفه عن الدليل الشرعي على أساس الملازمة بين إجماع العلماء على فتوى معيّنة وبين وجود الدليل الشرعي على هذه الفتوى ؛ لأنّ العلماء لا يفتون عادة إلا إذا كان هناك دليل شرعي على الفتوى.

وهذا يعني أنّ الإجماع يكشف عن الدليل ، والدليل هو الكاشف عن الحكم ، فيكون البحث عن الإجماع بحثا عن إحراز صغرى الدليل الشرعي ، أي أنّ هذه الفتوى المجمع عليها يوجد عليها دليل شرعي ، ففي مورد هذا الإجماع يوجد دليل شرعي ، وهذا صغرى لكبرى كلّيّة وهي كلّما ثبت الدليل الشرعي على شيء فيحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال والعمل ، فيكون البحث حينئذ من الوسائل التي تثبت وتحرز الدليل الشرعي إحرازا وجدانيّا لا تعبديّا ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع هنا كانت على أساس كاشفيّته التكوينيّة عن الدليل القائم على أساس الملازمة المذكورة.

يبقى علينا أن نبحث عن هذه الملازمة وأنّه ما هو المنشأ لها ، وعلى أي أساس كان هناك تلازم بين الإجماع على شيء وبين وجود الدليل الشرعي عليه ، وأنّ هذه الملازمة هل هي مستنتجة من خلال القياس الاستنباطي أو مستنتجة على أساس الاستقراء وحساب الاحتمالات؟

وهذا البحث نريد أن نتناوله الآن فنقول :

وقد قسّم الأصوليّون الملازمة - كما نلاحظ في ( الكفاية ) (1) وغيرها (2) - إلى ثلاثة أقسام ، ثمّ بحثوا عن تحقّق أي واحد منها بين الإجماع والدليل الشرعي وهي : الملازمة العقليّة والعاديّة والاتّفاقيّة ، ومثّلوا للأولى بالملازمة بين تواتر الخبر

ص: 169


1- كفاية الأصول : 322.
2- مصباح الأصول 2 : 138 - 140.

وصدقه ، وللثانية بالملازمة بين اتّفاق آراء المرءوسين على شيء ورأي رئيسهم ، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.

هذا التقسيم راجع لبيان وجه الملازمة بين الإجماع على شيء وبين وجود دليل شرعي عليه ، فإنّهم بعد أن ذكروا أنّ الإجماع يكشف عن الدليل الشرعي الكاشف عن الحكم أرادوا أن يبيّنوا الوجه في هذه الكاشفيّة وأنّها على أي نحو من أنحاء الملازمة ، حيث إنّ الأساس الرابع يثبت أنّ هناك ملازمة بين الإجماع وبين الدليل الشرعي ، فكلّما تحقّق الإجماع كان هناك دليل شرعي.

ولذلك قسّموا الملازمة تبعا للمنطق إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : الملازمة العقليّة :

وهي الملازمة الذاتيّة بين وجود شيء ووجود شيء آخر يستحيل انفكاكه عنه ، فإذا وجد أحدهما كان الآخر موجودا لا محالة ، كالعلّة والمعلول والأثر والمؤثّر ، ومثّلوا لها أصوليّا بتواتر الخبر وصدقه ، فإنّه إذا كان الخبر متواترا كان صادقا بحيث لا ينفكّ الصدق عنه ، فلا يمكن أن يكون متواترا وفي نفس الوقت غير صادق ، ولذلك كان التواتر من وسائل الإثبات الوجداني اليقيني كما تقدّم.

الثاني : الملازمة العاديّة :

وهي الملازمة التي تقتضيها العادة والعرف والطبع العامّ ، بحيث لا يستحيل الانفكاك عقلا ، إلا أنّه لا يقع الانفكاك عادة مع إمكان وقوعه أيضا ، كالملازمة بين صفات الإنسان الدالّة على الألم والمرض والضجر.

ومثّلوا لها في الأصول باتّفاق المرءوسين على شيء ملازم لرأي رئيسهم على ذلك أيضا ، فإنّهم إذا اتّفقوا على شيء كان لازمه أنّ رأي رئيسهم كذلك ، إلا أنّ ذلك ليس بمعنى استحالة الانفكاك ، بل لأنّ العادة والطبع والعرف يقتضي هذا الأمر ، وإلا فقد يتخلّف.

الثالث : الملازمة الاتّفاقيّة :

وهي الملازمة بين شيئين على سبيل الصدفة والاتّفاق ، بحيث إنّه لا يوجد تلازم عقلي ذاتي ولا تلازم طبعي بحسب العادة والعرف ، وإنّما اتّفق صدفة أن حصل التلازم نتيجة التكرر ، كالتلازم بين مجيء زيد ومجيء عمرو مثلا.

ص: 170

ومثّلوا لها في الأصول بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه ، فإنّ استفاضة الخبر لا توجب بنفسها الصدق ، وليس هناك عادة وعرف على ذلك ، بل قد يصدق وقد لا يصدق أيضا ، ولكنّه صادف أنّه تكرّر صدقه ، فحدثت الملازمة.

وبعد ذلك ذكروا أنّ الملازمة بين الإجماع ووجود الدليل الشرعي من النحو الأوّل ، أي الملازمة العقليّة الذاتيّة بحيث يستحيل أن ينفكّ الصدق عن الإجماع.

والتحقيق : أنّ الملازمة دائما عقليّة ، والتقسيم الثلاثي لها مردّه في الحقيقة إلى تقسيم الملزوم لا الملازمة.

والصحيح : أنّ التقسيم المذكور غير صحيح ، فإنّ الملازمة بين شيئين عقليّة دائما ؛ لأنّ العقل هو الذي ينتزع الملازمة من خلال التلازم الخارجي بين شيئين ، بحيث إنّ العقل إذا رأى أنّه إذا تحقّق هذا الشيء تحقّق ذاك وتكرّر ذلك انتزع من ذلك مفهوم الملازمة ، فالملازمة مفهوم عقلي منتزع من الخارج ، ولذلك ينبغي ملاحظة الخارج ؛ ليعرف وجه التلازم بين هذين الشيئين ( اللازم والملزوم ) ، فالتقسيم في الحقيقة مردّه إلى طرف الملازمة الذي هو الملزوم الذي يلزم منه وجود ذاك الشيء أي اللازم ، ولذلك نقول :

فإنّ الملزوم إذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه وأحواله سمّيت الملازمة عقليّة ، كالملازمة بين النار والحرارة.

إذا كان الملزوم يترتّب عليه اللازم دائما وفي كلّ الحالات والظروف لا يشذّ عنها مطلقا ، بحيث إنّه إذا ثبت ذات الملزوم ترتّب اللازم عليها ، فهذا النوع من التلازم بين الشيئين يسمّيه العقل الملازمة العقليّة ، كالملازمة بين العلّة والمعلول والأثر والمؤثّر ، فإنّه إذا ثبت ذات النار ترتّب عليها الحرارة ، فالحرارة تابعة لذات النار لا تنفكّ عنها أبدا في مختلف الأحوال والظروف ، فلأجل أنّ الملزوم يترتّب عليه اللازم دائما يسمّى بالملازمة العقليّة.

وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف متواجدة فيه غالبا وعادة سمّيت الملازمة عاديّة.

وإذا كان اللازم يترتّب على الملزوم في بعض الظروف والحالات ولكنّها كانت هذه الظروف والحالات متوفّرة ومتحقّقة غالبا وعادة فتسمّى الملازمة بينهما عاديّة ،

ص: 171

فالملازمة بينهما إنّما تنتزع فيما إذا وجدت هذه الظروف والحالات لا مطلقا ، بحيث إذا اختلّت هذه الظروف لم يكن هناك تلازم بينهما ، ولا ينتزع العقل مفهوم الملازمة.

ومثال ذلك : الملازمة بين الهرم والشيخوخة وكبر السنّ ، فإنّه إذا تحقّق الملزوم أي كبر السنّ فالغالب بحسب ما جرت عليه العادة أن يتحقّق اللازم ، إلا أنّه إنّما يتحقّق فيما إذا كان هناك ظروف وأحوال معيّنة لا مطلقا ، ولكن الغالب أن توجد هذه الظروف إلا أنّه لا يعني ثبوت اللازم دائما ، بل قد ينفكّ عن الملزوم في حالات وظروف أخرى.

وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف قد يتّفق وجودها فالملازمة اتّفاقيّة.

وإذا كان اللازم يترتّب على الملزوم في بعض الظروف والحالات التي قد يصادف وجودها فالملازمة تسمّى اتّفاقيّة ، بمعنى أنّه لا يوجد تلازم بين ذات الملزوم واللازم لا دائما ولا غالبا ، وإنّما قد تتحقّق بعض الظروف والحالات الخاصّة توجب ترتّب اللازم ، إلا أنّ هذه الظروف نادرة وقليلة وليست إلا من قبيل المصادفة فقط ، كمجيء عمرو عند مجيء زيد ، فإنّ الملازمة بينهما تنشأ نتيجة بعض الظروف الخاصّة التي لا تتوفّر دائما ولا غالبا.

وبهذا ظهر أنّ الأقسام الثلاثة تابعة للملزوم مع لازمه في الخارج لا للملازمة التي ينتزعها العقل ، فإنّها مفهوم واحد لا اختلاف فيه ، وهو أنّه إذا تحقّق شيء تحقّق شيء آخر معه ، وهذا المعنى موجود في الأقسام الثلاثة.

والصحيح : أنّه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضيّة فضلا عن الإجماع.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّه لا ملازمة بين التواتر وبين ثبوت القضيّة ، كما أنّه لا ملازمة أيضا بين الإجماع وثبوت القضيّة ، فما ذكر من أنّ هناك ملازمة عقليّة بين التواتر والإجماع من جهة وبين ثبوت القضيّة من جهة أخرى غير صحيح ؛ لأنّ الملازمة العقليّة عرفنا أنّ مردّها إلى التلازم بين ذات الملزوم وبين اللازم بحيث إنّه إذا تحقّق ذات الملزوم كان اللازم متحقّقا في كلّ الأحوال والظروف ، ولا يمكن أن ينفكّ عنه ؛ لأنّه مترتّب على ذات الملزوم.

وهنا إذا ثبت التواتر أو الإجماع فلا يترتّب على ذاتيهما ثبوت اللازم وهو ثبوت القضيّة المتواترة أو المجمع عليها ؛ لأنّه كما تقدّم سابقا في التواتر أنّ ثبوت القضيّة تابع

ص: 172

للمضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي ، الذي يتأثّر بالظروف والأحوال والعوامل الموضوعيّة والذاتيّة ، فليس ثبوت القضيّة مترتّبا على ذات التواتر فضلا عن الإجماع ، بل يرتبط ذلك بكثير من الظروف والأحوال إذا وجدت ثبتت القضيّة وإلا فلا تثبت.

وهذا لا ينفي أنّنا نعلم بالقضيّة القائلة : ( كلّ قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) ؛ لأنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفكّ عن الموضوع غير العلم بأنّه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، والتلازم يعني الثاني ، وما نعلمه هو الأوّل على أساس تراكم القيم الاحتماليّة وزوال الاحتمال المخالف لضآلته ، لا لقيام برهان على امتناع محتمله عقلا.

فإن قيل : إنّنا نعلم بالقضية القائلة : ( كل قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) ، فكيف يقال : إنّه لا ملازمة بين التواتر وبين ثبوت القضيّة؟!

كان الجواب : إنّ إنكار الملازمة العقلية بين التواتر أو الإجماع وبين ثبوت القضيّة لا يعني إنكار ونفي هذه القضيّة ، بل إنّ هذه القضيّة صادقة وصحيحة ، ولا تعارض ولا تنافي بين إنكار الملازمة العقلية وبين الإيمان بهذه القضيّة.

والوجه في ذلك هو : أنّ العلم بأنّ ( كل قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) معناه إذا تحقّق التواتر أو الإجماع على شيء كان ذلك الشيء ثابتا واقعا ، فنحن نعلم بثبوت القضيّة إذا تحقّق التواتر أو الإجماع ، أي أنّنا نعلم بتحقق المحمول إذا تحقّق الموضوع بحيث إذا وجد الموضوع وجد المحمول ولا ينفك المحمول عنه ، إلا أنّ هذا العلم أي ( أنّ المحمول لا ينفك عن الموضوع ) ليس معناه أنّه يستحيل الانفكاك عقلا ، فهناك فرق بين أمرين هما الإمكان الوقوعي والإمكان الذاتي.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفك عن الموضوع معناه أنّ المحمول ثابت وصادق ، وهذا قد يصدق مع استحالة الانفكاك عقلا كالنار والحرارة ، وقد يصدق من دون استحالة الانفكاك كما في العرض اللازم كالضاحك الذي هو وصف للإنسان فإنّه لا ينفك إلا أنّه لا يعني عدم إمكان الانفكاك عقلا ، لأنّ الإنسان لا يتوقّف على الضاحك وليس من ذاتياته ، بل يكفي كونه حيوانا ناطقا بخلاف النار والحرارة فإنّ الحرارة ، من ذاتيات النار لا تنفك عنها عقلا.

فإذا قلنا : إنّه لا ينفك فهذا معناه نفي الإمكان الوقوعي للانفكاك لا الذاتي.

وفي مقامنا عند ما نعلم بأنّ صدق القضيّة لا ينفك عن التواتر أو الإجماع ليس

ص: 173

معناه أنّه يستحيل الانفكاك عقلا ، بل قد ينفك لكنّه لم يقع خارجا ، أي أنّ المستحيل هو الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي المقابل للوجوب أو الامتناع العقليّين.

ومن جهة أخرى : أنّ الملازمة العقلية بين شيئين معناها أنّه إذا وجد الملزوم وجد اللازم ويستحيل انفكاكه عنه كالعلة والمعلول والنار والحرارة ، فالملازمة معناها استحالة الانفكاك ، وهذه القضيّة لا تعني استحالة الانفكاك بل إنّ الانفكاك لم يقع ، أمّا أنّه مستحيل أو لا ، فهذا غير معلوم.

فما نعلم به غير الملازمة لأنّ الملازمة معناها الاستحالة وما نعلم به هو عدم الانفكاك. وهذا العلم بعدم الانفكاك وأنّه لم يقع في الخارج ليس ناشئا من دليل عقلي على امتناع واستحالة الانفكاك ، بل هو ناشئ على أساس حساب الاحتمالات وتجمع القيم الاحتماليّة التي تزداد وتكبر لصالح الصدق وتتضاءل وتصغر لصالح الكذب ، إلى أن يزول احتمال الخلاف والكذب كما تقدّم ، فزوال احتمال الكذب والمخالفة للواقع كان على أساس حساب الاحتمالات المعتمد على المضعف الكمي والكيفي معا ولم يكن الزوال نتيجة برهان عقلي على استحالة الكذب ومخالفة الواقع ، ولذلك قلنا بأنّه ( إذا ثبت تواتر القضيّة ثبت صدقها ) فإنّ العلم بثبوت صدقها ناشئ من حساب الاحتمالات لا من دليل عقلي على استحالة الكذب ؛ ولذلك لا يحكم العقل باستحالة الكذب والمخالفة للواقع ، بل ذلك أمر ممكن لكنّه لم يقع في الخارج ، وهذان أمران متغايران فإنّ الاستحالة شيء وعدم الوقوع شيء آخر كما هو واضح.

فالصحيح ربط كشف الإجماع بنفس التراكم المذكور ، وفقا لحساب الاحتمال ، كما هو الحال في التواتر ، على فوارق بين مفردات الإجماع بوصفها أخبارا حدسية ومفردات التواتر بوصفها أخبارا حسية ، وقد تقدّم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة.

وبهذا يتّضح أنّ الإجماع كالتواتر يعتمد على حساب الاحتمالات وتراكم القيم الاحتماليّة للصدق وتضاؤل القيم الاحتماليّة للكذب.

فالإجماع يكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم المجمع عليه على أساس حساب الاحتمالات كما سيأتي توضيحه.

ص: 174

غاية الأمر أنّه يوجد فرق بين مفردات التواتر ومفردات الإجماع ، وهذا يؤثّر على القيم الاحتماليّة ، فإنّ التواتر كانت مفرداته عبارة عن أخبار حسية تعتمد على المشاهدة أو السماع ونحوهما ، بينما مفردات الإجماع تعتمد على إفتاء كل مجتهد من المجتهدين بحكم مطابق لما أفتى به المجتهد الآخر ، فهو يخبرنا بالفتوى ومن خلالها نستنتج وجود الدليل الشرعي أي أنّه إخبار حدسي استنتاجي بوجود الدليل الشرعي بينما التواتر كان إخبارا حسيا مباشرا عن الدليل الشرعي.

وهذا الفارق يؤثّر على القيمة الاحتماليّة للصدق سلبا أو إيجابا ؛ لأنّ احتمال الكذب والخطأ والاشتباه في الحدس والاستنتاج أكبر منه في الحس والمشاهدة والسماع ولذلك تكون قيمة احتمال الكذب أكبر من الصدق في كل مفردة من مفردات الإجماع على عكس التواتر.

مضافا إلى فوارق أخرى تقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية ، فليراجع.

وتقوم الفكرة في تفسير كشف الإجماع بحساب الاحتمال على أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة ، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا ، وبقدر احتمال الإصابة يتشكل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمع القرائن الاحتماليّة لإثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة ، تتحول بالتالي إلى يقين لتضاؤل احتمال الخلاف.

وأمّا كيفيّة كشف الإجماع عن الدليل الشرعي فتقوم على أساس حساب الاحتمالات حيث إنّ الفقيه إذا أفتى بقضية فهو يعتمد على دليل لذلك ؛ لأنّ الفقيه من جملة المتشرّعة المتديّنين الذين لا يفتون إلا بعلم فهو يعتقد بوجود دليل شرعي على فتواه وإلا لما أفتى بها ، لأنّ الإفتاء بلا علم من المحرمات الواضحة لدى المتشرّعة بنص الكتاب ، وحيث إنّه من الممكن أن يكون مصيبا باعتقاده في وجود الدليل الشرعي ، فإنّه يحتمل أن يكون مخطئا أيضا بأن يكون استند إلى ما ليس بحجّة شرعا باعتقاد أنّه حجّة شرعا ، ولذلك فإنّ فتواه هذه قد تكشف عن الدليل الشرعي وقد لا تكشف ، فهي بذاتها يحتمل فيه الإصابة وعدمها ، ولكن إذا ضمّ إلى فتواه فتوى المجتهد الآخر فسوف تتشكّل قرينة احتماليّة على الإصابة أكبر بالنحو المتقدّم في

ص: 175

التواتر ، فإذا تجمعت مفردات كثيرة للاجماع سوف تتراكم القيم الاحتماليّة للإصابة وسوف تزداد تبعا للمضعف الكمي ، وبالتالي سوف تتضاءل القيمة الاحتماليّة للخلاف وبضم المضعف الكيفي حيث إنّه يبعد أن يكون كل فقيه رغم اختلاف ظروفه وأحواله وما إلى ذلك من عوامل موضوعية قد تعمد الخلاف أو الكذب ، أو أنّه اشتبه وأخطأ بنفس ما اشتبه وأخطأ فيه الآخر ، وهذا يؤدّي إلى زوال القيمة الاحتماليّة للخلاف ويحصل اليقين بوجود الدليل الشرعي على هذه الفتوى المجمع عليها.

ويستفاد من كلام المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعي من الإجماع بالنقطتين التاليتين :

ثمّ إنّه أشكل على استفادة الدليل الشرعي من الإجماع بإشكالات عديدة أهمها الاعتراض الذي ذكره المحقّق الأصفهاني ، وهذا الاعتراض يتكّون من نقطتين ، هما :

الأولى : أنّ غاية ما يتطلبه افتراض أنّ الفقهاء لا يفتون بدون دليل هو أن يكونوا قد استندوا إلى رواية عن المعصوم اعتقدوا ظهورها في إثبات الحكم وحجيّتها سندا ، وليس من الضروري أن تكون الرواية في نظرنا لو اطلعنا عليها ظاهرة في نفس ما استظهروه منها ، كما أنّه ليس من الضروري أن يكون اعتبار الرواية سندا عند المجمعين مساوقا لاعتبارها كذلك عندنا ؛ إذ قد لا نبني إلا على حجيّة خبر الثقة ويكون المجمعون قد عملوا بالرواية لبنائهم على حجيّة الحسن أو الموثّق.

أمّا النقطة الأولى : فإنّ ما ذكر من كون الفقهاء لا يفتون عادة إلا استنادا إلى دليل شرعي لا يفيد ، وذلك لأنّه من المحتمل قويا أن يكون الفقيه قد استند إلى رواية عن المعصوم اعتقد بأنّها تامّة سندا ودلالة ، أي أنّها بحسب فهمه كانت تدلّ على الفتوى التي أفتى بها ، وبحسب مبانيه الأصولية أو الرجالية كانت صحيحة السند. إلا أنّ هذين الأمرين يختلف حالهما من فقيه لآخر ، فليس من الضروري أنّه إذا فهم فقيه شيئا من رواية أن نفهمه نحن أيضا ؛ إذ قد تكون هناك بعض النكات والقرائن والشواهد ولذلك يختلف ما يستظهره عمّا نستظهره نحن ، فكون الرواية دالة على فتواه ليس ملزما لنا ، إذ قد لا تكون دالة على هذه الفتوى بنظرنا ؛ لوجود أشياء خفيت عليه أو العكس ، وكذلك الأمر بالنسبة للسند فإنّه قد يكون اعتمد على رواية

ص: 176

صحيحة السند باعتقاده لكنها ضعيفة السند عندنا ، فإنّ المباني في الأسانيد مختلفة ، فقد يكونون قد استندوا على حجيّة الخبر الحسن وهو الإمامي الممدوح من دون توثيق أو الخبر الموثق وهو غير الإمامي الذي شهد له بالوثاقة ، بينما نحن لا نقول إلا بالخبر الصحيح وهو الذي رواه العدل الإمامي ، فيكون السند غير حجّة عندنا.

والحاصل : أنّ إفتاء العلماء معناه استنادهم على دليل شرعي ، ولكن ليس معناه أنّ هذا الدليل الشرعي تام الدلالة والسند حتّى بالنسبة إلينا ؛ ليكون حجّة علينا أيضا ، بل قد يكون ساقطا عن الاعتبار دلالة أو سندا أو كلاهما (1).

الثانية : أنّ أصل كشف الإجماع عن وجود رواية خاصّة دالة على الحكم ليس صحيحا ، لأنّنا إن كنّا نجد في مصادر الحديث رواية من هذا القبيل فهي واصلة بنفسها لا بالإجماع ، ولا بدّ من تقييمها بصورة مباشرة ، وإن كنّا لا نجد شيئا من هذا فلا يمكن أن نفترض وجود رواية ؛ إذ كيف نفسر حينئذ عدم ذكر أحد من المجمعين لها في شيء من كتب الحديث أو الاستدلال؟ مع كونها هي الأساس لفتواهم على الرغم من أنّهم يذكرون من الأخبار حتّى ما لا يستندون إليه في كثير من الأحيان.

النقطة الثانية : أنّ الإجماع لا يكشف عن وجود رواية دالة على الحكم المجمع عليه ، وذلك لأنّه إذا كانت هناك رواية فإما أن تكون موجودة في كتب الحديث وهذا يعني أن الرواية والدليل الشرعي قد وصل بنفسه إلينا لا عن طريق الإجماع ، فالإجماع لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّ الدليل الشرعي موجود بنفسه حينئذ ، فلا بد من الرجوع إلى هذه الرواية وتقييمها من حيث السند والدلالة فإن كانت تامّة فيؤخذ بها مستندا ودليلا للحكم وإلا فلا.

وإن لم تكن منقولة في كتب الحديث فكيف يمكننا أن نفترض مثل هذه الرواية؟

إذ المفروض أنّها كانت مستندا تام الدلالة والسند للحكم المجمع عليه ، والمفتون جميعا استندوا عليها ، فكيف لم ينقلها أحد منهم مع أنّهم نقلوا في كتبهم الكثير من

ص: 177


1- وهذا الاشكال مبني على أن يكون المبنى الجديد الذي نقول به نحن غير موجود عند المجمعين أو لا قائل به منهم ، وإلا فلا يتمّ الإشكال لأنّه لو كان موجودا بينهم فمعناه أنّه لا يضر بصحّة الرواية دلالة وسندا وإلا لما أجمعوا على الفتوى كلّهم.

الروايات الصحيحة والضعيفة؟ فلما ذا لم تنقل هذه الرواية مع توفر الدواعي والظروف لنقلها؟ فعدم نقلها يدلّ على عدم وجودها وإلا لنقلت.

والحاصل : أنّ الإجماع يمنع كونه كاشفا عن الدليل الشرعي ، فلا يكون حجّة.

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول :

إنّ الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين لا نريد به أن نكتشف رواية على النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريبا ، وإنّما نكتشف به - في حالة عدم وجود مستند لفظي محدد للمجمعين - ارتكازا ووضوحا في الرؤية متلقى من الطبقات السابقة على أولئك الفقهاء المتقدمين ، لأنّ تلقّي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسر حينئذ إجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدمين على الرغم من عدم وجود مستند لفظي مشخص بأيديهم.

أمّا الجواب على النقطة الثانية وهي أنّنا لا نجد هذه الرواية في كتب الحديث والفقه ؛ فهو أنّ الإجماع من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين أي الذين قاربوا عصر الغيبة كالصدوق والكليني والمفيد والمرتضى والطوسي ونحوهم ، لا نريد به أن نثبت وجود رواية لفظية دلت على الحكم الذي أجمعوا عليه ؛ لكي يعترض علينا بأنّ هذه الرواية غير منقولة في الكتب وأنّ عدم نقلها غريب.

وإنّما نريد بالإجماع المنعقد اكتشاف دليل شرعي على الحكم الذي أجمعوا عليه ، وحينئذ إذا لم يكن هذا الدليل الشرعي لفظيّا - وهو كذلك حيث لم ينقل إلينا - فمن الواضح أنّه لن ينقل إلينا في كتب الحديث والفقه ؛ لأنّ الإجماع يكشف عن وجود دليل شرعي غير لفظي على الحكم المجمع عليه ، وهذا الدليل غير اللفظي هو الارتكاز والوضوح في الرؤية - أي سيرة عملية قد تلقاها فقهاء عصر الغيبة المتقدمين من الطبقات السابقة عليهم والتي عاصرت النص.

إذ لا يوجد مبرّر يمكن التعويل عليه في تفسير هذه الإجماع - مع عدم وجود مستند لفظي ( آية أو رواية ) - سوى أن يكون فقهاء عصر الغيبة المتقدمين قد عاشوا جوا وارتكازا ووضوحا على هذا الحكم ولذلك أجمعوا عليه ، وإلا فكيف أجمعوا على الحكم مع أنّ المفروض أنّهم لا يفتون من دون مستند شرعي باعتبارهم من

ص: 178

المتشرّعة المتدينين الذين لا يعملون إلا بالدليل ويبعد جدا ، بل لعلّه يستحيل أن يجمعوا على حكم من دون مستند شرعي له؟!

وبهذا نعرف أنّ الإجماع المنعقد من هؤلاء الفقهاء قد كان مستندا إلى ذلك الارتكاز والوضوح في الرؤية على هذا الحكم ، وهذا الارتكاز قد أخذوه ممّن كان قبلهم إلى أن تصل إلى الطبقات المعاصرة للنص فيثبت أنّ هذا الارتكاز والوضوح قد عمل به المتشرّعة بحضور الإمام علیه السلام ولم يردعهم عنه ولذلك يكون قد أمضاه بسكوته ، بل قد يكون هذا الارتكاز نتيجة فعل قام به المعصوم فأخذوه منه وساروا عليه.

وهذا الارتكاز والوضوح لدى تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمّة علیهم السلام يكشف عادة عن وجود مبررات كافية في مجموع السنّة التي عاصروها من قول وفعل وتقرير أوحت إليهم بذلك الوضوح والارتكاز ، وبهذا يزول الاستغراب المذكور ؛ إذ لا يفترض تلقي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة رواية محددة وعدم إشارتهم إليها ، وإنّما تلقوا جوا عاما من الاقتناع والارتكاز الكاشف ، فمن الطبيعي ألا تذكر رواية بعينها.

وهذا الارتكاز والوضوح الذي استند عليه الفقهاء المجمعون من عصر الغيبة كان موجودا عند الطبقات السابقة عليهم والتي عاصرت الأئمّة علیهم السلام كالكليني والصدوق ونحوهما وهذا معناه أنّ هذا الارتكاز يكشف عادة عن وجود المبررات الكافية للحكم الشرعي الذي أجمع عليه ، ولا يشترط أن تكون هذه المبررات التي يكشف عنها هذا الارتكاز دليلا شرعيا لفظيّا ؛ ليقال : إنّ عدم نقله غريب ، بل إنّ هذه المبررات استفيدت من مجموع السنّة الأعم من القول والفعل والتقرير بحيث إنّ مجموع السنّة قد أوحى إلى تلك الطبقات بهذا الجو العام والارتكاز والوضوح على الحكم ولذلك لم يطالبوا بدليل لفظي ، بل استندوا على هذا الوضوح والارتكاز ، ولهذا فلا مجال للاستغراب المذكور في الاعتراض بأنّه كيف لم تنقل إلينا هذه الرواية الصحيحة سندا ودلالة مع كونها هي المستند للحكم المجمع عليه؟ لأنّه لا توجد هناك رواية لفظية خاصّة كانت المستند لهذا الحكم وإنّما كان هناك جو عام وارتكاز ووضوح ؛ أي سيرة عمليّة من المتشرّعة.

ص: 179

ومن الواضح أنّ السيرة العمليّة من المتشرّعة ليست رواية لفظية لكي تنقل في كتب الحديث والفقه وليكون عدم نقلها غريبا.

والحاصل : أنّ الاجماع يكشف عن دليل شرعي ولكنّه ليس لفظيّا بل يكشف عن ارتكاز ووضوح أي سيرة متشرعية ، أو فلنقل كان المستند مستنتجا من مجموع السنّة الشاملة للقول والفعل والتقرير فليست هناك رواية خاصّة محددة كانت هي المستند لتنقل إلينا ، بل ذاك الارتكاز والوضوح ومن الطبيعي جدا ألا ينقل في كتب الحديث والفقه.

وعلى هذا الضوء يتّضح الجواب على النقطة الأولى أيضا ، لأنّ المكتشف بالإجماع ليس رواية اعتيادية ليعترض باحتمال عدم تماميتها سندا أو دلالة ، بل هذا الجوّ العام من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي.

وبهذا ظهر الجواب عن النقطة الأولى من أنّ هذه الرواية يحتمل ألا تكون تامّة سندا أو دلالة ، لأنّ المكتشف بالإجماع - كما تقدّم - ليس رواية لفظية ، بل ارتكازا وجوّا عاما ووضوحا في الرؤية مستنتج من مجموع السّنة القولية والفعليّة والتقرير ، ولنقل إنّها رواية غير لفظية أي سيرة عمليّة من المتشرّعة المعاصرين للأئمّة علیهم السلام قد انتقلت إلى من بعدهم من الأجيال والطبقات حتّى وصلت إلينا عن طريق إجماع العلماء.

فلا موضوع للاعتراض أصلا لأنّه مبني على أن المكتشف بالاجماع

هو رواية لفظية ، بينما المكتشف بالإجماع ليس إلا ارتكازا فقط ، أي سيرة عمليّة أو رواية غير لفظية.

وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين إجماع أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة وبين الدليل الشرعي المباشر من المعصوم ، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثاله من معاصري الأئمّة ، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقي عن الدليل الشرعي.

والنكتة في كشف الإجماع عن الدليل الشرعي هو الارتكاز المذكور ، فالإجماع يكشف عن الارتكاز والارتكاز بدوره يكشف عن الدليل الشرعي ، فيكون الإجماع كاشفا عن الدليل الشرعي بتوسط هذا الارتكاز ، ولذلك يقوم

ص: 180

الارتكاز بدور الوسيط بين إجماع الفقهاء من عصر الغيبة وبين الدليل الشرعي.

وبتعبير آخر : أنّ الإجماع معلول للارتكاز والجوّ العام الذي أوحت به السّنة بمجموعها والارتكاز بدوره معلول لوجود الدليل الشرعي الصادر من المعصوم والذي ليس رواية لفظية بل الأعم من قوله وفعله وتقريره.

فالكاشف المباشر والحقيقي عن الدليل الشرعي إنّما هو الارتكاز المذكور لأنّه معلول له فيكون كاشفا عنه من طريق كشف المعلول عن علته ، وبما أنّ الإجماع معلول لهذا الارتكاز فيكون كاشفا عن الدليل الشرعي أيضا لأنّه معلول له أيضا.

ولهذا فإنّ أي بديل للإجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط والكشف عنه يؤدّي نفس دور الإجماع ، فإذا أمكن أن نستكشف بقرائن مختلفة أنّ سيرة المتشرّعة المعاصرين للأئمّة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدة على الالتزام بحكم معين ، كفى ذلك في إثبات هذا الحكم.

وعلى هذا الأساس اتّضح أنّ الاجماع يكشف عن الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي. وعليه ، فلو قام شيء آخر يكشف عن هذا الوسيط لكان كاشفا عن الدليل الشرعي أيضا كالإجماع ، فلا خصوصيّة للإجماع حينئذ ، بل دوره دور الكاشف عن الوسيط فقط.

فإذا كانت السيرة المتشرعية الآن المنعقدة على حكم ما كاشفة عن هذا الوسيط كانت كاشفة أيضا عن الدليل الشرعي.

وأمّا كيف تكون السيرة المتشرعية المنعقدة الآن كاشفة عن الوسيط؟ فهذا يحتاج إلى إثبات كونها معاصرة للمعصومين علیهم السلام أو للمخالطين وللمعاصرين منهم ، أو كونها كاشفة عن اقتناعات ومرتكزات الأئمّة علیهم السلام أو أصحابهم ، فإذا أمكن ذلك كانت هذه السيرة كاشفة عن الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي أيضا.

وبهذا نعرف أنّ حجيّة الإجماع ليست ذاتية ، ولا مجعولة من الشارع ، وإنّما الإجماع يقوم بدور الكاشف عمّا هو حجّة شرعا ، وهو الارتكاز والسيرة العمليّة الكاشف عن وجود الدليل الشرعي.

وقد سبق عند الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة ما ينفع في

ص: 181

مجال تشخيص بعض هذه القرائن.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة الحديث عن بعض الطرق التي يمكننا من خلالها إثبات معاصرة السيرة سواء المتشرعية أو العقلائيّة للأئمّة علیهم السلام أو لمن خالطهم وعاشرهم من أصحابهم ، وهي :

1 - عدم التغير والتحوّل.

2 - النقل التاريخي.

3 - أن يكون لعدم هذه السيرة لازم منتف بالوجدان.

4 - أن يكون لعدم هذه السيرة بديل غريب.

5 - التحليل والاستقراء للمرتكزات الوجدانيّة.

الشروط المساعدة على كشف الإجماع :

وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعي بالإجماع وتسلسلها يمكن أن نذكر الأمور التالية كشروط أساسية لكشف الإجماع عن الدليل الشرعي بالطريقة المتقدّمة الذكر أو مساعدة على ذلك ، وهي :

بعد أن عرفنا كيفيّة كشف الإجماع عن الدليل الشرعي وأنّه بتوسط الارتكاز ، فيمكننا هنا أن نذكر بعض العوامل والشروط التي إما أن تكون شروطا أساسيّة لا بدّ من توفرها وتحققها لكشف الإجماع أو أنّها شروط تساعد على كاشفيّته عن الدليل الشرعي.

وهذه الشروط من شأنها أن تساهم مساهمة كبيرة في ازدياد القيم الاحتماليّة للصدق والإصابة أكثر وأرسخ ، وهي :

الأوّل : أن يكون الإجماع من قبل المتقدمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين المعاصرين للمعصومين ، لأنّ هؤلاء هم الذين يمكن أن يكشفوا عن ارتكاز عام لدى طبقة الرواة ومن إليهم دون الفقهاء المتأخرين.

الأوّل : أن يكون الإجماع متحققا عند الفقهاء القدماء القريبين من عصر الغيبة جدا بحيث يكون عصرهم وعهدهم متصلا بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين الذين عاصروا الأئمّة علیهم السلام ، لأنّ الإجماع يراد به اكتشاف الوسيط أي الارتكاز ،

ص: 182

وهذا الارتكاز لا يمكن الكشف عنه إلا من قبل القدماء المتصلين بأصحاب الأئمّة ورواة الحديث والمتشرّعة المعاصرين ، لأنّ أي إجماع آخر من غير هؤلاء لا يكون كاشفا عن الوسيط المذكور إلا إذا ثبت كون هذا الإجماع قد انعقد في زمان العلماء القدماء أيضا ؛ إذ لو كان القدماء مخالفين لإجماع المتأخرين لم يكن إجماع المتأخرين حجّة ، لأنّه لا يكون كاشفا عن الارتكاز ، إذ كيف يثبت الارتكاز والحال أنّ قسما من المتشرّعة وعلى رأسهم العلماء المتقدمين لم يعملوا به ، ولم يعتقدوا وجوده؟!

فالعلماء المتقدمون المتصلون بعصر النص أو بالأصحاب أو بالمتشرعة من رواة الأحاديث وغيرهم الذين عاصروا الأئمّة علیهم السلام هم الذين يمكن أن يكشفوا عن هذا الارتكاز دون غيرهم من الفقهاء المتأخرين إلا إذا ثبت موافقة القدماء لهم ، وبالتالي يرجع الأمر إلى القدماء.

الثاني : ألا يكون المجمعون أو جملة معتدّ بها منهم قد صرحوا بمدرك محدد لهم ، بل ألا يكون هناك مدرك معين من المحتمل استناد المجمعين إليه ، وإلا كان المهم تقييم ذلك المدرك. نعم ، في هذه الحالة قد يشكّل استناد المجمعين إلى المدرك المعين قوّة فيه ويكمل ما يبدو من نقصه.

الثاني : ألا يكون هناك مدرك للإجماع ولو احتمالا ، فهنا مطلبان :

1 - ألا يكون هناك مدرك للإجماع إذ لو كان للإجماع مدرك استندوا إليه وصرحوا بوجوده سواء كان آية أو رواية أو دليلا عقليا فحينئذ لا يكون الإجماع حجّة ، إذ لا يكون كاشفا عن هذا الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي ، حيث تقدّم إنّ الإجماع إنّما يكون حجّة فيما إذا كان كاشفا عن الوسيط أي الارتكاز ، فإذا لم يكن كاشفا عنه لم يكن حجّة ، لأنّه ليس حجّة بذاته لا وجدانا ولا تعبدا. وعليه ، فيجب الرجوع إلى هذا المدرك ليرى أنّه تام سندا ودلالة وجهة أو لا.

فإذا كان تامّا أخذ به وإلا فلا. وهذا ما يسمّى بالإجماع المدركي.

2 - الا يكون هناك احتمال لوجود مدرك قد استندوا إليه في إجماعهم ، فإنّه إذا كنّا نحتمل وجود المدرك احتمالا معتدا به ، فحينئذ لا نقطع بأنّ الإجماع كاشف عن الوسيط والارتكاز ، وبالتالي لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي. نعم ، يبقى هناك ظن بذلك إلا أنّ الظن ما لم يقم الدليل الشرعي للتعبد به لا يمكن التعويل عليه ، كما

ص: 183

هو الحال هنا ، فإنّ الإجماع ليس دليلا تعبديّا فلا يؤخذ به إلا إذا كان كاشفا عن الارتكاز ، فإنّ لم يكن كاشفا عنه ولو احتمالا فلا يؤخذ به.

نعم ، قد يشكّل استناد المجمعين إلى هذا المدرك الذي صرحوا به أو المحتمل قوّة في سند أو دلالة الدليل بحيث يكون تعويلهم عليه جابرا لضعف سنده إن كان فيه ضعف ولو احتمالا ، ويكون فهمهم عاضدا للدلالة وإن لم يكن مستظهرا منها بالنسبة إلينا ، لأنّ هذا الفهم الخاص يكشف عن أنّه توجد قرائن وشواهد غابت علينا ؛ لكنّهم فهموا من لحن أو من بعض الأجواء الخاصّة ، أو أنّهم استوحوها من خلال قربهم من عصر النص والرواة.

ومن هنا يقال إن عمل الأصحاب برواية جابر لضعفها سندا ودلالة.

ومثال ذلك : أن يثبت فهم معنى معين للرواية من قبل كل الفقهاء المتقدمين القريبين من عصر تلك الرواية ، والمتاخمين لها ، فإنّ ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر في ظهورها في ذلك المعنى نظرا لقرب أولئك من عصر النص وإحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.

مثال ذلك : أنّ الفقهاء القدماء المعاصرين لرواة الحديث والقريبين من عصر النص جدا إذا فهموا من الرواية معنى معين لم يكن ظاهرا منها ، أو كان هناك معنى آخر أظهر من المعنى الذي فهموها كان فهمهم هذا مرجحا على فهم الفقهاء المتأخرين في حالة التعارض بينهما ، ويكون هذا الفهم قاضيا على كل التشكيكات التي تأتي فيما بعد في صحّة هذا المعنى الذي استظهروه من الرواية ، وذلك لأنّ قربهم من عصر النص واتصالهم بحملة الحديث ومتاخمتهم من عصر صدور الرواية يعتبر مرجحا لفهمهم ؛ إذ قد يكونوا قد عولوا على قرائن وشواهد خفيت علينا نتيجة ابتعادنا عن عصر النص بحيث كانت هذه القرائن غير لفظية وإلا لنقلت إلينا كما هو مقتضى الأمانة والوثاقة للراوي ، فإذا لم ينقل إلينا شيء ومع ذلك فهم المتقدمون من الرواية شيئا مغايرا لما فهمناه منها كان معنى ذلك أنّه توجد قرائن حالية أو مقامية أو ظروف معينة قد اطلع عليها القدماء ، ولكنّها حجبت عنا نتيجة بعض الملابسات والظروف.

الثالث : ألا توجد قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والمتشرّعة المعاصرين للأئمّة علیهم السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللذان

ص: 184

يراد اكتشافهما عن طريق إجماع الفقهاء المتقدمين ، والوجه في هذا الشرط واضح بعد أن عرفنا كيفيّة تسلسل الاكتشاف ودور الوسيط المشار إليه فيه.

الثالث : ألا تكون هناك قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والأصحاب والمتشرّعة الذين عاصروا الأئمّة علیهم السلام لم يكن هذا الارتكاز والوضوح والجو العام المراد اكتشافه بالإجماع موجودا ؛ لأنّه إذا كان هناك مثل هذه القرائن فلا يكون الإجماع حينئذ كاشفا عن وجود الارتكاز والوضوح والجو العام ، إذ المفروض وجود ارتكاز معاكس له فلا يكون حجّة ؛ لأنّ حجيّة الإجماع كانت مرتبطة بمدى كشفه عن ذاك الوسيط على أساس حساب الاحتمالات.

فإذا كان الارتكاز المراد اكتشافه يعلم بعدم وجوده أو كان هناك ارتكاز آخر معارض له ، كان معنى ذلك أنّ الإجماع لم يكشف عن الارتكاز الموجود في عصر الأئمّة علیهم السلام ، بل كشف عن ارتكاز آخر لم يكن موجودا في عصرهم فلا يكون دالا على الدليل الشرعي حينئذ لعدم كشفه عن الارتكاز في عصر الأئمّة علیهم السلام .

ومثال ذلك : نجاسة الكتابي وطهارته ، فإنّ مجموع الأسئلة التي طرحت على الأئمّة علیهم السلام كانت مقيّدة بقيود كثيرة كشربه للخمر أو أكله للحم الخنزير ونحو ذلك ، وهذا معناه أنّ نجاسة الكتابي لم تكن مرتكزة وواضحة عندهم وإلا لما سألوا بهذا النحو من الأسئلة فإذا انعقد إجماع على نجاسة الكتابي لم يكن هذا الإجماع كاشفا عن الوسيط والارتكاز ، أو على الأقلّ يشك في كاشفيّته عنه ولذلك لا يكون حجّة ، لأنّه توجد قرائن معاكسة لهذا الارتكاز الذي يراد اكتشافه بالإجماع.

الرابع : أن تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقي حكمها عادة إلا من قبل الشارع ، وأمّا إذا كان بالإمكان تلقيه من قاعدة عقلية مثلا ، أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليل أو إطلاق فلا يتمّ الاكتشاف المذكور.

الرابع : أن تكون المسألة التي انعقد الإجماع عليها من المسائل التي لا مجال لصدور الحكم فيها إلا من قبل الشارع ، فيكون حينئذ الإجماع كاشفا عن الارتكاز ، وهو بدوره يكشف عن الدليل الشرعي على هذا الحكم المجمع عليه.

ص: 185

وأمّا إذا كانت هذه المسألة من الممكن أن تستفاد وتستنتج من قاعدة عقليّة بأن كانت من مسائل الحسن والقبح أي المستقلاّت العقلية ، أو كانت من الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، أو حرمة شيء وبطلانه ، أو الأمر بشيء وحرمة ضده ونحوها من الملازمات العقلية ، فحينئذ لا يكون الإجماع على هذه المسألة كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّه يحتمل أن يكون دليلها هو حكم العقل ، ومع الاحتمال لا يقطع بالكاشفية ومع عدم الكاشفيّة لا يكون الإجماع حجّة ، لأنّه ليس حجّة بنفسه.

وكذلك الحال إذا كانت هذه المسألة من الممكن استفادتها من عموم أو إطلاق بأن كانت من جملة التفريعات والمصاديق لهذا الإطلاق والعموم ، فإنّ إجماعهم على المسألة لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّه من الممكن أن يكون مستندها ودليلها هو هذا الإطلاق والعموم ، وحينئذ تبطل كاشفيّة الإجماع فلا يكون حجّة ، ويجب حينئذ الرجوع إلى هذا الإطلاق والعموم وتقييمه ليرى أنّ هذه المسألة هل تصلح أن تكون من تفريعاته ومصاديقه أم لا؟ (1).

مقدار دلالة الإجماع :

لمّا كان كشف الإجماع قائما على أساس تجمّع أنظار أهل الفتوى على قضيّة واحدة اختص بالمقدار المتّفق عليه ، ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتمّ الإجماع إلا بالنسبة لمورد الخاص.

يثبت بالإجماع المقدار المتيقن المتّفق عليه من الجميع ، وذلك لأنّه دليل لبيّ والأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقن ، ولا يتعدى إلى الزائد عن ذلك إلا لدليل خاص ، وحيث إنّ الإجماع قائم على أساس حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتماليّة لصدق القضيّة في محور واحد كان ذلك مرتبط بالمحور الذي تم الاتفاق عليه دون الزائد عنه ، لأنّ هذه القيم الاحتماليّة إنّما حصلت وتراكمت

ص: 186


1- وهذا الشرط يمكن إرجاعه إلى الشرط الثاني ، حيث يحتمل وجود المدرك للإجماع غاية الأمر أنّ المدرك هنا عقلي أو عموم وإطلاق دليل بينما هناك كان المدرك لفظيّا. ويدخل في هذا الشرط أيضا كل مدرك ومستند يحتمل تعويل المجمعين عليه ، أو يحتمل رجوع المسألة المجمع عليها إليه كالعرف أو السيرة العقلائيّة أو الظهور ونحو ذلك.

نتيجة الاتفاق على قضيّة خاصّة دون سائر الموارد والقضايا وان كانت مرتبطة أو متفرّعة عنه.

فمثلا إذا كانت بعض فتاوى المجمعين عامّة ومطلقة وبعضها خاص ومقيّد ، كان المقدار الثابت بالإجماع هو الخاص والمقيّد فقط دون العموم والإطلاق ، لأنّ القيم الاحتماليّة المتراكمة على المحور الأضيق هي القدر المتيقن الذي لا شكّ فيه ، دون سائر التفصيلات الأخرى ، فإنها تحتاج إلى قرائن احتمالية أكثر ، وبالتالي إلى فتاوى أكثر.

ويعتبر كشف الإجماع عن أصل الحكم بنحو القضيّة المهملة أقوى دائما من كشفه عن الاطلاقات التفصيلية للحكم ؛ وذلك لأنّا عرفنا سابقا أنّ كشف الإجماع يعتمد على ما يشير إليه من الارتكاز في طبقة الرواة ومن إليهم ، وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالإجماع نجد أنّ احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبيّا من احتمال خطأهم في أصل إدراك ذلك الارتكاز ، فإنّ الارتكاز بحكم كونه قضيّة معنوية غير منصبة في ألفاظ محددة قد يكتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته.

ثمّ إنّ كشف الإجماع عن القضيّة بنحو الإهمال من دون إطلاق أو تقييد أقوى من كشفه عن كونها مطلقة مثلا.

فإذا أجمع العلماء على قضيّة ما كان إجماعهم كاشفا عن أصل تحقّق القضيّة بقطع النظر عن كونها مطلقة أو مقيّدة أقوى فإنّه القدر المتيقن من كشف الإجماع ، وأمّا كونها مطلقة أو مقيّدة فهذه تفصيلات زائدة تحتاج إلى مفردات وقيم احتمالية أكبر.

والسّر في ذلك : أنّنا عرفنا أنّ الإجماع قائم على أساس كشفه عن الوسيط والذي بدوره يكشف عن الدليل الشرعي ، فإذا تحقّق الإجماع على مسألة كشف ذلك عن وجود ارتكاز لدى الطبقات السابقة ووضوح في الرؤية على أصل تحقّق هذه المسألة في الشرع ، وأنّها قضيّة قد صدر الدليل الشرعي بشأنها ، وهذا يثبت لنا أنّ أصل هذه القضيّة صحيح ، وأمّا كونها مطلقة أو عامّة وأنّها تشمل كل التفريعات والتفصيلات فهذا لا يمكننا أن نثبته بمجرّد الإجماع على القضيّة من دون أن يكون هناك تصريح بذلك ، لأنّ احتمال الخطأ في أصل وجود الارتكاز بعيد جدا بحساب الاحتمالات

ص: 187

أكثر من احتمال الخطأ في كون هذا الارتكاز عاما ومطلقا ، لأنّ الإجماع يكشف لنا لبّا وحدسا واستنتاجا عن وجود الدليل الشرعي ، إلا أنّ هذا الدليل الشرعي غير موجود بأيدينا لنرى أنّه مطلق أو عام أو شامل لكل التفصيلات والتفريعات ، فإنّ الإجماع دليل لبّي يثبت به الدليل الشرعي غير اللفظي أي الارتكاز الكاشف عن وجود دليل شرعي إلا أنّ هذا الدليل الشرعي غير محدد بألفاظ معينة ، بل يحتمل قويا جدا أنّه عمل أو تقرير أو سيرة من المتشرّعة ، وهذا معناه عدم إمكانيّة اكتشاف الإطلاق والعموم من الإجماع على القضيّة ما لم يكن هناك إجماع أيضا على إطلاقها أو عمومها ، وأمّا إذا كان الإجماع منعقدا على القضيّة من دون ذكر للتفصيلات أو مع الاختلاف بذكرها أو عدم ذكر البعض لها فهذا كلّه يمنع عن انعقاد الإطلاق ؛ إذ لا يوجد دليل لفظي مكتشف بالإجماع ليكون مطلقا ، وإنّما هناك دليل لبّي معنوي وقضيّة حدسية فلا يمكن استكشاف الإطلاق والتفصيلات لأنّها تبقى غامضة ، بخلاف أصل ثبوت القضيّة فإنّه محرز ومسلّم حينئذ.

الإجماع البسيط والمركّب :

يقسم الإجماع إلى بسيط ومركب :

فالبسيط : هو الاتفاق على رأي معين في المسألة ، والمركّب : هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتا بالإجماع المركّب.

وما تقدّم من الكلام كان الملحوظ فيه الإجماع البسيط.

الإجماع البسيط : هو اتفاق آراء العلماء على وجه واحد من الوجوه المحتملة في القضيّة ، كأن يفتي الجميع بالوجوب مثلا ، وهذا هو الذي كنّا نتكلم عنه إلى الآن.

وهذا الإجماع حجّة إذا كان كاشفا عن الارتكاز استنادا إلى حساب الاحتمالات كما تقدّم.

الإجماع المركّب : هو انقسام آراء العلماء إلى رأيين أو أكثر من مجموع الوجوه المحتملة في المسألة ، كأن يفتي البعض بالوجوب والبعض الآخر بالاستحباب أو بالحرمة ، فهنا وإن لم يكن هناك إجماع على أصل المسألة ، حيث إنّهم اختلفوا في حكمها ، إلا أنّه يوجد إجماع آخر مركب من هذين الرأيين وهو الإجماع على نفي القول الثالث ، فإنهم

ص: 188

إذا أفتوا بالوجوب والاستحباب فهذا يدلّ على أنّ الحكم ليس هو الحرمة مثلا ، أو إذا أفتوا بالوجوب والحرمة فهذا يدلّ على أنّ الحكم ليس هو الترخيص.

فالمقصود من الإجماع المركّب هو نفي الثالث الذي لم يقل به أحد منهم ، فعلى أساس التلفيق والتركيب من هذين القولين استنتجنا وجود إجماع على نفي الثالث ، فهل هذا النحو من الإجماع حجّة أم لا؟ والجواب :

وأمّا المركّب من الإجماع ، فإن افترضنا أنّ كل فقيه من المجمعين يبني على نفي الوجه الثالث بصورة مستقلّة عن تبنيه لرأيه فهذا يرجع في الحقيقة إلى الإجماع البسيط على نفي الثالث.

الجواب : إنّ الإجماع المركّب على نحوين من جهة نفي الثالث :

الأوّل : أن يكون كل فقيه من المجمعين المنقسمين إلى رأيين ينفي الثالث بمدلول كلامه المطابقي أو الالتزامي أو الضمني مستقلا عن الرأي الذي ذهب إليه ، بمعنى أنّ كل فقيه يبني ويلتزم بعدم وجود هذا الثالث إما تصريحا وإما تلويحا فهو في عرض المدلول المطابقي لرأيه ، فإذا كان هناك إجماع منقسم بين الوجوب والحرمة فإنّ كل واحد منهم حينما يفتي بالوجوب أو الحرمة يبني في مرحلة سابقة عن ذلك على أنّ الحكم ليس هو الترخيص في هذه المسألة ، بل الأمر دائر بين هذين الأمرين فقط ولا يحتمل وجود حكم آخر غيرهما ، فإنّ هذا البناء يعتبر إجماعا من كل الفقهاء على نفي الثالث ، ويكون نفيه حينئذ قائما على أساس الإجماع البسيط لا المركّب ، فهو في الحقيقة مصداق للإجماع البسيط أيضا ؛ لأنّهم جميعا ينفون الثالث أوّلا ، ثمّ اختلفوا على هذين الرأيين ثانيا ، بحيث يكون كل واحد قد ذهب إلى الوجوب أو الحرمة بعد أن اعتقد بعدم الترخيص أولا ، فيكون الإجماع المركّب على نفي الثالث حجّة أيضا كالبسيط بل هو من البسيط في الحقيقة.

وإن افترضنا أنّ نفي الوجه الثالث عند كل فقيه كان مرتبطا بإثبات ما تبناه من رأي ، فهذا هو الإجماع المركّب على نفي الثالث ولا حجيّة فيه ؛ لأنّ حجيّته إنّما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمع القيم الاحتماليّة لعدم الخطأ ، وفي المقام نعلم بالخطإ عند أحد الفريقين المتنازعين ، فلا يمكن أن تدخل القيم الاحتماليّة كلّها في تكوين الكشف للإجماع المركّب ؛ لأنّها متعارضة في نفسها كما هو واضح.

ص: 189

الثاني : أن يكون كل واحد من الفقهاء المنقسمين إلى الرأيين يبني على نفي الثالث من خلال الرأي الذي ذهب إليه بحيث يكون نفي الثالث مرتبطا بهذا الرأي وغير مستقل عنه ، وحينئذ يكون نفي الثالث مدلولا التزاميّا لما ذهب إليه من رأي غير منفصل عنه أي أنّه في طول المدلول المطابقي لا في عرضه لانه لم ينف الثالث ابتداء بل كان نفيه له لازما للرأي الذي اختاره.

وعلى هذا فلا يكون الإجماع المركّب لنفي الثالث حجّة ، إذ لا يكشف لنا عن الارتكاز والوضوح في الرؤيا ؛ ببيان أنّ الإجماع إنّما كان حجّة باعتبار كشفه عن الوسيط الكاشف عن الدليل ، وهذا الكشف يقوم على أساس حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتماليّة للصدق وتضاؤل القيم الاحتماليّة للكذب والخطأ ، بحيث نصل إلى احتمال ضئيل للغاية للخطإ حتّى يزول احتمال الخطأ عمليّا وواقعيّا.

وفي مقامنا نحن نعلم بالخطإ لدى أحد الفريقين إذ لا يمكن أن يكون الحكم الشرعي هو الوجوب والحرمة معا ، بل هو أحدهما وهذا معناه أنّ القيم الاحتماليّة للوجوب متعارضة مع القيم الاحتماليّة للحرمة ، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، فيتعارضان ويتساقطان ، فإذا سقط الوجوب والحرمة عن الحجيّة سقط معهما أيضا المدلول الالتزامي المرتبط بهما وهو نفي الثالث ؛ لأنّه كان ناشئا ومبتنيا عليهما ، فمع سقوطهما يسقط هو أيضا لما تقدّم سابقا من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقية في الحجيّة لأنّ نسبة الكشف فيهما على حد سواء ، وبهذا لا يكون هناك دليل على نفي الثالث ليستند عليه.

* * *

ص: 190

الشهرة

ص: 191

ص: 192

الشهرة

كلمة الشهرة بمعنى الذيوع والوضوح لغة ، وتضاف في علم الأصول إلى الحديث تارة وإلى الفتوى أخرى ، ويراد بالشهرة في الحديث تعدد رواة الحديث بدرجة دون التواتر ، ويراد بالشهرة في الفتوى انتشار الفتوى المعينة بين الفقهاء وشيوعها بدرجة دون الإجماع.

الشهرة في اللغة : هي الذيوع والوضوح فيقال : هذا الشيء مشتهر أو مشهور ، أي أنّه ذائع ومنتشر وواضح.

واصطلاحا تستعمل في مقامين :

الأول : أن تضاف إلى الحديث ، فيقال : حديث مشهور أو مشتهر ، ويعبّر عن ذلك بالشهرة الروائيّة ، والمقصود من اشتهار الحديث كونه مرويّا بطرق متعدّدة لا تبلغ حد التواتر أي أنّ عدد الرواة لهذا الحديث لا يبلغ مقدار التواتر.

الثاني : أن تضاف إلى الفتوى ، فيقال : فتوى مشهورة ، ويعبّر عن ذلك بالشهرة الفتوائية ، والمقصود من اشتهار الفتوى كونها منتشرة بين العلماء والفقهاء ، ولكن بدرجة دون الإجماع ، بمعنى أنّه يوجد هناك من يخالف في هذه الفتوى لكنّه قليل.

فالحديث عن الشهرة وحجيّتها تارة على أساس أنّها كالتواتر أم لا ، وأخرى أنّها كالإجماع أم لا ، فنقول :

ونحن إذا حددنا التواتر تحديدا كيفيّا بالتعدد الواصل إلى درجة موجبة للعلم - ولو بمعنى يشمل الاطمئنان - فسوف لا تتجاوز الشهرة في الحديث - التي فرض فيها أن تكون دون التواتر - درجة الظن ، والخبر الظني ليس من وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، بل يحتاج ثبوت حجيّته إلى التعبد الشرعي كما يأتي.

أمّا الشهرة الروائيّة : فإذا حددنا التواتر تحديدا كيفيّا كما هي مقالة المشهور : ( من

ص: 193

أنّه اجتماع عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب ) بحيث يكون هذا العدد من الرواة مفيدا للعلم الشامل للاطمئنان أيضا ، فإذا تحقّق هذا العدد كان هناك تواتر وعلم وإلا فلا ، فهذا معناه أنّ الشهرة الروائية التي هي دون التواتر سوف تكون موجبة للظن أي أنّ الرواة لا يفيد عددهم العلم والاطمئنان ، بل غاية ما يفيده الظن فقط.

وحينئذ تخرج الشهرة الروائيّة بهذا المعنى عن موضوع بحثنا ، لأنّنا نبحث عن وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، وهذه الوسائل المطلوب منها إفادة العلم ولو بنحو يشمل الاطمئنان الذي هو علم عرفا. وأمّا الظن فهو بنفسه ليس حجّة ، بل يحتاج إلى ثبوت التعبد الشرعي للعمل به ، وهذه معناه دخول الشهرة بهذا المعنى في وسائل الإحراز التعبّدي للدليل الشرعي ، فيبحث حول وجود دليل شرعي يفيد التعبد بالظن الناشئ من الشهرة أو عدم ذلك.

وأمّا إذا حدّدنا التواتر تحديدا استقرائيا على أساس حساب الاحتمالات كما هو الصحيح ، فلا بدّ من تقييم القرائن الاحتماليّة وتجميع قيمها ليرى أنّها تفيد العلم وتزيل احتمال الخلاف مع ضمّ المضعف الكيفي إلى ذلك أم لا؟

وهذا معناه أنّ الشهرة قد تفيد العلم وقد لا تفيده ، فترتبط حجيّتها بمقدار القيم الاحتماليّة المتراكمة عندنا ، وحيث إنّ هذه القيم الاحتماليّة متعارضة فيما بينها لوجود قيم احتمالية على الخلاف أيضا في الطرف المقابل للمشهور فسوف لا تكون الشهرة مفيدة للعلم أو الاطمئنان وبالتالي لا تكون حجّة.

وإذا حددنا الإجماع تحديدا كيفيّا بتعدّد المفتين إلى درجة موجبة للعلم - ولو بمعنى يشمل الاطمئنان - فسوف لا تتجاوز الشهرة في الفتوى - التي فرض أن تكون دون الإجماع - درجة الظن بالدليل الشرعي ، وهو ليس كافيا ما لم يقم دليل على التعبد بحجيّته.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة : فإذا حددنا الإجماع تحديدا كيفيّا من أنّه إجماع الفقهاء على الفتوى بحيث يكون هذا الإجماع مفيدا للعلم أو الاطمئنان سواء كان من جميع الفقهاء أو من أغلبهم ، فهذا معناه أنّ الشهرة في الفتوى والتي هي دون الإجماع سوف تكون مفيدة للظن فقط ؛ لأنّ الاجماع إذا كان مفيدا للعلم أو الاطمئنان فما يكون دونه درجة يكون مفيدا للظن.

ص: 194

وحينئذ يخرج البحث عن الشهرة بهذا المعنى عن وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ويدخل في وسائل الإحراز التعبّدي ، وأنّ هذا الظن هل قام الدليل على حجيّته ولزوم التعبد به أم لا؟ فإذا لم يثبت دليل على حجيّته فلا يكون حجّة لأنّ الظن بنفسه ليس حجّة.

وإذا حددنا الإجماع تحديدا عدديّا باتفاق مجموعة الفقهاء ، كان معنى الشهرة في الفتوى تطابق الجزء الأكبر من هذه المجموعة ، إمّا مع عدم وجود فكرة عن آراء الآخرين أو مع الظن بموافقتهم أيضا ، أو مع العلم بخلافهم.

وأمّا إذا حددنا الإجماع تحديدا عدديّا من حيث الكم فقط ، فقلنا : إنّ الإجماع عبارة عن اتفاق كل الفقهاء على الفتوى ، فسوف تكون الشهرة في الفتوى والتي هي دون الإجماع درجة تطابق أكثر أو أغلب آراء الفقهاء على الفتوى ، بحيث تكون الأغلبية أو الأكثرية من مجموعة الفقهاء قد ذهبت للوجوب مثلا.

وأمّا باقي الفقهاء ، فإما أن يكونوا موافقين لهم أيضا أو مخالفين ، وإمّا أن يكون رأيهم مجهولا لنا ، فهذه احتمالات ثلاثة يمكن تصوّرها بالنسبة لآراء العدد المقابل للمشهور.

والشهرة بهذا المعنى قد تدخل في الإجماع بالتحديد الكيفي المتقدّم ، وتوجب إحراز الدليل الشرعي بحساب الاحتمال ، وهو أمر يختلف من مورد لآخر.

وحينئذ سوف تكون الشهرة بالغة عددا كبيرا من آراء الفقهاء ، وهذا معناه أنّ هذا العدد من المفتين قد يدخل في التحديد السابق للإجماع من أنّه عدد من المفتين يوجب العلم أو الاطمئنان ؛ إذ قد يستفاد من خلال هذه العدد المشهور اليقين أو الاطمئنان على أساس حساب الاحتمالات من خلال تجميع القيم الاحتماليّة للصدق ، وتضاؤل القيم الاحتماليّة للخلاف.

فالمضعف الكمي الذي يبتني عليه المنهج الاستقرائي وحساب الاحتمالات موجود ، يبقى وجود المضعف الكيفي ، وهذا يرتبط بنوعية المفتين وعلمهم وطبقتهم ونحو ذلك من عوامل موضوعية ، ويرتبط أيضا بالطرف المقابل للمشهور المخالف له في الفتوى ونوعيتهم وعلمهم إلى آخره.

ولذلك فقد تفيد هذه الشهرة العلم إذا كان المضعف الكيفي موجودا بدرجة

ص: 195

كبيرة وقد لا تفيد العلم إذا لم يكن المضعف الكيفي موجودا ، كما إذا كان المخالف للمشهور معتدا به علميّا ، أو يكون موجودا بصورة ضئيلة وضعيفة ، بأن لم يكن رأيه معتدا به أو كان رأيه مجهولا.

كما أنّ إحراز مخالفة البعض يعيق عن الكشف القطعي للشهرة بدرجة تختلف تبعا لنوعية البعض وموقعه ولخصوصيات أخرى.

ثمّ إنّ ذاك البعض المقابل للمشهور إن كان رأيه موافقا فلا إشكال في إمكانيّة استفادة اليقين من هذه الشهرة ، بل هي في الحقيقة إجماع ، وبالتالي يكون كاشفا عن الدليل الشرعي على أساس حساب الاحتمالات كما تقدّم.

وإن كان هذا البعض رأيه مجهولا فقد تفيد الشهرة للعلم أيضا إذا كان هناك المضعف الكيفي بدرجة كبيرة.

وأمّا إذا كان الطرف المقابل للمشهور مخالفا وعلم بذلك ، فهذا قد يمنع من استفادة العلم من الشهرة خصوصا إذا كان هذا المخالف معتدّا به علميّا وثقافيّا واطلاعا ونحو ذلك من خصوصيات موجودة فيه تمنع من أن يكون مثله قد غفل عن ذاك الارتكاز المدلول عليه بالإجماع ؛ ولذلك لا تكون الشهرة حجّة حينئذ للتعارض بين القيم الاحتماليّة فيما بينها في كل من الطرفين.

ثمّ إنّ في الشهرة في الفتوى بحثا آخر في حجيّتها الشرعيّة تعبدا ، وهذا خارج عن محل الكلام وإنّما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي.

وأمّا كون هذه الشهرة الفتوائية حجّة شرعا بمعنى أنّ الشارع هل جعلها دليلا يتعبدنا به للاستدلال على الحكم الشرعي ، أم لا؟

فهذا بحث خارج عن مقامنا لأنّنا نتكلم عن وسائل الإحراز الوجداني التي تفيد اليقين والتي تكون حجيّتها ناتجة عن إفادتها للقطع ، وليست موقوفة على التسامح وجعل الحجيّة التعبديّة.

ولذلك فإنّ الحديث عن كون الشهرة حجّة أو لا؟ حديث عن كون هذا الدليل غير الشرعي هل جعل الشارع له الحجيّة أم لا؟ لأنّ الشهرة ليست آية ولا رواية وإنّما هي فتوى كالاجماع والإجماع دليل غير شرعي يستكشف به الدليل الشرعي ، والشهرة كذلك.

ص: 196

القسم الثاني : وسائل الإثبات التعبّدي
اشارة

ص: 197

ص: 198

القسم الثاني

وسائل الإثبات التعبّدي

وأهم ما يذكر في هذا المجال عادة خبر الواحد ، وهو كل خبر لا يفيد العلم ، ولا شكّ في أنّه ليس حجّة على الإطلاق وفي كل الحالات ، ولكن الكلام في حجيّة بعض أقسامه كخبر الثقة مثلا.

القسم الثاني : من وسائل إثبات صدور الدليل الشرعي هو الطريق التعبّدي ، والمقصود به ما لا يفيد العلم الحقيقي والوجداني ، ولكن الشارع اعتبره حجّة أو علما أو طريقا لإثبات الصدور ، فهو حجّة لذلك.

وهذا القسم يشتمل على بعض الطرق والحجج التي اعتبرها الشارع من الوسائل لإثبات الصدور ، ومن أهم هذه الطرق هو خبر الواحد.

وتعريفه : هو كل خبر لا يفيد العلم سواء كان واحدا في حقيقته أم أكثر من واحد.

ثمّ إنّه لا شكّ في أنّه ليس كل خبر حجّة مطلقا وفي كل الحالات ، وإنّما بعض أقسامه فقط.

فالمقصود إذا من البحث عن حجيّة خبر الواحد البحث عن حجيّته في الجملة لا مطلقا ، أي أنّه حجّة في بعض الموارد والأقسام ، في مقابل من أنكر حجيّته مطلقا كالسيّد المرتضى وغيره ، فخبر الثقة هو المقصود من البحث لا غيره.

وكذلك ليس كل خبر ثقة حجّة أيضا مطلقا وفي كل الحالات ، فإنّ بعض أخبار الثقات ليس حجّة بالمصطلح الأصوليّ ، وإنّما الخبر الذي يكشف عن الحكم الشرعي دون الأخبار عن الامور التكوينيّة أو الشخصيّة فإنّها خارجة عن محل الكلام.

ص: 199

والكلام يقع على مرحلتين :

المرحلة الأولى : في إثبات حجيّة خبر الواحد على نحو القضيّة المهملة.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها.

ثمّ إنّ الكلام عن حجيّة خبر الواحد يقع ضمن مرحلتين :

المرحلة الأولى : في إثبات حجّة خبر الواحد على نحو القضيّة المهملة ، أي أصل ثبوت الشيء وأنّه حجّة في الجملة ، أي في بعض أقسامه لا مطلقا ، وهذا البحث في مقابل المنكرين لحجيته مطلقا.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة حجيّة خبر الواحد وأنّه حجّة في كل الموارد والحالات مطلقا ، أو أنّه توجد شروط وقيود لهذه الحجيّة.

وهذا ما سنتحدّث عنه بالتفصيل.

* * *

ص: 200

المرحلة الأولى في إثبات أصل حجيّة الأخبار
اشارة

ص: 201

ص: 202

المرحلة الأولى

في إثبات أصل حجيّة الأخبار

والمشهور بين العلماء هو المصير إلى حجيّة خبر الواحد ، وقد استدل على الحجيّة بالكتاب الكريم والسنّة والعقل.

المشهور هو حجيّة خبر الواحد في الجملة ، أي أنّهم قبلوا أصل حجيّة الخبر بالجملة ، ولكنهم اختلفوا في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها وأقسام الخبر الحجّة ، فبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر الواحد مطلقا ، وبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر العادل فقط ، وبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر الثقة ، وهكذا.

وأمّا أصل الحجيّة بنحو القضيّة المهملة في مقابل المنكرين للحجيّة مطلقا فالمشهور على الحجيّة ، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب الكريم والسنّة الشريفة والعقل.

[ 1 - الكتاب الكريم ]
اشارة

أمّا ما استدل به من الكتاب فآيات :

منها : آية النبأ ، وهي قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1) ، ويمكن الاستدلال بها بوجهين :

القسم الأوّل من الأدلّة التي أقيمت على حجيّة خبر الواحد هو الاستدلال بالكتاب الكريم ، وأهم الآيات التي ذكرت هي آية النبأ وآية النفر.

أمّا آية النبأ فتقريب الاستدلال بها يتمّ بأحد وجهين :

ص: 203


1- الحجرات : 6.

الأوّل : الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد عن طريق مفهوم الشرط.

الثاني : الاستدلال بها من خلال مفهوم الوصف.

الوجه الأوّل : أن يستدلّ بمفهوم الشرط فيها على أساس أنّها تشتمل على جملة شرطية تربط الأمر بالتبيّن عن النبأ بمجيء الفاسق به فينتفي بانتفائه ، وهذا يعني عدم الأمر بالتبيّن عن النبأ في حالة مجيء

العادل به ، وبذلك تثبت حجيّة نبأ العادل.

الوجه الأوّل : تقريب الاستدلال بها على أساس مفهوم الشرط بأن يقال : إن الآية الكريمة تشتمل على جملة شرطية وهي تتكون من شرط وجزاء وموضوع ، أمّا الشرط هنا فهو مجيء الفاسق ، وأمّا الجزاء فهو وجوب التبيّن ، وأمّا الموضوع فهو النبأ ، فيكون المنطوق فيها هو : أنّه يجب التبيّن عن النبأ الذي يأتي به الفاسق ، ومفهومها هو أنّه لا يجب التبيّن عن النبأ الذي لا يأتي به الفاسق أي خبر العادل لا يجب فيه التبيّن.

وبهذا تثبت حجيّة خبر العادل ؛ لأنّ عدم وجوب التبيّن معناه كونه حجّة دون خبر الفاسق الذي يجب التبيّن عنه ، وإلا لكان خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق ، لأنّ عدم وجوب التبيّن يتلاءم مع رد الخبر من دون تبيّن ويتلاءم مع أخذه وقبوله من دون تبيّن ، والأوّل يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، لأنّ خبر الفاسق يجب التبيّن فيه ثمّ أخذه أو رده بعد ذلك ، فلا يعقل أن يكون خبر العادل يجب أن يرد مباشرة من دون تبيّن ، فيتعين وجوب الأخذ به وهو معنى حجيّته.

ولا يكفي أن ننفي التبيّن عن خبر العادل للقول بحجيّته بناء على حمل الوجوب للتبيّن على النفسي الذي هو أحد الاحتمالات في تفسير التبيّن ووجوبه ، لأنّ هذا التفسير خلاف الظاهر من الآية ، فإنّ الأمر بالتبيّن فيها لا يمكن حمله على الوجوب النفسي وإلا لما كانت هناك مناسبة بين صدر الآية وذيلها الظاهر في تعليل وجوب التبيّن بخوف الإصابة بجهالة ، والذي يعني أنّ التبيّن كان لأجل العمل به لا لنفس الخبر ، ولأنّه على هذا لا يمكن أن يستفاد حجيّة خبر العادل لأنّ نفي وجوب التبيّن عنه لو كان نفسيا معناه أنّ خبر العادل لا يتبين عنه من أجل لزوم التجسس والإهانة من التبيّن.

وكذا لا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن طريقيّا ؛ لأنّ غايته نفي الطريقية عن خبر

ص: 204

الفاسق وإثباتها لخبر العادل ، وأمّا أنّ هذه الطريقية هل هي حجّة ومعتبرة شرعا أم لا؟ فهذا لا يستفاد من الآية لوحدها.

ولا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن غيريّا ، لأنّه يعني أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن فيه ؛ لأنّه ليس فيه إصابة بالجهالة والسفاهة ، بخلاف خبر الفاسق ، إلا أنّ الوجوب الغيري يحتاج إلى أن يكون هناك وجوب نفسي أيضا ليكون التبيّن مقدّمة له ، وهذا غير موجود في الآية.

فيبقى هناك احتمالان في تفسير الأمر بالتبيّن ، هما :

لأنّ الأمر بالتبيّن الثابت في منطوق الآية ، إما أن يكون إرشادا إلى عدم الحجيّة ، وإمّا أن يكون إرشادا إلى كون التبيّن شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق وهو ما يسمّى بالوجوب الشرطي ، كما تقدّم في مباحث الأمر.

إذا فالاستدلال بمفهوم الشرط في الآية متوقف على أحد هذين التفسيرين لوجوب التبيّن والأمر به ، وهما :

الأول : أن يكون الأمر بالتبيّن إرشادا إلى عدم الحجيّة ، بمعنى أنّ خبر الفاسق ليس حجّة ، ولذلك أمر الشارع بلزوم التبيّن إرشادا إلى هذا الأمر ، فلا يكون المقصود من الأمر هنا معناه الموضوع له لغة أي الوجوب ، بل أريد به الإرشاد إلى حكم وضعي وهو الحجيّة وعدمها ، فخبر الفاسق ليس حجّة بينما خبر العادل حجّة.

الثاني : أن يكون الأمر بالتبيّن إرشادا إلى أنّه شرط في جواز العمل بخبر الفاسق ، فإذا أريد العمل بخبر الفاسق يجب التبيّن والفحص ، فيكون الأمر بالتبيّن شرطا لجواز العمل في خبر الفاسق ، بينما جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن.

والأوّل هو مختار السيّد الشهيد ؛ لأنّ هذا اللسان يستفاد منه الإرشاد إلى الحجيّة وعدمها ، كغيره من الألسنة التي تدلّ عليها.

والثاني مختار الشيخ الانصاري.

فعلى الأوّل : يكون نفيه بعينه معناه الحجيّة.

أمّا على التفسير الأوّل من أنّ الأمر بالتبيّن بالنسبة لخبر الفاسق إرشاد إلى عدم الحجيّة ، فيكون انتفاء الأمر بالتبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبإ معناه إثبات الحجيّة وبهذا يثبت أنّ خبر العادل حجّة لأنّه لا يجب التبيّن عنه ، ولا نحتاج إلى ضمّ تلك

ص: 205

المقدّمة من أنّه يلزم من عدم حجيّته كونه أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وذلك لأنّ نفي الأمر بالتبيّن بنفسه يساوق الحجيّة لأنّه أحد ألسنتها.

وعلى الثاني - يعني نفيه - : أنّ جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، وهذا بذاته يلائم جواز العمل به بدون تبيّن - وهو معنى الحجيّة - ويلائم عدم جواز العمل به حتّى مع التبيّن ، لأنّ الشرطيّة منتفية في كلتا الحالتين ، ولكن الثاني غير محتمل لأنّه يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، ولأنّه يوجب المنع عن العمل بالدليل القطعي نظرا إلى أنّ الخبر بعد تبيّن صدقه يكون قطعيّا ، فيتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

وأمّا على التفسير الثاني للأمر بالتبيّن من كونه وجوبا شرطيا لجواز العمل فيكون المنطوق مفاده أنّه يشترط التبيّن فيما إذا كان الفاسق قد جاء بنبإ ، والمفهوم هو أنّه لا يشترط التبيّن فيما إذا جاء العادل بالنبإ فخبر العادل لا يشترط التبيّن فيه.

ثمّ إنّ نفي اشتراط التبيّن عن خبر العادل يحتمل فيه أمران :

1 - أن يكون خبر العادل حجّة ولذلك لا يشترط التبيّن عنه ، فيكون لازم نفي التبيّن إثبات الحجيّة. وعليه ، فيجوز العمل بخبر العادل من دون تبيّن ، بخلاف خبر الفاسق فلا يجوز العمل به إلا بعد التبيّن.

2 - أن يكون المراد أن خبر العادل لا يجوز العمل به سواء تبيّن أم لا ، فيكون جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، بل إنّه سواء كان هناك تبيّن أم لم يكن فلا يجوز العمل بخبره ، وهذا لازمه عدم حجيّة خبر العادل مطلقا سواء تبيّن عنه أم لا.

وكلا هذين الاحتمالين ممكن نظريّا ، لأنّ الشرطيّة منتفية فيهما ، فإنّ عدم الأمر بالتبيّن كما يصدق على كونه حجّة كذلك يصدق على كونه ليس حجّة ، فإنّ كان حجّة فلا يجب التبيّن عنه ، وإن لم يكن حجّة لا يجب التبيّن عنه أيضا ، فسواء تبيّن أم لا فهو حجّة على الأوّل ، وسواء تبيّن أم لا فهو ليس حجّة على الثاني فكما لا يضر التبيّن وعدمه بناء على حجيّته كذلك لا يفيد التبيّن وعدمه بناء على نفي الحجيّة عنه.

إلا أنّ الاحتمال الأوّل هو المتعيّن بحسب الفهم العرفي دون الثاني ؛ وذلك لأنّه على الاحتمال الثاني يكون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهذا غير محتمل عقلائيّا ، فإنّ العقلاء إما أن يعتبروا خبر العادل أحسن حالا من خبر الفاسق أو على

ص: 206

الأقلّ فهو مساو له ، ولا يتعقلون كونه أقل شأنا منه ، فإذا كان خبر الفاسق يجب التبيّن فيه ثمّ بعد ذلك يجوز العمل به ، فلا بد أن يكون خبر العادل مثله أو أحسن ، بأن يجوز العمل به بعد التبيّن أو يجب العمل به من دون تبيّن لا أنّه يجب طرحه وأنّه لا يجوز العمل به حتّى مع التبيّن ، وهذا ما يسمّى بدليل الأسوئيّة.

وثانيا : لو كان المراد أنّ خبر العادل لا يجوز العمل به سواء تبيّن عنه أم لا ، كان لازمه المنع عن العمل بالدليل القطعي ، وهو واضح البطلان ، لأنّ القطع لا يعقل المنع عن العمل به.

والوجه في ذلك أنّه بعد التبيّن عن خبر العادل قد يثبت لنا صدقه أو كذبه ، فإذا ثبت صدقه صار دليلا قطعيّا لإفادته العلم واليقين فكيف لا يجوز العمل به والحال هذه؟! ولذلك لا يعقل هذا التفسير ، فيتعين الاحتمال الأوّل ، وبه يتمّ الاستدلال بالآية على حجيّة خبر العادل الذي هو أحد أقسام خبر الواحد فثبت أنّ خبر الواحد يجوز العمل به وإن لم يفد العلم ، وذلك لجعل الحجيّة له شرعا.

ويوجد اعتراضان مهمّان على الاستدلال بمفهوم الشرط في المقام :

أحدهما : أنّ الشرط في الجملة مسوق لتحقق الموضوع ، وفي مثل ذلك لا يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم.

ثمّ إنّه قد وجّهت لهذا الاستدلال عدة اعتراضات أهمها اثنان ، ذكرهما الشيخ في الرسائل ، هما :

الاعتراض الأوّل : أنّ الجملة الشرطيّة إنّما يصحّ الاستدلال بمفهومها فيما إذا لم تكن مسوقة لتحقق الموضوع ، وإلا فتكون جملة شرطية بظاهرها ولكن روحها وجوهرها الجملة الحملية التي لا مفهوم لها أصلا ليصح الاستدلال به.

وهنا الجملة الشرطيّة في الآية مسوقة لتحقق الموضوع ؛ وذلك لأنّ الشرط فيها هو مجيء الفاسق بالنبإ ، والجزاء هو وجوب التبيّن والموضوع هو نبأ الفاسق ، وعلى هذا يكون الشرط والموضوع متحدين لأنّ نبأ الفاسق الذي هو الموضوع لا يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق الذي هو الشرط ، فكان الشرط تعبيرا آخر عن الموضوع ، وليس شيئا زائدا عليه ، فلو لا الشرط لما تحقّق الموضوع لأنّ نبأ الفاسق لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق دون غيره ، فتكون هذه الجملة بقوّة قولنا : ( تبيّن نبأ الفاسق عند

ص: 207

مجيئه ) ، ومثل هذه الجملة لا مفهوم لها ، لأنّها قضيّة حمليّة جزئيّة لا يستفاد منها أكثر من منطوقها ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ ينتفي الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لا من باب المفهوم ، أي أنّه لا يجب التبيّن لأنّه لا موضوع له ، وأمّا أنّ خبر العادل يجب التبيّن عنه أم لا فهذا مطلب آخر يحتاج إلى دليل خاص يدلّ عليه.

والتحقيق : أنّ الموضوع والشرط في الجملة الشرطيّة المذكورة يمكن تصويرهما بأنحاء :

منها : أن يكون الموضوع طبيعي النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به.

ومنها : أن يكون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيئه به ، فكأنّه قال : ( نبأ الفاسق إذا جاءكم به فتبينوا ).

ومنها : أن يكون الموضوع الجائي بالخبر ، والشرط فسقه ، فكأنّه قال : ( الجائي بالخبر إذا كان فاسقا فتبينوا ).

والجواب عن هذا الاعتراض أن يقال : إنّ الموضوع والشرط في هذه الجملة الشرطيّة يمكن تصويرهما على ثلاثة أنحاء ، فيثبت المفهوم في اثنين منها دون الثالث ، فلا بد من بيان هذه الأنحاء الثلاثة لمعرفة ما هو المقصود منها في مقامنا.

فنقول : تارة يكون الموضوع طبيعي النبأ من دون قيد ، والشرط هو مجيء الفاسق به ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. فيكون المعنى أنّ النبأ إذا جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه.

وأخرى يكون الموضوع نبأ الفاسق أي النبأ المقيّد بالفاسق ، والشرط هو مجيء الفاسق به ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. ويكون المعنى أنّ نبأ الفاسق إذا جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه.

وثالثة يكون الموضوع الجائي بالنبإ ، أو النبأ المجيء به ، والشرط هو فسق الجائي ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. ويكون المعنى أنّ الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فيجب التبيّن عنه.

وحينئذ لا بدّ من البحث حول ثبوت المفهوم وعدمه في كل من هذه الأنحاء الثلاثة ، فنقول :

ولا شكّ في ثبوت المفهوم في النحو الأخير لعدم كون الشرط حينئذ محققا للموضوع.

ص: 208

أمّا النحو الثالث وهو كون الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فيجب التبيّن ، فلا شكّ في ثبوت المفهوم فيه ؛ وذلك لأنّ الموضوع والشرط متغايران ، فإنّ النبأ والجائي به قد يصدق مع الفاسق وقد يصدق مع العادل ، فليس الشرط إذا مسوقا لتحقق الموضوع أصلا ، لأنّه يثبت بدونه أيضا ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ لا ينتفي النبأ بل يثبت مع العادل أيضا ، ويكون المفهوم إنّه إذا جاء العادل بالنبإ فلا يجب التبيّن بخلاف مجيء الفاسق به.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ، وهو الذي اختاره صاحب ( الكفاية ).

كما لا شكّ في عدم المفهوم في النحو الثاني ، لأنّ الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع.

وأمّا النحو الثاني ، وهو كون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيء الفاسق به ، فهنا الشرط والموضوع متحدان ، فيكون الشرط مسوقا لتحقيق الموضوع ، وهو أيضا الأسلوب الوحيد لتحقيقه ؛ لأنّه يستحيل أن يتحقّق نبأ الفاسق من دون أن يأتي به الفاسق ، فإذا انتفى مجيء الفاسق فينتفي النبأ ، وبالتالي ينتفي الحكم والجزاء من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا يكون للجملة مفهوم لأنّها بقوّة قولنا : ( يجب تبيّن نبأ الفاسق عند مجيئه به ) ، وأمّا إذا جاء غيره به كالعادل فهذا مسكوت عنه سلبا وإيجابا ، ويحتاج إلى دليل خاص خارج عن مفاد الجملة.

وأمّا في النحو الأوّل فالظاهر ثبوت المفهوم ، وإن كان الشرط محققا للموضوع ، لعدم كونه هو الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، وفي مثل ذلك يثبت المفهوم كما تقدّم توضيحه في مبحث مفهوم الشرط.

وأمّا النحو الأوّل وهو كون الموضوع طبيعي وكلّي النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به ، فهنا يكون الشرط محققا للموضوع ، لأنّ مجيء الفاسق بالنبإ يحقق النبأ ، إلا أنّه ليس الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، فإنّ النبأ كما يتحقّق مع مجيء الفاسق به كذلك يتحقّق مع مجيء العادل به أيضا ، وقد تقدّم سابقا في بحث مفهوم الشرط أنّ الشرط المحقّق للموضوع على قسمين : فتارة يكون الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع فلا يكون للجملة مفهوم ، وأخرى لا يكون الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، بأن كان هناك شرط آخر لذلك فثبت للجملة مفهوم ، وهنا حيث إنّ الشرط ليس هو الأسلوب

ص: 209

الوحيد لتحقيق الموضوع فيثبت للجملة مفهوم ؛ لأنّه إذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ فيثبت مجيء العادل به ، وحينئذ لا يجب التبيّن عنه ، وهو معنى حجيّته ، لأنّه للإرشاد كما هو المختار ، أو بضم تلك المقدّمة ان كان الوجوب شرطيا.

والظاهر من الآية الكريمة هو النحو الأوّل ، فالمفهوم إذا ثابت.

والمستظهر من الآية الكريمة من بين هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، حيث إنّ الوارد فيها هو كون الشرط مجيء الفاسق لقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) ، والموضوع هو النبأ لقوله : ( بِنَبَإٍ ) .

والوجه في هذا الاستظهار أن الجزاء هو قوله : ( فَتَبَيَّنُوا ) يشتمل على ضمير مستتر أو محذوف جوازا والتقدير ( فتبينوه ) وهذا الضمير يرجع إلى النبأ ، وهو مطلق وكلّي وغير مقيّد.

والاعتراض الآخر يتلخص في محاولة لإبطال المفهوم عن طريق عموم التعليل بالجهالة الذي يقتضي إسراء الحكم المعلل إلى سائر موارد عدم العلم.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الطوسي وغيره من أنّنا لو سلّمنا دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم من الآية المذكورة ، إلا أنّه مع ذلك لا يمكن استفادة المفهوم منها ، وذلك لأنّه معارض بما هو مقدم عليه.

وبيان ذلك : أنّ المفهوم المستفاد من الآية مفاده عدم وجوب التبيّن فيما إذا كان المخبر عادلا ، وهذا المفهوم عام يشمل ما إذا كان خبر العادل مفيدا للعلم أم لا.

إلا أنّ هذا المفهوم معارض بعموم التعليل بقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) ، فإنّ هذا التعليل عام يشمل ما إذا كان الخبر غير مفيد للعلم أيضا ، سواء كان خبر فاسق أم خبر عادل.

فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي خبر العادل الظني غير المفيد للعلم ، فإنّ عموم المفهوم يثبت حجيّته وجواز العمل على وفقه بمقتضى عدم وجوب التبيّن فيه ، وعموم التعليل يثبت عدم حجيّته لأنّه خبر غير علمي ؛ لاحتمال الإصابة بالجهالة والندم فيه فحاله حال كل ما لا يفيد العلم ، حيث لا يؤمن معه الخطأ والاشتباه والغلط.

وحينئذ يرجح عموم التعليل على عموم المفهوم في مادة الاجتماع ؛ وذلك لأنّ العلّة أقوى من المفهوم لأنّ العلّة توجب التعميم والتخصيص كما لا يخفى ، فإنّ

ص: 210

الحكم يدور مدار علته ، فإذا كان الحكم خاصا معللا بشيء اقتضى ذلك تعميم الحكم لكل موارد ثبوت العلّة تبعا لعموم العلّة ، وإذا كان الحكم عاما ، وله علّة خاصّة اقتضت تخصيصه ، وهنا الإصابة بالجهالة والندم على ذلك علّة لكل خبر لا يفيد العلم حتّى وان كان خبر عادل.

والحاصل : إنّه يدور الأمر بين تخصيص عموم العلّة لإخراج خبر العادل منها أو طرح المفهوم رأسا ، والثاني هو المتعين لأنّ العلّة دليل على طرحه وترك العمل به ، مضافا إلى أنّ العلّة دليل لفظي بينما المفهوم ليس مدلولا لفظيّا ، واللفظ نص بينما المفهوم ظاهر ، فيقدم النص على الظاهر.

ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه :

أحدها : أنّ المفهوم مخصّص لعموم التعليل ، لأنّه يثبت الحجيّة لخبر العادل غير العلمي ، والتعليل يقتضي عدم حجيّة كل ما لا يكون علميا ، فالمفهوم أخص منه.

الجواب الأوّل : أن يقال : إنّ المفهوم وإن كان يشمل بظاهره خبر العادل المفيد للعلم وغير المفيد للعلم ، إلا أنّه بحسب الدقة لا يشمل إلا خبر العادل غير المفيد للعلم ، لأنّ هذا هو مقتضى المنطوق أيضا ، فإنّه لا يشمل إلا خبر الفاسق غير المفيد للعلم ؛ إذ لو كان خبر الفاسق مفيدا للعلم لكان حجّة لحجيّة العلم ، ولا ويجب التبيّن عنه حينئذ كخبر العادل المفيد للعلم أيضا.

وبهذا تكون النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص المطلق ، فالمفهوم يختص بخبر العادل غير العلمي ، بينما عموم التعليل يشمل خبر العادل وخبر الفاسق غير العلميين ، وفي مثل هذه الحالة يجمع بين المفهوم والتعليل جمعا عرفيا ، فيخصص عموم التعليل بالمفهوم لأنّه أخص منه ، والخاص مقدّم على العام ، فالتعارض بينهما غير مستقر كما سيأتي بحثه في مباحث التعارض.

ويرد عليه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا انعقد للكلام ظهور في المفهوم ثمّ عارض عموما من العمومات فإنّه يخصصه ، وأمّا في المقام فلا ينعقد للكلام ظهور في المفهوم ، لأنّه متصل بالتعليل ، وهو صالح للقرينية على عدم انحصار الجزاء بالشرط ، ومعه لا ينعقد الظهور في المفهوم لكي يكون مخصصا.

ويرد على هذا الجواب : أنّه إنّما يتمّ فيما لو انعقد للجملة الشرطيّة ظهور في

ص: 211

المفهوم ، ثمّ بعد ذلك ورد التعليل منفصلا عن الجملة فيقع التعارض بينهما ، ويحل بالجمع العرفي المذكور ، إلا أنّه في مقامنا ليس كذلك ؛ لأنّ التعليل متصل بالجملة الشرطيّة ، وهو شامل بعمومه للخبر غير العلمي سواء العادل وغيره ، فيكون هذا التعليل قرينة متّصلة بالخطاب تمنع من أصل انعقاد الجملة الشرطيّة في المفهوم ، لا أنّه ينعقد المفهوم أوّلا ثمّ يعارض التعليل ثانيا.

وفي هذه الحالة يرفع اليد عن أصل ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم لمنع دلالتها على التوقف بين الشرط والجزاء ، وهذا المانع هو التعليل الذي هو قرينة متّصلة بالخطاب الدالة على عدم حجيّة خبر العادل والفاسق غير العلميّين.

وبتعبير آخر : ما دام التعليل متصلا بالجملة فهو يمنع عن أصل انعقادها في المفهوم لأنّه يكون قرينة على عدم التوقف أو العليّة بين الشرط والجزاء ، لأنّه يشمل كل أفراد الخبر غير العلمي والذي منه خبر العادل أيضا.

فلو سلّم كون المفهوم أخص من التعليل إلا أنّه مع ذلك لا يتقدّم عليه أصلا ، لأنّ ملاك ثبوت المفهوم هو عدم ذكر ما يدلّ على خلاف المفهوم ، والتعليل يصلح لأنّ يكون قرينة على الخلاف ، لأنّه بمثابة النص ، حيث إنّه يشمل مورد المفهوم بينما الجملة الشرطيّة ظاهرة بذلك ، والظاهر إنّما يؤخذ به إذا لم يصرّح المتكلّم بخلافه ، وعموم التعليل تصريح بخلافه فيكون التعليل بعمومه مانعا عن أصل انعقاد ظهور الجملة في المفهوم ، لا أنّه ينعقد ثمّ يعارض التعليل ليقال بأنّه أخص منه ، لأنّ ذلك فرع استقرار وثبوت المفهوم ، وهو غير متحقّق مع التعليل المتّصل.

ثانيها : أنّ المفهوم حاكم على عموم التعليل ، على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه ؛ وذلك لأنّ مفاده حجيّة خبر العادل ، وحجيّته معناها على مسلك جعل الطريقية اعتباره علما ، والتعليل موضوعه الجهل وعدم العلم ، فباعتبار خبر العادل علما يخرج عن موضوع التعليل ، وهو معنى كون المفهوم حاكما.

الجواب الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني من كون المفهوم حاكما على عموم التعليل.

وبيانه : أنّه على مسلك جعل الطريقية والعلمية في الأمارات والحجج يكون مفاد جعل الحجيّة للأمارة جعلها علما وبذلك تكون حاكمة على قاعدة قبح العقاب بلا

ص: 212

بيان ، وفي مقامنا حيث إنّه ثبتت الحجيّة لمفهوم الشرط ، فيكون مفادها جعله علما ، وحينئذ يكون حاكما على عموم التعليل في الآية ؛ لأنّ عموم التعليل مفاده أنّ كل خبر غير علمي لا يؤمن معه من الإصابة بالجهالة والندم ، وهو وإن كان شاملا بعمومه ابتداء لخبر العادل الظني ، إلا أنّه بعد جعل الحجيّة للمفهوم يصبح خبر العادل علما وبذلك يخرج عن دائرة التعليل ، لأنّ موضوع التعليل الجهل وعدم العلم ، وخبر العادل على هذا المسلك صار علما تعبديّا لجعل الحجيّة له من الشارع ، فيكون دليل الحجيّة حاكما على عموم التعليل ومخرجا لأحد أفراده تعبدا ، فلا تعارض ولا منافاة بينهما ، لأنّ الحكومة من موارد الجمع العرفي بين الدليل الحاكم والمحكوم.

ويرد عليه : أنّه إذا كان مفاد المفهوم اعتبار خبر العادل علما فمفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن خبر الفاسق ، وعليه فالتعليل يكون ناظرا إلى توسعة دائرة هذا النفي وتعميمه على كل ما لا يكون علميا ، فكأنّ التعليل يقول : إنّ كل ما لا يكون علما وجدانا لا أعتبره علما ، وبهذا يكون مفاد التعليل ومفاد المفهوم في رتبة واحدة ، أحدهما يثبت اعتبار خبر العادل علما والآخر ينفي هذا الاعتبار ، ولا موجب لحكومة أحدهما على الآخر.

ويرد على هذا الجواب :

إنّنا لو سلّمنا ما ذكره الميرزا من كون جعل الحجيّة للمفهوم معناها جعله واعتباره علما ، فهذا يقتضي أيضا على أساس المقابلة بين المفهوم والمنطوق أن يكون خبر الفاسق ليس حجّة بمعنى أنّه ليس علما.

وحينئذ نقول : إنّ عموم التعليل الوارد في الآية يريد أن يعمّم عدم حجيّة وعدم علمية كل خبر ليس مفيدا للعلم الوجداني أي أنّ خبر الفاسق غير المفيد للعلم الوجداني وكل ما لا يفيد العلم الوجداني فهو ليس حجّة وليس علما تعبديّا.

وعلى هذا فيكون مفاد التعليل سلب الحجيّة والعلمية التعبديّة حتّى عن خبر العادل غير المفيد للعلم الوجداني ، بينما جعل الحجيّة لخبر العادل على أساس المفهوم معناها جعل العلمية التعبّدية له ، فيكون بينهما تعارض في مادة الاجتماع وهي خبر العادل غير المفيد للعلم الوجداني ؛ لأنّ المفهوم يثبت علميته على أساس أنّه حجّة بينما عموم التعليل ينفي علميته على أساس أنّه ليس علما وجدانيا ، وفي مثل هذه الحالة يقع

ص: 213

التعارض بين المفهوم والتعليل ، لأنّ موردهما واحد ، وكلاهما ينظر إليه في نفس المرتبة التي ينظر فيها الآخر ، وليس بينهما طولية ونظر ، وبالتالي لا يكون أحدهما حاكما على الآخر إذ لا يحرز نظره إليه.

وبكلمة أخرى : أنّ المفهوم كما يثبت حجيّة وعلمية خبر العادل فكذلك التعليل ينفي علمية وحجيّة خبر العادل وخبر الفاسق أيضا ، ولا موجب لترجيح أحدهما على الآخر ولا لحكومته كذلك ؛ إذ هما في مرتبة واحدة عرضية ، لأنّهما واردان معا في دليل واحد ، أحدهما يثبت الحجيّة والعلمية والآخر ينفيها ، فيتعارضان ويتساقطان ، بل يقال بتقديم عموم التعليل لأنّه قرينة شخصيّة معدة من قبل المتكلّم فهو كالنّص الصريح ، لأنّ العلّة تنظر إلى المورد وتعمّمه أو تخصّصه بحسب مناسبات الحكم والموضوع ، بينما المفهوم لا يحرز نظره وحكومته على عموم التعليل ليقدم عليه ، ومجرّد كون المفهوم أخص لا يبرر تقديمه على التعليل بملاك الحكومة ما دام النظر غير محرز فيه.

مضافا إلى أنّ لسان الحكومة كلسان التخصيص فما أورد على الجواب الأوّل يرد هنا أيضا ، حيث يصلح التعليل للقرينية على عدم انعقاد الجملة في المفهوم أساسا.

ثالثها : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه اللّه من أنّ الجهالة المذكورة في التعليل ليست بمعنى عدم العلم ، بل بمعنى السفاهة والتصرف غير المتزن ، فلا يشمل خبر العادل الثقة ، لأنّه ليس سفاهة ولا تصرفا غير متزن.

الجواب الثالث : ما ذكره الآخوند : من أنّ الإشكال المذكور نشأ من تفسير الجهالة الواردة في التعليل بالجهل وعدم العلم ، فيكون التعليل بعمومه شاملا لخبر العادل ؛ لأنّه ليس علما فيقع التعارض بينهما ، ويقدم عموم التعليل كما مر.

إلا أنّ الصحيح إنّ الجهالة ليست بهذا المعنى ، بل هي بمعنى الطيش والسفاهة ، فيكون المراد من التعليل أنّ كل خبر يكون العمل به موجبا للطيش وللسفاهة والعمل غير المتزن لا يكون حجّة ، ويجب تركه والتبيّن فيه قبل العمل بمفاده ، وهذا لا يشمل خبر العادل بعد إثبات حجيّته ؛ لأنّ العمل به يكون مقبولا عند العقلاء والتصرف على أساسه لا يكون طيشا وسفها.

وبهذا يتّضح أنّه لا معارضة بين المفهوم والتعليل ، لأنّ المفهوم يثبت أنّ العمل بخبر

ص: 214

العادل حجّة ، وهذا يعني أنّ العمل به مقبول عقلائيّا بينما التعليل يثبت أنّ العمل بكل ما فيه السفاهة والطيش ليس حجّة ، فلكل منهما موضوع مغاير للآخر ، فلا تعارض بينهما أصلا (1).

الوجه الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ، حيث أنيط وجوب التبيّن بفسق المخبر ، فينتفي بانتفائه.

ومفهوم الوصف تارة يستدلّ به في المقام بناء على ثبوت المفهوم للوصف عموما ، وتارة يستدلّ به لامتياز في المقام ، حتّى لو أنكرنا مفهوم الوصف في موارد أخرى.

التقريب الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ببيان : أنّ وجوب التبيّن في الآية الشريفة قد أنيط بكون المخبر فاسقا ، أي أنّه يجب التبيّن عن خبر الفاسق ، فإذا انتفى الفاسق وجاء العادل بالخبر فلا يجب التبيّن ، فيكون المفهوم عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل ، وهذا يعني حجيّته بعد ضم مقدمة الأسوئية السابقة ؛ لأنّه يحتمل أن يكون عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل لأجل أنّه يطرح ابتداء حتّى مع التبيّن ، وإما أن يكون معنى حجيّته ، والأوّل يجعله أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وهو غير محتمل عقلائيّا ، فيتعيّن الاحتمال الثاني.

ثمّ إنّ الاستدلال بمفهوم الوصف يتوقّف على أحد أمرين :

الأوّل : أن يبنى على حجيّة مفهوم الوصف مطلقا ، فيكون موردنا من مصاديق حجيّة مفهوم الوصف التي لا بدّ من قيام البرهان والدليل عليها.

الثاني : أن يبنى على حجيّة مفهوم الوصف في خصوص المقام لا مطلقا ، بمعنى أنّنا لو أنكرنا حجيّة مفهوم الوصف بنحو عام فلا بدّ أن نستفيد حجيّة مفهوم الوصف في خصوص الآية الكريمة لميزة في الآية تجعلنا نقول بثبوت المفهوم ، وهذه الميزة هي :

ص: 215


1- ويمكن الجواب على هذا بأنّ حمل الجهالة على السفاهة وعدم الاتزان لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ؛ لأنّ الندم يتناسب مع عدم إصابة الواقع ، وهذا مشترك بين خبر الفاسق وخبر العادل غير العلميين ، فيكون هذا قرينة على أنّ المراد هو الجهل وعدم العلم ، فالتعارض على حاله. وبهذا ظهر أنّ هذا الإشكال وارد على هذا الاستدلال ، ولا يمكن دفعه بما ذكر.

وذلك بأن يقال : إنّ مقتضى قاعدة احترازية القيود انتفاء شخص ذلك الوجوب للتبيّن بانتفاء الفسق. وعليه ، فوجوب التبيّن عن خبر العادل ، إن أريد به شمول شخص ذلك الوجوب له فهو على خلاف القاعدة المذكورة ، وإن أريد به شخص آخر من وجوب التبيّن مجعول على عنوان خبر العادل ، فهذا غير محتمل ؛ لأنّ معناه أنّ خبر العادل بما هو خبر العادل دخيل في وجوب التبيّن هذا ، وهو غير محتمل ، فإنّ وجوب التبيّن إما أن يكون بملاك مطلق الخبر أو بملاك كون المخبر فاسقا ، ولا يحتمل دخل عدالة المخبر في جعل وجوب التبيّن.

وهذا الميزة يمكن إبرازها ببيان : أنّه بناء على قاعدة احترازية القيود القائلة بأنّ كل ما يقوله ويذكره في كلامه فهو مراد له جدا ، فحيث إنّه ذكر في كلامه عنوان الفسق فيكون له مدخليّة في الحكم بوجوب التبيّن وهذا معناه أنّه إذا لم يكن المخبر فاسقا فلا يجب التبيّن المستفاد من الكلام المذكور ، أي أنّ شخص وجوب التبيّن ينتفي عن خبر العادل ، وأمّا أنّه هل يثبت وجوب التبيّن عن خبر العادل بدليل آخر أم أنّه يجب التبيّن فيه؟ فهذا يحتاج إلى دليل آخر ، وفي المقام يوجد هذا الدليل على أنّه لا يجب التبيّن عن خبر العادل وذلك على أساس أنّ وجوب التبيّن عن خبر العادل يحتمل فيه عدة أمور ، هي :

الأوّل : أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل بنفس الملاك الموجود في المنطوق ، بأن يكون نفس وجوب التبيّن الوارد في المنطوق شاملا للفاسق وللعادل معا.

وهذا الاحتمال غير صحيح لأنّه على خلاف قاعدة احترازية القيود ، حيث إنّها تدلّ على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف ، فإذا انتفى الفسق فلا يجب التبيّن عن خبر العادل بهذا الوجوب ، بل لا بدّ من إثباته بوجوب آخر مماثل.

الثاني : أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل ثابتا بدليل آخر غير ما ورد في المنطوق ، ويكون موضوعه خبر العادل بأن يكون هناك وجوب آخر للتبيّن مجعول على نفس عنوان خبر العادل بما هو كذلك.

وهذا الاحتمال غير تام أيضا ، لأنّه يعني أنّ العدالة قد أنيط بها وجوب التبيّن بما هي كذلك ، أي لذاتها وعنوانها ، وهذا معناه أنّ العلّة والملاك للتبيّن عن خبر العادل هي كونه عادلا وهذا ممّا لا يحتمله العقلاء والعرف.

ص: 216

نعم ، يمكن أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل بعنوان آخر يشمله كعنوان وجوب التبيّن عن مطلق الخبر الظني غير المفيد للعلم ، فإنّه شامل للعادل وللفاسق معا ، أو يكون وجوب التبيّن مختصا بالفاسق فقط.

فعلى الثاني يثبت حجيّة خبر العادل ، وعلى الأوّل يلزم أن يؤخذ في المنطوق ما يدلّ على أخذ عنوان الخبر مطلقا وهو غير موجود في ظاهر الكلام ، فهو على خلاف الظاهر ، فيتعين كون وجوب التبيّن مختصا بالفاسق فقط دون العادل.

أمّا اللحاظ الأوّل للاستدلال بمفهوم الوصف فجوابه إنكار المفهوم للوصف ، خصوصا في حالة ذكر الوصف بدون ذكر الموصوف.

ويرد على الاستدلال بمفهوم الوصف أنّنا ننكر حجيّة مفهوم الوصف رأسا ، فيكون الاستدلال بمفهوم الوصف على حجيّة خبر العادل تامّا على مبنى القول بحجيّة مفهوم الوصف ، والمختار كما هو المشهور عدم حجيّته.

مضافا إلى أنّ الوصف إذا ذكر ولم يذكر الموصوف فيكون لقبا وهو أضعف من مفهوم الوصف ، فعدم تماميّة الاستدلال على هذا أوضح ، لأنّه إذا قيل : ( أكرم الفقيه ) فهذا العنوان لقب ؛ لأنّ الموصوف وهو العالم محذوف فلا يدلّ على عدم وجوب إكرام غير الفقيه من العلماء.

وأمّا اللحاظ الثاني للاستدلال فجوابه : أنّ وجوب التبيّن ليس حكما مجعولا ، بل هو تعبير آخر عن عدم الحجيّة ، ومرجع ربطه بعنوان إلى أنّ ذلك العنوان لا يقتضي الحجيّة ، فلا محذور في أن يكون خبر العادل موضوعا لوجوب التبيّن بهذا المعنى ، لأنّ موضوعيته لهذا الوجوب مرجعها إلى عدم موضوعيته للحجيّة.

ويرد على الاستدلال بمفهوم الوصف بخصوص الآية الكريمة أنّ وجوب التبيّن عن خبر العادل لو كان وجوبا نفسيا تكليفيا لكان من غير المحتمل أن يكون العادل بما هو كذلك موضوعا لحكم تكليفي بالتبيّن كما تقدّم في الاستدلال لعدم مدخليّة العدالة في وجوب التبيّن بنفسها.

إلا أنّ الصحيح إنّ الأمر بالتبيّن عن خبر الفاسق إرشاد إلى عدم حجيّته في نفسه ، ولذلك يجب التبيّن عنه ، فيكون وجوب التبيّن عن خبر الفاسق لسانا من ألسنة نفي الحجيّة ؛ إذ لا يعقل الأمر النفسي بالتبيّن لذاته ، وعليه فيكون إناطة وجوب التبيّن

ص: 217

بعنوان الفسق في منطوق الآية مرجعه إلى أنّ هذا العنوان بنفسه ليس فيه مقتضي الحجيّة.

إلا أنّ هذا لا يعني أنّ خبر العادل فيه مقتضي الحجيّة ؛ إذ من الممكن ألا يكون فيه أيضا مقتضي الحجيّة ، ولكن لا بعنوان العدالة ، بل بعنوان آخر يشمله ويشمل الفاسق أيضا ، كالخبر غير العلمي أو الذي يحتمل عدم إصابته للواقع ، فيكون خبر العادل موضوعا أيضا لوجوب التبيّن لدخوله تحت هذا العنوان العام ، فيجب التبيّن عنه لا لكونه عادلا بل لكونه خبرا لا يفيد العلم مثلا ، أو لأنّه لا يظن بصدقه أو يظن بخلافه وهذا معناه أنّه من المحتمل أن يكون خبر العادل موضوعا لوجوب التبيّن بمعنى أن هذا العنوان لا يقتضي الحجيّة لكونه مصداقا لذاك العنوان العام لا لنفسه.

والحاصل : أنّ المحذور في وجوب التبيّن عن خبر العادل فيما إذا كان عنوان العدالة بنفسه هو الموضوع الذي أنيط به وجوب التبيّن ، وأمّا إذا كان وجوب التبيّن عن خبر العادل بعنوان آخر يشمله ويشمل خبر الفاسق كعنوان الخبر الذي لا يفيد العلم ، فيكون وجوب التبيّن عن خبر العادل كخبر الفاسق بمعنى عدم وجود موضوع الحجيّة فيهما لا بعنوانهما الخاص ، بل بعنوانهما العام المذكور.

ومنها : آية النفر وهي قوله سبحانه وتعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

وتقريب الاستدلال بها يتمّ من خلال الأمور التالية :

تقريب الاستدلال بالآية يتمّ فيما إذا كان التحذر عند الإنذار واجبا سواء أفاد العلم أم لا ، وهذا يعني حجيّة قول المنذر مطلقا وهو المطلوب.

وهذا الاستدلال يتوقّف على إثبات وجوب التحذر أوّلا وعلى كونه مطلقا ثانيا ، فحينئذ تثبت الحجيّة.

أوّلا : أنّها تدلّ على وجوب التحذر لوجوه :

أحدها : أنّه وقع مدخولا لأداة الترجي الدالة على المطلوبية في مثل المقام ، ومطلوبيّة التحذر مساوقة لوجوبه ، لأنّ الحذر إن كان له مبرّر فهو واجب وإلا لم يكن مطلوبا.

ص: 218


1- التوبة : 122.

الأمر الأوّل : إثبات كون التحذّر واجبا فيتم بوجوه :

الوجه الأوّل لصاحب ( المعالم ) : أنّ التحذّر وقع مدخولا لأداة الترجي في قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) والترجي الحقيقي مستحيل على الشارع ، فيحمل على أقرب المعاني إليه وهو المطلوبية والمحبوبية في مقامنا ؛ لأنّ الكلام من الشارع. ومعنى المطلوبية والمحبوبية للتحذّر كونه واجبا ؛ إذ لو كان التحذّر له مبرر لطلبه كما هو المفترض فهو واجب لرجحانه ، وإن لم يكن هناك مبرّر لطلبه فلا معنى لمحبوبيّته ورجحانه ، وبالتالي لا يكون مطلوبا أصلا ، فلا معنى لذكره في الكلام.

وبتعبير آخر : أنّ معنى كون التحذّر مطلوبا للشارع ومحبوبا له كونه واجبا في مقامنا ، وذلك للإجماع المركّب الحاصل من انقسام الفقهاء إلى قولين : أحدهما لم يجوّز العمل بالخبر مطلقا ، والآخر أوجب العمل به ، والذي على أساسه ننفي كون الرجحان والمطلوبية للاستحباب ، فيتعين الوجوب ، إذ لا قول بالفصل.

ثانيها : أنّ التحذّر وقع غاية للنفر الواجب ، وغاية الواجب واجبة.

الوجه الثاني لإثبات وجوب التحذّر أن يقال : إنّ التحذّر وقع غاية للنفر ، لأنّ الآية مفادها تعليل وجوب الإنذار بالتحذر من القوم بقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وحيث إنّ الإنذار واجب فيكون التحذر واجبا أيضا ؛ لأنّ غاية الواجب واجبة لأنّ الشارع لا يرضى بتفويت الواجب ، فهو لا يرضى بتفويت غايته أيضا ، فتكون واجبة مثله.

وبتعبير أدق : أنّ الانذار لمّا كان واجبا فهو مطلوب ومحبوب ، وحيث إنّ التحذّر وقع غاية للإنذار الواجب فيكون مطلوبا ومحبوبا أيضا ، ولا معنى لذلك إلا كونه واجبا ، فهناك ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب غايته ، ولا يعقل التفكيك بينهما.

ثالثها : إنّه بدون افتراض وجوب التحذر يصبح الأمر بالنفر والإنذار لغوا.

الوجه الثالث لإثبات وجوب التحذر أن يقال : إنّ التحذر إما أن يكون واجبا أو لا يكون كذلك ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني يجعل الأمر بالنفر والانذار لغوا ، لأنّه إذا لم يجب التحذّر عند الإنذار لما كان معنى لإيجاب النفر والإنذار على النافرين للتفقه ؛ إذ لا فائدة من إنذارهم ونفرهم للتفقه ما دام الناس لن يتحذروا عند سماع إنذارهم فيكون إيجابهما بلا فائدة.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع لمّا أوجب على النافرين الإنذار فهذا يلازمه وجوب العمل

ص: 219

على طبق كلامهم من قبل المنذرين ، وإلا لم يكن لهذا الوجوب معنى ، لأنّه ليس واجبا لذاته ، إذ المفروض أنّه مغيّا بالتحذر.

ثانيا : أنّ وجوب التحذر واجب مطلقا ، سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أو لا ، لأنّ الوجوه المتقدّمة لإفادته تقتضي ثبوته كذلك.

الأمر الثاني : وهو إثبات كون وجوب التحذّر مطلقا ، فيدل عليه نفس الوجوه الثلاثة المتقدّمة في إفادته الوجوب ، فيكون التحذّر واجبا سواء أفاد العلم للسامع أم لا ، لأنّ وجوب التحذّر قد وقع غاية للإنذار بنفسه سواء أفاد هذا الإنذار العلم أم لا ، لأنّ مقتضى إطلاقه هو شموله للموردين ، بل لو كان وجوب التحذر ثابتا حال إفادة الإنذار للعلم فقط لكان التحذر واجبا من باب العلم لا من باب الإنذار ، وهو خلاف الظاهر ، حيث كان التحذر غاية لنفس الإنذار ، بل يلزم أيضا لغوية الإنذار لو كان التحذر مختصا بحال العلم لأنّ الأغلب الا يفيد قول المنذر العلم فهو بحكم إلغائه أو تخصيصه بالفرد النادر.

ثالثا : أنّ وجوب التحذر حتّى مع عدم حصول العلم لدى السامع مساوق للحجيّة شرعا ؛ إذ لو لم يكن إخبار المنذر حجّة شرعا لما وجب العمل به إلا في حال حصول العلم منه.

الأمر الثالث : وهو إثبات حجيّة إخبار المنذر وذلك بأن يقال : إنّ وجوب التحذر عند الإنذار إمّا أن يكون مختصا بحال إفادة الإنذار العلم للسامع ، وإمّا أن يكون مطلقا سواء أفاده العلم أم لا ، فالثاني يعني الحجيّة التعبّدية لإخبار المنذر ؛ لأنّه حجّة ويجب التحذر عنده ، وإن لم يفد العلم وهو المطلوب ، والأوّل معناه أن يكون إخبار المنذر حجّة حال إفادته العلم فقط ، فيكون التحذر واجبا في هذه الحالة فقط ، إلا أنّه غير معقول في نفسه لما تقدّم من أنّ وجوب التحذر مطلق سواء أفاد قول المنذر العلم أم لا ، ولأنّه يوجب أن يكون جعل الحجيّة له مختصا بحال العلم.

ومن الواضح أنّ حجيّة العلم لا يعقل جعلها أو رفعها ، فلا يكون هناك معنى لجعل الحجيّة لإخبار المنذر إلا كونه حجّة مطلقا وإلا لزم جعل الحجيّة عند العلم وحجيّة العلم لا يمكن جعلها من الشارع.

ص: 220

وبهذا ظهر أنّ الاستدلال بآية النفر تام لو تمّت هذه الأمور الثلاثة ، إلا أنّه يمكن النقاش في كل واحد من هذه الأمور كما يلي :

وقد يناقش في الأمر الأوّل بوجوهه الثلاثة ، وذلك بالاعتراض على أوّل تلك الوجوه بأن الأداة مفادها وقوع مدخولها موقع الترقّب لا الترجي ، ولذا قد يكون مدخولها مرغوبا عنه ، كما في قوله : « لعلك عن بابك طردتني ».

المناقشة في الأمر الأوّل : يرد على الأمر الأوّل أي إثبات وجوب التحذر أنّنا نمنع الوجوه الثلاثة التي ذكرت لإفادة الوجوب.

أمّا الوجه الأوّل : فيعترض عليه بأنّه يتمّ فيما لو كانت الأداة تفيد المطلوبية والمحبوبية لمدخولها ، إلا أنّها ليست كذلك ، لأنّ مدخول الأداة يقع موضع التّرقب أيضا ، كما في قولك : ( لعلك تزورنا ) أي إنّنا نترقب زيارتك ، ويقع أيضا في غير مقام المحبوبية أصلا ، بأن يكون مكروها ومبغوضا كقوله علیه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي : « لعلك عن بابك طردتني » فهو يخشى ذلك ولا يحبّه.

والحاصل : أنّ كلمة ( لعل ) لا تدلّ فقط على الترجي بل هي أعم من طلب وقوع المحبوب ومن طلب عدم وقوع المبغوض ، فتكون موضوعة للترقّب الذي يتلاءم مع كلا المعنيين ، فإنّه إن كان المدخول مطلوبا ومحبوبا كانت تفيد التّرقب لوقوعه ، وإن كان مبغوضا ومرغوبا عنه كانت تفيد التّرقب لعدم وقوعه (1).

وبالاعتراض على ثاني تلك الوجوه بأنّ غاية الواجب ليست دائما واجبة ، وإن كانت محبوبا حتما ، ولكن ليس من الضروري أن يتصدى المولى لإيجابها بل قد يقتصر في مقام الطلب على تقريب المكلّف نحو الغاية وسدّ باب من أبواب عدمها ، وذلك عند وجود محذور مانع من التكليف بها وسدّ كل أبواب عدمها كمحذور المشقّة وغيره.

وأمّا الوجه الثاني : فيعترض عليه أنّه ليس دائما كلما كان شيء واجبا كانت

ص: 221


1- في الآية الشريفة يحتمل كلا النحوين من الترقب ، فنحتاج إلى دليل لترجيح أحدهما على الآخر ، وهو وإن كان يمكن استفادته من الآية كما هو الظاهر إلا أنّه يحتمل أن يكون التحذّر مطلوبا لإفادة الإنذار والإخبار للعلم لا مطلقا ، أي أنّ التحذر يكون واجبا لأنّه يترقّب أن يكون الإنذار مفيدا للعلم لا مطلقا. وهذا ما ذكره الأصفهاني.

غايته واجبة أيضا ، بل قد تكون غايته واجبة وقد لا تكون واجبة فيما إذا كان في إيجابها حرج أو مشقة أو عسر على المكلّف.

فنحن نسلّم بأنّ الغاية محبوبة ومطلوبة وراجحة ولكنّنا لا نسلّم أنّها تكون واجبة دائما ، فيمكن للمولى أن يتصدى لإيجابها بأن كانت مقدورة للمكلّف ولا مشقّة عليه بامتثالها ، ويمكن للمولى عدم إيجابها إذا لم تكن مقدورة للمكلف أو كان في إيجابها مشقة حرجية ؛ ولهذا نمنع الكبرى الكليّة.

والوجه في ذلك : أنّ الغاية إذا كان في إيجابها عسر ومشقة وحرج على المكلّف فالمولى حينئذ يقتصر على إيجاب ذي الغاية فقط ، والذي من شأنه أن يقرّب المكلّف نحو الغاية فيما إذا كان للغاية أسباب وأبواب متعدّدة فإنّه إذا أوجب ما يقرّب إليها يكون قد سدّ بابا من أبواب عدمها لا جميع أبواب عدمها ؛ إذ المفروض أنّ سدّ جميع أبواب عدمها يساوق إيجاب الغاية نفسها ، والمفروض أنّ المولى لا يريد إيجابها لما فيها من العسر والحرج والمشقّة على المكلّف.

والحاصل : أنّه إذا كان إيجاب الغاية نفسها أو سد جميع أبواب عدمها حرجيا على المكلّف فالمولى يقتصر في مقام تقريب المكلّف نحو الغاية في إيجاب أحد أسبابها وسدّ أحد أبواب عدمها فقط ، ولذلك تكون غير واجبة ولكنّها في نفس الوقت مطلوبة ومحبوبة للمولى لكنّه لم يوجبها لمحذور ومانع.

وبهذا يتّضح أنّ الملازمة بين وجوب شيء ووجوب غايته على إطلاقها غير تامّة. نعم ، هي تامّة بنحو الموجبة الجزئيّة فقط وإثبات كونها واجبة في مقامنا يحتاج إلى دليل آخر غير ما ذكر (1).

وبالاعتراض على ثالث تلك الوجوه بأنّ الأمر بالنفر والإنذار ليس لغوا مع عدم الحجيّة التعبديّة ، لأنّه كثيرا ما يؤدّي إلى علم السامع فيكون منجزا ، ولمّا كان المنذر يحتمل دائما ترتب العلم على إنذاره أو مساهمة إنذاره في حصول العلم ولو لغير السامع المباشر فمن المعقول أمره بالإنذار مطلقا.

ص: 222


1- مضافا إلى أنّ وجوب الإنذار ثابت على النافرين بينما وجوب التحذر ثابت على القوم المنذرين ، فمن عليه الوجوب ليس نفس من عليه التحذر ، فلا ملازمة بين الإيجابين لاختلاف موضوع كل منهما.

وأمّا الوجه الثالث : فيعترض عليه بأنّه يمكن أن يكون هناك أمر وإيجاب للنفر والإنذار ومع ذلك لا يقال بالحجيّة التعبديّة لإخبارهم مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وذلك لأنّه غالبا أو كثيرا ما يؤدّي الإنذار والإخبار إلى علم السامع فيكون الإنذار منجزا عليه لمنجزية العلم لا لنفس الخبر.

وعليه ، فيمكن للشارع أن يكون قد جعل الإنذار واجبا ، لأنّه يؤدّي إلى العلم ولكنّه لم يقيّد في لسان الدليل بذلك حفاظا على بقاء الإنذار ، لأنّه لو قال : إنّ الإنذار إنّما يكون واجبا فيما لو أفاد العلم للسامع ، فعندئذ سوف يتوقّف المنذر في كثير من الأحيان عن الإنذار لعدم إفادة إنذاره العلم لدى السامع بنظر المنذر مع أنّه قد يفيده العلم أو قد يفيد غير السامع أو قد يساهم الإنذار في حصول العلم بعد ضمّ غيره من القرائن والشواهد إليه ، فلأجل أن يحافظ الشارع على وجوب التحذّر عند إفادة الإنذار العلم جعل وجوب الإنذار في خطابه مطلقا لحالتي إفادته العلم وعدمها من أجل أن يتحقّق الإنذار من كل النافرين سواء كان مفيدا للعلم بنظرهم أم لا ، لأنّ المهم هو أن يحصل العلم للسامع أو للمنقول إليه الإنذار.

والحاصل : أنّ الملاك الواقعي للمولى هو كون وجوب التحذر عند إفادة العلم لدى السامع من إنذار النافر ، ولكن إذا أبرز الشارع هذا القيد في ظاهر كلامه فسوف يتوقّف كثير من المنذرين النافرين حيث إنّهم في كثير من الأحيان يعتقدون أنّ إنذارهم لا يفيد السامع العلم ؛ لأنّه خبر واحد ظني وبالتالي سوف لن يتحقّق التحذر الواجب في كثير من موارده الواقعيّة.

وأمّا إذا أبرز وجوب الإنذار مطلقا سواء أفاد العلم أم لا سوف يتحفظ على ملاك وجوب التحذر الواقعي لأنّه سوف يتحذر دائما عنه لأنّ الوجوب صار مطلقا ظاهرا وإن كان واقعا مقيّدا بالعلم.

وهذه المناقشة إذا تمت جزئيا فلا تتم كليّا ، لأنّ دلالة كلمة ( لعل ) على المطلوبية غير قابلة للإنكار ، وكون مفادها الترقب وإن كان صحيحا

ولكن كونه ترقب المحبوب أو ترقب المخوف يتعيّن بالسياق ، ولا شكّ في تعيين السياق في المقام للأوّل.

الجواب عن هذه المناقشة : أنّها تتمّ في الوجهين الثاني والثالث ، ولكنّها غير تامّة

ص: 223

في الوجه الأوّل ، فهي تامّة جزئيا لا كليّا ، وذلك : لأنّ دلالة كلمة ( لعل ) على المحبوبية والمطلوبية غير قابلة للإنكار ، فإنها تدلّ على مطلوبيّة ومحبوبية المدخول في كثير من الموارد كما في قولك : ( لعلّني أدخل الجنة ).

وأمّا ما ذكره المحقّق الأصفهاني من كون الأداة موضوعة للترقب الأعم من المحبوب والمبغوض فهو صحيح أيضا ، لكن تعيين أنّ المترقب هو المحبوب أو المخوف والمبغوض راجع للسياق ، وسياق الآية هنا يعيّن كون الترقب للمحبوب لأنّ التحذر في نفسه شيء حسن وجيّد لئلاّ يقع الإنسان في الخطأ.

فالوجه الأوّل لإثبات أنّ التحذّر واجب تام وبه يثبت الأمر الأوّل وهو وجوب التحذّر.

وقد يناقش في الأمر الثاني - بعد تسليم الأوّل - بأنّ الآية الكريمة لا تدلّ على إطلاق وجوب التحذر لحالة عدم علم السامع بصدق المنذر ، وذلك لوجهين :

المناقشة في الأمر الثاني : وقد يرد على الأمر الثاني وهو إثبات وجوب التحذر مطلقا بأنّه لا إطلاق في الآية الكريمة لحالة عدم علم السامع بصدق المخبر بالإنذار ، وإنّما هي مقيّدة بحالة علمه فقط ، ويمكن إثبات التقييد وبطلان الإطلاق بأحد وجهين ، ذكرهما الشيخ الأنصاري :

أحدهما : أنّ الآية لم تسق من حيث الأساس لإفادة وجوب التحذر ؛ لنتمسك بإطلاقها لإثبات وجوبه على كل حال ، وإنّما هي مسوقة لإفادة وجوب الإنذار ، فيثبت بإطلاقها إنّ وجوب الإنذار ثابت على كل حال ، وقد لا يوجب المولى التحذر إلا على من حصل له العلم لكنّه يوجب الإنذار على كل حال ، وذلك احتياطا منه في مقام التشريع لعدم تمكنه من إعطاء الضابطة للتمييز بين حالات استتباع الانذار للعلم أو مساهمته فيه وغيرها.

الوجه الأوّل : منع الإطلاق في الآية ، وذلك لأنّ الآية بصدد بيان أصل وجوب الإنذار على النافرين بهدف تحذير الناس وليست في مقام إثبات وجوب التحذر ، وإنّما قلنا بوجوب التحذر للملازمة بين الإنذار والتحذر لئلا تلزم اللغوية.

وعليه ، فما ثبت إطلاقه من الآية هو أنّ الإنذار واجب على النافرين على كل حال

ص: 224

سواء أفاد إنذارهم العلم أم لا ، وأمّا أنّ وجوب التحذر مطلق أيضا فهذا لا دليل عليه ؛ إذ الآية لم تتعرض لوجوبه أساسا فضلا عن كونه مطلقا.

وحينئذ لا مانع من التفكيك بين الوجوبين ، بأن يكون وجوب الإنذار مطلقا لحالتي العلم وعدمه ، بينما يكون وجوب التحذر مختصا فيما إذا استفاد السامع العلم من إخبار المنذر ، ولا ملازمة بين إطلاق الإنذار وإطلاق التحذر أصلا.

والغرض من إيجاب الإنذار مطلقا مع أنّ إيجاب التحذّر ليس كذلك هو الاحتياط والتحفّظ على الأحكام الواقعيّة التي يخبر عنها المنذر ضمن مجموع إخباراته التي لا يفيد بعضها العلم ، فإنّ السامع قد يستفيد العلم من بعض هذه الإنذارات فتكون حجّة عليه ويجب عليه التحذر عنها وهو المطلوب والمراد للشارع من إنذار النافرين.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع يريد أن يتحذر الناس عن الإنذارات التي تفيدهم العلم ولكن لمّا لم يكن بالإمكان إعطاء الضابطة الكليّة والعامّة لهذا الأمر أوجب الإنذار على النافرين على كل حال سواء كان إنذارهم مفيدا للعلم أم لا ، وذلك حفاظا على أن يتحقّق الإنذار المفيد للعلم لدى السامع من مجموع هذه الإنذارات فيتحذر عنها بالخصوص ، أو أن يكون لهذا الإنذار مساهمة في إفادة العلم لدى السامع بعد ضمّ بعض الشواهد والقرائن الأخرى إليه.

وهذه فائدة معقولة جدا حفاظا على الملاكات الواقعيّة للأحكام عند الاختلاط أو عند عدم تمييزها عن غيرها بأن يجعل الشارع حكما ظاهريّا عاما بقصد الحفاظ على الملاكات الواقعيّة ضمن مجموع دائرة الإنذارات.

بل لو أنّ الشارع قد جعل وجوب الإنذار مختصا بما إذا كان مفيدا لعلم السامع لتعطلت كثير من الإنذارات فيما إذا اعتقد المنذر بأنّها لا تفيد السامع العلم ، وبالتالي سوف لن ينذر حتّى بالأحكام الواقعيّة التي تفيد العلم واقعا بتخيل واعتقاد عدم إفادتها للعلم ، وهذا يفوّت الملاكات الواقعيّة للأحكام الإلزاميّة في فرض كونها أهم من ملاكات الترخيص والإباحة.

وهذا الأمر يتناسب مع حقيقة وروح جعل الحكم الظاهري كما تقدّم ، ولذلك لا دليل على أنّ وجوب التحذر مطلق.

ص: 225

والوجه الآخر : ما يدّعى من وجود قرينة في الآية [ تدلّ ] على عدم الإطلاق ، لظهورها في تعلّق الإنذار بما تفقّه فيه المنذر في هجرته ، و[ في ] كون الحذر المطلوب مترقبا عقيب هذا النحو من الإنذار ، فمع شكّ السامع في ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لإثبات مطلوبيّة الحذر.

الوجه الثاني : أنّه يوجد ما يدلّ على التقييد وهو : أنّ التحذّر يجب فيما يجب فيه الإنذار ، أي أنّ موضوعهما واحد ، وهو الأحكام الواقعيّة بقرينة التفقه في الدين ، أي معرفة الأحكام الإلهية الواقعيّة ، وحينئذ يجب التحذر عن هذه الأحكام الواقعيّة إذا كان الإنذار بها وأمّا إذا لم يكن الإنذار بالأحكام الواقعيّة فلا يجب التحذر عنها قطعا.

فالتحذّر المترقّب وقوعه من الناس هو التحذر عند الإنذار بالأحكام الواقعيّة لا غير.

وعليه ، فإذا شكّ المنذر بأنّ هذا الإنذار من الأحكام الواقعيّة أو ليس منها فلا يحرز موضوع وجوب التحذر فلا يجب ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من إحراز الموضوع وهو معنى كون التحذّر واجبا عند إفادة الإنذار لعلم السامع لا مطلقا (1).

ويمكن النقاش في الأمر الثالث : بأنّ وجوب التحذر مترتّب على عنوان الإنذار لا مجرّد الإخبار ، والإنذار يستبطن وجود خطر سابق ، وهذا يعني أنّ الإنذار ليس هو المنجز والمستتبع لاحتمال الخطر بجعل الشارع الحجيّة له ، وإنّما هو مسبوق بتنجز الأحكام في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي أو الشك قبل الفحص.

المناقشة في الأمر الثالث : ويرد على الأمر الثالث وهو استفادة حجيّة خبر الواحد من خلال كون الإنذار والتحذر مطلقين أمران :

الأوّل : أنّ وجوب التحذر مطلقا سواء أفاد العلم للسامع أم لا مترتب على عنوان الإنذار ؛ لأنّ التحذر وقع عقيب الأمر بالإنذار فيكون التحذر واجبا مطلقا عند تحقّق عنوان الإنذار.

ص: 226


1- إلا أنّ هذا الوجه يمكن الجواب عنه بأنّه يكفي كون الإنذار منجزا للواقع ولو ظاهرا ، بمعنى أنّ التحذر يجب فيما إذا كان الإنذار فيه مقتضي المنجزية وهو الإخبار بالأحكام الإلزامية التي يعتقد المنذر كونها واقعيّة ، وإلا لزم التشكيك في كثير من الإنذارات وهو خلاف ما ورد عنهم من أنّه لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا.

إلا أنّ هذا لا يعني حجيّة خبر الواحد مطلقا ، بل حجيّة الخبر المستتبع والمتضمن للإنذار ، لأنّ عنوان الإنذار أخص من عنوان الإخبار فإنّ الإخبار يشمل ما إذا كان في الخبر إنذار أم لا ، والإنذار هو الخبر الذي فيه تخويف وتهديد بالعقاب على فعل أو ترك كانا منجزين على المكلّف في مرتبة سابقة.

وحينئذ تكون الآية ناظرة إلى حجيّة خصوص الخبر الذي فيه وعيد وتخويف وتهديد وتحذير من العقاب على فعل أو ترك كان المكلّف يعلم إجمالا بتنجزهما عليه.

وهذا يعني أنّ الحجيّة المجعولة شرعا ليس موضوعها عنوان الإنذار بالدقة ، وإنّما المنجّز القبلي الذي يستبطنه ويتضمنه هذا الإنذار ، وليس موضوعها مجرّد الإخبار لأنّه خلاف ظاهر الآية.

ثمّ إنّ هذا المنجز السابق الذي بوجوده يتحقّق الانذار والتخويف إما أن يكون هو العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية منجّزة ضمن دائرة الاخبار التي يحكي عنها الرواة ، حيث إنّ كل مكلّف يعلم إجمالا بتنجز كثير من هذه الأحكام ضمن الإخبارات والإنذارات فتكون الحجيّة لهذا العلم الإجمالي المنجز.

وإمّا أن يكون هو الشك قبل الفحص ، ولو لم يكن هناك علم إجمالي ، فإنّ البراءة سواء العقلية أم الشرعيّة لا تجري إلا في الشبهات بعد الفحص ، وأمّا قبل الفحص فيجب الاحتياط أو التوقف فيكون المنجز هو الاحتياط العقلي قبل الفحص.

وعلى كل حال لا يثبت بالآية حجيّة مطلق خبر الواحد ، وإنّما خصوص الخبر الذي يتضمن الإنذار والوعيد والتهديد المستتبع والمستلزم لوجود منجز قبلي في مرتبة سابقة على هذا الانذار.

هذا مضافا إلى أنّ تنجّز الأحكام الإلزاميّة بالإخبار غير القطعي لا يتوقّف على جعل الحجيّة للخبر شرعا بناء على مسلك حق الطاعة كما هو واضح.

الثاني : أنّنا لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب التحذر مطلقا عند الإنذار وسلّمنا أنّ الإنذار يراد به الإخبار هنا إلا أنّ هذا لا يلزم منه كون الخبر حجّة شرعا ، بناء على مسلك حق الطاعة ، وذلك لأنّه بناء على هذا المسلك فالقاعدة الأولية بحكم العقل هي الاحتياط والاشتغال لأنّ كل احتمال منجز عقلا. وعليه ، فهذا الخبر إنّما يكون

ص: 227

مستتبعا للمنجزية ولوجوب التحذّر لكونه يشكّل ولو احتمالا على وجود حكم إلزامي ، فالمنجزيّة والحجيّة لهذا الاحتمال لا للخبر بعنوانه الخاص.

والنتيجة : أنّنا لو سلّمنا كون التحذر واجبا مطلقا سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أم لا فلا نسلّم بكون ذلك لأجل حجيّة الخبر ، بل ذلك لأجل منجزية الاحتمال الناشئ من هذا الخبر لأنّ كل احتمال وانكشاف للتكليف منجز عقلا.

* * *

ص: 228

السنّة
اشارة

ص: 229

ص: 230

2 - السنّة

وأمّا السنّة فهناك طريقان لإثباتها :

أحدهما : الأخبار الدالة على الحجيّة ، ولكي يصحّ الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لا بدّ أن تكون قطعية الصدور.

وتذكر في هذا المجال طوائف عديدة من الروايات ، والظاهر أنّ كثيرا منها لا يدلّ على الحجيّة. وفيما يلي نستعرض بإيجاز جلّ هذه الطوائف ليتضح الحال.

القسم الثاني : هو الاستدلال بالسّنة الشريفة على حجيّة خبر الواحد.

والاستدلال بالسّنة يتوقّف على ثبوتها ، وهنا يوجد طريقان لإثبات هذه السنّة ، هما :

الطريق الأوّل : الأخبار الكثيرة الدالة على حجيّة خبر الواحد.

ولكن يشترط في صحّة الاستدلال بهذه الأخبار على حجيّة خبر الواحد كونها قطعيّة الصدور ، وإلا لزم الدور أو الخلف ، فيجب أن تكون متواترة ولو إجمالا ولا يصحّ أن تكون ظنيّة الصدور والسند ، وإلا كان مصادرة على المطلوب ، لأنّه من الاستدلال على الشيء بنفسه.

ثمّ إنّ هذه الأخبار على طوائف بعضها تام وله دلالة على الحجيّة ، وبعضها الآخر لا دلالة فيه ، ولذلك نستعرض أهم هذه الطوائف.

الطائفة الأولى : ما دلّ على التصديق الواقعي ببعض روايات الثقات ، من قبيل ما ورد عن العسكري علیه السلام عند ما عرض عليه كتاب ( يوم وليلة ) ليونس بن عبد الرحمن ، إذ قال : « هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كلّه ».

وهذا مردّه إلى الإخبار عن المطابقة للواقع وهو غير الحجّية التعبّدية التي تجعل عند الشك في المطابقة.

ص: 231

الطائفة الأولى : الأخبار التي استدل بها على حجيّة خبر الواحد ، الواردة بلسان التصديق الواقعي ببعض أخبار الثقات ، أي الشهادة من المعصوم على أنّ هذه الأخبار التي رواها بعض الثقات واقعيّة وصادرة عن المعصومين علیهم السلام ، ومن أمثلة هذه الطائفة :

ما ورد عن العسكري علیه السلام حينما عرض عليه كتاب ( يوم وليلة ) ليونس بن عبد الرحمن فأثنى عليه بقوله : « هذا ديني... وهو الحق » وهذا الإطراء منه والشهادة بصدقه معناه أنّ يونس ثقة وصادق في إخباراته وهذا معناه أنّ كل ثقة يكون صادقا ويجب العمل بخبره.

إلا أنّ الصحيح عدم تماميّة الاستدلال بهذا النحو من الروايات لأنّها :

أوّلا : لا تدلّ على أكثر من كون يونس بن عبد الرحمن ثقة ، وأنّه لا يقول إلا الحق والصادر عنهم ، فهي واقعة وقضيّة تكوينية خارجية مشخصة لا إطلاق فيها لعموم الثقات أو لكل خبر واحد.

وثانيا : أنّها إخبار عن كون ما في هذا الكتاب صادرا واقعا وأن الراوي ثقة وعدل ، وهذا يعني أنّنا نعمل بما ذكره يونس لا من باب كونه ثقة وعدلا قد جعلت له الحجيّة ، وإنّما من باب شهادة الإمام بأنّها واقعيّة وهذا معناه أنّها أصبحت يقينية فيعمل بها من باب العلم بصدورها لا من باب كونها حجة تعبّدا وما نريده هو إثبات حجيّتها التعبديّة سواء علم بصدورها أم لا. وهو خلاف صريح هذا اللسان.

الطائفة الثانية : ما تضمّن الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ، من قبيل قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه اللّه فقيها عالما يوم القيامة ».

وهذا لا يدلّ على الحجيّة أيضا ، إذ لا شكّ في أنّ تحمّل الحديث وحفظه من أهم المستحبات ، بل من الواجبات الكفائية لتوقف حفظ الشريعة عليه ، ولا يلزم من ذلك وجوب القبول تعبدا مع الشك. ومثل ذلك ما دلّ على الثناء على المحدّثين أو الأمر بحفظ الكتب والترغيب في الكتابة.

الطائفة الثانية : من الأخبار ما ورد بلسان الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ونقله للآخرين ، كالنبوي المشهور : « من حفظ على أمتي... بعثه اللّه عالما فقيها... ».

ص: 232

والاستدلال بهذا النحو من الأخبار على أساس الملازمة بين حفظ الحديث ونقله للناس وتحمله وبين قبول الناس لهذا الحديث وعدم رده ، إذ لو لم يجب القبول لما كان هناك معنى للحث المذكور ولكان لغوا ، فلكي تكون هناك فائدة لهذا الحث يلزم أن يكون إخبارهم ونقلهم لهذه الأخبار حجّة على المنقول إليهم ، وهذا يعني حجيّة خبر الواحد.

وفيه : أنّ هذا اللسان لا يفيد الحجيّة التعبديّة ؛ وذلك لأنّ مجرّد الحث على التحمّل والحفظ والنقل للحديث ولو كان واجبا كفائيا فضلا عمّا إذا كان مستحبا ومن أفضل الأعمال ، إلا أنّه لا يدلّ على الحجيّة التعبديّة لخبر الواحد ، إذ قد يكون المراد من الحث المذكور هو أن تكثر الحملة والحفّاظ وبالتالي يكثر الرواة للحديث فيحصل العلم لدى المنقول إليه.

ولا معنى للقول بأنّ حثّهم على ذلك يتلازم مع وجوب قبول أخبارهم مطلقا حتّى إذا لم يستفد السامع منها العلم ، بل قد تكون حجّة في حالة إفادتها للعلم فقط ، ويكون الحث عليها من أجل الحفاظ على الملاكات الواقعيّة عند الشك والحيرة كما تقدّم توضيحه مفصّلا في حقيقة الحكم الظاهري.

ونظير هذه الطائفة ما ورد عنهم بلسان الثناء والمدح للرواة والمحدثين كقوله : « اللّهمّ ارحم خلفائي... الذين يبلّغون حديثي وسنّتي... » ، وما ورد من الأمر بحفظ الكتب والترغيب في الكتابة كقوله : « احفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها ».

فإنّ الاستدلال بهذه الأخبار مستند إلى الملازمة بين ذلك وبين قبول إخباراتهم وكتبهم ووجوب العمل على طبقها ، سواء أفادت العلم أم لا ، إلا أنّنا ذكرنا أنّ هذه الملازمة غير تامّة.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على الأمر بنقل بعض النكات والمضامين ، من قبيل قول أبي عبد اللّه علیه السلام : « يا أبان ، إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث ».

والصحيح أنّ الأمر بالنقل يكفي في وجاهته احتمال تماميّة الحجّة بذلك بحصول الوثوق لدى السامعين ، ولا يتوقّف على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الثالثة : من الأخبار ما ورد بلسان الأمر بنقل الحديث وبعض المضامين والنكات ، من قبيل ما ورد من أمر الإمام الصادق علیه السلام لأبان بن تغلب بأنّه

ص: 233

إذا قدم الكوفة فليرو هذا الحديث وهو : « من قال لا إله إلا اللّه مخلصا وجبت له الجنّة ».

فإنّ الأمر بنقله لهذا الحديث سواء باللفظ أو بالمعنى أو بكليهما معناه أنّه يجب على الناس المستمعين والمنقول إليهم هذا الحديث أن يقبلوه ويعملوا به ويصدّقوه في إخباره ونقله ؛ إذ لو كان القبول غير واجب عليهم لكان أمره بالنقل لغوا ، فلكي يكون كلام الإمام وأمره وجيها لزم القول بحجيّة قول أبان مطلقا ، أي سواء أفاد العلم أم لا ، وهذا هو معنى الحجيّة التعبديّة.

وفيه : أنّه يكفي لدفع محذور اللغوية وتوجيه كلام الإمام أن يكون إخبار أبان يوجب العلم أو الاطمئنان أو الوثوق بصدقه وأنّ ما ينقله صادر عنهم أو كان يساهم في حصول العلم ، فلا يكون التصديق والعمل والاتباع واجبا على المستمعين مطلقا ، وإنّما إذا أفادهم العلم ونحوه فقط ، ويكون أمره بالنقل مطلقا من أجل الحفاظ على هذا الأمر الواقعي.

فلا دلالة في هذا اللسان على الحجيّة التعبديّة إلا على القول بالملازمة التي لا نسلّم بها.

الطائفة الرابعة : ما دلّ على أن انتفاع السامع بالرواية

قد يكون أكثر من انتفاع الراوي ، من قبيل قولهم : « فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

ونلاحظ أنّ هذه الطائفة ليست في مقام بيان أنّ النقل يثبت المنقول للسامع تعبدا ، وإلا لكان الناقل دائما من هذه الناحية أفضل حالا من السامع ؛ لأنّ الثبوت لديه وجداني ، بل هي بعد افتراض ثبوت المنقول تريد أن توضح أنّ المهم ليس حفظ الألفاظ بل إدراك المعاني واستيعابها ، وفي ذلك قد يتفوّق السامع على الناقل.

الطائفة الرابعة : من الأخبار ما ورد بلسان أنّ السامع للحديث قد يكون انتفاعه به أكثر من الراوي الناقل له ، من قبيل النبوي المشهور : « ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

والاستدلال بها على أساس أنّ الراوي والناقل إذا لم يكن خبره حجّة على السامع المنقول إليه مطلقا فكيف يصير أفقه منه.

ص: 234

وبتعبير آخر : أنّ خبر الناقل إذا لم يكن حجّة على الآخرين وإنّما حجّة على نفسه فقط فهو يكون أفقه من المنقول إليه قطعا ، لأنّ المنقول إليه لن ينتفع من خبره إلا في حالات قليلة جدا ، وذلك إذا حصل له العلم من نقله فقط ، فكيف يكون أفقه منه؟! فهذا التعبير يساوق الحجيّة التعبديّة للخبر.

وفيه : أنّ هذا اللسان من الروايات ليس مفاده التعرض لإثبات الحجيّة للخبر أصلا ، أو أنّه متى يمكننا إثبات صدور الخبر عن المعصومين؟ وإلا لكان الراوي والناقل للخبر أفضل حالا دائما من السامع والمنقول إليه ، وذلك لأنّ الفقه الذي يحمله الناقل ثابت لديه وجدانا ، لأنّه سمعه من المعصوم بينما المنقول إليه هذا الفقه على القول بالحجيّة يكون ثابتا لديه تعبدا والحال أنّ الثبوت الوجداني أفضل دائما من الثبوت التعبّدي ، فيلزم أن يكون الناقل أفضل حالا من المنقول إليه دائما ، فكيف يقول الحديث : إنّ المنقول إليه قد يكون أفقه من الناقل؟!

والصحيح أنّ الحديث بصدد بيان مطلب آخر وهو أنّه بعد فرض ثبوت الصدور وأنّ هذا الفقه المنقول ثابت واقعا ، فحينئذ قد يكون المنقول إليه أفقه من الناقل في فهمه وإدراك معانيه وتوضيح مطالبه ومضامينه وأقدر على استيعابه منه ، لأنّ أفهام الناس تختلف بهذه الأمور كما هو واضح.

الطائفة الخامسة : ما دلّ على ذمّ الكذب عليهم والتحذير من الكذّابين عليهم ، فإنّه لو لم يكن خبر الواحد مقبولا لما كان هناك أثر للكذب ليستحق التحذير.

والصحيح أنّ الكذب كثيرا ما يوجب اقتناع السامع خطأ ، وإذا افترض في مجال العقائد وأصول الدين كفى في خطره مجرّد إيجاد الاحتمال والظن ، فاهتمام الأئمّة بالتحذير من الكاذب لا يتوقّف على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الخامسة من الأخبار : ما ورد بلسان ذمّ الكذب والكذّابين والوضّاعين الذين يختلقون الأحاديث من عندهم ، من قبيل قوله علیه السلام : « من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار ».

وتقريب الاستدلال بها : أنّ خبر الواحد إذا لم يكن حجّة للسامع ويوجب تصديقه والعمل به لما كان هناك وجه للتحذير من الكذب فيه وذمّه ، وهذا معناه أنّ

ص: 235

خبر الواحد حجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وهو معنى الحجيّة التعبديّة ، وجاء التحذير لئلا يقع الناس في الخطأ ومخالفة الواقع.

وفيه : أنّه لا دلالة أصلا في هذه الطائفة على المقصود ؛ لأنّها بصدد بيان أنّ الكذب في نفسه محرم وأنّ الاختلاق والوضع يوجب الخلود في النار ، وليست بصدد التعرض لكون قوله حجّة مطلقا أم لا.

مضافا إلى أنّ خبر الكاذب قد يوجب اقتناع السامع وتصديقه ووثوقه ، أو اطمئنانه بصدور هذا الخبر فيعمل به فيقع في مخالفة الواقع والمفسدة ، أو يكون خبر الكاذب في مجال العقائد وأصول الدين وهذا يؤدّي إلى تشويش اعتقاد السامع فيما لو احتمل أو ظنّ صدقه وهذا خطر كبير من الكذب فجاء التحذير منه.

والحاصل أنّه لا ملازمة بين تحذير الأئمّة علیهم السلام من الكذب عليهم وبين كون الخبر حجّة مطلقا تعبدا ، بل قد يكون التحذير من الكذب لأجل أنّه يشكّل خطرا على معتقدات السامع فيما لو احتمل أو ظن أو وثق به.

الطائفة السادسة : ما ورد في الإرجاع إلى آحاد من أصحاب الأئمّة بدون إعطاء ضابطة كلية للإرجاع ، من قبيل إرجاع الإمام إلى زرارة بقوله : « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » أو قول الإمام الهادي علیه السلام : « فاسأل عنه عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني ، وأقرأه مني السلام ».

وروايات الإرجاع التي هي من هذا القبيل لمّا كانت غير متضمّنة للضابطة الكليّة فلا يمكن إثبات حجيّة خبر الثقة بها مطلقا حتّى في حالة احتمال تعمّد الكذب ؛ إذ من الممكن أن يكون إرجاع الإمام بنفسه معبّرا عن ثقته ويقينه بعدم تعمّد الكذب ما دام إرجاعا شخصيا غير معلّل.

الطائفة السادسة من الأخبار : ما ورد بلسان الإرجاع إلى بعض الرواة أو الثقات أو الأصحاب ، من قبيل الإرجاع إلى زرارة أو إلى عبد العظيم الحسني. فإنّ هذا الإرجاع معناه أنّ ما يحدّث به هؤلاء حجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وهو معنى الحجيّة التعبديّة.

وفيه : أنّ هذا الإرجاع لمّا لم يكن معلّلا ببيان الضابطة الكليّة العامّة التي من خلالها أرجع الإمام إلى هؤلاء فلا يمكن الاستدلال بها على الحجيّة التعبديّة.

ص: 236

نعم ، لو كان هذا الإرجاع معلّلا ببيان الملاك والضابط الذي على أساسه كان هذا الإرجاع بأن قال : لأنهم ثقات أو عدول أو نحو ذلك لكانت لها دلالة على الحجيّة المطلوبة ، إلا أنّها ليست كذلك.

وحينئذ فكما يحتمل أن يكون الإرجاع لمجرّد كونهم ثقات فكذلك يحتمل أن يكون الإرجاع من أجل كونهم لا يكذبون أصلا ولا يحدّثون إلا بما هو صادر من المعصوم ، أو لأنّ إخبارهم كان يفيد العلم للسامع في أكثر الأحيان نتيجة علم الإمام بوثاقتهم وتدينهم ويقينه بصدقهم دائما ، وأنّ هذا الصدق يلازم حصول اليقين للسامع ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بها على الحجيّة التعبديّة حتّى إذا لم يفد قولهم العلم للسامع ، بل يمكن أن يكون مختصّا بما إذا استفاد السامع العلم منهم ، ولهذا أرجع الإمام إليهم.

الطائفة السابعة : ما دل على ذم من يطرح ما يسمعه من حديث

بمجرّد عدم قبول طبعه له ، من قبيل قوله علیه السلام : « وأسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي يسمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأزّ منه وجحده وكفّر من دان به ، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ». إذ يقال : لو لا حجيّة الخبر لما استحق الطارح لهذا الذم.

والجواب : إنّه استحقه على الاعتماد على الذوق والرأي في طرح الرواية بدون تتبع وإعمال للموازين وعلى التسرّع بالنفي والإنكار مع أنّ مجرّد عدم الحجيّة لا يسوّغ الإنكار والتكفير.

الطائفة السابعة من الأخبار : ما ورد بلسان الذمّ والتقريع على من يسمع الحديث فيطرحه لمجرّد أنّه لم يوافق ذوقه ورأيه ولم يستحسنه ؛ إذ لعلّه يكون صادرا من عندهم فيكون بذلك قد طرح ما هو صحيح وثابت ، وبالتالي يكون قد استخفّ بما يروى عنهم لمجرّد إعمال رأيه وذوقه.

وهذا اللسان يدلّ على الحجيّة التعبديّة للخبر بتقريب أنّ الخبر إذا لم يكن حجّة شرعا لما كان يستحق هذا الشخص مثل هذا الذم والتقريع ، لأنّه مع عدم حجيّته يجب طرحه عرض الحائط ، كما ورد في بعض الأخبار فاستحقاقه للذمّ لمجرّد طرحه يلازم كون الخبر حجّة في نفسه ولذلك لمّا طرحه استحق هذا الذم واللوم

ص: 237

والتقريع لأنّه طرح ما هو حجّة شرعا وما يجب العمل والالتزام به وتصديقه.

وفيه : أنّ هذه الطائفة من الروايات أجنبية عن مقامنا لأنّها بصدد بيان أنّ من يطرح الأخبار لمجرّد إعمال الرأي والاستحسان ، ولمجرّد عدم موافقتها لذوقه وطبعه يكون بذلك قد عمل بهواه ورأيه وترك السنّة والجادة القويمة فيكون من قبيل الاجتهاد مقابل النّص ؛ إذ بطرحه للأخبار لمجرّد عدم استحسانه لها يكون قد طرح ما هو ثابت واقعا وصادر عنهم وبالتالي يكون قد استخفّ بهم فيخرج من ولايتهم كما ورد في ذيل ذلك الخبر.

وهذا أمر آخر غير الحجيّة التعبديّة للخبر ، إذ حتّى لو كانت الحجيّة غير ثابتة للخبر شرعا فلا ينبغي لمن ينقل إليه الخبر أن يطرحه ابتداء وتشفيا لمجرّد عدم موافقته لطبعه ، بل يجب عليه التريّث والفحص والتثبت فإنّ حصل ما يوجب كذبه طرحه وإن حصل ما يطمأن معه بصدوره أخذ به ، وإن بقي شاكا ومتحيرا يقف ولا يحكم بصدقه ولا كذبه ، ويرجئه حتّى يعلم فيما بعد ، فطرحه للخبر بالنحو المذكور يستحق الذم واللوم لأنّه قد خالف ما يجب فعله عليه.

مضافا إلى أنّ تكفير من دان بالعمل بهذا الخبر مستهجن وغريب ؛ إذ قد يكون الذي عمل به قد حصل له العلم بذلك فكيف يدان ويكفّر لمجرّد أن هذا السامع لم يوافق طبعه وذوقه ، فإنّ هذا الأمر لا ينبغي صدوره من الإنسان الملتزم والذي يطبّق أعماله وأحكامه طبق الموازين الشرعيّة ، فإنّ التكفير لا يجوز بحال خصوصا في مثل هذه الموارد ؛ لأنّه على الأقلّ يحتمل أن يكون الآخر معذورا في أخذه بالخبر والالتزام به حتّى وإن قطع السامع بأنّه غير صادر منهم فإنّ ذلك حجّة عليه فقط دون غيره من الناس.

الطائفة الثامنة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، فلو لا أنّ خبر الواحد حجّة لما كان هناك معنى لفرض التعارض بين الخبرين وإعمال المرجحات بينهما.

ونلاحظ أنّ دليل الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدورا إذا تعارضا ، فلا يتوقّف تعقّله على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الثامنة : من الأخبار ما ورد في مقام علاج التعارض بين الخبرين بتقديم

ص: 238

الموافق للكتاب على المخالف له وبتقديم المخالف للعامة على الموافق لهم ، كما في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة حيث ورد فيهما : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنة وخالف العامّة فيؤخذ به ».

وتقريب الاستدلال بها أن يقال : إنّ الخبر الذي لا يكون حجّة في نفسه لا معنى لمعالجة معارضته فإذا لم يكن خبر الواحد حجّة فلا معنى لعلاج تعارضه مع غيره ، لأنّه إذا كان لا يعمل به لو جاء وحده فكذلك لو كان له معارض.

وعليه ، فروايات العلاج تدلّ بالالتزام على أنّ الخبر في نفسه حجّة ويجب العمل به ولأجل ذلك فإذا كان هناك خبر آخر معارضا للخبر السابق فإنّ المكلّف سوف يقع في الحيرة في مقام الأخذ والعمل لأنهما متعارضان ، فجاءت هذه الروايات لحل التعارض كما هو منطوقها ومدلولها المطابقي ، ولتدل بالالتزام على أنهما حجّة في أنفسهما لو لا المعارضة.

وفيه : أنّ روايات الترجيح المذكورة تتناسب أيضا مع علاج الخبرين الذين ثبت قطعا صدورهما من الشارع دون غيرهما ، وهذا معناه أنّه إذا قطع بخبر فيجب العمل به فإذا كان له خبر آخر معارض له قطعي الصدور أيضا فحيث إنّه يجب العمل بمثل هذين الخبرين جاءت الروايات لتعالج هذا التعارض ، ولا دلالة فيها على أنّ كل خبرين يقع بينهما التعارض يعالجان بهذا النحو ؛ إذ من الواضح أنّه لو كان أحدهما حجّة دون الآخر فإنّه يطرح الآخر ويعمل بما هو حجّة.

وليست هذه الروايات بصدد بيان أصل الحجيّة وإنّما هي تبيّن علاج المعارضة بين الخبرين الذين ثبتت حجيتهما ، وأمّا كيف كانا حجّة فهذا لا تتعرض له هذه الأخبار ، وعليه فيحتمل كونهما حجّة لأجل القطع بصدورهما فكيف يمكن الاستدلال بها على حجيّة كل خبر مع وجود هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّ علاج التعارض لا يتوقّف على فرض حجيّة الخبر مطلقا ، سواء علم به أم لا ، وسواء قطع بصدوره أم لا بل يمكن فرضها على تقدير القطع بصدور الخبرين.

الطائفة التاسعة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بالأوثقية ونحوها من الصفات الدخيلة في زيادة قيمة الخبر وقوّة الظن بصدوره. وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الطائفة السابقة.

ص: 239

ولا يمكن هنا حمل هذا الدليل على الحديثين القطعيين ، لأنّ الأوثقية لا أثر لها فيهما ما دام كل منهما مقطوع الصدور.

الطائفة التاسعة من الأخبار : ما ورد في علاج الخبرين المتعارضين بترجيح الخبر الذي يحتوي على بعض الصفات التي ترجّح صدوره وتوجب قوّة الظن بأنّه صادر عن المعصومين علیهم السلام ، كما ورد في المقبولة والمرفوعة أيضا من قوله : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » وقوله : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما... ».

فإنّ الأوثقية والأعدلية والأصدقية والأورعية من الصفات التي ترجع إلى نفس الراوي وهذا يعني أنّ الإمام والسائل قد افترضا وجود خبرين لا يقين بصدورهما ولا قطع بسندهما ومع ذلك عالج الإمام التعارض بينهما بترجيح الواجد لبعض هذه الصفات ، وهذا يعني أنّ الخبر حجّة مطلقا سواء علم به أم لا ، وسواء كان قطعي الصدور والسند أم لا ، وهذا هو معنى الحجيّة التعبديّة ، وإلا لما كان هناك معنى لهذا الترجيح ؛ إذ فرض عدم حجيّة الخبر الظني لا يتناسب مع علاج المعارضة ، لأنّه إذا لم يكن حجّة في نفسه فهو ليس حجّة حتّى مع وجود المعارض له بطريق أولى وأوضح.

ويلاحظ هنا : أنّ هذا النحو من الأخبار لا يمكن حمله على الخبرين القطعيين من جهة السند والصدور ؛ لأنّ الأوثقية ونحوهما معناها أنّ السند فيها ظني إذ لو كان السند قطعيّا لما كان هناك أثر وفائدة من الأوثقية ونحوها في الترجيح بل كان اللازم الترجيح بالصفات التي ترجع إلى المضمون لا السند كما هو واضح.

فالاستدلال بهذه الأخبار تام فيما إذا كانت هذه الصفات راجعة إلى الراويين ، وأمّا إذا كانت راجعة للحاكمين كما هو موردها فلا يمكن الاستدلال بها على المطلوب ، لأنّها تكون مختصّة في مقام رفع المخاصمة والقضاء بين الناس كما هو الظاهر.

الطائفة العاشرة : ما دلّ بشكل وآخر على الإرجاع إلى كلّي الثقة ، إما ابتداء وإما تعليلا للإرجاع إلى أشخاص معيّنين على نحو يفهم منه الضابط الكلّي. وهذه الطائفة هي أحسن ما في الباب.

الطائفة العاشرة من الأخبار : ما دلّ على إرجاع الناس إلى كلّي الثقة بهذا

ص: 240

العنوان ، بحيث كان لهذا الإرجاع ضابطة كلية عامّة وهي أنّ خبر الثقة حجّة أو الثقة يجوز التعويل والاعتماد على إخباره ، وهذا الإرجاع جاء في بعض الأخبار ابتداء من الإمام بأن كان ردّا وجوابا على سؤال من استعلم عمّن يرجع إليه ، أو كان تعليلا للأمر بالرجوع إلى بعض الأشخاص والأخذ عنهم بحيث يفهم من ذلك أنّ الإرجاع لم يكن له عنوان خاص وإنّما كان لأجل كونهم ثقات.

وهذه الطائفة أحسن ما يمكن أن يستدلّ به على حجيّة خبر الواحد مطلقا ، لأنّ لسانها ومنطوقها يدلّ على ذلك صريحا.

ثمّ إنّ أخبار هذه الطائفة تقسم إلى قسمين : فبعضها يمكن المناقشة فيها دلالة ، وبعضها الآخر تام الدلالة ، يبقى إثبات صدورها فقط ، ولذلك قال :

وفي روايات هذه الطائفة ما لا يخلو من مناقشة أيضا ، من قبيل قوله : « فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأننا نفاوضهم بسرّنا ونحمله إياهم إليهم ».

فإنّ عنوان ( ثقاتنا ) أخصّ من عنوان ( الثقات ) ، ولعلّه يتناول خصوص الأشخاص المعتمدين شخصيا للإمام والمؤتمنين من قبله ، فلا يدلّ على الحجيّة في نطاق أوسع من ذلك.

القسم الأوّل من أخبار الطائفة العاشرة ، ما ورد منهم بلسان الإرجاع إلى بعض الأشخاص تحت عنوان ( ثقاتنا ) ، فإنّ هذا اللسان يمكن المناقشة فيه ، بمنع دلالته على حجيّة مطلق خبر الثقة بالنحو المبحوث عنه أصوليّا ؛ وذلك لأنّ عنوان الثقات المضاف إليهم أخصّ من عنوان الثقات مطلقا. وعليه ، فربما يكون الإرجاع إلى هؤلاء الثقات من باب إحراز الإمام لوثاقته ويقينه بأنّه لا يقول إلا الصدق فقط ، وإنّ قوله يوجب العلم لدى السامع ، ولذلك لا ينبغي التشكيك فيما يرويه هذا الثقة والمعتمد.

فغاية ما تدلّ هذه الأخبار على أنّ هؤلاء الثقات الذين وثّقهم الإمام والذين يفاوضهم الإمام بسرّه يجب قبول ما يحدّثون به حتّى وإن لم يفد العلم للسامع ، لأنّ أمثالهم لا يحدّثون إلا بما هو صادر عن الأئمّة وبما هو ثابت واقعا ، ولا دلالة لها على أنّ مطلق الثقة يجب قبول خبره.

مضافا إلى أنّ الرواية تضمّنت ما يحتمل معه كون هؤلاء الثقات يحدّثون بأخبار

ص: 241

عن أحوال الأئمّة الخاصّة التي لا يطّلع عليها إلا الخواص من الأصحاب ولذلك لا ينبغي رفضها لمجرّد غرابتها أو عدم العلم بها.

وفي روايات هذه الطائفة ما لا مناقشة في دلالتها ، من قبيل ما رواه محمد بن عيسى ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا علیه السلام : جعلت فداك إني لا أكاد أصل إليك لأسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : « نعم ».

ولمّا كان المرتكز في ذهن الراوي أنّ مناط التحويل هو الوثاقة وأقرّه الإمام على ذلك دلّ الحديث على حجيّة خبر الثقة.

القسم الثاني من أخبار الطائفة العاشرة : ما ورد بلسان الإرجاع إلى الثقات بعنوان عام وكلّي بحيث يفهم منها أنّ مناط الإرجاع إليهم كان لمجرّد وثاقتهم التي يشخصها ويحرزها الراوي لا الإمام ، بحيث يفهم من الرواية المذكورة أنّ الراوي قد ارتكز في ذهنه أنّ كل ثقة يجب العمل بخبره ، ولذلك سأله عن تشخيص الصغرى فقط وهي : أنّ يونس هل هو ثقة لكي آخذ عنه معالم الدين أو ليس كذلك؟ فأجابه الإمام أنّه ثقة وسكت عن الكبرى ، فسكوته عن هذه الكبرى إقرار وإمضاء بأنّ كل ثقة يجوز بل يجب التعويل على إخباره وقوله ، وهذه الكبرى معناها حجيّة خبر الثقة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، لترك الإمام والسائل الاستفصال عن ذلك.

فدلالة هذه الأخبار تامّة ، يبقى إثبات صدورها وسندها ، فنقول :

غير أنّ عدد الروايات التامّة دلالة على هذا المنوال لا يبلغ مستوى التواتر لأنّه عدد محدود. نعم ، قد تبذل عنايات في تجميع ملاحظات توجب الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الروايات لمزايا في رجال سندها ونحو ذلك.

وأمّا سند هذه الروايات فهو ليس قطعيّا لأنّها أخبار آحاد فهي ظنيّة السند ولذلك لا يمكن الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لأنّها هي نفسها أخبار آحاد فيكون الاستدلال بها مصادرة على المطلوب ، حيث ان الاستدلال عين المدعى ، فيلزم منه الدور الباطل ، وليست هذه الأخبار بالغة مستوى التواتر ليقال بصحّة سند بعضها على أساس التواتر لأنّها من حيث العدد والكم لا يمكن أن يحصل منها على أساس

ص: 242

المضعّف الكمّي المتقدّم في حساب الاحتمالات اليقين لأنّ مجموع هذه الروايات لا يتجاوز الخمسة عشر رواية فقط.

نعم ، قد يقال بأنّه توجد بعض الخصوصيات والمزايا والملاحظات والقرائن توجب حصول الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الأخبار لوجود مزايا في رجال سندها ، كما هو الحال في رواية الحميري المروية في الكافي ج 1 ص 330 ، فإنّه بضمّ هذه الخصوصيات والمزايا والتي هي المضعّف الكيفي إلى المضعّف الكمّي المتقدّم يمكن أن يحصل الاطمئنان الشخصي بصدور هذه الرواية وأنّها قطعية فتتمّ بذلك الدلالة على حجيّة خبر الواحد دلالة وسندا (1).

والطريق الآخر لإثبات السنّة هو السيرة ، وذلك بتقريبين :

الأوّل : الاستدلال بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمّة على العمل بأخبار الثقات ، وقد تقدّم كيفيّة استكشاف الدليل الشرعي عن طريق السيرة ، سواء كانت سيرة أولئك المتشرّعة على ما ذكرناه بوصفهم الشرعي أو بما هم عقلاء.

الطريق الثاني : أن يستدلّ على حجيّة خبر الواحد بالسيرة التي يستكشف بها السنّة ، وهذه السيرة يتمّ استكشاف السنّة بها على أحد أساسين لأنّها على قسمين ، سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء.

التقريب الأوّل : أن يستدلّ بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمّة حيث إنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بأخبار الثقات الذين كانوا ينقلون الأخبار عن الأئمّة المتقدمين ، فعملهم هذا دليل على أنّ العمل بخبر الثقة جائز شرعا وحجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ؛ لأنّ أصحاب الأئمّة ليس كلّهم على تلك الدرجة الرفيعة من الوثاقة والعدالة والورع ، بل كانوا يختلفون بذلك ، فليس كلّهم كان خبره يفيد العلم ليقال

ص: 243


1- ويمكن بيان هذه المزية بأن كتاب ( الكافي ) الذي وردت فيه رواية الحميري مقطوع كونه للكليني الذي هو ثقة الإسلام والراوي الجليل الذي لا يتعمد الكذب ، والراوي لهذه الرواية هو الحميري الذي اتفق الأصحاب على وثاقته ومكانته وأنّه شيخ الأصحاب في قم الذين يدققون جدا في سند الأخبار والضعفاء كما هو المعروف تاريخيا عنها. وبهذا يثبت أنّ هذه الرواية صادرة عن المعصومين : ودلالتها واضحة كما تقدّم فيثبت ويتمّ الاستدلال بها على المطلوب.

باختصاص العمل وقبول أخبارهم فيما إذا أفاد العلم فقط ، بل كان فيهم الثقة الجليل وكان فيهم دون ذلك بدرجات.

يبقى إثبات أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمة بالفعل على العمل بأخبار الثقات ، وهذا يمكن إثباته بإحدى الطرق التي تقدمت في إثبات السيرة في الحلقة الثانية ، والتي أهمّها أنّه لو لم يكن العمل بخبر الثقة ثابتا بين المتشرّعة مع احتياجهم لطريق معرفة أحكامهم لكان المفروض وجود طريق آخر هو المعتمد في ذلك ، وحيث إنّ المسألة محل ابتلاء فلا بدّ أن يستعلم عنها وبالتالي يكثر السؤال والجواب ، وكما هو المعتاد لا بدّ أن يصلنا شيء عن هذا الطريق الآخر البديل مع توفر الدواعي لنقله حيث إنّ الرواة رووا ما لا حاجة للناس به وما ليس موردا للابتلاء نوعا ، وحيث إنّه لا وجود لهذا الطريق الآخر البديل لزم كون العمل بخبر الثقات كان هو المتبع والمعتمد عند الأئمّة خصوصا مع وجود الروايات المتقدّمة التي بعضها يدلّ على العمل به صريحا أو التزاما ، وهذا المقدار يكفي للقول بأنّ عمل أصحاب الأئمّة بخبر الواحد كان مستفادا من المعصومين أنفسهم علیهم السلام ، وهذا بدوره يكشف عن طريق الإن على وجود السنّة الشريفة ؛ لأنّ عمل الأصحاب معلول دائما للدليل الشرعي ، وذلك بوصفهم متدينين ومتشرعين لا يعملون إلا وفق الموازين الشرعيّة ، فيكون عملهم هذا بنفسه كاشفا عن السنّة كشف المعلول عن علته ، ولا يحتاج إلى إثبات رضا الإمام بذلك عن طريق السكوت وعدم الردع.

نعم ، يحتاج إلى ذلك فيما إذا كان المتشرّعة يعملون بخبر الثقة على أساس طبيعتهم وسليقتهم العرفية العقلائيّة لا بوصفهم متشرّعة ، فهنا نحتاج إلى ضمّ سكوت الإمام وعدم ردعه عن عملهم وبنائهم ليكون كاشفا عن الإمضاء والقبول ، وهذا الأمر يمكن إثباته أيضا بأحد الطرق المتقدّمة ؛ لأنّ عملهم هذا إذا لم يكن مورد القبول من الأئمّة لكان من اللازم الردع عنهم ونهيهم عن ذلك ، لأنّ بناءهم هذا يؤثّر على الأحكام الشرعيّة ، إما بنحو مباشر أو غير مباشر ، وبالتالي لا بدّ من وجود ما يدلّ على هذا النهي ، كما هو الحال بالنسبة للقياس وغيره ، وحيث إنّه لم يصلنا شيء يدلّ على النهي عن العمل بخبر الواحد بل الواصل عكس ذلك ثبت أنّ خبر الواحد والعمل به صحيح وجائز شرعا ، وهو المطلوب.

ص: 244

الثاني : الاستدلال بسيرة العقلاء على التعويل على أخبار الثقات ، وذلك أنّ شأن العقلاء - سواء في مجال أغراضهم الشخصيّة التكوينيّة أم في مجال الأغراض التشريعيّة وعلاقات الآمرين بالمأمورين - العمل بخبر الثقة والاعتماد عليه ، وهذا الشأن العام للعقلاء يوجب قريحة وعادة لو ترك العقلاء على سجيتهم لأعملوها في علاقاتهم مع الشارع ولعوّلوا على أخبار الثقات في تعيين أحكامه ، وفي حالة من هذا القبيل لو أنّ الشارع كان لا يقرّ حجيّة خبر الثقة لتعيّن عليه الردع عنها حفاظا على غرضه ، فعدم الردع حينئذ معناه التقرير ومؤداه الإمضاء.

التقريب الثاني : أن يستدلّ على استكشاف السنّة من خلال السيرة العقلائيّة ، وهذه السنّة مؤداها العمل بخبر الواحد وحجيّته.

وتقريب الاستدلال بالسيرة العقلائيّة أن يقال : إنّ العقلاء يعملون بخبر الواحد في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة بحيث إنّ كل عاقل يعتمد على خبر الواحد الثقة في تحصيل غرضه الشخصي التكويني كالرجوع إلى اللغوي مثلا لتحصيل الغرض الشخصي والاطلاع على معنى الكلمة ، أو الرجوع إلى الأطباء وغيرهم من ذوي الخبرات في الأمور التي يختصون بها وقبول إخباراتهم فيها لمجرّد الوثوق بهم ، هذا في الأغراض التكوينيّة.

ويمكن أيضا أن تكون السيرة العقلائيّة قائمة أيضا على الاعتماد على العمل بخبر الثقة في مجال أغراضهم التشريعيّة وذلك نظرا إلى علاقة الآمرين بالمأمورين ، والرؤساء بالمرءوسين ، حيث إنّهم يحتجّون بخبر الثقة إذا أخبر بأحكام المولى والرئيس ، فيما لو ادّعى المأمور بأنّ خبر الثقة ليس حجّة فلا يكون منجزا أو معذّرا ، فيرون أنّه يستحق المؤاخذة والعقوبة لتركه العمل بخبر الثقة لمجرّد ادعاء عدم الحجيّة له ، وهكذا أيضا يكون معذّرا للعبد فيما لو أمره بعدم التكليف فلم يمتثل فإنّه يصحّ أن يحتج به على مولاه.

وعلى كل حال سواء كانت السيرة العقلائيّة وبناء العقلاء قائمة على العمل بخبر الثقة في أغراضهم التشريعيّة أم على الأقلّ كانت قائمة على العمل به في الأغراض التكوينة ، فهي في كلا الحالين تشكّل إيحاء لدى العقلاء - ولو كان هذا الإيحاء خاطئا - بأنّ الشارع يرضى بالعمل بخبر الواحد الثقة بلحاظ أغراضه التشريعيّة بينه

ص: 245

وبين عبيده ومواليه أيضا ، وأنّ العمل بخبر الثقة جائز شرعا وحجّة كذلك ، على أساس تأثرهم بالعمل به في أغراضهم والتعويل عليه في تحصيل وتنظيم العلاقات التشريعيّة عندهم ، فإنّ هذا الإيحاء بحكم كونه سيرة عامّة فإنّه يكون مستحكما ، وحينئذ يكون الشارع أمام أحد أمرين ، فإنّه إذا كان راضيا بذلك وأنّ العمل بخبر الواحد حجّة أيضا في تحصيل أغراضه التشريعيّة فيكفيه السكوت ، لأنّ بناء العقلاء وعادتهم وسجيتهم هذه كافية لتحقيق ذلك.

وأمّا إن لم يكن راضيا بالعمل به ولم يكن يعتبره حجّة لكان من اللازم عليه أن ينهاهم عن العمل به ، وأن يرشدهم إلى الطريق الصحيح لتحصيل أغراضه التشريعيّة ، وبالتالي لا بدّ أن تتوفر دواعي الردع والنهي عن العمل بخبر الواحد ، وسوف تكون هناك نواه عديدة وكثيرة جدا بحكم استحكام العمل بخبر الواحد عند العقلاء ، ولا بدّ في هذه الحالة من أن تكثر الأسئلة والأجوبة أيضا ، وحيث إنّه لا يوجد شيء يدلّ على الردع عن العمل بخبر الواحد ولا يوجد هكذا استفسارات دل ذلك على أن العمل بخبر الواحد حجّة شرعا ومقبول عند الشارع ، وأنّ السيرة العقلائيّة موافقة لرأي الشارع فيكون السكوت وعدم الردع عنها إمضاء لها ، وأنّها شرعية ، وبالتالي تكون هذه السيرة كاشفة عن وجود السنّة على حجيّة خبر الواحد.

والفارق بين التقريبين :

أنّ التقريب الأوّل يتكفل مئونة إثبات جري أصحاب الأئمّة على العمل بخبر الثقة ، بينما التقريب الثاني لا يدعي ذلك بل يكتفي بإثبات الميل العقلائي العام أي العمل بخبر الثقة ، الأمر الذي يفرض على الشارع الردع عنه - على فرض عدم الحجيّة - لئلا يتسرّب هذا الميل إلى مجال الشرعيات.

والفارق بين سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء هو أنّ سيرة المتشرّعة لا تحتاج إلى إثبات السكوت وعدم الردع الدال على الإمضاء والحجيّة ؛ وذلك لأنّ عمل الأصحاب والمتشرّعة بخبر الثقة بنفسه يدلّ على وجود دليل شرعي يجوّز العمل والتعويل على خبر الثقة ، لأنّ المتشرّعة بحكم كونهم متدينين لا يعملون إلا إذا كان هناك دليل شرعي لأنّ عملهم معلول للدليل الشرعي ، فيكون جريهم وعملهم بنفسه كاشفا عن

ص: 246

الدليل الشرعي ، ولا يحتاج إلى توسط عدم الردع ، ولذلك يكون عمل المتشرّعة متحدّدا بالمقدار الذي انعقد عليه عملهم ، لأنّ سيرتهم تعني انعقاد العمل فعلا في الخارج ، فالثابت بهذه السيرة هو الموضوع الجزئي فقط.

وأمّا سيرة العقلاء فتحتاج إلى إثبات عدم الردع والسكوت الكاشف عن الإمضاء وذلك لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة وتعويلهم عليه في مجال أغراضهم التكوينيّة أو حتّى التشريعيّة إنّما يكشف عن وجود إيحاء وميل وعادة لدى العقلاء على ذلك ، وأمّا أنّ هذه العادة والبناء حجّة شرعا أو ليس كذلك فهذا لا تثبته نفس السيرة ، بل نحتاج في إثباته إلى دليل آخر كما تقدّم في محلّه من كون الشارع هادفا أو كونه آمرا وناهيا أو كونه يريد تحقيق أهدافه وأغراضه أو ظهور حاله ، فإنّ ذلك كلّه يشكل دلالة على أنّه لو لم يكن خبر الثقة حجّة لدى الشارع لنهى عنه وردع عن العمل به في مجال أغراضه التشريعيّة ، وعدم ردعه وسكوته عن ذلك يكشف عن إمضائه وهو كاشف عن وجود الدليل الشرعي على حجيّته.

ولذلك فهذه السيرة تثبت مفهوما كليّا أي تلك القضيّة القائلة بأن خبر الواحد حجّة في الأحكام الشرعيّة ، فالممضى هو ذاك الأمر الكلّي سواء كان هناك عمل فعلي في الخارج أم لا. وعليه ، فيكون الإمضاء أوسع من الخارج لأنّه إمضاء لمفهوم وقضيّة كليّة لا جزئيّة.

وهناك اعتراض يواجه الاستدلال بالسيرة وهو أنّ السيرة مردوع عنها بالآيات الناهية عن العمل بالظن الشاملة بإطلاقها لخبر الواحد.

الاعتراض على السيرة :

ثمّ إنّه يعترض على الاستدلال بسيرة العقلاء على حجيّة خبر الواحد بأنّ هذه السيرة كما تقدّم تحتاج إلى إثبات عدم الردع عنها لتكون كاشفة عن الإمضاء والحجيّة ، والحال أنّ الردع عنها ثابت وذلك بإطلاق الآيات الناهية عن العمل بالظن من قبيل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، وغيرها من الآيات التي تنهى عن العمل بما ليس بعلم.

وحيث إنّ خبر الواحد المطلوب الاستدلال على حجيّته هو الخبر الذي لا يفيد العلم فيكون مشمولا لإطلاق النهي وداخلا في موضوعها لأنّه ليس علما ، فيكون

ص: 247

العمل به منهيا عنه ومردوعا وبالتالي لا تكون هذه السيرة ممضاة من الشارع لأنّه قد ثبت الردع عنها.

والحاصل : أنّ هذه السيرة قد ثبت الردع عن العمل بها ، لأنّ مطلقات النهي عن العمل بما ليس علما وبكل ما هو ظن تشمل خبر الواحد لأنّه ظني ولا يفيد العلم ، فكيف يستدلّ بها على الحجيّة مع وجود الردع عنها؟!

وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض :

الجواب الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه من أنّ السيرة حاكمة على تلك الآيات ، لأنّها تخرج خبر الثقة عن الظن وتجعله علما ، بناء على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجيّة.

الجواب الأوّل : ذكر المحقّق النائيني جوابا عن هذا الاعتراض مبنيا على ما اختاره في جعل الحجيّة من مسلك جعل الطريقية والعلمية في الحجج والإمارات ، فالسيرة العقلائيّة حيث إنّها تجعل الحجيّة لخبر الواحد والحجيّة معناها العلمية فيكون مفادها أنّ خبر الواحد علم تعبدا ، وحينئذ تكون حاكمة على مطلقات النهي وعمومات الآيات التي تنهى عن العمل بالظن وكل ما ليس بعلم ؛ لأنّ هذه المطلقات والعمومات وإن كانت شاملة لخبر الواحد باعتباره ليس علما تكوينا إلا أنّها صارت محكومة للسيرة التي تدّعي أنّ خبر الواحد علم تعبدا ، حيث إنّ السيرة تخرج مصداقا حقيقيا عن دائرة المطلقات والعمومات بلسان تعبّدي ادعائي ومثل هذا اللسان يسمّى بالحكومة كما تقدّم وسيأتي مفصّلا في محلّه.

ومن الواضح أنّ الدليل الحاكم مقدم على الدليل المحكوم بمقتضى قواعد الجمع العرفي التي سيأتي ذكرها في باب التعارض ؛ لأنّ الحكومة لسانها التوسعة أو التضييق ، وهنا السيرة توسّع من موضوع العلم ليشمل العلم الوجداني التكويني والعلم التعبّدي الادعائي ، فكما أنّ مطلقات النهي لا تشمل حقيقة العلم الوجداني لأنّه خارج من موضوعها تكوينا ، فكذلك لا تشمل العلم التعبّدي لأنّه خارج عن موضوعها ادّعاء ، فالحكومة هنا كالتخصيص أو التقييد يعتبر قرينة عرفيّة نوعيّة على الجمع العرفي بين الدليلين ، وبه يحلّ التعارض البدوي لأنّه تعارض غير مستقر.

ص: 248

والنتيجة هي : أنّ السيرة تقدّم على مطلقات النهي لحكومتها عليها ، والدليل الحاكم يتقدّم على الدليل المحكوم عرفا ، لأنّه قرينة على تفسير المراد منه.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه إذا كان معنى الحجيّة جعل الأمارة علما كان مفاد الآيات النافية لحجيّة غير العلم نفي جعلها علما ، وهذا يعني أنّ مدلولها في عرض مدلول ما يدلّ على الحجيّة ، وكلا المدلولين موضوعهما ذات الظن فلا معنى لحكومته المذكورة.

ويرد على ما ذكره الميرزا :

أوّلا : أنّه لا معنى للحكومة المذكورة بين السيرة والآيات ، وذلك لأنّ جعل الحجيّة على المبنى المذكور وإن كان معناه جعل الأمارة علما فتكون السيرة مفادها جعل العلمية لخبر الواحد ، إلا أنّه في مقابل ذلك تكون مطلقات النهي عن العمل بالظن وما ليس بعلم مفادها أيضا نفي جعل الحجيّة لكل ظن ، وبالتالي تنفي العلمية عن الظن وعن غير العلم.

وحينئذ يكون هناك دليلان أحدهما السيرة التي تثبت الحجيّة والعلمية لخبر الواحد الظني ، والآخر مطلقات النهي التي تنفي الحجيّة والعلمية عن كل ظن ، وحيث إنّ موضوعهما واحد ، وهو الظن وكل ما ليس بعلم تكوينا فيكونان في مرتبة واحدة ، أي أنّ مدلولهما ومفادهما في عرض واحد ، أحدهما يثبت والآخر ينفي ، ومثل هذا المدلول لا يمكن أن يصار إلى الجمع العرفي فيه ، لأنّه تعارض مستقر ، وبالتالي لا معنى لحكومة أحدهما على الآخر ؛ لأنّ الحكومة تتصور بين المدلولين الطوليين حيث يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر لسان توسعة أو تضييق ، وهنا لسان السيرة لا يمكن أن يكون ناظرا إلى مفاد مطلقات النهي لأنّه بصدد إثبات أصل الحجيّة والعلمية لخبر الواحد ، ولا يعقل أن يكون ناظرا إلى هذا الأمر وإلى حكومة مفادها على مفاد الآيات والمطلقات ، لأنّهما شيئان مترتبان في التعقّل والتصور ، لأنّ الشيء يثبت أوّلا ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين غيره ثانيا ، فالدليل الذي يثبت أصل جعل الحجيّة والعلمية لا يمكنه أن يتعرض إلى النسبة بينه وبين غيره ؛ لأنّ هذا في طول ذاك وبعد الفراغ عنه.

والحاصل : أنّ التعارض بين مفاد السيرة والمطلقات تعارض مستقر ، لأنّ

ص: 249

موضوعهما واحد ومحمولهما متناف فيكون التعارض مستحكما ، وحينئذ يحكم بالتساقط ولا يصار إلى أحدهما ، إلا أنّ النتيجة العمليّة تكون إلى صالح المطلقات حيث إنّه يرجع إلى الأصول العمليّة عند الشك في الحجيّة لخبر الواحد ، والأصل عند الشك في الحجيّة عدمها ، كما تقدّم سابقا (1).

وثانيا : أنّ الحاكم إن كان هو نفس البناء العقلائي فهذا غير معقول ؛ لأنّ الحاكم يوسّع موضوع الحكم أو يضيّقه في الدليل المحكوم ، وذلك من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه أو تضييقه ، ولا معنى لأنّ يوسع العقلاء أو يضيقوا حكما مجعولا من قبل غيرهم.

وإن كان الحاكم الموسّع أو المضيّق هو الشارع بإمضائه للسيرة فهذا يعني أنّه لا بدّ لنا من العلم بالإمضاء لكي نحرز الحاكم ، والكلام في أنّه كيف يمكن إحراز الإمضاء مع وجود النواهي المذكورة الدالة على عدم الحجيّة؟!

ويرد عليه ثانيا : أنّ الدليل الحاكم كما تقدّم يوسع أو يضيق الدليل المحكوم وهذا يستلزم أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ، وإحراز النظر إنّما يكون ثابتا فيما إذا كانت التوسعة والتضييق في الدليل المحكوم من شئون جاعل الدليل الحاكم.

وعلى هذا نقول : إنّ الدليل الحاكم الذي هو السيرة العقلائيّة ، إن كان المقصود به نفس البناء العقلائي القائم على العمل بخبر الواحد فهذا البناء لا يعقل أن يكون حاكما على مطلقات النهي وموسعا أو مضيقا لمفادها ؛ وذلك لأنّ مطلقات النهي مجعولة من الشارع حيث إنّها من الأحكام الشرعيّة التي بيد الشارع جعلها ورفعها ، بينما السيرة العقلائيّة بناء للعقلاء ، ولا يحق للعقلاء التدخل في أحكام غيرهم ؛ لأنّها ليست من شئونهم ، وجعلها ورفعها ليس بيدهم ، بل يحرم عليهم التدخل في أحكام الشارع لأنّهم مكلفون بالإطاعة والامتثال لها.

وهذا معناه أنّ سيرة العقلاء المذكورة لا يمكن أن تكون حاكمة على مطلقات النهي لأنّ الجاعل في الدليل الحاكم هو العقلاء ، بينما الجاعل في الدليل المحكوم هو الشارع ، فمع اختلاف الجاعل لا تكون هناك حكومة ، لأنّه لا يحرز النظر الذي هو

ص: 250


1- مضافا إلى أنّ الحكومة إنّما تتصور بين الأدلّة اللفظيّة ، والسيرة هنا ليست دليلا لفظيّا وإنّما هي دليل لبّي فلا مورد للحكومة أصلا.

شرط الحكومة ، إذ من الواضح حينئذ أنّ مطلقات النهي لا يمكن للعقلاء أن يوسعوها أو يضيقوها لأنّ ذلك يعدّ تصرفا منهم في أحكام غيرهم من دون أن يكون لهم الحق في ذلك.

وأمّا إن كان المقصود من السيرة العقلائيّة الموسّعة أو المضيّقة هو الشارع حيث إنّ السيرة العقلائيّة بنفسها لا اعتبار لها شرعا ، وإنّما تكون معتبرة وحجّة فيما إذا سكت الشارع عنها ، فيكون سكوته وعدم ردعه إمضاء لها ، فيكون الحاكم في الحقيقة هو إمضاء الشارع للسيرة الكاشف عن قبوله وحجيّتها شرعا ، فهذا ممكن لأنّ الجاعل في الدليلين الحاكم والمحكوم صار واحدا وهو الشارع ، إلا أنّنا لا بدّ أن نحرز أنّ الشارع قد أمضى ولم يردع عن السيرة لتكون حجّة وبالتالي تكون حاكمة على مطلقات النهي.

وهذا الأمر كيف يمكن إحرازه في الفرض المذكور ، حيث إنّ مطلقات النهي تصلح أن تكون رادعة عن السيرة وبالتالي لا تكون حاكمة ؛ إذ مع الردع عنها لا تكون حجّة أصلا ، فكيف يمكننا إحراز إمضاء الشارع والحال هذه؟!

نعم ، لو فرض ثبوت الإمضاء في مرحلة سابقة لكانت السيرة حجّة شرعا ، وبالتالي تكون حاكمة على مطلقات ومخرجة منها أحد أفرادها ، وهو خبر الواحد إخراجا ادعائيا تعبديّا.

وأمّا قبل إحراز الإمضاء المذكور تبقى السيرة العقلائيّة مشكوكة من حيث جعل الحجيّة لها وعدم ذلك خصوصا مع وجود النواهي عن العمل بكل ظن وما ليس بعلم ، ومع الشك في الحجيّة يحكم بعدمها كما تقدّم مرارا ، وبالتالي لا تصلح لأنّ تكون دليلا على الحجيّة فضلا عن كونها حاكمة على غيرها.

والحاصل : أنّ النظر غير محرز على كلا الاحتمالين ، إما لاختلاف الجاعل بين الدليلين ، وإما لعدم الإمضاء الدال على الحجيّة.

الجواب الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه من أنّ الردع عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقول ، لأنّه دور.

وبيانه : أنّ الردع بالعمومات عنها يتوقّف على حجيّة تلك العمومات في العموم ، وهذه الحجيّة تتوقّف على عدم وجود مخصّص لها ، وعدم وجود

ص: 251

مخصّص يتوقّف على كونها رادعة عن السيرة ، وإلا لكانت مخصّصة بالسيرة ولسقطت حجيّتها في العموم.

الجواب الثاني على الاعتراض المذكور ، ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الردع عن السيرة بمطلقات وعمومات النهي غير معقول في نفسه ، لاستلزامه الدور المحال ، وكل ما يلزم منه الدور فهو غير معقول.

وبيان الدور أن يقال : إنّ مطلقات النهي إنّما تكون رادعة عن السيرة فيما إذا كانت هذه المطلقات والعمومات حجّة في إطلاقها وعمومها ، إلا أنّ حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص أو المقيّد لها ؛ إذ لو كان هناك مخصّص أو مقيّد لها لم تكن حجّة في العموم وبالتالي لا تكون رادعة عن السيرة ، فلا بد من إثبات عدم وجود مثل هذا المخصّص أو المقيّد.

غير أنّ عدم وجود هذا المخصّص أو المقيّد فرع أن تكون هذه العمومات والمطلقات رادعة عن السيرة بحيث تكون السيرة مشمولة لعموم النهي ، لأنّه إذا لم تكن رادعة عنها وانعقدت السيرة على حجيّة خبر الواحد كانت مخصصة أو مقيّدة لهذه العمومات والمطلقات ، وبالتالي تسقط العمومات عن الحجيّة في العموم.

فتحصّل أنّ رادعية العمومات والمطلقات عن السيرة متوقفة على شمولها للسيرة ورادعيّتها عنها ، وهو توقف الشيء على نفسه الذي هو دور صريح ، لأنّها إذا لم تكن شاملة للسيرة ورادعة عنها لم تكن حجّة في العموم ، وبالتالي تكون مخصّصة بالسيرة فلا تصلح للرادعية.

والجواب على ذلك :

إنّ توقف الردع بالعمومات على حجيّتها في العموم صحيح ، غير أنّ حجيّتها كذلك لا تتوقّف على عدم وجود مخصّص لها ، بل على عدم إحراز المخصّص ، وعدم إحراز المخصّص حاصل فعلا ما دامت السيرة لم يعلم بإمضائها ، فلا دور.

ويرد على هذا الجواب :

إنّ الدور المذكور متوقف على مقدمة غير تامّة ، حيث إنّه ذكر أنّ رادعيّة العمومات والمطلقات متوقفة على أن تكون هذه العمومات والمطلقات حجّة في العموم ، وأنّ حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص ، فإنّنا وإن كنّا نسلّم

ص: 252

بما ذكره أوّلا من توقف الرادعيّة بالعمومات والمطلقات على كونها حجّة في العموم ؛ إذ مع عدم حجيّتها في العموم لا تكون شاملة للسيرة ، فلا يتمّ الردع ، إلا أن ما ذكره من كون حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص غير صحيح ، لما تقدّم في مبحث العموم من أنّ العموم حجّة ما لم يعلم بوجود المخصّص ، سواء كان هناك مخصّص واقعا أم لا ، فما دام المخصّص غير محرز كان العموم حجّة في نفسه ، وينعقد للكلام ظهور في العموم ، ولذلك إذا جاء المخصّص فيما بعد لم يكن رافعا لأصل ظهور الكلام في العموم ، وإنّما يكون معارضا له ويقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي ؛ لأنّ المخصّص يكون نصا عادة والنص مقدم على الظاهر.

فالحاصل : أنّ حجيّة العمومات والمطلقات في العموم والشمول فرع عدم إحراز المخصّص لا فرع عدم وجوده واقعا.

وعليه ، فالآيات الناهية عن العمل بالظن ظاهرة في العموم والشمول لكل ظن وما ليس بعلم ، ومفادها نفي الحجيّة عنه.

يبقى أنّ السيرة المنعقدة على العمل بخبر الواحد هل هي حجّة شرعا لتكون مخصّصة لهذا العموم أو ليست حجّة ، فيكون العموم شاملا لها ورادعا عن العمل بها؟

وهذا المطلب يتوقّف على أنّ هذه السيرة هل هي ممضاة من الشارع أو أنّها مردوع عنها فإذا كانت ممضاة فهي حجّة فتكون مخصصة ، وإن لم تكن ممضاة فهي ليست حجّة ، وبالتالي يتمّ الردع عنها ، وحيث انّ مطلقات النهي تصلح لأنّ تكون رادعة وشاملة لها ، وحيث إنّ الإمضاء للسيرة غير محرز يقينا صحّ القول بأنّ المخصّص لعموم الآيات غير محرز ظاهرا ، وبالتالي تتم حجيّة العموم ؛ لأنّها فرع عدم إحراز المخصّص ، وهذا متحقّق فعلا ، فيتم العموم وتصبح الآيات رادعة عن السيرة ، ولا يلزم عن ذلك محذور الدور المتقدّم.

وبتعبير آخر : أنّ محذور الدور إنّما يتمّ لو كانت حجيّة الآيات في العموم فرع ألا يكون هناك مخصّص واقعا ، بينما الصحيح أنّ الحجيّة المذكورة فرع عدم إحراز المخصّص ، وهذا ثابت وجدانا ، لأنّنا نشك في حجيّة السيرة للشك في أنّها ممضاة أم لا ، ومع الشك يصدق أنّنا لا نعلم ولا نحرز وجود المخصّص فينعقد العموم ويشمل السيرة فيتم الردع عنها.

ص: 253

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه من أنّ ظهور العمومات المدعى ردعها لا دليل على حجيّته ، لأنّ الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة ، ومع انعقادها على العمل بخبر الثقة لا يمكن انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك ، لأنّ العمل بالمتناقضين غير معقول.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ رادعية مطلقات النّهي عن السيرة يلزم منه محذور اجتماع النقيضين.

وبيانه : أنّ مطلقات وعمومات النهي ظاهرة في العموم والشمول للسيرة ، فلكي تكون رادعة عنها يلزم أن يكون ظهورها في العموم حجّة لأنّه مع عدم حجيّتها في العموم لا تكون شاملة للسيرة ، فلا تكون رادعة عنها ، إذن نحتاج إلى إثبات أنّها ظاهرة في العموم وأنّ هذا الظهور حجّة.

أمّا أنّها ظاهرة في العموم فهذا مسلّم ، لأنّه وجداني ، وأمّا أنّ هذا الظهور حجّة فيحتاج إلى دليل ، وحيث إنّ الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة كان لا بدّ أن تكون السيرة العقلائيّة منعقدة على العمل بظهور مطلقات وعمومات النهي ، ولكن بما أنّ سيرة العقلاء قد انعقدت على العمل بخبر الثقة استحال انعقادها على العمل بظهور مطلقات النهي في العموم ؛ وذلك لأنّ انعقادها على العمل بخبر الثقة معناه أنّهم يبنون على العمل بما يفيد الظن لأنّ خبر الثقة غاية ما يفيد الظن فقط ، بينما انعقاد سيرتهم على العمل بظهور عمومات النهي في العموم معناه أنّهم لا يبنون على العمل بكل ظن وما ليس بعلم ، وانعقاد مثل هاتين السيرتين محال ، لأنّه يعني انعقاد سيرتين متناقضتين ، إحداهما تجوّز العمل بخبر الثقة الظني ، والأخرى تمنع من العمل بكل ظن ، وهذا معناه انعقاد سيرتين على موضوع واحد بينما محمولهما متناف ومتغاير ، إذا إحدى القضيتين موجبة جزئيّة ، وهي البناء على العمل بخبر الثقة الظني ، والأخرى سالبة كلية وهي حجيّة العموم الظاهر في النهي عن العمل بكل ما يفيد الظن.

والنتيجة هي أنّه ما دامت سيرتهم قد انعقدت فعلا على العمل بخبر الثقة الظني ؛ لأنّ ذلك ثابت وجدانا فمن المحال أن تنعقد على العمل بظهور مطلقات النهي في العموم والشمول لأنّه إذا ثبت أحد النقيضين امتنع الآخر. وعليه ، فلا ظهور لمطلقات النهي في العموم ، وبالتالي لا تكون رادعة من العمل بخبر الثقة.

ص: 254

وهذا الجواب غريب ؛ لأن انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه انعقادها على اكتشاف مراد المولى بالظهور وتنجّزه بذلك ، وهذا لا ينافي استقرار عمل آخر لهم على خلاف ما تنجّز بالظهور ، فالعمل العقلائي بخبر الثقة ينافي مدلول الظهور في العمومات الناهية ولا ينافي نفس

بنائهم على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفا وحجة.

ويرد عليه : أنّه وقع خلط بين مطلبين ، هما : بناء العقلاء على الأخذ بالظهور واعتباره حجّة وكاشفا عن مراد المتكلّم ، والآخر العمل بمدلول الظهور أو المنكشف به.

وتوضيح ذلك : أنّ انعقاد السيرة العقلائيّة على الأخذ بالظهور واعتباره حجّة معناه أنّ مراد المتكلّم يكتشف من خلال ما ظهر من كلامه سواء كان منجزا أم معذرا ، فإذا قال : ( أكرم العالم ) انعقد لكلامه ظهور في الإطلاق فيعلم بذلك أنّ مراده الجدّي هو الإطلاق ، وأنّه يجب إكرام كل عالم من العلماء سواء كان عادلا أم فاسقا ، ولا يختص كلامه بالعادل فقط ، لأنّه على خلاف ظهور كلامه ، فيتمسك بهذا الظهور ويعتبر حجّة لتفسير كلام المتكلّم ومراده الجدّي.

والأمر الآخر هو أنّ المنكشف بهذا الظهور والمدلول الظاهر للكلام هو الشمول والعموم والإطلاق لكل أفراد العالم ، وأنّه في مقام العمل والامتثال يجب إكرام الجميع من دون فرق بين العادل والفاسق.

وهذان المطلبان وقع الخلط بينهما في كلام المحقّق الأصفهاني ، حيث اعتبر أنّه يوجد تناقض وتناف بين القول بحجيّة الظهور والأخذ بالظهور في مقام اكتشاف مراد المتكلّم الجدّي ، وبين العمل بمدلول ومفاد المنكشف بهذا الظهور ، مع أنّه لا تنافي بينهما لأنّ أحدهما في طول الآخر ، والتعارض والتنافي إنّما يكون بين شيئين في رتبة واحدة وفي عرض واحد.

وحينئذ لا تعارض بين انعقاد سيرة العقلاء على حجيّة الظهور واكتشاف مراد المتكلّم الجدّي من خلاله ، وبين انعقاد سيرتهم على العمل بخبر الثقة ؛ لأنّ العمل بخبر الثقة لا ينافي ظهور عمومات ومطلقات النهي في العموم لأنّها أسبق رتبة منه ، وإنّما ينافي مدلول هذا العموم ، وهو أنّ كل ظن لا يجوز العمل به ، فإنّ هذا المفاد في

ص: 255

رتبة العمل بخبر الثقة ، إلا أنّ هذا التنافي والتعارض ينحلّ بتقديم أحد العملين والمفادين على الآخر أو بتساقطهما معا إن لم يكن هناك مرجّح لأحدهما على الآخر ولم يمكن الجمع العرفي بينهما ، لا أنّه ينحلّ برفع اليد عن أصل انعقاد سيرة العقلاء بالأخذ بحجيّة الظهور واكتشاف مراد المتكلّم الجدّي من خلال ظاهر كلامه ، لأنّه لا معارضة بين هذه السيرة وبين العمل بخبر الثقة لاختلاف الرتبة بينهما كما ذكرنا.

ولأجل ذلك كان الجواب المذكور غريبا لأنّه صوّر التعارض بين شيئين لا اتحاد بينهما في الرتبة ، ولأنّه حلّ التعارض برفع اليد عن أصل الظهور وحجيّته.

وبتعبير آخر : أنّ القول بحجيّة الظهور واعتباره حجّة وكاشفا عن المراد يختلف عن العمل بمدلول ومفاد هذا الظهور ، ولذلك لا يقع التنافي بينهما ، لأنّ كل واحد منهما ينظر إلى مطلب غير ما ينظر إليه الآخر ، فالأوّل يراد به اكتشاف المراد بينما الثاني يراد به العمل بالمدلول والمفاد ، فلا يتصور التعارض بينهما لاختلاف الرتبة ، فإنّ الأوّل مدلول تصوّري بينما الثاني مدلول تصديقي من أجل الامتثال والعمل (1).

فالصحيح في الجواب أن يقال :

إنّه إن ادّعي كون العمومات رادعة عن سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين من صحابة ومحدّثين فهذا خلاف الواقع لأنّنا أثبتنا في التقريب الأوّل أنّ هذه السيرة كانت قائمة بالفعل على الرغم من تلك العمومات ، وهذا يعني أنّها لم تكن كافية للردع وإقامة الحجّة ، وإن ادّعي كونها رادعة عن السيرة العقلائيّة بالتقريب الثاني فقد يكون له وجه ، ولكن الصحيح مع هذا عدم صلاحيتها لذلك أيضا ؛ لأنّ مثل هذا الأمر المهم لا يكتفى في الردع عنه عادة بإطلاق دليل من هذا القبيل.

والصحيح في الجواب عن الاعتراض المذكور أن يقال : إنّه إن أريد أنّ عمومات

ص: 256


1- وهذا نظير ظهور عمومات الآيات الآمرة بالصلاة أو الصوم ونحوهما فإنّ ظهورها حجّة والعقلاء يبنون على حجيّة هذا الظهور من أجل اكتشاف مراد المتكلّم وأنّه عام وشامل لكل الناس ، وهذا لا يتنافي ولا يتعارض مع عدم امتثال كثير من الناس لهذا الظهور بل ومخالفته صريحا ، فإنّ عدم قيامهم بالصلاة والصيام لا يعني أنّ العمومات المذكورة لا ظهور لها في العموم أو أنّ ظهورها فيه ليس حجّة ، كما هو واضح.

ومطلقات النهي عن العمل بالظن وما ليس بعلم رادعة عن سيرة المتشرّعة الذين كانوا معاصرين للنبي صلی اللّه علیه و آله وللأئمّة علیهم السلام ، فهذا غير معقول ، لأنّ الوجدان والواقع على خلاف ذلك ؛ إذ من الواضح أنّ سيرة المتشرّعة من صحابة ومحدّثين ورواة ومتدينين كانت منعقدة بالفعل على العمل بخبر الثقة كما تقدّم بيانه على أساس الطريق الثالث ، على الرغم من وجود هذه العمومات والمطلقات ، وهذا يدلّ التزاما على أنّ هذه المطلقات ليست شاملة لخبر الثقة وإلا لم يكن هناك ما يبرّر التزامهم وبناءهم على العمل والأخذ بخبر الثقة رغم تديّنهم المانع من كونهم يتصرّفون على أساس الآراء والأهواء ، فمثل هذه السيرة تدلّ على أنّ مطلقات النهي ليست صالحة للردع عن العمل بخبر الثقة ، وإلا لكانوا ارتدعوا عن ذلك مع توفّر المبرّرات الكافية لردعهم لأنّهم متشرعة ومتدينون لا يتصرّفون إلا وفق الموازين الشرعيّة.

وإن أريد أنّ هذه العمومات والمطلقات رادعة عن السيرة العقلائيّة فهذا ، وإن كان ممكنا ثبوتا ومعقولا في نفسه إلا أنّه لا يمكن القول به ؛ وذلك لأنّ الإيحاء والعادة التي توحيها سيرتهم وبناءهم على العمل بخبر الثقة كانت بدرجة من الاستحكام والقوة بحيث لا يكفي معها عادة الردع بظهور إطلاق أو عموم رغم الخطر الكبير الذي سوف يقع لو كان الشارع لا يرى حجيّة هذه السيرة العقلائيّة ، لأنّ المفروض في ظروف كهذه أن يكون الردع والنهي بدرجة قويّة جدّا ، ولكان المفروض أيضا أن يكون لسان النهي والردع صريحا لا احتمال على خلافه ، وفي مثل هكذا حالة لكان لا بدّ من وصول شيء صريح يدلّ على النهي والردع عن العمل بخبر الثقة في مجال الأغراض الشرعيّة ، والحال إنّه لم يصلنا شيء من هذا القبيل رغم توفّر الدواعي للنقل لكثرة الابتلاء بهذا الأمر إذ العمل بخبر الثقة لا يقلّ شأنا وأهمية عن القياس ونحوه من الأدلّة الظنية التي نهى الشارع عنها نهيا صريحا وقويا.

والحاصل : أنّ هذه المطلقات لا تصلح للردع عن السيرة بكلا نحويها ، وبالتالي تكون السيرة على العمل بخبر الثقة حجّة وممضاة شرعا ، وبها تثبت الحجيّة للخبر بلا معارض.

* * *

ص: 257

ص: 258

دليل العقل
اشارة

ص: 259

ص: 260

[ 3 - دليل العقل ]

وأمّا دليل العقل فله شكلان

الشكل الأوّل : ويتلخّص في الاستدلال على حجيّة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات من الرواة بالعلم الإجمالي.

وبيانه : أنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير من هذه الروايات عن المعصومين علیهم السلام ، والعلم الإجمالي منجّز بحكم العقل كالعلم التفصيلي على ما تقدّم في حلقة سابقة ، فتجب موافقته القطعيّة ، وذلك بالعمل بكل تلك الروايات التي يعلم إجمالا بصدور قسط وافر منها.

الدليل الثالث : على حجيّة خبر الثقة هو العقل ، وتقريب الاستدلال به بأحد وجهين :

الشكل الأوّل : أن يستدلّ بمنجزية العلم الإجمالي على لزوم العمل بأخبار الثقات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا ؛ وذلك لأنّنا إذا لاحظنا مجموع أخبار الثقات ضمن هذه الكتب تشكّل لدينا علم إجمالي بأنّ بعض هذه الأخبار صادرة عن المعصومين ، أو أنّ بعضها مطابق للواقع ؛ إذ من غير المعقول أن تكون هذه الأخبار بمجموعها كاذبة أو غير مطابقة للواقع.

وبهذا يحصل لنا علم إجمالي بصدق وبصدور بعضها ، ولمّا كان هذا البعض غير معلوم تفصيلا ، وكان يحتمل أن يكون كل خبر من أخبار الثقات داخلا في هذا المعلوم بالإجمال ، كان هذا العلم الإجمالي منجّزا لجميع أطرافه وهي دائرة أخبار الثقات ضمن هذه الأخبار الواصلة إلينا ، وحينئذ يجب العمل بهذه الأخبار كلّها لأنّ منجزية العلم الإجمالي تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة كالعلم التفصيلي تماما ، وهذا معناه لزوم الأخذ والعمل بأخبار الثقات لتنجّز العمل بها بالعلم

ص: 261

الإجمالي ، وهذا يعني أنّ أخبار الثقات حجّة يجب العمل بها ، فثبت المطلوب من حيث النتيجة العمليّة.

وهذا نظير العلم الإجمالي بنجاسة عدد من الإناءات ضمن مجموع مائة إناء موجودة عندنا ، فإنّه يحتمل أن يكون كل إناء بنفسه داخلا فيما علم إجمالا نجاسته ، فيكون طرفا للعلم الإجمالي ، وحيث إنّ هذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجزيته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة كان الاجتناب عن كل هذه الإناءات واجبا بحكم هذه المنجزية العقلية للعلم الإجمالي ، وبالتالي يجب ترك جميع هذه الإناءات ، وهذه النتيجة كالنتيجة في العلم التفصيلي بنجاسة المائة جميعا من جهة وجوب الاجتناب عن الجميع.

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين :

الأوّل : نقضي ، وحاصله :

أنّه لو تمّ هذا لأمكن بنفس الطريقة إثبات حجيّة كل خبر حتّى أخبار الضعاف لأنّنا إذا لاحظنا مجموع الأخبار بما فيها الأخبار الموثّقة وغيرها نجد أنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير منها ، فهل يلتزم بوجوب العمل بكل تلك الأخبار تطبيقا لقانون منجزية العلم الإجمالي؟!

اعترض الشيخ الأنصاري في رسائله على هذا الشكل من دليل العقل باعتراضين : أحدهما نقضي ، والآخر حلي.

أمّا النقض : فحاصله أنّنا يمكننا أن نطبّق هذا العلم الإجمالي في كل الأخبار الواصلة إلينا ، سواء كانت أخبار الثقات أو غيرهم من الضعاف والمجهولين ، وذلك على أساس أنّنا إذا لاحظنا مجموع هذه الأخبار كلّها نجد أنّه من غير المعقول أن تكون كلّها كاذبة بل بعضها صادر وبعضها مطابق للواقع حتّى ضمن أخبار الضعاف ؛ إذ لا يعقل أن تكون كل أخبار الضعفاء ليست مطابقة للواقع بل يحتمل أن يكون بعضها مطابقا للواقع.

وحينئذ يقال : إنّه لو كان العلم الإجمالي المذكور سابقا منجزا لجميع أطرافه بسبب العلم بصدور بعض الأخبار من المعصومين ضمن دائرة أخبار الثقات لكان هذا العلم الإجمالي أيضا منجّزا لجميع الأخبار بما فيها الضعفاء لأنّه يعلم بصدور أو بمطابقة بعض هذه الأخبار للواقع ، فهل يمكن الالتزام بوجوب العمل بكل خبر حتّى ما كان ضعيفا أو غير ثقة أو مجهولا؟!

ص: 262

فحيث إنّه لا يلتزم بذلك كان معناه أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لوجوب العمل بأخبار الثقات بمجرّد العلم بصدور بعض أخبارهم ، إذ لو كان منجزا لها لكان العلم الإجمالي الذي ذكرناه منجّزا أيضا لجميع الأخبار بما فيهم الضعفاء ، لأنّه يعلم بمطابقة بعضها للواقع ، فإما أن يلتزم بذلك أو يرفع اليد عن أصل هذا الدليل ، إذ لا وجه للتفكيك بين هذين العلمين والقول بأنّ الأوّل منجّز وحجّة دون الثاني ، لأنّ أركان العلم الإجمالي موجودة فيهما على حدّ سواء ، وحيث إنّه لا يمكن الالتزام بالعلم الإجمالي الثاني دلّ هذا على أنّ الالتزام بالعلم الإجمالي الأوّل غير تام.

والجواب على هذا النقض ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من انحلال أحد العلمين الإجماليين بالآخر وفقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير - المتقدّمة في الحلقة السابقة - إذ يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأوّل : العلم الذي أبرز من خلال هذا النقض وأطرافه كل الأخبار.

والثاني : العلم المستدل به وأطرافه أخبار الثقات ، ولانحلال علم إجمالي بعلم إجمالي ثان وفقا للقاعدة التي أشرنا إليها شرطان - كما تقدّم في محلّه - :

أحدهما : أن تكون أطراف الثاني بعض أطراف الأوّل.

والآخر : ألا يزيد المعلوم بالأوّل عن المعلوم بالثاني.

وأجاب صاحب ( الكفاية ) على هذا النقض بأنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي السابق تطبيقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير.

أمّا كون العلم الإجمالي المذكور في النقض كبيرا فلأنه يشمل أخبار الثقات والضعاف وغيرهم.

وأمّا كون العلم الإجمالي المذكور في الاستدلال صغيرا فلأنّه مختص بأخبار الثقات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا.

ومن الواضح أنّ دائرة أخبار الثقات أخص وأصغر من دائرة أخبار الثقات والضعاف وغيرهم.

وأمّا وجه انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير فهذا يتوقّف على وجود شرطين هما :

ص: 263

الأوّل : أن يكون العلم الإجمالي الصغير داخلا في العلم الإجمالي الكبير ، أي أن تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فكلّ أطراف العلم الإجمالي الصغير داخلة في أطراف العلم الإجمالي الكبير.

والثاني : أن لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير أزيد من حيث العدد والمصداق من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ، بل إما أن يكون أقل منه أو مساويا له.

مثال ذلك : أن نعلم إجمالا بنجاسة خمسة إناءات من مجموع مائة إناء مختلفة الألوان ، ثمّ نعلم إجمالا بنجاسة خمسة إناءات من مجموع الإناءات السوداء في مجموع الإناءات المائة ، فهنا أطراف العلم الإجمالي الصغير وهي الإناءات السوداء من جملة أطراف العلم الإجمالي الكبير ، والمعلوم بالإجمال في العلمين متساو ، وهو الإناءات الخمسة ، ولذلك ينحل العلم الكبير بالعلم الصغير.

وتطبيق هذا الكلام على موردنا بأن يقال :

وكلا الشرطين منطبقان في المقام فإنّ العلم الإجمالي الثاني في المقام - أي العلم المستدل به على الحجيّة - أطرافه بعض أطراف العلم الأوّل الذي أبرز في النقض ، والمعلوم في الأوّل لا يزيد عن المعلوم فيه فينحل الأوّل بالثاني وفقا للقاعدة المذكورة.

وفي مقامنا نقول : إنّ العلم الإجمالي المستدلّ به على حجيّة خبر الثقة كانت دائرة أطرافه خصوص أخبار الثقات الواصلة إلينا في الكتب المعتبرة ، وهذه الأخبار تعتبر جزءا من دائرة أطراف العلم الإجمالي الذي أبرز في النقض لأنّ أطرافه كل الأخبار سواء منها أخبار الثقات وأخبار الضعفاء وغيرهم ، فالشرط الأوّل موجود (1).

ص: 264


1- والتحقيق في المسألة عدم تماميّة الاستدلال بهذا العلم الإجمالي ، لأنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل فيه لعدم توفر الشرط الثاني فصحيح أنّ أخبار الثقات داخلة ضمن أطراف العلم الإجمالي الكبير الشامل لأخبار الثقات وغيرها ، إلا أنّ المعلوم بالإجمال الموجود في العلم الإجمالي الكبير أزيد من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ، وذلك لأنّنا بعد أن نفرز أخبار الثقات يبقى لدينا علم بوجود تكاليف ضمن سائر الشبهات والأخبار الأخرى ، إذ من غير المعقول أن تكون كلّها كاذبة وغير صادرة ، فيبقى العلم الإجمالي الكبير منجزا لها أيضا.

ثمّ إنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير وهو أنّ عددا كبيرا من هذه الأخبار صادر عن المعصومين علیهم السلام لا يزيد عن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ضمن دائرة أخبار الثقات ، وذلك لأنّنا لو فرزنا أخبار الثقات من مجموع الأخبار في مختلف الأبواب الفقهية لكان المعلوم بالإجمال كونه صادرا من المعصومين موجودا فيها أيضا بحيث لا يبقى مجال لاحتمال صدور الأحكام في غيرها من أخبار الضعفاء وغيرهم ، فالشرط الثاني موجود.

والنتيجة هي أنّ المعلوم بالإجمال صدوره واقعا صار ضمن دائرة أخبار الثقات فقط فيكون منجّزا لها وموجبا للموافقة القطعيّة بالعمل على وفق أخبار الثقات وهو معنى الحجيّة.

وأمّا سائر الأخبار الأخرى فلا يعلم إجمالا بصدور بعض منها أو يشك شكا بدويا في كونها صادرة عنهم ، وفي مثل هذه الحالة تجري الأصول العمليّة الترخيصيّة كالبراءة ونحوها لإثبات المعذرية والترخيص.

فتحصّل أنّ العلم الإجمالي المستدلّ به تام ومنجّز ، وبه تثبت حجيّة أخبار الثقات.

الثاني : جواب حلّي ، وحاصله : أنّ تطبيق قانون تنجيز العلم الإجمالي لا يحقق الحجيّة بالمعنى المطلوب في المقام ، وذلك :

أوّلا : لأنّ هذا العلم لا يوجب لزوم العمل بالأخبار المتكفلة للأحكام الترخيصيّة ، لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا وملزما في حالة كونه علما إجماليا بالتكليف لا بالترخيص ، بينما الحجيّة المطلوبة هي حجيّة خبر الثقة بمعنى كونه منجزا إذا أنبأ عن التكليف ، ومعذّرا إذا أنبأ عن الترخيص.

وأمّا الحلّ : فتقريبه : أنّ هذا العلم الإجمالي لو فرض تماميّة الاستدلال به فهو لا يثبت حجيّة خبر الثقة بالمعنى المراد من الحجيّة ؛ وذلك لأنّ الحجيّة معناها كون الشيء منجزا ومعذرا ، فإذا قامت الحجّة على التكليف كانت منجزة لوجوب الالتزام بهذا التكليف فعلا أو تركا ، كما لو قام خبر الثقة على وجوب التصدّق عند رؤية الهلال ، أو على حرمة شرب التتن ، وإذا قامت الحجّة على نفي التكليف كانت معذرة للمكلف إذا خالف الواقع وكان التكليف ثابتا كما لو قام خبر الثقة على نفي وجوب

ص: 265

التصدّق وكان الوجوب ثابتا في الواقع ، فإنّ المكلّف يكون معذورا لأنّه استند إلى ما هو حجّة شرعا أو تكوينا.

وفي مقامنا المطلوب هو الاستدلال على حجيّة خبر الثقة بمعنى كونه منجّزا ومعذّرا ، وأمّا العلم الإجمالي الذي ذكر دليلا على حجيّة خبر الثقة فهو لا يثبت هذه الحجيّة وإنّما يثبت المنجزية فقط دون المعذرية.

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة لو فرض كونه دائرا بين طرفين إلزاميين أو كان المعلوم بالإجمال إلزاما وتكليفا كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، أو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين فهنا يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الإتيان بالظهر والجمعة ولحرمة ارتكاب الإناءين أو أحدهما.

وأمّا إذا كان العلم الإجمالي علما إجماليا بعدم التكليف كما إذا علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين فإنّه لا يوجب الالتزام بطهارة كلا الإناءين ، أو علم إجمالا بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف أي التي تثبت الترخيص والجواز أو الاستحباب أو الكراهة ، فهنا لا يقال بكونه منجزا للدائرة التي يعلم باشتمالها على هذه الأخبار ، لأنّه من الواضح أنّ المنجزية الثابتة للعلم الإجمالي كانت لأجل الاحتياط العقلي وعدم الابتلاء بمخالفة الواقع الإلزامي ، وأمّا هنا فلا مخالفة للواقع أصلا ، لأنّه لو علم تفصيلا بهذه الأخبار النافية للتكليف لم يلزم العقل بها لأنّه يجوّز للمكلف الفعل والترك ، فلا يكون العلم الإجمالي ملزما بفعلها أو تركها ، لأنّه ليس بأحسن حالا من العلم التفصيلي.

وهكذا يتّضح أنّ العلم الإجمالي غاية ما يثبت به التنجيز فقط ، وهو جزء من الحجيّة لا الحجيّة كلّها ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.

وثانيا : لأنّ العمل بأخبار الثقات على أساس العلم الإجمالي إنّما هو من أجل الاحتياط للتكاليف المعلومة بالإجمال ، ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يسوّغ أن يجعل خبر الثقة مخصّصا لعام أو مقيّدا لمطلق في دليل قطعي الصدور ، فإنّ التخصيص والتقييد معناهما رفع اليد عن عموم العام أو إطلاق المطلق في دليل قطعي الصدور ومعلوم الحجيّة.

ص: 266

ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عمّا هو معلوم الحجيّة إلا بحجيّة أخرى تخصيصا أو تقييدا ، فما لم تثبت حجيّة خبر الثقة لا يمكن التخصيص بها أو التقييد ، فإذا ورد مطلق قطعي الصدور يدلّ على الترخيص في اللحوم مثلا ، وورد خبر ثقة على حرمة لحم الأرنب لم يكن بالإمكان الالتزام بتقييد ذلك المطلق بهذا الخبر ما لم تثبت حجيّته بدليل شرعي.

والوجه الثاني لمنع حجيّة خبر الثقة على أساس العلم الإجمالي ، أن يقال : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا للتكليف من باب الاحتياط العقلي ، حيث إنّ التكليف المنكشف إجمالا يكون موردا للاحتياط ، إذ لو ترك العمل به لاحتمل مخالفة الواقع ، فالاحتياط يقتضي العمل بالتكليف لئلا يقع المكلّف في مخالفة الواقع.

وحينئذ نقول : إنّ التخصيص أو التقييد للعموم أو الاطلاق إنّما يكونان فيما إذا كان المخصّص أو المقيّد حجّة ، لأنّ العام أو المطلق إذا كانا قطعيي الصدور بأن كانا من الكتاب أو السنّة المتواترة وكانا ظاهرين في العموم والإطلاق فإنّ هذا الظاهر حجّة ، لأنّ كل ظهور حجّة ، وبالتالي يتعيّن العمل بالعموم والإطلاق لكونهما حجّة ، ولا يجوز رفع اليد عنهما إلا إذا كان المخصّص أو المقيّد حجّة أيضا ، حيث يقع التعارض بين حجتين : إحداهما ظاهرة والأخرى نص ، ويقدم النص على الظاهر ، لأنّه قرينة على تفسير المراد من الظاهر.

وهذا يفترض أن يكون الخاص أو المقيّد كلاهما حجّة ، إمّا تكوينا أو تعبدا ، كما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يدلّ على حليّة أو إباحة كل اللحوم ، وورد خبر ثقة حجّة في حرمة لحم الأرنب ، فهنا يقال بالتخصيص أو التقييد لكون خبر الثقة حجّة تعبدا.

وأمّا إذا قلنا : إنّ خبر الثقة يجب العمل به لأجل منجزية العلم الإجمالي من باب الاحتياط العقلي فهنا مجرّد الاحتياط لا يسوّغ لنا رفع اليد عن العموم أو الإطلاق والقول بالترخيص أو التقييد ؛ لأنّ العموم والإطلاق لمّا كانا قطعيي الصدور ، وكان ظاهرهما حجّة لم يمكن رفع اليد عمّا هو حجّة بدليل لم تثبت حجيّته لا تكوينا ولا تعبّدا ، وإنّما كان العمل به لازما من باب الاحتياط العقلي ، لأنّ العمل بخبر الثقة على هذا الأساس لا يعني الحجيّة التعبديّة كما ذكرنا ؛ لأن الحجيّة التعبديّة معناها التنجيز

ص: 267

والتعذير ، والاحتياط العقلي يوجب العمل بخبر الثقة المنجّز فقط دون المعذّر ، إذ لا احتياط في العمل بخبر الثقة النافي للتكليف.

وعلى هذا ، فلا يمكن رفع اليد عن العموم أو الإطلاق لمجرّد أنّ العمل بخبر الثقة المنجّز موافق للاحتياط ، ففي المثال المذكور لا يمكن التخصيص أو التقييد بالخبر الدال على حرمة لحم الأرنب ، لأنّه لم تثبت حجيّته بعد ، بينما العموم والإطلاق حجّة ، ورفع اليد عن الحجّة لا يكون إلا بحجّة أقوى والحال أنّه لا يوجد حجّة أقوى في مفروض الكلام ، وهذا فارق عملي بين القول بحجيّة خبر الثقة تعبّدا ، وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط ومنجزية العلم الإجمالي.

اللّهمّ إلا أنّ يقال : إنّ مجموعة العمومات والمطلقات الترخيصيّة في الأدلّة القطعيّة الصدور يعلم إجمالا بطروّ التخصيص والتقييد عليها ، فإذا لم تثبت حجيّة خبر الثقة بدليل خاص فسوف لن نستطيع أن نعيّن مواطن التخصيص والتقييد ، وهذا يجعلنا لا نعمل بها جميعا تنفيذا لقانون تنجيز العلم الإجمالي.

وبهذا ننتهي إلى طرح إطلاق ما دل على حلية اللحوم في المثال والتقيّد احتياطا بما دلّ على حرمة لحم الأرنب مثلا ، وهذه نتيجة مشابهة للنتيجة التي ينتهى إليها عن طريق التخصيص والتقييد.

نعم ، قد يقال هنا : إنّ عدم التخصيص والتقييد بخبر الثقة - لأنّه ليس حجّة شرعا - يوجب أن يكون العموم والإطلاق حجّة وبالتالي لا نرفع اليد عنهما أبدا ، بل نطرح هذا الخبر الدال على التقييد أو التخصيص تمسكا بما هو حجّة وطرحا لما لم تثبت حجيّته.

وهذا المقدار لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بطروّ المقيّدات والمخصصات لكثير من العمومات والإطلاقات ، حتّى اشتهر القول : إنّه ما من عام إلا وقد خصّ. فهذا العلم الإجمالي يثبت صدور المقيّدات والمخصّصات في الشريعة ، ونحن نحتمل أن يكون هذا العلم الإجمالي موجودا ضمن دائرة أخبار الثقات الدالة على التخصيص والتقييد ، وهذا علم إجمالي منجّز يوجب الموافقة القطعيّة ، ومفاده لزوم العمل بأخبار الثقات المخصّصة والمقيّدة من باب الاحتياط العقلي ومنجزية العلم الإجمالي وبالتالي نرفع اليد عن عموم العام وإطلاق المطلق في كل مورد ثبت فيه خبر الثقة الدال على التخصيص أو التقييد.

ص: 268

ففي المثال المذكور نلتزم بحرمة لحم الأرنب لا من باب كون خبر الثقة الدال على الحرمة مخصّصا أو مقيّدا للعموم أو الإطلاق لأنّه لم تثبت حجيّته بعد ليرفع اليد به عمّا هو ثابت الحجيّة ، وإنّما نلتزم بذلك من باب الاحتياط العقلي والعلم الإجمالي الذي مفاده وجود المخصصات والمقيّدات لكثير من العمومات والمطلقات ، وحيث إنّ هذا العام والإطلاق يحتمل كون التقييد والتخصيص قد صدر له واقعا ، فلا يمكن الأخذ به ؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز لنا كل المقيّدات والمخصّصات ضمن دائرة أخبار الثقات ويوجب العمل بها تطبيقا لقانون منجزية العلم الإجمالي لكل أطرافه.

وحينئذ سوف ننتهي إلى نفس نتيجة القول بحجيّة خبر الثقة المخصّص أو المقيّد للعموم والإطلاق ، لأنّنا رفعنا اليد عن العموم والإطلاق عمليّا وإن كنّا لا نحكم بالتخصيص والتقييد لأنّه لم تثبت الحجيّة لخبر الثقة.

فيكون الفارق نظريا بين كون خبر الثقة حجّة تعبدا وبين كونه يجب العمل به احتياطا في مثل هذا المورد (1).

الشكل الثاني للدليل العقلي ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهو - لو تمّ - يثبت حجيّة الظن بدون اختصاص بالظن الناشئ من الخبر فيكون دليلا على حجيّة مطلق الأمارات الظنية بما في ذلك أخبار الثقات ، وقد بيّن ضمن مقدمات :

الشكل الثاني للدليل العقلي على حجيّة خبر الثقة : ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهذا الدليل لو تمّ فهو يثبت لنا حجيّة مطلق الظن لا خصوص الظن الناشئ من خبر الثقة ، بل الأعم منه ومن الظن الناشئ من الشهرة والإجماع المنقول والقياس وكل الأمارات الظنية ، فيكون كل ظن حجّة بحكم العقل أي أنّ العقل هو الذي يحكم بالحجيّة لمطلق الظن ، وهذا ما يسمّى بمسلك الحكومة ، أو يكون العقل كاشفا عن جعل الحجيّة لمطلق الظن شرعا أي أنّ الشارع حكم بحجيّة كل ظن والعقل كشف عن ذلك وهذا ما يسمّى بمسلك الكشف.

ص: 269


1- نعم ، تبقى مسألة الآثار واللوازم الأخرى فإنّها تثبت على القول بحجيّته لأنّه من جملة الأمارات حيث انّ مثبتات الأمارة حجّة ، بينما لا تثبت على القول بأنّه يجب العمل به احتياطا لأنّ الاحتياط يتقدّر بمقداره ، حيث إنّه احتياط عقلي والاحتياط العقلي من جملة الأدلّة اللبّية فيقتصر فيه على القدر المتيقن ولا يتعدّى إلى أكثر من ذلك.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذا الدليل يتمّ عن طريق مقدمات خمسة ، كما رتّبها صاحب ( الكفاية ) ، وهي :

الأولى : إنّا نعلم إجمالا بتكاليف شرعية كثيرة في مجموع الشبهات ، ولا بدّ من التعرض لامتثالها بحكم تنجيز العلم الإجمالي.

المقدّمة الأولى : وجود علم إجمالي منجّز وبيانه :

إنّنا إذا لاحظنا دائرة الشبهات يحصل لنا علم إجمالي بوجود تكاليف شرعيّة صادرة من المعصومين ضمن دائرة هذه الشبهات ، لأنّها تتضمن أحكاما إلزاميّة وجوبا أو تحريما.

وحيث إنّ هذه الأحكام والتكاليف موجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات فيجب بحكم العقل امتثال هذه الأحكام ، وحيث إنّها معلومة إجمالا لا تفصيلا والعلم الإجمالي منجّز فيجب امتثال كل الأحكام الإلزاميّة الموجودة في هذه الشبهات تحصيلا للبراءة اليقينية بفراغ الذمة وخروجها عن عهدة الامتثال والطاعة.

الثانية : إنّه لا يوجد طريق معتبر - لا قطعي وجداني ولا تعبدي قام الدليل الشرعي الخاص على حجيّته - يمكن التعويل عليه في تعيين مواطن تلك التكاليف ومحالّها ، وهذا ما يعبّر عنه بانسداد باب العلم والعلمي.

المقدّمة الثانية : أنّ تحصيل العلم الوجداني بهذه الأحكام والتكاليف الموجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات لا يمكن لأنّه من الواضح جدا أنّ الأحكام والتكاليف المعلومة قطعا ووجدانا قليلة جدا بالنسبة لمجموع الأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنّه قادر على تحصيل العلم الوجداني بكل هذه الأحكام ؛ لأنّ أكثرها أو جلّها واردة في طرق غير قطعية السند والصدور ، حيث إنّ الأحكام والتكاليف الموجودة في الكتاب الكريم والسنّة المتواترة قليلة جدا كما هو واضح لمن تأمل ذلك ، فالعلم الوجداني لا يمكن التعويل عليه لتحصيل كل الأحكام والتكاليف.

وأمّا العلم التعبّدي أي الطريق الخاص الذي جعله الشارع حجّة لاستكشاف الأحكام والتكاليف عن طريقه ، فهذا أيضا غير موجود لعدم ثبوت مثل هذا الدليل الخاص في موردنا - كما هو المفروض - بمعنى أنّه يدعى عدم قيام الدليل القطعي

ص: 270

الخاص على حجيّة هذه الطرق الخاصّة التي يدعى أنّها مجعولة من الشارع ، وما يذكر من أدلة على ذلك كلّها ظنيّة لا توجب العلم.

وهذا معناه أنّ باب العلم الوجداني وباب العلم التعبّدي منسدّان لا يمكن التعويل عليهما في تشخيص الأحكام والتكاليف الشرعيّة الموجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات ، وهذه المقدّمة تسمّى بانسداد باب العلم والعلمي أي انسداد باب العلم الحقيقي الوجداني وباب العلمي أي ما جعله الشارع كالعلم أي العلم التعبّدي (1).

الثالثة : أنّ الاحتياط بالموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور في المقدّمة الأولى غير واجب ، لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج نظرا إلى كثرة أطراف العلم الإجمالي.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذا العلم الإجمالي المنجّز لمجموع الأحكام والتكاليف ضمن دائرة الشبهات لا يمكن موافقته القطعيّة ، وذلك عن طريق الاحتياط العقلي في كل شبهة من الشبهات الالزاميّة ، لأنّ هذا الاحتياط يؤدّي إلى العسر والحرج ، إذ لا يمكن للإنسان أن يحتاط في كل هذه الشبهات ، لأنّها كثيرة جدا تخرج عن حدّ الحصر ، ولذلك لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط التام في كل الشبهات الدالة على الإلزام لهذا المحذور.

مضافا إلى أنّ الشريعة الإسلامية يعلم أنّها غير مبتنية على الاحتياط بمعنى أنّها لا تتبنى الاحتياط كمسلك عام يسلكه الناس جميعا في كل الشبهات ، لأنّها شريعة سمحاء مبتنية على التخفيف والتوسعة على الناس ، ورفع الحرج والمشقّة والضيق عنهم ، والحال أنّ سلوك الاحتياط التام يؤدّي إلى خلاف روح هذه الشريعة (2).

ص: 271


1- وهذه المقدّمة هي الأساس الذي يبتني عليه دليل الانسداد ، إذ لو قيل بانفتاح باب العلمي أي لو ثبت قيام الدليل القطعي الخاص على حجيّة بعض الأمارات والطرق لكان التعويل عليها في اكتشاف الأحكام والتكاليف ضمن تلك الشبهات ، ولذلك تكفي هذه المقدّمة عن سائر المقدّمات.
2- وثالثا : أنّ الاعتماد على الاحتياط التام في سائر الشبهات لكل الناس يؤدّي إلى اختلال النظام الاجتماعي للناس لما يحتويه من التوقف والإرجاء والتكرار والتريث في كثير من المواقف والموارد التي لا تتحمل بطبيعتها ذلك. ورابعا : يؤدّي إلى عدم حصول الترخيص والإباحة ونحوهما من الأحكام الترخيصيّة ، لأنّ المكلّف سوف يحتاط دائما في كل شبهة يحتمل فيها التكليف الإلزامي ، وهذا الأمر موجود في كل مورد ، لأنّه لن يحصل على العلم الوجداني كما هو المفروض سابقا.

الرابعة : أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة في كل شبهة بإجراء البراءة ونحوها ، لأنّ ذلك على خلاف قانون تنجيز العلم الإجمالي.

المقدّمة الرابعة : إنّه اذا لم يمكن التعويل على الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج ، إلا أنّه مع ذلك لا ينحل هذا العلم الإجمالي ولا تبطل منجزيته ، وهذا معناه أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والطهارة والحلية والتخيير واستصحاب عدم التكليف ، لأنّ جريان مثل هذه الأصول يؤدّي إلى الترخيص في كل شبهة من الشبهات ، وبالتالي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وحيث إنّنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزامية ضمن هذه الشبهات ، فجريان الأصول الترخيصيّة فيها جميعا يؤدّي إلى ترك التكليف المعلوم بالإجمال ، وهذا ممنوع عقلا.

مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي نفسه يقتضي عدم جريان الأصول الترخيصيّة في أطرافه ، لأنّها قد تنجّزت به ومعه لا مجال لجريان الأصول ، لأنّها إنّما تجري في الشبهات التي لم تتنجز بعد.

وثالثا : أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كل الشبهات معناه أنّه لا توجد أحكام إلزامية وجوبية أو تحريمية ، وهذا بديهي البطلان.

الخامسة : أنّه ما دام لا يجوز إهمال العلم الإجمالي ، ولا يتيسّر تعيين المعلوم الإجمالي بالعلم والعلمي ، ولا يراد منا الاحتياط في كل واقعة ، ولا يسمح لنا بالرجوع إلى الأصول العمليّة ، فنحن إذن بين أمرين : إمّا أن نأخذ بما نظنه من التكاليف ونترك غيرها ، وإمّا أن نأخذ بغيرها ونترك المظنونات ، والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن الأوّل.

وبهذا يثبت حجيّة الظن بما في ذلك أخبار الثقات.

المقدّمة الخامسة : وهي النتيجة للمقدمات السابقة حيث يقال : إنّه ما دام هناك علم إجمالي منجّز للتكاليف ضمن دائرة الشبهات كلّها ، وهذا العلم الإجمالي لا يجوز إهماله لأنّه كما تقدّم يؤدّي إلى إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال ، وما دام هذا المعلوم بالإجمال لا يمكن تعيينه لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبّدي لانسدادهما كما هو المفروض ، وما دام الاحتياط غير ممكن لاستلزامه العسر والحرج ،

ص: 272

ولأنّه غير مطلوب شرعا ، وما دام لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة الترخيصيّة لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

إذن يدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما : إمّا أن نعمل بالظن الحاصل من كل شبهة نواجهها.

وإمّا أن نعمل بالاحتمال المقابل للظن ، لأنّ كل ظن يقابله احتمال مخالف لما يظن.

ومن الواضح أنّ العمل بالظن هو المتعيّن لأنّ العمل بالاحتمال المقابل له معناه ترجيح الاحتمال الموهوم على الاحتمال الراجح ، وهذا قبيح عقلا ؛ ولأنّ العمل بالمظنون أقرب من العمل بالوهم من حيث المطابقة والإصابة للواقع ، ولأنّ الظن في حالة الانسداد يصبح كالعلم الوجداني حالة الانفتاح من حيث كونه طريقا لمعرفة الأحكام والتكاليف بناء على الحكومة ، وبناء على الكشف كذلك ، إذ لا يعقل أن يجعل الشارع الحجيّة للموهوم والمشكوك دون المظنون ، لأنّ كاشفيّة الظن أقوى من كاشفيتهما.

فإذا تمّت هذه المقدّمات ثبت أنّ الظن مطلقا هو الطريق الذي يعوّل عليه لمعرفة الأحكام ، وحيث إنّ خبر الثقة يحتمل كونه حجّة تعبّدا فهو القدر المتيقن من جملة الظنون ولذلك يقدم على غيره ويكون العمل به هو المتعيّن دون سائر المظنونات ، لأنّه كلما كان هناك قدر متيقن في مقام الشك أخذ به خصوصا مع كون الدليل العقلي المذكور دليلا لبّيا والدليل اللبّي يقتصر في الأخذ به على القدر المتيقن وهو خبر الثقة ؛ لأنّه إمّا حجّة تعبدا وإمّا حجّة مطلقا.

وأمّا إذا لم تحتمل الحجيّة التعبديّة لخبر الثقة فهو كغيره من الطرق الظنيّة يكون حجّة لحجيّة مطلق الظن ، وبالتالي تثبت الحجيّة لكل الأمارات الظنية الأخرى ويجب الأخذ بها جميعا.

ونلاحظ على هذا الدليل :

أوّلا : إنّه يتوقّف على عدم قيام دليل شرعي خاص على حجيّة خبر الثقة ، وإلا كان باب العلمي مفتوحا وأمكن بأخبار الثقات تعيين التكاليف المعلومة بالإجمال ، فكأن دليل الانسداد ينتهى إليه حيث لا يحصل الفقيه على أيّ دليل شرعي خاص يدلّ على حجيّة بعض الأمارات الشائعة.

ص: 273

الجواب عن هذا الدليل : أولا : المنع من المقدّمة الثانية التي هي عمدة الاستدلال بهذا الدليل.

وتوضيح ذلك : أنّه ادعي في المقدّمة الثانية أنّ باب العلم الوجداني منسدّ ، فهذا وإن سلّم به لقلة موارد القطع والعلم التكويني في كثير من الفروع والتفصيلات ، إلا أنّ باب العلم التعبّدي مفتوح ، بمعنى أنّ الشارع قد جعل بعض الطرق والأمارات الكاشفة كشفا ظنيا عن الواقع حجّة شرعا وأنّه يجوز التعويل عليها لاكتشاف أحكام الشارع ، كما هو الحال بالنسبة للظهورات ولخبر الثقة اللذين هما أهم الطرق والأمارات الظنية وعليهما العمدة في اكتشاف مراد الشارع وأحكامه وتكاليفه.

وعلى هذا فلا يتمّ هذا الدليل لأنّه متوقّف على تماميّة هذه المقدّمة التي لا مجال للتسليم بها أبدا ، فإنّ الدليل القطعي قد قام على حجيّة الظهور وخبر الثقة سواء من الشارع ابتداء كالآيات والأخبار التي يقطع بصدور بعضها أو إمضاء كالسيرة العقلائيّة القائمة على العمل بهذين الطريقين في مرأى ومسمع من الشارع ولم يردع عنهما.

نعم ، لو فرضنا عدم تماميّة شيء من الطرق والحجج والأمارات ولم يقم الدليل القطعي الخاص على حجيّتها والتعبد بها لأمكن المصير إلى هذا الدليل بعد تماميّة سائر المقدّمات الأخرى.

وبهذا اتّضح أنّ الاستدلال بدليل الانسداد على حجيّة مطلق الظن متوقّف على القول بانسداد الطريق العلمي التعبّدي وأنّه لا يوجد دليل خاص يدلّ على حجيّته شرعا ، وقد عرفت قيام هذا الدليل.

وثانيا : أنّ العلم الإجمالي المذكور في المقدّمة الأولى منحلّ بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات كما تقدّم ، والاحتياط التام في حدود هذا العلم الإجمالي ليس فيه عسر ومشقة.

وثانيا : المنع من المقدّمة الأولى ، فإنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بعلم إجمالي أصغر منه مع توفر كلا الشرطين للانحلال.

وبيان ذلك : إنّا وإن كنّا نعلم بوجود عدد كبير من التكاليف ضمن دائرة الشبهات

ص: 274

كلّها ، إلا أنّنا لو أخذنا أخبار الثقات في مختلف الأبواب الفقهية لوجدنا إنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير منها لا يقل عن العدد المعلوم إجمالا في العلم الإجمالي الكبير ، وحيث إنّ أخبار الثقات داخلة في العلم الإجمالي الكبير أيضا فينحل هذا العلم ، وبالتالي تبطل منجزيته الشاملة لمجموع الشبهات ، ويصبح العلم الإجمالي الصغير الذي دائرته خصوص أخبار الثقات هو المنجّز فقط.

وحينئذ ، فغاية ما يقتضيه هذا العلم الإجمالي هو وجوب الموافقة القطعيّة لكل أطراف دائرة أخبار الثقات تبعا لمنجزيته العقلية فيجب الاحتياط بالأخذ بالتكاليف التي تتضمنها أخبار الثقات وهذا الاحتياط لا مانع منه ولا محذور فيه ، لأنّ دائرة أخبار الثقات أطرافها يمكن الاحتياط فيها ، إذ لا عسر ولا مشقة في ذلك ، ولأنّ الاحتياط فيها لا يلازمه وجوب الاحتياط في كل الشبهات لأنّ سائر الشبهات الأخرى تصبح مشكوكة شكا بدويا فتكون مجرى للأصول الترخيصيّة ، وبالتالي لن يكون الاحتياط هو المسلك والطريق الذي تعتمده الشريعة الإسلامية ، وإنّما هناك طرق أخرى يسلكها المكلّف في سائر الشبهات. فإذا مثل هذه الاحتياط ممكن عقلا ، ومطابق للشريعة أيضا.

وعلى هذا فلا يثبت حجيّة مطلق الظن في سائر الشبهات كما هو المدّعى في هذا الدليل ، وإنّما خصوص الظن الناشئ من خبر الثقة فقط ، ضمن دائرة أخبار الثقات.

وثالثا : إنّا إذا سلّمنا عدم وجوب الاحتياط التام - لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج - فهذا إنّما يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط بالقدر الذي يندفع به العسر والحرج ، مع الالتزام بوجوب سائر مراتبه ، لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، فيكون الأخذ بالمظنونات حينئذ باعتباره مرتبة من مراتب الاحتياط الواجبة ، وأين هذا من حجيّة الظن؟!

وثالثا : أنّ عدم وجوب الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج إنّما هو فيما إذا كان المقصود من الاحتياط الاحتياط الكامل والتام في سائر الشبهات ، فإنّ هذا يؤدّي إلى العسر والحرج وهما منفيان شرعا ، إلا أنّ نفيهما شرعا ليس معناه نفي الحكم لا حقيقة ولا ادعاء ، وإنّما معناه رفع اليد عن إطلاق الحكم لحالة يكون فيها ضرر أو حرج. وهذا

ص: 275

معناه أنّه لا إطلاق للأحكام الشرعيّة لحالتي العسر والحرج ، لا أنّه لا حكم أصلا في هذين الموردين.

وعلى هذا فيكون المنفي هو الاحتياط التام والكامل أي المرتبة العليا من الاحتياط الشاملة لكل الشبهات والوقائع والحوادث ، لأنّه القدر المتيقن من لزوم العسر والحرج.

وأمّا سائر المراتب الأخرى من وجوب الاحتياط والتي لا عسر ولا حرج فيها فتبقى على حالها من وجوب الاحتياط فيها ، إذ لا عسر ولا حرج ليرفع اليد عنها.

ومن الواضح : أنّ الضرورات تقدر بقدرها لا بأزيد من ذلك ، فإذا كان هناك محذور من الأخذ بالاحتياط فهو في الاحتياط الكامل والتام الشامل لكل الشبهات دون غيره من المراتب الأخرى ، فإنّه لا محذور فيها فيجب الأخذ بالاحتياط في مواردها.

وحينئذ يجب الأخذ بما يظن أنّه الحكم الشرعي الواقعي من باب الاحتياط لا من باب حجيّة مثل هذا الظن.

وفرق كبير بين القول بحجيّة مطلق الظن الشامل بإطلاقه للظن بالتكليف والظن بعدمه ، وبين القول بوجوب الأخذ بالظن من باب الاحتياط العقلي ، فإنّه يختص فيما إذا ظن بالتكليف فقط ، لأنّه يوافق الاحتياط العقلي ، وأمّا إذا ظن بعدم التكليف فلا يكون هذا الظن موافقا للاحتياط العقلي إذ لا احتياط بترك التكليف كما هو واضح.

وهذا معناه لزوم العمل بخصوص الظن بالتكليف أي الظن الذي يكون منجّزا للحكم لا الأعم منه ومن الظن المعذّر أيضا ، وهذا المعنى لا يساوق ولا يلازم الحجيّة ، لأنّ الحجيّة معناها المنجزية والمعذرية على حدّ سواء ، فكان هذا الدليل أخصّ من المدّعى فلا يتمّ المطلوب.

اللّهم إلا أن يدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة على أساس الاحتياط ، فإذا ضمّت هذه الدعوى أمكن أن نستكشف حينئذ أنّه جعل الحجيّة للظن.

اللّهم إلا أن يدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لم يجعل الاحتياط كطريق عام يسلكه الناس جميعا في سائر الشبهات وفي مختلف الأبواب الفقهية وفي شتّى ميادين الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والقضاء والحدود وغيرها.

فإنّ المتتبّع للشريعة الإسلامية ولمفاهيمها وعقائدها يحصل له القطع بأنّ الإسلام

ص: 276

دين الحياة بمختلف نواحيها وميادينها وقد سنّ القوانين والقواعد والأحكام العامّة والكليّة لبني البشر جميعا على أساس الملاكات والمبادئ والمصالح والمفاسد والاحتياط إنّما جعل في بعض الأبواب والفروع فقط ، ولم يجعل الاحتياط واجبا وطريقا ومسلكا لمعرفة الأحكام الشرعيّة جميعا ، وإنّما جعل الاحتياط حسنا فقط.

وهذه الدعوى لا يبعد صحتها فإنّ الشارع لا يرضى بكون الاحتياط هو الأسلوب الوحيد للتعامل مع أحكامه لأنّ الشريعة سهلة سمحاء ، ولأنّها مبنية على التخفيف والتوسعة في كثير من الحالات ، فهذا كلّه يجعلنا نستبعد أن يكون العمل بالمظنونات كان لأجل موافقتها للاحتياط كما ذكرنا آنفا ، وإنّما كان العمل بالمظنونات من أجل حجيّة الظن وكاشفيّته عن الواقع ولو كشفا ناقصا ، ولذلك إمّا أن يكون العمل بالظن قد ثبت بشكل مطلق من الشارع ، وإمّا أن يكون العمل به قد ثبت بنحو خاص ، والأوّل يتوقّف على تماميّة مثل هذه الدليل والذي تقدّم النقاش في كثير من مقدماته ، والثاني هو المدّعى في خصوص الظهورات وخبر الثقة.

وعلى كلا التقديرين فالعمل بالظن لأجل كاشفيّته وحجيّته إما عقلا وإما تعبدا وإما بنحو مطلق وإما بنحو خاص ، وليس التعويل على الظن من باب كونه احتياطا لأنّ الاحتياط يقطع بكونه غير مطابق لروح الشريعة الإسلامية السمحاء.

وقد تلخص من استعراض أدلة الحجيّة أنّ الاستدلال بآية النبأ تام ، وكذلك بالسّنة الثابتة بطريق قطعي كسيرة المتشرّعة والسيرة العقلائيّة.

وإلى هنا نخلص بنتيجة مفادها : أنّ خبر الواحد حجّة لقيام الدليل الشرعي الخاص على حجيّته سواء من الكتاب الكريم كآية النبأ التي مفادها حجيّة خبر العادل الذي هو قسم من خبر الواحد ، أو من السنّة الشريفة القطعيّة الثابتة بسيرة المتشرّعة أو سيرة العقلاء القائمتين على العمل بخبر الثقة (1).

وبهذا يتمّ الدليل الخاص على انفتاح باب العلمي المانع من تماميّة الاستدلال بدليل الانسداد المبتني على انسداد باب العلمي كما تقدّم.

ص: 277


1- وأمّا الإجماع فلا يمكن ادعاء كونه قائما على العمل بخبر الثقة ليجعل دليلا على حجيّته ، لأنّ الإجماع على خبر الثقة لا يمكن ادعاؤه مع وجود المخالف له بل مع وجود الإجماع على خلافه أيضا كما ادعاه البعض ، ولذلك لا يمكن جعله دليلا في المقام.

ص: 278

المرحلة الثانية في تحديد دائرة حجيّة الأخبار
اشارة

ص: 279

ص: 280

المرحلة الثانية

في تحديد دائرة حجيّة الأخبار

ونأتي الآن إلى المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها.

والتحقيق في ذلك : أنّ مدرك حجيّة الخبر إن كان مختصا بآية النبأ فهو لا يثبت سوى حجيّة خبر العادل خاصّة ، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل ، وأمّا إذا لم يكن المدرك مختصا بذلك ، وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات أيضا على ما تقدّم فلا شكّ في وفاء السيرة والروايات بإثبات الحجيّة لخبر الثقة ولو لم يكن عادلا.

المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجيّة ، فبعد أن ثبت في المرحلة الأولى أنّ خبر الواحد حجّة ، نأتي الآن لتحديد المراد والمقصود من خبر الواحد ، بمعنى أنّه هل يشمل كل خبر سواء كان فاسقا أم عادلا ، أو يختصّ بخبر العادل فقط؟

والتحقيق في ذلك أنّه لا بدّ من الرجوع إلى المدرك والدليل الذي نعتمد عليه في المرحلة الأولى لنرى مفاده وهل هو شامل لكل خبر أو لخصوص بعض أقسامه فقط؟

ولذلك نقول : إن كان المدرك والدليل على حجيّة خبر الواحد مختصا بآية النبأ فقط ولم يتمّ شيء من الآيات الأخر كآيتي الكتمان والنفر ولم يتمّ شيء من الروايات ولا السنّة أصلا ولا دليل العقل.

فحينئذ إذا لاحظنا الآية المذكورة نجد أنّ منطوقها كان نفي الحجيّة عن خبر الفاسق ، فيكون مفهومها حجيّة خبر العادل ، وهذا العنوان أخص من خبر الثقة وخبر الواحد ، بمعنى أنّه لا يثبت بهذا المفهوم إلا خبر الواحد العادل لا مجرّد الثقة فقط ، فإنّ النسبة بين عنواني الثقة والعادل عموم وخصوص مطلق ، فإنّ الثقة هو الذي لا

ص: 281

يكذب ولكنّه قد يكون فاسقا ، والعادل هو الذي يكون عادلا من جميع الجهات بما في ذلك الكذب وغيره ، ولذلك إذا أحرز وصف العدالة فوصف الثقة محرز فيه قطعا ، بينما إذا أحرز وصف الثقة فليس بالضرورة إحراز وصف العدالة فيه لأنّه أعم ، ولذلك لا يشمل خبر العادل خبر الثقة.

وأمّا إن كان المدرك والدليل على حجيّة خبر الواحد آية النبأ وغيرها من الآيات والروايات والسنّة المستكشفة بالسيرة سواء سيرة المتشرّعة أم سيرة العقلاء ، فهنا يكون مفاد هذا المدرك حجيّة خبر الثقة الأعم من الفاسق والعادل لا خصوص خبر العادل ، لأنّ عنوان الثقة كان مأخوذا في مفاد بعض ألسنة الروايات كما تقدّم في الطائفة العاشرة من الأخبار التي استدل بها على الحجيّة ، ولأنّ السيرة بقسميها قائمة على العمل بخبر الثقة لأنّه المناط والملاك في قبول خبره وردّه.

ولو كان المدرك لحجيّة خبر الواحد دليل العقل بأحد تقريبيه فهو يثبت حجيّة الظن إما ضمن دائرة أخبار الثقات كما هو مقتضى التقريب الأوّل ، وإما ضمن دائرة مطلق الشبهات الشاملة لمطلق الخبر كما هو مقتضى دليل الانسداد.

ومن هنا قد توقع المعارضة بالعموم من وجه بين ما دلّ على حجيّة خبر الثقة الشامل بإطلاقه للثقة الفاسق ، ومنطوق آية النبأ الدال بإطلاقه على عدم حجيّة خبر الفاسق ولو كان ثقة ، وقد يقال حينئذ بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة عدم حجيّة خبر الثقة الفاسق ، إذ لم يتمّ الدليل على حجيّته.

وعلى أساس اختلاف المدرك لحجيّة خبر الواحد ، حيث إنّ آية النبأ تثبت حجيّة خبر العادل ، بينما الآيات الأخر والسنّة تثبت حجيّة خبر الثقة ، قد يقال بوقوع التعارض بينهما في مادة الاجتماع ، لأنّ النسبة بين هذين المدركين هي العموم والخصوص من وجه ، فآية النبأ تثبت بمفهومها حجيّة خبر العادل ، وبمنطوقها تنفي الحجيّة عن خبر الفاسق ، وهذا المنطوق شامل للفاسق من جهة الكذب الخبري ومن سائر الجهات أيضا ، بمعنى أنّ المنطوق ينفي الحجيّة عن كل خبر فاسق حتّى وإن كان ثقة من حيث الإخبار.

بينما الأدلّة الأخرى تثبت حجيّة خبر الثقة سواء كان عادلا من سائر الجهات أم غير عادل.

ص: 282

فيجتمعان في خبر الثقة الفاسق من سائر الجهات غير الكذب الإخباري ، فآية النبأ بمنطوقها تنفي الحجيّة عنه ، بينما الأدلّة الأخرى تثبت الحجيّة له ، وحينئذ يتعارضان ويحكم بتساقطهما ؛ إذ لا مرجّح لأحدهما على الآخر ، وبعد تساقطهما يرجع إلى الأصول الأوليّة في المقام حيث يشك في أنّ خبر الثقة الفاسق هل هو حجّة أم لا؟

وفي مثل هذا الأصل عدم الحجيّة ، كما تقدّم سابقا لأنّ القاعدة الأولية عند الشك في الحجيّة هو عدمها حتّى تثبت الحجيّة بدليل خاص معتبر ، وهذا الدليل الخاص لم يتمّ كما هو المفروض لوجود المعارض له.

وأمّا خبر الثقة العادل فآية النبأ تثبت حجّيته ، وكذلك سائر الأدلّة الأخرى ، فيؤخذ به بالخصوص.

ولكن الصحيح أنّه لا إطلاق في منطوق الآية الكريمة لخبر الثقة الفاسق ، لأنّ التعليل بالجهالة يوجب اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهة ، وهذا يختص بخبر غير الثقة ، فلا تعارض إذن ، وبذلك يثبت حجيّة خبر الثقة دون غيره.

والصحيح أنّه لا تعارض بين منطوق آية النبأ وبين ما دلّ على حجيّة خبر الثقة ، وذلك لأنّ منطوق آية النبأ مختص بخبر الفاسق الذي يكون فسقه ناتجا عن الكذب ، فلا إطلاق فيها للفاسق الكاذب وغيره ، ولذلك تكون بمفهومها دالة على حجيّة خبر العادل بمعنى حجيّة خبر غير الفاسق ، والوجه في ذلك أحد أمرين :

الأوّل : مناسبات الحكم والموضوع التي يستفاد منها أنّ التوقف والتّبين إنّما كان بملاك الكذب في الخبر لا مطلقا ، خصوصا أنّ اصطلاح الفسق بما يشمل سائر الجهات لم يكن شائعا ومعروفا فيحمل على معناه اللغوي وهو الكذب.

الثاني : التعليل بالجهالة في ذيل الآية فإنّ العلّة تعمّم أو تخصّص الحكم ، وحيث إنّ التعليل في وجه رفض حجيّة خبر الفاسق ووجوب التّبين عنه كان بسبب الجهالة التي هي بمعنى الطيش والسفاهة وعدم الاتزان كان معنى ذلك أنّ التعليل يضيّق دائرة الحكم ويخصّصها في خبر الفاسق الذي يوجب هذه الأمور.

ومن الواضح أنّ خبر الفاسق إنّما يوجب ذلك فيما إذا كان كاذبا لا مطلقا ، فيكون

ص: 283

المقصود خصوص الفسق في الإخبار الذي هو الكذب ؛ إذ لا سفاهة في العمل بخبر الثقة الفاسق من سائر الجهات ، وعليه فلا تعارض بين هذين المدركين ، بل هما متفقان على حجيّة خبر الثقة حتّى وإن كان فاسقا من سائر الجهات الأخرى ، فيؤخذ به بلا إشكال.

وهل يسقط خبر الثقة عن الحجيّة إذا وجدت أمارة ظنيّة نوعيّة على كذبه؟

وهل يرتفع خبر غير الثقة إلى مستوى الحجيّة إذا توفرت أمارة من هذا القبيل على صدقه؟

فيه بحث وكلام ، وقد تقدّم موجز عن تحقيق ذلك في الحلقة السابقة.

ثمّ إنّه يوجد هنا مطلبان :

المطلب الأوّل : لو فرض وجود خبر واجد لشروط الحجيّة بأن كان عادلا أو ثقة ، وقامت أمارة ظنيّة نوعيّة على خلافه ، وأنّ مضمونه كاذب كما لو قامت الشهرة الفتوائية على خلافه ، فهل يسقط مثل هذا الخبر عن الحجيّة أم لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف تفسير الوثاقة المأخوذة في شروط الحجيّة ، فهل الوثاقة المأخوذة فيه بنحو الطريقية أم أنّها بنحو الموضوعية؟

فإنّ قيل بأنّها مأخوذة على وجه الطريقية وبما هي سبب لحصول الوثوق بالصدق وبصحّة قوله وما يرويه ، فهنا تكون الأمارة الظنية على خلاف الخبر موجبة لضعفه وتسقطه عن الحجيّة ، من قبيل إعراض المشهور عن العمل بالخبر الصحيح ، فإنّ إعراضهم يعتبر قرينة ظنيّة نوعيّة على عدم صحّة ما يرويه وإن كان واجدا لشرائط الحجيّة ؛ وذلك لأنّ طريقيته تسقط ولا توجب الوثوق بالصدق.

وإن قيل : إنّها مأخوذة على نحو الموضوعية فهذا يعني أنّ المدار على كون الخبر واجدا لشرائط الحجيّة فقط بقطع النظر عن كونها تفيد الوثوق أو لا ، وعلى هذا فلا يكون إعراض المشهور أو قيام قرينة ظنيّة على خلافه موجبا لوهنه وسقوطه ، بل يبقى على حجيّته.

والصحيح هو الأوّل ، لأنّ بناء العقلاء الذي هو المدرك الأساسي في حجيّة الخبر قائم على أساس نكتة الكاشفيّة ، فمع وجود القرينة الظنية المعاكسة تسقط هذه الكاشفيّة أو يوجد لها معارض وهو كاف في منع كاشفيتها.

ص: 284

المطلب الثاني : لو فرض وجود خبر غير واجد لشرائط الحجيّة ، بأن كان خبر غير ثقة ، ولكن قامت بعض القرائن الظنية النوعيّة على صدقه بأن عمل المشهور به ، فهل يوجب عملهم به ارتفاعه إلى مستوى الحجيّة أم لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف المبنى كما تقدّم ، فإنّ كانت الوثاقة المأخوذة شرطا في الحجيّة بنحو الموضوعية فلا ينفع موافقة هذا الخبر للأمارة المذكورة ، لأنّ الوثاقة غير محرزة ، وإن كانت بنحو الطريقية كانت هذه الأمارة موجبة لجبر ضعف الخبر كما هو المشهور.

والصحيح أنّه يبنى على الكاشفيّة ، وحيث إنّ الخبر المذكور لا كاشفيّة فيه فلا ينفعه وجود قرينة ظنيّة على صدقه. نعم ، إذا أوجبت هذه القرينة الاطمئنان الشخصي بمفاد الخبر فيعمل به من باب حجيّة مثل هذا الاطمئنان لكون الخبر صار حجّة شرعا.

ولا شكّ في أنّ أدلة حجيّة خبر الثقة والعادل لا تشمل الخبر الحدسي المبني على النظر والاستنباط ، وإنّما تختص بالخبر الحسي المستند إلى الإحساس بالمدلول كالإخبار عن نزول المطر ، أو الإحساس بآثاره ولوازمه العرفية كالإخبار عن العدالة.

وعلى هذا فقول المفتي ليس حجّة على المفتي الآخر بلحاظ أدلة حجيّة خبر الثقة لأنّ إخباره بالحكم الشرعي ليس حسيا بل حدسي واجتهادي. نعم ، هو حجّة على مقلديه بدليل حجيّة قول أهل الخبرة والذكر.

الإخبار الحدسي :

ثمّ إنّ أدلّة حجيّة خبر الثقة أو خبر العادل هل تختص فقط بالإخبار الحسي ولا تشمل الإخبار الحدسي أم لا؟

والجواب على ذلك أن يقال : إذا كان مستند الإخبار هو الحدس والاستنتاج والاستنباط والاعتماد على الفكر والنظر والبرهان والدليل لم يكن مثل هذا الإخبار داخلا في نطاق موضوع أدلة الحجيّة ؛ لأنّ الوثاقة المأخوذة مناطا في القول بحجيّة الخبر إنّما كانت من أجل كاشفيّة مثل هذا الخبر عن الواقع وعن صدقه وصحته بعد استبعاد الغفلة والخطأ والاشتباه ، والحال أنّ الغفلة والخطأ والاشتباه في الاستنتاج

ص: 285

والاستنباط لا يمكن استبعادها لكثرة الوقوع في الخطأ في الحدسيّات ، ولذلك لم يكن مشمولا لأدلة الحجيّة.

بخلاف ما إذا كان مستند الإخبار هو الحس إمّا بنحو مباشر كالاخبار عن نزول المطر المستند إلى النظر واللمس ونحوه فهذا داخل يقينا في موضوع الحجيّة كالسماع أيضا ، لأنّ أصالة عدم الغفلة والاشتباه والخطأ تجري هنا بلا إشكال ، إذ يستبعد الخطأ في ذلك إلا نادرا ، فالكاشفية محفوظة هنا ، وكذلك الأخبار المستند إلى آثار ولوازم الحس كالعدالة المستندة إلى لوازم وقرائن حسية كالمواظبة على فعل الطاعات وترك المحرمات فإنّها أيضا وإن كانت مستنتجة وحدسية ولكن مدركها ومنشؤها هو الحس ، فالكاشفية محفوظة فيها أيضا.

وعلى هذا الأساس تتفرّع مسألة وهي : أنّ إخبار المجتهد أو المفتي أو القاضي ليس حجّة على مجتهد آخر ، لأنّ إخباره عن الحكم ليس حسيا بل هو حدسي واجتهادي مبني على نظره واستنتاجه واستنباطه ، فلا يكون مشمولا لأدلة الحجيّة المستفادة من الآيات والروايات والسيرة. نعم ، يمكن القول بحجيّة قول المجتهد على مجتهد آخر لأدلة الحكومة والولاية ، فإنّ حكم الحاكم نافذ حتّى على حاكم آخر ، بمقتضى الأدلّة الخاصّة في المقام ، وليس بمقتضى أدلة حجيّة خبر الثقة.

ويستثنى أيضا من عدم الحجيّة مقلّدوه ، فإنّ قول المجتهد حجّة على مقلّديه ، ولكن لا من باب حجيّة خبر الثقة ؛ لأنّه خبر حدسي ، وإنّما من باب الأدلّة الخاصّة الدالة على وجوب التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم كآية الذكر والسيرة العقلائيّة والمتشرعية وحكم العقل.

ومن أجل ذلك يقال بأنّ الشخص إذا اكتشف بحدسه واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معيّن من العلماء على الفتوى فأخبر بقول المعصوم استنادا إلى اتفاق ذلك العدد لم يكن إخباره حجّة في إثبات قول المعصوم ، لأنّه ليس إخبارا حسّيا عنه ، وإنّما يكون حجّة في إثبات اتفاق ذلك العدد من العلماء على الفتوى - إذا لم يعلم منه التسامح عادة في مثل ذلك - لأنّ إخباره عن اتفاق هذا العدد حسي ، فإنّ كان اتفاق هذا العدد يكشف في رأينا عن قول المعصوم استكشفناه وإلا فلا.

ص: 286

ويترتّب على ما ذكرنا من أنّ أدلة حجيّة خبر الثقة تختص بالخبر الحسي لا الحدسي.

مسألة أخرى ، وهي : أنّه إذا اكتشف شخص من خلال استنتاجه ونظره واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معيّن من العلماء أقل من الإجماع على فتوى ما ، فأخبرنا بقول المعصوم بذلك مستندا في إخباره عن قول المعصوم إلى اتفاق هذا العدد المعيّن من العلماء ، فهل يكون إخباره هذا حجّة أم لا؟

الصحيح أنّ مثل هذا الإخبار لا يكون حجّة ولا تشمله أدلة حجيّة خبر الثقة ، لأنّ إخباره بقول المعصوم لم يكن مستندا إلى الحس أو إلى شيء من لوازم وآثار الحس ، وإنّما كان مستندا إلى الاجتهاد والنظر والحدس ولذلك لا يكون داخلا في موضوع أدلة حجيّة خبر الثقة ، فلا يقبل قوله هذا.

نعم يقبل قوله في وجود هذا الاتفاق ، فإنّ إخباره عن قول المعصوم كان مستندا إلى ما رآه من اتفاق هذا العدد المعيّن على الفتوى فيكون هناك إخباران في الحقيقة ، الأوّل لم يثبت وهو قول المعصوم ؛ لأنّه مستند إلى الحدس ، والآخر وجود اتفاق من عدد معيّن من العلماء على الفتوى بالحكم ، وهذا الإخبار مستند إلى الحس ، لأنّه تتبع ونظر أو سمع هذه الآراء ، فمستند الاتفاق المذكور حسي ، ولذلك يقبل قوله فيه ، بشرط ألا يكون متسامحا بدعوى الاتفاق كبعض العلماء الذين كانوا يدّعون الإجماعات على كثير من الفتاوى مع وجود المخالف لها ، أو مع وجود الإجماع المعارض في نفس الزمان.

وحينئذ يثبت وجود اتفاق من عدد معيّن من العلماء على هذه الفتوى ، وأمّا أنّ هذا الاتفاق هل هو حجّة وكاشف عن الحكم الشرعي بنظرنا أم ليس كذلك؟ فهذا بحث آخر ، ولذلك فإنّ كان هذا الاتفاق يفيدنا العلم أو الوثوق فيؤخذ به من باب حجيّة العلم والاطمئنان الشخصي ، وإن لم يفدنا ذلك لم يكن حجّة وكاشفا عن الحكم ، ولا قيمة له أصلا.

وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّه كان يقال عادة : إنّ نقل الإجماع حجّة في إثبات الحكم الشرعي ، لأنّه نقل بالمعنى لقول المعصوم وإخبار عنه.

ص: 287

وقد اعترض على ذلك المحققون المتأخرون بأنّه ليس نقلا حسّيا لقول المعصوم ، بل هو نقل حدسي مبني على ما يراه الناقل من كشف اتفاق الفتاوى التي لاحظها عن قول المعصوم فلا يكون حجّة في إثبات قول المعصوم بل في إثبات تلك الفتاوى فقط.

الإجماع المنقول : وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّ الإجماع المنقول هو الإجماع الذي ينقله أحد العلماء كالشيخ وغيره ، بأنّه يوجد إجماع على هذا الحكم ، فهل يكون هذا الإجماع المنقول بخبر الثقة حجّة أم لا؟

المتقدّمون من العلماء يرون حجيّة مثل هذا الإجماع المنقول ، كالإجماع المحصّل بالتتبع والاستقراء ، غاية الأمر أنّ الإجماع المحصّل يقوم به الشخص بنفسه فيحصل على اكتشاف الحكم الشرعي من خلال اتفاق العلماء المجمعين على أساس أنّ لازم اتفاقهم على الحكم وجود المعصوم وموافقته لهم بحكم قاعدة اللطف وغيرها ، كما تقدّم سابقا.

بينما الإجماع المنقول يقوم به الغير وينقله إلينا ، والمفروض كونه ثقة لا يكذب في ذلك ، فيثبت مفاده إلينا أيضا ؛ وذلك لأنّ مفادهما واحد وهو الإخبار عن قول المعصوم بالمعنى لا باللفظ ، فإذا كان الإجماع المحصّل حجّة لقيام الشخص به مباشرة مع أنّه لا يثبت أكثر من دخول قول المعصوم ضمن المجمعين استنادا للأدلة المذكورة في محلّه كان الإجماع المنقول حجّة لقيام الثقة به وإخباره بذلك.

إلا أنّ المتأخّرين اعترضوا على ذلك - كما هو الصحيح - فإنّ أدلة حجيّة خبر الثقة تختص في الإخبارات المستندة إلى الحسّ ، ولا تشمل الإخبارات المستندة إلى الحدس ، ولذلك لا يكون الإجماع المنقول حجّة في الكشف عن الحكم الشرعي ، وعن قول المعصوم ، بخلاف الإجماع المحصّل وذلك للفرق بينهما ، فإنّ الإجماع المحصّل ثابت للشخص بالحس بينما الإجماع المنقول ثابت للشخص المنقول إليه بالحدس ، ولذلك لا يكون مشمولا لأدلة الحجيّة ؛ لأنّه يعتمد على نظر واستنتاج الشخص المتتبع لآراء العلماء وقد يخطأ بنظرنا في استنتاج الإجماع.

نعم ، يمكن إثبات هذا الاتفاق المذكور فإنّ إخباره عن إجماع العلماء على الحكم ثابت لديه بالحسّ بخلاف إخباره عن قول المعصوم ، ولذلك يفصل بينهما

ص: 288

فيقبل إخباره عن وجود مثل هذا الاتفاق ، ولكن لا يقبل إخباره عن وجود قول المعصوم.

وحينئذ لا بدّ لنا من ملاحظة هذه الفتاوى وأنّها توجب لدينا الاطمئنان والوثوق الشخصي بدخول المعصوم ضمن المجمعين ، أو أنّها لا توجب ذلك؟ وهذا بحث صغروي يختلف من شخص لآخر.

* * *

ص: 289

ص: 290

حجيّة الخبر مع الواسطة

ص: 291

ص: 292

حجيّة الخبر مع الواسطة

ولا شكّ في أنّ حجيّة الخبر تتقوّم بركنين :

أحدهما بمثابة الموضوع لها وهو نفس الخبر.

والآخر بمثابة الشرط وهو وجود أثر شرعي لمدلول الخبر ، لوضوح أنّه اذا لم يكن لمدلوله أثر كذلك فلا معنى للتعبّد به وجعل الحجيّة له ، والحجيّة متأخّرة رتبة عن الخبر تأخّر الحكم عن موضوعه ، وعن افتراض أثر شرعي لمدلول الخبر تأخّر المشروط عن شرطه.

كان هذا البحث يذكر عادة في ذيل الكلام حول آية النبأ ، إلا أنّه لا ربط له بالآية بنحو يجعلنا نذكره هناك ، ولذلك أفرده السيّد الشهيد جانبا ، لأنّه بحث كلّي مرتبط بالدائرة والحدود ومعنى حجيّة خبر الثقة بعد الفراغ عن ثبوتها ، ولذلك جعلها في المرحلة الثانية أولى وأحسن من بحثه في المرحلة الأولى.

وعلى هذا فنقول : إنّ حجيّة خبر الثقة تتقوّم بركنين أساسيين هما :

الأوّل : أن يكون هناك خبر ثقة ، لأنّه بمثابة الموضوع ، والحجيّة حكم.

ومن الواضح : أنّ جعل الحجيّة على خبر الثقة يفترض أوّلا ثبوت وتصوّر خبر الثقة ثمّ بعد ذلك تثبت أو تنفى عنه الحجيّة ، وأمّا إذا لم نفترض وجود خبر الثقة فلا معنى للبحث عن حجيّته ثبوتا أو نفيا.

الثاني : أن يكون هناك أثر شرعي لمدلول الخبر يمكن التعبد به شرعا.

وهذا الركن بمثابة الشرط ؛ بمعنى أنّه يشترط في حجيّة خبر الثقة أن يكون لهذا الخبر أثر يمكن للشارع أن يتعبّدنا به ، إذ لا معنى لأنّ يجعل الشارع الحجيّة لخبر لا أثر له شرعا ، ولا يترتب على مفاده ومدلوله شيء من الآثار الشرعيّة ، لأنّ جعل الحجيّة ولزوم التعبد بمفاد الخبر إنّما يكون فيما إذا كان لجاعل الحجيّة آثار وأحكام يمكن أن

ص: 293

تترتب على هذا الخبر ، وإلا لم يكن هناك فائدة في لزوم التعبد بمثل هذا الخبر ما دام يحكي عن آثار ولوازم ليس للجاعل حق التدخل فيها سلبا أو إيجابا.

ثمّ إنّ الحجيّة المجعولة شرعا متأخّرة رتبة عن الخبر وعن افتراض الأثر الشرعي أيضا.

أمّا تأخر الحجيّة عن الخبر فلأنّ المفروض أنّ الخبر بمثابة الموضوع للحجيّة ، والموضوع متقدم على حكمه ولو رتبة ، بمعنى أنّه يثبت الموضوع أوّلا ثمّ يثبت الحكم ثانيا ، فالحكم متأخر عن موضوعه دائما ، والحجيّة بما أنّها حكم موضوعه الخبر فيجب تأخرها عنه تأخر الحكم عن موضوعه ؛ إذ لا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع ، لأنّه يكون حكما على شيء مجهول أو غير موجود ، وكلاهما باطل.

وأمّا تأخر الحجيّة عن افتراض الأثر الشرعي ، فلأن المفروض أنّ الأثر شرط لهذه الحجيّة وهي مشروطة به.

ومن الواضح أنّ الشرط يثبت أوّلا ثمّ يثبت المشروط ، ولا يعقل أن يثبت المشروط ثمّ بعد ذلك يثبت شرطه ؛ إذ هو مخالف لطبيعة العلاقة التكوينيّة والسببية بين الشرط ومشروطه ، فما دامت الحجيّة مشروطة بوجود الأثر في الخبر المراد التعبد بحجيّته فلا بد من افتراض وجود هذا الأثر أوّلا ليكون الخبر حجّة. نعم ، تحقّق الأثر في الخارج يكون بعد الالتزام والعمل والتعبد بالخبر ، إلا أن الكلام في أصل جعل الحجيّة في عالم التصوّر والثبوت فلا بد حينئذ من تصوّر هذا الأثر لتجعل الحجيّة بعد ذلك.

وعلى هذا الأساس قد يستشكل في شمول دليل الحجيّة للخبر مع الواسطة ، وتوضيح ذلك :

إنا إذا سمعنا زرارة ينقل عن الإمام أنّ السورة واجبة ، أمكننا التمسّك بدليل الحجيّة بدون شكّ ، لأنّ كلا الركنين ثابت ، فإنّ خبر زرارة ثابت لدينا وجدانا بحسب الفرض ، ومدلوله ذو أثر شرعي لأنّه يتحدث عن وجوب السورة ، وأمّا إذا نقل شخص عن زرارة الكلام المذكور فقد يتبادر إلى الذهن أنّنا نتمسّك بدليل الحجيّة أيضا ، وذلك بتطبيقه على الشخص الناقل عن زرارة أوّلا ، فإنّ إخباره ثابت لنا وجدانا وعن طريق حجيّته ثبت لدينا خبر زرارة كما لو كنّا سمعنا منه ، وحينئذ نطبّق دليل الحجيّة على خبر زرارة لإثبات كلام الإمام.

ص: 294

ثمّ إنّ هذين الركنين يثبتان فيما إذا كان الخبر مباشرا عن المعصوم ، فإذا أخبرنا زرارة بأنّ الإمام حكم بوجوب السورة فهنا نتمسّك بدليل حجيّة خبر الثقة ؛ لأنّ الركن الأوّل وهو ثبوت الخبر محرز وجدانا ، لأنّ المفروض أنّ زرارة يخبرنا مباشرة ، فخبره ثابت لنا بالسماع منه مباشرة. هذا طبعا إنّما يتمّ في صورة المعاصرة.

والركن الثاني أيضا ثابت لأنّ مدلول ومفاد خبر زرارة عبارة عن أثر شرعي وهو وجوب السورة في المثال ، وعلى هذا نطبق دليل الحجيّة لأنّ موضوعه وشرطه ثابتان ، وبالتالي يثبت لنا تعبدا هذا الحكم الشرعي استنادا إلى دليل الحجيّة.

وأمّا إذا وصل إلينا خبر زرارة عن طريق نقله في كتب الأحاديث والأخبار ، كما لو أخبر شخص بأنّ زرارة أخبر بوجوب السورة ، وأنّ الإمام حكم بوجوبها ، فهنا هل يمكننا تطبيق دليل الحجيّة على هذا الخبر مع الواسطة أم لا؟

قد يتبادر إلى الذهن أنّنا نطبّق دليل الحجيّة في هذا الفرض أيضا ؛ وذلك لأنّنا إذا طبقنا دليل الحجيّة على الواسطة باعتباره ثابتا لنا بالوجدان ، فإنّ إخبار هذا الشخص ثابت في الفرض المذكور وهو خبر ثقة ، فنطبق عليه دليل حجيّة خبر الثقة ، وبذلك نحرز تعبدا مفاده ومدلوله ؛ وحيث إنّ مفاده هو أنّ زرارة يحكي أنّ الإمام قد أوجب السورة فيكون خبر زرارة ثابتا لدينا أيضا ، والمفروض وجود أثر شرعي لخبره فيتم كلا الركنين.

غاية الأمر أنّه يوجد فرق بين الفرضين ، وهو أنّه في الفرض الأوّل كان خبر زرارة ثابتا لنا وجدانا وله مدلول شرعي بينما في الفرض الثاني كان خبر زرارة ثابتا لدينا بالتعبد والمفروض أنّه ذو أثر شرعي أيضا.

ومجرّد كون ثبوت خبر زرارة وجدانيا في الأوّل وتعبديّا في الثاني لا يعتبر فرقا بين الصورتين ليكون مانعا من تطبيق دليل الحجيّة على الفرض الثاني دون الأوّل ، لأنّه في كلتا الحالتين يثبت لنا أنّ زرارة قد أخبر بوجوب السورة عن الإمام ، إما وجدانا وإما تعبدا ، والثبوت التعبّدي كالوجداني بناء على مسلك القوم في تفسير الحجيّة المجعولة شرعا.

ولا يخفى أنّ هذا التبادر صحيح لقيام السيرة على الأخذ بالخبر مع الواسطة سواء من المتشرّعة أو من العقلاء على مرأى ومسمع من المعصوم ، والحال أنّه سكت عن ذلك ولم يردع فيدل على حجيّة مثل هذا الخبر.

ص: 295

إلا أنّ هذا التبادر يواجه مشكلة لا بدّ من حلّها وإلا فيكون مانعا من الأخذ به ، وتوضيح ذلك :

ولكن قد استشكل في ذلك وقيل بأنّ تطبيق دليل الحجيّة على هذا الترتيب مستحيل ، وبيان الاستحالة بتقريبين :

الأوّل : أنّه يلزم منه إثبات الحكم لموضوعه ، مع أنّ الحكم متأخّر رتبة عن موضوعه ؛ وذلك لأنّ خبر زرارة لم يثبت إلا بلحاظ دليل الحجيّة مع أنّه موضوع للحجيّة المستفادة من ذلك الدليل ، وهذا معنى إثبات الحكم لموضوعه.

التقريب الأوّل : أنّ القول بحجيّة الخبر مع الواسطة محال ؛ لأنّه يلزم منه محذوران لا يمكن الالتزام بهما. وفي الحقيقة أنّ كلا الركنين المفروضين في دليل الحجيّة من ثبوت الموضوع أوّلا ووجود الشرط ثانيا لا يتحققان في مقامنا.

وبيان ذلك : لو قيل بتطبيق دليل الحجيّة على الخبر مع الواسطة للزم منه :

أوّلا : محذور اتحاد الحكم مع موضوعه ، أو كون الحكم موجدا ومثبتا لموضوعه وهو محال ؛ لأنّ الموضوع متقدم على الحكم والحكم متأخر عنه ، ولذلك يستحيل اتحادهما معا أو كون أحدهما مثبتا للآخر.

وتوضيح ذلك بأن يقال : إنّ خبر زرارة المنقول بالواسطة إنّما يثبت لنا بعد تطبيق دليل الحجيّة على الواسطة ، وحيث إنّ زرارة خبره ثقة ، فلكي يثبت مفاده لا بدّ من تطبيق دليل الحجيّة عليه أيضا ، وهذا معناه أنّ خبر زرارة قد ثبت ووجد بدليل الحجيّة وهو مع ذلك موضوع لدليل الحجيّة ، وهذا الأمر لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ كونه موجودا بدليل الحجيّة لازمه أن دليل الحجيّة متقدّم عليه وهو متأخر عنه ، بينما كونه موضوعا لدليل الحجيّة لازمه أنّه متقدم عليه ، ودليل الحجيّة متأخّر عنه ، وهذا خلف ودور.

ومن جهة أخرى : أنّ تطبيق دليل الحجيّة متوقف على ثبوت الخبر أوّلا ، لأنّه موضوعه والحكم متأخر عن موضوعه ، فإذا كان خبر زرارة ثابتا بدليل الحجيّة كان معناه أنّ دليل الحجيّة أثبت موضوعه وهو محال ، لأنّ الحكم متأخر عن موضوعه فكيف يثبته؟!

ومن جهة ثالثة : أنّ دليل الحجيّة الذي نريد تطبيقه على خبر زرارة متوقف على

ص: 296

تطبيق دليل الحجيّة أوّلا على خبر الواسطة ، وهذا معناه أنّ دليل الحجيّة متوقف على نفسه أو متحد مع موضوعه ؛ لأنّ خبر زرارة لا يثبت إلا بدليل الحجيّة ، والمفروض أنّ دليل الحجيّة نريد تطبيقه على خبر زرارة أيضا ، فكان دليل الحجيّة ثابتا قبل خبر زرارة وبعده أيضا ، فكان متقدما على موضوعه ومتأخرا عنه كذلك.

وبتعبير آخر : أنّ دليل الحجيّة يراد تطبيقه على الخبر الناقل لقول المعصوم ، وهو خبر زرارة ، والحال أنّ خبر زرارة لا يثبت إلا بتطبيق دليل الحجيّة أوّلا ، فكان لازم ذلك أنّ دليل الحجيّة يثبت ويوجد خبر زرارة الذي هو موضوع لتطبيق دليل الحجيّة ، فكان الحكم متحدا وموجدا لموضوعه ، أو كان متأخرا ومتقدما أيضا.

وبهذا يظهر أنّ الركن الأوّل غير تام ؛ لأنّ الموضوع قد اتحد مع الحكم ، ومع اتحاده كذلك يكون جعل الحجيّة للموضوع لغوا ، لأنّه ما دام الموضوع والحجيّة شيئا واحدا فيلغو جعل الحجيّة للخبر مجدّدا ، لأنّ المفروض ثبوتها بثبوت الموضوع أولا.

الثاني : أنّه يلزم منه اتحاد الحكم مع شرطه على الرغم من تأخر الحكم رتبة عن شرطه ، وذلك لأنّ حجيّة خبر الناقل عن زرارة مشروطة بوجود أثر شرعي لما ينقله هذا الناقل ، وهو إنّما ينقل خبر زرارة ، ولا أثر شرعا لخبر زرارة إلا الحجيّة ، فقد صارت الحجيّة محقّقة لشرط نفسها.

التقريب الثاني : راجع إلى الركن الثاني الذي يفترض وجود أثر شرعي للخبر ، من أجل تطبيق دليل الحجيّة عليه.

وهذا المحذور يبرز لنا اتحاد الشرط مع المشروط ، مع أنّ الشرط يجب أن يكون مغايرا للمشروط ، ويثبت لنا أنّ المشروط يوجد الشرط مع أنّ المشروط متوقف على الشرط فكيف يوجده؟!

وبيان ذلك : أنّنا لو قلنا بحجيّة الخبر مع الواسطة لزم من ذلك اتحاد الشرط مع الحكم ، أي مع المشروط وهو الحجيّة ؛ وذلك لأنّنا قلنا في الركن الثاني : إنّ شرط تطبيق الحجيّة على خبر الثقة هو وجود أثر شرعي لهذا الخبر لكي يتعبّدنا الشارع به ، فإذا طبقنا دليل الحجيّة على خبر الناقل لزم أن يكون لخبره أثر شرعي وإلا فلا يصحّ التعبد به ، وبما أنّ مفاد خبر الناقل هو أنّ زرارة أخبر بقول المعصوم فيثبت لنا إخبار زرارة ، وحينئذ لا بدّ أن يكون لخبر زرارة أثر شرعي ليتم دليل الحجيّة في خبر الناقل

ص: 297

المشروط بوجود هذا الأثر ، والحال أنّ الأثر الشرعي لخبر زرارة ليس إلا التعبّد لحجيته فقط ؛ إذ لا أثر شرعا للخبر إلا كونه حجّة ، وأمّا الحكم الشرعي فهو أثر شرعي لحجيّة خبر زرارة لا لنفس خبر زرارة.

وحينئذ نقول : إنّ دليل الحجيّة كان أثره هنا الحجيّة التعبديّة لخبر زرارة ، وهذا معناه أنّ الحكم والمشروط الذي هو دليل الحجيّة كان أثره وشرطه هو التعبد بدليل الحجيّة فلزم اتحاد الشرط مع المشروط ، والحكم مع الأثر وهو محال ؛ لأنّ المفروض هو التغاير بين الحكم والأثر والشرط والمشروط.

ويلزم أيضا أن يكون الحكم موجدا ومثبتا لأثره ؛ لأنّ دليل الحجيّة الذي هو المشروط والحكم بعد تطبيقه على خبر الناقل يثبت به خبر زرارة الذي أثره تطبيق دليل الحجيّة ، فكان دليل الحجيّة مثبتا وموجدا لدليل الحجيّة أيضا.

وجواب كلا التقريبين : إنّ حجيّة الخبر مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة على موضوعها وشرطها المقدّر الوجود ، وفعلية الحجيّة المجعولة بفعلية الموضوع والشرط المقدّر ، وتعدد الحجيّة الفعليّة بتعدّدهما ، كما هو الشأن في سائر الأحكام المجعولة على هذا النحو.

والجواب عن هذين الإشكالين : إنّ الحجيّة المجعولة لخبر الثقة كغيرها من الأحكام مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يفرض فيها الموضوع ويقدر فيكون مفادها أنّه إذا وجد خبر الثقة فهو حجّة ، فالحجيّة متوقفة على فرض وجود خبر الثقة ؛ بمعنى أنّه في الخارج كلما وجد خبر ثقة يكون حجّة ، وهذا معناه أنّ فعلية هذه الحجيّة المجعولة في الخارج إنّما تكون بفعلية موضوعها أو شرطها ، أي بوجود خبر ثقة في الخارج ، ولذلك فإنّ هذه الحجيّة تتعدد وتتكثر في الخارج تبعا لتعدد وتكثر الموضوع وتحقّق الشرط.

فإذا كان هناك مائة ثقة في الخارج كان هناك مائة حجيّة لكل خبر حجيّة مستقلّة عن حجيّة الآخر.

وبذلك يندفع كلا المحذورين ، لأنّ الحجيّة التي هي حكم ومشروط إنّما تكون متأخّرة عن الموضوع والشرط المقدر الوجود أي أنّها على تقدير ثبوت وتحقّق الموضوع والشرط تثبت الحجيّة فهي متأخّرة رتبة عنهما.

ص: 298

وأمّا الوجود الفعلي الخارجي للحجيّة فهو مرتبط بوجود الخبر في الخارج ، ولذلك يحصل التقدم والتأخر في ثبوت الحجيّة والخبر في الخارج ، ولا يلزم من ذلك أي محذور ، لأنّ الحجيّة الثابتة في الخارج غير الحجيّة التي لم تثبت بعد وليست نفسها ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وعليه فنقول : إنّه توجد في المقام حجيتان : الأولى حجيّة خبر الناقل عن زرارة ، والثانية حجيّة خبر زرارة.

وما هو الموضوع للحجيّة الثانية وهو خبر زرارة لم يثبت بالحجيّة الثانية بل بالحجيّة الأولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الأوّل ، كما أنّ الشرط المصحح للحجيّة الأولى وهو الأثر الشرعي يتمثل في الحجيّة الثانية لا في الحجيّة الأولى فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الثاني.

بيان رفع المحذورين : أنّ الخبر مع الواسطة معناه وجود خبرين : أحدهما خبر الناقل والآخر خبر زرارة ، ولكل من هذين الخبرين حجيّة مستقلّة عن حجيّة الآخر ، لما ذكرناه من أنّ الحجيّة تتعدّد في الخارج بتعدّد موضوعها أو شرطها. فللناقل حجيّة ولخبر زرارة حجيّة أيضا.

وحينئذ نقول : إنّ حجيّة خبر الناقل موضوعها خبر الناقل نفسه ، وحجيّة خبر زرارة موضوعها خبر زرارة لا حجيّة خبر الناقل ، وخبر زرارة الذي هو موضوع لحجيّة مستقلّة ثبت لدينا بحجيّة خبر الناقل لا بالحجيّة المجعولة له على تقدير ثبوته ؛ ولذلك لم يكن الحكم متحدا أو موجدا لموضوعه ، بل هما مختلفان ومتغايران ، فإنّ الحكم هو الحجيّة الأولى وما يوجد بها هو خبر زرارة وحكمه هو الحجيّة الثانية لا نفس الحجيّة الأولى.

وكذلك لم يكن الحكم متحدا مع شرطه وأثره لأنّ أثر الحجيّة الأولى هو التعبد بثبوت خبر زرارة الذي أثره الشرعي ثبوت الحجيّة له إلا أنّ هذا الأثر الشرعي هو الحجيّة الثانية المترتبة على خبر زرارة لا الحجيّة الأولى الثابتة لخبر الناقل ، فاختلف الأثران.

وبتعبير آخر : أنّ الحجيّة التي هي حكم إنّما هي حجيّة خبر الناقل ، والحجيّة التي هي أثر شرعي إنّما هي الحجيّة الثانية ، والموضوع الذي هو موضوع للحجيّة الأولى هو خبر الناقل ، بينما الموضوع للحجيّة الثانية هو خبر زرارة.

ص: 299

والأثر للحجيّة الأولى هو التعبّد بثبوت خبر زرارة وكونه حجّة ، بينما الأثر للحجيّة الثانية هو التعبد بثبوت قول المعصوم وكون الحكم الذي يحكيه حجّة ، ولذلك لم يتحد ولم يتداخل أحدهما بالآخر لا موضوعا ولا أثرا ولا حكما.

والوجه في ذلك : هو أنّ فعلية حجيّة خبر زرارة متوقفة على الحجيّة الفعليّة لخبر الناقل ، وهذا يعني أنّ ثبوت الحجيّة الخارجيّة لخبر الناقل هو الذي تتوقّف عليه فعلية الحجيّة لخبر زرارة ، وأمّا نفس حجيّة خبر زرارة الثانية فهي ثابتة بالفرض والتقدير ، لأنّها مصداق للحجيّة المجعولة لخبر الثقة مطلقا بنحو القضيّة الحقيقيّة المقدّرة الموضوع.

وفرق بين الحجيّة الخارجيّة الفعليّة وبين الحجيّة الثانية ، فإنّ الأولى متوقفة على تحقّق قيودها وشروطها في الخارج ، بينما الثانية لا تتوقّف إلا على فرض وتقدير وجود هذه القيود والشروط وتصوّرها ذهنا ، ولذلك لا يحصل الاتحاد أصلا (1).

ص: 300


1- مضافا إلى وقوع نظير ذلك في كثير من الموارد الفقهية كالشهادة على الشهادة والإقرار على الإقرار ونحو ذلك. على أنّه بالإمكان القول : أنّ كل واحد من الخبرين موضوع مستقل للحجيّة ، بمعنى أنّه يلاحظ كل خبر وحده كما لو كان مستقلا ، فخبر الناقل لو لوحظ بنفسه فهو خبر ثقة فهو حجّة يجب تصديقه والعمل بمضمونه ، ومضمونه هو إخبار زرارة ، وهو ثقة يجب تصديقه والعمل بمضمونه ، ومضمونه هو ثبوت قول المعصوم والحكم الشرعي ، فيتم المطلوب. كما إنّه بالإمكان دفع الإشكال بالقول : أنّ الحكم الشرعي الذي يحكي عنه الخبر مع الواسطة إنّما يثبت لنا فيما إذا لم يكذب زرارة ولم يكذب الناقل ، وهذا معناه أنّه توجد قضيّة شرطية مفادها أنّه إذا لم يكذب المخبر فالحكم ثابت ، فإذا أمكن إثبات تحقّق الشرط فيثبت الجزاء ، وهنا إذا طبقنا دليل حجيّة خبر الثقة على كلا المخبرين باعتبار وثاقتهما ثبت لدينا الشرط وهو أنّ المخبرين لم يكذبا ، فيثبت الجزاء وهو ثبوت الحكم وهو المطلوب.
قاعدة التسامح في أدلة السّنن
اشارة

ص: 301

ص: 302

قاعدة التسامح في أدلة السّنن

ذكرنا أنّ موضوع الحجيّة ليس مطلق الخبر ، بل خبر الثقة ، على تفصيلات متقدّمة ، ولكن قد يقال في خصوص باب المستحبات أو الأحكام غير الإلزامية عموما : إنّ موضوع الحجيّة مطلق الخبر ولو كان ضعيفا استنادا إلى روايات دلّت على أنّ من بلغه عن النبيّ ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك وإن كان النبيّ لم يقله ، كصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه ».

بدعوى أنّ هذه الروايات تجعل الحجيّة لمطلق البلوغ في موارد المستحبات.

تقدّم أنّ موضوع حجيّة الخبر خصوص خبر الثقة لا مطلق الخبر ، وهذا معناه أنّ خبر غير الثقة ليس بحجّة شرعا ، ولا يجوز العمل به والتعويل على مفاده والأخذ بالحكم الذي يحكيه ؛ لأنّه يكون تشريعا باطلا ومذموما.

كما وأنّه تقدّمت بعض التفصيلات لهذه الحجيّة وكونها مختصّة بالخبر الذي يحكي حكما أو موضوعا لحكم ونحو ذلك ، إلا أنّه قد يقال بأنّه في خصوص باب المستحبات يجوز العمل بخبر غير الثقة ؛ بمعنى أن موضوع حجيّة الخبر في خصوص هذا المقام أعم من خبر الثقة وغير الثقة ، فحتى خبر الضعيف يعتبر حجّة إذا كان مفاده استحباب شيء.

ويدلّ على ذلك بعض الأخبار والروايات الدالة على أنّ من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله كان له أجره وإن لم يكن هذا الثواب صادرا من الشارع واقعا ، كما في صحيحة هشام بن سالم المذكورة في المتن ، فإنها تدلّ على أن بلوغ الثواب على عمل ما عن طريق خبر المخبر بأن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قال ذلك فقام

ص: 303

الشخص المنقول إليه هذا الخبر بفعل ذلك العمل فيكون مستحقا لهذا الثواب حتّى وان لم يكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قاله.

بل قد يقال أكثر من ذلك : ويدعى أنّه لو كان هناك خبر ضعيف غير ثقة يحكي عن المكروه لكان ذلك حجّة أيضا ؛ لأنّ في ترك المكروه ثوابا أيضا ، فيكون المدعى أنّ مطلق الإخبار عن حكم غير إلزامي حجّة ولو كان المخبر غير ثقة استنادا إلى هذه الروايات التي تسمّى بأخبار ( من بلغ ).

ولهذا اشتهر بينهم ما يسمّى ب- ( قاعدة التسامح في أدلة السنن ) ، بمعنى أنّه لا يشترط في الخبر الذي يحكي عن الاستحباب أو الكراهة أن يكون رواية ثقة بل هو حجّة مطلقا.

والتحقيق أنّ هذه الروايات فيها - بدوا - أربعة احتمالات :

الأوّل : أن تكون في مقام جعل الحجيّة لمطلق البلوغ.

الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق البلوغ بوصفه عنوانا ثانويا.

الثالث : أن تكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.

والتحقيق في هذه الروايات : أنّها وإن كانت تامّة السند ، فإنّ بعضها صحيح السند فلا نقاش لنا في صدورها ، إلا أنّ دلالتها على القاعدة المذكورة ليست تامّة.

ولتوضيح الحال نذكر الاحتمالات المتصورة في هذه الرواية من حيث مضمونها :

الاحتمال الأوّل : أن تكون هذه الرواية وغيرها في مقام جعل الحجيّة الظاهرية التعبديّة على عنوان البلوغ مطلقا ، بمعنى أنّه بمجرّد تحقّق هذا العنوان يثبت للخبر الحجيّة ، فيكون مفادها جعل الحجيّة لخصوص الأخبار التي تخبر عن الثواب فكلّ من يبلغه شيء من الثواب على عمل فهذا البلوغ حجّة ، سواء كان المخبر به ثقة أم غير ثقة ، فيكون لسانها جعل حكم ظاهري وهو الحجيّة على عنوان البلوغ من أجل التحفظ على الملاكات الواقعيّة للاستحباب الواقعي كما هو شأن الأحكام الظاهرية.

ص: 304

الاحتمال الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق عنوان البلوغ ، أي أنّه بمجرّد أن يتحقّق هذا العنوان فإنّه يكون الفعل مستحبا واقعا وفي نفسه لا مجرّد استحباب ظاهري طريقي حفاظا على ملاكات الواقع ، بل استحباب نفسي حقيقي مجعول شرعا على عنوان البلوغ باعتباره عنوانا ثانويا ، فالعنوان الأولي للشيء الذي بلغنا عليه الثواب قد لا يكون هو الاستحباب ؛ لأنّ هذا الخبر ضعيف وغير ثقة فقد يكون كاذبا ، وبالتالي لا يكون ما أخبر به ثابتا في الواقع ، إلا أنّه لمّا تحقّق عنوان البلوغ صار لهذا الشيء حكم ثانوي آخر وهو الاستحباب مجعول على عنوان البلوغ.

الاحتمال الثالث : أن تكون هذه الروايات مفادها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ، وأنّ المحتاط يستحق الثواب بحكم العقل ؛ وذلك لأنّه لا شكّ في أنّ الاحتياط حسن على كل حال ، إذ العقل يحكم بحسنه ، بل بوجوبه في كثير من الموارد تحفظا على أحكام الشارع ورعاية لحقه ولمولويته والتزاما بطاعته ، فالعقل يرى حسن الاحتياط ، وأنّ من يفعل شيئا احتياطا يكون مستحقا للثواب ؛ لأنّه كالمنقاد الذي يحترم حدود المولى ويحافظ على طاعته والالتزام بكل تكاليفه وتشريعاته ، فيما أنّ العقل يرى ذلك فتكون هذه الروايات إرشادا إلى هذا المطلب ، وأنّ ما حكم به العقل صحيح ومؤيد من الشارع أيضا ، وهذا ما ذهب إليه السيّد الخوئي.

الاحتمال الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد ، بمعنى أنّ هناك وعدا من الشارع لمن بلغه الثواب على هذا العمل فعمله ، لكنّه لم يكن ثابتا في الواقع ، بأنّه إذا فعل ذلك فإنّ الشارع سوف يعطيه مثل هذا الثواب الذي وصله وبلغه ، ومن المعلوم أنّ الشارع إذا وعد بشيء وفى به.

وهذا الوعد كان من أجل مصلحة رآها الشارع ولعلها احترام النبيّ وتعظيم أقواله أو الاحتياط في الالتزام بكل ما يسمعه الشخص أو ينقل إليه عن النبيّ لأنّ الالتزام بأقواله كلّها يحافظ على الأقوال الصادرة منه واقعا ، فيكون لهذا الوعد فائدة كبرى من هذه الناحية ، وبالتالي يكون الموعود له مطيعا لله وللرسول ومستحقا للثواب على ذلك.

والفارق بين هذه الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح ، فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقي في عدم تضمنه إعمال المولوية بوجه ، والاحتمالان

ص: 305

الأخيران يختلفان عن الأولين في عدم تضمنهما جعل الحكم ، ويختلف الأوّل عن الثاني - مع اشتراكهما في جعل الحكم - في أنّ الحكم المجعول على الأوّل ظاهري وعلى الثاني واقعي.

الفارق بين هذه الاحتمالات :

ويوجد بين هذه الاحتمالات فوارق نظرية وأخرى عملية ، أمّا الفوارق النظرية فهي إنّنا ذكرنا : أنّ الاحتمال الأوّل فيه حكم مجعول من الشارع وهو جعل الحجيّة التي هي حكم ظاهري طريقي.

بينما الاحتمال الثاني فيه حكم مجعول من الشارع أيضا ، ولكنّه جعل الاستحباب النفسي الواقعي الثانوي.

والاحتمال الثالث ليس إلا إرشادا لحكم العقل بحسن الاحتياط ، فليس فيه أي إعمال للمولوية من الشارع.

والاحتمال الرابع عبارة عن وعد من الشارع ، ولكنّه لا يوجد فيه حكم مجعول لا ظاهري ولا واقعي ، وإنّما مجرّد وعد على إعطاء الثواب للمحتاط.

وبهذا نخلص بنتيجة وهي : أنّ الاحتمالين الأوّل والثاني فيهما حكم مجعول ، بخلاف الاحتمالين الثالث والرابع.

وأنّ الاحتمال الأوّل الحكم المجعول فيه ظاهري طريقي بينما الاحتمال الثاني الحكم المجعول فيه واقعي ثانوي.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو إرشاد محض من دون إعمال للمولوية بينما الاحتمال الرابع فيه وعد مضافا إلى الإرشاد إلى حكم العقل.

وأمّا الأثر العملي لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضا ؛ إذ لا يبرّر الاحتمالان الأخيران الإفتاء بالاستحباب بينما يبرّر الاحتمالان الاوّلان ذلك.

وأمّا الفوارق العمليّة بين هذه الاحتمالات فهي : أنّ الاحتمالين الأوّلين كما ذكرنا فيهما حكم مجعول من الشارع ، ولذلك يجوز إسناد هذا الحكم إلى الشارع والإفتاء بمضمونه باعتبار أنّه حكم شرعي ، ولذلك يجوز للمفتي أن يفتي بالاستحباب إما ظاهرا بناء على جعل الحجيّة لمطلق البلوغ ، وإما واقعا بناء على جعل حكم واقعي نفسي ثانوي على عنوان البلوغ.

ص: 306

بينما على الاحتمالين الأخيرين لا يجوز للمفتي الإفتاء بالاستحباب ؛ وذلك لأنّ الاحتمال الثالث ليس إلا إرشادا لحكم العقل بحسن الاحتياط وليس فيه أيّ شيء من شئون المولوية ، والاحتمال الرابع وإن كان فيه وعد مولوي إلا أنّه ليس حكما أيضا ، فالإفتاء بالاستحباب على أساسها لا مبرّر له ، إذ لا يوجد دليل شرعي على ذلك لا ظاهري ولا واقعي فيكون إفتاء من دون علم وهو تشريع باطل.

يبقى الكلام في أنّه هل توجد ثمرات عمليّة بين القولين الأولين ، أو بين القولين الأخيرين أم لا يوجد فيهما أثر عمليّا؟

أمّا القولان الأخيران فلا ثمرة عمليّة بينهما ؛ لأنهما معا لا يسوّغان الافتاء بالاستحباب ، ولخلوهما عن الحكم المجعول رأسا.

وأمّا القولان الأولان فقد وقع الخلاف في تصوير الثمرة بينهما ولذلك قال :

ولكن قد يقال - كما عن السيّد الاستاذ - : إنّه لا ثمرة عمليّة يختلف بموجبها الاحتمالان الأولان ؛ لأنهما معا يسوّغان الفتوى بالاستحباب ، ولا فرق بينهما في الآثار.

ولكن التحقيق وجود ثمرات عمليّة يختلف بموجبها الاحتمال الأوّل عن الاحتمال الثاني خلافا لما أفاده رحمه اللّه ، ونذكر فيما يلي جملة من الثمرات :

الثمرة بين الاحتمالين الأولين :

ذكر السيّد الخوئي أنّه لا ثمرة عمليّة بين القولين الأوّل والثاني ؛ ، لأنّهما معا حكمان مجعولان من الشارع ، وكلاهما أيضا يجوّز للمجتهد الإفتاء بالاستحباب وإسناده إلى الشارع ، غاية الأمر أنّه تارة يكون ظاهريّا وأخرى واقعيا ، وهذا فارق نظري وأمّا عمليّا فلا فرق بين الاستحباب الظاهري والواقعي في ترتيب الآثار واللوازم كما تقدّم سابقا من أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي في ترتيب الآثار واللوازم.

إلا أنّ الصحيح وجود ثمرات عمليّة بين هذين القولين رغم اشتراكهما في كونهما يتضمنان الحكم الشرعي ويسوّغان الحكم والإفتاء والإسناد ، ولذلك نذكر بعض هذه الثمرات :

الثمرة الأولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعل ، وخبر ثقة على نفي استحبابه.

ص: 307

فإذا بني على الاحتمال الأوّل وقع التعارض بين الخبرين لحجيّة كل منهما بحسب الفرض ، ونظرهما معا إلى حكم واقعي واحد إثباتا ونفيا.

وإذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض ؛ لأنّ الخبر الضعيف الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤدّاه ليعارض الخبر النافي له ، بل هو بنفسه يكون موضوعا لاستحباب واقعي مترتب على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقّق ، وكونه معارضا لا ينافي صدق عنوان البلوغ فيثبت الاستحباب.

الثمرة الأولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعل ويدل خبر ثقة على نفي استحبابه.

فعلى الاحتمال الأوّل من أنّ مفاد الروايات جعل الحجيّة على عنوان البلوغ يقع التعارض بين هذين الخبرين ؛ وذلك لأنّ الخبر الضعيف مفاده أنّ الاستحباب المحكي به حجّة شرعا ، لأنّ موضوع الحجيّة تام فيه وهو بلوغ الثواب على هذا العمل ، بينما الخبر الصحيح مفاده أنّ الاستحباب ليس ثابتا شرعا لهذا الفعل ، وهذا معناه نفي بلوغ الثواب على هذا العمل ، فكلاهما ينظران إلى موضوع واحد ، وهو هذا العمل الخاص ، وأحدهما يثبت الاستحباب له والآخر ينفي الاستحباب عنه ، والمفروض أنّهما معا حجّة ظاهرا وتعبدا ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر فيحكم بتعارضهما وتساقطهما وبالتالي لا يثبت الاستحباب.

وقد تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهرية كالأحكام الواقعيّة يمكن تصوّر التعارض فيها ؛ وذلك بلحاظ التكاذب والتنافي فيها فيما تحكي عنه من النظر إلى الملاكات الواقعيّة في مقام التزاحم الحفظي وبيان الأهم من هذه الملاكات ، فالخبر الضعيف مفاده الالتزامي أنّ ملاكات الاستحباب هي الأهم ويجب الحفاظ عليها ، بينما الخبر الصحيح ينفي ذلك ، وحيث إنّهما معا حجّة فيتعارضان ويتساقطان.

وأمّا على الاحتمال الثاني من أنّ مفاد الروايات جعل استحباب واقعي نفسي ثانوي على طبق عنوان البلوغ فلا يقع التعارض بين هذين الخبرين ؛ وذلك لأنّ الخبر الضعيف لا يثبت مؤدّاها واقعا ولا يحكي عن ثبوت استحباب في الواقع بالعنوان الأولي ، بينما الخبر الصحيح يحكي عن عدم ثبوت الاستحباب الواقعي بلحاظ العنوان الأولي ، وحينئذ لا مانع من عدم ثبوت الاستحباب الواقعي بالعنوان الأولي

ص: 308

كما هو مفاد الخبر الصحيح ، بينما يثبت لنا الاستحباب الواقعي الثانوي كما هو مفاد الخبر الضعيف ، لأنّ الأوّل إنّما ينفي وجود الاستحباب لهذا العمل بعنوانه الخاص الأوّلي ، بينما الثاني يثبت الاستحباب لهذا العمل لا بعنوانه الخاص الأوّلي بل بعنوان آخر ثانوي وهو عنوان البلوغ ؛ إذ عنوان البلوغ محقق في مقامنا سواء كان الاستحباب ثابتا واقعا أم لا ، كما هو صريح الروايات ( وإن لم يكن قاله ) ، وبهذا نتعبد بكلا الخبرين ، أي أنّه يمكن الجمع العرفي بينهما فيحكم بعدم ثبوت الاستحباب واقعا بعنوان العمل الأولي بينما يحكم بثبوت الاستحباب بعنوان آخر ثانوي ، ولا تنافي بينهما لاختلاف الجهة في الفرض المذكور.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على وجوب شيء.

فعلى الاحتمال الثاني لا شكّ في ثبوت الاستحباب لأنّه مصداق لبلوغ الثواب على عمل.

وأمّا على الاحتمال الأوّل فلا يثبت شيء لأنّ إثبات الوجوب بالخبر الضعيف متعذر لعدم حجيّته في إثبات الأحكام الالزاميّة ، وإثبات الاستحباب به متعذّر أيضا لأنّه لا يدلّ عليه فكيف يكون طريقا وحجّة لإثبات غير مدلوله؟!

وإثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذّر أيضا ؛ لأنّه مدلول تحليلي للخبر فلا يكون حجّة لاثباته عند من يرى - كالسيّد الأستاذ - أنّ حجيّة الخبر في المدلول التحليلي متوقفة على حجيّته في المدلول المطابقي بكامله.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على الوجوب ، فهل يمكننا إثبات شيء من مداليل هذا الخبر سواء المدلول المطابقي أي الحكم بالوجوب أم المدلول الالتزامي أي الحكم بالاستحباب ، أم الحكم بالرجحان والطلب الذي هو مدلول تحليلي للوجوب ، أو أنّه لا يثبت شيء من ذلك؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف الوجهين الأوّل والثاني.

فإذا بنينا على الاحتمال الثاني أي أنّ الروايات تثبت الاستحباب النفسي على عنوان بلوغ الثواب ، فهنا لا إشكال في عدم ثبوت المدلول المطابقي أي الوجوب لأنّه يشترط في الخبر الدال على الإلزام أن يكون راوية ثقة كما هو المشهور ، وأمّا الاستحباب والرجحان فيمكن إثباتهما ؛ وذلك لأنّه يصدق مع وجود مثل هذا الخبر

ص: 309

الدال على الوجوب أنّ الثواب قد بلغنا لأنّ الوجوب فيه ثواب ورجحان ، ولذلك يتحقّق العنوان الثانوي فيحكم بالاستحباب الواقعي الثانوي.

وأمّا إذا بنينا على الاحتمال الأوّل أي على جعل الحجيّة التعبديّة الظاهرية لعنوان بلوغ الثواب ، فهنا لا يثبت شيء من هذه المدلولات أصلا.

وتوضيح ذلك : أمّا أنّه لا يمكن إثبات الوجوب فواضح ؛ لأنّ الخبر الضعيف لا يدعي أحد أنّه يثبت الحكم الإلزامي ، فالخبر الضعيف لو قيل بحجيّته فلا يقال بها في إثبات الحكم الإلزامي كالوجوب والحرمة ، إذ لا دليل على ذلك أبدا ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يكون حجّة في إثبات الاستحباب أو الكراهية أم لا؟

وأمّا أنّه لا يمكن إثبات الاستحباب به فلأنّ الدال على الاستحباب والثواب ليس المدلول المطابقي لهذا الخبر وإنّما يستفاد الاستحباب والثواب بالدلالة الالتزاميّة ، لأنّ الشيء إذا كان واجبا فهذا يعني وجود مصلحة في فعله وأنّه يوجد ثواب على ذلك وأنّه جائز فعله ، وهذا يفترض أنّ المدلول المطابقي للكلام لا بدّ أن يكون تامّا وحجّة لكي يكون المدلول الالتزامي حجّة أيضا ، والمفروض هنا أنّ المدلول المطابقي الذي هو الوجوب لم تثبت حجيّته بعد ، لأنّ الخبر ضعيف السند ، فكيف يمكن أن يكون المدلول الالتزامي حجّة مع أنّ المدلول الالتزامي ساقط عن الحجيّة من أوّل الأمر؟!

وبتعبير آخر : أنّ الوجوب لم يثبت أصلا ليقال بأنّ مدلوله الالتزامي حجّة ، فإذا لم يثبت الوجوب فكيف يمكننا استكشاف الاستحباب والثواب من هذا الخبر؟ وكيف يكون هذا الخبر طريقا ودالا على شيء ليس من مدلوله وليس داخلا في مفاده؟ لأنّ دلالته على الاستحباب فرع دلالته على الوجوب أوّلا ، والمفروض أنّه ليس دالا أو ليس حجّة في الوجوب فكيف يكون دالا وحجّة في الاستحباب والثواب؟!

وأمّا أنّه لا يمكن إثبات الجامع أي عنوان الرجحان والطلب ، فلأنّ هذا الجامع ليس مدلولا مطابقيا ولا تضمنيا لهذا الخبر وإنّما هو مدلول التزامي تحليلي بحسب ما يدركه العقل من الوجوب والاستحباب من كونهما راجحين ومطلوبين للشارع ، وهذا المدلول التحليلي الالتزامي ناشئ ومتفرّع من ثبوت المدلول المطابقي للدليل أي الوجوب والاستحباب ، والمفروض أنّ هذا الخبر لا يدلّ على الاستحباب ودلالته على الوجوب ساقطة ، لأنّه ليس حجّة في إثباته ، وحينئذ يحكم بسقوط هذا المدلول

ص: 310

والجامع خصوصا عند السيّد الخوئي القائل بسقوط المدلول الالتزامي دائما عند سقوط المدلول المطابقي لأنّه مساو له دائما بحسب رأيه ، - كما تقدّم سابقا - ، وهنا المدلول المطابقي ساقط عن الحجيّة فيتبعه المدلول الالتزامي أيضا.

وهذه ثمرة عمليّة مهمة بين هذين القولين كما هو واضح.

الثمرة الثالثة : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس مثلا ، على نحو لا يفهم منه أنّ الجلوس بعد ذلك مستحب أو لا.

فعلى الاحتمال الأوّل يجري استصحاب بقاء الاستحباب ، وعلى الثاني لا يجري لأنّه مجعول بعنوان ( ما بلغه ثواب عليه ) وهذا مقطوع الارتفاع لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.

الثمرة الثالثة : أن يرد خبر ضعيف السند يدلّ على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس ، ولا يفهم أو لا يعلم من نفس هذا الدليل أنّ الاستحباب المذكور هل هو ثابت بعد طلوع الشمس أيضا أم ينتهي عند طلوعها؟

والسؤال هنا هو : هل يجري استصحاب الحكم بالاستحباب إلى ما بعد الطلوع أيضا حيث إنّه مشكوك أم لا؟

والجواب على ذلك يختلف باختلاف الوجهين الأوّل والثاني.

وتوضيح ذلك : أنّا إذا قلنا بأنّ روايات من بلغه تفيد الحجيّة التعبديّة الظاهرية لعنوان البلوغ فيثبت بهذا الخبر استحباب ظاهري ؛ لأنّ عنوان بلوغ الثواب متحقّق فيتحقق بذلك موضوع الحجيّة ، فيحكم بحجيّة هذا الخبر.

وحيث إنّه يشك في بقاء حجيّة هذا الخبر بعد طلوع الشمس فيحكم باستصحاب حجيّته إلى ما بعد الطلوع أيضا ؛ لأنّ الاستحباب ظاهرا معلوم الحدوث سابقا ، ومشكوك البقاء لاحقا فيجري الاستصحاب ، والاستصحاب كما يجري في الأحكام الثابتة واقعا كذلك يجري في الأحكام الثابتة تعبدا.

وأمّا إذا بنينا على الاحتمال الثاني من أنّ مفاد الروايات جعل استحباب نفسي واقعي ثانوي على عنوان ( من بلغه ) فهنا لا يمكن إجراء استصحاب بقاء الاستحباب الثابت قبل طلوع الشمس ؛ وذلك لأنّه على هذا الاحتمال يحكم بثبوت الاستحباب الواقعي على طبق عنوان البلوغ.

ص: 311

وحيث إنّ عنوان البلوغ قد ثبت مقيّدا بطلوع الشمس ، فيثبت لنا هذا المقدار ، وأمّا الاستحباب بعد الطلوع فهذا لا دليل عليه ؛ لأنّه لم يتحقّق فيه البلوغ المجوّز للحكم بالاستحباب الواقعي ، إذ لم يرد في هذا الخبر ثواب على الجلوس بعد طلوع الشمس ، والاستحباب إنّما ثبت قبل الطلوع بعنوان ثانوي وهو محدّد بمقداره - أي قبل الطلوع - ولا يمكن جريان استصحابه لأنّه يقطع بارتفاع الاستحباب الثابت قبل طلوع الشمس عند طلوعها ، وأمّا بعد طلوعها فيشك في أصل ثبوته لا في بقائه ؛ لأنّه لو كان الاستحباب ثابتا بعد الطلوع فهو استحباب آخر غير الاستحباب الثابت قبل الطلوع ، فالشك فيه شكّ في أصل ثبوته لا في بقائه. ولذلك لا يجري الاستصحاب لاختلال أحد أركانه ، إذ لا شكّ في البقاء للموضوع ، وإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم الثابت له ، فإذا شكّ في الحكم مجدّدا فيشك فيه من جهة أنّه هل تحقّق موضوع آخر لهذا الحكم أم لا؟ وهنا لا نحرز بل نقطع بعدم البلوغ بعد الطلوع إذ لا دليل عليه بهذا الخبر.

ومهما يكن فلا شكّ في أنّ الاحتمال الأوّل مخالف لظاهر الدليل ، كما تقدّم في الحلقة السابقة ، فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجيّة الخبر في باب المستحبات.

بعد أن عرفنا هذه الاحتمالات والفوارق النظرية والعمليّة بينها نعود الآن لنرى أنّ هذه القاعدة أي التسامح في أدلة السنن المبنية على هذه الروايات هل هي تامّة أم لا؟

لا إشكال في أنّ الاحتمالين الرابع والثالث لا يمكن الاستناد إليهما كمستند لهذه القاعدة ، لأنّهما لا يتضمنان أىّ نوع من أنواع الحكم لا الظاهري ولا الواقعي ، وإنّما مجرّد إخبار عن حسن الاحتياط عقلا ، وأنّ هناك ثوابا على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، مضافا إلى أنّه لا يمكن المصير إليهما لمخالفتهما لظاهر هذه الروايات فإنها بصدد التشريع وإعمال المولوية لا مجرّد الإخبار.

ولذلك يدور الأمر بين الاحتمالين الأوّل والثاني ، فإن قيل بالاحتمال الأوّل تمت القاعدة المذكورة لأنّ مفاده حجيّة الخبر الضعيف في باب المستحبات ، وهذا يتناسب مع القاعدة لأنّ مفادها أنّه في أدلة السنن يتسامح فيها والتسامح فيها يكون بلحاظ السند أي أنّه لا يشترط في أدلة السنن صحّة الخبر بنحو يكون واجدا لشرائط الحجيّة ،

ص: 312

بل يتسامح في ذلك ويتنازل عن شروط الحجيّة أو أنّه يتسامح في ذلك وتوسّع دائرة الحجيّة لتشمل كل خبر حتّى الخبر الضعيف سندا.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو لا يتناسب مع القاعدة ، ولا يصلح مستندا لها ؛ لأنّ مفاده جعل استحباب واقعي تحت عنوان ثانوي ، وهذا لا يتناسب مع التنازل أو التوسعة في شروط الحجيّة ، لأنّها تنظر إلى الحكم الظاهري بينما الاحتمال الثاني ينظر إلى الواقع.

فالصحيح هو أنّ الاحتمال الأوّل لا يمكن المصير إليه أيضا لكونه مخالفا لظاهر هذه الروايات ، فإنّ ظاهرها إنشاء استحباب مجعول على عنوان من بلغه سواء كان هذا الاستحباب ثابتا في الواقع أم لا ، وهذا يتناسب مع العنوان الثانوي الذي هو موضوع للحكم الواقعي لا الظاهري ، لأنّ الحكم الظاهري مجعول في مقام الشك في الواقع وهذه الروايات تصرح بأن هذا الحكم بالاستحباب ثابت حتّى مع عدم مطابقته للواقع ، بقوله : « وإن كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقله » ، وهذا لا يتناسب مع الحكم الظاهري بل مع الحكم الواقعي ، ولذلك يتعين القول بأنّها بصدد إنشاء حكم واقعي بالاستحباب على عنوان البلوغ الثانوي ، وعليه فلا تتم القاعدة المذكورة (1).

ص: 313


1- ذكر السيّد الشهيد في بحوثه أنّه لا معيّن للاحتمال الثاني على الأوّل ، رغم مخالفته لظاهر الروايات ، ولذلك لم يرجّح أحدهما على الآخر ، إلا أنّ بعض مشايخنا ذكر في تقريراته للسيد الشهيد أنّه قد رجّح الثاني على الأوّل كما هو مذكور هنا.

ص: 314

البحث الثالث : في حجيّة الظهور

اشارة

ص: 315

ص: 316

البحث الثالث

في حجيّة الظهور

أقسام الدلالة :

الدليل الشرعي قد يكون مدلوله مرددا بين أمرين أو أمور وكلّها متكافئة في نسبتها إليه ، وهذا هو المجمل ، وقد يكون مدلوله متعيّنا في أمر محدّد ولا يحتمل مدلولا آخر بدلا عنه ، وهذا هو النص ، وقد يكون قابلا لأحد مدلولين ولكنّ واحدا منهما هو الظاهر عرفا والمنسبق إلى ذهن الإنسان العرفي ، وهذا هو الدليل الظاهر.

بعد الحديث عن إثبات صدور الدليل والوسائل والطرق الوجدانية والتعبديّة لإحرازه ، وبعد الحديث عن مفاد ومدلول بعض الألفاظ وإثبات ظهورها في معانيها ، نأتي إلى البحث الثالث وهو أن هذا الظاهر من لسان الدليل بحكم دلالة اللفظ عليه هل هو حجّة أم لا؟

وقبل البحث عن حجيّة الظهور نتعرض بشكل عام للحديث حول أقسام دلالة الكلام والألفاظ على المعاني فنقول :

أقسام الدلالة :

الدليل عموما والدليل الشرعي بشكل خاص ، لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : أن يكون مجملا بمعنى أن يكون مدلوله ومفاده مردّدا بين أمرين أو أمور ، بحيث يكون كل واحد منها صالحا لانطباق الدليل عليه بحسب النظام اللغوي

ص: 317

للكلام بأن كان اللفظ الموجود في الدليل مشتركا بين عدة معان وكل هذه المعاني متساوية النسبة إليه ، ولا معين لأحدها على الآخر ؛ كقولك : رأيت عينا ، فإنّ العين تصلح لأنّ تكون العين النابعة أو الباصرة أو الشيء.

الثاني : أن يكون نصّا بمعنى أن يكون المدلول واحدا ولا يحتمل معه شيء آخر ، فتكون دلالة اللفظ على المعنى قطعية لا شكّ فيها أبدا بحسب النظام اللغوي ، بحيث لا يكون هناك معنى آخر بديلا عن هذا المعنى ؛ كقولك : رأيت رجلا.

الثالث : أن يكون ظاهرا ، بمعنى أنّه يوجد لمدلول الدليل عدة معان ، ولكن كان أحد هذه المعاني هو الأسبق تصوّرا في الذهن من البقية ، أي أنّ الذهن عند ما يتصور هذا اللفظ ينتقل فورا إلى أحد معانيه مع احتمال إرادة سائر المعاني الأخرى أيضا ، إلا أنّ ما تصوّره الذهن هو المعنى المتبادر والمنسبق من اللفظ بحسب النظام اللغوي ، أو بحسب المتفاهم عرفا ، كظهور اللفظ الخالي من القيود في الإطلاق ، أو ظهور بعض الجمل في المفهوم ونحو ذلك.

وهذا هو المقصود من البحث هنا ، وسيأتي الحديث عنه مفصّلا بعد الحديث عن المجمل والنص.

فتلخّص من ذلك أنّ : النص هو أن يدلّ اللفظ على معناه من دون احتمال شيء آخر معه.

والمجمل هو أن يدلّ اللفظ على عدّة معان كلّها متساوية ومتكافئة ولا ترجيح لأحدها.

والظاهر هو أن يدلّ اللفظ على عدّة معان لكنّ أحدها أسبق تصوّرا من البقيّة عرفا ولغة.

أمّا المجمل فيكون حجّة في إثبات الجامع بين المحتملات ، إذا كان له على إجماله أثر قابل للتنجيز ، ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز ، إما بتعيين المراد من المجمل مباشرة ، وإما بنفي أحد المحتملين فإنّه بضمه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر ، وإما بمجمل آخر مردّد بين محتملين ويعلم بأن المراد بالمجملين معا معنى واحد وليس هناك إلا معنى واحد قابل لهما معا فيحملان عليه ، وإما بقيام دليل على إثبات أحد محتملي المجمل فإنّه وإن كان لا يكفي لتعيين المراد من المجمل

ص: 318

في حالة عدم التنافي بين المحتملين ، ولكنّه يوجب سقوط حجيّة المجمل في إثبات الجامع وعدم تنجزه ؛ لأنّ تنجز الجامع بالمجمل إنّما هو لقاعدة منجزية العلم الإجمالي وهذه القاعدة لها أركان أربعة وفي مثل الفرض المذكور يختل ركنها الثالث كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة ، حيث إنّ أحد المحتملين إذا ثبت بدليل فلا يبقى محذور من نفي المحتمل الآخر بالأصل العملي المؤمّن.

الدليل المجمل : أمّا حجيّة المجمل مع بقائه على إجماله فهي إنّما تتصوّر فيما إذا كان هناك جامع بين المحتملين أو المحتملات ، وكان لهذا الجامع بما هو كذلك أثر شرعي تنجيزي ، فإنّه في هذه الحالة سوف يكون هناك علم إجمالي بجامع التكليف الإلزامي المنجز ويشك في الأفراد ، وفي مثل هذه الحالة يتنجز الجامع على المكلّف دون أن تتنجز نفس المحتملات ؛ لأنّها غير معلومة كما إذا ورد دليل يدلّ على مطلوبيّة صلاة الليل ، ولكن كان اللفظ الدال على ذلك مجملا ومردّدا بين الوجوب أو الاستحباب ، فهنا يعلم إجمالا بجامع الطلب والرجحان والإرادة ولكن لا يعلم بالخصوصيات والمصاديق ، ولذلك لا يسري العلم من الجامع إلى الأفراد ، فإذا فرض لهذا الجامع أثر تنجيزي فيكون الدليل المجمل حجّة في إثباته وإلا فلا.

وهذا الجامع يكون منجّزا على المكلّف ما لم تختل منجزيته كما لو اختلت إحدى أركان منجزية العلم الإجمالي ، كما في الصور التالية :

الأولى : أن يأتي سبب من الخارج يبطل منجزية العلم الإجمالي وبالتالي لا يتنجز الجامع بأن كان هناك دليل خاص يعيّن المراد من الدليل المجمل مباشرة ، بأن كان هذا الدليل الخاص ناظرا إلى تفسير المقصود والمراد منه ، فيصبح حينئذ الدليل نصّا ، وبالتالي يتنجز أحد المحتملات السابقة دون غيره.

وهذا النظر والتفسير للمراد إما أن يكون بقرينة عامّة كالتخصيص والتقييد والأظهرية ، وإما أن يكون بقرينة خاصّة كالحكومة ، فلو كان الدليل المجمل مردّدا بين وجوب صلاة الليل أو استحبابها ، ثمّ جاء دليل آخر مفاده تفسير المراد من هذا المجمل وعيّن المراد منه بأنه الاستحباب ؛ لكان هذا الدليل حاكما بالحكومة التفسيرية - كما سيأتي - وبالتالي تنحلّ منجزية العلم الإجمالي بالجامع إلى الفرد ، ويكون المقصود من الطلب والرجحان خصوص الاستحباب.

ص: 319

الثانية : أن يكون هناك دليل من الخارج ينفي أحد المحتملين ، فإنّه إذا ضمّ هذا الدليل إلى الدليل المجمل الدائر أمره بين هذين المحتملين فقط تعيّن أن يكون المراد من المجمل هو المحتمل الثاني.

وهذا أيضا كالسابق لسانه التفسير والقرينة والنظر إلى الدليل المجمل وحل إجماله ببيان المقصود منه ، غاية الأمر أنّه في الصورة الأولى كان المقصود مبيّنا في الدليل الآخر مباشرة بينما هنا بالملازمة فإنّ الدليل الآخر ينفي أحد المحتملين بخصوصه ولمّا كان المجمل يدور بينهما بنحو مانعة الجمع ، فإذا انتفى أحدها تعيّن الآخر ، ففي المثال المتقدّم لو جاء الدليل ونفى وجوب صلاة الليل فإنّه يتعيّن استحبابها لأنّ الدليل المجمل يدور أمره بينهما فقط ، وحيث انتفى الوجوب تعين الاستحباب بمقتضى الحصر المذكور.

الثالثة : أن يأتي دليل آخر ولكنّه مجمل كالدليل السابق ، ولكن يعلم بأنّ المراد من هذين المجملين شيء واحد بأن كانا معا ناظرين إلى موضوع واحد ، وكان كل منها يشتمل على طرف يصلح لتفسيرهما معا لو حملا عليه ، بخلاف ما لو حمل كل منهما على غيره ، فهنا يتعيّن حملهما على هذا المحتمل الذي له القابلية لحلّ الإجمال فيهما بقرينة كونهما معا ينظران إلى مقصود واحد ، ولذلك ينحل العلم الإجمالي وتبطل منجزية الجامع لسريان العلم إلى الفرد.

مثال ذلك : المثال الفقهي المعروف في مسألة تحديد الكرّ بالأرطال ، حيث ورد دليل مفاده أنّ الكرّ تقديره ألف ومائتا رطل ؛ ولكنّه مردّد بين الرطل العراقي أو الرطل المكي.

وورد دليل آخر مفاده أنّ الكرّ تقديره ستمائة رطل وهو مردّد أيضا بين العراقي والمكّي.

فهنا حيث إنّنا نعلم أنّ المقصود منهما شيء واحد لاتحاد موضوعهما ، وحيث نعلم أيضا من الخارج بأنّ الرطل العراقي يساوي نصف الرطل المكي فيمكننا تحديد المقصود منهما وحلّ الإجمال بحمل الدليل الأوّل على الرطل المكي والثاني على الرطل العراقي ، إذ لو لم نفعل ذلك لوقع التناقض والتكاذب بين الدليلين مع أنّنا نعلم بأنّهما ناظران إلى شيء واحد.

ص: 320

وبهذا التفسير ينحل الإجمال في الدليلين وبالتالي تبطل منجزية العلم الإجمالي بالجامع لسريانه إلى الفرد.

الرابعة : أن يأتي دليل من الخارج ويثبت أحد المحتملين من الدليل المجمل ، ولكن لا بنحو يكون هذا الإثبات مستلزما لنفي الآخر ، بل يبقى الآخر محتملا في نفسه أيضا ، بأن كان المجمل يدور أمره بينهما على أساس مانعة الخلو ولكن يحتمل اجتماعهما أيضا ، فهنا لا يكون هذا الدليل موجبا لبطلان منجزية العلم الإجمالي بالجامع مباشرة ، وإنّما يوجب اختلال الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي الذي هو جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين ، فإنها لا تجري في المحتمل الذي ثبتت منجزيته بهذا الدليل الخاص ، ولذلك تجري في المحتمل الآخر من دون مانع ولا محذور فينحل العلم الإجمالي حينئذ.

وتوضيح ذلك : إذا ورد دليل يدلّ على جواز التيمم بالصعيد ، ولكنّه مجمل ومردّد بين كون المراد من الصعيد مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، ثمّ يأتي دليل آخر يثبت أنّ التيمم بالتراب ، فهنا يكون هذا الدليل مثبتا لأحد المحتملين من المجمل ، ولكنّه لا ينفي المحتمل الآخر ، إذ لا منافاة بين الأمرين ، ولكن مع ذلك يسقط الجامع لاختلال الركن الثالث من أركانه ، لأنّ أحد طرفيه قد تنجّز على كل تقدير ولذلك لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة المؤمّنة ، بينما تجري في الآخر من دون معارض ولذلك ينحلّ الجامع وتبطل منجزيته.

وكما في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) وتردّد المراد من الأم بين النسبيّة أو هي والسببيّة ، ثمّ يأتي دليل آخر يثبت أنّ الأمّ النسبيّة هي التي تحرم على الإنسان ، فإنّه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية لأنّ أحد أطرافه قد تنجز بمنجز شرعي فتجري الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر من دون معارض ، إذ لا يمكن جريانها في الطرف الذي قام عليه المنجز ، وبالتالي تنحل منجزية هذا العلم الإجمالي بالجامع.

وأمّا النصّ فلا شكّ في لزوم العمل به ولا يحتاج إلى التعبد بحجيّة الجانب الدلالي منه إذا كان نصّا في المدلول التصوّري والمدلول التصديقي معا.

وأمّا حجيّة النص فهي ممّا لا شكّ فيها ويجب العمل بمفاده ، ولا نحتاج إلى التعبد

ص: 321

بحجيّة الظهور فيه أصلا ، فيما إذا كان نصّا في مدلوله التصوّري والاستعمالي والتصديقي الجدّي كما هو المفروض من النص ، وذلك لأنّه يكون حجّة تكوينا ووجدانا ، وبالتالي يجب العمل والامتثال لمدلوله بحكم الحجيّة التكوينيّة الثابتة للقطع.

* * *

ص: 322

دليل حجيّة الظهور

اشارة

ص: 323

ص: 324

دليل حجيّة الظهور

وأمّا الظاهر فظهوره حجّة ، وهذه الحجيّة هي التي تسمّى بأصالة الظهور ، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الوجه الأوّل : الاستدلال بالسنّة المستكشفة من سيرة المتشرعين من الصحابة وأصحاب الأئمّة علیهم السلام حيث كان عملهم على الاستناد إلى ظواهر الأدلّة الشرعيّة في تعيين مفادها ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة توضيح الطريق لإثبات هذه السيرة.

وأمّا الدليل الظاهر :

فظهوره حجّة ، للأدلة التي سوف نذكرها ، وهي :

الوجه الأوّل : الاستدلال بسيرة المتشرّعة من الصحابة والأصحاب فإنّ عمل المتشرّعة كان قائما على الأخذ بظاهر كلام الشارع سواء من الكتاب أم السّنة ، وعملهم هذا بعد إثباته بأحد الطرق المذكورة سابقا يثبت به أنّ الشارع يرضى بالعمل والأخذ بالظهور ، لأنّ سيرة المتشرّعة تكشف عن طريق الإن موافقة المعصوم ، لأنّها معلولة للدليل الشرعي ، إذ فرض كونهم متشرعة معناه أنّهم لا يعملون ولا يتصرفون بشيء إلا إذا كان صادرا من الشارع ، فعملهم هذا يكشف يقينا عن رضى المعصوم ، ولا نحتاج إلى إثبات ذلك ، لأنّ المعلول إذا تحقّق فعلته متحققة حتما ، ولا يمكن وقوعه من دونها إذ هذا خلف معلوليّته لها.

إلا أنّ المهم هنا هو إثبات انعقاد سيرة المتشرّعة فعلا على العمل والأخذ بالظواهر ، وهذا يمكن إثباته بالطرق المذكورة سابقا ، والمهم منها هنا هو الطريق الخامس الذي مفاده أنّه إذا لم يكن العمل بالظهور حجّة وصادرا من الشارع لكان هناك سلوك آخر بديل عنه ، وهذا السلوك الآخر البديل يعتبر ظاهرة غير مألوفة وغريبة ، ولذلك لا بدّ من

ص: 325

ذكرها وتسجيلها وبالتالي لا بدّ أن تصل إلينا إلا أنّ الواصل إلينا خلاف ذلك ، فهذا يدلّ على أنّه لم يكن هناك سلوك بديل عنها.

مضافا إلى النقل التاريخي عبر كتب التاريخ والسيرة وكتب الأخبار التي يستفاد منها استدلال الأئمّة علیهم السلام وغيرهم بظواهر الكتاب والسنّة والتمسّك بها والعمل بمفادها ، وكذلك فإنّ أصالة عدم النقل أو عدم التغيّر تثبت أنّ السيرة المنعقدة الآن على الأخذ بالظواهر ليست سيرة حادثة بل هي ممتدة إلى عصر النصّ والتشريع أيضا.

الوجه الثاني : الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائيّا ممّا لا شكّ فيه ، لأنّها محسوسة بالوجدان ، ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين ، إذ لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات ، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعا تكون هذه السيرة دليلا على حجيّة الظهور.

الوجه الثاني : أن يستدلّ بسيرة العقلاء على حجيّة الظهور بتقريب أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ العقلاء يبنون على العمل والأخذ بظهور الكلام سواء في ذلك الأغراض التكوينيّة الشخصيّة كما في الرجوع إلى كتب اللغة لمعرفة معنى الكلام أم في الأغراض التشريعيّة لهم أي في علاقات الآمرين والمأمورين معا ، فإنهم يحكمون باستحقاق المأمور للعقاب لو لم يعمل بظاهر كلام الآمر ، ولا يسمع منه أنّ ظاهر كلامه ليس حجّة ، بل يكون عذره هذا أقبح عندهم من مخالفته ، كما أنّهم يعتبرون المأمور مطيعا ويستحق المدح أو الثواب لو عمل بظاهر كلام الآمر ولا يسمع من الآمر احتجاجه بأنّه لا يبني على حجيّة الظهور.

ثمّ إنّ هذا البناء العقلائي يشكّل ميلا وارتكازا وإيحاء ولو خطأ في أنّه يجوز استكشاف مراد الشارع اعتمادا على ما يظهر من كلامه ، وهذا يشكّل خطرا على أغراض الشارع وأحكامه فيما لو لم يكن يرى الظهور حجّة ولكان يجب عليه الردع عن هذه السيرة ، فسكوته وعدم ردعه عنها معناه أنّه يرضى بالعمل والأخذ بالظهور وهذا معنى حجيّة الظهور.

والدليل على أنّ سيرة العقلاء منعقدة فعلا على العمل والأخذ بالظواهر هو

ص: 326

الوجدان الشاهد بذلك ، لأنّ بناءهم هذا محسوس لدى كل عاقل من العقلاء في كل المجتمعات وليست هذه السيرة مختصّة بفترة زمنية معينة ، فإنّ سيرة العقلاء المعاصرة تأخذ بالظواهر وعن طريق أصالة عدم النقل أو عدم التغير نثبت كونها كانت موجودة حتّى في عصر الشارع وليست حادثة وطارئة ومتأخّرة عنه ، بل كانت قبله ومعه وبعده.

مضافا إلى أنّنا لو تتبعنا واستقرأنا كل المجتمعات بوصفها العقلائي لاستكشفنا أنّه لم يعهد للعمل بالظواهر بديل آخر بحيث إنّه لا يوجد مجتمع من المجتمعات لا يبني على العمل بالظواهر ، وهذا معناه أنّها مرتكزة عند كل عاقل في كل زمان ومكان.

الوجه الثالث : التمسّك بما دلّ على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة والعمل بهما ، بتقريب أنّ العمل بظاهر الآية أو الحديث مصداق عرفا لما هو المأمور به في تلك الأدلّة فيكون واجبا ، ومرجع هذا الوجوب إلى الحجيّة.

الوجه الثالث : أن يستدلّ على حجيّة الظهور بالروايات الصحيحة سندا الدالة على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة ، كحديث الثقلين ، أو الدالة على الرجوع إلى الكتاب والسنّة وتحكيمهما عند التعارض أو عند الاختلاف والتنازع والتحاكم.

فإنّ هذه الروايات تدلّ إما على التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة بما هما ألفاظ أو بما هما معان ، وعلى كلا التقديرين يكون العمل بالظاهر أي بظاهر الآية أو بظاهر الرواية عملا بالكتاب إمّا لكونه مصداقا للعمل بالألفاظ وإمّا لكونه مصداقا للعمل بالمعنى ، وهذا يعني أنّ هذه الأخبار لها إطلاق لفظي أو مقامي للعمل بالظاهر ؛ لأنّ العمل بالظاهر يعتبر - عرفا - مصداقا للتمسّك والعمل بالكتاب والسنّة ، وحيث إنّ التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة قد وقعا متعلّقا للأمر فيكونان واجبين ، وبما أنّ العمل بالظاهر مصداق عرفا لهما فيكون العمل به واجبا أيضا ، لكونه مصداقا للمأمور به ، وليس هناك معنى لوجوبه إلا كونه حجّة شرعا فيثبت المطلوب.

وبين هذه الوجوه فوارق :

فالوجه الثالث مثلا بحاجة إلى تماميّة دليل على حجيّة الظهور ولو في الجملة دونهما ، لأنّ مرجعه إلى الاستدلال بظهور الأحاديث الآمرة بالتمسّك وإطلاقها فلا بد من فرض حجيّة هذا الظهور في الرتبة السابقة.

ص: 327

كما أنّ الوجهين الأوّلين يجب ألا يدخل في تتميمهما التمسك بظهور حال المولى لإثبات الإمضاء ، لأنّ الكلام الآن في حجيّته ، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة.

الفوارق بين هذه الوجوه :

ثمّ إنّه توجد بعض الفوارق بين هذه الوجوه ، منها :

إنّ الوجه الثالث وهو الاستدلال بما دل على التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة يحتاج إلى فرض حجيّة الظهور في الجملة ؛ وذلك لأنّ تماميّة الاستدلال بهذه الروايات متوقفة على كون ظهورها في الإطلاق اللفظي أو الإطلاق المقامي الشاملين للعمل بالظاهر حجّة في رتبة سابقة ، إذ لو لم يكن هذا المقدار حجّة لم يمكن الاستدلال بهذا الدليل لاستلزامه الدور أو المصادرة على المطلوب لأنّ الكلام في إثبات حجيّة الظهور مطلقا - أي كل ظهور - وهذا مبنيّ على أن يكون ظهور تلك الروايات بشكل خاص ثابتا وجدانا أو يوجد اطمئنان شخصي به ، أو كان ظهورهما في مرتبة عليا من الظهور لا يمكن التشكيك بها.

وبتعبير آخر : أنّ هذا الدليل كان يستدلّ بظاهر الروايات الدالة على لزوم التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة الشاملة بإطلاقها للعمل بظاهر الكتاب والسنّة ، فإذا كان الظهور لم يفرغ عن حجيّته بعد فكيف يستدلّ بظهور هذه الروايات على العمل بالظهور وعلى حجيّة الظهور؟ إذ من الواضح حينئذ أنّ المدّعى والبرهان واحد.

والجواب : إنّنا نفترض أنّ ظهور الروايات الدالة على التمسّك بالكتاب والسنّة حجّة في مرتبة سابقة ، وذلك بأن نفرض حجيّة الظهور بالجملة ، أي أنّه توجد هناك مرتبة من الظهور لا إشكال في حجيّتها وفي العمل بها ، وهذه المرتبة موجودة في هذه الروايات ، ونريد أن نستدلّ من خلال ظهور هذه الروايات الواصلة إلى تلك المرتبة على حجيّة كل ظهور ، أي نريد الاستدلال بالروايات بعد الفراغ عن حجيّة الظهور بالجملة على حجيّة الظهور بكل تفصيلاته وجزئيّاته ، بحيث يكون الظهور الإجمالي الموجود في هذه الروايات حجّة للاستدلال على الظهور التفصيلي المطلوب إثباته.

وهذا نظير التبادر الذي يكون علامة على الحقيقة ، فإنّه متوقف على العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع ، ويراد بالتبادر معرفة الوضع التفصيلي.

ص: 328

وأمّا الوجهان الأولان فلا يتوقفان على ذلك ، لأنّ السيرة ؛ - سواء المتشرعية أم العقلائيّة - ليست دليلا لفظيّا ليتمسك بظاهرها ، وإنّما هي من الأدلّة اللبّية.

نعم ، يشترط في الاستدلال بالسيرة العقلائيّة (1) أن تكون كاشفة عن الإمضاء عن طريق عدم الردع ، ولكن اكتشاف عدم الردع فيها يجب أن لا يكون على أساس ظهور حال الشارع في مقام التوجيه والإرشاد والتعليم والمراقبة على تطبيق الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ هذا معناه أن يكون الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على حجيّة الظهور متوقفا على حجيّة ظهور حال الشارع ، وهذا النحو من الظهور الحالي لم نفرغ من إثبات حجّيته بعد ، فيكون مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ حجيّة الظهور المراد إثبات حجّيتها تشمل كل ظهور سواء اللفظي أو المقامي أو الحالي.

فلا بدّ من اكتشاف عدم الردع عن السيرة العقلائيّة من خلال الدليلين العقليين أي كون الشارع آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر أو كونه هادفا وله غرض.

وقد يلاحظ على الوجه الأوّل :

إنّ سيرة المتشرّعة وإن كان من المعلوم انعقادها في أيام النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكن الشواهد التاريخية إنّما تثبت ذلك على سبيل الإجمال ، ولا يمكن التأكد من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجيّة الظهور أخفى من غيرها ، كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة متّصلة ، فقد بنى المشهور على حجيّة الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه في حلقة سابقة.

وهنا نقول : إنّ مدرك الحجيّة إذا كان هو سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع أن نتأكد أنّها جرت فعلا على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات؟ وأمّا إذا كان مدرك الحجيّة السيرة العقلائيّة فيمكن للقائلين بالحجيّة أن يدعوا شمول الوجدان العقلائي لهذه الحالة أيضا.

ص: 329


1- وأمّا الاستدلال بالسيرة المتشرعية فلا نحتاج فيها إلى ذلك ، لأنّها لا تحتاج إلى إثبات عدم الردع أصلا ، لأنّها تكشف عن قول الشارع بطريق الإن ، وشمول العبارة لها من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو من باب المسامحة في التعبير.

قد يشكل على الاستدلال بالسيرة المتشرعية أنّها وإن كان يحرز انعقادها فعلا أيام النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ، إلا أنّ هذا العمل كان قائما على الأخذ بظواهر ألفاظ الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ، - أي بالظهور اللفظي - وأمّا سائر الظواهر التي يراد إثبات حجيّتها كالظهور الحالي مثلا الذي لا دلالة عليه في الكلام فكيف يمكننا التأكد أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمة فعلا على الأخذ به ، مع عدم اليقين بذلك؟ بل حتّى بعض الظهورات اللفظيّة الخفية لا يمكن التأكد واليقين بالعمل والأخذ به من خلال سيرة المتشرّعة ، وبما أنّ السيرة دليل لبّي فيقتصر فيه على القدر المتيقن لا أزيد وهو هنا الظواهر اللفظيّة الواضحة والجلية دون غيرها.

وبهذا تكون سيرة المتشرّعة عبارة عن قضيّة خارجية شخصيّة لا يمكن تعميمها لكل الحالات الأخرى ، فهي تثبت العمل والأخذ بالظواهر بنحو مجمل ، وقدره المتيقن هو الظواهر اللفظيّة الواضحة فتكون قضيّة مهملة بقوّة الجزئيّة ، فكيف يمكن استفادة حجيّة الظهور منها ، كقاعدة كلية عامّة تشمل كل موارد الظهور وأقسامه؟!

ومثال ذلك : أنّ احتمال اتّصال الكلام بقرينة متّصلة يعتبر من الحالات التي وقع الخلاف فيها ، بمعنى أنّ احتمال وجود مثل هذه القرينة في الكلام هل يمنع من انعقاد ظهور الكلام أو لا يمنع من ذلك؟

مذهب المشهور أنّ ذلك لا يمنع من التمسّك بالظهور ، بل يبقى الظهور على حجيّته ما لم تحرز هذه القرينة المتّصلة ، فاحتمال وجودها عندهم كالقطع بعدمه.

بينما اخترنا نحن أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة كالقطع بوجودها يمنع من انعقاد ظهور الكلام إذ من المحتمل أن تكون هذه القرينة على فرض اتصالها ووصولها إلينا مانعة وصارفة للظهور ، فكيف يمكن الاعتماد على الظهور والقول بحجيّته؟ فلو وصل إلينا حديث مقتطع الذيل واحتملنا أن يكون هذا المقتطع قرينة صارفة للظهور فكيف يمكننا التمسّك به؟

ولذلك قلنا : إنّ هذا الاحتمال يوجب على الأقلّ الإجمال في الدليل وعدم القطع بظهوره ، ومع عدم القطع بالظهور فكيف يقال بحجيّته ويتمسك بها ؛ إذ الحجيّة فرع التسليم أوّلا بظهور الكلام في المعنى وهذا غير متحقّق في الفرض المذكور؟

ص: 330

وحينئذ نقول : إنّه في هذه الحالة مثلا كيف يمكننا إثبات أنّ سيرة المتشرّعة كانت منعقدة فعلا على الأخذ والعمل بالظهور رغم وجود هذا الاحتمال؟

والجواب : هو أنّ سيرة المتشرّعة لو كانت هي المدرك الوحيد لحجيّة الظهور بمعزل عن السيرة العقلائيّة فلا يمكننا إثبات حجيّة الظهور في كل الحالات ، وخاصّة في هذه الحالة ، لما ذكرنا من أنّها تثبت حجيّة الظهور بنحو القضيّة المهملة ، التي هي بقوّة الجزئيّة ، والتي يقتصر فيها على القدر المتيقن وهو العمل والأخذ بحجيّة ظواهر الكتاب والسنّة الواضحة والجلية دون سائر موارد الظهور الأخرى ، فإنّه لا يمكن الجزم والتأكد بانعقاد سيرتهم على العمل والأخذ بحجيّة الظهور فيها.

نعم ، لو كان مدرك حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة فيمكن تعميم البناء العقلائي لكل الموارد الأخرى استنادا إلى وجود الإيحاء والارتكاز عند العقلاء في الأخذ بالظهور ولو في بعض الموارد ، فإنّ هذا الارتكاز يوحي لهم ولو خطأ بأنّ العمل بالظهور في كل الموارد الأخرى حجّة أيضا ، وإلا لردع الشارع عنه ، فما دام لم يردع وسكت فيعمم العمل. والأخذ بالظهور من خصوص ظواهر الكتاب والسنّة الثابتين بالسيرة المتشرعية إلى كل ظهور سواء كان لفظيّا أم حاليّا وسواء كان واضحا جليا أم خفيا استنادا إلى الارتكاز والبناء العقلائي.

ولذلك يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ سيرة المتشرّعة وإن كانت قائمة على العمل والأخذ بالظواهر اللفظيّة الواضحة إلا أنّه بعد ضم البناء العقلائي على العمل بالظهور ولو في موارد خاصّة يعمّم هذا العمل كل الظهورات الأخرى.

وبالجملة : نستطيع أن نعمّم الحجيّة إلى سائر الموارد الأخرى ، فتكون سيرة المتشرّعة محتاجة إلى سيرة العقلاء من أجل تعميم الحجيّة فقط ، ورغم ذلك لا نحتاج إلى إثبات الإمضاء وعدم الردع ؛ لأنّ سيرة المتشرّعة منعقدة فعلا على العمل بالظهور بالجملة ومن خلال عملهم هذا ثبت أيضا أنّ العقلاء يبنون على العمل بالظهور في الجملة أيضا بوصفهم من جملة العقلاء أيضا ، إذ لو كان عملهم هذا بوصفهم المتشرعي البحت ولم يكن موجودا عند العقلاء ؛ لكان سلوكا غير مألوف ولكان يجب التأكيد عليه من الشارع وشيء من هذا لم يحصل.

وقد يلاحظ على الوجه الثاني ، وهو الاستدلال بالسيرة العقلائيّة أمران :

ص: 331

أحدهما : أنّه قاصر عن الشمول لموارد وجود أمارة معتبرة عقلائيّا على خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرة شرعا ، كالقياس مثلا - لو قيل بأنّ العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور - فلا يمكن إثبات حجيّة الظهور المبتلى بهذه الأمارة على الخلاف بالسيرة العقلائيّة ، إذ لا سيرة من العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلا.

وقد يشكل على الاستدلال بالسيرة العقلائيّة بإشكالين :

الإشكال الأوّل : أنّ سيرة العقلاء وإن سلّم أنّها منعقدة على العمل بالظهور ، وأنّ هذه السيرة لم يردع الشارع عنها إلا أنّه لا يسلّم انعقادها على العمل بكل ظهور حتّى الظهور الذي يبتلى بقرينة على خلافه ، وإن لم تكن هذه القرينة والأمارة حجّة شرعا.

والوجه في ذلك : أنّ مثل هذه القرينة الظنية تكشف عن الواقع وسيرة العقلاء إنّما يعمل بها لكونها كاشفة عن الواقع ، فعند ما تعتبر سيرة العقلاء قائمة على العمل بالظهور فهذا يعني أنّ الظهور يعتبر كاشفا عن الواقع والمراد الجدّي للمتكلّم ، إذ من غير المعقول أن يبني العقلاء على العمل بالظهور من باب التعبّد المحض ، إذ لا وجود للتعبدات المحضة في بناء العقلاء ، وهذا يعني أنّ هذه الأمارة العقلائيّة الظنيّة الكاشفة عن الواقع والمراد تكون معارضة ومخالفة للظهور فكيف يكون كاشفا حينئذ؟ إذ على الأقلّ تشكّل هذه الأمارة مانعا من كاشفيّة الظهور بمعنى أنّ الكاشفتين بحكم تساقطهما ، وحينئذ يكون العمل بالظهور رغم سقوط كاشفيّته تعبديّا محضا ، وهو غير متصوّر أصلا.

فمثلا لو كان القياس قائما على خلاف ما ظهر من الكلام والقياس يفرض كونه من القرائن والأمارات العقلائيّة التي تكشف كشفا ظنيا عن الواقع والمراد - وإن لم يكن حجّة شرعا فإنّ هذا مطلب آخر - ففي هذه الحالة تكون السيرة القائمة على العمل بالظهور مبتلية بما يدلّ ويكشف على خلاف الظهور فكيف يمكن الاعتماد والتعويل على السيرة في خصوص هذه الحالة بالذات؟!

اللّهم إلا إذا استفيد من دليل اسقاطها عن الحجيّة تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار.

ص: 332

نعم ، هذا الإشكال مبنيّ على أن تكون هذه الأمارة العقلائيّة غير منهي عنها شرعا ، فإنّه إذا كان منهيا عنها شرعا واستفيد من دليل إسقاطها عن الحجيّة أنّ وجودها كعدمها لم يكن لقيامها على خلاف الظهور أىّ أثر ، بمعنى أنّ الظهور يبقى على حجيّته حتّى مع وجودها على خلافه ؛ لأنّ الشارع قد اعتبرها وكأنّها غير موجودة ، فكان وجودها وعدمها سيّان ، وبالتالي تكون السيرة تامّة ولا معارض لها أصلا.

والحاصل : أنّ هذا الاشكال مبنيّ على ألا تكون هذه الأمارة مردوعا عنها شرعا ، هذا أوّلا.

وثانيا : مبنيّ على ألا يستظهر من دليل النهي عنها - على فرض وجوده - أنّها نزّلت منزلة العدم ، وإلا لم يكن لها تأثير على منع كاشفيّة الظهور حتّى مع قيامها على خلافه كما هو الصحيح.

ولكنّ الصحيح أنّ هذا الكلام إنّما يتّجه لو قيل بأنّ الإمضاء يتحدّد بحدود العمل الصامت للعقلاء ، غير أنّك عرفت في الحلقة السابقة أنّ الإمضاء يتّجه إلى النكتة المرتكزة التي هي أساس العمل ، وهي في المقام الحجيّة الاقتضائية للظهور مطلقا ، وكل حجيّة كذلك لا يرفع اليد عنها إلا بحجّة ، والمفروض عدم حجيّة الأمارة على الخلاف شرعا ، فيتعيّن العمل بالظهور.

جواب الإشكال :

والصحيح أنّ هذا الإشكال إنّما يرد لو قيل بأنّ الإمضاء بالنسبة للسيرة العقلائيّة يتحدّد بحدود العمل الصامت الذي انعقدت عليه فعلا سيرة العقلاء ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ سيرة العقلاء لم تنعقد على العمل بالظهور فيما إذا كان هناك أمارة ظنيّة عقلائيّة على خلافه حتّى وان لم تكن معتبرة شرعا.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّه ينصبّ على المرتكز والإيحاء والبناء العقلائي الذي يوجبه انعقاد سيرتهم على أمر ما بحيث إنّهم على أساس هذا البناء يوسّعون دائرة الإمضاء إلى سائر الأغراض الأخرى التي لم تنعقد سيرتهم على العمل به فعلا.

وقد تقدّم عند الحديث عن السيرة أنّها وإن انعقدت على أغراضهم التشريعيّة أو

ص: 333

التكوينيّة فقط إلا أنّ هذه السيرة توحي إليهم ولو خطأ بأنّ الشارع يرضى بسيرتهم حتّى بلحاظ أغراضه التشريعيّة ؛ ، ولذلك كان يجب على الشارع النهي والردع عن سيرتهم هذه لو لم يكن موافقا لهم ، فإذا سكت ولم يردع كان ذلك إمضاء لهذه السيرة المتضمنة لهذا الإيحاء والارتكاز. ففي الحقيقة الإمضاء متوجه لهذه التوسعة الناشئة من الإيحاء والبناء والارتكاز.

وفي مقامنا يعلم بانعقاد سيرة العقلاء على الأخذ بالظهور في أغراضهم التكوينيّة والتشريعيّة ، فسكوت الشارع عند ذلك يعتبر إمضاء لبنائهم بالعمل بالظهور حتّى بلحاظ أغراض الشارع أي أنّه يحكم بحجيّة الظهور في كلام الشارع أيضا ، وحينئذ يكون الشارع قد جعل الظهور حجّة بمعنى أنّه يقتضي الحجيّة ، فحجيته اقتضائية فيؤخذ بها ما لم يوجد هناك حجّة أخرى أقوى تمنع من الأخذ بهذا الظهور ، وهذه الحجيّة الأقوى لا بدّ أن تكون معتبرة شرعا ، لأنّ الكلام في ظهور كلام الشارع ، فإذا كان لظهور الكلام في العموم أو الإطلاق حجّة أخرى أقوى منه كالتخصيص والتقييد وكانت معتبرة شرعا فإنّه يرفع اليد عن هذا الظهور وبالتالي لا يكون حجّة فعلا ، وإن كان يقتضي الحجيّة بذاته لو لا هذا المانع.

وأمّا إذا قامت قرينة وأمارة على خلاف الظهور ولم تكن معتبرة شرعا فهذا يعني أنّه لا يمكن أن يرفع اليد بها عن حجيّة الظهور المعتبرة شرعا ، لأنّ الحجّة لا يرفع اليد عنها إلا إذا قامت حجّة أقوى منها على خلافها ، وهنا لم تقم الحجّة الأقوى بل لم تقم الحجّة أصلا ، لأنّ مثل هذه الأمارة غير معتبرة شرعا ، فهي ليست حجّة تعبّدا ليعوّل عليها في تفسير المراد الجدّي من كلام الشارع ، فهي وإن كانت عقلائيّة ولكنها ظنيّة فتحتاج إلى التعبد الخاص من الشارع والمفروض أنّ خلافه هو الموجود.

ولذلك يتعيّن العمل بالظهور ولا تضرّ مثل هذه القرينة والأمارة.

والأمر الآخر الذي يلاحظ على الوجه الثاني أنّ السيرة العقلائيّة إنّما انعقدت على العمل بالظهور واتخاذه أساسا لاكتشاف المراد في المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادة ، والشارع ليس من هذا القبيل ، فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالة متعارفة ولا توجد حالات مشابهة في العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها.

ص: 334

الإشكال الثاني : على السيرة العقلائيّة هو : أنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت منعقدة فعلا على العمل بالظهور لاكتشاف المراد الجدّي للمتكلّم بحيث يكون ظاهر كلامه هو مراده الجدّي وإلا لبيّن ما يدلّ عليه ، إلا أنّ هذا لا ينفعنا في إثبات حجيّة الظهور بالنسبة لكلام الشارع ؛ وذلك لوجود فارق كبير ومهم جدا بين معقد السيرة وبين ظهورات الشارع ، حيث إنّ السيرة معقدها الإنسان العرفي الذي عادة وغالبا ما لا يعتمد على القرائن المنفصلة ، بل يذكر كل ما له دخالة في مراده الجدّي في شخص كلامه ، ويكون غريبا ونادرا عند العقلاء الاعتماد على القرائن المنفصلة في توضيح المراد وبيانه ، ولذلك كان ما يظهر من كلام هذا الإنسان العرفي الاعتيادي حجّة له وعليه.

وأمّا بالنسبة لكلام الشارع فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة في بيان مراده الجدّي كثير جدا ، حتّى اشتهر القول بأنّه ما من عام إلا وقد خصّ ، وهذا يعني أنّه من المحتمل قويا ألا يكون مراده الجدّي هو ما ظهر من كلامه الآن ؛ لاحتمال أن يأتي بقرينة منفصلة تكشف عن المراد الجدّي المخالف لهذا الظهور.

وحينئذ كيف يمكننا أن نستدل على حجيّة ظهور كلام الشارع مع احتمال وجود القرينة المنفصلة أو مع احتمال صدورها فيما بعد؟ باعتبار أنّ طريقة الشارع في محاوراته تختلف عن طريقة العقلاء في محاوراتهم فلا يمكن لسيرة العقلاء أن تكون حجّة كاشفة عن أنّ الشارع يقبل حجيّة الظهور ولو في خصوص هذه الحالة للعلم باختلافهما.

وعلى هذا فيكون كلام الشارع مجملا إذا احتمل ورود القرينة المنفصلة على الخلاف وهو بقوّة القضيّة المهملة فيؤخذ منه بالقدر المتيقن فقط لا أكثر.

وهذا الاعتراض إنّما قد يتّجه إذا كان دليل الإمضاء متطابقا في الموضوع مع السيرة العقلائيّة ، فكما أنّ السيرة العقلائيّة موضوعها المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة كذلك دليل الإمضاء ، ولكنّ دليل الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت مختصّة بالمتكلم الاعتيادي إلا أنّها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع أيضا ، إما للعادة أو لعدم الاطلاع إلى فترة من الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن

ص: 335

الحالة الاعتياديّة وهذا يشكّل خطرا على الأغراض الشرعيّة يحتّم الردع لو لم يكن الشارع موافقا على الأخذ بظواهر كلامه.

ومن هنا يكشف عدم الردع عن إقرار الشارع لحجيّة الظهور في الكلام الصادر منه.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّه مبنيّ على أن يكون الإمضاء المستكشف من عدم الردع عن السيرة متحددا ومطابقا لما انعقدت عليه السيرة من عمل ، فحيث إنّ السيرة قد انعقدت على الأخذ بظهور كلام المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة غالبا وعادة فكذلك يكون دليل الإمضاء مقيّدا بهذا المقدار أي يستكشف بالسيرة حجيّة ظهور كلام الشارع فيما إذا لم يعتمد على القرائن المنفصلة ، وبما أنّنا نعلم أنّ الشارع مخالف لطريقة العقلاء في محاوراته وأنّه قد اعتمد فعلا على القرائن المنفصلة بحيث صار ذلك طريقا عاما وسلوكا شائعا عند الشارع فلا يمكننا بهذه السيرة الممضاة شرعا أن نثبت حجيّة ظهور كلام الشارع لاختلاف الدليل والمدّعى في الموضوع اختلافا يمنع من تماميّة الاستدلال لأنّ موضوع الدليل هو المتكلّم الذي لا يعتمد على القرائن المنفصلة ، بينما موضوع المدّعى هو الشارع وظهور كلامه الذي ثبت يقينا اعتماده على القرائن المنفصلة.

إلا أنّ الصحيح مع ذلك هو أنّ دليل الإمضاء المستكشف من عدم الردع أوسع وأشمل من موضوع السيرة العقلائيّة ، بل إنّه في الحقيقة لا يتوجه إلى السيرة بما هي عمل صامت أصلا ، بل الإمضاء يتوجه إلى النكتة التي ارتكزت عند العقلاء كما تقدّم سابقا فإنّ سيرة العقلاء إذا انعقدت على الأخذ بالظهور ولو في حدود كلام المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة إلا أنّها في الحقيقة سوف تشكّل إيحاء وارتكازا وعادة عند العقلاء بأنّ الشارع أيضا يعتمد على الأخذ بظهور كلامه ، فإذا أمضى الشارع هذه السيرة بسكوته عنها وعدم ردعها كان هذا السكوت امضاء لهذا البناء والارتكاز العقلائي الذي يقتضي تعميم الأخذ بالظهور حتّى في كلام الشارع.

ومجرّد العلم بأنّ الشارع قد اعتمد على القرائن المنفصلة لا يمنع من حجيّة هذه السيرة أو على الأقلّ لا يردع عنها ؛ إذ هناك موارد سوف يعتمد العقلاء فيها على

ص: 336

حجيّة ظهور كلام الشارع وذلك قبل اطلاعهم على طريقة الشارع ومسلكه بالنسبة لاكتشاف مراده الجدّي أي بلحاظ بداية التشريع ، فإنّه في تلك الفترة لا يعلم باعتماد الشارع على القرائن المنفصلة فيبني العقلاء حينئذ على حجيّة ظهور كلامه لاعتيادهم على ذلك في حياتهم الشخصيّة والتشريعيّة.

وهذا معناه أنّ هناك أحكاما للشارع سوف تتعرّض للخطر والضياع فيما لو سكت الشارع عن السيرة ولم يردع عنها إذا كان مخالفا لها ، إذ لا مبرّر لسكوته وعدم ردعه في تلك الفترة الزمنية ما دامت السيرة سوف تشكّل خطرا على أغراضه وأحكامه ، وهذا يحتّم عليه الردع وعدم السكوت ، وبما أنّه سكت ولم يردع ، كان ذلك معناه أنّ الأخذ بظهور الكلام حجّة حتّى بالنسبة للمتكلّم الذي يعتمد على القرائن المنفصلة إذا لم يعلم صدورها ، ومجرّد احتمالها كالقطع بعدمها.

ومن هنا كان سكوت الشارع وعدم ردعه عن السيرة ولو في بداية التشريع كاشفا عن حجيّتها في كون العمل بالظهور حجّة مطلقا.

وعلى هذا الأساس يكون احتمال القرينة المنفصلة غير مضرّ بانعقاد كلام المتكلّم وظهوره في مراده الجدّي. نعم ، عند ما تأتي هذه القرينة المنفصلة تكون معارضة لظهور كلامه المنعقد فعلا ، وحينئذ إذا أمكن الجمع بينهما فهو وإلا وقع التعارض ، فإذا كانت القرينة أقوى قدّمت عليه ، وكذا العكس وإلا فيحكم بالتساقط.

* * *

ص: 337

ص: 338

تشخيص موضوع الحجيّة

اشارة

ص: 339

ص: 340

تشخيص موضوع الحجيّة

ظهور الكلام في المعنى الحقيقي قسمان - كما تقدّم - تصوّري وتصديقي.

والظهور التصوّري كثيرا ما لا ينثلم حتّى في حالة قيام القرينة المتّصلة على الخلاف ، فإذا قال المولى : ( اذهب إلى البحر وخذ العلم منه ) ، كانت الجملة قرينة على أنّ المراد بالبحر معنى آخر غير معناه الحقيقي ، وعلى الرغم من وجود القرينة فإنّ الظهور التصوّري لكلمة البحر في معناها الحقيقي لا يزول ، وإنّما يزول الظهور التصديقي في إرادة المتكلّم لذلك المعنى الحقيقي.

تقدّم سابقا أنّ للكلام ثلاثة ظهورات :

الأول : الظهور التصوّري وهو الصورة الذهنية التي تحضر إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ ، أي عبارة عن المعنى الموضوع له اللفظ ، ولذلك يكون منشأ هذا الظهور هو الوضع والعلم به.

الثاني : الظهور التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعمالية ، فإذا كان المتكلّم ملتفتا وعاقلا وتلفّظ بهذا اللفظ يعلم بأنّه قد أراد استعمال اللفظ في معناه وإخطار هذا المعنى في ذهن السامع.

الثالث : الظهور التصديقي الثاني أي الإرادة الجديّة ، فإذا كان المتكلّم حكيما وعاقلا وملتفتا وتكلم بكلام فيكون له مراد جدي وراء تصوّر المعنى وإخطاره في الذهن ، وهذا المراد الجدّي هو أنّه يريد واقعا ما ظهر من كلامه أو ما أفاده من كلام ومعنى وليس هازلا.

والظهوران التصديقيّان الثاني والثالث يعتمدان على ظهور حال المتكلّم كما هو واضح.

وحينئذ نقول : إنّ الظهور التصوّري لا ينثلم ولا ينهدم أبدا حتّى مع وجود القرينة المتّصلة على خلافه.

ص: 341

وتوضيح ذلك : إذا قال المتكلّم أو المولى العرفي : ( اذهب إلى البحر وخذ العلم منه ) كانت الجملة الأخيرة قرينة متّصلة على أنّ المراد الجدّي للمتكلّم من كلمة البحر ليس معناها الحقيقي ، وإنّما معنى آخر له مناسبة مع المعنى الأوّل وهو العالم ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ كلمة ( البحر ) عند سماعها في هذه الجملة لا تدلّ على معناها الحقيقي ، بمعنى أنّ الصورة الذهنية التي تحضر إلى الذهن عند سماعها هي تلك الصورة التي وضعت لها هذه الكلمة لغة.

نعم ، يعلم بأنّ المتكلّم لم يستعملها في معناها الحقيقي ولم يرد جدا هذا المعنى ، فالمدلول التصديقي الاستعمالي والجدّي هما اللذان ينهدمان بالقرينة المتّصلة على الخلاف ؛ لأنّهما كما تقدّم يعتمدان على ظهور حال المتكلّم وظاهر حال المتكلّم هنا أنّه لا يريد استعمالا وجدا المعنى التصوّري اللفظي لكلمة البحر ، للقرينة التي نصبها على الخلاف.

وأمّا الظهور التصوّري فهو لا يرتبط بظهور حال المتكلّم لينهدم إذا من ظهور حاله في أنّه ليس في مقام الاستعمال والإرادة الجديّة للمعنى الحقيقي ، وإنّما يرتبط بالوضع اللغوي وهذا لا ينثلم أبدا ؛ لأنّ الوضع ثابت من الواضع.

والدليل على ذلك أنّ هذا اللفظ لو صدر من غير العاقل لحضر المعنى إلى الذهن وكان دالا على معناه التصوّري ، فالظهور التصوّري محفوظ دائما.

ومن هنا صحّ القول بأنّ الظهور التصوّري للفظ في المعنى الحقيقي محفوظ حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف ، وأنّ الظهور التصديقي له في ذلك منوط بعدم القرينة المتّصلة ، غير أنّه محفوظ حتّى مع ورود القرينة المنفصلة ، فإنّ القرينة المنفصلة لا تحول دون تكوّن أصل الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي ، وإنّما تسقطه عن الحجيّة كما مرّ بنا في حلقة سابقة.

وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنّ الظهور التصديقي للكلام محفوظ دائما ، سواء كان هناك قرينة متّصلة أو منفصلة على الخلاف أم لا ؛ لأنّ هذا الظهور كما تقدّم مرتبط بالمدلول الوضعي للفظ للمعنى ، فإذا وجد اللفظ وجد معناه الحقيقي.

وأمّا الظهور التصديقي في أنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي وأنّه مراد جدا

ص: 342

فهذا إنّما يكون محفوظا فيما إذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف ، ففي المثال المتقدّم لا يكون هناك ظهور تصديقي استعمالي ولا جدي لكلمة ( البحر ) في أنّها استعملت في معناها الحقيقي وأنّه مراد جدا ، وأمّا اذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف فينعقد هذا الظهور التصديقي ، وتكون الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي ، وأنّه مراد جدا ، كما لو قال المتكلّم : ( اذهب إلى البحر ).

نعم ، إذا كان هناك قرينة منفصلة على الخلاف فتكون هذه القرينة هادمة لحجيّة الظهور التصديقي الثاني لا الأوّل ، فلو قال المتكلّم : ( اذهب إلى البحر ) انعقد للكلام ظهور تصوّري وظهور تصديقي أوّل وظهور تصديقي ثان أي أنّه أخطر المعنى الحقيقي من اللفظ وأنّه استعمله فيه وأنّه أراده جدا ، فإذا قال بعد ذلك : ( وخذ العلم منه ) كانت هذه القرينة المنفصلة هادمة للمراد الجدّي أي الظهور التصديقي الثاني دون الظهور التصديقي الأوّل أو الظهور التصوّري ، بمعنى أنّه يتبين من خلال هذه القرينة المنفصلة أنّ المتكلّم لا يريد جدّا من كلمة البحر معناها الحقيقي لا أنّه لم يخطرها ولم يستعملها في المعنى الحقيقي.

ولذلك نقول : إنّ الظهور التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعمالية متوقفة على عدم القرينة المتّصلة لا المنفصلة.

وأمّا الظهور التصديقي الثاني فهو يتوقّف على عدم القرينة المنفصلة بلحاظ حجيّته لا بلحاظ أصل انعقاده ، وأمّا القرينة المتّصلة فهي تمنع من أصل انعقاده كالظهور التصديقي الأوّل.

وعلى ضوء التمييز بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي ، وبعد الفراغ عن حجيّة الظهور عقلائيّا وعن سقوطها مع ورود القرينة ، لا بدّ من البحث عن تحديد موضوع هذه الحجيّة ، وكيفيّة تطبيقها على موضوعها ، وبهذا الصدد نواجه عدة محتملات بدوا :

ثمّ إنّه بعد أن ميّزنا بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي بقسميه ، وعرفنا أنّ الأوّل محفوظ دائما ، والثاني منوط بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، وبعد أن أثبتنا حجيّة الظهور عقلائيّا أي أنّها من الأمارات العقلائيّة التي تكون كاشفة عن المراد الواقعي للمتكلّم ، وبعد أن عرفنا أنّ هذه الحجيّة تسقط مع وجود القرينة ، نأتي

ص: 343

للبحث عن موضوع هذه الحجيّة ، وأنّه أي واحد من الظهورين هو؟ وعن كيفيّة تطبيق هذه الحجيّة على موضوعها بعد تشخيصه؟

ومن أجل استيعاب البحث في هذا الأمر نذكر الاحتمالات المفروضة في هذه المسألة لنرى ما هو الصحيح منها؟ وهنا توجد ثلاثة محتملات هي :

المحتمل الأوّل : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصوّري مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف متّصلة أو منفصلة.

المحتمل الثاني : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة.

المحتمل الثالث : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي الذي لا يعلم بوجود قرينة منفصلة على خلافه.

والفارق بين هذا وسابقه أنّ عدم القرينة واقعا دخيل في موضوع الحجيّة على الاحتمال الثاني ، وليس دخيلا على الاحتمال الثالث بل يكفي عدم العلم بالقرينة.

الاحتمال الأوّل : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركّب من أمرين هما :

الأول : الظهور التصوّري للكلام مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف ، سواء كانت متّصلة أم منفصلة. وهذا يعني أنّه في موارد وجود القرينة مطلقا يرفع اليد عن حجيّة الظهور لاختلال أحد الركنين ، إلا أن الظهور التصوّري محفوظ دائما ، ولذلك عند ما يشك في وجود القرينة مطلقا على الخلاف نتمسّك بأصالة الظهور لأنّها محفوظة وموضوعها متحقّق بكلا جزئيه ، لأنّ الظهور التصوّري موجود.

الثاني : وعدم العلم بالقرينة يتناسب مع الشك فيها ، فهو موجود أيضا ، ولا نحتاج إلى أصل آخر في هذا المقام.

الاحتمال الثاني : ما ذكره الميرزا تبعا للشيخ من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركّب من أمرين أيضا ، هما : الظهور التصديقي للكلام ، أي المراد الجدّي مع عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف. وهذا يعني أنّ صدور القرينة المنفصلة على الخلاف واقعا وإن لم تصل إلينا يكون مانعا من التمسّك بأصالة الظهور حتّى في موارد الشك في وجود القرينة المنفصلة ، إذ يحتمل مع ذلك كونها صادرة فيكون شكا في تحقّق

ص: 344

الموضوع ومعه لا يتمسك بحجيّة الظهور ابتداء ، بل نحتاج إلى أصل ينفي هذه القرينة.

وأمّا إذا علم بعدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف فينعقد للكلام ظهور في المراد الجدّي ، ويكون هذا الظهور حجّة لأنّ كلا الركنين تام.

الاحتمال الثالث : ما هو مختار السيّد الشهيد ، من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركب من أمرين أيضا :

الأوّل : الظهور التصديقي كما أفاده الميرزا.

والثاني : عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، لا عدم صدورها واقعا ، سواء وصلت أم لا.

وهذا يعني أنّه يكفي عدم وجود قرينة متّصلة على الخلاف لتتم وتنعقد أصالة الظهور ؛ لأنّه يصدق أنّه لا علم بوجود القرينة المنفصلة على الخلاف ، وحتّى في موارد الشك في وجود القرينة المنفصلة يتمسك بأصالة الظهور ابتداء لأنّ موضوعها متحقّق ؛ إذ عدم العلم بالقرينة المنفصلة يتناسب مع الشك في وجودها ، ولا نحتاج إلى أصل آخر لينتفي به هذا الاحتمال بل نتمسّك بأصالة الظهور مباشرة.

نعم ، في موارد احتمال القرينة المتّصلة احتمالا ذا منشأ معتدّ به لا يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء وذلك لعدم تحقّق موضوعها ، إذ عدم القرينة المتّصلة غير متحقّق ، فلا ينعقد الظهور ليتمسك به ، ونحتاج هنا إلى نفي هذا الاحتمال في رتبة سابقة ليتنقح موضوع الحجيّة.

ثمّ إنّ هذا الاحتمال يشترك مع الاحتمال الثاني في أنّ الجزء الأوّل من موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري ويختلف عنه في أنّ الجزء الثاني هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم وجودها واقعا ، كما في الاحتمال الثاني.

وتختلف هذه الاحتمالات في كيفيّة تطبيق الحجيّة على موضوعها ، فإنّه على الاحتمال الأوّل تطبق حجيّة الظهور على موضوعها ابتداء حتّى في حالة احتمال القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة لأنّ موضوعها هو الظهور التصوّري بحسب الفرض ، وهذا لا يتزعزع بالقرينة المتّصلة المحتملة فضلا عن المنفصلة كما عرفت ، فلا نحتاج إذا إلا إلى أصالة الظهور.

ص: 345

وتوجد فوارق عمليّة بين هذه الاحتمالات :

إنّه على الاحتمال الأوّل كان موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصوّري ، مع عدم العلم بالقرينة مطلقا ، فإذا شكّ في وجود القرينة سواء كانت متّصلة أم منفصلة كان موضوع حجيّة الظهور تامّا ، ولذلك نتمسّك بأصالة الظهور ابتداء في هذه الحالة ، ولا نحتاج إلى أصالة أخرى ؛ وذلك لأنّ الظهور التصوّري الذي هو موضوع الحجيّة محفوظ دائما في الكلام حتّى مع وجود القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة فالجزء الأوّل تام ؛ ولأنّ عدم العلم بالقرينة على الخلاف موجود أيضا لأنّه في فرض الشك واحتمال وجود القرينة يصدق أيضا أنّه لا يعلم بوجودها ، فكلا الركنين متحقّق فتجري أصالة الظهور لتمامية موضوعها ، ولا نحتاج إلى أصل آخر في مرتبة سابقة لا في احتمال القرينة المتّصلة ولا في المنفصلة أيضا.

وأمّا على الاحتمال الثاني فإنما يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع الجزم بعدم القرينة ، ولا يمكن الرجوع إليها كذلك مع احتمال القرينة المتّصلة لأنّ موضوع الحجيّة على هذا الاحتمال - الظهور التصديقي - وهو غير محرز مع احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف ، فلو قيل بحجيّة الظهور في هذه الحالة لكان اللازم أوّلا افتراض أصل عقلائي ينفي القرينة المتّصلة لكي ينقّح موضوع أصالة الظهور بأصالة عدم القرينة.

وكذلك لا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة - على الاحتمال الثاني - مع احتمال القرينة المنفصلة ؛ لأنّ المفروض أنّه قد أخذ عدمها في موضوع حجيّة الظهور ، فمع الشك فيها لا تحرز حجيّة الظهور ، بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة أوّلا لتنقيح موضوع الحجيّة في أصالة الظهور.

وأمّا على الاحتمال الثاني القائل بأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف ، فيمكننا التمسّك بأصالة الظهور فيما إذا علمنا يقينا بعدم القرينة على الخلاف متّصلة أو منفصلة ، لأنّه في هذه الحالة يتحقّق كلا الركنين ؛ إذ مع الجزم بعدم القرينة المتّصلة يكون الظهور التصديقي تام ، لأنّه منوط بعدم القرينة المتّصلة كما تقدّم سابقا ، إذ القرينة المتّصلة تمنع من انعقاد الظهور التصديقي ، ومع الجزم بعدم القرينة المنفصلة يتحقّق الجزء الثاني وهو عدم صدور

ص: 346

القرينة المنفصلة لأنّه مع القطع والجزم بعدمها يقطع بعدم صدورها أيضا ، إذ لو كان صدورها محتملا لم يكن هناك قطع بعدمها.

وأمّا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة أو المنفصلة فلا يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ؛ وذلك لأنّنا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة على الخلاف يكون الجزء الأوّل من موضوع الحجيّة مختلاّ لأنّ الظهور التصديقي للكلام إنّما ينعقد ويحرز وجوده إذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف ، فمع احتمالها والشك في وجودها شكّا ذا منشأ عقلائي معتدّ به لا يحرز هذا الظهور التصديقي وجدانا ، لأنّه حينئذ لا يعلم بأنّ المراد الجدّي مطابق للظهور التصديقي ؛ ولذلك يكون الظهور التصديقي مشكوكا غير معلوم فيكون التمسّك بأصالة الظهور ابتداء من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، حيث يشك في الموضوع.

ولذلك لو أريد تطبيق حجيّة الظهور هنا لكان ذلك متوقفا أوّلا على نفي هذه القرينة المتّصلة وهذا يحتاج إلى افتراض وجود أصل عقلائي في المقام ينفي لنا احتمال هذه القرينة ، فإنّه حينئذ يتنقح موضوع حجيّة الظهور ويكون الظهور التصديقي محرزا على أساس هذا الأصل العقلائي المسمّى بأصالة عدم القرينة المتّصلة.

وهكذا لو احتملنا وجود القرينة المنفصلة على الخلاف فإنّه لا يمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء لاختلال ركنها الثاني ، إذ مع وجود هذا الاحتمال لا يعلم بعدم صدور القرينة المنفصلة واقعا مع أنّ عدم صدورها واقعا شرط في هذه الحجيّة ، فهذا الاحتمال يتنافى مع اشتراط العلم بعدم وجود القرينة ، إذ قد تكون القرينة المنفصلة موجودا واقعا لكنها لم تصل إلينا لبعض الظروف والملابسات ، فيكون الشك في وجودها كالقطع بصدورها مانعا عن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ، فنحتاج أيضا إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة ينفي لنا هذا الاحتمال لكي ينقّح به موضوع الحجيّة ، وهذا الأصل يسمّى بأصالة عدم القرينة المنفصلة.

وبهذا ظهر أنّ احتمال القرينة المتّصلة أو المنفصلة يمنع من التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ، ونحتاج في هذين الموردين إلى التمسّك بأصالة عدم القرينة لنفي هذين الاحتمالين لكي ينقّح بعد ذلك موضوع أصالة الظهور.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الثاني في عدم إمكان الرجوع إلى أصالة

ص: 347

الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المتّصلة لأنّ موضوع الحجيّة وهو الظهور التصديقي غير محرز مع هذا الاحتمال ، إلا أنّ الاحتمال الثالث يختلف عن سابقه في إمكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المنفصلة ، لأنّ موضوع الحجيّة - على الاحتمال الثالث - محرز حتّى مع هذا الاحتمال بينما لم يكن محرزا معه على الاحتمال الثاني.

وأمّا على الاحتمال الثالث القائل بأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف ، فهو يتمّ فيما إذا علمنا بعدم القرينة المتّصلة أو المنفصلة ، فإنّه يتحقّق كلا الركنين لموضوع الحجيّة إذ مع العلم بعدم القرينة المتّصلة يتحقّق الظهور التصديقي لأنّه منوط بعدم العلم بالقرينة المتّصلة على الخلاف وهذا معلوم وجدانا ، ومع العلم بعدم القرينة المتّصلة يصدق أنّه لا يعلم بوجودها واقعا أيضا ، فيتحقق الركن الثاني ، ويتمسك بأصالة الظهور بلا شكّ في هذه الحالة.

يبقى أنّه في موارد احتمال القرينة المتّصلة أو المنفصلة على الخلاف هل يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء أم لا؟

والجواب : أنّنا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة على الخلاف كان هذا الاحتمال مانعا عن التمسّك بأصالة الظهور مباشرة وابتداء ؛ وذلك لاختلال الركن الأوّل ، فإنّ الظهور التصديقي للكلام لا ينعقد إلا مع عدم وجود القرينة المتّصلة فمع احتمال وجودها أو الشك في ذلك لا يعلم بعدم القرينة المتّصلة واقعا ، ولذلك يشك في تحقّق الظهور التصديقي ، ومعه يكون التمسّك بأصالة الظهور ابتداء تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ؛ إذ موضوعها غير محقّق ، فنحتاج إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة ينفي لنا هذا الاحتمال ليتنقّح به موضوع أصالة الظهور ، كما هو الحال في الاحتمال الثاني.

وأمّا إذا احتملنا وجود القرينة المنفصلة على الخلاف فيمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء خلافا للاحتمال الثاني ، وذلك لأنّ موضوع الحجيّة هنا هو الظهور التصديقي وهو محرز في الفرض لأنّ القرينة المتّصلة غير موجودة ولا يحتمل وجودها أيضا ، فالجزء الأوّل تام ، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة محرز أيضا ؛ لأنّ عدم العلم بها يتناسب مع الشك في وجودها أو احتماله ، إذ يصدق في الفرض المذكور أنّنا لا نعلم

ص: 348

بوجود القرينة المنفصلة واقعا ، فالجزء الثاني تام أيضا ، فتطبّق أصالة الظهور مباشرة ولا تحتاج إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة هنا ، خلافا للاحتمال الثاني فإنّه يحتاج فيه في هذا الفرض إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة لأنّ موضوع الحجّة كان عدم وجود القرينة المنفصلة وهذا غير محرز مع احتمال وجودها ، فنحتاج إلى أصل ينفي هذا الاحتمال في مرتبة سابقة.

والحاصل أنّنا نتمسّك بأصالة الظهور مباشرة في موارد احتمال القرينة المنفصلة ، بينما في موارد احتمال القرينة المتّصلة نحتاج إلى أصالة عدم القرينة في رتبة سابقة.

والتحقيق في تمحيص هذه الاحتمالات : أنّ الاحتمال الأوّل ساقط لأنّ المقصود من حجيّة الظهور تعيين مراد المتكلّم بظهور كلامه ، وهي إنّما تناط عقلائيّا بالحيثية الكاشفة عن هذا المقصود ، إذ ليس مبنى العقلاء في الحجيّة على التعبد المحض ، وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور التصوّري بل التصديقي ، فإناطة الحجيّة بغير حيثيّة الكشف بلا موجب عقلائيّا ، فيتعيّن أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي.

ونأتي الآن لتحقيق الحال في هذه الاحتمالات وتعيين الاحتمال الصحيح منها فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل الذي ذكره المحقّق الأصفهاني : من أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصوّري مضافا إلى عدم العلم بالقرينة مطلقا فهو غير صحيح ؛ وذلك لأنّ المراد من حجيّة الظهور تعيين المراد الجدّي والواقعي للمتكلّم من خلال ظهور كلامه.

ومن المعلوم أنّ مراده الجدّي إنّما يكون ثابتا فيما إذا كان للكلام ظهور تصديقي لأنّ المراد الجدّي يعتمد على ظهور حال المتكلّم العاقل الحكيم الملتفت في أنّ ما أخطره واستعمله تصوّرا في كلامه هو مراده الجدّي الواقعي ، وإلا لكان مخلا لما هو المتعارف عقلائيّا في المحاورات ، وعلى هذا فما يكون كاشفا عن المراد الجدّي إنّما هو المدلول التصديقي للكلام وليس المدلول التصوّري لأنّ المدلول التصوّري مرتبط بالوضع.

ولذلك قلنا : إنّه لا ينهدم سواء كان هناك قرينة على خلافه أم لا ، ولذلك لا

ص: 349

يتحدّد المراد الجدّي من خلال الظهور التصوّري ما لم يكن هناك ظهور تصديقي ، وبهذا يعرف أن الكاشف عن المراد الجدّي هو الظهور التصديقي ، وحجيّة الظهور يراد أن يكتشف بها المراد الجدّي للمتكلّم من خلال كلامه ، فيكون الظهور التصديقي هو موضوع حجيّة الظهور ، لأنّه هو الكاشف عن المراد الجدّي.

وأمّا اعتبار المدلول التصوّري هو موضوع حجيّة الظهور فهذا معناه أنّ موضوع الحجيّة لم يكن هو الحيثية الكاشفة عن المراد الجدّي ، وهذا خلف اعتماد العقلاء على حجيّة الظهور لأنّهم إنّما يبنون على حجيّة الظهور باعتبارها كاشفة عن المراد الواقعي فتعليقها على الظهور التصوّري يعني أنّه لم يلاحظ في حجيّة الظهور حيثيّة الكشف وأنّهم أناطوها بالظهور التصوّري من باب التعبّد المحض ، وهذا لا وجود له في حياة العقلاء ، إذ العقلاء لا يعملون بشيء من الأمارات إلا إذا كانت لها كاشفيّة عن المراد الجدّي ولو كشفا ظنيا ، والحال أنّ الظهور التصوّري لا يوجد فيه أي كشف عن المراد الجدّي الواقعي ، إلا اذا كان هناك تطابق بينه وبين المدلول التصديقي فيكون المعيار والمناط في الحقيقة هو الظهور التصديقي لأنّه الكاشف عن المراد الجدّي الواقعي دون غيره.

والحاصل : أنّ هذا الاحتمال يجعل موضوع الحجيّة على خلاف ما يعتقده ويبني عليه العقلاء في الحجج والأمارات من كونها كاشفة عن الواقع ؛ ، وذلك لأنّه لا يوجد كشف عن الواقع في الظهور التصوّري ، لأنّه محفوظ دائما سواء كان الواقع مطابقا له أم لا ، فالمناط وموضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي لأنّه هو الذي يكشف عن الواقع والمراد الجدّي وهذا هو المراد من حجيّة الظهور.

كما أنّ الاحتمال الثاني ساقط أيضا ، باعتبار أنّه يفترض الحاجة في مورد الشك في القرينة المنفصلة إلى إجراء أصالة عدم القرينة أوّلا ثمّ أصالة الظهور ، مع أنّ نفي القرينة المنفصلة عند احتمالها لا مبرّر له عقلائيّا إلا كاشفيّة الظهور التصديقي عن إرادة مفاده ، وأنّ ما قاله يريده ، وهي كاشفيّة مساوقة لنفي القرينة المنفصلة.

وحيث إنّ الأصول العقلائيّة تعبّر عن حيثيات من الكشف المعتبرة عقلائيّا ، وليست مجرّد تعبدات بحتة ، فلا معنى حينئذ لافتراض أصالة عدم القرينة ثمّ

ص: 350

أصالة الظهور ، بل يرجع إلى أصالة الظهور مباشرة ، لأنّ كاشفيّته هي المناط في نفي القرينة المنفصلة ، لا أنّها مترتبة على نفي القرينة بأصل سابق.

وأمّا الاحتمال الثاني الذي ذكره الميرزا : من أنّ موضوع حجيّة الظهور هو المدلول التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة ، فهو صحيح بالنسبة للجزء الأوّل - أي أن المدلول التصديقي موضوع للحجيّة كما تقدّم في الرد على الاحتمال الأوّل - لأنّه هو الكاشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم ، إلا أنّ الجزء الثاني ليس صحيحا إذ يكفي عدم العلم بصدور القرينة المنفصلة سواء كانت صادرة واقعا أم لا.

وتوضيح ذلك : أنّنا ذكرنا في الفارق بين الاحتمالين الثاني والثالث أنّه على الثاني لا يمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء في حالة الشك في صدور القرينة المنفصلة بل نحتاج إلى أصالة عدم القرينة بخلافه على الاحتمال الثاني فإنّه يتمسك بأصالة الظهور ابتداء كما هو الصحيح. وهنا نقول : إنّه لا معنى لأصالة عدم القرينة المذكورة في فرض الشك في صدور القرينة المنفصلة ؛ وذلك لأنّ هذه الأصالة والتي هي من الأمارات العقلائيّة إذا كانت تعبديّة محضة من دون أن يكون لها كاشفيّة عن الواقع وعن المراد الجدّي للمتكلّم فهذا مخالف للأمارات العقلائيّة من أنّها تكون بداعي الحيثية الكاشفة ، إذ لا وجود للتعبّدات المحضة في حياة العقلاء ، فيتعيّن أن يكون العمل بهذه الأصالة بناء على كاشفيتها ، وحينئذ لا بدّ أن نعرف ما هو المنشأ لهذه الكاشفيّة الذي من أجله بنى العقلاء على هذه الأصالة في الفرض المذكور.

والجواب : أنّه لا مبرّر ولا منشأ لهذه الكاشفيّة سوى أصالة الظهور ؛ وذلك لأنّ المتكلّم إذا صدر منه كلام فإنّ كان نصّا فلا بحث لحجيّة الظهور أصلا كما تقدّم ، وإن كان مجملا لم يكن له ظهور في معناه فلا يمكننا الأخذ به ، بل نتوقف وننتظر إلى أن يأتي ما يدلّ عليه ويفسّره وإلا أخذنا بالقدر المتيقن فيه ، وإن كان له ظهور في معناه أخذنا بهذا الظهور وعملنا به. فإذا احتملنا صدور قرينة منفصلة على الخلاف كان هذا الاحتمال منفيا بنفس ظهور الكلام في معناه بمعنى أنّ هذا الظهور الذي هو حجّة لا ترفع اليد عنه إلا بحجّة أقوى منه وهذه الحجّة الأقوى لم تثبت بعد فلا يوجد مبرّر لرفع اليد عن هذا الظهور فنتمسك به.

وهذا معناه أنّ نفي هذا الاحتمال يكفي فيه التمسّك بالظهور وكونه حجّة ولا

ص: 351

نحتاج إلى أن نتمسّك بأصل سابق ؛ إذ هذا الأصل السابق لا وجود له إذا لم يكن للكلام ظهور كما ذكرنا ، ومع وجود الظهور نستغني عن هذا الأصل لأنّ الظهور بنفسه ينفي مثل هذا الاحتمال لصدور القرينة المنفصلة لأنّ مفاد هذا الظهور أنّ المتكلّم قد أفاد تمام مراده الجدّي بما ظهر من كلامه لأنّه لو كان مراده الجدّي شيئا آخر لكان اللازم ذكره وبيانه في هذا الكلام ، فمع عدم ذكره فيه يدلّ ظاهر حاله على أنّه لا يوجد شيء آخر دخيل في مراده الجدّي الذي أبرزه وإلا لكان مخلا بما هو المتعارف في المحاورات العقلائيّة والعرفية والمفروض أنّ الشارع قد سلك طريقة العقلاء في المحاورة والبيان.

وبهذا يظهر أنّ نفس التمسّك بأصالة الظهور يساوق نفي هذه القرينة المنفصلة المحتملة ولا نحتاج إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة.

وعلى أساس أصالة الظهور يتفرع نفي احتمال القرينة المنفصلة وليس العكس.

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثالث ، وعليه فإن علم بعدم القرينة مطلقا رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداء ، وان شك في القرينة المتّصلة فهناك ثلاث صور :

فالصحيح : هو أنّ الاحتمال الثالث هو المتعين فيكون موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة وعلى هذا فإذا علمنا بعدم وجود قرينة أصلا لا متّصلة ولا منفصلة فيكون موضوع حجيّة الظهور محرزا وجدانا ، وكذلك إذا علمنا بعدم القرينة المتّصلة وشككنا في صدور القرينة المنفصلة فإنّ موضوع الحجيّة محرز أيضا ، أمّا الجزء الأوّل فلعدم وجود القرينة المتّصلة للعلم بعدمها ، وأمّا الجزء الثاني فلأنّ احتمال القرينة المنفصلة مساوق لعدم العلم بوجودها أيضا.

وأمّا إذا احتملنا صدور القرينة المتّصلة في الكلام فهنا لا بدّ أن نتحدث عن الصور المفترضة في هذه المسألة وهي ثلاث صور كما يلي :

الصورة الأولى : أن يكون الشك في وجودها لاحتمال غفلة السامع عنها ، وفي هذه الحالة تجري أصالة عدم الغفلة لأنّها على خلاف العادة وظهور الحال ، وبها تنفى القرينة ، وبالتالي ينقح الظهور الذي هو موضوع الحجيّة ، ونسمّي أصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة لأنّه بها تنتفي القرينة.

ص: 352

الصورة الأولى : أن يحتمل وجود القرينة المتّصلة في كلام المتكلّم إلا أنّ السامع قد غفل عنها ولم يلتفت إليها بحواسه فيكون منشأ احتمال القرينة المتّصلة هو غفلة السامع عن ذكرها في الكلام بأن يفرض أنّ المتكلّم قد ذكرها لكنّ السامع لم ينتبه إليها.

فهنا لا إشكال في تماميّة موضوع حجيّة الظهور ، فيتمسك به ؛ وذلك لأنّ احتمال هذه القرينة المتّصلة الناشئة من الغفلة تنفى بأصل عقلائي ثابت عند العقلاء وكاشف عن المراد الجدّي والواقع ، وهو أنّ الإنسان حين سماعه لكلام المتكلّم يكون ملتفتا وذاكرا لما يقوله ولا يغفل عمّا يذكره من كلام إلا أن يعلم يقينا بذلك.

وعليه ، فيكون الأصل في هذه الحالة هو عدم غفلة السامع وبالتالي يكون احتمال وجود القرينة المتّصلة منتفيا لانتفاء منشئه ، فإذا انتفى احتمال وجود القرينة المتّصلة تنقّح بذلك موضوع حجيّة الظهور ، وهو المدلول التصديقي حيث إنّه لا وجود للقرينة المتّصلة استنادا إلى هذا الأصل العقلائي والقرينة المنفصلة لا يعلم وجودها كما هو المفروض فيتحقق موضوع حجيّة الظهور ، وأصالة عدم الغفلة نسميها أصالة عدم القرينة ، لأنّه على أساس هذه الأصالة انتفى احتمال وجود القرينة المتّصلة ، وهذا يعني أنّه لا يوجد أصل عقلائي يسمّى بأصالة عدم القرينة في هذه الحالة ، وإنّما من باب المناسبة فقط.

الصورة الثانية : أن يكون الشك في وجودها لاحتمال اسقاط الناقل لها ، وفي هذه الحالة يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه ولو ضمنا بأنّه استوعب في نقله تمام ما له دخل في إفادة المرام ، وبذلك يحرز موضوع أصالة الظهور.

الصورة الثانية : أن يحتمل وجود القرينة المتّصلة في كلام المتكلّم لكن الناقل الذي يروي كلامه أسقط هذه القرينة من كلامه بأن كان نسيها مثلا فلم يذكرها ، وهذا يعني أنّ الناقل إما أن يكون قد تعمد إسقاطها ، وإما أن يكون نسيها.

وعلى كل حال فإنّ هذا الاحتمال يمكن نفيه على أساس شهادة الراوي ووثاقته ، فإنّ إحراز وثاقة الراوي يتكفّل مئونة نفي احتمال تعمّد الكذب ، إذ هو خلاف وثاقته المحرزة ، وشهادة الراوي الذي ينقل الكلام تدلّ بالمطابقة على أنّ المتكلّم قد تكلم بهذا الكلام وتدلّ بالتضمّن أو بالالتزام على أنّه لم يقل شيئا آخر ، أي أنّه قال هذا الكلام

ص: 353

فقط ، ولم يقل كلاما آخر له مدخليّة في تفسير المراد من الكلام السابق ، فإنّ شهادة الراوي هذه تعتبر في الحقيقة شهادة ضمنية أو شهادة سلبية مستفادة من سكوت الراوي وعدم ذكره إلا لهذا الكلام الذي يعني أنّ المتكلّم قد قال هذا فقط ولم يقل شيئا آخر ، ولذلك سكت الناقل ولم ينقل شيئا آخر زائدا على ما ذكره من باب الأمانة والدقة في النقل.

وبهذا ننفي احتمال أن يكون الناقل قد أسقط القرينة المتّصلة عند نقله لكلام المتكلّم لأنّه ثقة ، ولأنّه شهد بأنّ هذا هو كلام المتكلّم لا أزيد ؛ وهذا أصل عقلائي أيضا ، فإنّ العقلاء يبنون على صحّة النقل المذكور وأنّه لا يوجد شيء آخر لم ينقل لأنّ ظاهر حال المتكلّم الثقة الأمين أنّه ينقل كل كلام المتكلّم دون زيادة أو نقصان ، وحينئذ يتنقّح موضوع حجيّة أصالة الظهور ، ولا نحتاج إلى أصالة عدم القرينة أيضا.

الصورة الثالثة : أن يكون الشك في وجودها غير ناشئ من احتمال الغفلة ولا من الإسقاط المذكور ، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداء ، للشك في موضوعها وهو الظهور التصديقي ، ولا يمكن تنقيح موضوعها بإجراء أصالة عدم القرينة لأنّه لا توجد حيثيّة كاشفة عقلائيّة عن عدم القرينة المحتملة لكي يعتبرها العقلاء ويبنوا على أصالة عدم القرينة.

وبهذا نعرف أنّ احتمال القرينة المتّصلة في مثل هذه الحالة يوجب الإجمال.

الصورة الثالثة : أن يكون احتمال وجود القرينة المتّصلة ليس منشؤه احتمال الغفلة أو احتمال إسقاط الناقل لها. وإنّما يكون منشؤه شيئا آخر وراء هذين الاحتمالين ، كما لو وصلنا كلام المتكلّم في رسالة مقتطعة الذيل واحتملنا أن يكون الذيل عبارة عن مقيّد أو مخصّص لإطلاق أو لعموم كلامه في الصدر ، أو كما إذا كان هناك قرائن حالية لبيّة متّصلة بالخطاب اعتمد عليها المتكلّم لإفهام السامع والناقل لم يذكرها الناقل لأنّها ليست قرينة لفظية وإنّما هي من المرتكزات اللبيّة التي لا يجب على الناقل ذكرها عند نقله.

فهنا لا يمكن إجراء أصالة عدم الغفلة أو الاعتماد على وثاقة وشهادة الناقل كما في الصورتين السابقتين ، إذ لا مورد لهما هنا وكذلك لا يمكن نفي هذا الاحتمال استنادا إلى أصالة عدم القرينة لأنّه لا يوجد منشأ لهذه الأصالة يكون كاشفا ظنيا

ص: 354

عقلائيّا عن المراد الجدّي للمتكلّم ، إذ لا وجود لهذه الأصالة عند العقلاء كأصل تعبّدي لأنّهم لا يبنون على الأصول التعبديّة كما تقدّم والمنشأ المذكور لهذا الاحتمال لا يوجد أصل عقلائي ينفيه ، إذ لا يوجد ما يكشف عن المراد الواقعي ليعتمد عليه لا أصالة عدم الغفلة ولا وثاقة الراوي وشهادته ، ولا ظهور الكلام لأنّه مع وجود هذه القرينة لا ينعقد للكلام ظهور ، ومع الشك يشك في أصل انعقاد الظهور وبالتالي لا يحرز ولا يتنقّح موضوع حجيّة الظهور وهو المدلول التصديقي إذ لا علم بعدم القرينة المتّصلة لأنّ المفروض إنّنا نحتمل وجودها ومع الاحتمال لا علم.

ولهذا يكون هذا الاحتمال موجبا للاجمال في كلام المتكلّم ومانعا من انعقاد ظهور كلامه ، ولذلك قلنا سابقا : إنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة كالقطع بوجودها إذا كان احتمالها من هذا القبيل.

وبهذا ظهر أنّ موضوع حجيّة الظهور هو المدلول التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، وأمّا مع احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من مثل هذا الاحتمال فيكون مانعا عن انعقاد الظهور وموجبا للإجمال في الكلام ، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال بأصالة عدم القرينة لما تقدّم من عدم الكاشفيّة عن المراد الجدّي في مثل هذه الحالة ، ولا يمكن جريان أصالة عدم الغفلة أو وثاقة وشهادة الراوي لأنّه لا مورد لهما هنا.

وبما ذكرناه اتّضح أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة كلّ منهما أصل عقلائي في مورده ، فالأوّل يجري في كل مورد أحرزنا فيه الظهور التصديقي وجدانا أو بأصل عقلائي آخر ، والثاني يجري في كل مورد شكّ فيه في القرينة المتّصلة لاحتمال الغفلة ، ولا يرجع أحد الأصلين إلى الآخر ، خلافا للشيخ الأنصاري رحمه اللّه حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة ، ولصاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور.

وحاصل الكلام : اتّضح ممّا ذكرناه أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة أصلان عقلائيان مستقلان عن بعضهما ، ولكل منهما مورده الخاص وموضوعه الذي يجري فيه ، بحيث لا يكون لهما موضوع واحد. مضافا إلى الاختلاف بينهما سلبا أو إيجابا.

ص: 355

فأصالة الظهور أصل عقلائي وجودي يتمسك بها في كل مورد أحرز فيه الظهور التصديقي للكلام إمّا وجدانا بأن علمنا يقينا بعدم القرينة المتّصلة والمنفصلة على الخلاف ، وإما بأصل عقلائي آخر كأصالة العموم أو الإطلاق أو الحقيقة ، ونحوها من الأصول اللفظيّة الوجودية التي ترجع في حقيقتها إلى أصالة الظهور عند الشك في كون المدلول التصديقي هو العموم أو الاطلاق أو الحقيقة ، أو عند الشك في إسقاط القرينة المتّصلة لاحتمال إسقاط الناقل لها فإنّ هذا الاحتمال ينفي كما تقدّم تمسّكا بوثاقة وشهادة الناقل الضمنيّة السلبية ، فإنّ الوثاقة والشهادة من الكواشف الظنية العقلائيّة عن المراد الجدّي والواقعي.

بينما أصالة عدم القرينة التي هي أصل عقلائي سلبي تجري في كل مورد احتمل فيها وجود القرينة المتّصلة من جهة احتمال الغفلة والخطأ وعدم الانتباه كما تقدّم في الصورة الأولى ، فإنّ هذه القرينة تنفى بأصالة عدم الغفلة التي قلنا : إنها تسمّى بأصالة عدم القرينة أيضا ، لأنّه إذا انتفت الغفلة فتنتفي القرينة أيضا.

والحاصل : أنّ كلا من هذين الأصلين أصل مستقل في نفسه عن الآخر له مورده وموضوعه الخاص به ولا يرجع أحدهما إلى الآخر ؛ لأنّ أصالة الظهور عبارة عن أصل وجودي يتمسك فيها بما هو موجود ، بينما أصالة عدم القرينة أصل عدمي يتمسك فيها لنفي وجود شيء.

وخالف في ذلك الشيخ الأنصاري رحمه اللّه حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة كما هو المتراءى من بعض عبائره ، بمعنى أنّ الشك في الظهور وانعقاده مسبّب عن الشك في وجود القرينة وعدمها ، فإذا كان هناك قرينة على الخلاف فلا ظهور وإن لم يكن هناك قرينة فالظهور تام ، وهذا معناه أنّ أصالة عدم القرينة هي التي تنقّح أصالة الظهور دائما ، فأصالة الظهور في طول أصالة عدم القرينة.

والوجه في كلامه ما أفاده المحقّق العراقي من أنّ القول بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لازمه القول المذكور ، إذ لو كان هناك قرينة ولكنّه لم يذكرها كان معناه أنّه أخرّ البيان عن وقت الحاجة فدائما إذا انتفت القرينة تنقّحت أصالة الظهور.

وخالف أيضا في ذلك صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور ؛ وذلك لأنّ الشك في وجود القرينة وعدمها راجع إلى

ص: 356

الشك في تحقّق الظهور وعدمه ، فإذا كان الكلام ظاهرا وظهوره ثابت وجدانا فهذا معناه أنّه لا توجد قرينة على الخلاف ، وإن لم يكن كذلك فمعناه أنّه توجد قرينة مخالفة للظهور ، فالشك في وجود القرينة دائما مسبّب عن الشك في انعقاد الظهور وتماميته وعدمه.

والوجه في ذلك أنّ العقلاء لا يوجد عندهم أصلان مستقلان لكل منهما كاشفيّته الخاصّة ومورده الخاص ، وإنّما عندهم أصل واحد وكاشفيّة واحدة ، فالعقلاء يعملون بأصالة الظهور سواء كان هناك علم بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف أو لم يكن هناك علم بعدمهما بأن كانت القرينة محتملة ، لأنّهم يعتبرون أنّ أصالة الظهور كاشفة عن المراد الجدّي للمتكلّم وأنّ مراده الواقعي مطابق لظاهر كلامه ، فظاهر كلامه هو الكاشف عن المراد الجدّي فيتمسك به.

* * *

ص: 357

ص: 358

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي

اشارة

ص: 359

ص: 360

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي

الظهور سواء كان تصوّريا أم تصديقيا تارة يراد به الظهور في ذهن إنسان معيّن ، وهذا هو الظهور الذاتي.

وأخرى يراد به الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام ، وهذا هو الظهور الموضوعي.

والأوّل يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصيّة للذهن والتي تختلف من فرد إلى آخر تبعا إلى أنسه الذهني وعلاقاته ، بخلاف الثاني الذي له واقع محدد يتمثل في كل ذهن يتحرك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام.

الظهور الذاتي والموضوعي :

الظهور كما تقدّم يقسم إلى قسمين : ظهور تصوّري وهو الذي ينشأ من وضع اللفظ للمعنى ، وظهور تصديقي وهو الذي ينشأ من ظاهر حال المتكلّم في إرادة استعمال اللفظ في معناه وكونه مرادا له جدا.

والظهور كما تقدّم حجّة وموضوعه هو الظهور التصديقي ، والبحث الآن في أنّ الظهور الحجّة هل هو الظهور الذاتي أو الظهور الموضوعي؟

والمراد من الظهور الذاتي هو الظهور الذي يحصل في ذهن إنسان معيّن أي الظهور لدى الشخص ذاته.

والمراد من الظهور الموضوعي هو الظهور الثابت كحقيقة واقعيّة تكوينية بموجب علاقات اللغة ووضع اللفظ للمعنى على أساس ما هو المتعارف عند العرف والشرع العام من أساليب التعبير في محاوراتهم العرفية.

والفرق بين هذين الظهورين أنّ الظهور الذاتي أمر نسبي يختلف من شخص لآخر لأنّه يتأثّر بالعوامل والظروف الذاتية والشخصيّة للفرد وهذه الظروف تختلف

ص: 361

من فرد لآخر تبعا لما هو مرتكز عنده وما هو موجود في ذهنه من أنس على أساس يوجب انصراف ذهنه إلى معنى معيّن نتيجة ندرة وجود غيره عنده أو كثرة استعماله فيه.

بينما الظهور الموضوعي أمر حقيقي ثابت بنحو مطلق لدى النوع والعرف ولا يتغيّر ولا يختلف من شخص لآخر ، لأنّه تابع لقوانين اللغة وقواعدها وأساليب المحاورات والتعبير العام لدى أهل اللغة ، وهذه ثابتة عند العرف العام والنوع.

وعلى هذا نعود للإجابة عن السؤال المطروح فنقول :

وما هو موضوع الحجيّة الظهور الموضوعي لأنّ هذه الحجيّة قائمة على أساس أنّ ظاهر حال كل متكلّم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ ، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله باعتباره إنسانا عرفيّا إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعيّا لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصيّة في ذهن هذا السامع أو ذاك.

والصحيح : أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ؛ وذلك لأنّ حجيّة الظهور قائمة على حيثيّة الكشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم من خلال ظهور حاله في أنّه أراد جدّا ما استعمله وأخطره من معنى في كلامه.

ومن الواضح أنّ المعنى يرتبط باللفظ على أساس أنّ اللفظ موضوع للمعنى ، والوضع إنّما كان لأهل اللغة بشكل عام لا للفرد الشخصي.

فالمتكلم يتحدد مراده الجدّي باعتباره فردا من أبناء اللغة لا باعتباره الشخصي وهذا يعني أنّه يريد المعنى الذي يفهمه النوع العام وفقا لقواعد اللغة وأساليب التعبير.

فحجيّة الظهور التي تقوم على أساس الكاشفيّة إنّما تكون كذلك لأنّ اللفظ يكون كاشفا عن المعنى وكاشفيّته مرتبطة بوضعه له ، وليس على أساس بعض الظروف والملابسات التي يتأثّر بها الشخص ، فإنّ هذا الظاهر ليس حجّة إلا على نفس الشخص فقط ، ولا يكون كاشفا وحجّة لدى النوع.

والمراد من حجيّة الظهور كون ما يظهر من الكلام حجّة للسامع باعتباره النوعي لا باعتباره الشخصي ، لأنّ حجيّة الظهور كانت قائمة على أساس السيرة العقلائيّة لأهل اللغة والعرف والمحاورة ، فيجب أن يكون المعنى ظاهرا عندهم ليكون حجّة.

وأمّا الظهور الذاتي وهو ما قد يعبّر عنه بالتبادر أو الانسباق فيمكن أن يقال

ص: 362

بأنّه أمارة عقلائيّة على تعيين الظهور الموضوعي ، فكلّ إنسان إذا انسبق إلى ذهنه معنى مخصوص من كلام ولم يجد بالفحص شيئا محدّدا شخصيا يمكن أن يفسّر ذلك الانسباق فيعتبر هذا الانسباق دليلا على الظهور الموضوعي.

وأمّا الظهور الذاتي فيمكن أن يكون له فائدة وهي :

بما أنّ الظهور الذاتي عبارة عمّا ينسبق ويتبادر إلى ذهن الشخص من معنى فهناك حالتان :

الأولى : أن يكون انسباق المعنى إلى الذهن وتبادره من اللفظ نتيجة لبعض الظروف والملابسات والأنس الشخصي كما تقدّم وفي هذه الحالة لا يكون هذا الظهور حجّة ، ولا يكون كاشفا عن المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ ، لأنّه يعلم بأنّه كان ناتجا عن العوامل والظروف الشخصيّة المحيطة بالشخص ذاته.

الثانية : أن يكون انسباق المعنى إلى الذهن وتبادره من اللفظ غير متأثر بهذه العوامل والظروف والملابسات الشخصيّة بأن فحص الإنسان ودقّق في هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنه فلم يجد شيئا من العوامل الذاتية والشخصيّة كان مؤثرا على تبادر هذا المعنى ، فهنا يمكن لهذا الشخص بعد التأكد من عدم وجود مبرّر شخصي وذاتي لتبادره أن يستكشف أنّ هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنه هو نفس المعنى الموضوع له اللفظ عند العرف العام والنوع من أهل اللغة والمحاورة. وبالتالي يكون هذا التبادر كاشفا عن الظهور الموضوعي أي أنّ هذا المعنى الظاهر من اللفظ ظاهر لكل أبناء النوع من أهل اللغة والمحاورة ، والظهور الموضوعي بدوره يكون كاشفا عن الوضع الحقيقي وأنّ هذا المعنى هو المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ.

وبهذا ينبغي أن يميّز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي والتبادر على مستوى الظهور الموضوعي.

فالأوّل : كاشف عن الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع.

والثاني : كاشف إنّي تكويني - مع عدم القرينة - عن الوضع.

وبهذا يتّضح أنّه يوجد نحوان من التبادر يجب التمييز بينهما ، هما :

الأوّل : التبادر على مستوى الظهور الذاتي والذي يكون كاشفا عن الظهور الموضوعي كما ذكرنا ، والظهور الموضوعي يكشف عن الوضع ، فيكون هذا التبادر

ص: 363

كاشفا عن الوضع بتوسط الظهور الموضوعي ، وأمّا منشأ هذا التبادر فقد يكون الوضع وقد يكون عدم وجود المبررات والظروف الذاتية والشخصيّة.

الثاني : التبادر على مستوى الظهور الموضوعي وهو الذي تقدّم سابقا أنّه كاشف عن وضع اللفظ للمعنى على نحو الحقيقة في مقابل المجاز ، فهذا التبادر يكشف عن الوضع ابتداء مع عدم وجود القرينة على المجاز ، لأنّه في الحقيقة معلول للوضع فيكون كاشفا إنيّا عن الوضع ، أي أنّ هذا المعنى الذي تبادر إلى الذهن منشؤه الوضع العام عند أهل اللغة والمحاورة.

* * *

ص: 364

الظهور الموضوعي في عصر النص

ص: 365

ص: 366

الظهور الموضوعي في عصر النص

لا شكّ في أنّ ظواهر اللغة والكلام تتطور وتتغير على مرّ الزمن بفعل مؤثرات مختلفة لغوية وفكرية واجتماعية ، فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفا للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث.

وموضوع الحجيّة هو الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له ، لأنّها حجيّة عقلائيّة قائمة على أساس حيثيّة الكشف والظهور الحالي.

ومن الواضح أنّ ظاهر حال المتكلّم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلا في زمان صدور الكلام منه ، وعليه فنحن بالتبادر نثبت - بطريق الإنّ - الظهور الذاتي وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع.

بعد أن عرفنا أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ، فنسأل هل الظهور الموضوعي الذي هو الموضوع للحجيّة هو الظهور في عصر النّص ، أو في عصر السماع؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بأس بالإشارة إلى أمر وهو أنّ اللغة في حالة تطور وتغير دائما على مرّ العصور والأزمنة ، وهذا الأمر لا شكّ فيه ؛ لأنّه ثابت بالوجدان فهناك الكثير من المفردات في اللغة قد هجرت أو نقلت عن معناها ، وهناك الكلمات والمفردات الدخيلة على اللغة ، والتي صارت بمرور الوقت جزءا من اللغة ، ومنشأ هذا التغير والتطور هو العوامل والظروف المختلفة ، فإنّ الفكر الإنساني في حالة تقدّم دائما ، وكلما اكتشف شيئا جديدا لا بدّ أن يضع بإزائه لفظا يدلّ عليه وهذا لم يكن موجودا سابقا ، وكذلك العوامل الاجتماعية من اختلاط الناس والألسنة والشعوب وانتقال الثقافات وتبادلها بين الشعوب. وعلى هذا الأساس قد يكون اللفظ ظاهرا في

ص: 367

معنى في عصر النصّ والصدور وليس ظاهرا فيه الآن أو العكس ، وقد يكونان متطابقين معا ، من قبيل كلمة الشبهة أو الشك الواردتين في الأحاديث فإنّ معناها في عصر النصّ يختلف عن معناها الآن خصوصا في علم الأصول والفقه.

بعد هذا نعود للإجابة عن السؤال المطروح ، فإنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي للفظ في معناه الثابت في عصر النصّ والصدور ، وليس في عصر السماع المغاير له. نعم ، لو كانا متطابقين فلا إشكال في كون الحجيّة موضوعها كلا الظهورين.

والوجه في كون الظهور الموضوعي في عصر النصّ هو الموضوع للحجيّة هو أنّ حجيّة الظهور كما تقدّم قائمة على أساس حيثيّة الكشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم والذي يستكشف من خلال ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد جدا ما ذكره وقاله ، وما هو ظاهر كلامه.

ومن الواضح أنّ كل متكلّم يريد جدا ما ظهر من كلامه فعلا ، فالشارع إذا تكلم بكلام له ظهور فيكون مراده الجدّي ما يكون ظاهرا من كلامه فعلا أي حين التكلم وليس ما سوف يظهر من كلامه في المستقبل إذ يلزم أن لا يكون مبينا لمراده الجدّي مع كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي بشخص كلامه كما تقدّم ، ولهذا يكون مخلاّ بما هو المتعارف عند العقلاء وأهل المحاورة من أساليب التعبير. وبهذا ظهر أنّ مراده الجدّي يتحدد طبقا لما يدلّ عليه ظاهر كلامه حين تكلمه وهذا يعني أنّ الظهور الموضوعي للكلام في عصر النصّ وصدور الكلام هو موضوع الحجيّة دون غيره.

وأمّا كيفيّة إثبات الظهور الموضوعي فقد تقدّم سابقا أنّ إحراز الظهور الموضوعي إمّا بالوجدان بأن يعلم المتكلّم أنّ هذا اللفظ يدلّ على هذا المعنى عند النوع ، وإما من خلال الظهور الذاتي فإنّ ما يتبادر إلى الذهن من معنى إذا لم يكن هناك عوامل ذاتية وشخصيّة لنشوئه دلّ ذلك من طريق الإنّ على الظهور الموضوعي.

وبتعبير آخر : أنّ الظهور الذاتي القائم على أساس التبادر الشخصي دالّ بطريق الإنّ على الظهور الموضوعي عند عدم وجود المبررات الذاتية ، إلا أنّه يدلّ على الظهور الموضوعي الثابت في عصر السماع.

ص: 368

وأمّا كيفيّة إثبات أنّ هذا الظهور الموضوعي الثابت في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي الثابت في عصر النصّ فهذا يمكن إثباته بأصل عقلائي ثابت في المقام يسمّى بأصالة عدم التغير أو عدم النقل أو الاستصحاب القهقرى ، وفقا للتوضيح التالي :

ويبقى علينا أن نثبت أن الظهور الموضوعي في عصر السماع يطابق الظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجيّة ، وهذا ما نثبته بأصل عقلائي يطلق عليه أصالة عدم النقل ، وقد نسمّيه بأصالة الثبات في اللغة.

وأمّا إثبات التطابق بين الظهور الموضوعي في عصر السماع وبين الظهور الموضوعي في عصر النصّ والصدور والكلام ، فهذا يمكن إثباته بأصل عقلائي كاشف عن الواقع كشفا نوعيّا ، وهذا الأصل العقلائي عبّر عنه بتعبيرات مختلفة ، ففي كلمات القدماء عبّر عنه بالاستصحاب القهقرى والمراد منه : الاستصحاب الذي يكون اليقين فيه لاحقا والشك سابقا بعكس الاستصحاب المصطلح.

فنحن هنا على يقين بأنّ هذا اللفظ يدلّ على المعنى في عصر السماع ونشك في أنّه يدلّ عليه أيضا في عصر الصدور والنصّ الذي هو أسبق زمانا على عصر السماع أم لا؟ فيقال : إنّ هذا الاستصحاب يجري لإثبات أنّ المعنى كان ثابتا هناك أيضا ، وبالتالي يرتفع الشك ويثبت التطابق بين العصرين.

وحديثا يعبّر عن هذا الأصل بأصالة عدم النقل أو أصالة عدم التغير أو أصالة الثبات في اللغة ، فإنها تعبيرات مختلفة ولكن المقصود واحد وهو أنّ الأصل في الألفاظ الموضوعة لمعانيها أنّها لم تنقل إلى معنى آخر لأنّ النقل يحتاج إلى دليل وقرينة ، وهو غير موجود ، وكذلك فإنّ اللغة والوضع الأصل فيهما عدم التّغير أي أنّهما ثابتان فإذا شككنا في أنّهما قد تغيّرا أم لا نتمسّك بأصالة الثبات وعدم التغير ، وبالتالي يثبت أنّ هذا المعنى الظاهر من اللفظ في عصر السماع هو نفسه المعنى الذي كان ظاهرا من اللفظ في عصر النصّ على أساس أنّ التّغير خلاف الأصل ، ويحتاج إلى دليل لإثباته ، لأنّ الثبات في اللغة هو الأساس والأصل الأوّلي ولا يرفع اليد عنه إلا في كل مورد خاص يثبت فيه النقل والتغير.

يبقى أنّ هذا الأصل العقلائي لا بدّ أن يكون له كاشفيّة نوعيّة ليكون التمسّك به

ص: 369

عقلائيّا ، ولذلك لا بد أن نعرف الحيثية الكاشفة وكيفيّة دلالتها على المدّعى ، وعليه فنقول :

وهذا الأصل العقلائي يقوم على أساس ما يخيّل لأبناء العرف - نتيجة التجارب الشخصيّة - من استقرار اللغة وثباتها ، فإنّ الثبات النسبي والتطور البطيء للغة يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن.

وهذا الإيحاء وإن كان خادعا ولكنّه على أيّة حال إيحاء عام استقرّ بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائيّة نادرة تنفى بالأصل ، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل ، أو أصالة الثبات ، ولا يعني الإمضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور وإنّما يعني من الناحية التشريعيّة جعله احتمال التطابق حجّة ما لم يقم دليل على خلافه.

والمنشأ لهذا الأصل العقلائي هو أنّ العقلاء من أبناء اللغة والعرف يخيّل إليهم أنّ اللغة مستقرة وثابتة لما يشاهدونه بأنفسهم من خلال تجاربهم الشخصيّة واستقرائهم لظهور الألفاظ ودلالتها على معانيها ، فإنّ كل فرد منهم يتخيّل أنّ هذه اللغة الموجودة الآن والمعاني الموضوعة لها الألفاظ كانت ولم تتغير عن حالتها.

والوجه في هذا التخيّل هو أنّ تغيّر اللغة وتطورها وإن كان حقيقة ثابتة وواقعيّة ، ولكن اللغة إنّما يحدث فيها التغير والتطور مع مرور الزمن وليس فجأة ، وهذا معناه أنّ الثبات نسبي أي أنّه موجود في حياة الفرد ؛ لأنّ التغير لا يتمّ إلا بوقت طويل. وعليه ، فكلّ فرد يتخيّل الثبات لما يحسّه بالوجدان.

وهذا التخيّل مع التطوّر البطيء للغة يوحي للناس العاديين أنّ ظواهر اللغة ثابتة وغير متغيرة ، ولكن بالدقة والتحليل نجد أنّ التغير موجود ، إلا أنّ هذا الإيحاء وإن كان خادعا وخاطئا لكنّه يشكّل ظاهرة عامّة لدى كل الناس العاديين بأنّ الظواهر مستقرة ولذلك يبنون على إلغاء احتمال التغير أو يعتبرونه حالة نادرة واستثنائيّة ، فإذا شكّ في التغير في مورد ما يبنى على عدمه على أساس أصالة عدم النقل وعدم التغير وعلى أساس هذا الإيحاء بالثبات للغة.

والشارع لاحظ هذا الأمر في حياة العقلاء ومع ذلك سكت عنه فهذا يكشف عن إمضائه وبالتالي نستكشف أن أصالة عدم النقل مقبولة شرعا والشارع أجاز التعبّد بها.

ص: 370

وبهذا نعرف أنّ أصالة عدم النقل وعدم التغيّر كاشفة عن الثبات وبالتالي تكشف عن الظهور الموضوعي في عصر النصّ أيضا ، وأنّه مطابق للظهور الموضوعي في عصر السماع ، وهذه الكاشفيّة ولو كانت خادعة إلا أنّ الشارع أمضاها ، وإمضاؤه معناه أنّه سمح باكتشاف ظهور كلامه على أساس هذا الأصل.

وليس معنى إمضائه أنّه قد صادق وصوّب على صحّة هذا الإيحاء ، بل الإيحاء خاطئ بالدقة إلا أنّ الشارع اعتبر أنّ هذا الإيحاء كاشف تعبدي عن الظهور ، وأنّ احتمال الخلاف منتف. وبالتالي فيكون احتمال التطابق بين الظهورين حجّة إلا أن يثبت خلافه ، وأنّ التغير قد وقع في هذا المورد بخصوصه فعلا.

هذا كلّه بالنسبة للسيرة العقلائيّة وكيفيّة الاستدلال بها على أصالة عدم النقل.

ولا شكّ أيضا في أنّ المتشرّعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيال عديدة طيلة قرنين ونصف من الزمان كانت سيرتهم على العمل بأصالة عدم النقل وعلى الاستناد في أواسط هذه الفترة وأواخرها إلى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة مع أنّها كانت فترة حافلة بمختلف المؤثّرات والتجديدات الاجتماعية والفكرية التي قد يتغيّر الظهور بموجبها.

ويستدلّ أيضا على أصالة عدم النقل والتغير بسيرة المتشرّعة ممّن عاصر الأئمّة علیهم السلام خلال أجيال متعدّدة ، تبلغ قرنين ونصف من الزمان ، فإنّ سيرتهم كانت قائمة فعلا على الأخذ بظاهر كلام النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة الماضين علیهم السلام وفق ما هو ظاهر بالفعل في عصرهم ، بمعنى أنّهم كانوا في عصر الإمام الحادي عشر مثلا يعملون بما يرونه ظاهرا فعلا من كلام الإمام الأوّل مثلا ، أو كلام النبيّ - عليه وآله الصلاة والسلام - من دون شكّ أو ارتياب في ذلك ، ومن دون الالتفات إلى التغير النسبي في اللغة بل كانوا يسيرون عمليّا ويبنون على أصالة عدم النقل وأنّ الظاهر من اللفظ الآن هو المعنى الذي كان ظاهرا سابقا ، وهذا يعني إلغاء احتمال الخلاف وعدم التطابق في الظهور بين العصرين.

وهذا العمل والبناء من المتشرّعة كان قائما بالفعل رغم تدينهم واحتياطهم وعدم تصرفهم إلا بما يكون صادرا ومقبولا من الشارع ، ولذلك يكشف عملهم هذا بطريق الإنّ عن كون العمل بالظهور الفعلي حجّة شرعا ، وأنّ الشارع يقبل بذلك على الرغم

ص: 371

من أنّ تلك الفترة بالذات قد شهدت تغيرات كثيرة في اللغة بحيث كانت كل العوامل والظروف التي تساعد على التغير والتطور موجودة آنذاك من دخول أقوام ولغات وشعوب متعدّدة على بلادهم ، فكلّ ذلك لم يكن بنظرهم واعتقادهم مانعا عن العمل بالظهور الفعلي وكونه حجّة.

وبذلك يظهر أنّ العمل بالظهور في عصر السماع حجّة لأنّه كاشف عن الظهور في عصر النصّ والصدور ، ومجرّد احتمال التغير لا يشكّل مانعا عن ذلك إلا إذا ثبت في مورد خاص التغير والنقل ، ولذلك نقول :

ولكن أصالة عدم النقل لا تجري فيما إذا علم بأصل التغير في الظهور أو الوضع ، وشك في تاريخه لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة.

والسرّ في ذلك أنّ البناءات العقلائيّة إنّما تقوم على أساس حيثيات كشف عامّة نوعيّة ، فحينما يلغى احتمال النقل عرفا يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائيّة في حياة اللغة بحسب نظرهم ، وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائيّة فلا تبقى حيثيّة كشف مبرّرة للبناء على نفي احتمال تقدمها.

ثمّ إنّ أصالة عدم النقل لا تجري في موردين ، هما :

المورد الأوّل : أن يعلم بأصل وجود النقل والتغير في اللغة أو الظهور أو الوضع ، بحيث نجزم بأنّ هذا اللفظ كان ظاهره مغايرا لما هو الظاهر منه الآن ، إلا أنّنا لا نعلم تاريخ هذا النقل وأنّه هل حصل التغير قبل صدور الكلام من الشارع أم بعده؟ فلو كان التغير موجودا قبل صدور الكلام من الشارع فهذا معناه أنّ الكلام كان ظاهرا من أول الأمر في المعنى الجديد الموجود عندنا الآن ، وإن كان قبل صدوره فهذا يعني أنّ المعنى الظاهر من كلام الشارع مغاير لما هو موجود الآن.

وحيث إنّنا نشك في فترة وتاريخ التغير والنقل فلا تجري أصالة عدم النقل والتغير لنفي احتمال التغير ؛ وذلك لأنّ العقلاء لا يبنون في هذه الحالة على إلغاء احتمال التغيّر إذ المفروض العلم بحصوله ولو إجمالا ، ففي هذه الحالة يختلّ البناء العقلائي المبرّر لجريان أصالة عدم النقل.

والوجه في ذلك : أنّ البناءات العقلائيّة كما ذكرنا مرارا تقوم على أساس الكاشفيّة

ص: 372

عن الواقع والمراد وليس عند العقلاء أصول وبناءات تعبّدية محضة ، وعلى هذا فحيثية الكشف الموجودة في أصالة عدم النقل والتغير في موارد جريانها هي ذلك الإيحاء الخادع الذي يوحي بالثبات في اللغة نتيجة كون التغير بطيئا بحيث لا يحصل في حياة الفرد عادة.

وهذه الحيثية يعلم بعدم وجودها هنا لأنّه مع العلم بالنقل والتغير كيف يمكننا إلغاء احتمال التغير بأصالة عدم النقل؟ إذ لا مبرّر ولا كاشفيّة لهذه الأصالة في الفرض المذكور حيث يعلم بوقوع التغير جزما والكاشفيّة كانت تعتمد على تخيل الثبات والاستقرار في اللغة والوضع ، وهي لا تجتمع مع العلم المفروض.

بل لا يخلو التمسّك بأصالة عدم النقل من الاشكال في الموارد التي علم فيها بوجود ظروف معينة بالإمكان أن تكون سببا في تغيّر مدلول الكلمة ، وإنّما المتيقن منها عقلائيّا حالات الاحتمال الساذج للتغير والنقل.

المورد الثاني : فيما إذا علم بوجود الظروف والعوامل والمؤثّرات المختلفة سواء الفكرية والاجتماعية واللغوية وغير ذلك ، فإنّ هذه المؤثّرات من شأنها حال وجودها في فترة ما أن تؤثر على اللغة فتغيّر من ظواهرها أو تدخل ألفاظا جديدة على اللغة بحسب التقدم والتطور الفكري والاجتماعي للشعوب.

وهذا يعني أنّه من المظنون جدا أن يحصل النقل والتغير في ظواهر الالفاظ في الفترة التي توجد فيها هذه المؤثّرات النوعيّة ؛ ولذلك فيكون احتمال النقل والتغير احتمالا معتدا به نوعا لوجود كافة المبررات لذلك. وحينئذ لا يمكننا التمسّك بأصالة عدم النقل لأنّ المفروض وجود أمارات ظنيّة معاكسة لهذه الأصالة تقتضي حصول التغير والنقل ، وهذه الأمارات لها كاشفيّة ظنيّة نوعيّة عن الواقع لأنّه في الغالب والعادة أن تحدث التغيرات عند حصول أسبابها وظروفها ، والمفروض أنّنا نعلم بوجود هذه الأسباب والظروف والعوامل ونشك في حصول التغير مع كون البناء العقلائي هنا على حدوثه وحصوله.

وعلى هذا فيقع التعارض بين أصالة عدم النقل الكاشفة نوعا عن إلغاء احتمال التغير والنقل وبين هذه الأمارات الظنية الكاشفة نوعا عن التغير والنقل وإذ لا ترجيح لأحدهما فيتعارضان ويتساقطان ، وبالتالي لا يمكن إثبات عدم النقل والتغير.

ص: 373

وبهذا يتلخص أنّ أصالة عدم النقل إنّما تجري في موارد الاحتمال الساذج للنقل والتغير ، أي الاحتمال البدوي الذي لا يكون مقرونا بعلم إجمالي بحصول أصل التغير أو بعلم تفصيلي بوجود الظروف والعوامل والمؤثّرات المقتضية للنقل والتغير ، وأمّا مع الاحتمال المقرون بأحد هذين العلمين فلا يمكن نفيه على أساس أصالة عدم النقل لعدم وجود الحيثية الكاشفة لها عندئذ.

ص: 374

التفصيلات في الحجيّة

اشارة

ص: 375

ص: 376

التفصيلات في الحجيّة

توجد عدة أقوال تتجه إلى التفصيل في حجيّة الظهور - وقد أشرنا إلى أحدها في الحلقة السابقة - ونذكر فيما يلي اثنين من تلك الأقوال :

توجد ثلاثة أقوال تفصّل في حجيّة الظهور :

القول الأوّل : ما ذهب إليه الأخباريّون وقد تقدّم ذكره في الحلقة السابقة ولا بأس بالإشارة إليه إجمالا.

فنقول : ذهب الأخباريّون إلى أنّ ظواهر الكتاب الكريم ليست حجّة ، فالإطلاق والعموم الكتابيان لا يمكن التمسّك بحجيتهما استنادا إلى حجيّة الظهور ، فإنّ هذه الحجيّة يجب رفع اليد عنها في خصوص ظواهر الكتاب ، وذلك لوجوه :

1 - الآيات التي تنهى عن الأخذ بالمتشابه بدعوى أنّ المتشابه يشمل المجمل والظاهر أيضا.

2 - الروايات والأخبار الكثيرة التي ينصّ بعضها على حرمة تفسير القرآن بالرأي ، وبعضها الآخر على اختصاص فهم القرآن بالأئمّة المعصومين دون غيرهم ، وبعضها على عدم جواز تفسير القرآن إلا بالرجوع إلى المعصومين.

3 - العلم الإجمالي وذلك أنّنا نعلم بطروّ المخصصات والمقيّدات على عمومات وإطلاقات الكتاب بالجملة ، وهذا يعني أنّ هذه الإطلاقات والعمومات ليست حجّة في ظهورها في العموم والإطلاق ، وحيث لا يعلم تفصيلا مقدار العموم والإطلاق اللذين خصّصا وقيّدا فيكون هناك علم إجمالي منجز لكل أطرافه فيجب الاجتناب عن الأخذ بما هو ظاهر الكتاب.

والصحيح عدم الفرق بين الكتاب وغيره ، فالظهور حجّة مطلقا ما لم تثبت القرينة على الخلاف.

ص: 377

القول الأوّل : التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره ، فالمقصود بالإفهام يعتبر الظهور حجّة بالنسبة إليه ، لأنّ احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف بالنسبة إليه لا موجب له - مع عدم إحساسه بها - إلا احتمال غفلته عنها فينفى ذلك بأصالة عدم الغفلة باعتبارها أصلا عقلائيّا ، وأمّا غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك بل له منشأ آخر وهو احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة تمّ التواطؤ عليها بصورة خاصّة بينه وبين المقصود بالإفهام خاصّة ، وهذا الاحتمال لا تجدي أصالة عدم الغفلة لنفيه ، فلا يكون الظهور حجّة في حقّه.

وأمّا القولان الآخران اللذان يتجهان للتفصيل في حجيّة الظهور ، فهما :

التفصيل الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( القوانين ) من التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره ، فالمقصود بالإفهام يكون الظهور بالنسبة إليه حجّة ، وأمّا غيره فلا يكون حجّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ احتمال وجود قرينة متّصلة على خلاف الظهور بالنسبة لمن قصد إفهامه لا منشأ له إلا احتمال غفلة المتكلّم أو السامع عن هذه القرينة ، لأنّ المفروض أنّ المقصود إفهامه لم يحرز وجود هذه القرينة ولم يحسّ بوجودها ، وهذا الاحتمال يمكن نفيه استنادا إلى أصالة عدم الغفلة في كلّ منهما ، فالمتكلم وخصوصا الشارع المعصوم يبين كل ما هو دخيل في مراده الجدّي ، فعدم ذكره للقرينة على الخلاف معناه أنّ تمام مراده الجدّي هو ظاهر كلامه ، وأمّا المقصود بالإفهام سواء كان حاضرا أم غائبا ، أي سواء كان مشافها بالكلام أم مراسلا به ، فاحتمال وجود القرينة إليه مع عدم إحساسه بها لا مبرّر له إلا أن يكون المتكلّم قد ذكر القرينة ولم يلتفت إليها السامع وغفل عنها ، وهذا على خلاف المتعارف من كون الإنسان يكون ملتفتا إلى ما يسمعه أو يقرأه ، فينفى هذا الاحتمال اعتمادا على أصالة عدم الغفلة والتي هي أصل عقلائي كاشف عن الواقع كشفا نوعيّا.

وأمّا غير المقصود بالإفهام كأمثالنا فاحتمال وجود القرينة على خلاف الظهور لا ينحصر في الغفلة عنها بل هناك مناشئ عديدة لهذا الاحتمال من جملتها أن يكون المتكلّم قد اتفق مع المقصود إفهامه على قرينة متّصلة غير لفظية كالإشارة مثلا أو كونه في مقام التقية أو كان هناك قرينة لبيّة مرتكزة في ذهن من قصد

ص: 378

إفهامه ، ولأجل ذلك لم تنقل إلينا هذه القرينة لأنّها ليست لفظا لتذكر في الرواية.

وعلى هذا فلا تنفعنا أصالة عدم الغفلة هنا لوجود مناشئ أخرى ، وهذه المناشئ الأخرى لا يمكن نفيها بأصل عقلائي آخر ، لأنّنا نعلم إجمالا باختفاء كثير من القرائن بسبب الضياع أو الاتلاف وغيرها ، وعليه فلا يكون ظهور الكلام حجّة ما لم يحرز عدم وجود القرينة على الخلاف ، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن التمسّك بحجيّة الظهور.

وقد اعترض على ذلك جملة من المحقّقين بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي برأسه يجري لنفي احتمال القرينة في الحالة المذكورة ، وليس مردّها إلى أصالة عدم الغفلة ليتعذّر إجراؤها في حق غير المقصود بالإفهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلّم مع من يقصد إفهامه على القرينة.

وقد اعترض على هذا التفصيل جملة من العلماء المحقّقين كالشيخ وغيره ، وذهبوا إلى عدم الفرق في الحجيّة بين من قصد إفهامه وبين غيره ؛ وذلك لأنّ احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن قصد إفهامه ينفى بما ذكر من أصالة عدم الغفلة وأمّا بالنسبة لمن لم يقصد بالإفهام فإنّ هذا الاحتمال ينفى بأصالة عدم القرينة ، فإنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي قائم بذاته بنحو مستقل عن أصالة عدم الغفلة وليس مردّه إليها ليقال بعدم جريانه هنا.

والوجه في ذلك : أنّ سيرة العقلاء قائمة على الأخذ بظهور كلام المتكلّم عند عدم وجود القرينة على الخلاف ويبنون على عدم وجود مثل هذه القرينة عند احتمالها على أساس أصالة عدم القرينة من دون فرق بين من قصد إفهامه وغيره.

وكذلك سيرة أهل اللسان والعرف والمحاورة في التمسّك بظاهر كلام المتكلّم عند عدم القرينة على الخلاف من دون فرق أيضا.

وسيرة العلماء على ذلك أيضا ، فإنهم يأخذون بالإقرار والوصية والشهادة الواصلة إليهم كتابة ويعملون بظاهرها مع أنّهم ليسوا مقصودين بالإفهام ، ويعتمدون على أصالة الحقيقة أيضا عند عدم وجود القرينة على الخلاف ، بل إنّ سيرة المتشرّعة قائمة على العمل بظواهر الأخبار التي نقلت إليهم عن الأئمّة السابقين كما تقدّم سابقا مع أنهم ليسوا مقصودين بالإفهام.

وهناك الكثير من الأدلّة والشواهد على عدم الفرق بين من قصد إفهامه وبين غيره

ص: 379

في كون ما يظهر من الكلام حجّة ، ولا يلتفت إلى احتمال وجود قرينة تمّ التواطؤ عليها بين المتكلّم والمقصود بالإفهام خاصّة ، لأنّه على خلاف المتعارف عند أهل اللسان والمحاورة ، ويبنون على عدم وجود مثل هذه القرينة لمجرّد احتمالها استنادا على أصالة عدم القرينة.

والتحقيق : أنّ هذا المقدار من البيان لا يكفي لأنّ الأصل العقلائي لا بدّ أن يستند إلى حيثيّة كشف نوعيّة لئلا يكون أصلا تعبّديا على خلاف المرتكزات العقلائيّة ، وهي متوفرة لنفي احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من احتمال غفلة السامع عنها ، فإذا أريد نفي احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من سائر المناشئ أيضا بأصل عقلائي فلا بدّ من إبراز حيثيّة كشف نوعيّة تنفي ذلك ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفتّش عن مناشئ احتمال إرادة خلاف الظاهر عموما وملاحظة مدى إمكان نفي كل واحد منها بحيثية كشف نوعيّة مصحّحة لإجراء أصل عقلائي مقتض لذلك.

والتحقيق في هذه المسألة : أنّ هذا المقدار من الجواب لا يكفي ردّا على ما ذكره المفصّل ؛ وذلك لأنّ أصالة عدم القرينة إن كانت أصلا تعبديّا بحتا فلا بدّ من وجود دليل خاص عليها وهو مفقود ؛ إذ لا يوجد دليل شرعي يدلّ على حجيّة مثل هذا الأصل مضافا إلى أنّ الأصول العقلائيّة ليست تعبّدية بل هي قائمة على أساس حيثيات الكشف النوعي فيها.

وإن كانت أصلا عقلائيّا - كما هو الصحيح - فلا بد أن تكون مستندة على حيثيّة كشف نوعيّة لدى العقلاء ؛ وذلك لأنّ العقلاء لا يبنون على الأصول والقواعد إلا إذا كانت كاشفة كشفا نوعيّا عن الواقع والمراد.

وحينئذ نقول : إنّ احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن قصد إفهامه منشؤه كما ذكر في التفصيل احتمال الغفلة وهذا الاحتمال ينفى بأصالة عدم الغفلة لأنّها أصل عقلائي كاشف نوعا عن المراد والواقع ، حيث إنّ العقلاء في مثل هذه الحالة يبنون على حجيّة ظاهر كلام المتكلّم ، ويعتبرون أنّ احتمال الغفلة عنها ساقط عن الاعتبار ؛ لأنّ الأصل في كل إنسان أن يكون ملتفتا لما يقول ويسمع ، فمع عدم إحساسه بالقرينة على الخلاف يعني ذلك أنّها غير موجودة واقعا.

وأمّا احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن لم يقصد بالإفهام فلا ينحصر

ص: 380

بما ذكره المفصّل في الغفلة بل يوجد لهذا الاحتمال مناشئ عديدة ومختلفة أيضا ، فإذا أريد نفي هذا الاحتمال بأصل عقلائي كأصالة عدم القرينة مثلا فلا بدّ أن يكون هذا الأصل العقلائي ذا حيثيّة كشف نوعيّة عن المراد والواقع.

وعلى هذا فلا بدّ أن نفتّش عن المناشئ التي يمكن على أساسها أن ينشأ احتمال وجود القرينة على الخلاف لنرى أنّه هل بالإمكان نفي هذا الاحتمال أم لا؟ فإذا كان بالإمكان نفيه فهذا يعني وجود أصل عقلائي له حيثيّة كشف نوعيّة تصحّح لنا نفي هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّ الاعتماد على أصالة عدم القرينة لنفي احتمال وجودها لا بدّ أن يكون له منشأ عقلائي وهذا يفترض مسبقا أن يكون هناك حيثيّة كشف نوعيّة لدى العقلاء يمكن الاستناد عليها وتبرير نفي هذا الاحتمال على أساسها ، فإذا أمكننا التوصل إلى هذا فلا يكون للتفصيل مورد ، وإلا لكان التفصيل في محلّه.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصب على هذه النقطة بالذات ولا يكفي مجرّد ادعاء وجود مثل هذا الأصل عند العقلاء.

ومن هنا نقول : إنّ شكّ الشخص غير المقصود بالإفهام في إرادة المتكلّم للمعنى الظاهر ينشأ من أحد أمور :

الأوّل : احتمال كون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيمه بكلامه.

الثاني : احتمال كونه معتمدا على قرينة منفصلة.

الثالث : احتمال كونه معتمدا على قرينة متّصلة غفل عنها السامع.

الرابع : احتمال كونه معتمدا على قرينة ذات دلالة خاصّة متفق عليها بين المتكلّم وشخص آخر كان نظر المتكلّم إليه.

الخامس : احتمال وجود قرينة متّصلة التفت إليها السامع ولكنّه لم ينقلها إلينا ولو من أجل أنّها كانت متمثّلة في لحن الخطاب أو قسمات وجه المتكلّم ونحو ذلك ممّا لا يعتبر لفظا.

ونأتي الآن لاستعراض المناشئ التي توجب احتمال وجود القرينة على الخلاف ، وأنّ المتكلّم لم يرد ظاهر كلامه بالنسبة للشخص غير المقصود بالإفهام ، ولذلك نقول بأنّه توجد مناشئ خمسة لهذا الاحتمال ، وهي :

ص: 381

الأوّل : أن يكون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيم مراده الجدّي لغير المقصود بالإفهام ، أي أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان والتفهيم لمراده الجدّي بل كان في مقام الإجمال والإهمال والإخفاء ، وعلى هذا الأساس لم يرد ما هو ظاهر كلامه بل أظهر في كلامه ما هو مخالف لمراده الحقيقي والواقعي ، ولأجل ذلك لم يكن الظاهر حجّة لغير المقصود بالإفهام.

الثاني : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة منفصلة لبيان ما هو مراده الجدّي والواقعي ، ولهذا يكون مريدا لخلاف ما هو الظاهر من كلامه ، وإنّما مراده واقعا مطابق لما تحكيه هذه القرينة المنفصلة ؛ ولأجل ذلك لم يكن خطابه مبيّنا للشخص غير المقصود بالإفهام لأنّ مراده الجدّي غير ما هو الظاهر فعلا.

الثالث : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة متّصلة في كلامه إلا أنّ السامع غفل عنها ولذلك لم ينقلها إلى غيره ممّن لم يقصد بالإفهام ، فيكون احتمال عدم حجيّة ظاهر الكلام ناشئا من وجود هذه القرينة المتّصلة التي لم تنقل بسبب الغفلة عنها ، وبهذا يكون المراد الجدّي للمتكلّم على خلاف الظهور الفعلي الذي لم تذكر فيه القرينة.

الرابع : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة لها دلالة خاصّة وليست نوعيّة وعامّة ، وهذه القرينة الخاصّة تمّ الاتفاق عليها بين المتكلّم والمقصود بالإفهام بنحو لا يتمكن غير المقصود بالإفهام من معرفتها لأنّها ليست قرينة عامّة نوعيّة يفهمها العرف وأهل اللغة بل هي خاصّة متفق عليها بينهما.

الخامس : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة متّصلة التفت إليها السامع والمقصود بالإفهام فقط ، ولكنّه لم ينقلها إلينا باعتبار أنّ هذه القرينة لم تكن لفظية ، بل كانت لبّية أو قرينة حالية ، كالإشارة أو حركة اليد أو تقسيمات الوجه ونحو ذلك من القرائن غير اللفظيّة ، وعلى هذا لم يكن ظاهر كلامه حجّة لغير المقصود من أجل احتمال وجود مثل هذه القرينة.

فبأحد هذه المناشئ احتمل غير المقصود بالإفهام أنّ ظاهر كلام المتكلّم لم يكن هو المراد الجدّي والواقعي ، ولذلك لم يكن الظهور حجّة له.

والفرق بين المقصود بالإفهام وغيره أنّ المقصود بالإفهام لا يوجد الاحتمال

ص: 382

الأوّل بشأنه ، وكذلك الاحتمال الرابع ، كما أنّ الاحتمال الخامس غير موجود بشأن السامع المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالإفهام أم لا.

وحجيّة الظهور في حق غير السامع ممّن لم يقصد إفهامه تتوقّف على وجود حيثيات كشف مبرّرة عقلائيّا لإلغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه ، وهي موجودة فعلا ، بالبيان التالي :

والفرق في هذه الاحتمالات الخمسة بين المقصود بالإفهام وغيره هو أنّ الاحتمال الأوّل غير وارد بالنسبة للمقصود بالإفهام أصلا ؛ لأنّ كونه مقصودا بالإفهام يعني أن المتكلّم أراد أن يبيّن له على الأقلّ مراده الجدّي ، فهو في مقام البيان والتفهيم بالنسبة له ، ولا يتصور كونه مجملا ومهملا لمراده بالنسبة إليه ، لأنّه خلاف مراده من كونه مقصودا بالإفهام.

وأمّا الاحتمال الثاني فيستوي فيه المقصود بالإفهام وغيره ، بمعنى أنّ اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة معقول في نفسه بحقهما.

والاحتمال الثالث كذلك فإنّه يمكن للمتكلّم أن يعتمد على قرينة متّصلة يغفل عنها السامع المقصود بالإفهام وغيره.

وأمّا الاحتمال الرابع فلا يرد بحق المقصود بالإفهام إذ لا معنى لأنّ يتفق المتكلّم مع شخص آخر غيره على قرينة تبيّن المراد الجدّي من دون أن يكون المقصود بالإفهام عالما بها ، إذ هذا خلاف كونه مقصودا بالإفهام الذي يحتّم على المتكلّم أن يبيّن له كل ما هو دخيل في مراده الواقعي والذي من جملته هذه القرينة الخاصّة. نعم ، هذا الاحتمال وارد بحق من لم يقصد إفهامه.

وأمّا الاحتمال الخامس فهو لا يشمل المقصود بالإفهام وكذلك لا يشمل السامع الموجود في المجلس المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالإفهام أم لا ، لأنّ هذه القرينة اللبيّة أو الحاليّة كانت في المجلس والمفروض أنّ هذا الشخص كان موجودا هناك فيكون ملتفتا إليها أيضا.

ثمّ بعد ذلك نأتي إلى البحث حول إمكانية نفي هذه المناشئ والاحتمالات على أساس حيثيات كشف عقلائيّة نوعيّة فهل بالإمكان وجود مثل هذه الحيثيات الكاشفة التي يمكن على أساسها نفي احتمال وجود القرينة على الخلاف بحق غير المقصود بالإفهام أم لا؟

ص: 383

والجواب : أنّ هذا ممكن ، لأنّه توجد هذه الحيثيات الكاشفة لإبطال كل المناشئ لاحتمال وجود القرينة على الخلاف ؛ ولتوضيح ذلك نذكر الحيثية الكاشفة في كل واحد من هذه الاحتمالات فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل فينفى بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام تفهيم مراده بكلامه.

أمّا الاحتمال الأوّل القائم على أساس الاخفاء والإجمال لمن لم يقصد إفهامه ، فهذا يمكن إبطاله ونفيه بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي والواقعي في شخص كلامه ، وهذا الظهور يشمل المقصود بالإفهام وغيره على حدّ سواء ، لأنّ الإجمال والإخفاء مخالف لما هو المتعارف عند أهل اللسان والمحاورة من العقلاء ، ولذلك يكون نفي هذا الاحتمال قائما على حيثيّة كشف نوعيّة وهي أنّه مخالف للعقلاء والعرف.

وأمّا الاحتمال الثاني فينفى بظهور حاله في أن ما يقوله يريده ، أي أنّه في مقام تفهيم مراده بشخص كلامه.

وأمّا الاحتمال الثاني القائم على أساس اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة ، فهذا يمكن إبطاله على أساس التمسّك بظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي الواقعي ، ولما هو دخيل في موضوع حكمه بنفس هذا الخطاب وشخصه فينعقد مراده الجدّي على طبق ما يذكره ويبيّنه في شخص كلامه فقط فيكون ظاهر كلامه حجّة ، بحيث يكون اعتماد المتكلم على القرائن المنفصلة حالة نادرة واستثنائيّة عند العقلاء والعرف وأهل المحاورة ، ولذلك ينفى هذا الاحتمال على أساس حيثيّة الكشف النوعيّة العقلائيّة من عدم الاعتماد على القرائن المنفصلة غالبا إلا إذا أحرز ذلك في مورد خاص ، ومع عدم إحراز ذلك يتمسك بظاهر الكلام لاكتشاف المراد الجدّي والواقعي.

وأمّا الاحتمال الثالث فينفى بأصالة عدم الغفلة

وأمّا الاحتمال الثالث القائم على أنّ المتكلّم ذكر قرينة متّصلة غفل عنها السامع ولم ينقلها ، فهذا يمكن إبطاله بأصالة عدم الغفلة ، والتي هي من الأصول العقلائيّة الكاشفة عن المراد الجدّي على أساس أنّ الغالب كون الإنسان ملتفتا لما يقوله ويسمعه

ص: 384

وينقله إلا إذا ثبت الخلاف في مورد خاص ، وهنا لم تثبت الغفلة لا بحق المتكلّم ولا بحق السامع ولا بحق المنقول إليه.

وأمّا الاحتمال الرابع - وهو ما أبرزه المفصّل - فينفى بظهور حال المتكلّم العرفي في استعمال الأدوات العرفية للتفهيم ، والجري وفق أساليب التعبير العام.

وأمّا الاحتمال الرابع الذي أبرزه صاحب هذا التفصيل من إمكان اعتماد المتكلّم على قرينة خاصّة متفق عليها بينه وبين المقصود بالإفهام فقط ، فهذا يمكن إبطاله ونفيه بالتمسّك بظهور حال المتكلّم العرفي في أنّه يستعمل الأدوات والألفاظ والقرائن المتعارفة عند أهل اللغة والمحاورة وفقا لأساليب التعبير العام وطبقا لما هو ثابت في اللغة ، ولذلك يكون اعتماده على قرائن خاصّة جدا حالة شاذة ونادرة عمّا هو المتعارف ، وهذا الاحتمال ينفى بأنّ المتكلّم يتبع ما هو المتعارف عند أهل لغته وعرفه ولا يشذّ عنهم إلا إذا ثبت في مورد خاص ذلك ، وأمّا مع الشك والاحتمال فيحمل على أنّه استعمل وعبّر بما هو المتعارف فقط ، وهذا يشمل المقصود بالإفهام وغيره ، لأنّهما معا من أبناء العرف واللغة.

وأمّا الاحتمال الخامس فينفى بشهادة الناقل - ولو ضمنا - بعدم حذف ما له دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد.

وأمّا الاحتمال الخامس القائم على أساس أنّ السامع التفت إلى القرينة لكنّه لم ينقلها إلينا فهذا ينفى بشهادة الناقل الضمنيّة في أنّه استوعب في نقله تمام ما هو دخيل في مراد المتكلّم الجدّي الواقعي ، لأنّ عدم النقل لهذه القرينة إن كان عمدا فهو خلاف إحراز وثاقته التي هي شرط في حجيّة نقله ، وإن كان غفلة ونسيانا وسهوا فهو خلاف أصالة عدم الغفلة ، ولذلك فلا يوجد مبرّر لعدم النقل إلا أنّ المتكلّم لم يذكرها في كلامه أو ليست دخيلة في تحديد المراد الجدّي للمتكلّم ، وبهذا يكون ظاهر الكلام حجّة لغير المقصود بالكلام أيضا ، لأنّ هذا الاحتمال منفي بحيثية كشف نوعيّة عقلائيّة كما أوضحنا.

وبهذا ظهر أنّ هذا التفصيل غير صحيح.

القول الثاني : وتوضيحه : أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن - على

ص: 385

الأقلّ - بأنّ مراد المتكلّم هو المعنى الظاهر ، لأنّه أمارة ظنيّة كاشفة عن ذلك ، فإذا لم تحصل أمارة ظنيّة على خلاف ذلك أثّر الظهور فيما يقتضيه وحصل الظن الفعلي بالمراد ، وإذا حصلت أمارة ظنيّة على الخلاف وقع التزاحم بين الأمارتين فقد لا يحصل حينئذ ظنّ فعلي بإرادة المعنى الظاهر بل قد يحصل الظن على خلاف الظهور تأثرا بالأمارة الظنية المزاحمة.

وعلى هذا فقد يستثنى من حجيّة الظهور حالة الظن الفعلي بعدم إرادة المعنى الظاهر ، بل قد يقال بأنّ حجيّة الظهور أساسا مختصّة بصورة حصول الظن الفعلي على وفق الظهور.

ويمكن تبرير هذا القول بأنّ حجيّة الظهور ليست حكما تعبديّا ، وإنّما هي على أساس كاشفيّة الظهور ، فلا معنى لثبوتها في فرض عدم تأثير الظهور في الكشف الظني الفعلي على وفقه.

التفصيل الثاني : ما ذكره المحقّق النراقي من أنّ حجيّة الظهور يشترط فيها عدم الظن الفعلي بالخلاف ، فإذا حصل ظن فعلي بالخلاف فلا يكون الظهور حجّة.

وتوضيح ذلك : أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن بأنّ المتكلّم يريد واقعا وجدّا ما هو ظاهر من كلامه ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الظهور يعتبر أمارة عقلائيّة كاشفة عن الواقع والمراد الجدّي ، وهذا يجعل الظهور مفيدا للظن على أقل تقدير ، وحينئذ فهذا الظن الحاصل من الظهور يكون حجّة ويجوز التمسّك به والتعويل عليه إذا لم يكن هناك ظن فعلي على خلافه ، وإلا سوف يتعارض الظن النوعي الحاصل من الظهور مع الظن الفعلي الحاصل للشخص من وجود أمارة ظنيّة أخرى على خلافه ، سواء كانت معتبرة شرعا أم لا ، وعليه فيحصل التزاحم والتعارض بين هاتين الكاشفيتين فإنّ كان الظهور الفعلي المخالف أقوى فهذا يعني تقديمه على الظن الحاصل من الظهور ، وإن لم يكن أقوى فهو مانع ومزاحم للعمل بالظن الحاصل من الظهور لأنّه لن يوجب حصول الظن الشخصي الفعلي بالوفاق.

وبتعبير آخر : أنّ الظن الحاصل من الظهور إما ألا يكون هناك ظن فعلي شخصي على خلافه وإما أن يكون هناك ظن فعلي على خلافه ، وإما أن يكون هناك ظني فعلي شخصي على وفاقه.

ص: 386

فإذا كان هناك ظن فعلي على وفاقه أو لم يكن ظن فعلي على خلافه فالظهور حجّة ، وأمّا إذا كان هناك ظن فعلي شخصي على خلافه فلا يكون حجّة.

والوجه في ذلك أنّ الكاشفيّة الظنية الحاصلة من الظهور تتعارض مع الكاشفيّة الظنية الحاصلة من الأمارة على الخلاف ، سواء كانت حجّة شرعا أم لا ، كالقياس مثلا أو الشهرة الفتوائية ونحوها ، وحينئذ إما أن تكون الأمارة الظنية الشخصيّة على الخلاف أقوى فتقدّم على الظهور ، وإما ألا تكون أقوى فتعارضه وتزاحمه وتمنع عن تماميّة كاشفيّته.

وبهذا ظهر وجه التفصيل المذكور فإنّ الظهور حجّة إلا فيما إذا كان هناك أمارة عقلائيّة - وإن لم تكن حجّة شرعا - موجبة للظن الشخصي لا النوعي بالخلاف ، فلا يكون الظهور حجّة حينئذ.

بل قد يقال أكثر من ذلك : وهو التفصيل بين الظهور الذي قام الظن الشخصي الفعلي على وفاقه فهو حجّة ، وبين الظهور الذي لم يقم ظن فعلي على وفاقه سواء كان هناك ظن فعلي على خلافه أم لا ، فلا يكون حجّة.

فتكون حجيّة الظهور من الأساس مشروطة بحصول ظن شخصي على الوفاق ولا يكفي الظن النوعي.

والوجه في ذلك أنّ حجيّة الظهور ليست حكما تعبّديا لأنّها أصل عقلائي ، والأصول العقلائيّة إنّما تكون على أساس حيثيّة كشف نوعيّة ، فإذا لم يكن هناك كشف فلا معنى للقول بحجيّة الظهور. وعليه ، فإذا لم يكن الظهور مؤثّرا في حصول الظن للشخص فلا معنى للتمسّك به ، والقول بحجيّته ، لأنّه في هذه الحالة يكون العمل به تعبديّا وهو خلاف المفروض في الأمارات والأصول العقلائيّة ، ولذلك يجب أن يكون الظهور مؤثّرا ومفيدا لحصول الظن لدى الشخص بالوفاق ، فإنّه في هذه الحالة يكون كاشفا عن المراد الجدّي والواقعي.

ومن الأمثلة التي طرحت لهذا التفصيل هو ما إذا كان هناك خبر صحيح وقامت الشهرة على خلافه مع أنّ الشهرة ليست حجّة ولكنها توجب المنع من العمل بهذا الظهور.

وكذا لو كان لدينا عموم أو إطلاق وكان هناك خبر مجمل يحتمل كونه

ص: 387

مخصّصا أو مقيّدا فإنّه يمنع من التمسّك بالعموم والإطلاق ، وكذلك لو كان هناك كلام ظاهر في معناه الحقيقي ووجد ما يصلح أن يكون صارفا له إلى المجاز ، فإنّه يمنع من حمله على الحقيقة.

فهذه الأمثلة كلّها ترجع إلى أنّه لا يحصل ظن فعلي للشخص على الوفاق ، ولذلك لا يمكن التمسّك بالظهور.

وقد اعترض الأعلام على هذا التفصيل بأنّ مدرك الحجيّة بناء العقلاء ، والعقلاء لا يفرّقون بين حالات الظن بالوفاق وغيرها ، بل يعملون بالظهور فيها جميعا ، وهذا يكشف عن الحجيّة المطلقة.

واعترض على هذا التفصيل بأنّه مخالف لسيرة العقلاء والعلماء وأهل اللغة فإنّهم لا يتوقّفون في العمل بالظهور إلا إذا ثبت بدليل معتبر عدم إرادته ، وأمّا إذا لم يتمّ مثل هذا الدليل فلا يفرّقون في حجيّة الظهور والتمسّك به بين ما إذا كان هناك ظن شخصي فعلي على خلافه أم لا ، لأنّ المناط هو وجود الظن النوعي ، حيث إنّ مدرك حجيّة الظهور هو بناء العقلاء وسيرتهم القائمة على أساس كاشفيّة الظهور النوعيّة عن المراد والواقع ، وهذا الظن النوعي لا يرفع اليد عنه - بعد أن كان حجّة عقلائيّة ممضاة من الشارع أيضا - إلا إذا وجدت حجّة أقوى منه ، والمفروض هنا أنّه لا توجد مثل هذه الحجيّة ، ومجرّد الظن الشخصي بخلافه أو عدم الظن الشخصي بوفاقه لا يكون مانعا عن العمل بالظهور بعد أن كان كاشفا نوعيّا عن المراد والواقع.

والحاصل : أنّ العقلاء يبنون على الظهور وعلى حجيّته مطلقا في كل الموارد والحالات باعتباره كاشفا نوعيّا ، إلا إذا كان هناك أمارة ظنيّة نوعيّة معارضة له فلا يكون حجّة في هذه الحالة ، وأمّا الظن الشخصي على الوفاق أو الخلاف فلا مدخليّة له في الحجيّة ؛ ليكون وجوده وعدمه مؤثّرا في بقاء حجيّته وعدمها.

وهذا الاعتراض من الأعلام قد يبدو غير صحيح بمراجعة حال الناس ، فإنّا نجد أنّ التاجر لا يعمل بظهور كلام تاجر آخر في تحديد الأسعار إذا ظنّ بأنّه لا يريد ما هو ظاهر كلامه ، وأنّ المشتري لا يعتمد على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة إذا ظنّ بأنّه يريد غير ما هو ظاهر كلامه ، وهكذا.

وهذا الكلام من العلماء على إطلاقه غير صحيح ، فإنّ العقلاء يمتنعون عن العمل

ص: 388

بالظهور في بعض الموارد التي يكون فيها ظن فعلي شخصي على الخلاف ، أو لا يكون فيها ظن فعلي على الوفاق ، وليس دائما يبنون على حجيّة الظهور.

فمثلا التاجر الذي يخبره تاجر آخر بأسعار السلع وأنّه يجب بيعها بهذا الثمن فقط لا أكثر ، فإنّه إذا حصل لهذا التاجر ظن شخصي فعلي بأنّ هذا التاجر الذي أخبره بتحديد أسعار السلع لا يريد ما هو ظاهر كلامه واقعا وجدّا ، وإنّما أخبره بذلك لرغبات شخصيّة ونحو ذلك ، فهنا لا يتمسّك هذا التاجر بظهور كلامه ويعتمده حجّة بل لا يتأمّل فيه أصلا.

وكذا الحال بالنسبة للمشتري الذي يخبره البائع بثمن السلعة فإنّه إذا حصل له ظن شخصي بالخلاف أو لم يظن بالوفاق لا يعمل بظهور كلام البائع بل يسأل غيره ولعلّه يتركه فورا ولا يبتاع منه.

فهذا كلّه دليل وشاهد وجداني على أنّ العقلاء يفرّقون بين الظهور الذي لا يوجد ظن فعلي على خلافه أو الظن على وفاقه وبين الظهور الذي يوجد على خلافه ظن شخصي أو لا يحصل على وفاقه ظن شخصي.

وليس كما قال الأعلام أنهم مطلقا وفي كل الحالات يعملون بالظهور ولا يفرّقون بين الحالات الشخصيّة وغيرها.

ومن هنا عمّق المحقّق النائيني رحمه اللّه اعتراض الأعلام ، إذ ميّز بين العمل بالظهور في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ، والعمل به في مجال الامتثال وتنظيم علاقات الآمرين بالمأمورين.

ففي المجال الأوّل لا يكتفى بالظهور لمجرّد اقتضائه النوعي ما لم يؤثّر هذا الاقتضاء في درجة معتدّ بها من الكشف الفعلي ، وفي المجال الثاني يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزا وتعذيرا ، ولو لم يحصل ظن فعلي بالوفاق أو حصل ظن فعلي بالخلاف.

والأمثلة المشار إليها تدخل في المجال الأوّل لا الثاني.

ومن أجل ما ذكرناه من أمثلة تدلّ على أنّ العقلاء يفرّقون بين حالات الظهور ، عمّق الميرزا اعتراض الأعلام بنحو آخر.

فقال : إنّ العمل بالظهور في حياة العقلاء على نحوين :

ص: 389

فتارة يعمل العقلاء بالظهور في مجال تحصيل الأغراض التكوينيّة الشخصيّة.

وأخرى يعملون بالظهور في مجال الأغراض التشريعيّة فيما بينهم أي بين الآمرين والمأمورين.

فإذا أريد المجال الأوّل أي الاعتماد على الظهور من أجل اكتشاف وتحصيل الغرض الشخصي التكويني بأن كان للشخص غرض في معرفة معنى الكلمة ليضعها في كتابه أو رسالته ، فهنا يكون الظهور حجّة ما لم يقم على خلافه ظن فعلي شخصي أو لم يكن على وفاقه ظنّ كذلك ؛ وذلك لأنّ هذا الشخص لا يكتفي بالاعتماد على الظن النوعي الحاصل من الظهور لتحصيل غرضه الشخصي إلا اذا كان هذا الظهور النوعي يفيد لديه حصول الظن الشخصي الفعلي أيضا ، وإلا فلا يكون طريقا للغرض الشخصي ، بمعنى أنّ كل عاقل من العرف إذا كان له غرض شخصي خاص به يريد تحصيله فإنّه يتبع ويستخدم الطرق والوسائل التي تؤدّي إلى تحصيل هذا الغرض بنظره واعتقاده لا بنظر واعتقاد الآخرين. وعليه فإذا كانت وسائل وطرق الآخرين توجب تحصيل الغرض بنظره فيأخذ بها من باب أنّها كاشفة عن الواقع والمراد كشفا معتدّا به في نظره لا في نظرهم ، وإلا فلا يأخذ بها.

وإذا أريد المجال الثاني أي الاعتماد على الظهور لتنظيم العلاقات بين الآمرين والمأمورين فهنا لا يوجد غرض شخصي بل هناك غرض نوعي عام بين كل آمر وكل مأمور ، بمعنى أنّ كل آمر يعتمد على الطرق والأساليب التي تستخدم عادة وعرفا ونوعا بين كل آمر مع مأموريه ، ولذلك يكون الظهور النوعي الكاشف عن الواقع عند عامّة الناس من العقلاء وأبناء اللغة وأهل المحاورة ، حجّة لأنّه يراد به إثبات التنجيز أو التعذير من خلال ظاهر كلام الآمر وهذا يرتبط بمدلول الكلام لا بما يفهمه كل شخص لوحده ، لأنّ الآمر لا يوجّه كلامه وخطابه لهذا الشخص دون ذاك وإنّما للعموم ، وبما أنّ كلامه لهم جميعا واحد فيجب أن يكون مراده الجدّي الواقعي واحد أيضا.

وهذا لا يمكن إلا إذا استند على تفسير كلامه بما هو المتّفق عليه عند النوع بأن يؤخذ بظاهر كلامه لأنّه كاشف نوعي لدى الجميع ، بخلاف الظن الشخصي بالوفاق أو عدم الظن الشخصي بالخلاف فإنّه يختلف من شخص لآخر ، ولذلك يختلف فهم وتفسير مراد المولى وبالتالي يختلّ نظام العلاقة بين الآمر والمأمور.

ص: 390

وبهذا ظهر أنّه في الأغراض الشخصيّة يبنى في حجيّة الظهور على عدم وجود ظن بالخلاف أو على وجود ظن بالوفاق.

بينما في الأغراض التشريعيّة يبنى على حجيّة الظهور مطلقا سواء كان هناك ظن بالوفاق أم لا وسواء كان هناك ظن بالخلاف أم لا.

والأمثلة التي ذكرت سابقا كانت داخلة في الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ولذلك احتاج العمل بالظهور إلى عدم وجود ظن على خلافه أو على وجود ظن بوفاقه.

وهذا الكلام وإن كان صحيحا وتعميقا لاعتراض الأعلام ، ولكنّه لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين ولا يحلّ الشبهة التي يستند إليها التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفا.

وهذا الكلام من الميرزا متين وصحيح في نفسه ، إلا أنّه لا يبرز النكتة التي على أساسها كان الظهور حجّة في مجال الأغراض التشريعيّة ولم يكن حجّة في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، وعليه فيمكن أن يقال اعتراضا على كلامه بأنّ حجيّة الظهور ما دامت ليست تعبديّة محضة لأنّها من الأصول العقلائيّة التي تكون بلحاظ ما لها من حيثيّة كشف عن الواقع والمراد فكيف كانت هذه الكاشفيّة حجّة في الأغراض التشريعيّة وليست حجّة في الأغراض الشخصيّة مع أنّ الكاشفيّة فيهما على حدّ سواء.

وعليه ، فالشبهة تبقى على حالها أو أنّه أجاب عن الشبهة السابقة إلا أنّه حصلت شبهة أخرى لا بدّ من الإجابة عنها.

فالتحقيق الذي يفي بذلك أن يقال :

إنّ ملاك حجيّة الظهور هو كشفه ، ولكن لا كشفه عند المكلّف بل كشفه في نظر المولى ، بمعنى أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه فتارة يلحظها بنظرة تفصيلية فيستطيع بذلك أن يميّز بصورة جازمة ما أريد به ظاهره عن غيره ، لأنّه الأعرف بمراده ، وأخرى يلحظها بنظرة إجماليّة فيرى أنّ الغالب هو إرادة المعنى الظاهر ، وذلك بجعل الغلبة كاشفا ظنيا عند المولى عن إرادة المعنى الظاهر بالنسبة إلى كل كلام صادر منه حينما يلحظه بنحو الإجمال ، وهذا الكشف هو ملاك الحجيّة لوضوح أنّ حجيّة الأمارة حكم ظاهري وارد لحفظ الأغراض الواقعيّة الأكثر

ص: 391

أهمية ، وهذه الأهميّة قد اكتسبتها الأغراض الواقعيّة التي تحفظها الأمارة المعتبرة بلحاظ قوّة الاحتمال ، كما تقدّم في محلّه.

ومن الواضح أنّ قوّة الاحتمال المؤثّرة في اهتمام المولى إنّما هي قوّة احتماله لا قوّة احتمال المكلّف ، فمن هنا تناط الحجيّة بحيثية الكشف الملحوظة للمولى وهي الظهور لا بالظن الفعلي لدى المكلّف.

والتحقيق في الإجابة عن هذا التفصيل مع إبراز نكتة الفرق بين الأغراض التشريعيّة والأغراض الشخصيّة ، أن يقال : إنّ ملاك حجيّة الظهور هو كونه كاشفا عن المراد والواقع ، وهذا الكشف بلحاظ ما رآه المولى لا المكلّف ، ولذلك فيكون المدار على وجود الكاشفيّة للظهور وعدمها عند المولى ، لا عند المكلّف.

وتوضيح ذلك : أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه الصادرة منه في مقام التشريع أي الأوامر والنواهي يكون بين أمرين :

الأوّل : أن يلحظ هذه الظواهر بنحو التفصيل بأن يلحظ كل ظهور ظهور ، فهنا يمكنه أن يميّز بصورة قاطعة بين الظهور الذي يكشف عن مراده الواقعي وبين الظهور الذي لا يفي بذلك ، بمعنى أنّ المولى باعتباره عالما بمراده الجدّي الواقعي يمكن أن يلحظ هذا الظهور ليرى هل هو كاشف عن مراده أو ليس بكاشف؟ وهنا يعطي المولى ضابطة شخصيّة تتعلّق بكل ظهور تبعا لما لاحظه بنفسه تفصيلا من كاشفيّته وعدمها.

الثاني : أن يلحظ المولى ظواهر كلامه بصورة عامّة وإجماليّة في مجموع ظواهر كلامه لا كل ظهور ظهور ، فهنا إمّا أن يرى أنّ الغالب في هذه الظهورات كونها كاشفة عن مراده الجدّي أو يرى أنّ الغالب فيها عدم الكاشفيّة أو لا يكون هناك أغلبيّة لشيء منهما ، فإذا لم يكن الأغلب فيها الكاشفيّة ، أو كان احتمال الكاشفيّة وعدمها متساويا فيها فهنا لن يجعل الشارع الظهور حجّة ، وهذا يستدعي منه أن يصدر حكما ظاهريّا ينهى فيه عن العمل بظواهر كلامه باعتبار أنّ السيرة العقلائيّة منعقدة على العمل بالظهور ممّا يحتّم على الشارع الردع والنهي في حالة مخالفته.

وقد تقدّم سابقا أنّ الشارع سكت ولم يردع عن هذه السيرة ممّا يعني أنّه أمضى السيرة المذكورة ، وهذا يعني أنّ الشارع قد لاحظ أنّ الأغلب في مجموع الظهورات

ص: 392

أن تكون كاشفة عن مراده الواقعي ، وحينئذ يجعل الشارع هذه الغلبة كاشفا ظنيا عن المراد الجدّي والواقعي للكلام الصادر منه.

والطريق الذي اختاره الشارع هو الثاني لا الأوّل لأنّه الأوثق بتنظيم العلاقة بين الشارع وعبيده والأسهل بالنسبة إلى كيفيّة جعل الأحكام وأنّها عامّة وشاملة لكل المكلّفين في كل زمان ومكان.

وعلى هذا الأساس نصل إلى أنّ حجيّة الظهور كانت بملاك أنّ الغالب في الظهورات عند ما يلحظها الشارع بصورة إجماليّة هو كونها كاشفة عن المراد الواقعي للكلام الصادر منه ، فملاك الحجيّة هو هذه الكاشفيّة لدى الشارع.

والدليل على ذلك : هو أنّ حجيّة الظهور من الأمارات التكوينيّة الكاشفة عن الواقع ؛ لأنّه بناء على ما ذكرنا كان جعل الشارع الحجيّة للظهور باعتبار غلبة كشفه عن الواقع ، وقد تقدّم في بحث الحكم الظاهري أنّه على ثلاثة أقسام : لأنّه إما أن يكون بملاك قوّة الاحتمال أي الكاشفيّة فقط أو بملاك قوّة المحتمل فقط من دون ملاحظة الكشف فيه ، أو بملاك المحتمل والاحتمال معا ، والأوّل هو الأمارة ، والثاني هو الأصل العملي المحض ، والثالث هو الأصل المحرز أو التنزيلي.

وبما أنّ الحجيّة كانت بملاك الغلبة الكاشفة عن الواقع فهي إمارة ؛ لأنّه من خلال هذه الكاشفيّة يكون الشارع قد لاحظ ما هو الأهم من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف لها ، فعند ما يجعل الشارع الظهور حجّة من باب الكاشفيّة فهذا يعني أنّ الظهور والعمل به يكون أحفظ لملاكات وأغراض الشارع الواقعيّة من غيره.

ومن الواضح أيضا كما تقدّم أن قوّة الاحتمال والكاشفيّة التي تجعل الشيء أمارة إنّما هي الكاشفيّة بنظر المولى لأنّه الأعرف بأغراضه الواقعيّة وبكيفيّة الحفاظ عليها لأنّ المولى هو الذي يشخّص هذه الأهميّة باعتبارها تتعلّق بأحكامه هو ، وليس للمكلف أيّة مدخليّة في ذلك.

ومن هنا نعرف أنّ مناط الحجيّة للظهور هو كونه كاشفا عن الملاكات الواقعيّة وأنّه الأهم في مقام الحفاظ عليها ، وهذا يستلزم أن يكون الشارع هو الذي شخّص هذه الكاشفيّة والأهميّة لا المكلّف ، ولذلك فيكون الظهور حجّة باعتباره كاشفا بنظر

ص: 393

المولى بقطع النظر عن حال المكلّف وأنّه سوف يحصل له ظن فعلي شخصي بالوفاق أو بالخلاف أم لا.

وعلى هذا الأساس اختلف مجال الأغراض التكوينيّة عن مجال علاقات الآمرين بالمأمورين ؛ إذ المناط في المجال الأوّل كاشفيّة الظهور لدى نفس العامل به فقد يكون منوطا بحصول الظن له ، والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه لدى الآمر الموجب لشدة اهتمامه الداعية إلى جعل الحجيّة.

وعلى هذا الأساس نعرف وجه الفرق بين الأغراض الشخصيّة التكوينيّة وبين الأغراض التشريعيّة ، فإنّه في الأغراض الشخصيّة تكون حجيّة الظهور منوطة بالكشف الظني الذي يحصل لنفس الشخص الذي يريد العمل بالظهور إذ لا يوجد طرف آخر غيره ، وهنا يعقل التفصيل بين الظهور الذي لا يوجد ظن على خلافه فهو حجّة دون غيره ، أو الظهور الذي يوجد ظن على وفاقه فهو حجّة دون غيره.

بينما في الأغراض التشريعيّة حيث يوجد طرفان ( آمر ومأمور ) فإنّ المناط في حجيّة الظهور كون الظهور كاشفا عن المراد لدى شخص الآمر ، لأنّ حجيّته كما ذكرنا باعتباره كاشفا عن الملاكات الواقعيّة الأهم في مقام الشك والاختلاط وعدم التمييز والشارع والآمر هو الذي يشخّص هذه الغالبيّة والأهميّة ، ولذلك لا مدخليّة لظن المكلّف لا بالوفاق ولا بالخلاف ، بل المناط على ظهور الكلام عند النوع ؛ لأنّ الشارع لم يلاحظ شخص المكلّف ولا كل ظهور وإنّما لاحظ مجموع الظهورات لكل المكلّفين.

فالصحيح إذا عدم التفصيل هنا ، بل الظهور حجّة مطلقا ولا عبرة بالظن الفعلي على الخلاف أو على الوفاق.

* * *

ص: 394

الخلط بين الظهور والحجيّة

ص: 395

ص: 396

الخلط بين الظهور والحجيّة

اتّضح ممّا تقدّم أن مرتبة الظهور التصوّري متقوّمة بالوضع ، ومرتبة الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة ، لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه يفيد مراده بشخص كلامه ، فإذا كانت القرينة متّصلة دخلت في شخص الكلام ولم يكن إرادة ما تقتضيه منافيا للظهور الحالي ، وأمّا عدم القرينة المنفصلة فلا دخل له في أصل الظهور وليس مقوّما له ، وإنّما هو شرط في استمرار الحجيّة بالنسبة إليه.

تقدّم سابقا أنّ الظهور ينقسم إلى قسمين : تصوّري ، وتصديقي.

والظهور التصوّري : هو المعنى الذي يخطر في الذهن من سماع اللفظ ، ولذلك يتوقّف على وضع اللفظ للمعنى.

والظهور التصديقي - وهو على نحوين - : الظهور التصديقي على مستوى الدلالة التصديقيّة الأولى أي الإرادة الاستعمالية ، والظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة الثانية أي الإرادة الجديّة.

وهذا الظهور يتوقّف على عدم وجود القرينة المتّصلة على الخلاف فإنّ كل متكلّم يؤخذ بمراده الجدّي الظاهر من كلامه فعلا أي ما يكون مرادا جديّا له بشخص كلامه لا بكلام آخر سوف يأتي فيما بعد.

وعلى هذا فنقول : إنّ لم تكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف كان المدلول التصديقي مطابقا للمدلول التصوّري وانعقد المراد الجدّي على طبقه ، وإن كان هناك قرينة على الخلاف فإنّ المراد الجدّي ينعقد على خلاف الظهور التصوّري وهذا يعني أنّ الظهور التصوّري محفوظ دائما حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف فضلا عن المنفصلة ، ويعني أيضا أنّ القرينة المتّصلة تدخل في تكوين المراد الجدّي والظهور

ص: 397

التصديقي باعتبارها ممّا ذكره في شخص كلامه ، ولا منافاة بين كون مراده الجدّي على طبق هذه القرينة المتّصلة وبين ظهور حاله في أنّ كل ما يريده فإنّه يذكره في شخص كلامه ، وذلك لأنّه ذكر أنّ مراده على طبق هذه القرينة المتّصلة فلا يكون مخالفا لظهور عرفي سياقي.

وأمّا القرينة المنفصلة فوجودها وعدمها لا يؤثّر على أصل انعقاد الظهور ، بمعنى أنّ الكلام إذا تمّ ولم يذكر المتكلّم قرينة على خلافه فينعقد مراده الجدّي على طبق ما ظهر من كلامه ويكون ظهور كلامه حجّة وكاشفا عن المراد الواقعي ، فإذا جاءت بعد ذلك قرينة منفصلة على خلاف هذا الظهور كانت معارضة له وبالتالي قد تتقدم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي ، فترتفع حجيّة الظهور من حين مجيء هذه القرينة المنفصلة لا من أوّل الأمر ، بمعنى أنّ استمرار حجيّة الظهور ينهدم ، وأمّا إذا لم تأت القرينة المنفصلة على الخلاف فيستمر الظهور على حجيّته.

وبهذا نعرف أنّ القرينة المنفصلة ليست مقوّمة لأصل الظهور وانعقاده ، وإنّما هي شرط في استمرار حجيّة الظهور وعدمه ، بخلاف القرينة المتّصلة فإنها مقوّمة لأصل انعقاد الظهور لأنّها تدخل في شخص كلام المتكلّم فتكون دخيلة في أصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة.

ومن هنا يتّضح وجه الخلط في كلمات جملة من الأكابر الموهمة لوجود ثلاث رتب من الظهور كلّها سابقة على الحجيّة ، ككلام المحقّق النائيني رحمه اللّه ، وهي :

الأولى : مرتبة الظهور التصوّري.

الثانية : مرتبة الظهور التصديقي على نحو يسوّغ لنا التأكيد على أنّه قال كذا وفقا لهذا الظهور.

الثالثة : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على نحو يسوّغ لنا التأكيد على أنّه أراد كذا وفقا لهذه المرتبة من الظهور.

والأولى لا تتقوّم بعدم القرينة ، والثانية تتقوّم بعدم القرينة المتّصلة ، والثالثة تتقوّم بعدم القرينة مطلقا ولو منفصلة.

والحجيّة حكم مترتّب على المرتبة الثالثة من الظهور ، فمتى وردت القرينة المنفصلة - فضلا عن المتّصلة - هدمت المرتبة الثالثة من الظهور ورفعت بذلك موضوع الحجيّة.

ص: 398

إلا أنّ بعض كلمات الأعلام وقع فيها خلط بين الظهور والحجيّة ، كما حصل بالنسبة لكلام الميرزا حيث ذكر : أنّ هناك ثلاث مراتب من الظهور كلّها سابقة على الحجيّة ، والحجيّة مترّتبة عليها ، هي :

أوّلا : مرتبة الظهور التصوّري للكلام ، وهذه المرتبة لا تتقوّم بالقرينة مطلقا لا المتّصلة ولا المنفصلة ، كما ذكرنا لأنّها ناشئة من الوضع ، ولذلك فإنّ هذه المرتبة محفوظة دائما حتّى مع القرينة على الخلاف.

وثانيا : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن أنّه أراد إخطار هذا المعنى في ذهنه وفي ذهن السامع ، أي الارادة الاستعمالية ، وهذه المرتبة متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، بمعنى أنّه إذا لم يذكر القرينة المتّصلة على الخلاف دلّ ذلك على أنّه قد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي الموضوع له تصوّرا ووضعا ، وإذا ذكر القرينة المتّصلة اختل هذا الظهور وانعقد للكلام ظهور آخر في أنّه أراد استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له على سبيل المجاز لا الحقيقة.

وثالثا : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الجدّي الواقعي على نحو يمكننا التأكيد بأنّه أراد واقعا وجدّا هذا المعنى الذي ظهر من كلامه ، وهذا - باعتقاد الميرزا - متوقف على عدم ذكر القرينة مطلقا المتّصلة والمنفصلة ، خلافا لما اخترناه من أنّه متوقف على عدم القرينة المتّصلة فقط.

وعلى مبناه فإذا جاءت القرينة المنفصلة على الخلاف دلّت على عدم انعقاد ظهور كلامه في معناه الذي ظهر منه في أوّل الأمر ، فتكون رافعة وهادمة لأصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع حجيّة الظهور ، وهذا يعني أنّ حجيّة الظهور متوقفة على عدم ذكر القرينة المنفصلة فضلا عن المتّصلة.

والحاصل : أنّ القرينة المنفصلة - على مبنى الميرزا - تهدم أصل الظهور من أوّل الأمر لا أنّها تهدم استمرار حجيّة الظهور فقط ، وهذا الكلام منه خلط بين الظهور وبين الحجيّة ، فإنّه جعل الظهور متوقفا على عدم ذكر القرينة المنفصلة ، بينما الصحيح هو أنّ الحجيّة هي التي تتوقّف على عدم ذكر القرينة المنفصلة لا الظهور ، فإنّه متوقف على عدم ذكر القرينة المتّصلة على الخلاف.

ولتوضيح ذلك نقول :

ص: 399

وهذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره ، فإنّه وإن كان على حقّ في جعل الظهور التصديقي موضوعا للحجيّة كما تقدّم ، غير أنّ الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي استعمالا جديّا ليس متقوّما بعدم القرينة المنفصلة ، بل بعدم القرينة المتّصلة فقط ؛ لأنّ هذا الظهور منشؤه ظهور حال المتكلّم في التطابق بين المدلول التصوّري لكلامه والمدلول التصديقي ، والتطابق بين المدلول التصديقي الأوّل والمدلول التصديقي الثاني ، والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكل ما يتضمنه من خصوصيات ، فإذا اكتمل شخص الكلام وتحدّد مدلوله التصوّري والمعنى المستعمل فيه تنجّز ظهور حال المتكلّم في أنّ ما قاله وما استعمل فيه اللفظ هو المراد جدا ، ومجيء القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي لا أنّه يعني نفيه موضوعا.

والتحقيق : أنّ ما ذكره الميرزا لا يمكن قبوله على ظاهره وإطلاقه ، فهو وإن كان محقّا بالنسبة للظهور التصوّري حيث إنّه لا يتقوّم بالقرينة مطلقا ، وبالنسبة لجعل موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري ، إلا أنّ ما ذكره بالنسبة للمدلول التصديقي الذي على أساسه نحدّد المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم غير صحيح ، فإنّه جعله متقوّما بعدم ذكر القرينة المنفصلة على الخلاف بينما الصحيح كونه متقوّما بعدم ذكر القرينة المتّصلة فقط.

والوجه في ذلك : هو أنّ المتكلّم إذا تكلم بكلام ولم يذكر فيه قرينة متّصلة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور تصوّري في أنّه أخطر هذا المعنى من اللفظ ، وانعقد على طبق هذا المدلول التصوّري مدلول تصديقي أوّل وهو أنّه استعمل هذا اللفظ في ذاك المعنى ، أي أنّه أراد أن يخطر هذا المعنى في الذهن ، بناء على أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل.

ثمّ إنّه إذا لم يذكر القرينة المتّصلة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور تصديقي ثان في أنّه أراد جدّا هذا المعنى الذي أخطره واستعمل اللفظ فيه بناء على أصالة التطابق بين المدلولين التصديقي الأوّل والثاني.

ومن هنا يصحّ لنا القول بأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه أراد جدّا المعنى الذي استعمل اللفظ فيه والذي أخطره هذا اللفظ في الذهن تبعا لوضعه له لغة.

ص: 400

إذا هذا الظهور التصديقي الذي يحدّد المراد الجدّي يعتمد على شخص كلام المتكلّم وأنّه لم يذكر فيه القرينة على الخلاف استنادا إلى أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث ، فإذا لم يذكر هذه القرينة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور وصار هذا الظهور حجّة بالفعل باعتباره كاشفا عن المراد والواقع ، بل حتّى لو ذكر القرينة متّصلة على الخلاف فإنّ المراد الجدّي والواقعي ينعقد على طبق هذه القرينة باعتبارها داخلة في شخص كلامه لأنّه ذكر وقال ما أراده جدا وواقعا ، فلا يكون ذكر القرينة المتّصلة متنافيا مع ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يذكره ويقوله ويستعمل اللفظ فيه هو مراده الجدّي لأنّه بحسب الفرض قد ذكر هذه القرينة في شخص كلامه ، غاية الأمر يختل التطابق بين الدلالات الثلاث فقط ، وهذا لا مانع منه لأنّه لا يؤثّر على ظهور حال المتكلّم العرفي المذكور.

وأمّا إذا ذكر القرينة منفصلة بعد أن انعقد ظهور لكلامه على طبق ما ذكره وقاله واستعمل اللفظ فيه ، وبعد أن تنجّز عليه الظهور وصار حجّة ، فهنا تكون هذه القرينة المنفصلة مكذّبة لهذا الظهور المنعقد فعلا والكاشف عن المراد الواقعي لا أنّها رافعة وهادمة له من أوّل الأمر ، بل إنّ هذه القرينة المنفصلة تكشف عن كون المراد الواقعي ليس على طبق الظهور المنعقد فعلا وأنّ هذا الظهور المنعقد بالفعل ليس مطابقا للمراد الجدّي الواقعي ، ولذلك يقع التنافي والتكاذب بين ما هو المنكشف في هذه القرينة المنفصلة وبين ما هو منكشف فعلا على أساس الظهور التصديقي ، فلا بدّ من تحكيم قواعد التعارض عليهما وأنّه مستقر أو يمكن الجمع العرفي بينهما إلى غير ذلك.

فالصحيح إذا أنّ موضوع الحجيّة ليس متوقفا على عدم القرينة المنفصلة لأنّ الظهور التصديقي الثاني منعقد فعلا عند عدم القرينة المتّصلة على الخلاف. نعم ، استمرار حجيّة هذا الظهور تتوقّف على عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أقوى من الظهور السابق.

والدليل على ما ذكرناه هو :

ولهذا كان الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف الأصل العقلائي ؛ لأنّ ذلك على خلاف الظهور الحالي ، ولو كان الاعتماد عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هو موضوع الحجيّة من الظهور لما كان ذلك على خلاف الطبع ولكان حاله

ص: 401

حال الاعتماد على القرائن المتّصلة التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على طبق المدلول التصوّري.

ويدلّ على ما ذكرناه - من عدم كون القرينة المنفصلة هادمة لأصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة - أنّ الاعتماد على القرائن المنفصلة لا وجود له في حياة العقلاء ، بل يعتبر الاعتماد عليها حالة استثنائيّة نادرة مخالفة للطبع وللمرتكز وللبناء العقلائي ، ومخالفة لظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يقوله ويذكره ويستعمل اللفظ فيه هو مراده الجدّي ، لأنّه بذلك يكون قد أراد جدّا وواقعا ما لم يذكره في شخص كلامه مع أنّ ظاهر حاله أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي والواقعي في شخص كلامه.

وعليه فلو جاز أن يقال : إنّ القرينة المنفصلة يعتمد عليها لهدم ولرفع أصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة كما ذكرنا سابقا عن الميرزا لكان الاعتماد على القرائن المنفصلة كالاعتماد على القرائن المتّصلة في كونها مطابقة للطبع وللميل العقلائي من دون فرق بينهما ، وهذا معلوم البطلان فإنّ العقلاء يرون الاعتماد على القرينة المنفصلة في مقام الدلالة على المراد الجدّي الواقعي على خلاف مقام المتكلّم وظهور حاله في أنّه يبيّن ويريد ما هو موجود في كلامه من ألفاظ.

وبتعبير آخر : أنّ العقلاء يرون أنّ الاعتماد على القرينة المتّصلة موافق للطبع ولظهور حال المتكلّم لأنّه يكون قد أراد جدّا ما ذكره في كلامه. نعم ، يكون ذكر القرينة المتّصلة هادما لأصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الاستعمالي ، وليس خارقا لما هو المتعارف بين العقلاء عند التخاطب والتحاور.

بينما الاعتماد على القرينة المنفصلة يكون بنظر العقلاء حالة نادرة وشاذة لأنّه يكون مخالفا لما هو المتعارف في مقام المحاورة وخارقا لظهور عرفي سياقي في أن كل ما يقوله ويذكره هو مراده الجدّي والواقعي.

* * *

ص: 402

الظهور الحالي

ص: 403

ص: 404

الظهور الحالي

وكما أنّ الظهور اللفظي حجّة كذلك ظهور الحال ، ولو لم يتجسّد في لفظ أيضا ، فكلما كان للحال مدلول عرفي ينسبق إليه ذهن الملاحظ اجتماعيّا أخذ به.

الظهور الحالي هو الظهور الذي لا يكون لفظا وإنّما ينشأ من حال المتكلّم ، بمعنى أنّ المتكلّم قد تصدر منه بعض الأفعال والحركات والتصرّفات تدلّ على أنّه يريد معنى معينا من خلال ما صدر منه ، وهذا ما يسمّى بالتقرير أو الفعل بالنسبة للمعصوم فإنّ المعصوم إذا فعل شيئا فظاهر حاله أنّ هذا الفعل صحيح وكذا إذا سكت عن فعل.

وأمّا المتكلّم الاعتيادي فقد يصدر منه فعل أو تصرّف أو حتّى سكوت أو تقطيب للوجه ، أو عبوس فإنّ هذا كلّه له ظهور. فهل يكون ظهور الحال كظهور اللفظ حجّة أم لا؟

وبتعبير آخر : أنّ المعنى الذي ينسبق إلى ذهن الإنسان الاجتماعي عند ما يلاحظ هذا الحال هل يكون حجّة أم لا؟

والجواب عن ذلك : أنّه توجد ثلاثة أدلة لحجيّة الظهور اللفظي فهل بالإمكان تماميّة شيء من هذه الأدلّة هنا أم لا؟

غير أنّ إثبات الحجيّة لهذه الظواهر غير اللفظيّة لا يمكن أن يكون بسيرة المتشرّعة وقيامها فعلا في عصر المعصومين على العمل في مقام استنباط الأحكام بظواهر الأفعال والأحوال غير اللفظيّة ؛ لأنّ طريق إثبات قيامها في الظواهر اللفظيّة قد لا يمكن تطبيقه في المقام لعدم شيوع ووفرة هذه الظواهر الحاليّة المجرّدة عن الألفاظ لتنتزع السيرة من الحالات المتعدّدة.

الطريق الأوّل : للاستدلال على حجيّة الظهور الحالي هو سيرة المتشرّعة.

والصحيح أنّ سيرة المتشرّعة لا يمكن من خلالها إثبات حجيّة الظهور الحالي ، لأنّه

ص: 405

لا يمكن إثبات قيام وانعقاد سيرة الصحابة والأصحاب فعلا على الأخذ والعمل بظهور حال الشارع ؛ لأنّ تصرفات وأفعال وأحوال الشارع كانت نادرة جدا بحيث لا يمكننا من خلال عدد من الوقائع أن نثبت أنّ الشارع قد اعتمد على استنباط أحكامه من خلال ظهور حاله ، فإنّ الأحكام التي استفيدت من ظهور حال الشارع كانت من خلال ما نص عليه هو نفسه كما بالنسبة للحج وأفعاله أو للصلاة حيث إنّه أمر بالأخذ عنه حسب ما يفعله ويقوم به ، ولا توجد ظواهر توجب أو توحي بأن سيرة المتشرّعة كانت قائمة فعلا على العمل بظهور حال الشارع لاستنباط الأحكام الشرعيّة منه.

ومع عدم إمكانيّة إثبات السيرة لا يمكن جعلها دليلا على الحجيّة كما هو واضح.

كما لا يمكن أن يكون إثبات الحجيّة لها بالأدلة اللفظيّة الآمرة بالتمسّك بالكتاب وأحاديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام كما هو واضح ، لعدم كونها كتابا ولا حديثا.

الطريق الثاني : للاستدلال على حجيّة الظهور الحالي هو الأحاديث الآمرة بالتمسّك بالكتاب والسنّة كحديث الثقلين وغيره.

والصحيح أنّ هذا الطريق لا يمكننا من خلاله إثبات أكثر من كون الكتاب والسنّة كألفاظ يجب العمل بها وبظهورها ، - كما تقدّم سابقا - وأمّا الظهور الحالي فهو ليس كتابا ولا سنّة ولا حديثا ؛ ليكون داخلا في عموم الكتاب والسنّة كما هو واضح.

وإنّما الدليل هو السيرة العقلائيّة على ألا يدخل في إثبات إمضائها التمسّك بظهور حال المولى وسكوته في التقرير والإمضاء لأنّ الكلام في حجيّة هذا الظهور.

الطريق الثالث : هو السيرة العقلائيّة.

والصحيح أنّه يمكن الاستدلال بسيرة العقلاء على حجيّة الظهور الحالي ، وذلك لأنّ بناء العقلاء منعقد فعلا على العمل بظهور حال المتكلّم سواء في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة أم في الأغراض التشريعيّة.

ووجه الاستدلال بها من خلال الارتكاز والإيحاء الموجب للإضرار بغرض الشارع فيما لو لم يكن راضيا بذلك ، فإنّ هذا البناء من شأنه بحكم ارتكازه عند العقلاء أن

ص: 406

يعمل به في أحكام الشارع أيضا بأن تستنبط الأحكام وفقا لظهور حال الشارع ، فمع عدم ردعه وسكوته يكتشف إمضاؤه وتقريره وقبوله بهذا البناء العقلائي.

إلا أنّه يشترط في كيفيّة اكتشاف الإمضاء ألا يدخل فيه استظهار حال الشارع ، بل يكتشف من خلال الطريق العقلي أي كونه آمرا وناهيا أو كونه هادفا وذا غرض ، والعاقل لا يفوّت غرضه.

وأمّا استظهار حال الشارع فاكتشاف الإمضاء به يكون مصادرة ودورا واضحا لأنّ الكلام في أصل إثبات حجيّة مثل هذا الظهور الحالي فما لم تثبت حجيّته لا يمكن جعله دليلا كما هو واضح.

* * *

ص: 407

ص: 408

الظهور التضمّني

اشارة

ص: 409

ص: 410

الظهور التضمّني

إذا كان للكلام ظهور في مطلب فظهوره في ذلك المطلب بكامله ظهور استقلالي ، وله ظهور ضمني في كل جزء من أجزاء ذلك المطلب ، ومثال ذلك أداة العموم في قولنا : ( أكرم كل من في البيت ) ونفرض أن في البيت مائة شخص ، فلأداة العموم ظهور في الشمول للمائة باعتبار دلالتها على الاستيعاب ، ولها ظهور ضمني في الشمول لكل واحد من وحدات هذه المائة ، ولا شكّ في حجيّة كل ظواهرها الضمنيّة.

تقدّم سابقا أنّ للكلام مدلولا مطابقيّا ومدلولا التزاميّا ، وهنا نريد أن نذكر المدلول الثالث وهو المدلول التضمني للكلام فهل هو حجّة أم لا؟

المراد من المدلول التضمني هو أن يكون للكلام ظهور في مطلب ما ويكون له ظهور في الشمول والاستيعاب لتمام أفراده ومصاديقه وأجزائه ، فإنّ ظهوره هذا يسمّى بالظهور الضمني أو التضمني.

ومثاله أدوات العموم ، كقولنا : ( أكرم كل من في البيت ) وفرضنا أنّ الموجودين في البيت مائة شخص ، فهنا يكون للكلام ظهور استقلالي ومدلول مطابقي وهو ثبوت حكم واحد على هذا المجموع ، وله أيضا ظهور تضمني في الشمول لكل فرد من الأفراد الموجودين في البيت بحيث ينحل وجوب الإكرام إلى وجوبات عديدة بعدد الأفراد الموجودين.

وكذلك الحال بالنسبة للأمر بالمركّب كالصلاة ، فإنّ وجوبها ينحل ويتعدّد بتعدّد الأجزاء ، فيسمّى وجوب الركوع والسجود ونحوهما وجوبا ضمنيّا ، ولا إشكال في حجيّة هذا الظهور التضمني ؛ لأنّ الشمول والاستيعاب والانحلال لكلّ الأفراد دخيل في وضع أداة لغة في لفظ العموم أو في حقيقة المركّب ، وهذا لا كلام لنا فيه.

ص: 411

ولكن إذا ورد مخصّص منفصل دلّ على عدم وجوب بعض أفراد العام ، ولنفرض أنّ هذا البعض يشمل عشرة من المائة ، فهذا يعني أنّ بعض الظواهر الضمنيّة سوف تسقط عن الحجيّة لمجيء المخصّص.

والسؤال هنا : هو أنّ الظواهر الضمنيّة الأخرى التي تشمل التسعين الباقين هل تبقى على الحجيّة أو لا؟

فإن قيل بالأوّل كان معناه أنّ الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة ، وإن قيل بالثاني كان معناه التبعيّة ، كما تكون الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة.

وكلامنا فيما إذا ورد مخصّص منفصل يدلّ على عدم وجوب إكرام بعض الأفراد كما في المثال المذكور ، فنفرض أنّه ورد لا تكرم هؤلاء العشرة من الموجودين في البيت ، فهنا لا إشكال في سقوط المدلول المطابقي عن حجيّته وشموله لكل الأفراد ، لأنّنا نعلم بعدم الشمول ، وهذا يستلزم أيضا أنّ بعض الظواهر الضمنيّة سوف تسقط عن الحجيّة بسبب مجيء المخصّص المنفصل إذ العشرة التي ورد فيها المخصّص المنفصل ساقطة عن الحجيّة ولا يشملها العموم.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أيضا.

وإنّما الإشكال والكلام في وجوب الباقي من المدلولات والظهورات التضمنيّة فهل الأفراد الأخرى التي لم يرد فيها مخصّص حجّة أم أنّها تسقط عن الحجيّة تبعا لسقوط المدلول المطابقي أيضا؟

فإنّ قيل بأنّها لا تسقط عن الحجيّة بل تبقى واجبة كان معناه أنّ الظهور التضمني غير تابع للظهور المطابقي الاستقلالي في الحجيّة ، وإن قيل بأنّها تسقط عن الحجيّة أيضا ، كان معناه أنّها تابعة للظهور الاستقلالي في الحجيّة ، كما كانت الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة.

والأثر العملي بين القولين أنّه على الأوّل نتمسّك بالعام لإثبات الحكم لتمام من لم يشملهم التخصيص ، وعلى الثاني تسقط حجيّة الظواهر التضمنيّة جميعا ولا يبقى دليل حينئذ على أن الحكم هل يشمل تمام الباقي أم لا؟

والفارق العملي بين القولين : هو أنّه على القول بعدم تبعيّة المدلول التضمني

ص: 412

للمدلول الاستقلالي في الحجيّة سوف تكون الظواهر التضمنيّة الباقية على حجيّتها ، وذلك تمسكا بالعام ، فإنّ العام حجّة في الشمول والاستيعاب لكل أفراده خرج منه بعض الأفراد والمفروض أنّ هذا التخصيص للبعض لا يؤثّر على ظهور العام في الباقي فيكون الباقي لا يزال داخلا تحت العام ومشمولا لحكمه.

بينما على القول بتبعيّة الظهور التضمني للاستقلالي فهذا يعني أنّ الظهورات الباقية لا دليل على ثبوت الحكم فيها ؛ إذ المفروض أنّ العام سقطت حجيّته في الشمول لكل الأفراد ، وأنّ كل الظهورات التضمنيّة سقطت عن الحجيّة ، وعليه فلا يعلم الحكم المقصود من العام من حيث الأفراد هل هو شامل لتمام الأفراد الباقية أم لا؟

وقد ذهب بعض الأصوليّين إلى سقوط الظواهر والدلالات التضمنيّة جميعا عن الحجيّة ؛ وذلك لأنّ ظهور الكلام في الشمول لكل واحد من المائة في المثال المذكور إنّما هو باعتبار نكتة واحدة وهي الظهور التصديقي لأداة العموم في أنّها مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاستيعاب ، وبعد أن علمنا أنّ الأداة لم تستعمل في الاستيعاب بدليل ورود المخصّص وإخراج عشرة من المائة نستكشف أنّ المتكلّم خالف ظهور حاله واستعمل اللفظ في المعنى المجازي ، وبهذا تسقط كل الظواهر الضمنيّة عن الحجيّة ؛ لأنّها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم بطلانه ، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض أن تكون الأداة في المثال مستعملة في التسعين أو في تسعة وثمانين لأنّ كلا منهما مجاز ، وأيّ فرق بين مجاز ومجاز؟!

ذهب بعض الأصوليّين ممّن تقدّم على سلطان المحقّقين إلى أنّ العام بعد تخصيصه بالمخصّص المنفصل يسقط عن الحجيّة في الباقي ، وهذا هو معنى سقوط الدلالات التضمنيّة جميعا عن الحجيّة بعد ورود المخصّص المنفصل على العام ، فإذا قيل : ( أكرم كل من في الدار ) وكان المجموع مائة.

ثمّ ورد مخصّص منفصل يستثني عشرة منهم لسبب خاص فهنا يعلم بأن أداة العموم لم تستعمل في معناها الحقيقي الذي وضعت له لغة وهو الشمول والاستيعاب لكل أفراد المدخول ، إذ المفروض أنّ المخصّص المنفصل قد أسقط بعض الأفراد عن الحجيّة وأخرجها عن العموم والاستيعاب المدلول عليه بالأداة ، وهذا يعني أنّ المراد الجدّي الواقعي لم يكن متطابقا مع المراد الاستعمالي وهذا أيضا لم يكن متطابقا مع

ص: 413

المدلول التصوّري للأداة ؛ لأنّ المراد الجدّي المنعقد وفقا للقرينة المنفصلة يدلّ على أنّه استعمل أداة العموم في غير ما وضعت له أي الاستيعاب لكل الأفراد لأنّه علم يقينا بأنّها لم تستعمل إلا في البعض لا في تمام الأفراد كما هو مفاد المخصّص المنفصل.

فينتج من ذلك أنّ أداة العموم مستعملة في المعنى المجازي لا الحقيقي والدليل الكاشف عن ذلك هو ورود المخصّص المنفصل المسقط لبعض الأفراد عن الشمول والاستيعاب ، فيكون المتكلّم مخالفا لظهور حاله أوّلا في أنّه قد استعمل أداة العموم في الشمول والاستيعاب لكل الأفراد والذي هو المعنى الحقيقي الموضوعة الأداة له ، وإنّما استعملها في معناها المجازي بقرينة ورود المخصّص المنفصل المسقط لبعض الظواهر التضمنيّة.

وبما أنّه قد ثبت أنّ الأداة غير مستعملة في معناها الحقيقي وإنّما استعملت في المعنى المجازي فلا دليل ولا معيّن لحجيّة العموم في باقي الأفراد إذ كما يحتمل أن يكون ما هو الباقي على الحجيّة هو التسعين كذلك يحتمل الأقلّ من ذلك وحيث لا معين لأحدها على الآخر يكون المراد الجدّي بعد التخصيص مجملا ، ولا يعلم يقينا أيّة مرتبة من مراتب المجاز أراد ؛ لأنّ كل المراتب الأخرى مجاز إذ لا استيعاب فيها لتمام الأفراد ، وما دام الاستعمال مجازيا فأيّ فرق بين هذا المجاز وذاك؟! إذ كل المراتب على حدّ سواء في ذلك ، ومجرّد أقربيّة التسعين مثلا من غيرها إلى المائة لا يوجب ترجيحها وتعيينها على غيرها لأنّ هذه الأقربيّة ليست من المعنى وإنّما من المصداق والعدد خارجا.

وقد أجاب على ذلك جملة من المحقّقين كصاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه بأنّ المخصّص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلّم لظهور حاله في استعمال الأداة في معناها الحقيقي ، وإنّما يكشف فقط عن عدم تعلّق إرادته الجديّة بإكرام الأفراد الذين تناولهم المخصّص ، فبالإمكان الحفاظ على هذا الظهور وهو ما كنّا نسمّيه بالظهور التصديقي الأوّل فيما تقدّم ونتصرّف في الظهور التصديقي الثاني وهو ظهور حال المتكلّم في أن كل ما قاله وأبرزه باللفظ مراد له جدا ، فإنّ هذا الظهور لو خلّي وطبعه يثبت أنّ كل ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدّا ، غير أنّ المخصّص يكشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا كذلك ، فكلّ فرد كشف

ص: 414

المخصّص عن عدم شمول الإرادة الجديّة له نرفع اليد عن الظهور التصديقي الثاني بالنسبة إليه ، وكل فرد لم يكشف المخصّص عن ذلك فيه نتمسّك بالظهور التصديقي الثاني لإثبات حكم العام له.

وقد أجاب بعض المحقّقين على ذلك بأنّه بالإمكان التمسّك بالعام في الأفراد الباقية بعد التخصيص. فذكر صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه أنّ للكلام ثلاثة مداليل كما تقدّم ، وهي :

1 - مرحلة المدلول التصوّري وهي مرتبطة بوضع اللفظ للمعنى وهذه المرتبة محفوظة دائما حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف.

2 - مرحلة المدلول التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعماليّة وهي أنّه أراد إخطار واستعمال هذا اللفظ في معناه الموضوع له لغة ، وهذه المرتبة تتوقّف على عدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، إذ مع وجودها يكون استعمال اللفظ مجازا.

3 - مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، أي الإرادة الجديّة ، أي أنّه أراد جدّا هذا المعنى الموضوع له اللفظ ، وهذه المرتبة تتوقّف على عدم ورود القرينة مطلقا سواء المتّصلة والمنفصلة على الخلاف.

وعلى هذا فإذا ورد المخصّص المنفصل كشف عن أن مراده الجدّي ليس مطابقا لمراده الاستعمالي ، بمعنى أنّه أراد جدّا خلاف ما أراده استعمالا ، ولذلك يختلّ التطابق بين الارادة الاستعماليّة والإرادة الجديّة ، فيكون المخصّص المنفصل كاشفا عن عدم تعلّق مراده الجدّي بإكرام تمام الأفراد خلافا لما أفاده في مرحلة الإرادة الاستعماليّة ، وهذا يعني أنّ المنثلم هو المدلول التصديقي الثاني لا الأوّل ، فالأداة لا تزال مستعملة في معناها الحقيقي الذي وضعت له ، بينما المدلول التصديقي الثاني وهو مراده الجدّي والذي كنّا نثبته على أساس ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يقوله ويبرزه في كلامه فهو مراده الجدّي ، ينكشف بالمخصّص المنفصل عدم تحققه.

وبتعبير آخر : أنّ ظهور حال المتكلّم في أنّه أراد جدا ما أبرزه واستعمل اللفظ فيه لو خلّي وطبعه ولم يذكر المتكلّم قرينة على خلافه فهو يقتضي أنّ كل ما أفاده وقاله هو مراده الجدّي ، وحيث إنّه ذكر الأداة الدالة على العموم والاستيعاب لكل الأفراد ، فيكون مراده الجدّي هو شمول الحكم لتمام الأفراد ، فإذا جاء المخصّص المنفصل

ص: 415

كشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا مرادين جدّا ، وأمّا سائر الأفراد الأخرى فهي داخلة تحت العموم والاستيعاب ، إذ لا مخرج لها.

وبكلمة أوضح : أنّ كل فرد من الأفراد داخل في المراد الجدّي ولا يرفع اليد عن العموم بلحاظه ما لم تكن هناك قرينة على الخلاف ، فإذا جاء المخصّص المنفصل وأخرج بعض الأفراد من المراد الجدّي ثبت عدم إرادة العموم والشمول لهذا البعض من الأفراد.

وأمّا سائر الأفراد الأخرى فحيث إنّه لم يثبت خروجها عن المراد الجدّي ، وحيث إنّ الأداة لا تزال مستعملة في معناها الحقيقي وهو الشمول والاستيعاب فهي لا تزال داخلة في العموم ، فإذا شكّ في عدم إرادتها بعد ورود التخصيص أمكننا التمسّك بالعام لإثبات حكمه بلحاظها.

وبهذا ظهر أنّ العام يبقى على حجيّته بلحاظ الأفراد الباقية بعد ورود المخصّص المنفصل ، وذلك تمسّكا بالعام فيها ، إذ لا دليل على خروجها عن عموم العام (1).

ص: 416


1- وأجاب الميرزا النائيني عن ذلك أيضا وفقا لمبناه من أنّ الظهور التصديقي متوقف على عدم القرينة المنفصلة على الخلاف فمع ورود المخصّص المنفصل يثبت أنّ مراده الجدّي هو الباقي بعد التخصيص ، لأنّ ورود المخصّص المنفصل يكشف عن كون المراد الجدّي ليس تمام الأفراد بل البعض فقط ولذلك يكون الظهور التصديقي منعقدا من أوّل الأمر على شمول باقي الأفراد فقط ، لا للجميع ، وذلك بقرينة ورود المخصّص المنفصل الذي أخرج ذلك البعض. وبهذا لا يكون المخصّص المنفصل موجبا للمجازية أصلا ، وإنّما يوجب تضييق دائرة المراد الجدّي والظهور التصديقي ، فبعد أن كانت دائرته أوسع صارت دائرته أضيق بسبب هذا المخصّص المنفصل. وعليه ، فالمخصّص المنفصل يوجب تضييق دائرة مدخول الأداة فقط ، وهي لا تزال مستعملة لاستيعاب تمام أفراد مدخولها فتكون باقي الأفراد حجّة وداخلة تحت العام وضمن المراد الجدّي. وأجاب الشيخ الأنصاري عن ذلك بأنّنا نلتزم بالمجازية مع ورود المخصّص المنفصل ، ولكن مع ذلك يبقى العام حجّة في باقي الأفراد ؛ وذلك لأنّ دلالة العام على كل فرد فرد ليست مترابطة من حيث الدلالة ، فكلّ فرد يشمله العام بقطع النظر عن الفرد الآخر ، فمع ورود المخصّص المنفصل المخرج لبعض الأفراد معناه أنّ الأداة لم تستعمل في معناها الحقيقي أي الشمول لكل الأفراد ، إلا أنّ شمولها للبعض لا يزال ثابتا إذ لا ارتباط لهذا البعض بالبعض الآخر ، والمفروض أنّه لا دليل على خروجه أيضا فيتمسك بالعام بلحاظه.

وفي بادئ الأمر قد يخطر في ذهن الملاحظ أنّ هذا الجواب ليس صحيحا ، لأنّه لم يصنع شيئا سوى أنّه نقل التبعيض في الحجيّة من مرحلة الظهور التصديقي الأوّل إلى مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فإذا كان الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة فلما ذا لا نعمل على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الأوّل؟ وإذا كان تابعا له كذلك فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ونلتزم بحجيّة بعض متضمناته دون بعض؟

قد يقال : إنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) لا يجيب عن التساؤل المطروح سابقا ؛ وذلك لأنّه لم يصنع شيئا سوى أنّه نقل التبعيض من الدلالة التصديقيّة الأولى إلى الدلالة التصديقيّة الثانيّة ، أي أنّه ادّعى أنّ المخصّص المنفصل يوجب التبعيض في المراد الجدّي لا في المراد الاستعمالي خلافا لما تقدّم سابقا من وجه سقوط الظواهر التضمنيّة المبني على أنّ الأداة استعملت مجازا ، وهذا لا يعد وأن يكون دعوى مقابل دعوى ، إذ لم يذكر النكتة والمناط الذي على أساسه يكون المخصّص المنفصل موجبا للتبعيض في مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، فإنّه وان كان على حقّ في نقل هذا التبعيض إلى هذه المرحلة إلا أنّه لم يبيّن نكتة ذلك.

وعليه فيمكن لمعترض أن يقول : إنّ الظهور التضمني إذا كان تابعا للظهور الاستقلالي في الحجيّة فما دام قد علم بسقوط الظهور الاستقلالي فهذا يستلزم سقوط الظهور التضمني سواء كان التبعيض في مرحلة المدلول التصديقي الأوّل كما هو الادّعاء السابق ، أم المدلول التصديقي الثاني كما هو ادّعاء صاحب ( الكفاية ) ؛ لأنّه إذا كان ساقطا فلا يضرّنا كون التبعيض في الارادة الاستعمالية وأنّ الأداة مستعملة مجازا ، أو كونها مستعملة حقيقة والتبعيض في الإرادة الجديّة.

وإذا كان الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة بمعنى أنّه حتّى وإن سقط المدلول المطابقي عن الحجيّة فالمدلول التضمني لا يزال على الحجيّة فهنا نتمسّك بحجيّة هذا المدلول التضمني لإثبات بقاء الباقي تحت العام سواء كان التبعيض في الإرادة الاستعمالية أم في الإرادة الجديّة ، أي سواء كانت الأداة مستعملة حقيقة أم مجازا لأنّ الباقي ما دام حجّة فلا يضرنا الأوّل ولا ينفعنا شيئا زائدا الثاني.

والحاصل أنّ كلام الآخوند لم يصنع شيئا في الجواب على هذا الإشكال إذ مجرّد

ص: 417

التبعيض من دون إبراز المناط والنكتة لا يفيد شيئا ، إذ لا مرجّح لإحدى الدعويين على الأخرى ، إذ الأوّل يفيد اختلال التطابق بين المدلول التصوّري والإرادة الاستعمالية ، والثاني يفيد اختلال التطابق بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجديّة وكلا الاصالتين مبتنيتان على ظهور حال المتكلّم الذي علم بالمخصّص المنفصل انهدامه.

وردّنا على هذه الملاحظة :

إنّ فذلكة الجواب ونكتة نقل التبعيض من مرحلة إلى مرحلة هي أنّ الظواهر الضمنيّة في مرحلة الظهور التصديقي الأوّل مترابطة ولها نكتة واحدة ، فإن ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم شيء من تلك الظواهر الضمنيّة ، والنكتة هي ظهور حال المتكلّم في أنّه يستعمل اللفظ استعمالا حقيقيّا ، فإنّ هذا هو الذي يجعلنا نستظهر أنّ هذا الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال وذاك داخل ، وهكذا.

فإذا علمنا بأنّ اللفظ قد استعمل مجازا وأنّ المتكلّم قد خالف ظهوره الحالي المذكور فلا موجب بعد ذلك لافتراض أن هذا الفرد أو ذاك داخل في نطاق الاستعمال.

ويمكننا الإجابة عن هذه الملاحظة بأنّه توجد نكتة على أساسها ينقل التبعيض من المدلول التصديقي الأوّل إلى الثاني.

وتوضيح ذلك : أنّ الظواهر الضمنيّة تارة تكون بلحاظ المدلول التصديقي الأوّل ، وأخرى بلحاظ المدلول التصديقي الثاني ، فإن كانت على مستوى الإرادة الاستعمالية فهذا يعني أنّنا أثبتنا أنّ أداة العموم في المثال المتقدّم مستعملة في معناها الحقيقي الموضوعة له وهو الاستيعاب والشمول لكل الأفراد ، فالمثبت لهذه الظواهر هو أصالة التطابق بين المدلول التصوّري في أنّه أخطر المعنى من اللفظ الموضوع له ، وبين المدلول التصديقي الأوّل في أنّه استعمل اللفظ في هذا المعنى استنادا إلى ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يخطره في الذهن فهو يريد استعماله على نحو الحقيقة لا المجاز ، وعلى أساس هذه الأصالة يثبت دخول كل فرد من الأفراد التي ينطبق عليه مدخول الأداة في الإرادة الاستعمالية ، وهذه الأصالة لا يرفع اليد عنها إلا إذا ثبت أنّه خالف ظهور حاله ، واستعمل اللفظ في غير المعنى الموضوع له مجازا ، فإن وجد ما يدلّ على المجاز بأن ذكر قرينة متّصلة على الخلاف كان ذلك هادما لهذه الأصالة والتي هي النكتة

ص: 418

الوحيدة التي تثبت دخول كل الأفراد في الاستعمال ، فإذا اختلت وبطلت هذه النكتة لم يبق دليل على أنّ هذا الفرد داخل في الاستعمال أو ذاك.

وبذلك يكون كلام المستشكل تامّا هنا إذ لا فرق في المجاز بين إرادة هذا البعض دون الآخر ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح فيكون الكلام مجملا ، وبالتالي لا يمكننا إثبات أنّ العام مستعمل في باقي الأفراد ؛ لأنّ النكتة الوحيدة التي تفيد هذا الترابط قد علم بطلانها.

وهذا خلافا للظواهر الضمنيّة في مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، فإنّ نكتة كل واحدة منها مستقلّة عن نكتة الباقي ، فإنّ كل جزء من أجزاء مدلول الكلام - أي المعنى المستعمل فيه - ظاهر في الجديّة ، فإذا علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض أجزاء الكلام فلا يسوّغ ذلك رفع اليد عن ظهور الأجزاء الأخرى من مدلول الكلام في الجديّة.

وأمّا إذا كانت الظواهر الضمنيّة على مستوى المدلول التصديقي الثاني أي الإرادة الجديّة أي أنّ أداة العموم المستعملة حقيقة في العموم يراد بها جدّا الاستيعاب والشمول لكل فرد من الأفراد ، فإنّ النكتة في كون كل فرد من الأفراد مرادا على نحو الجديّة تختلف عن النكتة في سائر الأفراد ، أي أنّه لا يوجد ترابط بين إرادة هذا الفرد وبين إرادة غيره ؛ إذ يمكن للمتكلّم أن يريد تمام الأفراد أو بعضها فإنّ هذا تابع لما هو المراد الجدّي الواقعي ، والذي يعرف من خلال أصالة التطابق بين المدلول التصديقي الأوّل والثاني ، أي أنّه أراد جدّا ما استعمل اللفظ فيه ، وحيث إنّه استعمل اللفظ في العموم والشمول لكل الأفراد لأنّه لم ينصب قرينة على الخلاف فهو يريد جدا دخول كل فرد من الأفراد.

وعليه ، فإذا علمنا فيما بعد بعدم إرادة دخول تمام الأفراد بأن ذكر قرينة منفصلة على إخراج بعض الأفراد دلّ هذا على أنّ مراده الجدّي ليس متعلّقا بالجميع ، وأمّا أنّ الباقي هل هو مراد جدا له أم لا؟ فهذا يثبت بما ذكرناه الآن من أنّ كل فرد له نكتة مستقلّة عن غيره من الأفراد على مستوى الإرادة الجديّة ؛ ولذلك يثبت بالمخصّص المنفصل سقوط النكتة الموجبة لدخول الأفراد الذين دلّ المخصّص على خروجها وأمّا الأفراد الباقية فنكتة إرادتها جدا لا تزال على حالها ولا موجب لسقوطها.

وبذلك يكون كلام صاحب ( الكفاية ) تامّا أي أنّه إذا كان التبعيض في الإرادة

ص: 419

الجديّة لا الاستعمالية أمكننا إثبات حجيّة الباقي بنفس كون العام مستعملا في معناه الموضوع له على نحو الحقيقة وهو الاستيعاب والشمول لكل الأفراد.

وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي ،

وحيث إنّنا ذكرنا سابقا أنّ المخصّص المنفصل لا يتدخّل في الإرادة الاستعمالية ولا في أصل انعقاد الإرادة الجديّة وإنّما يكشف فقط عن عدم حجيّة الظهور التصديقي من حين مجيء المخصّص المنفصل ، فهذا يعني أنّ التبعيض كان بلحاظ المدلول التصديقي الثاني لا الأوّل ، وبالتالي يكون ما ذكره صاحب ( الكفاية ) صحيحا ، لأنّنا نتمسّك بنفس العام لإثبات دخول الباقي في المراد استنادا إلى أنّ اللفظ لا يزال مستعملا في معناه الحقيقي فهو يشمل كل الأفراد تصوّرا وقد استعمل في ذلك تصديقا غير أنّه علم بخروج بعض الأفراد وأنّها ليست مرادة جدّا ، وأمّا الباقي فهو لا يزال على حاله لأنّ نكتة دخوله في الإرادة الجديّة غير مرتبطة بغيرها بل مستقلّة عن النكتة لكلّ فرد من الأفراد الأخرى.

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنّ الاستشكال في حجيّة العام في تمام الباقي بعد التخصيص - على النحو المتقدّم - إنّما أثير في المخصّصات المنفصلة دون المتّصلة ، نظرا إلى أنّه في حالات المخصّص المتّصل كما في ( أكرم كل من في البيت إلا العشرة ) تكون الأداة مستعملة في استيعاب أفراد مدخولها حقيقة غير أنّ المخصّص المتّصل يساهم في تعيين هذا المدخول وتحديده ، فلا تجوّز ليقال : أيّ فرق بين مجاز ومجاز؟

هذا كلّه بالنسبة إلى المخصّص المنفصل ، وأمّا المخصّص المتّصل فلم يستشكل أحد في أنّ الباقي بعد التخصيص حجّة.

والوجه في ذلك : هو أنّه إذا قيل : ( أكرم كل من في البيت إلا العشرة ) دلّ ابتداء على أنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب تمام أفراد مدخولها فلا بدّ إذا من تحديد هذا المدخول.

وهنا لا بدّ أن يلاحظ كل ما ذكره في كلامه لتحديد مدخول الأداة ، وحيث إنّه ذكر ( كل من في البيت إلا العشرة ) فتكون الأداة داخلة على هذا المفهوم الذي أخرج منه العشرة أي أنّها داخلة ابتداء على التسعين وتفيد الاستيعاب والشمول لتمام أفراد

ص: 420

التسعين ابتداء ، فتكون مستعملة في استيعاب تمام أفراد التسعين وطبقا لأصالة التطابق نستفيد أنّه يريد جدّا إكرام تمام أفراد التسعين إذ لم ينصب قرينة على خلاف ذلك.

وهذا المخصّص المتّصل لا يوجب كون الأداة مستعملة في غير معناها الموضوعة له ، إذ هي لا تزال مستعملة في الاستيعاب والشمول لتمام أفراد مدخولها ، غاية الأمر أنّ أفراد مدخولها قد تكون كثيرة وأخرى تكون قليلة وكثرتها وقلّتها لا مدخليّة لها في الاستعمال. وهذا نظير ما تقدّم من أنّ التقييد إنّما يوجب وجود مفهوم آخر مغاير للمفهوم الموجود في الإطلاق تكون أفراده أقلّ من الآخر مصداقا وتكوينا ، وقلّة الأفراد وكثرتها في الخارج لا توجب تغيير الاستعمال من الحقيقة إلى المجاز ما دام اللفظ مستعملا في معناه الموضوع له لغة في كلا الحالتين.

وبهذا يختلف المخصّص المتّصل عن المنفصل ، لأنّ الأوّل يتدخّل في أصل تكوين مدخول الأداة ابتداء ومن أوّل الأمر ، ولذلك يكون التطابق موجودا بين الاستعمال والمراد الجدّي بخلاف الثاني فإنّه لا يتدخّل في أصل تكوين مدخول الأداة والمعنى المستعمل فيه ، وإنّما ينظر إلى المراد الجدّي وحجيّته فقط ، ولذلك يكون وجوده موجبا للتوهم وأنّ اللفظ استعمل بنحو الحقيقة أو المجاز ، وقد تقدّم أنّه لا يزال على جهة الحقيقة أيضا.

وعلى أيّة حال فبالنسبة إلى الصيغة الأساسيّة للمسألة المطروحة - وهي حجيّة الظهور التضمني - اتّضح أنّ الظواهر التضمنيّة إذا كانت جميعا بنكتة واحدة وعلم ببطلان تلك النكتة سقطت عن الحجيّة كلّها ، وإذا كانت استقلاليّة في نكاتها لم يسقط بعضها عن الحجيّة بسبب سقوط البعض الآخر.

والحاصل : أنّ مسألة حجيّة الظواهر التضمنيّة بعد سقوط المدلول الاستقلالي تتوقّف على كونها ذات نكتة واحدة أو نكات متعدّدة.

فإذا كانت الظواهر التضمنيّة جميعا ذات نكتة واحدة وعلم بطلانها فهذا يستلزم سقوط الظواهر التضمنيّة كلّها عن الحجيّة ، كما ذكرنا ذلك بالنسبة للإرادة الاستعمالية فإنّ النكتة فيها واحدة وهي ظهور حال المتكلّم في التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول التصديقي الأوّل.

وإذا كانت الظواهر التضمنيّة ذات نكات متعدّدة أي لكل ظهور نكتة خاصّة

ص: 421

ومستقلّة عن النكتة في الظهور الآخر فإنّ سقوط بعض هذه الظواهر عن الحجيّة لا يوجب سقوط الجميع

لأنّ نكاتها لا تزال موجودة بحسب المفروض.

وهذا يتصوّر في مرحلة الإرادة الجديّة فإنّ لكل فرد نكتة خاصّة عن الفرد الآخر بلحاظ دخوله في المراد الجدّي. وأمّا متى تكون النكتة واحدة ومتى تكون متعدّدة فهذا يتوقّف على شيء آخر ، وهو أنّ الدلالة التضمنيّة ان كانت تحليليّة فالنكتة في الجميع واحدة ، كقولنا : ( أكرم كل من في البيت ) فإنّ الإكرام ينحل إلى وجوبات عديدة بعدد الأفراد الموجودة في البيت ، ولكن النكتة في الجميع واحدة وهي كونهم في البيت مثلا.

وإن كانت غير تحليليّة فالنكتة لكلّ فرد تختلف عن النكتة للفرد الآخر ، كقولنا :

( أكرم كل عالم ) فإنّ الإكرام ينحلّ إلى وجوبات عديدة غير أنّ كل وجوب ينصب على الفرد لنكتة خاصّة به لا ترتبط بالنكتة الموجودة في الفرد الآخر.

* * *

ص: 422

الفهرس

المفاهيم... 5

تعريف المفهوم... 7

ضابط المفهوم... 13

مورد الخلاف في ضابط المفهوم... 22

مفهوم الشرط... 27

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية... 35

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع... 51

مفهوم الوصف... 57

مفهوم الغاية... 65

مفهوم الاستثناء... 73

مفهوم الحصر... 79

تحديد دلالات... 85

الدليل الشرعي... 85

الدليل الشرعي غير اللفظي... 87

دلالات الفعل ... 87

دلالات التقرير ... 89

البحث الثاني : إثبات صغرى ، الدليل الشرعي... 113

القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني... 117

تمهيد :... 119

التواتر... 129

الضابط للتواتر ... 140

ص: 423

أمّا العوامل الموضوعيّة ... 141

وأمّا العوامل الذاتيّة ... 144

تعدد الوسائط في التواتر ... 146

أقسام التواتر ... 150

القسم الأوّل : التواتر الإجمالي ... 150

القسم الثاني هو التواتر المعنوي ... 155

القسم الثالث : التواتر المعنوي واللفظي ... 158

الإجماع... 163

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول ... 178

الشروط المساعدة على كشف الإجماع ... 182

مقدار دلالة الإجماع ... 186

الإجماع البسيط والمركّب ... 188

الشهرة... 191

القسم الثاني : وسائل الإثبات التعبّدي... 197

الكلام يقع على مرحلتين ... 200

المرحلة الأولى في إثبات أصل حجيّة الأخبار... 201

الكتاب الكريم... 203

ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه ... 211

السنّة... 229

وأمّا السنّة فهناك طريقان لإثباتها ... 231

الطريق الأوّل : الأخبار... 231

والطريق الآخر لإثبات السنّة هو السيرة... 243

الاعتراض على السيرة ... 247

وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض ... 248

ونلاحظ على ذلك ... 249

والجواب على ذلك ... 252

ص: 424

فالصحيح في الجواب أن يقال ... 256

دليل العقل... 259

وأمّا دليل العقل فله شكلان... 261

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين ... 262

ونلاحظ على هذا الدليل ... 273

المرحلة الثانية في تحديد دائرة حجيّة الأخبار... 279

الإخبار الحدسي ... 285

حجيّة الخبر مع الواسطة... 291

قاعدة التسامح في أدلة السّنن... 301

والتحقيق أنّ هذه الروايات فيها - بدوا - أربعة احتمالات ... 304

الفارق بين هذه الاحتمالات ... 306

الثمرة بين الاحتمالين الأولين ... 307

البحث الثالث : في حجيّة الظهور... 315

أقسام الدلالة ... 317

الدليل المجمل... 317

دليل حجيّة الظهور... 323

وأما دليل حجيّة الظهور... 325

وبين هذه الوجوه فوارق ... 327

الفوارق بين هذه الوجوه ... 328

وقد يلاحظ على الوجه الأوّل ... 329

وقد يلاحظ على الوجه الثاني... 331

جواب الإشكال ... 333

تشخيص موضوع الحجيّة... 339

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي... 359

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي... 361

الظهور الموضوعي في عصر النص... 365

ص: 425

التفصيلات في الحجيّة... 375

الخلط بين الظهور والحجيّة... 395

الظهور الحالي... 403

الظهور التضمّني... 409

وردّنا على هذه الملاحظات... 418

وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي ... 420

الفهرس... 423

ص: 426

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 459

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

3

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الثالث

مباحث الدليل العقلي

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

الدليل العقلي

ص: 5

ص: 6

الدليل العقلي

الدليل العقلي : كلّ قضيّة يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.

والبحث عن القضايا العقليّة : تارة يقع صغرويّا في إدراك العقل وعدمه ، وأخرى كبرويّا في حجّيّة الإدراك العقلي.

قبل الدخول في بحث القضايا العقليّة نذكر عدّة أمور ، منها :

الأمر الأوّل : تعريف الدليل العقلي.

بعد الفراغ من الدليل الشرعي بقسميه اللفظي وغير اللفظي ، يقع البحث حول الدليل العقلي :

والمراد بالدليل العقلي : هو حكم العقل بقضيّة يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، وتكون تلك القضيّة مدركة للعقل على نحو الاستقلاليّة ، فالحكم الذي يصدره العقل على نحو الجزم والقطع ويكون مستندا إلى العقل نفسه لا إلى الشرع ، وهو المبحوث عنه هنا.

وليس المراد من الدليل العقلي المعنى الفلسفي بمعنى القوّة العاقلة المدركة ، كما أنّه ليس المراد منه الحكم العقلي الذي يقع في كبرى الأقيسة المنطقيّة ، أو التي يرجع إليها بحيث تكون من المبادئ الأوّليّة لكلّ القضايا في مقام التصديق ، فإنّ هذا المعنى لا إشكال في حجّيّته منطقيّا عند الجميع.

وكذلك لا يراد من الحكم العقلي المستلزمات العقليّة ؛ لأنّها وإن كانت أحكاما عقليّة إلا أنّ العقل إنّما يحكم بها في طول ثبوت الحكم الشرعي أوّلا ، فهو حكم عقلي مستند إلى الشرع ؛ كحكم العقل بوجوب الإطاعة أو الامتثال لأحكام الشارع.

وكذا لا يدخل في البحث القضايا العقليّة التي لا يمكن أن يستنبط منها الحكم الشرعي ؛ لأنّها لا تكون حجّة بالمعنى الأصولي.

ص: 7

ثمّ إنّ الأحكام العقليّة : تارة ترجع إلى مدركات العقل النظري ، وأخرى إلى مدركات العقل العملي.

والمراد من العقل النظري : إدراك العقل لما هو كائن وموجود. والمراد من العقل العملي : إدراك ما ينبغي أن يكون ويوجد.

والدليل العقلي المبحوث عنه هنا يشمل كلا القسمين ، فيبحث عن حجّيّة كلّ قضيّة يدركها العقل سواء كان إدراكه لها نظريّا أم عمليّا ، فمثلا مسألة اجتماع الأمر والنهي أو مسألة الترتّب أو وجوب المقدّمة أو مسألة الضدّ كلّها ترجع إلى مدركات العقل النظري ؛ لأنّ البحث ينصبّ حول الإمكان أو الوجوب أو الاستحالة فيها ، بمعنى تحليل هذا الأمر الموجود.

بينما البحث عن حسن العدل وقبح الظلم ومصاديقهما في الخارج كالصدق والكذب ونحوهما ترجع إلى مدركات العقل العملي ، وهو وإن كان يبحث فيه عن الحكم الشرعي إلا أنّه يحتاج إلى ضمّ الملازمة القائلة : ( بأن ما حكم به العقل يحكم به الشرع ) أيضا ؛ دون النحو الأوّل ، ولو لا هذه الملازمة لم يمكن اكتشاف حكم الشرع من خلال إدراك العقل العملي بمجرّده بخلاف مدركات العقل النظري ، فإنّ ما يدركه يكون هو حكم الشرع أيضا ؛ لأنّ حكم العقل بضرورة الاستحالة أو الوجوب لا يمكن أن يكون الشرع مخالفا له.

والبحث عن القضايا العقليّة على قسمين : فتارة يكون بحثا كبرويّا ، وأخرى يكون صغرويّا.

والمراد من البحث الكبروي : هو البحث عن حجّيّة الدليل العقلي ، أي أنّ ما أدركه العقل هل يكون حجّة أم لا؟ والحجّيّة هنا بمعناها الأصولي ، فيكون البحث حول منجّزيّة أو معذّريّة الحكم العقلي شرعا.

بينما المراد من البحث الصغروي : هو البحث عن تحقيق موضوع حكم العقل ، فهل العقل يحكم بكذا أم لا؟ أو هل العقل يدرك هذا الأمر أم لا؟ فيبحث فيه عن إدراك العقل للطريق الموصل للحكم الشرعي ، فهل هذا الأمر طريق إلى الأحكام الشرعيّة وموصل إليها على نحو الجزم واليقين كالتواتر والإجماع والسيرة ، أم أنّه طريق ظنّي لا يوصل إليها إلا ظنّا ، ويحتاج الأخذ به إلى تعبّد شرعي لاحقا كالقياس والاستحسان ونحوهما؟

ص: 8

ولا شكّ في أنّ البحث الكبروي أصولي ، وأمّا البحث الصغروي فهو كذلك إذا كانت القضيّة العقليّة المبحوث عنها تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط.

وأمّا القضايا العقليّة التي ترتبط باستنباط أحكام معيّنة ولا تشكّل عنصرا مشتركا فليس البحث عنها أصوليّا.

الأمر الثاني : في كون البحث العقلي أصوليّا أم لا؟

تقدّم أنّ القضايا العقليّة : تارة يكون البحث عنها كبرويّا ، وأخرى يكون البحث عنها صغرويّا.

فإن كان البحث كبرويّا فتكون كلّ القضايا العقليّة المبحوث عنها كبرويّا داخلة في علم الأصول ؛ لأنّ البحث الكبروي هو البحث عن حجّيّة المسألة العقليّة التي أدركها العقل ، فيبحث حول منجّزيّتها أو معذّريّتها ، والبحث عن المنجّزيّة والمعذّريّة بحث أصولي ؛ ولأنّ هذه القضايا العقليّة الكبرويّة تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي في مختلف الأبواب ، بمعنى أنّها تشكّل عنصرا مشتركا له القابليّة للتطبيق في مختلف المسائل والأبواب الفقهيّة ، وليس خاصّا في مورد دون آخر.

وأمّا إن كان البحث صغرويّا أي البحث عن كون المسألة داخلة في الإدراك العقلي أو ليست داخلة فيه؟ فهذا يمكن تقسيمه إلى قسمين :

الأوّل : الأبحاث العقليّة الصغرويّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط بحيث يمكن أن تكون جارية في مختلف الأبواب الفقهيّة من دون اختصاصها بمورد دون آخر ، فمثل هذه الأبحاث تدخل في البحث الأصولي أيضا ، وذلك كالمسائل التي يدركها العقل النظري كحكمه باستحالة الترتّب أو وجوب المقدّمة أو إمكان أو استحالة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ هذه المسائل تقع عنصرا مشتركا في الاستنباط.

الثاني : الأبحاث العقليّة الصغرويّة التي تكون عنصرا خاصّا ، وترتبط بموارد معيّنة بحيث لا يمكن أن تكون شاملة أو قابلة للتطبيق في غير ذاك المورد ، كالبحث عن مسائل العقل العملي كالكذب والصدق ونحوهما ، فإنّ البحث عن مصاديقهما في الخارج صغرويّا يختصّ بمواردهما فقط ، فهذه لا تكون أصوليّة.

ص: 9

ثمّ إنّ القضايا العقليّة التي يتناولها علم الأصول : إمّا أن تكون قضايا فعليّة وإمّا أن تكون قضايا شرطيّة.

فالقضيّة الفعليّة من قبيل إدراك العقل استحالة تكليف العاجز ، والقضيّة الشرطيّة من قبيل إدراك العقل ( أنّ وجوب شيء يستلزم وجوب مقدّمته ) ، فإنّ مردّ هذا إلى إدراكه لقضيّة شرطيّة مؤدّاها ( إذا وجب شيء وجبت مقدّمته ) ، ومن قبيل إدراك العقل ( أنّ قبح فعل يستلزم حرمته ) فإنّ مردّه إلى قضيّة شرطيّة مؤدّاها ( إذا قبح فعل حرم ).

الأمر الثالث : في القضايا الفعليّة والشرطيّة.

تنقسم القضايا العقليّة إلى قسمين باعتبار نفس القضيّة ، فإنّ القضايا إمّا أن تكون فعليّة وإمّا شرطيّة.

والمراد من القضيّة الفعليّة هي الحكم العقلي أو الإدراك العقلي الذي لا يتوقّف على ثبوت شيء في مرتبة سابقة عن نفس القضيّة المدركة ، فالعقل يدرك المطلب ويحكم بحكمه من دون أن يتوقّف على شيء آخر ، فهو حكم منجّز وفعلي من قبيل إدراك العقل لاستحالة تكليف العاجز ، فحكم العقل بالاستحالة هنا لا يتوقّف على ثبوت التكليف أوّلا ، بل إنّ تصوّر العقل لتكليف العاجز في الذهن يكفيه لإقامة البرهان تصديقا على استحالة تكليفه ؛ لكونه تكليفا بغير المقدور أو بما لا يطاق.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم العقلي لا يتوقّف على ثبوت الموضوع في الخارج ، بل يكفي فرضه وتصوّره في الذهن.

بينما المراد من القضيّة الشرطيّة هو الحكم العقلي الذي يكون متوقّفا في رتبة سابقة على وجود حكم شرعي أوّلا ، ففي طول وجود هذا الحكم الشرعي يحكم العقل ، فحكمه إذا معلّق ومنوط بثبوت ذاك الحكم ، ولولاه لم يكن الحكم العقلي ثابتا.

ومثاله : إدراك العقل لوجوب المقدّمة ، فإنّ حكمه بوجوب المقدّمة فرع أن يكون ذو المقدّمة واجبا في رتبة سابقة ، إذ لو لم يكن الشيء واجبا أوّلا لم تكن مقدّماته واجبة على الخلاف الآتي في وجوب مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة.

فالحكم بوجوب تهيئة مقدّمات الحجّ من السفر ونحوه فرع وجوب الحجّ عليه أوّلا ، فلو فرض كون الحجّ مستحبّا لم تكن مقدّماته واجبة ، إذا وجوب المقدّمة إنّما

ص: 10

يحكم به العقل فيما إذا تحقّق شرطها ، وهو وجوب ذي المقدّمة ، وحينئذ يؤلّف العقل قضيّة شرطيّة مفادها ( إنّه إذا وجب شيء فقد وجبت مقدّماته ).

ومثاله أيضا : حكم العقل بحرمة القبيح ، فإنّ هذا الحكم موقوف مسبقا على أن يكون ما حكم العقل بقبحه قد حكم الشارع بحرمته ، فإذا حكم العقل بقبح الكذب مثلا فالشارع يحكم بحرمته ، فيكون حكم العقل بحرمة الكذب موقوفا على ثبوت الملازمة القائلة بأنّه ( إذا قبح فعل فقد حرم ) ؛ إذ لو لم يكن القبيح عقلا حراما شرعا لم يمكن الحكم بحرمة ما يدركه العقل من قبيح.

والقضايا الفعليّة : إمّا أن تكون تحليليّة أو تركيبيّة.

والمراد بالتحليليّة : ما يكون البحث فيها عن تفسير ظاهرة من الظواهر وتحليلها ؛ كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري ، أو عن حقيقة علاقة الحكم بموضوعه.

والمراد بالتركيبيّة : ما يكون البحث فيها عن استحالة شيء بعد الفراغ عن تصوّره وتحديد معناه ، من قبيل البحث عن استحالة الحكم الذي يؤخذ العلم به في موضوعه مثلا.

الأمر الرابع : في تقسيم القضايا الفعليّة.

بعد أن قسّم القضايا العقليّة إلى فعليّة وشرطيّة ، شرع في تقسيم كلّ واحدة منهما إلى أنواعها ، فقسّم القضيّة الفعليّة إلى نوعين :

الأوّل : القضايا الفعليّة التحليليّة

، والمراد بها أن يقوم العقل بتفسير وتحليل ظاهرة من الظواهر أو حقيقة من الحقائق الموجودة ، بعد الفراغ عن ثبوت ذاك الشيء وعدم توقّفه على شيء آخر ، فإنّه مدرك لدى العقل بوضوح ، ولكن يبحث عنه تحليليّا من أجل أن يستكشف بعض الأمور أو الجزئيّات أو الملاك أيضا.

فمثلا البحث عن حقيقة الوجوب التخييري يعتبر بحثا تحليليّا ؛ لأنّه بحث عن كيفيّة تعلّق الوجوب بالتخيير وكيف يمكن تصوير ذلك ، بعد الفراغ عن إمكانه وثبوته واقعا؟

فإنّ مثل هذا البحث التحليلي ينفع بالنسبة لإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في صيغة الأمر لإثبات الوجوب التعييني مقابل الوجوب التخييري ، فيما إذا ثبت أنّ الأوّل لا يحتاج إلى مئونة زائدة بخلاف الثاني ، فإنّه يحتاج إلى مئونة زائدة ؛ لأنّه

ص: 11

يشتمل في حقيقته على شيء زائد على أصل الوجوب ؛ لأنّه إمّا أن يرجع إلى وجوبات مشروطة ، أو إلى تعلّق الوجوب بالجامع ، وكلاهما يحتاج إلى عناية ومئونة. وهكذا يكون البحث عن الوجوب التخييري مثلا بحثا تحليليّا ، ويكون من جهة أخرى داخلا في القضايا العقليّة الفعليّة ؛ لأنّ إدراك العقل للوجوب التخييري لا يتوقّف على شيء في رتبة سابقة عليه.

ومثاله أيضا : العلاقة بين الحكم والموضوع ، فإنّ كلّ الأحكام الشرعيّة منصبّة على موضوعاتها المفترضة والمقدّرة الوجود ، فالحكم ثابت لثبوت موضوعه في عالم الجعل والاعتبار ، ولكنّه لا يصبح فعليّا وعلى ذمّة المكلّف إلا إذا صار موضوعه فعليّا في الخارج ، فيكون الحكم في طول ثبوت وتحقّق الموضوع في الخارج ، فهل هذه الطوليّة في الرتبة بين الحكم والموضوع مجرّد طوليّة ، أو أنّها راجعة إلى السببيّة والعلّيّة فيكون ثبوت الموضوع سببا وعلّة لثبوت الحكم؟

وهذا البحث وتحليله وتفسيره ينفع في كثير من الموارد التي يثبت فيها الموضوع ثمّ يعصي المكلّف الحكم أو يعجّز نفسه عنه ، فإنّه هل يبقى الحكم ثابتا في حقّه مع انتفاء الموضوع أم لا؟

وينفع أيضا في المسئوليّة تجاه مقدّمات أو قيود الحكم بعد تحقّق موضوعه.

وهذا بحث تحليلي عقلي لاكتشاف هذه العلاقة بعد الفراغ عن ثبوتها والإيمان بها ، وكونها فعليّة وناجزة وغير متوقّفة على ثبوت شيء آخر قبلها ، بل هي مدركة لدى العقل مباشرة وبنفسها.

والآخر : القضايا الفعليّة التركيبيّة : وهي من نوع القضايا العقليّة الفعليّة التي لا تتوقّف على ثبوت شيء مسبقا ، ولكنّها ليست مبحوثة لدى العقل على أساس التحليل فقط ، وإنّما بعد الفراغ عن تحليلها وإدراكها وتصوّر معناها وتحديده من مختلف جوانبه وجهاته يبحث عن إمكان أو استحالة هذه القضيّة ، فتكون مركّبة من شيئين : ثبوت شيء أوّلا وتصوّره في العقل ، ثمّ الحكم عليه بالإمكان أو الاستحالة ثانيا. ولذلك سمّيت تركيبيّة ، من قبيل : أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوعه ، فإنّه يبحث عن إمكان أو استحالة مثل هذا التقييد بعد الفراغ عن تصوّره وتحديد معناه.

ص: 12

وهذا البحث العقلي حول أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوعه يعتبر قضيّة عقليّة فعليّة ؛ لأنّ البحث ليس متوقّفا على ثبوت شيء في رتبة سابقة عنه ، ويعتبر قضيّة تركيبيّة ؛ لأنّ البحث فيها عن إثبات حكم تصديقي لهذه القضيّة العقليّة ، أي إثبات شيء لشيء.

وهنا لا ينفع مجرّد التحليل لهذه القضيّة ، بل لا بدّ من إقامة الدليل العقلي والبرهان على الإمكان أو الاستحالة ، فهو بحث تصديقي وليس مجرّد تصوّر وتحليل لظاهرة ما ، بعد الفراغ عن ثبوتها ووقوعها في الخارج.

والقضايا الشرطيّة : إمّا أن يكون الشرط فيها مقدّمة شرعيّة ، من قبيل المثال الأوّل لها ، وإمّا ألاّ يكون كذلك ، من قبيل المثال الثاني لها.

وكلّ القضايا الشرطيّة التي يكون شرطها مقدّمة شرعيّة تسمّى بالدليل العقلي غير المستقلّ ؛ لاحتياجها في مقام استنباط الحكم منها إلى إثبات تلك المقدّمة من قبل الشارع.

وكلّ القضايا الشرطيّة التي يكون شرطها مقدّمة غير شرعيّة تسمّى ب- ( الدليل العقلي المستقلّ ) ؛ لعدم احتياجها إلى ضمّ إثبات شرعي.

الأمر الخامس : في تقسيم القضايا الشرطيّة.

تنقسم القضايا الشرطيّة - وهي ما كان الحكم العقلي فيها متوقّفا على ثبوت شيء في رتبة سابقة - إلى نوعين :

أحدهما : القضايا الشرطيّة التي يكون الشرط فيها مقدّمة شرعيّة ، وتسمّى ب- ( الدليل العقلي غير المستقلّ ).

مثال ذلك : وجوب المقدّمة ، فإنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة كما تقدّم متوقّف على ثبوت وجوب ذي المقدّمة في رتبة سابقة ، وذو المقدّمة هنا حكم شرعي كوجوب الحجّ أو وجوب الصلاة ، فإنّ حكم الشارع بوجوب الحجّ أو الصلاة يعتبر شرطا شرعيّا لحكم العقل بوجوب المقدّمة ، ولو لا ثبوت الحكم الشرعي المذكور لم يحكم العقل بوجوب المقدّمة.

وإنّما سمّي هذا النوع بغير المستقلاّت العقليّة ؛ لأنّ العقل لا يمكنه أن يحكم بوجوب المقدّمة إلا بعد فرض ثبوت وجوب ذيها. فكان حكم العقل متوقّفا على

ص: 13

ثبوت شيء فهو حكم عقلي على نحو القضيّة الشرطيّة ، ولمّا كان الشرط هو الحكم الشرعي سمّي بالحكم العقلي غير المستقلّ.

والآخر : القضايا الشرطيّة التي يكون الشرط فيها مقدّمة غير شرعيّة ، وتسمى ب- ( المستقلاّت العقليّة ) ؛ وذلك لأنّ الشرط لمّا لم يكن شرعيّا فهو شرط عقلي ، فلم يكن حكم العقل محتاجا إلى ضمّ الحكم الشرعي إليه. نعم ، هو محتاج إلى ضمّ حكم عقلي آخر ولذلك كانت القضيّة شرطيّة.

ومثاله : حكم العقل بحرمة الكذب أو الظلم ونحوهما ، فإنّ هذا الحكم متوقّف على أن يكون هناك ملازمة بين حكم العقل بقبح شيء وبين حكم الشرع بحرمته ، فكان حكم العقل بحرمة الكذب مثلا متوقّفا على ثبوت الملازمة المذكورة في رتبة سابقة ، ولذلك فهو من القضايا الشرطيّة ، ولكن الملازمة المذكورة ليست حكما شرعيّا ، وإنّما هي حكم عقلي أيضا ، فمن هنا سمّي بالحكم العقلي المستقلّ.

وكذلك تعتبر القضايا العقليّة الفعليّة التركيبيّة كلّها أدلّة عقليّة مستقلّة ؛ لعدم احتياجها إلى ضمّ مقدّمة شرعيّة في الاستنباط منها ؛ لأنّ مفادها استحالة أنواع خاصّة من الأحكام ، فتبرهن على نفيها بلا توقّف على شيء أصلا ، ونفي الحكم كثبوته ممّا يطلب استنباطه من القاعدة الأصوليّة.

وأمّا القضايا الفعليّة التحليليّة فهي تقع في طريق الاستنباط عادة عن طريق صيرورتها وسيلة لإثبات قضيّة عقليّة تركيبيّة والبرهنة عليها ، أو عن طريق مساعدتها على تحديد كيفيّة تطبيق القاعدة الأصوليّة.

ومثال الأوّل : تحليل الحكم المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فإنّه يشكّل برهانا على القضيّة العقليّة التركيبيّة القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

ومثال الثاني : تحليل حقيقة الوجوب التخييري بإرجاعه إلى وجوبين مشروطين ، أو وجوب واحد على الجامع مثلا ، فإنّ ذلك قد يتدخّل في تحديد كيفيّة إجراء الأصل العملي عند الشكّ ، ودوران أمر الواجب بين كونه تعيينيّا لا عدل له ، أو تخييريّا ذا عدل.

الأمر السادس : بعد أن قسّم القضايا العقليّة الشرطيّة إلى المستقلاّت العقليّة وغير

ص: 14

المستقلاّت العقليّة ، رجع إلى القضايا العقليّة الفعليّة ليبحث عن كونها من أيّ القسمين هي ، فهل هي من المستقلاّت العقليّة أم من غير المستقلاّت؟

فقال : أمّا القضايا الفعليّة التركيبيّة : فهي تعتبر أدلّة عقليّة مستقلّة ؛ وذلك لعدم احتياجها إلى أيّة مقدّمة شرعيّة في عمليّة الاستنباط منها ؛ لأنّ البحث فيها ينصّب حول الإمكان أو الاستحالة ، وهذا بحث عقلي محض ولا يتوقّف على ثبوت شيء آخر من الشارع في مرتبة سابقة ، فاستحالة تكليف العاجز مثلا التي يثبتها العقل لا تتوقّف على كون الصلاة أو الصوم أو الحجّ أو أي حكم شرعي آخر واجبا ، بل بقطع النظر عن حكم الشرع يحكم العقل بالاستحالة.

ولا يقال : إنّ القضايا الفعليّة التركيبيّة لمّا لم تكن محتاجة إلى ضمّ مقدّمة شرعيّة ، فهي إذا لا يستنبط منها حكم شرعي فلا تدخل في علم الأصول حينئذ ؛ لأنّ ما يستنبط منها هو الاستحالة أو الإمكان فقط.

وهذا ليس حكما شرعيّا ؛ لأنّه يجاب بأنّ هذه القضايا تدخل في علم الأصول ؛ وذلك لأنّ إثبات الاستحالة في مورد يلزم منه نفي الحكم الشرعي في فرضه ، فإنّنا إذا أثبتنا استحالة تكليف العاجز بحكم العقل ، فهذا يطبّق على كلّ مورد كان فيه المكلّف عاجزا لننفي عنه التكليف الشرعي في فرض عجزه عنه ، ونفي التكليف كإثبات التكليف يدخل في علم الأصول ؛ لأنّه متوقّف على استنباطه من القواعد الأصوليّة ؛ إذ القاعدة الأصوليّة ليست مختصّة في إثبات التكليف فقط ، بل نفي التكليف مطلوب أيضا من القاعدة الأصوليّة.

وأمّا القضايا الفعليّة التحليليّة : فهي أيضا داخلة في المستقلاّت العقليّة ؛ لأنّها لا تتوقّف على ضمّ شيء آخر إليها ، وإنّما العقل يبحثها بحثا تحليليّا لكشف بعض الجوانب والحقائق فيها ، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري ، وأنّه وجوب واحد أو وجوبان مشروطان ، أو كالبحث عن حقيقة العلاقة بين الحكم وموضوعه ، فإنّ هذا البحث التحليلي العقلي لا يحتاج إلى افتراض وجود أو ضمّ الحكم الشرعي ، بل بقطع النظر عن الحكم الشرعي يبحث العقل هذا الأمر.

وهي أيضا داخلة في علم الأصول ؛ وذلك لأنّها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وذلك عن طريقين :

ص: 15

الطريق الأوّل : فيما إذا صارت وسيلة لإثبات قضيّة عقليّة والبرهنة عليها ، أي أنّها وقعت موردا للبحث من أجل إثبات إمكان أو استحالة القضيّة الفعليّة التركيبيّة ، والتي هي من القواعد الأصوليّة كما تقدّم آنفا ، وأمّا هي نفسها فمجرّد التحليل والبحث عن تفسير ظاهرة من الظواهر ليس أصوليّا في نفسه ، وإنّما يصبح كذلك فيما إذا أدّى البحث التحليلي إلى إثبات القضيّة التركيبيّة إمكانا أو استحالة ، فتصبح أصوليّة لذلك.

ومثاله : البحث التحليلي عن حقيقة الحكم المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فإنّه يشكّل برهانا على القضيّة العقليّة التركيبيّة القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ الأحكام الشرعيّة منصبّة على موضوعاتها بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بمعنى أخذ الموضوع مقدّرا ومفترض الوجود في عالم الجعل والتشريع والاعتبار ، والموضوع هو كلّ المقدّمات والقيود والشروط التي يتوقّف عليها فعليّة الحكم المجعول.

فوجوب الحجّ على المستطيع لا يكون فعليّا إلا إذا تحقّق في الخارج إنسان مستطيع ، وأمّا قبل وجود الإنسان المستطيع فلا يكون الحجّ فعليّا ، وإنّما هو حكم شرعي موجود في عالم الجعل والإنشاء والاعتبار فقط ؛ لأنّ مثل هذا الحكم بالتحليل العقلي يرجع إلى قضيّة حقيقيّة مفادها : أنّه إذا وجد إنسان مستطيع في الخارج فيجب عليه الحج.

ومن هنا لم يكن وجوب الحجّ داعيا إلى إيجاد وتحقيق موضوعه في الخارج ، فوجوب الحجّ لا يسبّب ولا يدعو إلى أن يجعل الإنسان نفسه مستطيعا. نعم ، بعد أن يصبح مستطيعا يدعوه وجوب الحجّ إلى إيجاد الحجّ في الخارج ، فوجوب الحجّ يدعو إلى إيجاد متعلّقه لا إلى إيجاد موضوعه.

وبهذا البحث التحليلي للعلاقة بين الحكم والموضوع نخرج بنتيجة وهي : أنّ وجوب الحجّ لا يدعو إلى إيجاد موضوعه ، بل إلى إيجاد متعلّقه فقط ؛ وذلك لأنّ وجوب الحجّ مسبّب عن الموضوع ، والمسبّب لا يدعو إلى إيجاد السبب. نعم ، وجوب الحجّ يدعو إلى إيجاد متعلّقه وهو الحجّ في الخارج ؛ لأنّه سبب إليه والسبب يدعو إلى إيجاد المسبّب بعد فرض صيرورته فعليّا من جميع الجهات.

ص: 16

وهذه النتيجة يمكن صياغتها بالنحو التالي : أنّ وجوب الحجّ الفعلي منوط ومتوقّف على وجود الإنسان المستطيع في الخارج ، فإذا وجد مستطيع فعلا في الخارج فقد وجب الحجّ فعلا عليه.

وهذه النتيجة تقع في طريق الاستنباط ؛ وذلك لأنّها ترتبط ببعض القضايا العقليّة التركيبيّة لاستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ، فإنّ النتيجة السابقة وهي : ( إذا وجد مستطيع فقد وجب الحجّ عليه ) يبحث في أنّ أخذ العلم بالحكم فيها ( أي وجوب الحجّ ) في موضوعه هل هو ممكن أم مستحيل؟ فهل يجب الحجّ على المستطيع إن كان عالما بوجوب الحجّ أم لا؟

والجواب : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوعه مستحيل لاستلزامه الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كما سيأتي في محلّه ؛ لأنّه لو كان وجوب الحجّ منصبّا على المستطيع العالم بوجوب الحجّ في رتبة سابقة ، فهذا معناه أنّ الموضوع صار مركّبا من المستطيع ومن العلم بوجوب الحجّ والمفروض أنّ وجوب الحجّ ، مسبّب عن موضوعه فهو لا وجود له قبل موضوعه ، فإن كان هو نفسه مأخوذا في موضوعه فهذا يعني أنّه موجود من قبل فيصبح متقدّما ومتأخّرا ، ويصبح وجوب الحجّ مسبّبا عن وجوب الحجّ تبعا للعلاقة بين الحكم والموضوع.

وبهذا يظهر أنّ البحث التحليلي داخل في علم الأصول نتيجة ارتباطه بالبحث عن القضيّة التركيبيّة.

والطريق الثاني : فيما إذا كانت القضايا الفعليّة التحليليّة عنصرا مساعدا على تحديد كيفيّة تطبيق القاعدة الأصوليّة ، ففي مقام تطبيق القاعدة الأصوليّة على مصاديقها أو على مواردها في الخارج احتاجت إلى التحليل العقلي ، فكان التحليل العقلي عنصرا مساعدا لكيفيّة التطبيق ، بمعنى أنّ القاعدة بعد الاستعانة بالتحليل العقلي قد تطبّق على هذا المورد دون ذاك أو العكس أو لا تطبّق أصلا ، فيستفاد إثبات الحكم الشرعي أو نفيه عن المورد المبحوث عنه.

ومثاله : البحث التحليلي عن حقيقة الوجوب التخييري ، فإنّه يقع في طريق الاستنباط وذلك على أساس مدخليّته في كيفيّة تطبيق الأصل العملي في بعض موارده ، كما فيما إذا شكّ في واجب أنّه على نحو التخيير بين عدّة بدائل أو أنّه

ص: 17

تعييني لا بديل ولا عدل له ، فإنّ البحث التحليلي عن حقيقة الوجوب التخييري تنفع في كيفيّة إجراء الأصل العملي.

وتوضيحه : أنّنا إذا قلنا بأنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب الجامع - لاستحالة الوجوبات المشروطة من جهة كونها تستلزم تعدّد العقاب فيما لو ترك الجميع لفعليّة كلّ منها في هذه الحالة لأنّ ترك الآخر متحقّق - فسوف يكون الفرض المذكور من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.

ففي كفّارة الصوم مثلا سوف يدور الأمر بين إيجاب واحدة من الخصال الثلاث على سبيل التعيين ، أو إيجابها على سبيل التخيير بينها وبين الأخريين.

وحينئذ سوف يرتبط البحث بمسألة جريان البراءة في موارد التعيين والتخيير عن الحصّتين الأخريين لو امتثل الحصّة الأولى ، فقد يقال بجريانها عنهما ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد وقد يقال بعدم جريانها كما سوف يأتي ، بل يجري الاحتياط فيما لو امتثل غير الحصّة التي يحتمل كون إيجابها تعيينيّا.

وأمّا إن قيل برجوع الوجوب التخييري إلى وجوبات مشروطة ، بحيث تكون كلّ واحدة من خصال الكفّارة واجبة بنفسها وجوبا استقلاليّا بشرط ترك الحصّتين الأخريين ، فسوف يرجع الشكّ في التعيين والتخيير إلى الشكّ في إطلاق الوجوب في كلّ واحدة من الحصص سواء أتى بالحصّتين أم لا ، وفي كونه وجوبا مشروطا بترك الحصّتين ، فإذا امتثل إحدى الحصّتين سوف يشكّ في بقاء الوجوب في الحصص الأخرى ؛ لاحتمال كون وجوبها مطلقا ، وهذا شكّ في تكليف زائد فتجري فيه البراءة.

وبهذا يتّضح أنّ البحث عن حقيقة الوجوب التخييري يرتبط ارتباطا وثيقا بكيفيّة جريان البراءة ، أو الاحتياط عند الشكّ في واجب ما أنّه تعييني أو تخييري.

وكذلك ينفع البحث التحليلي عن الوجوب التخييري في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّه إذا قيل بأنّ الوجوب التخييري يرجع إلى وجوبات مشروطة ولو بلحاظ عالم المبادئ كانت كلّ حصّة واجبة بنفسها ، وحينئذ يمتنع تعلّق النهي بها ولو باختلاف العنوان للتنافي بين الوجوب والحرمة ؛ إذ يستحيل تعلّقهما بعنوان واحد على نحو الاستقلال.

ص: 18

بينما إذا قيل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجوب الجامع فسوف لا تكون كلّ حصّة واجبة بعنوانها ، فحينئذ لا يمتنع تعلّق النهي بها بعنوانها ؛ لأنّ الوجوب لم يتعلّق بها بعنوانها الخاصّ ، بل بالجامع فيكون من موارد النهي عن الجامع والأمر بالحصّة ، وهو ممكن في نفسه.

وهذا البحث التحليلي للوجوب التخييري ينفع في مقام الاستنباط ؛ لأنّه يساعد في كيفيّة تطبيق مسألة الاجتماع على مواردها ومصاديقها. فتارة يجري الإطلاق لإثبات تحقّق المأمور به والإجزاء ، وأخرى يثبت الامتناع ويدخل المورد في بحث التعارض بين الدليلين.

ومن هنا يظهر أنّ البحث التحليلي عن القضايا الفعليّة يمكن أن يدخل في علم الأصول بواسطة أحد هذين الطريقين ، فهي إمّا أن تقع في إثبات إمكان أو استحالة بعض القضايا التركيبيّة والتي هي قواعد أصوليّة ، وإمّا أن تساعد في كيفيّة تطبيق بعض القواعد الأصوليّة على مواردها ، وينتج من ذلك إثبات الحكم أو نفيه وهو المطلوب من القاعدة الأصوليّة.

وسوف نلاحظ أن القضايا العقليّة متفاعلة فيما بينها ومترابطة في بحوثها ، فقد نتناول قضيّة تحليليّة بالتفسير والتحليل فتحصل من خلال الاتّجاهات المتعدّدة في تفسيرها قضايا عقليّة تركيبيّة ؛ إذ قد يدّعي بعض صيغة تشريعيّة معيّنة في تفسيرها فيدّعي الآخر استحالة تلك الصيغة ويبرهن على ذلك ، فتحصل بهذه الاستحالة قضيّة تركيبيّة.

أو قد تطرح قضيّة تحليليّة للتفسير فيضطرّنا تفسيرها إلى تناول قضايا تحليليّة أخرى تساعد على تفسير تلك القضيّة ، وفي مثل ذلك تدرس تلك القضايا الأخرى عادة ضمن إطار تلك القضيّة إذا كان دورها المطلوب مرتبطا بما لها من دخل في تحليل تلك القضيّة وتفسيرها.

الأمر السابع : في التفاعل بين القضايا العقليّة.

وفي ختام البحث عن القضايا العقليّة يذكر السيّد الشهيد أنّ هذه القضايا متفاعلة فيما بينها بمعنى أنّ البحث متداخل في كثير من الأحيان بين هذه القضايا ومترابط أيضا ارتباطا وثيقا في أغلب الموارد.

ص: 19

ويذكر لهذا التفاعل مثالين من التفاعل بين القضايا الفعليّة التحليليّة مع القضايا التركيبيّة ، ولا يتعرّض للتفاعل بين القضايا الفعليّة والقضايا الشرطيّة ، ولعلّه لعدم وجود مثل هذا التفاعل ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما مباين للأخرى ، فالقضايا الفعليّة غير متوقّفة على ضمّ شيء مسبقا إليها ، بل يدركها العقل بنحو الاستقلاليّة.

بينما القضايا الشرطيّة تحتاج إلى ضمّ مقدّمة شرعيّة أو مقدّمة غير شرعيّة إليها فلم يكن البحث فيها استقلاليّا ، ومن هنا لم يكن بينهما أدنى ترابط بين هذين القسمين.

وأمّا القضايا الفعليّة بنوعيها التحليليّة والتركيبيّة فيمكن أن يكون هناك ترابط فيما بينها في أكثر الأحيان والموارد.

فمثلا يكون البحث في قضيّة تحليليّة فيدخل فيه البحث عن بعض القضايا التركيبيّة ، ففي البحث التحليلي عن الوجوب التخييري قد يدّعي البعض أنّه وجوبات مشروطة ، فيشكل البعض الآخر بأنّ هذا مستحيل ويقيم البرهان على الاستحالة ، وهذا بحث تركيبي. أو يكون البحث عن إثبات كونه من الوجوبات المشروطة ، فيدخل فيه البحث التحليلي عن حقيقة الوجوب المشروط ، وأنّه كيف يمكن تصوّر الوجوب مع كونه مشروطا ببعض القيود؟ وهذا البحث التحليلي يدخل فيه البحث التركيبي عن إمكانيّة أو استحالة الوجوب المشروط.

وهكذا سوف نلاحظ التفاعل بين البحوث التحليليّة والبحوث التركيبيّة للقضايا العقليّة.

وسنتناول فيما يلي مجموعة من القضايا العقليّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، ثمّ نتكلّم بعد ذلك عن حجّيّة الدليل العقلي.

وبعد هذه الدراسة لأقسام القضايا العقليّة ، سوف نقسّم البحث إلى قسمين :

القسم الأوّل : في بحث بعض القضايا العقليّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، وهذا يحقّق الصغرى.

والقسم الآخر : في حجّيّة الدليل العقلي بعد الفراغ عن البحث الصغروي.

* * *

ص: 20

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

اشارة

ص: 21

ص: 22

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

شرطيّة القدرة ومحلّها :

في التكليف مراتب متعدّدة ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والجعل ، والإدانة.

فالملاك : هو المصلحة الداعية إلى الإيجاب.

والإرادة : هي الشوق الناشئ من إدراك تلك المصلحة.

والجعل : هو اعتبار الوجوب مثلا ، وهذا الاعتبار تارة يكون لمجرّد إبراز الملاك والإرادة ، وأخرى يكون بداعي البعث والتحريك ، كما هو ظاهر الدليل الذي يتكفّل بإثبات الجعل.

والإدانة : هي مرحلة المسئوليّة والتنجّز واستحقاق العقاب.

مقدّمة البحث : إنّ الحكم في مقام الثبوت يشتمل على المراتب التالية :

1 - الملاك : وهو المصلحة أو المفسدة التي يدركها الشارع في الأشياء بحيث تكون هي الداعي إلى جعل الإيجاب أو التحريم.

2 - الإرادة : وهي عبارة عن الشوق والحبّ أو البغض اللذين يتولّدان من المصلحة أو المفسدة في الفعل ، فبقدر تلك المصلحة أو المفسدة يتولّد شوق أو بغض مولوي وإرادة مولويّة تتناسب معها.

3 - الجعل : وهو عبارة عن صياغة الإرادة والشوق والبغض المولوي صياغة اعتباريّة وجعليّة للإيجاب أو التحريم ، إلا أنّ هذه الصياغة يمكن تصوّرها على نحوين : فتارة يصوغ المولى الإيجاب أو التحريم لمجرّد الكشف عن الإرادة والملاك في هذا الفعل من دون أن يكون هناك شيء آخر وراء هذه الصياغة.

وأخرى يصوغه بداعي البعث والتحريك أي من أجل تسجيل الإيجاب أو التحريم على ذمّة المكلّف وإدخال الفعل في عهدته ، فيصبح مسئولا عنه ومطالبا به.

ص: 23

والظاهر من الدليل الذي يدلّ على الحكم الشرعي كون هذا الحكم مبرّزا ومصاغا بداعي البعث والتحريك ؛ لأنّ الاعتبار هو عمليّة التشريع والتقنين ، وليس مجرّد صياغة اعتباريّة لا تحمل في طيّاتها أيّة مسئوليّة للمكلّف كما هو المتعارف بين الناس والعرف.

4 - الإدانة : وهي المرحلة الأخيرة وهي ترتبط بعالم الإثبات ؛ وذلك لأنّ التكليف إذا وصل إلى المكلّف صار فعليّا ومنجّزا عليه ومطالبا به ؛ لأنّه أصبح في عهدته وذمّته ، ويجب عليه عقلا أن يفرّغ ذمّته منه وذلك بأدائه وامتثاله ، فإذا عصى ولم يمتثل كان مدانا ومستحقّا للعقاب بحكم العقل لعدم امتثاله وإطاعته لأحكام من تجب إطاعته عقلا.

ولا شكّ في أنّ القدرة شرط في مرحلة الإدانة ؛ لأنّ الفعل إذا لم يكن مقدورا فلا يدخل في حقّ الطاعة للمولى عقلا ، كما أنّ مرتبتي الملاك والشوق غير آبيتين عن دخالة القدرة كشرط فيهما - بحيث لا ملاك في الفعل ولا شوق إلى صدوره من العاجز - وعن عدم دخالتها كذلك - بحيث يكون الفعل واجدا للمصلحة ومحطّا للشوق حتّى من العاجز - وقد تسمّى القدرة في الحالة الأولى بالقدرة الشرعيّة وفي الحالة الثانية بالقدرة العقليّة.

محلّ شرطيّة القدرة في التكليف : بعد أن ذكرنا المراتب الأربع للتكليف ، نعود لأصل البحث في هذه المسألة وهي أنّ القدرة التي هي شرط في التكليف في أيّة مرتبة من هذه المراتب الأربع تكون شرطا؟

والجواب : أمّا مرتبة الإدانة فلا شكّ في كون القدرة شرطا في هذه المرحلة ، فالعقل لا يحكم باستحقاق المكلّف للإدانة واستحقاق العقوبة على عدم الامتثال والإطاعة فيما إذا لم يكن قادرا على ذلك ، بل لا يحكم العقل بدخول الفعل في ذمّة وعهدة المكلّف حينئذ ، ولا يشمل حقّ الطاعة للمولى المكلّف العاجز تكوينا عن الامتثال ؛ لأنّ إدانة العاجز وغير القادر قبيح عقلا ؛ لأنّه مضطر إلى الفعل أو الترك فما يصدر منه لم يكن عن اختيار وإرادة ليطالب به ؛ لأنّ حقّ الطاعة لا يشمل موارد عدم الاختيار.

وهذا الاشتراط واضح ولا كلام فيه ، ولذلك فمن المستحيل أن يصدر من الشارع

ص: 24

إدانة وعقاب للمكلّف لمجرّد أنّه عصى أو خالف تكليف المولى مع عدم قدرته على امتثاله وإطاعته تكوينا.

وأمّا بلحاظ مرتبتي الملاك والإرادة فليس من الضروري أن تكونا مشروطتين بالقدرة ، بل يمكن إطلاقهما حتّى لموارد العجز ، فكما يمكن أن نتصوّر كون الملاك والإرادة مشروطين بالقدرة بحيث لا يكون هناك ملاك وإرادة على المكلّف العاجز ، فكذلك يمكن أن نتصور عدم كونهما مشروطين بالقدرة ، فيكون الملاك والإرادة ثابتين حتّى لموارد عجز المكلّف أيضا.

فإن قلنا بأنّ الملاك والإرادة مشروطان بالقدرة ، فالمصلحة والمفسدة أو الشوق المولوي لا تترتّبان على الفعل بما هو هو ، بل على الفعل المقدور فقط ، ممّا يعني أنّ اتّصاف الفعل بالمصلحة أو المفسدة مقيّد ومشروط بالقدرة عليه ، فما دام غير مقدور عليه فلا يمكن اتّصافه بذلك.

وأمّا إن قلنا بأنّ الملاك والإرادة غير مشروطين بالقدرة فالمصلحة والمفسدة أو الشوق المولوي موجودان حتّى في موارد العجز ، فالفعل يتّصف بالمصلحة والشوق وإن كان المكلّف عاجزا عنه تكوينا.

والوجه في أنّ الملاك والإرادة لا يأبيان التقييد بالقدرة وعدمه هو أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور التكوينيّة التي يتّصف بها الفعل ، وهما موجودان سواء كان المكلّف قادرا على استيفائهما أم كان عاجزا عن ذلك ، والإرادة ليست إلا الشوق المولوي الحاصل من ذلك الملاك فيمكن تقييده بالقدرة وإطلاقه ؛ لأنّه يمكن أن يتعلّق بالمستحيل بالذات كاجتماع الضدّين أو النقيضين ؛ إذ لا مانع من حبّ ذلك أو بغضه ، كما يمكن تعلّقهما بالممتنع بالعرض كسائر الموارد التي لا يتمكّن الإنسان من القيام بها لعجزه ومحدوديّته.

وحينئذ فإن كانت القدرة شرطا في الملاك والإرادة أطلق عليها عنوان القدرة الشرعيّة ، وإن لم تكن شرطا فيهما أطلق عليها عنوان القدرة العقليّة.

وإنّما عبّر السيّد الشهيد عن هذه التسمية بقوله : ( وقد تسمّى ... ) من أجل أنّ هذين التعبيرين كما سوف يأتي لا حقا يطلقان على ما إذا كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل فتسمّى بالقدرة الشرعيّة ، وبين ما إذا لم تكن مأخوذة فيه فتسمّى بالقدرة

ص: 25

العقليّة ، ووجه التسمية هناك واضح ؛ لأنّ أخذ القدرة في لسان الدليل يتناسب مع إطلاق القدرة الشرعيّة عليها ، وعدم أخذها في الدليل يعني أنّ العقل هو الذي يحكم باشتراط القدرة فقط ، وحينئذ لا بدّ من ملاحظة المرتبة التي يقيّدها العقل بالقدرة.

وأمّا وجه التسمية هنا فلأنّ القدرة إن كانت شرطا في الملاك والإرادة فهذا معناه أنّ الشارع هو الذي اشترطها فيهما ؛ لأنّ الملاك والإرادة بنفسهما غير آبيين عن اشتراطهما أو عدم اشتراطهما ، فتكون القدرة شرعيّة ؛ لأنّ الشارع هو الذي لاحظها في الملاك والإرادة. وإن لم تكن القدرة شرطا فيهما كانت القدرة عقليّة ، بمعنى أنّ القدرة شرط بحكم العقل ، وحينئذ لا بدّ من مراجعة حكم العقل لنرى أي مرتبة من مراتب التكليف يشترط القدرة فيها.

وأمّا في مرتبة الحكم فإذا لوحظت هذه المرتبة بصورة مجرّدة لم نجد مانعا عقليّا عن شمولها للعاجز ؛ لأنّها اعتبار للوجوب والاعتبار سهل المئونة ، وقد يوجّه إلى المكلّف على الإطلاق لإبراز أنّ المبادئ ثابتة في حقّ الجميع. ولكن قد نفترض جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي ، ومن الواضح هنا أنّ التحريك المولوي إنّما هو بسبب الإدانة وحكم العقل بالمسئوليّة ، ومع العجز لا إدانة ولا مسئوليّة كما تقدّم ، فيستحيل التحريك المولوي ، وبهذا يمتنع جعل الحكم بداعي التحريك المولوي.

وحيث إنّ مفاد الدليل عرفا هو جعل الحكم بهذا الداعي فيختصّ لا محالة بالقادر ، وتكون القدرة شرطا في الحكم المجعول بهذا الداعي.

وأمّا بلحاظ مرتبة جعل الحكم ، فقد تقدّم أنّ هذه المرتبة يمكن تصوّرها بنحوين : فتارة يكون جعل الحكم والاعتبار لمجرّد إبراز الملاك والإرادة والكشف عنهما ، فيكون الاعتبار مجرّد صياغة تعبيريّة وإنشاء محضا ، وأخرى يكون جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي للمكلّف وتسجيل الفعل على ذمّته وإدخاله في عهدته ، فيكون الاعتبار وجعل الحكم من باب التقنين والتشريع لا مجرّد صياغة إنشائيّة فقط.

فإن كان جعل الحكم بالنحو الأوّل فلا مانع حينئذ من عدم اشتراط التكليف بالقدرة في هذه المرتبة ؛ لأنّ مجرّد الاعتبار والإنشاء والصياغة من غير أن يكون وراء ذلك شيء آخر ، لا يمتنع بحكم العقل أن يكون مطلقا وغير مشروط بالقدرة ؛ لأنّه ما

ص: 26

دام التحريك منتفيا فبالتالي لا اشتغال للذمّة ولا مسئوليّة ولا عقوبة ولا إدانة على شيء.

وليس ذلك إلا مجرّد اعتبار وإنشاءات لفظيّة فقط وهي سهلة المئونة ؛ لأنّ الاعتبار بمجرّده من دون أن يكون وراءه شيء ومن دون أن يكون معبّرا عن شيء حقيقي لا يعدو عن كونه مجرّد لفظ فقط.

فإن قيل : ما هي الفائدة والنكتة من إبراز الخطاب مطلقا حتّى يشمل موارد العجز ، مع أنّه في موارد العجز لن يكون لهذا الخطاب مؤثّريّة أصلا؟

كان الجواب : أنّ الفائدة من ذلك هي إظهار الملاكات والإرادة والشوق المولوي بهذا الخطاب المطلق ، وأنّها مطلقة وشاملة حتّى للعاجز بمعنى ثبوت الملاك والإرادة في موارد العجز ، ممّا يعني أنّ القدرة لم تؤخذ شرطا فيهما.

وقد تقدّم آنفا أنّ الملاك والإرادة لا يمتنع تعلّقهما بغير المقدور ذاتا أو الممتنع بالغير ، فمن أجل إبراز هذا الأمر والكشف عنه كان الخطاب والاعتبار الإنشائي مطلقا وغير مقيّد بالقدرة أيضا.

وأمّا إن كان جعل الحكم بالنحو الثاني أي بداعي البعث والتحريك ، فمن الواضح أنّ القدرة شرط فيه ؛ وذلك لأنّ البعث والتحريك للمكلّف يقتضيان إدخال الفعل في عهدته وصيرورته مسئولا عنه ومطالبا به ، ويستحقّ العقوبة على مخالفته ، وبالتالي يصبح مدانا عقلا.

وقد تقدّم أنّ القدرة شرط في التكليف في مرحلة الإدانة إذ يمتنع عقلا إدانة العاجز ؛ لأنّه غير مختار ، وما دامت المحركيّة مجعولة من أجل الإدانة أو هي مقدّمة للإدانة وسبب لها فهي مشروطة بالقدرة أيضا.

وبتعبير آخر : إنّ الداعي والهدف إن كان هو تحريك المكلّف ، فمن الواضح أنّ العاجز لا يمكنه تحريكه ولا يمكن تحرّكه عن الخطاب المولوي والجعل الشرعي ، فكان الجعل بهذا الداعي مقيّدا بحكم العقل بالقدرة.

وأمّا الصحيح : فقد تقدّم في محلّه إنّ جعل الحكم إنّما هو بداعي البعث والتحريك وليس مجرّد صياغة إنشائيّة اعتباريّة محضة ؛ وذلك لأنّ العرف يفهم من الجعل الشرعي هذا المعنى ؛ لأنّه هو المتداول في المحاورات العرفيّة بين الآمرين والمأمورين

ص: 27

العرفيّة ، وما دام جعل الحكم بداعي البعث والتحريك إذا فهو مشروط بالقدرة عقلا.

وبهذا ظهر أنّ القدرة إنّما تكون شرطا فيما يلي :

1 - في مرحلة الإدانة والعقوبة فلا إدانة ولا عقوبة على العاجز.

2 - في مرحلة جعل الحكم بداعي البعث والتحريك ، فلا محركيّة ولا بعث بحقّ العاجز.

وأمّا في مرحلتي الملاك والإرادة فقد تكون دخيلة وشرطا ، وقد لا تكون شرطا فيهما.

وأمّا في مرحلة جعل الحكم كاعتبار محض فهي ليست شرطا فيمكن جعل الاعتبار مطلقا.

والقدرة إنّما تتحقّق في مورد يكون الفعل فيه تحت اختيار المكلّف فإذا كان خارجا عن اختياره فلا يمكن التكليف به لا إيجابا ولا تحريما ، سواء كان ضروري الوقوع تكوينا أو ضروري الترك كذلك ، أو كان ممّا قد يقع وقد لا يقع ، ولكن بدون دخالة لاختيار المكلّف في ذلك كنبع الماء في جوف الأرض ، فإنّه في كلّ ذلك لا تكون القدرة محقّقة.

معنى القدرة هنا : المراد من القدرة المبحوث عنها هو كون الفعل واقعا تحت اختيار المكلّف ، بحيث يمكن للمكلّف فعله أو تركه ، فالمكلّف القادر هو الذي يمكنه أن يفعل كما يمكنه أن يترك ، بحيث ينتسب الفعل أو الترك إلى اختياره.

فإذا لم يكن المكلّف مختارا في الفعل أو الترك لم يكن قادرا ، فتنتفي القدرة فيما إذا سلب الاختيار عن المكلّف في الفعل أو الترك ، ومع انتفاء القدرة لا تكليف لا إيجابا ولا تحريما.

فإذا كان الفعل ضروري الوقوع من المكلّف لم يكن مختارا ؛ لأنّه ليس قادرا على الترك فلا تكليف عليه كما في دقّات القلب مثلا ، فإنّها ضروريّة الوقوع منه.

وإذا كان الفعل ضروري الترك منه لم يكن مختارا ؛ لأنّه ليس بقادر على الفعل فلا تكليف عليه أيضا ، كما في الخروج من الأرض مثلا من دون وسيلة لذلك.

وهكذا الحال فيما لو كان الفعل ممّا يقع ولا يقع من المكلّف ولكن من دون اختيار منه ، أي أنّ الفعل في نفسه ممكن إلا أنّه ليس داخلا تحت إرادته مطلقا ، بل في بعض

ص: 28

الحالات فقط ، فهنا أيضا لا يكون مختارا فيه فلا يكلّف به لعدم قدرته عليه ؛ لأنّه هنا غير مختار في أصل الفعل وإن كان مختارا في حالاته فقط ؛ كنبع الماء في جوف الأرض ، فإنّه قد يقع من المكلّف وقد لا يقع منه ، ولكن في حالة وقوعه منه كما إذا حفر بئرا فخرج نبع الماء لا يكون استناد الخروج إليه ؛ لأنّ خروجه مستند إلى أسبابه وعلله التكوينيّة ، والحفر إنّما هو مقدّمة أو وسيلة للكشف عن هذا النبع.

أو كالنوم مثلا فإنّ أصل النوم ليس داخلا في اختيار المكلّف ، بل هو مضطر للنوم. نعم ، حالات النوم وأوقاته باختياره ، كالليل أو النهار أو الصباح أو الظهر أو الكثرة أو القلّة منه.

وبهذا يتّضح أنّ القدرة المأخوذة شرطا في التكليف بداعي البعث والتحريك أو في الإدانة واستحقاق العقوبة إنّما هي القدرة ، بمعنى تساوي الفعل والترك للمكلّف وقدرته عليهما ، بحيث يستند كلّ منهما إلى فعله واختياره وإرادته ، وفي غير ذلك يكون مسلوب القدرة والاختيار فلا تكليف عليه ولا عقوبة.

وثمرة دخل القدرة في الإدانة واضحة ، وأمّا ثمرة دخلها في جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل فتظهر بلحاظ وجوب القضاء ، وذلك في حالتين :

ثمرة البحث : تقدّم أنّ القدرة شرط في التكليف في مرحلة الإدانة ، وهذا معناه أنّ العاجز وغير القادر لا يكون مدانا شرعا على عدم امتثاله أو عصيانه ؛ وذلك لأنّه خارج عن اختياره وقدرته ، والتكليف لا يكون إلا بما هو داخل ضمن اختيار المكلّف.

وأمّا إذا لم تكن شرطا في الإدانة فيكون العاجز الذي لم يمتثل التكليف مدانا ، وهذا يستحيل ثبوته من الشارع كما هو واضح.

وهكذا بالنسبة لدخالتها أو عدم دخالتها في الحكم بلحاظ مرتبتي الملاك والإرادة ، فأيضا تقدّم أنّ القدرة إن كانت دخيلة في الملاك والإرادة فهذا يعني أنّ العاجز وغير القادر لا ملاك في الفعل الذي يصدر منه ولو اتّفاقا ، ولا يكون هو المراد للشارع أيضا ، وأمّا إذا لم تكن دخيلة فيهما فالعاجز إذا صدر منه الفعل ولو اتّفاقا كان واجدا للملاك وكان مرادا للشارع.

ويترتّب على دخالة القدرة أو عدم دخالتها هنا الإجزاء وعدمه بالنسبة للعاجز الذي صدر منه الفعل ولو اتّفاقا ، فإنّه بناء على دخالتها فيهما لا يكون هناك إجزاء ،

ص: 29

بل تجب عليه الإعادة أو القضاء. وبناء على عدم دخالتها يكون الإجزاء متحقّقا ويقال بالامتثال للمأمور به أو المنهي عنه.

وأمّا بالنسبة لاشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرتبة جعل الحكم ، حيث تقدّم إنّ المراد من جعل الحكم هو الداعي للبعث والتحريك ، فتكون القدرة شرطا فيه.

فثمرة اشتراط القدرة قد تبدو غير واضحة هنا ؛ إذ قد يشكل على ذلك فيقال : إنّ القدرة ما دامت شرطا في الإدانة بحيث لا يمكن إدانة العاجز ولا يكون العاجز مستحقّا للعقاب ، فسواء قلنا باشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرتبة جعل الحكم أم لم نقل باشتراطها فيه ، فالعاجز لن يكون مدانا على كلّ حال ؛ لأنّه سواء كان مخاطبا بالتكليف أم لم يكن مخاطبا به ، فعجزه عنه معذّر له عن الامتثال والإطاعة.

ولكن يجاب : أنّ لاشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرحلة جعل الحكم ثمرة تظهر بلحاظ وجوب القضاء فيما إذا كان للفعل المأمور به قضاء ، فإنّه حينئذ يمكن أن يبحث من هذه الجهة في وجوب القضاء على العاجز عن التكليف في وقته ، ولكن بعد انقضاء الوقت إذا ارتفع عجزه فهل يثبت عليه القضاء أم لا؟

والنكتة في انفتاح هذا البحث هي أنّ الملاك هل هو نحو ملاك يختصّ بحالات القدرة فقط ، أو أنّه ملاك يشمل حتّى حالات العجز أيضا ، فإنّه سوف يؤدّي إلى التساؤل بحقّ العاجز في كون الملاك شاملا له أم لا؟

ومن هنا سوف تظهر لنا الثمرة في حالتين ، هما :

الأولى : أن يعجز المكلّف عن أداء الواجب في وقته ، ونفترض أنّ وجوب القضاء يدور إثباتا ونفيا مدار كون هذا العجز مفوّتا للملاك على المكلّف وعدم كونه كذلك ، فإنّه إذا لم نقل باشتراط القدرة في مرتبة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل أمكن التمسّك بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب على العاجز - وإن لم تكن هناك إدانة - ونثبت حينئذ بالدلالة الالتزاميّة شمول الملاك ومبادئ الحكم له.

وبهذا نعرف أنّ العاجز قد فوّت العجز عليه الملاك فيجب عليه القضاء ، وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط فإنّ الدليل حينئذ يسقط إطلاقه عن الصلاحيّة لإثبات الوجوب على العاجز ، وتبعا لذلك تسقط دلالته الالتزاميّة على المبادئ فلا يبقى كاشف عن الفوت المستتبع لوجوب القضاء.

ص: 30

الثمرة الأولى : إذا فرض أنّ المكلّف قد عجز عن الإتيان بالواجب المأمور به في وقته ، كما إذا عجز عن أداء صلاة الصبح في وقتها ، أو عجز عن صوم يوم من أيّام شهر رمضان ، فهنا هل يجب عليه قضاء هذا اليوم أو هذه الصلاة أم لا؟

والجواب : أنّنا إذا بنينا فقهيّا على أنّ وجوب القضاء للفعل المأمور به إذا لم يؤت به في وقته كان منوطا إثباتا ونفيا بمسألة الملاك ، فإنّه تارة يكون العجز عن الفعل في وقته مفوّتا لتمام الملاك ، وأخرى لا يكون كذلك وإنّما كان هناك شيء من الملاك يبقى حتّى مع عجز المكلّف عن الفعل في وقته ، وهذا الملاك الباقي يمكن استيفاؤه بعد الوقت ، فإن كان مفوّتا لتمام الملاك فلا يبقى شيء من الغرض لا في وقته ولا في خارجه فلا يجب القضاء ، وإن كان هناك ملاك يمكن استيفاؤه فهنا تظهر الثمرة ؛ وذلك لأنّنا إذا لم نقل باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل الشرعي ، فإنّ مثل : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أو ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) تدلّ على البعث والتحريك وجعل الحكم لعنوان المكلّف ، سواء كان قادرا أم عاجزا.

وهذا يعني أنّنا يمكننا أن نتمسّك بإطلاق مثل هذا الخطاب لإثبات الوجوب على العاجز أيضا ، وإذا كان الوجوب ثابتا على العاجز والذي هو المدلول المطابقي للخطاب نثبت بالدلالة الالتزاميّة ثبوت الملاك بحقّه ؛ لأنّ الوجوب وراءه الملاك والمبادئ في كلّ مورد يثبت فيه.

وهذا معناه أنّ العاجز قد فوّت العجز عليه الملاك ، والحال أنّه يمكنه استيفاؤه بعد الوقت فيجب عليه القضاء ؛ لأنّ الواجب المأمور به لا يسقط إلا إذا امتثل المكلّف الفعل المأمور به ، أو حقّق ملاكه والغرض منه ، فإنّه يحقّق الامتثال أيضا.

وأمّا إذا كانت القدرة شرطا في التكليف في مرحلة جعل الحكم ، فالخطاب المذكور مقيّد عقلا بالقدرة ، ممّا يعني أنّه لا يشمل العاجز ، فالعاجز لا خطاب بحقّه ، بمعنى أنّ الشارع لا يخاطبه بوجوب الصلاة أو الصوم حال عجزه ، وإذا لم يكن مشمولا للخطاب الشرعي وكان المدلول المطابقي - أي الوجوب - ساقطا ، فلا يبقى دليل على وجوب القضاء بحقّه ؛ لأنّ المفروض عدم وجود الدليل الخاصّ على ذلك ، والدليل الاجتهادي المذكور ساقط عنه ، ومع سقوط الوجوب والمدلول المطابقي

ص: 31

يسقط المدلول الالتزامي والملاك والمبادئ بمعنى عدم وجود ما يكشف عن ثبوتها حال العجز ، وبالتالي لا يوجد ما يدلّ على ثبوت القضاء بحقّه.

وبتعبير آخر : إنّ الوجوب ساقط عنه فلا يجب عليه الأداء ، والملاك لا دليل على ثبوته فلا يجب عليه القضاء.

وبهذا ظهر أنّ لاشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم فائدة وثمرة غير مسألة الإدانة ، فإنّ العاجز لا يدان على كلّ حال.

الثانية : أن يكون الفعل خارجا عن اختيار المكلّف ، ولكنّه صدر منه بدون اختيار على سبيل الصدفة ، ففي هذه الحالة إذا قيل بعدم الاشتراط تمسّكنا بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب بمبادئه على هذا المكلّف ، ويعتبر ما صدر منه صدفة حينئذ مصداقا للواجب فلا معنى لوجوب القضاء عليه لحصول الاستيفاء.

وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط ، فإنّ ما أتى به لا يتعيّن بالدليل أنّه مسقط لوجوب القضاء وناف له ، بل لا بد من طلب حاله من قاعدة أخرى من دليل أو أصل.

الثمرة الثانية : وتظهر فيما إذا فرض أنّ المكلّف قد عجز عن الإتيان بالفعل المأمور به ، ولكن ومن دون اختيار منه صدر الفعل منه على سبيل الصدفة ، فهل مثل هذا الفعل يكون مجزيا عن المأمور به ومسقطا للتكليف أم لا؟

والجواب : أنّ التكليف لا إشكال في سقوطه فيما إذا امتثل المكلّف المأمور به ، فإنّه يستوفي بذلك تمام الملاك والغرض المطلوب ، كما أنّ التكليف يسقط بعصيانه عن الفاعليّة وإن بقيت الفعليّة فيجب عليه القضاء بعد ذلك كما سيأتي في بحث التعجيز ، وهكذا إذا كان للتكليف المأمور به بدل فإنّه يسقط بامتثاله بدله.

وهناك قسم آخر من الامتثال وهو فيما إذا حقّق المكلّف الملاك والغرض وإن لم يكن مخاطبا بالوجوب ، فإنّ الذمّة كما تشتغل بالفعل إذا خوطب بالوجوب ونحوه ، كذلك إذا خوطب بالملاك أو كان الملاك شاملا للمكلّف في مورد ، فإنّه يكفي لاشتغال الذمّة ويكفي أيضا لسقوط التكليف أن يؤتى بالملاك ، وهنا تظهر هذه الثمرة.

فإنّنا إذا لم نقل باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة الجعل ، فهذا معناه أنّ العاجز مشمول للخطاب بالوجوب ، غاية الأمر كونه معذورا وغير مدان بسبب

ص: 32

عجزه ، ولمّا كان مشمولا للوجوب فالملاك ثابت بحقّه ، فإذا صدر منه الفعل فقد حقّق الملاك واستوفاه ، فيسقط التكليف عن عهدته ، فلا يجب عليه القضاء ؛ لكونه قد حقّق المطلوب منه وهو الملاك ، وإن صدر منه الفعل صدفة ، فإنّ الملاك أمر تكويني يتحقّق بإيجاده سواء كان عن قصد أم صدفة ، ومع تحقّق الملاك فقد ثبت الامتثال فيسقط التكليف ، فلا يكون قد فاته شيء ليبحث عن وجوب قضائه وعدمه ؛ لأنّه يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا إذا قلنا باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم ، فالعاجز غير مكلّف وليس مخاطبا بالوجوب ، بمعنى أنّ المدلول المطابقي ساقط عنه ، ومع سقوطه يسقط المدلول الالتزامي ، فلا ملاك بحقّه أيضا.

وعليه ، فإذا صدر منه الفعل على سبيل الصدفة فهو فعل لم يكن مخاطبا به ، ولا واجبا عليه ؛ لكونه عاجزا ، وهو أيضا غير محصّل للملاك ؛ لأنّ الملاك يرتفع بحقّ العاجز فلا ملاك في حالات العجز ، فيكون المكلّف قد صدر منه فعل ليس بواجب عليه ، وليس وافيا بالملاك. وحينئذ ينفتح البحث عن وجوب القضاء عليه ؛ لأنّه لم يأت بالمأمور به ولا بملاكه في وقته ، أو بتعبير آخر لا دليل على كون ما صدر منه صدفة مسقطا للتكليف ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟

وهذا يجاب عنه في بحث الإجزاء ، وأنّه هل تجري البراءة لكون الشكّ في وجوب القضاء شكّا في التكليف الزائد ، أو تجري أصالة الاشتغال والاحتياط ؛ لأنّه كان مشتغل الذمّة ويشكّ في خروجه عن عهدة التكليف بسبب عجزه عن الفعل في وقته؟

والفارق بين الثمرتين هو أنّ الثمرة الأولى يشكّ في وجوب القضاء عليه وعدم وجوبه ، لأنّه لم يأت بالمأمور به في وقته ويشكّ في دخالة القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم وعدمه.

بينما الثمرة الثانية يشكّ في الإجزاء وعدمه ، بمعنى أنّ ما صدر منه صدفة حال عجزه هل يكون مجزيا فلا يجب القضاء ، أو لا يكون مجزيا فيبحث عن وجوب القضاء وعدمه؟

* * *

ص: 33

ص: 34

حالات ارتفاع القدرة

ص: 35

ص: 36

حالات ارتفاع القدرة

ثمّ إنّ القدرة التي هي شرط في الإدانة ، وفي التكليف قد تكون موجودة حين توجّه التكليف ، ثمّ تزول بعد ذلك وزوالها يرجع إلى أحد أسباب :

الأوّل : العصيان ، فإنّ الإنسان قد يعصي ويؤخّر الصلاة حتّى لا يبقى من الوقت ما يتاح له أن يصلّي فيه.

الثاني : التعجيز ، وذلك بأن يعجّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ، بأن يكلّفه المولى بالوضوء والماء موجود أمامه فيريقه ويصبح عاجزا.

الثالث : العجز الطارئ لسبب خارج عن اختيار المكلّف.

تقدّم سابقا أنّ القدرة شرط في مرحلتي الإدانة وجعل الحكم والتكليف ، فالخطاب المولوي لا يشمل العاجز من أوّل الأمر ، وإنّما يختصّ بمن كان قادرا ، ولكن المكلّف الذي يكون قادرا حدوثا أثناء توجّه الخطاب إليه أو حين علمه بالخطاب أو حين إرادته امتثال الأمر في وقته ، قد تزول قدرته عنه قبل امتثاله ، وسبب زوال القدرة عن الفعل بقاء له أسباب ثلاثة :

الأوّل : العصيان ، فالمكلّف القادر على الصلاة أو الصوم إذا جاء وقتهما فلم يمتثل ، حتّى انتهى الوقت المحدّد لهما يصبح عاجزا وغير قادر على امتثال الصلاة أو الصوم في الوقت ، إلا أنّ سبب عجزه وزوال قدرته بقاء كان هو العصيان والتمرّد على الأمر المولوي.

الثاني : التعجيز ، وذلك بأن يكون المكلّف قادرا على الفعل في وقته ، ولكنّه يوقع نفسه بالعجز ، وذلك بأن لا يأتي بالمقدّمات المطلوبة منه أو يأتي بعمل يصبح معه عاجزا عن الفعل المطلوب ، فهو وإن لم يعص المأمور به اختيارا ومباشرة ، ولكنّه جاء بشيء يلزم منه أن يصبح عاجزا على الفعل ، فهذا هو التعجيز ، كما إذا كان لديه ماء

ص: 37

فحضر وقت الصلاة ولكنّه أراق الماء بدلا من أن يتوضّأ به ، فهنا صار عاجزا عن الوضوء بسبب إراقته الماء لا بسبب عصيانه وتمرّده وعدم امتثاله لأمر الوضوء مع وجود الماء.

وهذا التعجيز تارة يكون بسوء الاختيار ، وأخرى لا يكون بسوء الاختيار ، والفعل الذي صار عاجزا عنه تارة يكون له بدل ، وأخرى لا يكون له بدل ، وسوف يأتي تفصيل ذلك لا حقا.

الثالث : أن يكون المكلّف قادرا على الفعل ولكن حينما يأتي وقت الامتثال يعرض عليه أمر يسلب عنه القدرة لا باختيار منه أو باختياره ، كما إذا كان لديه ماء فجاءت الريح فأراقته ، أو كان لديه ماء وجاء شخص مشرف على الموت من العطش فأعطاه إياه ، فهنا طرأ عليه العجز من دون أن يعصي اختيارا ومن دون أن يوقع نفسه بالمعصية.

وواضح أنّ الإدانة ثابتة في حالات السببين الأوّل والثاني ؛ لأنّ القدرة على الامتثال كافية لإدخال التكليف في دائرة حقّ الطاعة ، وأمّا في الحالة الثالثة فالمكلّف إذا فوجئ بالسبب المعجّز فلا إدانة ، وإذا كان عالما بأنّه سيطرأ وتماهل في الامتثال حتّى طرأ فهو مدان أيضا.

وعلى ضوء ما تقدّم يقال عادة : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ) ، أي أنّه لا ينفي القدرة بالقدر المعتبر شرطا في الإدانة والعقاب. ويراد بالاضطرار بسوء الاختيار ما نشأ عن العصيان أو التعجيز.

هل تسقط الإدانة في الحالات الثلاث أم لا؟

أمّا في الحالة الأولى : فإذا عصى المكلّف الأمر ولم يمتثل المأمور به حتّى فات الوقت ، فلا إشكال في ثبوت العقاب وكون المكلّف مدانا ؛ لأنّ زوال القدرة بقاء كان بسبب العصيان والتمرّد ، فزوال القدرة كان باختيار المكلّف تماما ، ومع الاختيار في عدم الامتثال يستحقّ المكلّف الإدانة بحكم العقل ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال لأوامر المولى الذي له حقّ الطاعة.

وهكذا في الحالة الثانية ، فإنّ المكلّف لمّا كان قادرا على الفعل ولكنّه أوقع نفسه بالعجز اختيارا فصار مسلوب القدرة في الوقت عن الإتيان بالفعل ، فهو أيضا يستحقّ

ص: 38

الإدانة والعقاب ؛ وذلك لأنّه لمّا كان قادرا على الفعل فالعقل يحكم عليه بوجوب الإطاعة والامتثال ، فلمّا عجّز نفسه باختياره كان هذا عصيانا أيضا وخروجا عن رسم العبوديّة والطاعة.

ولا فرق في هاتين الحالتين من جهة تحقّق المعصية بالاختيار وعدم امتثال المأمور به بالاختيار ، وإن كانت القدرة في الحالة الأولى مسلوبة بالاختيار إلى انتهاء الوقت ، بينما في الحالة الثانية كانت بعد التعجيز مسلوبة لا بالاختيار. نعم ، هو الذي عجّز نفسه ، فلذلك يشتركان في كون القدرة زالت بالاختيار.

وأمّا في الحالة الثالثة أي حالة طروء العجز فهنا صورتان :

الأولى : أن يطرأ العجز من دون علم المكلّف به مسبقا ، وإنّما يفاجأ به اتّفاقا ، كما إذا كان لديه ماء للوضوء فجاءت الريح وأراقته ، فهنا لا يكون مدانا ولا مستحقّا للعقاب ؛ لأنّ سلب القدرة منه لم يكن باختياره ، وإنّما كان رغم إرادته والعقاب يدور مدار القدرة والاختيار.

الثانية : أن يطرأ العجز في الأثناء ولكنّه مسبوق بعلم المكلّف به ، كما إذا علم بأن الماء سوف ينقطع في أثناء الوقت فتجاهل ولم يحصّل الطهارة أو لم يوفّر الماء لذلك.

وبتعبير آخر : أخلّ بالمقدّمات فصار عاجزا ، فهنا يكون مدانا ومستحقّا للعقاب أيضا ؛ لأنّه باختيار صار عاجزا في الوقت.

وعلى هذا يقال : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ) ، بمعنى أنّ المكلّف إذا صار مضطرّا وعاجزا بسبب سوء اختياره فإنّه يبقى مستحقّا للعقاب ، ولا منافاة بين هذا الاضطرار وبين استحقاقه للعقاب ؛ لأنّ الاختيار موجود في البين.

وأمّا التكليف فقد يقال : إنّه يسقط بطروّ العجز مطلقا ، سواء كان هذا العجز منافيا للعقاب والإدانة أم لا ؛ لأنّه على أيّة حال تكليف بغير المقدور وهو مستحيل. ومن هنا يكون العجز الناشئ من العصيان أو التعجيز مسقطا للتكليف وإن كان لا يسقط العقاب. وعلى هذا الأساس يردف ما تقدّم من أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا بقولهم : ( إنّه ينافيه خطابا ) ، ومقصودهم بذلك سقوط التكليف.

هل يسقط التكليف في الحالات الثلاث المتقدّمة أم لا؟

ص: 39

المشهور أنّ التكليف والخطاب الشرعي يسقط في جميع حالات ارتفاع القدرة ، أي سواء كان ارتفاع القدرة منافيا للعقاب أم كان مصحّحا له ، ففي حالات العصيان أو التعجيز أو طروء العجز مع العلم به أو مع عدم العلم به سوف لا يكون العاجز مكلّفا ، ولا يتوجّه إليه الخطاب المولوي ؛ وذلك لأنّنا قلنا سابقا : إنّ القدرة شرط في التكليف بمعنى الباعثيّة والمحركيّة ، فحيث لا محركيّة ولا باعثيّة لا خطاب ، وفي مقامنا تمتنع المحركيّة والباعثيّة من المكلّف العاجز فيسقط التكليف بحقّه ، نعم لا يسقط العقاب والإدانة كما تقدّم ؛ لأنّ القدرة المصحّحة للعقاب هي القدرة ابتداء وإن زالت بقاء بسوء الاختيار.

وبتعبير آخر : إنّ الإنسان الذي أصبح عاجزا بالفعل - سواء كان عجزه عن اختيار منه أم لا - لا يصحّ توجيه الخطاب إليه ؛ لأنّه لا يصحّ تحرّكه وانبعاثه نحو الفعل حال العجز وارتفاع القدرة.

ومن هنا أضافوا إلى ما تقدّم أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولكنّه ينافيه خطابا.

بمعنى أنّ الاضطرار مهما كان سببه ومنشؤه فهو ينافي الخطاب والتكليف بسبب ارتفاع القدرة التي هي شرط في التكليف ، وشرطيّتها للتكليف ليست كشرطيّة القدرة في الإدانة تكفي حدوثا وإن زالت بقاء ، بل هي شرطيّة لا بدّ من تحقّقها ووجودها حال توجّه الخطاب.

والصحيح : أنّهم إن قصدوا بسقوط التكليف سقوط فاعليّته ومحركيّته فهذا واضح ؛ إذ لا يعقل محركيّته مع العجز الفعلي ، ولو كان هذا العجز ناشئا من العصيان.

وإن قصدوا سقوط فعليّته فيرد عليهم : أنّ الوجوب المجعول إنّما يرتفع إذا كان مشروطا بالقدرة ما دام ثابتا ، فحيث لا قدرة بقاء لا وجوب كذلك ، وأمّا إذا كان مشروطا بالقدرة بالقدر الذي يحقّق الإدانة والمسئوليّة فهذا حاصل بنفس حدوث القدرة في أوّل الأمر ، فلا يكون الوجوب في بقائه منوطا ببقائها.

والصحيح : أنّ ما ذكره المشهور من أنّ ارتفاع القدرة مطلقا ينافي التكليف غير

ص: 40

مقبول ؛ وذلك لأنّه إن أريد من سقوط التكليف سقوطه عن الفاعليّة والمحركيّة ، بمعنى أنّ العاجز مهما كان منشأ عجزه وسببه فهو لن يتحرّك نحو الفعل فلا محركيّة للخطاب نحو متعلّقه ، فهذا المعنى صحيح ونحن نقبله أيضا ، ولكنّه لا يعني سقوط الخطاب عن الفعليّة.

بمعنى أنّ الخطاب لا يزال موجودا وفعليّا بحيث لو ارتفع عجزه لصار محرّكا وباعثا له نحو الفعل ، ولا يحتاج معه إلى خطاب آخر ، بل لو فرض سقوط الخطاب رأسا لم يحكم العقل بالإدانة والعقل ؛ لأنّ حكمه بها كان لأجل خروج المكلّف عن حقّ الطاعة ، فحيث لا تكليف لا حقّ طاعة فلا عقاب.

وأمّا إن أريد من سقوط الخطاب سقوطه عن الفعليّة رأسا ، فمع العجز يسقط الخطاب بحقّ العاجز فلا يكون مكلّفا بشيء من حين عجزه ، فهذا غير مقبول ؛ وذلك لأنّ القدرة التي هي شرط في التكليف والحكم كما تقدّم ، إن قيل بأنّها شرط في التكليف ما دام التكليف ثابتا فيكون سقوط التكليف رأسا حين ارتفاع القدرة ولو في الأثناء صحيحا.

إلا أنّ شرطيّة القدرة في التكليف ليست بهذا المعنى ، وإنّما هي بمعنى آخر وهو أنّ القدرة شرط في التكليف بالمقدار الذي يكون مصحّحا للعقاب والإدانة ، فإنّه لا تصحّ الإدانة إذا لم يكن هناك تكليف ، والإدانة مشروطة بالقدرة ، إذا فالتكليف مشروط بالقدرة أيضا ، ولكن بمقدار شرطيّتها في الإدانة لا أكثر.

فالعقل يحكم باستحقاق من كان قادرا على الامتثال فلم يمتثل للعقاب والإدانة ، لأنّه كان قادرا ولأنّه كان مكلّفا وكان قادرا حين توجّه الخطاب إليه ، فإذا عجّز نفسه أو صار عاجزا بسوء الاختيار بقيت الإدانة ثابتة ، ومعها يكون التكليف باقيا ؛ لأنّه إنّما يعاقب على تكليف لم يمتثله.

فلا بدّ من فرض بقاء التكليف ليصحّ إدانته ، وأمّا إنّ التكليف مشروط بالقدرة بمعنى أنّ بقاء التكليف في عمود الزمان مشروط ببقاء القدرة كذلك فهذا غير تام ولا دليل عليه عقلا ، بل الصحيح هو كفاية القدرة حدوثا.

والبرهان على أنّ اشتراط القدرة في التكليف لا يقتضي أكثر من ذلك وهو أنّ التكليف قد جعل بداعي التحريك المولوي ، ولا تحريك مولوي إلا مع الإدانة ، ولا

ص: 41

إدانة إلا مع القدرة حدوثا ، فما هو شرط التكليف إذن بموجب هذا البرهان هو القدرة حدوثا.

ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي إطلاق الخطاب والوجوب المجعول أيضا ؛ تبعا لعدم منافاته للعقاب والإدانة.

والدليل على كفاية القدرة حدوثا وعدم اشتراط بقائها هو : أنّ التكليف قد جعل بداعي البعث والتحريك من المولى كما تقدّم ، وحينئذ يحكم العقل بوجوب التحرّك والانبعاث عن أمر المولى وتكليفه ولزوم إطاعته وامتثاله واستحقاق العقوبة على مخالفته وعصيانه.

وهذا معناه أنّ التحريك المولوي يستلزم الإدانة والعقاب على المخالفة ، فحيث ثبتت المحركيّة تثبت الإدانة ، وإذا انتفت المحركيّة تنتفي الإدانة أيضا ، فهما أمران متلازمان ثبوتا وانتفاء.

ولكن حيث إنّ القدرة شرط في الإدانة حدوثا فيكفي أن يكون المكلّف قادرا على الفعل ابتداء ، وإن زالت قدرته عليه بقاء ، فيكون مدانا لو لم يمتثل ، فكذلك التكليف المولوي ؛ لأنّ المحركيّة لمّا كانت ملازمة للإدانة فلا بدّ أن تكون مشروطة بالقدرة بنفس القدر الذي اشترطت فيه الإدانة ، وهو القدرة حدوثا وإن زالت بقاء ؛ لأنّه لو كانت القدرة في التكليف شرطا بقاء أيضا فإذا زالت لا تكليف ، فالمفروض حينئذ ألاّ يكون مدانا أيضا ؛ لأنّ الإدانة تنشأ عن مخالفة التكليف وهو خلف ما تقدّم.

إذا يتعيّن بهذا البرهان أنّ القدرة في التكليف كالقدرة في الإدانة يشترط وجودها حدوثا وإن ارتفعت بقاء.

ومن هنا صحّ أن يقال : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولا ينافيه تكليفا أيضا ) ، فالخطاب مطلق ويشمل القادر في تمام الوقت ويشمل القادر الذي زالت قدرته فيما بعد كالإدانة تماما.

نعم ، لا أثر عمليّا لهذا الإطلاق ، إذ سواء قلنا به أم لا ، فروح التكليف محفوظة على كلّ حال ، وفاعليّته ساقطة على كلّ حال ، والإدانة مسجّلة على المكلّف عقلا بلا إشكال.

وأمّا الفائدة والأثر العملي بين القولين :

ص: 42

ذكرنا أنّه يوجد فارق بين القولين ولكنّه فارق نظري ، فقول المشهور : من أنّ القدرة شرط بقاء في التكليف وقول السيّد الشهيد من كفاية اشتراطها حدوثا ، يفترقان في مسألة بقاء التكليف على فعليته وعدمها فقط.

وأمّا عمليّا فسواء قلنا ببقاء التكليف على الفعليّة وكون الخطاب مطلقا والوجوب المجعول شاملا للقادر بقاء وابتداء ، فالتكليف ساقط عن الفاعليّة والمحركيّة عمليّا ولا أثر له على المكلّف من ناحية العمل ؛ لأنّه لن يتحقّق التحرّك والانبعاث من المكلّف على كلّ حال ، أي سواء كان التكليف ثابتا أم منتفيا ما دامت فاعليّته ومحركيّته مرتفعة.

وكذلك بالنسبة لروح الحكم والتكليف من الملاك والمبادئ والإرادة والشوق المولوي فإنّها محفوظة على كلّ حال ، فسواء كان هناك تكليف بحقّ العاجز بسوء الاختيار أم لا ، إلا أنّ ملاكات ومبادئ التكليف موجودة بحقّه ؛ لأنّ الفعل الذي عجز أو عجّز نفسه عنه لا تزال فيه مبادئ الحكم ولا يزال ملاك الحكم موجودا فيه ولا معنى لارتفاعه لمجرّد عجز المكلّف ، فإنّ الشوق والإرادة والملاك لا يدور أمرها مدار قدرة المكلّف أو عجزه ؛ إذ قد تتعلّق إرادة المولى بشيء غير مقدور ويكون محبوبا له.

وهكذا بالنسبة للإدانة فإنّها مسجّلة على هذا المكلّف على كلّ حال أيضا ؛ لأنّ العقل يحكم باستحقاق المكلّف الذي لم يمتثل أوامر المولى للعقاب ؛ لأنّه كان قادرا على الامتثال فلم يفعل باختياره ؛ ولأنّه سلب القدرة عن نفسه باختياره ، ومع وجود الاختيار يصحّ العقاب والإدانة.

وبه يظهر أنّ المكلّف في حالات ارتفاع القدرة بسوء الاختيار يستحقّ العقاب سواء كان التكليف باقيا أم منتفيا ، وروح الحكم محفوظة أيضا في الحالين ، والفاعليّة والمحركيّة مرتفعة في الحالتين أيضا.

* * *

ص: 43

ص: 44

الجامع بين المقدور وغيره

ص: 45

ص: 46

الجامع بين المقدور وغيره

ما تقدّم حتّى الآن كان يعني أنّ التكليف مشروط بالقدرة على متعلّقه ، فإذا كان متعلّقه بكلّ حصصه غير مقدور انطبقت عليه قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

وأمّا إذا كان متعلّقه جامعا بين حصّتين إحداهما مقدورة والأخرى غير مقدورة ، فلا شكّ أيضا في استحالة تعلّق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق الشمولي ، وأمّا تعلّقه بالجامع على نحو الإطلاق البدلي ففي انطباق القاعدة المذكورة عليه كلام بين الأعلام.

تقدّم أنّ التكليف بغير المقدور مستحيل عقلا ، فإذا كان الفعل خارج قدرة المكلّف فلا يكلّف ولا يخاطب به ولا يعاقب على عدم امتثاله أيضا ، إلا أنّ غير المقدور يمكن تصوّره من ناحية تعلّق التكليف به على أنحاء :

الأوّل : أن يكون التكليف منصبّا ابتداء ومباشرة على الشيء غير المقدور بعينه ، وهذا هو الذي كان البحث السابق يتناوله.

وبتعبير آخر : إنّ متعلّق التكليف كان عنوانا بتمام حصصه غير مقدور وكان التكليف به بعينه ، فهنا لا إشكال في الاستحالة.

الثاني : أن يكون متعلّق التكليف عنوانا أي الجامع ، بعض حصصه مقدورة وبعضها الآخر غير مقدورة ، فهنا لا بدّ من ملاحظة كيفيّة تعلّق الحكم ، فإن كان الحكم متعلّقا بهذا العنوان الجامع بنحو الإطلاق الشمولي أو العموم الاستغراقي أو المجموعي فهو أيضا مستحيل ؛ وذلك لأنّ الإطلاق أو العموم الشموليين معناهما الانحلال لكلّ فرد فرد من أفراد العنوان ، فكلّ حصّة يتعلّق بها حكم ، فيكون من التكليف بغير المقدور وهو مستحيل كالقسم الأوّل.

ص: 47

وأمّا إن كان الحكم متعلّقا بالعنوان أي الجامع بنحو الإطلاق أو العموم البدلي بحيث يكون المطلوب حصّة واحدة من الحصص ، فهنا نبحث في أنّ عنوان الجامع بين الحصص المقدورة وغير المقدورة والذي تعلّق التكليف به هل هو مقدور فيعقل التكليف به ، أم ليس بمقدور فيستحيل التكليف به؟ وهذا هو الذي وقع موردا للبحث عندهم على أقوال :

وقد ذهب المحقّق النائيني ; (1) إلى أنّ التكليف إذا تعلّق بهذا الجامع فيختصّ لا محالة بالحصّة المقدورة منه ، ولا يمكن أن يكون للمتعلّق إطلاق للحصّة الأخرى ؛ لأنّ التكليف بداعي البعث والتحريك وهو لا يمكن إلا بالنسبة إلى الحصّة المقدورة خاصّة ، فنفس كونه بهذا الداعي يوجب اختصاص التكليف بتلك الحصّة.

القول الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا النائيني من أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور مستحيل ؛ وذلك لأنّ التكليف بمثل هذا الجامع سوف يسري إلى الحصّة المقدورة فقط دون الحصّة غير المقدورة ، وذلك باعتبار أنّ التكليف إنّما يجعل بداعي البعث والتحريك كما تقدّم ، والحصّة غير المقدورة لا يمكن التحرّك والانبعاث نحوها للعجز فيكون مختصّا بالحصّة المقدورة ؛ لأنّها التي يمكن الانبعاث والتحرّك نحوها.

ومنه يظهر أنّ التكليف حتّى وإن فرض تعلّقه بالعنوان الجامع إلا أنّه في حقيقته وواقعه منصبّ على الحصّة المقدورة فقط ، ولا يمكن شموله للحصّة غير المقدورة ؛ لأنّ حقيقة الحكم والتكليف منتفية عنها ، ولذلك يجب تأويل ما ظاهره التكليف بالجامع بين المقدور وغيره بالرجوع إلى التكليف بالحصّة المقدورة فقط ، وأمّا الحصّة غير المقدورة فلا يسري إليها الوجوب من الجامع أصلا ؛ لأنّ مبادئ الحكم وملاكاته وروحه وهي البعث والتحريك منتفية عنها.

وذهب المحقّق الثاني (2) - ووافقه جماعة من الأعلام (3) - إلى إمكان تعلّق

ص: 48


1- أجود التقريرات 1 : 367.
2- حكاه عنه المحقّق النائيني في أجود التقريرات 1 : 367 ، وانظر : جامع المقاصد 5 : 13 - 14.
3- راجع مطارح الأنظار : 119.

التكليف بالجامع بين المقدور وغيره على نحو يكون للواجب إطلاق بدلي يشمل الحصّة غير المقدورة ؛ وذلك لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، ويكفي ذلك في إمكان التحريك نحوه ، وهذا هو الصحيح.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق الثاني وجماعة من العلماء واختاره السيّد الشهيد أيضا ، من أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ممكن ؛ لأنّه مقدور للمكلّف ؛ لأنّ التكليف بالجامع المذكور بنحو الإطلاق أو العموم البدلي معناه أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق هذا الجامع على أيّة واحدة من حصصه ، فالحصّة المقدورة كغير المقدورة يشملها هذا التخيير ، غايته كون المكلّف في مقام التطبيق والامتثال عمليّا لا يمكنه أن يختار إلا الحصّة المقدورة له ، لعجزه عن الحصّة الأخرى.

وهذا المعنى من التخيير مقبول لدى العقل والعقلاء والعرف أيضا ، وليس داخلا في التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ الحصّة غير المقدورة لا يراد إسراء الحكم والتكليف إليها وإنّما يراد كونها مشمولة للتخيير فقط ، بمعنى أنّ المكلّف في مقام الامتثال مخيّر بينها وبين غيرها وليس امتثاله متعيّنا بحصّة خاصّة فقط ، بحيث لو فرض ارتفاع عذره وعجزه عنها لأمكن تطبيق الجامع عليها تمسّكا بالتكليف بالجامع ولا يحتاج إلى أمر جديد.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف انصبّ على الجامع فالمطلوب من المكلّف امتثال هذا الجامع وإيجاده في الخارج ، فلا بدّ من ملاحظة قدرة المكلّف على إيجاد الجامع في الخارج هل هو ممكن له أم لا؟ والمفروض أنّه ممكن ولو ضمن الحصّة المقدورة. إذا فالتكليف بالجامع ممكن ؛ لأنّه يمكن التحرّك والانبعاث عنه ولو ضمن إحدى حصصه ؛ إذ لا يشترط في الجمع أن تكون كلّ حصصه مقدورة وضمن اختيار المكلّف ؛ إذ من الواضح أنّ بعض حصص الجامع خارجة عن اختياره ولو من جهة عدم ابتلائه بها لبعدها عنه مثلا.

وثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا وقعت الحصّة غير المقدورة من الفعل الواجب صدفة وبدون اختيار المكلّف ، فإنّه على قول المحقّق النائيني يحكم بعدم إجزائها ووجوب إتيان الجامع في ضمن حصّة أخرى ؛ لأنّه يفترض اختصاص الوجوب

ص: 49

بالحصّة المقدورة ، فما وقع ليس مصداقا للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل.

وعلى قول المحقّق الثاني نتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات أنّ الوجوب متعلّق بالجامع بين الحصّتين ، فيكون المأتي به فردا من الواجب فيحكم بإجزائه وعدم وجوب الإعادة.

الثمرة بين القولين : وتظهر الثمرة بين القول باستحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، وبين القول بإمكانه في موردين :

الأوّل : لم يذكره السيّد الشهيد هنا ، وهو ما تقدّمت الإشارة إليه : من أنّ الحصّة غير المقدورة إذا صارت مقدورة للمكلّف لاحقا ، فعلى القول باستحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، لم يكن هناك وجوب متعلّق بهذه الحصّة من أوّل الأمر ؛ لأنّ الوجوب يسري من الجامع إلى الحصّة المقدورة ابتداء فقط ، ولذلك يحتاج إيجابها إلى دليل آخر ، بينما على القول بإمكانه لا نحتاج في إيجاب هذه الحصّة التي صارت مقدورة إلى دليل آخر ، بل نتمسّك بنفس دليل التكليف بالجامع ؛ لأنّه كان شاملا لها من أوّل الأمر ، غايته كون المكلّف عاجزا عنها والآن ارتفع عجزه.

الثاني : ما يذكره السيّد الشهيد هنا من أنّ الحصّة غير المقدورة إذا صدرت من المكلّف صدفة ومن دون اختيار منه ، فهل يحكم بإجزائها عن المأمور به فلا تجب الإعادة أو لا؟

والجواب : أنّه على قول الميرزا من استحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره لا يتحقّق الإجزاء بهذه الحصّة التي صدرت منه صدفة ؛ لأنّها لم تكن مشمولة ولا داخلة في التكليف أصلا ؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف بالجامع يسري إلى الحصّة المقدورة فقط.

وأمّا الحصّة غير المقدورة فلا يمكن أن يتعلّق بها التكليف لا بنفسها ولا بعنوانها ، فما وقع من المكلّف لم يكن مصداقا للواجب المأمور به ، لأنّ مصداق الواجب المأمور به إنّما هو في الحصّة المقدورة وهذه ليست هي ، فيكون إجزاؤها عن الواجب المأمور به محتاجا إلى دليل خاصّ ؛ لأنّ بابه باب إجزاء غير الواجب عن الواجب ، وهو يحتاج

ص: 50

إلى دليل خاصّ ، ولا يكفي فيه التمسّك بنفس إطلاق دليل التكليف بالجامع ؛ لأنّه مختصّ بالحصّة المقدورة فقط.

بينما على قول المحقّق الثاني من إمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، فيثبت الإجزاء وسقوط التكليف بهذه الحصّة التي أتى بها صدفة ، والوجه في ذلك هو أنّ دليل التكليف بالجامع كان شاملا من أوّل الأمر للحصّة غير المقدورة أيضا ، غايته كون المكلّف عاجزا عن تطبيق عنوان الجامع عليها ، ولكن لو ارتفع عذره كما في المورد الأوّل أو صدرت منه صدفة كما هنا لكان ممتثلا للمأمور به ؛ لأنّ ما صدر منه يعتبر مصداقا للواجب المأمور به ؛ لأنّه مطالب بالجامع وامتثال الجامع يكون بإيجاد إحدى حصصه أو أفراده ، وهذه الحصّة من جملة أفراد الجامع فيكون إيجادها ولو من دون اختيار إيجادا للجامع ، فيتحقّق الامتثال تمسّكا بإطلاق خطاب التكليف بالجامع ويحكم بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة على القاعدة ؛ لأنّ ما وقع هو نفسه المأمور به ، ولا يحتاج إلى دليل جديد.

والصحيح من القولين هو القول بإمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره لما تقدّم.

* * *

ص: 51

ص: 52

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

اشارة

ص: 53

ص: 54

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

تقدّم أنّ العقل يحكم بتقيّد التكليف واشتراطه بالقدرة على متعلّقه ؛ لاستحالة التحريك المولوي نحو غير المقدور ، ولكن هل يكفي هذا المقدار من التقييد أو لا بدّ من تعميقه؟

ومن أجل الجواب على هذا السؤال نلاحظ أنّ المكلّف إذا كان قادرا على الصلاة تكوينا ، ولكنّه مأمور فعلا بإنقاذ غريق تفوت بإنقاذه الصلاة ؛ للتضادّ بين عمليتي الإنقاذ والصلاة وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، فهل يمكن أن يؤمر هذا المكلّف بالصلاة والحالة هذه فيجتمع عليه تكليفان بكلا الفعلين؟

مقدّمة البحث : ذكرنا في بحث اشتراط القدرة في التكليف أنّ العقل يحكم بكون القدرة شرطا في التكليف المجعول ، بحيث لا يمكن تكليف العاجز عن الإتيان بالفعل المأمور به ؛ لأنّ المراد من التكليف هو البعث والتحريك ، ومع فرض العجز لا تحرّك ولا انبعاث ، فينتفي موضوعه ويصبح التكليف فارغا عن المضمون والمعنى.

وهذا المقدار تقدّم بيانه والثمرة منه ، ولكن البحث هنا في أنّه هل يكفي هذا المقدار من التقييد بالقدرة أو أنّ هناك شيئا آخر أعمق؟

ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال نلاحظ بالوجدان أنّ المكلّف المأمور بالصلاة ، كما لا يصحّ تكليفه بالصلاة فيما إذا كان عاجزا تكوينا عنها ، كذلك لا يصحّ تكليفه بها فيما إذا كان مأمورا بنفس الوقت بواجب آخر ، بحيث لا يتمكّن من الجمع بين الواجبين ؛ لأنّ فعل أحدهما وامتثاله يفوّت الآخر ، فإذا فرض أنّ المكلّف مأمور فعلا بإنقاذ الغريق فهل يمكن أن يكون مأمورا في نفس الوقت بالصلاة أم لا؟

وهذا هو البحث المسمّى بإمكان الأمر بالضدّين بنحو الترتّب أو استحالته.

وأمّا الجواب فهو :

ص: 55

والجواب بالنفي ؛ لأنّ المكلّف وإن كان قادرا على الصلاة فعلا قدرة تكوينيّة ولكنّه غير قادر على الجمع بينها وبين إنفاذ الغريق ، فلا يمكن أن يكلّف بالجمع ، ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين أن يكون ذلك بإيجاب واحد ، أو بإيجابين يستدعيان بمجموعهما الجمع بين الضدّين ، وعلى هذا فلا يمكن أن يؤمر بالصلاة من هو مكلّف فعلا بالإنقاذ في هذا المثال وإن كان قادرا عليها تكوينا.

وأمّا جواب السؤال المتقدّم فهو بالنفي ، فإنّ المكلّف المأمور فعلا بإنقاذ الغريق لا يمكن أن يكون مأمورا بنفس الوقت بالصلاة وإن كان قادرا عليها تكوينا ؛ وذلك لأنّ اشتغاله الفعلي بالواجب الآخر يجعله عاجزا شرعا عن إتيان الصلاة أيضا في نفس الوقت ، لأنّه عاجز تكوينا عن الجمع بين الواجبين معا ، ومع كونه عاجزا عن الجمع بين الفعلين فلا يمكن تكليفه بهما معا.

إذا فلا بدّ من أن يكلّف بأحدهما فقط فعلا ، وأمّا الآخر فهل يكون مكلّفا به ولو بنحو مشروط - كما سيأتي - أو لا يكون كذلك ، فهذا ما سوف يظهر من البحث؟

وأمّا هنا فما دام المكلّف عاجزا فعلا عن الجمع بين التكليفين فلا يكون مكلّفا بالجمع ؛ لأنّ العقل يحكم باستحالة التكليف بغير المقدور ، والمفروض هنا أنّ الجمع غير مقدور فلا يكلّف به إذا.

ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين التكليفين بسبب العجز عن ذلك بين أن يكون تكليفه بالجمع بإيجاب واحد ، كما إذا خوطب بخطاب واحد يطلب منه الجمع بين الواجبين ، وبين أن يكون بإيجابين مستقلّين مطلقين ، أحدهما بالإنقاذ والآخر بالصلاة بنحو مطلق وفعلي ، فإنّ العقل يحكم بالاستحالة في كلا الموردين ؛ لانتفاء القدرة تكوينا وعدم إمكان الجمع بينهما.

وعلى هذا الأساس نخرج بنتيجة مفادها :

وذلك يعني وجود قيد آخر للأمر بالصلاة - ولكلّ أمر - إضافة إلى القدرة التكوينيّة ، وهو ألاّ يكون مبتلى بالأمر بالضدّ فعلا ، فالقيد إذا مجموع أمرين : القدرة التكوينيّة ، وعدم الابتلاء بالأمر بالضدّ ، وهذا ما نسمّيه بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، ولا إشكال في ذلك.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم : هي أنّ التكليف بالصلاة مشروط بالقدرة التكوينيّة ،

ص: 56

وعدم عجز المكلّف تكوينا عن الإتيان بالمتعلّق ومشروط أيضا بعدم ابتلاء المكلّف بالأمر بالضدّ ؛ لأنّ أمره بالضدّين معا مستحيل لعدم إمكان الجمع بينهما.

ومجموع هذين الشرطين يسمّى بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، وهذا معناه أنّ كلّ تكليف مشروط عقلا بأن يكون المكلّف قادرا على الإتيان بمتعلّقه ، وبأن لا يكون مبتلى بالأمر بالضدّ فعلا ، بحيث يطلب منه الجمع بينهما ؛ لأنّ الجمع بين الضدّين معا في وقت واحد مستحيل. وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في معنى عدم الابتلاء الذي يتعيّن عقلا أخذه شرطا في التكليف ، فهل هو بمعنى ألاّ يكون مأمورا بالضدّ أو بمعنى ألاّ يكون مشغولا بامتثال الأمر بالضدّ؟

والأوّل يعني أنّ كلّ مكلّف بأحد الضدّين لا يكون مأمورا بضدّه ، سواء كان بصدد امتثال ذلك التكليف أم لا.

والثاني يعني سقوط الأمر بالصلاة عمّن كلّف بالإنقاذ ، لكن لا بمجرّد التكليف بل باشتغاله بامتثاله ، فمع بنائه على العصيان وعدم الإنقاذ يتوجّه إليه الأمر بالصلاة ، وهذا ما يسمّى بثبوت الأمرين بالضدّين على نحو الترتّب.

ذكرنا أنّه لا إشكال في اشتراط عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ فعلا في كلّ تكليف إضافة إلى القدرة التكوينيّة ، وإنّما وقع الإشكال والنزاع في تفسير معنى عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ فعلا على قولين :

أحدهما : أن يكون عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ بمعنى ألاّ يكون المكلّف مأمورا بالضدّ الآخر ، فإذا كان مأمورا بالإنقاذ مثلا فيستحيل أن يكون مأمورا بالصلاة أيضا ، بمعنى أنّه يؤخذ في الأمر بالصلاة ألاّ يكون مأمورا بالفعل بواجب آخر مضادّ لها ، بحيث لا يمكن للمكلّف ان يجمع بينهما معا.

ويترتّب على ذلك أنّ المكلّف بمجرّد أن يكون مأمورا بالضدّ فالضدّ الآخر لا تكليف به ، سواء كان بصدد الاشتغال بالضدّ المأمور به أم لا ، أي أنّه سواء اشتغل بالضدّ المأمور به وكان بصدد امتثال أمره أم لم يكن كذلك ، فإنّه في كلتا الحالتين لا يتوجّه إليه الخطاب بالضدّ الآخر ؛ لأنّه مأمور فعلا بذاك الضدّ.

والآخر : أن يكون عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ بمعنى ألاّ يكون المكلّف مشتغلا

ص: 57

بامتثال الأمر بالضدّ ، فإذا كان المكلّف مشتغلا بالفعل بإنقاذ الغريق فلا يمكن تكليفه بالصلاة أيضا بالفعل ؛ لأنّ اشتغاله بالإنقاذ يمنعه من الاشتغال بالصلاة بحيث يكون عاجزا عن الجمع بين الأمرين معا.

وأمّا إذا لم يكن مشتغلا بالإنقاذ أو أراد عصيان هذا الأمر ، فحينئذ يكون الأمر بالصلاة متوجّها إليه وفعليّا بحقّه ؛ لأنّ الشرط كان عدم الاشتغال وهو فعلا ليس مشتغلا بالإنقاذ ولا بمقدّماته ، بل لا يريد الإنقاذ أصلا ؛ إذ المفروض أنّ عدم الابتلاء ليس بمعنى ألاّ يكون مأمورا بالضدّ ، بل بمعنى ألاّ يكون مشغولا بامتثال الضدّ.

وهذا معناه أنّ المكلّف يتوجّه إليه خطابان بالضدّين ، ولكن على نحو يكون أحدهما أو كلاهما - كما سيأتي بيانه - مشروطا بعدم الاشتغال بامتثال الضدّ ، فإنّه إن كان مشتغلا بالامتثال فعلا ارتفع موضوع التكليف بالضدّ الآخر ؛ لعدم تحقّق شرطه.

وأمّا إن لم يكن مشتغلا بالامتثال فعلا فقيده متحقّق فيكون فعليّا ، وهذا ما يسمّى بالأمر بالضدّين على نحو الترتّب (1).

وقد ذهب صاحب ( الكفاية ) ; (2) إلى الأوّل مدّعيا استحالة الوجه الثاني ؛ لأنّه يستلزم في حالة كون المكلّف بصدد عصيان التكليف بالإنقاذ أن يكون كلا التكليفين فعليّا بالنسبة إليه.

أمّا التكليف بالإنقاذ فواضح ؛ لأنّ مجرّد كونه بصدد عصيانه لا يعني سقوطه ، وأمّا الأمر بالصلاة فلأنّ قيده محقّق بكلا جزئيه ؛ لتوفّر القدرة التكوينيّة وعدم الابتلاء بالضدّ بالمعنى الذي يفترضه الوجه الثاني ، وفعليّة الأمر بالضدّين معا

ص: 58


1- وفكرة الترتّب هذه من مختصّات الفكر الشيعي وليس لها وجود في غيره ، وهي من المسائل الأصوليّة المهمّة جدّا ، ويترتّب عليها آثار كثيرة أهمّها استقلال باب التزاحم من باب التعارض في أحكامه وقوانينه ، كما سيأتي بيانه عند التعرّض لثمرات القول بالترتّب. وتوجد في الفقه موارد كثيرة لا يمكن حلّها إلا بالرجوع إلى هذه الفكرة. وينبغي أن يعلم أنّ الترتّب على مقتضى القاعدة والأصل ولا يحتاج إثباته إلى دليل خاصّ ، وإنّما على القائل بالاستحالة أن يبرز الدليل على ذلك ؛ لأنّ شرطيّة القدرة في التكليف تتكفّل بهذا الأمر الترتّبي.
2- كفاية الأصول : 166 - 167.

مستحيلة ، فلا بدّ إذا من الالتزام بالوجه الأوّل فيكون التكليف بأحد الضدّين بنفس ثبوته نافيا للتكليف بالضدّ الآخر.

القول الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من أنّ الأمر الترتّبي بالضدين بنحو يكون الشرط هو عدم الاشتغال بالضدّ الآخر مستحيل ، والشيء الممكن هو أن يكون أحد الضدّين بنفس ثبوته على المكلّف رافعا ونافيا للضدّ الآخر ، سواء كان بصدد الاشتغال به أم لا ، فالصحيح عنده هو الاحتمال الأوّل لا الثاني.

والوجه في ذلك : أنّنا لو قلنا بأنّ الأمر بالضدّ مشروط بأن لا يكون مشتغلا بالضدّ الآخر ، فهذا لازمه أنّه لو تركهما معا لصارا فعليّين معا ، ولصار المكلّف مستحقّا لعقابين أيضا وهذا لا يمكن الالتزام به لاستلزامه التكليف بغير المقدور المستحيل.

أمّا صيرورتهما فعليّين معا فلأنّ تركهما معا معناه أنّ أحد الضدّين وهو الأهمّ فعلي مطلقا ، سواء اشتغل بالمهمّ أم لا ، والضدّ الآخر وهو المهمّ صار فعليّا لتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ فيكونان معا فعليّين ، وهذا معناه أنّ مجموع الأمرين بالضدّين مطلوب من المكلّف لكونهما فعليّين ، وهذا من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما.

وهكذا لو كانا معا مشروطين بأن كانا متساويين ، فإنّ شرط كلّ منهما وهو ترك الآخر متحقّق فيكونان فعليّين ، ممّا يعني اشتغال ذمّة المكلّف بكلا الضدّين معا وهو مستحيل.

وأمّا لزوم تعدّد العقاب على المكلّف ، فلأنّ صيرورة الضدّين فعليّين حال تركهما يستلزم تعدّد العقاب ؛ لأنّ موضوع العقاب هو عدم امتثال التكليف الفعلي ، والمفروض هنا أنّه تركهما معا فصارا فعليّين فيستحقّ عقابين معا ، مع أنّ هذا مستحيل ؛ لأنّ المكلّف غير قادر إلا على فعل أحدهما فقط ، فلا يكون مستحقّا إلا لعقاب واحد لا أكثر ، فيكون استحقاقه للعقاب الثاني مستحيلا ؛ لأنّه عقاب على ترك فعل لا يقدر عليه.

وبهذا ظهر أنّ فكرة الترتّب كما تقتضيه وجهة النظر الأولى من تقييد التكليف بعدم الاشتغال بالضدّ غير صحيحة لاستلزامها المحال ، فالصحيح أن يقال : إنّ التكليف مقيّد بأن لا يكون مأمورا بالضدّ سواء كان بصدد الاشتغال به أم لا ، فإنّ

ص: 59

نفس كونه مكلّفا بالضدّ يمتنع تكليفه بالضد الآخر ؛ لأنّه يثبت مشروطا (1).

ص: 60


1- هذا ويمكن الإجابة عن بيان الاستحالة الذي ذكره الآخوند بكلا وجهيه : أمّا الاستحالة بلحاظ الفعليّة فجوابه أنّ الأمر بالمهمّ لا يمنع عن محرّكيّة الأمر بالأهمّ ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بترك الأهمّ ، وما دام مشروطا به فيكون وجوب المهمّ مقيّدا بعدم الأهمّ ، وإذا كان من قيود الوجوب فيستحيل أن يكون المهمّ مانعا عن المحرّكيّة نحوه ؛ لأنّ وجوده في طول ارتفاع الأهمّ ، فلا بدّ من انتفاء الأهمّ في رتبة سابقة ليوجد المهمّ ، وأمّا إذا لم يرتفع الأهمّ فلا وجود للمهمّ ليمنع منه. وهكذا بالنسبة للأمر بالأهمّ فإنّه لا يمنع عن الأمر بالمهمّ ؛ لأنّه مع وجود الأمر بالأهمّ يكون الأمر بالمهمّ منتفيا في نفسه لعدم تحقّق شرطه ، ومع انتفاء المهمّ لا معنى لمانعيّة الأهمّ عنه ؛ لأنّها مانعيّة عن شيء معدوم وهو مستحيل. إذا لا منافاة بين الأهمّ والمهمّ في مقام المانعيّة والمحرّكيّة ؛ لأنّ ثبوت المحرّكيّة في أحدهما لا تكون إلا بعد انتفاء الآخر في نفسه وفي رتبة سابقة ، وحينئذ لا مانع من طلب الضدّين ؛ لأنّه لن يكون هناك محرّكيّتان ، بل محرّكيّة واحدة ولازمها أنّه لن يكون هناك إلا تحرّك واحد لا أكثر ، ومع المخالفة لا يستحقّ إلا عقابا واحدا لا أكثر. وما ذكره من الإشكال غير صحيح أيضا ؛ لأنّ الفعليّة لكلّ منهما حال تركهما معا وإن كانت متحقّقة إلا أنّه لا يلزم منها أن يكون المكلّف مأمورا بالجمع بين الضدّين ؛ لأنّه في مقام الامتثال لا يطالب بأكثر من فعل أحدهما فقط ؛ لأنّه لا توجد أكثر من محرّكيّة واحدة ، ولهذا لو فرض تحقّق المحال في الخارج وصدر منه كلا الضدّين لم يكن ممتثلا إلا لأحدهما فقط ، وهو الأهمّ فيما لو كان أحدهما أهمّ ولم يكن ممتثلا إلا للأوّل فقط ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم الاشتغال بالضدّ دون الثاني ؛ لأنّه مشتغل بالضدّ الأوّل ، فمجرّد الفعليّة للتكليفين المتضادّين لا مانع منها عقلا ؛ لأنّها فعليّة مشروطة في مقام الامتثال. والإشكال بتعدّد العقاب ليس بصحيح أيضا ؛ وذلك لأنّ العقاب يدور مدار ترك المكلّف للفعل الواجب المأمور به مع قدرته عليه ، وهنا إذا لاحظنا عالم الامتثال فالمكلّف ليس قادرا إلا على أحد الضدّين فقط ، فيكون في حالة تركه مستحقّا لعقاب واحد ، ولكن إذا لاحظنا حال الترك لكلا الضدّين نجد أنّ كلّ واحد من الضدّين في نفسه يمكن للمكلّف أن يوجده في الخارج ولكنّه تركه اختيارا مع قدرته عليه فيستحقّ العقاب عليه ، فكان العقاب متعدّدا لتعدّد موضوعه في الخارج ، لا من جهة أنّ المكلّف مأمور بالضدّين معا وكونهما فعليّين عليه معا. فيكون المطلوب منه فعل واحد ولكنّه يعاقب بعقابين لو تركهما معا ، وهذا له نظائر في الفقه كالوجوب الكفائي ، فإنّه فعل واحد وامتثال واحد ولكن لو ترك لكان جميع المكلّفين القادرين الحاضرين مستحقّين للعقاب.

وذهب المحقق النائيني رحمه اللّه (1)إلى الثاني ، وهذا هو الصحيح ، وتوضيحه ضمن النقاط الثلاث التالية :

القول الثاني : ما ذهب إليه الميرزا النائيني وغيره من الأصوليّين كالميرزا الشيرازي قبله ، من أنّ الأمر بالضدّين بنحو يكون كلّ منهما أو أحدهما مشروطا بعدم الاشتغال بالآخر ممكن في نفسه وعلى طبق القاعدة والأصل ، بل الوجدان يشهد بذلك.

فمثلا إذا دار الأمر بين ضررين لا يمكن دفعهما معا فالمكلّف يختار الضرر الأقلّ ؛ لأنّ العرف والوجدان يقتضي عدم اختيار الضرر الأزيد ، بل لو اختاره لكان مدانا بالعرف ، وكذلك لو كان أمره دائرا بين واجبين متساويين أو أحدهما أهمّ من الآخر ولا يمكنه فعلهما معا ، فإنّه يختار الأهمّ لو كان موجودا أو أحد المتساويين ، وهذا معناه أنّه مخيّر بين الواجبين فكلّ واحد منهما مطلوب وإن لم يكن المجموع أو الجمع بينهما مطلوب لعدم القدرة عليه.

وعلى كلّ حال فقد أثبت الميرزا الترتّب ضمن نقاط خمس ، ولكن السيّد الشهيد يختصرها إلى ثلاث نقاط هي :

النقطة الأولى : أنّ الأمرين بالضدّين ليسا متضادّين بلحاظ عالم المبادئ ؛ إذ لا محذور في افتراض مصلحة ملزمة في كلّ منهما وشوق أكيد لهما معا ، ولا بلحاظ عالم الجعل كما هو واضح ، وإنّما ينشأ التضادّ بينهما بلحاظ التنافي والتزاحم بينهما في عالم الامتثال ؛ لأنّ كلاّ منهما بقدر ما يحرّك نحو امتثال نفسه يبعّد عن امتثال الآخر.

النقطة الأوّلى : في بيان المنشأ الذي يمكن تصوّر التضادّ فيه بالنسبة للضدّين فيقال : إنّ التضادّ بين شيئين لا بدّ أن يكون في أحد مراتب ثلاث ، وإلا فلا يكون هناك تضادّ بينهما ، وهي :

1 - عالم الملاك والمبادئ من الحبّ والبغض أو الشوق المولوي.

2 - عالم الجعل والاعتبار والتكليف.

3 - عالم الامتثال والتحرّك.

وفي مقامنا لا يوجد تضادّ بين الأمرين بالضدّين بلحاظ عالم الملاكات والمبادئ ؛

ص: 61


1- فوائد الأصول 1 : 336.

وذلك لأنّ الأمر بانقاذ الغريق مثلا مبادئه في نفس متعلّقه وهو الانقاذ ، والأمر بالصلاة مبادئه في نفس متعلّقه وهو الصلاة.

وهذا معناه أنّ الإنقاذ فيه مصلحة ملزمة وفيه محبوبيّة والصلاة فيها مصلحة ملزمة ومحبوبيّة أيضا ، ولا مانع من أن يحبّ المولى كلا هذين الأمرين أي الإنقاذ والصلاة ؛ لأنّ ملاكات ومبادئ كلّ منهما لها متعلّق غير الآخر ، فلا يوجد تضادّ أصلا بين الأمر بالإنقاذ وبين الأمر بالصلاة في هذا العالم ، ولذلك يمكن جعلهما معا والأمر بهما وإيجابهما على ذمّة المكلّف ؛ لأنّ عالم الجعل والإيجاب والتكليف يراد منه جعل الداعي للبعث والتحريك فلا مانع عقلا من أن يجعل المولى هذا الداعي على المكلّف ، فتكون هناك محرّكيّة وداعويّة مولويّة نحو الأمر بالإنقاذ ونحو الأمر بالصلاة.

ولا تضادّ بين هاتين الداعويّتين في مقام الجعل والإيجاب ؛ لأنّ الجعل والإيجاب في نفسه ليس إلا مجرّد صياغة لفظيّة إنشائيّة لإرادة المولى ، فالمهمّ هو الإرادة المولويّة. وقد قلنا : إنّه لا مانع من أن تنصبّ إرادتان من المولى إحداهما متعلّقة بالإنقاذ والأخرى بالصلاة ؛ لاختلاف الموضوع والمتعلّق.

يبقى تصوّر التضادّ في عالم الامتثال والتحرّك ، ففي هذا العالم هل يمكن أن يتحرّك المكلّف نحو الفعلين المتضادّين ، بحيث يكون المطلوب منه هو الجمع بين الضدّين أم لا يمكن ذلك؟

فنقول : إنّ التحرّك نحو إنقاذ الغريق لا يجتمع مع التحرّك نحو امتثال الصلاة ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي متطلّبات تتنافى مع المتطلّبات التي يستدعيها الآخر في مقام الاشتغال والامتثال والتحرّك ، ولهذا فالمنشأ الذي يمكن تصوّره لاستحالة الأمر بالضدّين إنّما هو بلحاظ عالم الامتثال ؛ لأنّ كلّ أمر يقرّب نحو امتثال متعلّقه بقدر ما يبعّد عن امتثال الأمر الآخر (1).

ص: 62


1- ولكن لا بدّ من الالتفات إلى فارق بين هذه اللحاظات ، فإنّ اللحاظين الأوّلين إذا فرض التضادّ فيهما فهو راجع إلى المولى ، بمعنى أنّ المولى لا يصدر منه الحبّ والبغض أو الملاكات المتضادّة ، ولا يصدر منه طلب الجمع بينهما في وقت واحد. وأمّا بلحاظ عالم الامتثال فهو راجع إلى المكلّف ، بمعنى أنّ المكلّف لا يمكنه امتثال الضدّين معا.

النقطة الثانية : أنّ وجوب أحد الضدّين إذا كان مقيّدا بعدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر أو بالبناء على عصيانه فهو وجوب مشروط على هذا النحو ، ويستحيل أن يكون هذا الوجوب المشروط منافيا في فاعليّته ومحرّكيّته للتكليف بالضدّ الآخر ، إذ يمتنع أن يستند إليه عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر ؛ لأنّ هذا العدم مقدّمة وجوب بالنسبة إليه ، وكلّ وجوب مشروط بمقدّمة وجوبيّة لا يمكن أن يكون محرّكا نحوها وداعيا إليها كما تقدّم مبرهنا في الحلقة السابقة (1) ، وإذا امتنع استناد عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر إلى هذا الوجوب المشروط تبرهن أنّ هذا الوجوب لا يصلح للمانعيّة المزاحمة في عالم التحريك والامتثال.

النقطة الثانية : في بيان استحالة أن يكون التكليف بالضدّ المهمّ مانعا عن المحرّكيّة أو عن امتثال التكليف بالأهمّ.

والوجه في ذلك : هو أنّ أحد الضدّين إذا كان مقيّدا ومأخوذا في وجوبه عدم الاشتغال بالضدّ الآخر أو مقيّدا بعصيان الضدّ الآخر - على الخلاف في كيفيّة تقييد الضدّ كما سيأتي - فهذا يعني أنّ وجوب الضدّ صار وجوبا مشروطا ، وشرطه هو عدم امتثال الضدّ الآخر أو عصيان الضدّ الآخر.

وحينئذ يستحيل أن يكون وجوب الضدّ المشروط مانعا ومنافيا لمحرّكيّة وفاعليّة وجوب الضدّ الآخر ؛ لأنّه لمّا كان مشروطا بعدمه فعدمه مقدّمة وجوبيّة لوجوب الضدّ المشروط ، والوجوب المشروط لا يحرّك نحو مقدّمته. إذا فوجوب الضدّ المشروط لا يحرّك نحو عدم الضدّ الآخر ؛ لأنّه مقدّمة وجوبيّة له ، فلا وجود له قبل هذه المقدّمة ليكون محرّكا نحو عدمه.

فإذا فرض وجود هذا الضدّ المشروط فهذا يفترض في رتبة سابقة انتفاء الضدّ الآخر من نفسه أو بسبب آخر ، فإذا صار الضدّ المشروط موجودا وفعليّا لم يمنع عن امتثال الضدّ الآخر ؛ لفرض انتفائه في هذه الحالة ، والشيء لا يكون مانعا عن شيء آخر معدوم ؛ لأنّ المانعيّة إنّما تكون عن الأمر الوجودي أي أنّها فرع وجود الممنوع أوّلا

ص: 63


1- في بحث الدليل العقلي ، ضمن الحديث عن قاعدة تنوّع القيود وأحكامها ، تحت عنوان : أحكام القيود المتنوّعة.

فتمنع عنه ثانيا ، وهنا الممنوع عنه يفترض انتفاؤه في نفسه لكي يتحقّق وجوب الضدّ المشروط بعدمه.

وبتعبير آخر : إنّ مانعيّة الضدّ المشروط بعدم الضدّ الآخر عن امتثال الضدّ الآخر مستحيلة لوجوه :

أوّلها : ما تقدّم من أنّ عدم الضدّ الآخر صار مقدّمة وجوبيّة ؛ ووجوب الشيء لا يدعو إلى تحقيق مقدّماته الوجوبيّة ؛ لأنّها فوق وجوبه وفي مرتبة أسبق عن وجوده ، أي أنّها توجد قبله فلا يكون هو محرّكا نحوها ؛ لأنّه إذا فرض وجوده فهذا يفترض مسبقا تحقّقها من قبل.

وثانيها : أنّ الوجوب في طول مقدّماته الوجوبيّة رتبة ، فلو كان يدعو ويحرّك نحوها لزم كونها في طوله فيلزم الدور ، أو التقدّم والتأخّر بين الوجوب ومقدّمته وهو مستحيل.

وثالثها : أنّ وجوب الضدّ المشروط بعدم امتثال الضدّ الآخر لا يمكنه أن يحقّق موضوع نفسه ؛ لأنّ الحكم في طول الموضوع ، والموضوع هنا قد أخذ فيه عدم امتثال الضدّ الآخر ليصبح فعليّا ثمّ تتبعه بعد ذلك فعليّة الموضوع. فلو كان داعيا إلى قيود موضوعه لزم الخلف أو التقدّم والتأخّر ، وهو مستحيل أيضا.

وبهذا ظهر أنّ الأمر بالمهمّ المشروط بعدم امتثال الأمر بالأهمّ يستحيل أن يكون محرّكا وداعيا إلى عدم امتثال الأمر بالأهمّ ، وحينئذ فلا تقع المنافاة بين ثبوت الأمر بالمهمّ وبين محركيّة وفاعليّة الأمر بالأهمّ ؛ لأنّ إحدى المحرّكيّتين والفاعليّتين منتفية لا محالة عند ثبوت وتحقّق الأخرى.

وهذا نظير سائر الوجوبات المشروطة كوجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلا ، فإنّ وجوب الحجّ لا يكون داعيا ومحرّكا نحو تحقيق الاستطاعة ؛ لأنّها من المقدّمات الوجوبيّة ، والوجوب لا يحرّك نحو مقدّماته الوجوبيّة ؛ لأنّها فوق الوجوب ، أي أنّها سابقة في الرتبة عن الوجوب نفسه ، ففرض وجود وتحقّق الوجوب يلزمه لا محالة فرض تحقّق مقدّماته.

ففي المثال فرض وجوب الحجّ على المكلّف إذا صار فعليّا ، فهذا معناه أنّ الاستطاعة كانت فعليّة أوّلا ؛ إذ يستحيل فعليّة وجوب الحجّ مع كون الاستطاعة غير فعليّة في رتبة سابقة.

ص: 64

إذا لا منافاة ولا تضادّ ولا ممانعة بين وجوب المهمّ المشروط بعدم الأهمّ وبين امتثال الأمر بالأهمّ ، بمعنى أنّ المهمّ لا يدعو ولا يحرّك نحو عدم امتثال الأهمّ ، فمن ناحية المهمّ لا منافاة.

وأمّا بالنسبة للأهمّ فهل يمنع عن امتثال المهمّ ويحرّك نحو عدم امتثاله أم لا؟ فهذا ما نوضّحه في النقطة الثالثة :

النقطة الثالثة : أنّ التكليف بالضدّ الآخر إمّا أن يكون مشروطا بدوره أيضا بعدم امتثال هذا الوجوب المشروط ، وإمّا أن يكون مطلقا من هذه الناحية ، فعلى الأوّل يستحيل أن يكون منافيا للوجوب المشروط في مقام التحريك بنفس البيان السابق ، وعلى الثاني يستحيل ذلك أيضا ؛ لأنّ التكليف بالضدّ الآخر مع فرض إطلاقه وإن كان يبعّد عن امتثال الوجوب المشروط ، ويصلح أن يستند إليه عدم وقوع الواجب بذلك الوجوب المشروط ، ولكنّه إنّما يبعّد عن امتثال الوجوب المشروط بتقريب المكلّف نحو امتثال نفسه الذي يساوق إفناء الوجوب المشروط ونفي موضوعه ، وهذا يعني أنّه يقتضي نفي امتثال الوجوب المشروط بنفي أصل الوجوب المشروط وإعدام شرطه ، لا نفيه مع حفظ الوجوب المشروط وحفظ شرطه ، والوجوب المشروط إنّما يأبى عن نفي امتثال نفسه مع حفظ ذاته وشرطه ، ولا يأبى عن نفي ذلك بنفي ذاته وشرطه رأسا ؛ إذ يستحيل أن يكون حافظا لشرطه ومقتضيا لوجوده.

وبهذا يتبرهن أنّ الأمرين بالضدّين إذا كان أحدهما على الأقلّ مشروطا بعدم امتثال الآخر كفى ذلك في إمكان ثبوتهما معا بدون تناف بينهما.

النقطة الثالثة : في بيان أنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مانعا عن محرّكيّة وفاعليّة الأمر بالمهمّ.

تقدّم أنّ وجوب أحد الضدّين لا يدعو ولا يحرّك نحو عدم امتثال الضدّ الآخر بالبيان السابق ، يبقى الكلام في الضدّ الآخر فهو لا يخلو إمّا أن يكون مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ، وإمّا أن يكون مطلقا وغير مشروط بذلك.

فإن كان مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل - كما إذا كانا متساويين في الأهمّيّة - فهو أيضا يستحيل أن يكون محرّكا وداعيا نحو عدم امتثال الضدّ الأوّل بنفس البيان السابق من كونه وجوبا مشروطا وهو لا يدعو إلى تحقيق شرطه ؛ لأنّه مقدّمة وجوبيّة

ص: 65

له ، والوجوب لا يدعو إلى تحقيق مقدّماته الوجوبيّة ، مضافا إلى ما ذكرناه من وجوه أخرى للاستحالة.

وأمّا إن لم يكن مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ، بل كان مطلقا من هذه الناحية - كما إذا كان أهمّ من الضدّ الأوّل - فهنا أيضا يستحيل أن يدعو إلى عدم امتثال الضدّ الأوّل المهمّ ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ وجوب الضدّ الآخر الأهمّ وجوبه مطلق وفعلي سواء كان المكلّف بصدد الاشتغال بالضدّ المهمّ أم لا ؛ لأنّ معنى إطلاقه هو كونه فعليّا في جميع الحالات ، وحينئذ يكون الأمر بالأهمّ داعيا ومحرّكا أوّلا وبالذات نحو تحقيق متعلّق نفسه ؛ لأنّ كلّ أمر يدعو إلى تحقيق متعلّقه أوّلا وبالذات ، وحيث إنّه وجوب مطلق غير مشروط فهو بالإضافة إلى داعويّته نحو تحقيق متعلّقه ، يدعو ثانيا وبالعرض إلى عدم التحرّك نحو الأمر بالمهمّ ، فيكون عدم امتثال الأمر بالمهمّ مستندا إلى الأمر بالأهمّ ، ولكن لا مباشرة بل على أساس الملازمة.

وتوضيحها : أنّ الأمر بالأهمّ له مدلول مطابقي وهو داعويّته إلى تحقيق متعلّق نفسه وعدم هدمه ، وله مدلول التزامي بسبب كونه مطلقا وفعليّا في كلّ الحالات ، وهو داعويّته إلى عدم تحقيق الأمر بالمهمّ ، فهو يقرّب المكلّف نحو تحقيق متعلّقه وامتثاله ، ويبعّده عن تحقيق الأمر بالمهمّ وامتثاله ، ولكن هاتان الداعويّتان ليستا في عرض واحد وفي رتبة واحدة ، بل إحداهما في طول الأخرى ، فإنّ الداعويّة الثانية كانت على أساس الملازمة المتقدّمة.

وبكلمة ثانية : أنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان يدعو المكلّف ويقرّبه نحو امتثاله وتحقيق متعلّقه ، فهذا نفسه يساوق ويلازم التبعيد عن امتثال الأمر بالمهمّ والتحرّك نحو تحقيق متعلّقه ، ووجه هذه المساوقة هو أنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان يدعو ويقرّب إلى تحقيق متعلّقه وامتثاله ، فهذا نفسه يعني إعدام شرط الوجوب في الأمر بالمهمّ ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعدم امتثال الأمر بالأهمّ.

ففي حالة امتثال الأمر بالأهمّ يكون شرط الوجوب في المهمّ منتفيا وموضوعه غير محقّق ، والأمر بالأهمّ يدعو بالملازمة أو بالعرض إلى إفناء شرط وجوب الأمر بالمهمّ وإعدام موضوعه ، فيصحّ استناد عدم الأمر بالمهمّ إليه من هذه الناحية ، وإن

ص: 66

كان هو بذاته لا يدعو ولا يقرّب إلا إلى متعلّقه وامتثاله فقط.

نعم ، لو كان الأمر بالأهمّ يدعو ويقرّب نحو عدم امتثال الأمر بالمهمّ ، مع وجود شرطه وحفظه ومع تحقّق موضوعه ، لكانت هذه المحرّكيّة والداعويّة مستحيلة ؛ لأنّه مع حفظ شرط المهمّ وتحقّق موضوعه يعني أنّ الأمر بالأهمّ منتفيا ؛ لأنّ شرط الأمر بالمهمّ هو عدم امتثال الأمر بالأهمّ ، فمع عدم امتثاله يكون وجوب الأمر بالمهمّ محفوظا ، وحينئذ يأبى عن الانتفاء والانعدام لصيرورته فعليّا لفعليّة شرطه وموضوعه ، فيقع التنافي حينئذ بين الأمرين.

إلا أنّنا لا نفترض ذلك ، بل نقول : إنّ الأمر بالأهمّ ينفي أصل وجود الأمر بالمهمّ من خلال نفيه لشرطه وموضوعه ، فهو منتف من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لا من باب وجود المانع عنه ، أي أنّه لا يوجد المقتضي لوجود الأمر بالمهمّ مع وجود الأمر بالأهمّ ، لا أنّ المقتضي موجود وإنّما يرتفع بسبب المانع ، فإنّ ارتفاعه عندئذ مستحيل ؛ للتعارض والتضادّ بينهما.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان مطلقا وفعليّا فهو حين امتثاله وتحقيق متعلّقه سوف يحقّق مطلبين :

أحدهما : امتثال الأمر بالأهمّ بامتثال متعلّقه وتحقيق موضوعه ، وهذا يعني استيفاء الملاك منه بإيجاده.

والآخر : امتثال الأمر بالمهمّ وذلك بإعدام شرطه وانتفاء موضوعه ، وهذا يعني أيضا استيفاء الملاك من الأمر بالمهمّ برفع موضوعه.

والنتيجة : أنّ المكلّف يكون ممتثلا لكلا الأمرين بفعل الأهمّ ، أحدهما بإيجاده والآخر بإعدامه ورفع موضوعه (1).

ص: 67


1- ويمكننا أن نضيف وجها آخر وهو ما أفاده الميرزا ، وحاصله أن يقال : إنّ مقتضى الأمر بالأهمّ هو الإتيان بمتعلّقه وامتثاله ، فهو يحرّك نحو الأهم وفعله ، ويمنع عن هدمه ، ومقتضى الأمر بالمهمّ كذلك ، فهو يحرّك نحو متعلّق نفسه ويمنع عن هدمه. فالأمر بالإزالة يحرّك نحو الإزالة ويمنع عن إعدامها وهدمها ، والأمر بالصلاة يحرّك نحو الصلاة ويمنع عن هدمها. إذا فالمقتضي في كلّ منهما مغاير ومباين للآخر ، فلا أحدهما يمنع عن الآخر ولا يحرّك نحو عدم الآخر في مقام الامتثال.

وبهذا يظهر أنّ الأمرين بالضدّين بنحو الترتّب ممكن وليس مستحيلا ؛ لأنّه لا تنافي ولا تضادّ بينهما لا في عالم الملاكات والإرادة والمبادئ ، ولا في عالم الجعل والتكليف ، ولا في عالم الامتثال.

وهكذا نعرف أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ وجوب مشروط - إضافة إلى القدرة التكوينيّة - بعدم الابتلاء بالتكليف بالضدّ الآخر ، بمعنى عدم الاشتغال بامتثاله ، ولكن لا أيّ تكليف آخر ، بل التكليف الذي لا يقلّ في ملاكه أهمّيّة عن ذلك الوجوب ، سواء ساواه أو كان أهمّ منه.

وأمّا إذا كان التكليف الآخر أقلّ أهميّة من ناحية الملاك فلا يكون الاشتغال بامتثاله مبرّرا شرعا لرفع اليد عن الوجوب الأهمّ ، بل يكون الوجوب الأهمّ مطلقا من هذه الناحية كما تفرضه أهمّيّته.

ومن هنا نصل إلى صيغة عامّة للتقييد يفرضها العقل على كلّ تكليف ، وهي تقييده بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ عنه أهمّيّة.

وأمّا النتيجة فهي : أنّ العقل يقيّد التكليف بالقدرة ، بمعنى أنّه يشترط في كلّ تكليف القدرة تكوينيّا على متعلّقه وهذا ما تقدّم سابقا ، ويشترط أيضا ألاّ يكون المكلّف مبتليا بالاشتغال بالضدّ الآخر ، بحيث لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال لعدم قدرته على الجمع ، وهذا ما أثبتناه هنا من خلال النقاط الثلاث المتقدّمة.

ولكن لا بدّ أن نعرف أي نوع من التكليف هو الذي يكون مأخوذا عدم الاشتغال به قيدا في التكليف الآخر؟

والجواب : أنّ التكليف المأخوذ عدم الاشتغال به قيدا في التكليف هو التكليف الذي لا يقلّ أهمّيّة عن التكليف الآخر ، فلا بدّ أن يكون إمّا مساويا أو أهمّ من التكليف الآخر ، وليس مطلق الاشتغال بالتكليف يكون مانعا عن امتثال التكليف الآخر ، فإنّه إذا كان التكليف الذي يشتغل به مساويا أو أهمّ فإنّه يمنع من التكليف الآخر ، حيث يكون مقيّدا بعدم الاشتغال بالتكليف المساوي أو الأهمّ ، فلا تكليف فعلا به.

وأمّا إذا كان يشتغل بتكليف يقلّ في الأهمّيّة عن التكليف الآخر ، فهنا لا يكون مثل هذا الاشتغال مانعا عن التكليف بالأهمّ ؛ لأنّ قيده وهو عدم الاشتغال بالضدّ

ص: 68

الأهمّ أو المساوي غير متحقّق ، فلا يكون مقيّدا ولا مشروطا في هذه الحالة ، بل يكون مطلقا ممّا يعني أنّه فعليّ على كلّ حال ، ولذلك فيجب على المكلّف أن يترك الضدّ الأقلّ أهمّيّة ويشتغل بالتكليف الأهمّ ، ولا يكون اشتغاله بالأقلّ أهمّيّة مسوّغا شرعا ومعذّرا للمكلّف في تركه للأهمّ.

ومن هنا نصل إلى الصياغة النهائيّة لشرطيّة القدرة في التكليف بالمعنى الأعمّ وهي : أنّ العقل يشترط في كلّ تكليف القدرة عليه تكوينا وعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه. وأمّا متى نعرف الأهم أو المساوي أو الأقلّ أهمّيّة؟

فتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

وعلى هذا الأساس إذا وقع التضادّ بين واجبين كالصلاة وإنقاذ الغريق ، أو الصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد ، فالتعرّف على أنّ أيّهما وجوبه مطلق ، وأيّهما وجوبه مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر يرتبط بمعرفة النسبة بين الملاكين.

فإن كانا متساويين كان الاشتغال بكلّ منهما مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في كلّ تكليف ، وهذا يعني أنّ كلاّ من الوجوبين مشروط بعدم امتثال الآخر ، ويسمّى بالترتّب من الجانبين.

وإن كان أحد الملاكين أهمّ كان الاشتغال بالأهمّ مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب المهمّ ، ولكن الاشتغال بالمهمّ لا يكون مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب الأهمّ. وينتج هذا أنّ الأمر بالأهمّ مطلق والأمر بالمهمّ مقيّد ، وأنّ المكلّف لا بدّ له من الاشتغال بالأهمّ لكيلا يبتلى بمعصية شيء من الأمرين ، ولو اشتغال بالمهمّ لابتلي بمعصية الأمر بالأهمّ.

ومن أجل التعرّف على كيفيّة تطبيق هذا الشرط نأخذ الأمثلة التالية :

أن يقع التضادّ والتزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين وجوب الصلاة ، أو يقع التزاحم والتضادّ في عالم الامتثال بين وجوب الصلاة وبين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، فهنا إذا أردنا أن نعرف الملاك الأهمّ أو المساوي من الأقلّ أهمّيّة ، فلا بدّ لنا من معرفة النسبة بين الملاكين ، لكي يتمّ الترجيح بلحاظ الأهمّيّة ، وهذه المرجّحات سوف يأتي الكلام عنها مفصّلا في باب التزاحم.

ومن باب المثال نقول : إنّه إذا كان أحد المتزاحمين مشروطا بالقدرة العقليّة والآخر

ص: 69

بالقدرة الشرعيّة كان الأوّل مقدّما على الثاني وأهمّ منه ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة تكون دخيلة في الملاك ، بحيث لا يوجد ملاك مع انتفائها ، بخلاف القدرة العقليّة فإنّها القدرة التي يحكم باشتراطها العقل في كلّ تكليف.

وهذا يعني أنّ المقيّد بالقدرة الشرعيّة مقيّد أيضا بالقدرة العقليّة ولا عكس ، وحينئذ إذا امتثل التكليف المقيّد بالقدرة العقليّة ارتفع موضوع التكليف المقيّد بالقدرة الشرعيّة ؛ لارتفاع ملاكه بخلاف العكس.

وهكذا يعرف الأهمّ فيما لو دار التزاحم بين الضدّين ، وكان لأحدهما بدل وليس للآخر بدل ، فإنّ الأهمّ يكون ما لا بدل له.

وعلى كلّ حال فالنسبة بين الملاكين في التكليفين المتضادّين على نحوين :

الأوّل : أن يكون الملاكان متساويين ، فهنا يكون الشرط المذكور موجودا في كلّ منهما ، فمثلا لو فرض المساواة بين ملاك الإزالة وملاك الصلاة ، فيكون وجوب الإزالة مشروطا بعدم الاشتغال بالصلاة ، ويكون وجوب الصلاة مشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، فوجوب كلّ منهما أخذ فيه عدم الاشتغال بامتثال التكليف الآخر ، فلو كان مشتغلا فعلا بالتكليف الآخر لكان التكليف بالضد منتفيا لارتفاع موضوعه ؛ لأنّ شرطه لم يتحقّق ، وهذا ما يسمّى بالترتّب من الجانبين ، بمعنى أنّ الشرطيّة كانت في الضدّين معا.

الثاني : أن يكون أحد الملاكين أهمّ من الآخر ، فهنا تكون الشرطيّة من جانب واحد فقط ، وهو التكليف الأقلّ أهمّيّة دون التكليف الأهمّ ، فإنّه يبقى على إطلاقه من ناحية هذه الشرطيّة.

فمثلا لو فرض أهمّيّة إنقاذ الغريق على الصلاة أو على إزالة النجاسة عن المسجد ، فهنا وجوب الإنقاذ لمّا كان هو الأهمّ فهو مطلق من ناحية الشرطيّة المذكورة ، بمعنى أنّه يجب امتثاله في جميع الحالات ، أي سواء كان مشتغلا بالأقلّ أهمّيّة أم لا ، فإنّ معنى إطلاقه كونه فعليّا في كلّ الحالات ، فحتّى لو كان مشتغلا بالأقلّ أهمّيّة يكون فعليّا ويجب امتثاله ؛ لأنّ الاشتغال بالآخر الأقلّ أهمّيّة لا يرفع موضوعه ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس مقيّدا بعدم الاشتغال به ، إذ قد فرضناه مطلقا وأهمّ ، فلا يكون لتركه أي مبرّر شرعا ، ولذلك يعاقب على تركه.

ص: 70

بينما وجوب الضدّ الآخر الأقلّ أهمّيّة يكون مشروطا بعدم الاشتغال بالأهم ؛ لأنّ الشرطيّة متحقّقة هنا ؛ لأنّها تكون في كلّ تكليف يقلّ أهمّيّة أو يساوي التكليف الآخر.

فوجوب الصلاة مشروط بعدم الاشتغال بالإنقاذ ، بمعنى أنّ المكلّف لو عصى وجوب الإنقاذ لصار وجوب الصلاة فعليّا عليه ؛ لتحقّق شرطه وموضوعه. وأمّا إذا اشتغل بالأهمّ فلا فعليّة لوجوبه ؛ لعدم تحقّق موضوعه إذ المفروض انتفاء شرطه.

وهذا ما يسمّى بالترتّب من جانب واحد ؛ بمعنى أنّ الأقلّ أهمّيّة هو المشروط فقط دون الأهمّ فإنّه مطلق.

وبهذا ينتهي البحث عن أصل فكرة الترتّب ، وقد ظهر أنّها ممكنة عقلا ، وقد بيّنا شرحها مختصرا.

[ ثمرات بحث الترتّب ]

ويترتّب على ما ذكرناه من كون القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ شرطا عامّا في التكليف بحكم العقل عدّة ثمرات مهمّة :

منها : أنّه كلّما وقع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما كالصلاة والإزالة - وتسمّى بحالات التزاحم - فلا ينشأ من ذلك تعارض بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإزالة ؛ لأنّ الدليل مفاده جعل الحكم على موضوعه الكلّي وضمن قيوده المقدّرة الوجود - كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) - ومن جملة تلك القيود القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ المتقدّم ، ولا يحصل تعارض بين الدليلين إلا في حالة وجود تناف بين الجعلين ، وحيث لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة المقيّد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وجعل وجوب الإزالة المقيّد كذلك فلا تعارض بين الدليلين.

ثمرات بحث الترتّب : يترتّب على القول بإمكان الترتّب عدّة ثمرات مهمّة ، بعضها على مستوى البحث النظري الأصولي ، وبعضها على مستوى البحث العملي الفقهي :

ص: 71


1- في بحث التعارض ، تحت عنوان : التعارض بين الأدلّة المحرزة.

الثمرة الأولى : دخول التضادّ بين الواجبين في عالم الامتثال في باب التزاحم لا التعارض.

ولتوضيح هذا الأمر المهمّ نذكر تعريف التزاحم والتعارض ؛ ليتّضح لنا أنّ التضادّ بين الواجبين هل هو من مصاديق التزاحم أو من مصاديق التعارض؟

التعارض اصطلاحا : هو التنافي بين الدليلين بلحاظ عالم الجعل بحيث لا يمكن جعلهما معا ولا يمكن أن يكونا معا حجّة ؛ لمكان التكاذب والتنافي والتعاند بينهما ، كما في ( صلّ ولا تصلّ ) ، أو كما في ( أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفاسق ) ، فإنّ التنافي في المثال الأوّل بنحو التباين الكلّي ؛ لأنّ النسبة بينهما هي نسبة التناقض ، بينما في المثال الثاني هي نسبة العموم من وجه ؛ ففي مورد الاجتماع أي العالم الفاسق يقع التنافي والتعاند.

وأمّا التزاحم : فهو التنافي بين الدليلين بلحاظ عالم الامتثال ، بحيث لا يتمكّن المكلّف في مقام الامتثال من الإتيان بكلا المتعلّقين بسبب عجزه وعدم قدرته على الجمع بينهما ، كما في ( صلّ وأنقذ الغريق ) ، فإنّه لا تنافي بينهما لا في عالم المبادئ والملاكات ولا في عالم الجعل والتشريع والحجّيّة ، وإنّما بلحاظ عالم الامتثال حيث يكون الوقت ضيّقا لا يتّسع إلا لأحدهما ، فيقع التنافي بينهما والتعاند ؛ إذ مع ضيق الوقت لن يتمكّن المكلّف إلا من امتثال أحدهما فقط ولا يمكنه الجمع بينهما في الوقت.

وبعد ذلك نعود للإجابة عن السؤال المتقدّم فنقول : إنّ التضادّ بين الواجبين في عالم الامتثال - إن قلنا باستحالة الترتّب - سوف يدخل في باب التعارض ويكون باب التزاحم من صغريات باب التعارض ، فتطبّق عليه قواعد التعارض الآتية.

والوجه في دخوله في باب التعارض : أنّنا إذا بنينا على استحالة الترتّب فسوف يكون كلا الواجبين مطلقا وفعليّا حتّى لحالة الاشتغال بالآخر ، فوجوب الصلاة يكون فعليّا سواء اشتغل بالإزالة أم لا ، تمسّكا بإطلاق دليله ، ووجوب الإزالة كذلك.

وحينئذ يقع التنافي بين الوجوبين أنفسهما ، ممّا يعني أنّ الدليلين الدالّين على الوجوبين متنافيان ولا يمكن الأخذ بهما معا ولا القول بحجّيّتهما كذلك ؛ للتكاذب والتنافي بين الجعلين الذي يسري إلى الدليلين في مقام التشريع.

ص: 72

بينما إذا قلنا بإمكان الترتّب فسوف يكون الواجبان المتضادّان داخلين في باب التزاحم ، وسوف يكون باب التزاحم بابا مستقلا عن باب التعارض ، له أحكامه وقواعده الخاصّة به والمستقلّة عن قواعد أحكام التعارض.

والوجه في ذلك : هو أنّنا إذا قلنا بإمكان الترتّب فسوف يكون وجوب الصلاة مثلا مقيّدا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ووجوب الإزالة كذلك - فيما لو كانا متساويين - أو أحدهما مطلق والآخر مقيّد فيما لو كان أحدهما أهمّ من الآخر.

وعليه ، فإذا كان مشتغلا بالأهمّ أو المساوي سوف يرتفع موضوع الآخر فلا تكليف به فعلا ، فلا تنافي بين الوجوبين والجعلين ؛ لأنّ أحدهما ثابت والآخر مرتفع لعدم تحقّق موضوعه ، فيمكن الجمع بين الدليلين الدالّين على الوجوبين والأخذ بهما معا والقول بحجّيّتهما كذلك ، غايته كون الوجوب في كلّ منهما مقيّدا ومشروطا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ بحكم العقل كما تقدّم.

ولا يوجد تعارض بينهما لعدم التنافي بين الجعلين كما ذكرنا ، وإنّما التنافي بينهما بلحاظ عالم الامتثال فقط ، والذي أمكن رفعه على أساس الترتّب ، وما دام لا تنافي بين الجعلين فيهما فلا تنافي بين الدليلين الدالّين على الجعلين أيضا.

فإن قيل : كيف لا يوجد تعارض بين دليلي ( صلّ ) و ( أزل ) مع أنّ الأوّل يقتضي بإطلاقه إيجاب الصلاة سواء أزال أم لا ، والثاني يقتضي بإطلاقه إيجاب الإزالة سواء صلّى أم لا ، ونتيجة ذلك أن يكون الجمع بين الضدّين مطلوبا؟

كان الجواب علي ذلك : أنّ كلاّ من الدليلين لا إطلاق فيه بحدّ ذاته لحالة الاشتغال بضدّ لا يقلّ عنه أهمّيّة ؛ لأنّه مقيّد عقلا بعدم ذلك كما تقدّم ، فإن كان الواجبان المتزاحمان متساويين في الأهمّيّة فلا إطلاق في كلّ منهما لحالة الاشتغال بالآخر ، وإن كان أحدهما أهمّ فلا إطلاق في غير الأهمّ لذلك. وعلى كلّ حال فلا يوجد إطلاقان كما ذكر ليقع التعارض بينهما ، وهذا ما يقال : من أنّ باب التزاحم مغاير لباب التعارض ولا يدخل ضمنه ولا تطبّق عليه قواعده.

قد يشكل على ما ذكر من أنّ باب التزاحم مستقلّ في نفسه ولا يدخل في باب التعارض حتّى على القول بإمكان الترتّب بالإشكال التالي : أنّ الواجبين المتضادّين يوجد تعارض بين دليليهما ؛ وذلك لأنّ مثل دليل وجوب الصلاة ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ، )

ص: 73

ومثل دليل وجوب إنقاذ الغريق ( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) مطلق ، وإطلاقهما يشمل ما إذا كان مشتغلا بشيء آخر أم لا ، فتجب عليه الصلاة مطلقا ؛ إذ لا مقيّد في دليلها سواء اشتغل بالإزالة أو بالإنقاذ أم لم يشتغل بشيء من ذلك وكذا العكس.

وحينئذ يقع التنافي والتكاذب بين هذين الإطلاقين ؛ لأنّ المكلّف في مقام الامتثال لا يمكنه الأخذ بهما معا ، لعدم قدرته عليهما ولا بأحدهما دون الآخر لكونه ترجيحا من دون مرجّح ، فيتعيّن تساقطهما.

وهذا معناه أنّ التنافي والتضادّ في مقام الامتثال يسري إلى الدليلين أنفسهما ؛ لأنّ المطلوب من المكلّف هو الجمع بين الضدّين عملا بالإطلاق فيهما ، وحيث إنّه مستحيل فيستحيل الأخذ بهما.

والجواب عن ذلك : أنّ استحالة الجمع بين الضدّين نشأت من الحفاظ على الإطلاق في كلا الدليلين ، فإذا لم يكن فيهما إطلاق فلا مانع من الأخذ بهما معا.

وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ العقل يشترط القدرة التكوينية في كلّ تكليف بالمعنى الأعمّ المتقدّم ، فيكون كلّ تكليف مقيّدا بقيد لبّي متّصل وهو قيد القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، وهذا معناه أنّ دليل وجوب الصلاة مقيّد فيما إذا لم يكن مشتغلا بامتثال واجب آخر أهمّ أو مساو ، وهكذا بالنسبة لدليل وجوب الإزالة أو الإنقاذ فيما إذا كان مساويا في الأهمّيّة لوجوب الصلاة ، وأمّا إذا لم يكن مساويا بل كان أهمّ فيكون مطلقا من هذه الناحية.

وحينئذ لن يقع التعارض بين الدليلين في مقام الامتثال ولن يسري منه إلى الجعلين والدليلين ؛ لأنّ اشتغاله بالأهمّ أو المساوي معناه ارتفاع موضوع الدليل المساوي أو الأقلّ أهمّيّة ؛ لعدم تحقّق شرطه وقيده وهو ألاّ يكون مشتغلا بالأهمّ أو المساوي ؛ لأنّ المفروض أنّه مشتغل به بالفعل.

ومنه يظهر أنّ باب التزاحم بين الواجبين باب مستقلّ في نفسه عن باب التعارض وله أحكامه وقواعده الخاصّة به ، وليس داخلا فيه وليس من صغرياته أيضا.

وكما يكون التزاحم بين واجبين يعجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كذلك يكون بين واجب وحرام يعجز المكلّف عن الجمع بين إيجاد الواجب منهما وترك الحرام ،

ص: 74

كما إذا ضاقت قدرة المكلّف في مورد ما عن إتيان الواجب وترك الحرام معا.

التزاحم بين الواجب والحرام : وهنا يتعرّض السيّد الشهيد لمطلب أجنبي عن بيان الثمرات عرضا ، وهو ما إذا تزاحم الواجب مع الحرام كما إذا كان إنقاذ الغريق الواجب مزاحما مع امتثال حرمة الغصب ، بأن توقّف إنقاذ الغريق على المرور بالأرض المغصوبة أو على ركوب السفينة المغصوبة ، ولا يتصوّر فرض المزاحمة بين الواجب والحرام إلا إذا كان فعل الواجب متوقّفا على ارتكاب الحرام ، بحيث كان الواجب مقدّمة للحرام.

وهنا بحث مفصّل سوف يأتي في باب المقدّمة.

وحاصله أن يقال : إنّ الواجب الذي صار مقدّمة للحرام إمّا أن يكون موصّلا أو لا يكون كذلك ، والمقدّمة إمّا أن تكون واجبة أو لا تكون كذلك.

فإن لم تكن المقدّمة واجبة أصلا وقع التزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين اجتياز الأرض المغصوبة ، وحينئذ يقدّم الأهمّ ملاكا.

وإن كانت المقدّمة واجبة وقع التعارض ؛ لأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام نفسيّا بذاته ومع صيرورته مقدّمة للواجب يصبح واجبا غيريّا بالعرض ، واجتماع الحرمة والوجوب على شيء واحد يوجب التعارض بين دليل الحرمة ودليل الواجب ، فيدخل في باب التعارض ؛ لأنّ اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد يقع صغرى لباب التعارض.

وإن كانت المقدّمة الواجبة موصلة للواجب الأهمّ بحيث لا يمكن إنقاذ الغريق إلا باجتياز الأرض المغصوبة وكان إنقاذه هو الأهمّ ، فهنا سوف تسقط الحرمة عن اجتياز الأرض المغصوبة تطبيقا لقواعد التزاحم من تقديم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة ، بحيث يكون الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعدم امتثال الأمر الأهمّ.

وإن لم تكن المقدّمة موصلة فإن لم نقل بوجوب مطلق المقدّمة كان اجتياز الأرض حراما ولا يوجد ما يحول دون هذه الحرمة ؛ لأنّه لن يؤدّي إلى امتثال الواجب ، وأمّا إن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة كما هو رأي صاحب ( الكفاية ) فيكون اجتيازها وإن لم يوصل إلى الواجب الأهمّ واجبا أيضا ، فيقع التعارض بين دليل الحرمة ودليل الواجب النفسي بلحاظ الأرض المغصوبة.

ص: 75

هذا بنحو مختصر وسوف يأتي التعرّض للمطلب مفصّلا ، وكان الأنسب تأجيل هذا البحث ولو بنحو الإشارة إلى محلّه.

ومنها : أنّ القانون الذي تعالج به حالات التزاحم هو تقديم الأهمّ ملاكا على غيره ؛ لأنّ الاشتغال بالأهمّ ينفي موضوع المهمّ دون العكس ، هذا إذا كان هناك أهمّ ، وأمّا مع التساوي فالمكلّف مخيّر عقلا ؛ لأنّ الاشتغال بكلّ واحد من المتزاحمين ينفي موضوع الآخر. وإذا ترك المكلّف الواجبين المتزاحمين معا استحقّ عقابين لفعليّة كلا الوجوبين في هذه الحالة.

الثمرة الثانية : التي تترتّب على القول بإمكان الترتّب ، هي أنّ التزاحم بعد أن يصير بابا مستقلاّ عن باب التعارض سوف تكون له أحكامه وقواعده الخاصّة به ، وهي :

أوّلا : تقديم الأهمّ ملاكا على غيره فيما إذا كان أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر ، وذلك وفقا لما تقدّم سابقا من أنّه إذا كان أحد الضدّين أهمّ فسوف يكون مطلقا وفعليّا في جميع الحالات ، ويكون الضدّ الآخر المقابل له هو المقيّد فقط ؛ لأنّ الشرط غير متوفّر بالنسبة للأهمّ ؛ لأنّه كان عبارة عن عدم الاشتغال بواجب لا يقلّ عنه أهمّيّة ، والمفروض أنّ الضدّ الآخر يقلّ أهمّيّة من الأهمّ فالاشتغال به لا يرفع موضوع الأهمّ ، بخلاف الاشتغال بالأهم فإنّه يرفع موضوع المهمّ أو الأقلّ أهمّيّة.

وأمّا كيف نعرف الواجب الأهمّ من غيره فهذا ما سوف يأتي الكلام عنه مفصّلا في باب التزاحم.

وثانيا : إذا كان الضدّان متساويين في الأهمّيّة فيكون كلّ واحد منهما مشروطا بعدم الاشتغال من الآخر ؛ لأنّ الترتّب يكون من الجانبين ، وهذا يعني أنّ الاشتغال بأحدهما يرفع موضوع الآخر ، ولذلك يكون المكلّف مخيّرا بينهما ؛ إذ لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لكونه من دون مرجّح ، ولا يمكن تركهما معا ؛ لكون الترك معصية لكلّ منهما ، ولا يمكن الأخذ بهما معا لعجز المكلّف وعدم قدرته فيتعيّن التخيير.

وثالثا : أنّ المكلّف لو فرض أنّه ترك كلا الواجبين المتزاحمين لكان مستحقّا لعقابين ؛ وذلك لأنّه سوف يكون كلا الواجبين فعليّين ، فإنّه إن كان أحدهما أهمّ ففعليّته مطلقة ، سواء اشتغل بالآخر أم لا ، وإن كانا متساويين ففعليّة كلّ منهما

ص: 76

مشروطة بترك الآخر ، والمفروض هنا أنّه تركه ، فيكون المكلّف قد ترك تكليفين فعليّين فيستحقّ عقوبتين ؛ لجمعه بين المعصيتين لا لكون المطلوب منه الجمع بين الطلبين فإنّه مستحيل كما تقدّم سابقا (1).

ومنها : أنّ تقديم أحد الواجبين في حالات التزاحم بقانون الأهمّيّة لا يعني سقوط الواجب الآخر رأسا ، كما هي الحالة في تقديم أحد المتعارضين على الآخر ، بل يبقى الآخر واجبا وجوبا منوطا بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وهذا ما يسمّى بالوجوب الترتّبي ، ولا يحتاج إثبات هذا الوجوب الترتّبي إلى دليل خاصّ ، بل يكفيه نفس الدليل العامّ ؛ لأنّ مفاده - كما عرفنا - وجوب متعلّقه مشروطا بعدم الاشتغال بواجب لا يقلّ عنه أهمّيّة ، والوجوب الترتّبي هو تعبير آخر عن ذلك بعد افتراض أهمّيّة المزاحم الآخر.

الثمرة الثالثة : أنّه في باب التعارض إذا قدّم أحد الدليلين المتعارضين على الآخر من جهة وجود بعض المرجّحات فيه - إن من ناحية السند أو من ناحية الدلالة - كان الدليل الآخر ساقطا عن الحجّيّة رأسا ، ولا يمكن التعبّد والأخذ به مطلقا سواء اشتغل بالدليل الراجح أم لا ، فإنّ عصيانه وعدمه لا يؤثّر في الدليل المرجوح شيئا.

بينما في باب التزاحم إذا قدّم أحد الواجبين على الآخر كتقديم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة مثلا ، لا يعني أنّ الدليل الأقلّ أهمّيّة قد سقط عن الحجّيّة رأسا ، بحيث لم يعد ممكنا الأخذ به مطلقا ، بل يبقى على الحجّيّة المشروطة بمعنى أنّ وجوبه يبقى وجوبا مشروطا بعدم الاشتغال بالواجب الآخر الأهمّ ، كما هو مقتضى الترتّب ، ويسمّى هذا الوجوب بالوجوب الترتّبي ، ولكنّه لا يصبح وجوبا فعليّا إلا إذا ترك الاشتغال بالأهمّ ، فإنّه في حالة تركه للأهمّ يتحقّق موضوعه فيصبح فعليّا.

ص: 77


1- وبهذا يجاب عن الإشكال الذي طرحه صاحب ( الكفاية ) من استحالة الترتّب ؛ لاستلزامه تعدّد العقاب حال الترك الكاشف عن تعدّد المطلوب والمأمور به ، فإنّه وإن كان العقاب متعدّدا إلا أنّه لا يكشف عن تعدّد المطلوب والمأمور به ، فيمكن أن يكون المأمور به شيئا واحدا ولكنّ العقاب متعدّد كالواجب الكفائي مثلا حال الترك ، فإنّه شيء واحد ولكنّ العقاب على الجميع الذين كانوا حاضرين وقادرين على العمل. وهنا كذلك فإنّ المطلوب أحد المتزاحمين - أي كلاهما مشروط بترك الآخر - فهما شيء واحد ، ولكنّه لو تركهما استحقّ عقابين.

وقد يقال : إنّنا لو تصوّرنا الأمر الترتّبي بالنحو المذكور بحيث يكون مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ إلا أنّ جعله شرعا مستحيل ؛ لأنّ الشرط المأخوذ فيه يجعله مستحيلا فلا يمكن جعله ، فيحتاج إلى دليل خاصّ لإثباته ، ومثل هذا الدليل الخاصّ لا وجود له.

أمّا أنّه لا وجود لمثل هذا الدليل الخاصّ على الوجوب الترتّبي ، فلأنّ أدلّة الوجوب مطلقة بحسب لسانها من ناحية هذا الشرط.

وأمّا إنّه مستحيل جعله بهذا النحو المشروط فهو إمّا من جهة استحالة الشرط المأخوذ فيه ؛ لأنّه أمّا شرط مقارن فيبتلي بمحذور انتفاء الداعويّة ؛ لأنّه من طلب الحاصل. وأمّا شرط متقدّم فيبتلي بمحذور تغاير الزمان بين الشرط والواجب ، وأمّا لأنّه شرط متأخّر فيبتلي بمحذور الواجب المعلّق ، كما سيأتي توضيح ذلك كلّه عند الكلام عن الشرط المتأخّر.

وجوابه : أنّ نفس إمكان الترتّب عقلا يغنيه عن الدليل الخاصّ ، فلا يحتاج إثباته إلى دليل بل يكفيه دليل ثبوته وإمكانه ، لأنّ العقل لمّا حكم بتقييد التكليف بأن لا يكون مشتغلا بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه صار هذا القيد اللبّي متّصلا بالخطاب ، فيصبح وجوبه ترتّبيّا أي مشروطا بعدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ أو المساوي.

ومن نتائج هذه الثمرة : أنّ الصلاة إذا زاحمت إنقاذ الغريق الواجب الأهمّ واشتغل المكلّف بالصلاة بدلا عن الإنقاذ صحّت صلاته على ما تقدّم ؛ لأنّها مأمور بها بالأمر الترتّبي ، وهو أمر محقّق فعلا في حقّ من لا يمارس فعلا امتثال الأهمّ.

ومن النتائج العمليّة المترتّبة على القول بإمكان الترتّب والوجوب المشروط : هو أنّ المكلّف إذا دار الأمر عنده بين واجب أهمّ كإنقاذ الغريق وواجب أقلّ أهمّيّة كوجوب الصلاة أو إزالة النجاسة عن المسجد ، وفرض أنّ هذا المكلّف قد عصى التكليف الأهمّ ولم يشتغل به ، وإنّما اشتغل بالواجب الأقلّ أهمّيّة كان عمله صحيحا ؛ لأنّ هذا الواجب كان مشروطا بعدم الاشتغال بالأهمّ.

وهذا الشرط متحقّق بهذا الفرض فيكون تكليفا فعليّا بحقّه ، وامتثاله يعني امتثال المأمور به صحيحا ومجزيا ولا يحتاج إلى دليل خاصّ لإثبات صحّته وإجزائه ، بل هو

ص: 78

ثابت بنفس الوجوب الترتّبي كما تقدّم ؛ إذ المفروض أنّ الوجوب الترتّبي ثابت ولا يسقط بعدم تحقّق شرطه.

وهذا بخلاف ما لو قلنا باستحالة الترتّب ، فإنّه حينئذ سوف تكون صلاته باطلة في هذا الفرض ، ولذلك قال :

وأمّا إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه القائل بأنّ الأمرين بالضدّين لا يجتمعان ولو على وجه الترتّب ، فمن الصعب تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لأنّ صحّتها فرع ثبوت أمر بها ، ولا أمر بها ولو على وجه الترتّب بناء على وجهة النظر المذكورة.

فإن قيل : يكفي في صحّتها وفاؤها بالملاك وإن لم يكن هناك أمر.

كان الجواب : أنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر ، فحيث لا أمر لا دليل على وجود الملاك.

إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب ( الكفاية ) القائلة باستحالة الترتّب ، وأنّ الأمرين بالضدّين لا يمكن اجتماعهما ولا يمكن طلبهما ولو على وجه الترتّب ، فمن الصعب أن يحكم بصحّة الصلاة في الفرض المذكور ؛ وذلك لأنّه مع وجود الواجب الأهمّ سوف يكون الاشتغال بالصلاة الأقلّ أهمّيّة من دون أمر ؛ إذ المفروض أنّ الأمر المطلق بالصلاة مستحيل لاستلزامه طلب الجمع بين الضدّين ؛ لأنّ المفروض أيضا إنّ الإنقاذ وجوبه مطلق ، ومعنى الإطلاق كما تقدّم كونه فعليّا في جميع الحالات سواء اشتغل بغيره أم لا ، والأمر الترتّبي بالصلاة مستحيل عند صاحب ( الكفاية ) ؛ لأنّ الترتّب نفسه مستحيل عنده كما تقدّم. وحينئذ لا يبقى أمر بالصلاة ، والفعل العبادي يحتاج إلى الأمر به ليقع عباديّا ، وبالتالي ليحكم بصحّته وإجزائه.

وقد يقال : إنّه بالإمكان تصحيح الصلاة في الفرض المذكور حتّى مع القول باستحالة الترتّب ؛ وذلك لأنّ الفعل العبادي يمكن أن يقع قربيّا ومجزيا فيما إذا كان المكلّف قاصدا تحصيل الملاك الموجود فيه ، فإنّه لا يشترط دائما وقوع الفعل العبادي عن الأمر به ، بل يكفي فيه أن يكون الفعل وافيا بالملاك ؛ لأنّ كلّ أمر وراؤه ملاك فيمكنه أن يقصد الملاك كما يمكنه أن يقصد الأمر.

وفي مقامنا حيث إنّ الأمر بالصلاة يسقط لمكان التعارض بينها وبين إنقاذ الغريق ،

ص: 79

إلا أنّ ملاك الصلاة يبقى ثابتا ولا موجب لسقوطه ؛ لأنّه يقتصر في موارد التساقط بالتعارض على المقدار الذي يحلّ به التعارض وهو لا يزيد هنا عن الأمر فقط ، فسقوط المقدار الزائد مئونة إضافية لا مبرّر لها.

ولكن يجاب عن ذلك : أنّ الملاك وإن كان كافيا في بعض الحالات لإثبات صحّة العبادة وإمكان التقرّب بها حتّى مع سقوط الأمر - كما إذا كان ممنوعا من استعمال الماء لمرض ونحوه فنسي وتوضّأ ، فإنّه وإن لم يكن فيه أمر ولكنّه استوفى الملاك منه فيقع صحيحا ومجزيا مع فرض تحقّق قصد القربة منه - إلا أنّه في مقامنا حيث حكمنا بالتعارض والتساقط بين الدليلين فكما يسقط الخطاب بالصلاة يسقط الملاك أيضا لنفس نكتة التعارض ، فإنّ الملاك لا يمكن الكشف عنه إلا عن طريق الأمر والخطاب ، فإذا سقط الأمر الكاشف عن الملاك سقط الملاك المنكشف به ؛ لأنّ المدلول الالتزامي تابع في الحجّيّة للمدلول المطابقي (1).

ص: 80


1- يمكننا هنا إضافة تخريجين آخرين لتصحيح الصلاة مع فرض مخالفة الواجب الأهمّ : الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّه يوجد أمران أحدهما بالأهمّ والآخر بالجامع بين الواجبين المتضادّين ، فإذا عصى الأهمّ يكون قد عصى أحد الخطابين فيبقى الخطاب الآخر ثابتا بحقّه ، فإذا صلّى يكون قد حقّق أحد فردي الجامع المأمور به فتقع صحيحة. وجوابه : أنّه ممكن ثبوتا إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا ، فإنّه لا يوجد فيما عندنا من الآيات أو الروايات ما ظاهره مثل هذين الأمرين. الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّه يوجد أمر ونهي في موارد التزاحم بين الواجبين ، أمر بالواجب الأهمّ أو بأحد الواجبين إن كانا متساويين ، ونهي عن الجمع بين ترك كلا الضدّين الواجبين ، وفي مقامنا إذا ترك المكلّف الواجب الأهمّ يكون عاصيا لخطاب الأمر ، إلا أنّه يبقى عليه أن يمتثل لخطاب النهي ؛ وذلك بأن لا يترك الصلاة في المقام ؛ لأنّه إذا تركها مضافا إلى تركه للواجب الآخر يكون قد جمع بين ترك كلا الضدّين. وعليه ، فإذا صلى يكون قد امتثل لخطاب النهي ، فيكون مطيعا بصلاته لوجوب خطاب بها فتقع صحيحة ومجزية. وجوابه : أنّه وإن كان ممكنا ثبوتا ، إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا كما تقدّم في الجواب السابق ، مضافا إلى أنّ تحويل الأمرين بالواجبين إلى أمر ونهي على خلاف الظاهر جدّا.

ما هو الضدّ؟

ص: 81

ص: 82

ما هو الضدّ؟

عرفنا أنّ الأمر بشيء مقيّد عقلا بعدم الاشتغال بضدّه الذي لا يقلّ عنه أهمّيّة ، وانتهينا من ذلك إلى أنّ وقوع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما لا يؤدّي إلى التعارض بين دليليهما.

والآن نتساءل : ما ذا نريد بهذا التضادّ؟

والجواب : أنّنا نريد بذلك حالات عدم إمكان الاجتماع الناشئة من ضيق قدرة المكلّف ، ولكن لا ينطبق هذا على كلّ ضدّ.

تعريف الضدّ : ذكرنا سابقا أنّ كلّ تكليف مقيّد عقلا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، والتي معناها كما تقدّم ألاّ يكون المكلّف مشتغلا بامتثال تكليف لا يقلّ أهمّيّة عن التكليف الآخر.

ففي كلّ حالة يكون هناك واجبان متضادّان من جهة عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، فهذا التضادّ لا يؤدّي إلى دخول المورد في باب التعارض ، بل يقع التزاحم بينهما ، وهو يختلف عن باب التعارض من حيث القواعد والقوانين.

وأمّا الضدّ الذي أخذ عدم الاشتغال به قيدا في التكليف ، فما ذا يراد به؟

والجواب عن ذلك يظهر ضمن الأمرين التاليين ، فإنّ الضدّ لا ينطبق على أي ضدّ ، بل لا بدّ من أن يكون فيه - بالإضافة إلى الممانعة والمضادّة بينه وبين الواجب الآخر المضادّ له ، بحيث لا يمكن اجتماعهما معا من جهة عجز المكلّف عن الجمع بينهما - بعض الخصوصيّات ، وهي :

فهو أوّلا : لا ينطبق على الضدّ العامّ أي النقيض ؛ وذلك لأنّ الأمر بأحد النقيضين يستحيل أن يكون مقيّدا بعدم الاشتغال بنقيضه ؛ لأنّ فرض عدم الاشتغال بالنقيض يساوق ثبوت نقيضه ، ويكون الأمر به حينئذ تحصيلا للحاصل وهو محال.

ص: 83

ومن هنا نعرف أنّ النقيضين لا يعقل جعل أمر بكلّ منهما لا مطلقا ولا مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر. أمّا الأوّل فلأنّه تكليف بالجمع بين النقيضين ، وأمّا الثاني فلأنّه تحصيل للحاصل ، وهذا يعني أنّه إذا دلّ دليل على وجوب فعل ، ودلّ دليل آخر على وجوب تركه أو حرمة فعله ، كان الدليلان متعارضين ؛ لأنّ التنافي بين الجعلين ذاتيهما.

الخصوصيّة الأولى : هي أنّ الضدّ المبحوث عنه في باب الترتّب لا يشمل الضدّ العامّ أي النقيضين ، فإذا كان الأمر دائرا بين النقيضين استحال الترتّب بينهما ؛ وذلك لأنّه يستحيل أن يكون أحدهما أو كلاهما مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر.

وبيان ذلك : أنّ المكلّف إذا دار أمره بين النقيضين كوجوب الصلاة ووجوب تركها مثلا ، فهو إذا كان مشتغلا بأحد النقيضين كان النقيض الآخر مرتفعا لا محالة ؛ إذ يستحيل اجتماع النقيضين معا.

وهكذا إذا لم يشتغل بأحد النقيضين ، فإنّ عدم اشتغاله به يساوق تماما وقوع الآخر لا محالة ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

ومن هنا كان الأمر بأحدهما مشروطا بترك الآخر مستحيلا ؛ وذلك إمّا لأنّه يؤدّي إلى اجتماع النقيضين أو إلى طلب الحاصل ، فإنّه إذا فرض تركه لأحدهما كان الآخر واقعا منه لا محالة ، فلا معنى للأمر به لكونه تحصيلا للحاصل ، وإن فرض فعله لأحدهما كان الآخر مرتفعا ولا يمكن الأمر به لا بنحو مطلق ولا بنحو مشروط ؛ لأنّ الأمر به يعني طلبه وطلب وقوعه ، والحال أنّ النقيض ثابت ، فكيف يمكن أن يطلب من المكلّف نقيضه في فرض اشتغاله بالنقيض الآخر؟! فإنّه مستحيل ؛ لاستحالة الجمع بين النقيضين المستلزم لاستحالة طلبهما معا ، وطلبه في حال عدم وجود نقيضه طلب للحاصل فيكون لغوا ؛ لأنّه إذا ارتفع أحد النقيضين كان الآخر ضروري الثبوت ، فلا معنى طلبه لا مطلقا ولا مشروطا.

ومن هنا نعرف أنّ مسألة الترتّب لا يمكن تصوّرها بين النقيضين ، فإذا فرض وجود دليلين دلّ أحدهما على فعل ودلّ الآخر على ترك هذا الفعل وقع التعارض بين الدليلين لا محالة ؛ للتنافي بين الجعلين ذاتيهما ، ولا يدخل في مسألة التزاحم لاستحالة الترتّب كما تقدّم ، بل يدخل في باب التعارض.

ص: 84

وثانيا : لا ينطبق على الضدّ الخاصّ في حالة الضدّين اللذين لا ثالث لهما لنفس السبب السابق ، حيث إنّ عدم الاشتغال بأحدهما يساوق وجود الآخر حينئذ ، والحال هنا كالحال في النقيضين.

الخصوصيّة الثانية : هي أنّ الضدّ لا ينطبق على الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

والوجه في ذلك أنّ الضدّين : وهما الأمران الوجوديّان المتنافيان اللذان يتعاقبان على موضوع واحد ، إن لم يكن لهما ثالث فهما عمليّا في نفس حكم النقيضين ، فإن عدم الثالث لهما يعني استحالة ارتفاعهما ، فإذا ارتفع أحدهما تعيّن ثبوت الآخر ، بخلاف موارد الضدّين اللذين لهما ثالث ، فإنّهما وإن كان من المستحيل اجتماعهما إلا أنّه يمكن ارتفاعهما في الثالث ، فإن لم يكن لهما ثالث صار ارتفاعهما كاجتماعهما مستحيلا ، وهذه الخصوصيّة نفس خصوصيّة النقيضين فإنّه يستحيل اجتماعهما وارتفاعهما.

وحينئذ إذا دار أمر المكلّف بين ضدّين لا ثالث لهما ، كالجهر والإخفات في القراءة حال الصلاة أو كالقصر والتمام في الركعات حال الصلاة ، فالمكلّف إمّا إن يقع منه هذا أو ذاك ، ويستحيل أن يقع منه كلا الأمرين في وقت واحد ، كما يستحيل ألاّ يقع منه أحدهما أيضا. نعم ، الاستحالة هنا عقليّة بالنسبة للجهر والإخفات ، بينما للقصر والتمام الاستحالة ثابتة بسبب المنع الشرعي عن غير القصر والتمام.

وعلى كلّ حال فإذا ترك أحد هذين الضدّين استحال تكليفه وأمره بالضدّ الآخر لا مطلقا ولا مشروطا.

أمّا الأوّل فلأنّه يعني طلب الجمع بينهما ، وهما كالنقيضين يستحيل اجتماعهما معا ، فإنّ الأمر المطلق معناه كونه فعليّا حتّى لو كان مشتغلا بالآخر ، ولا يمكن الأمر به مشروطا بترك الآخر ؛ لأنّه ضروري الوقوع حينئذ ؛ لأنّه لا يمكن ارتفاعهما.

وعلى هذا فعجز المكلّف عن الجمع بين واجبين إنّما يحقّق التزاحم لا التعارض فيما إذا لم يكونا من قبيل النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وإلا دخلت المسألة في باب التعارض.

ويمكننا أن نستنتج من ذلك أنّ ثبوت التزاحم وانتفاء التعارض مرهون بإمكان

ص: 85

الترتّب الذي يعني كون كلّ من الأمرين مشروطا بعدم الاشتغال بمتعلّق الآخر ، فكلّما أمكن ذلك صحّ التزاحم ، وكلّما امتنع الترتّب كما في الحالتين المشار إليهما وقع التعارض.

والنتيجة : هي أنّ الضدّ المبحوث عنه في باب الترتّب هو أن يكون للضدّين ثالث يمكن ارتفاعهما به ، فإذا دار أمر المكلّف بين واجبين متضادّين فلكي يدخلان في باب التزاحم ويعقل الأمر الترتّبي بينهما يشترط ألاّ يكونا من النقيضين ولا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما في الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة مثلا ، فإنّه يمكنه رفعهما بأن لا يأتي بشيء منهما ويشتغل بشيء آخر كالنوم مثلا.

وأمّا إذا كانا من النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما فيدخل المورد في باب التعارض ؛ للتنافي فيهما بلحاظ الجعل ، فإنّه يستحيل جعلهما معا ؛ لكونه طلبا للمستحيل ، ويستحيل جعل أحدهما أو كلاهما مشروطا بترك الآخر ؛ لكونه طلبا للحاصل وهو لغو.

ومن هنا كانت الضابطة العامّة لثبوت التزاحم هي أن يكون الترتّب ممكنا ، ففي كلّ مورد يمكن فيه الترتّب بمعنى عدم الاشتغال بالآخر دخل في باب التزاحم ، وفي المورد الذي يكون فيه الترتّب بهذا المعنى مستحيلا كان المورد من موارد التعارض.

* * *

ص: 86

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة

ص: 87

ص: 88

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة

قد تكون المزاحمة قائمة بين متعلّقي أمرين على نحو يدور الأمر بين امتثال هذا أو ذاك ، كما إذا كان وقت الصلاة ضيّقا وابتلي المكلّف بنجاسة في المسجد تفوت مع إزالتها الصلاة رأسا.

وقد لا تكون هناك مزاحمة على هذا النحو ، وإنّما تكون بين أحد الواجبين وحصّة معيّنة من حصص الواجب الآخر ، ومثاله أن يكون وقت الصلاة موسّعا وتكون الإزالة مزاحمة للصلاة في أوّل الوقت وبإمكان المكلّف أن يزيل ثمّ يصلّي.

ونحن كنّا نتكلّم عن الحالة الأولى من المزاحمة.

يعقد هذا البحث لبيان حالات المزاحمة بين الواجبين ، فهل تكون سائر حالات التزاحم بين الواجبين داخلة في بحث التزاحم أم لا؟

وللإجابة عن هذا التساؤل نقول :

تارة تكون المزاحمة بين واجبين فوريّين كوجوب إنقاذ الغريق ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد.

وأخرى تكون المزاحمة بين واجبين أحدهما فوري والآخر موسّع ، ولكن ضاق وقته ، كما إذا فرضت المزاحمة بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة في آخر وقتها ، بحيث لا يتّسع المجال إلا لأحدهما فقط.

وثالثة تكون المزاحمة بين واجبين أحدهما فوري كوجوب الإزالة والآخر موسّع والوقت لا يزال متّسعا لهما ، كما إذا فرض المزاحمة بين وجوب الإزالة ووجوب الصلاة في أثناء الوقت الواسع ، بحيث يتمكّن المكلّف من الإزالة ثمّ الصلاة بكامل أركانها الاختياريّة.

وقد تكلّمنا عن الحالتين الأوّليّين سابقا وجعلناهما حالة واحدة ، وقلنا : إنّ التزاحم

ص: 89

بين الواجبين لا بدّ فيه من ملاحظة الأهمّ وتقديمه إن كان وجوبه مطلقا وكان الآخر وجوبه مشروط بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وإن لم يكن أحدهما أهمّ كانا معا مشروطين ، وأمّا الحالة الأخرى فالبحث هنا معقود لأجل بيان حكمها ولذلك قال :

وأمّا الحالة الثانية : فقد يقال : إنّه لا مزاحمة بين الأمرين لإمكان امتثالهما معا ، فإنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين الحصّة المزاحمة وغيرها ، والمكلّف قادر على إيجاد الجامع مع الإزالة ، فلا تضادّ بين الواجبين ، وهذا يعني أنّ كلاّ من الأمرين يلائم الآخر ، فإذا ترك المكلّف الإزالة وصلّى كان قد أتى بفرد من الواجب المأمور به فعلا.

وقد يقال : إنّ المزاحمة واقعة بين الأمر بالإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة للحصّة المزاحمة ، فلا يمكن أن يتلاءم الأمر بالإزالة مع هذا الإطلاق في وقت واحد.

الحالة الثانية : ما إذا كانت المزاحمة بين وجوب الإزالة الفوري والمضيّق وبين حصّة من حصص الصلاة ، كالصلاة في أوّل وقتها ، فإنّ الأمر بالصلاة في الوقت موسّع وله حصص عديدة.

وهنا توجد أقوال : فقد يقال بعدم المزاحمة بين هذين الأمرين - كما هي مقالة المحقّق الكركي القائل بأنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور - وذلك لأنّ المكلّف قادر على امتثال كلا الواجبين معا ، ومن شروط التزاحم ألاّ يكون المكلّف قادرا على امتثال كلا الواجبين معا بحيث إذا اشتغل بأحدهما فاته الآخر ، وأمّا هنا فيمكن للمكلّف امتثالهما معا ، وذلك بأن يزيل النجاسة أوّلا ثمّ يصلّي بعد ذلك.

والوجه في ذلك : أنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين حصصها أي الحصّة المزاحمة للإزالة وغيرها ، والحصّة المزاحمة وإن لم يكن المكلّف قادرا عليها - لأنّ وقتها هو وقت الإزالة الفوري إلا أنّه قادر على سائر الحصص ، والتكليف بالجامع بين المقدور وغيره مقدور ، ولا مانع منه.

وحينئذ يتمكّن المكلّف من إيجاد الجامع في غير الحصّة المزاحمة ومن إيجاد الإزالة الفوري ، ولا تضادّ بين الواجبين ، بل كلّ منهما يتلاءم مع الآخر ، وإذا لم يكن هناك تضادّ فلا تزاحم أصلا.

نعم ، إذا ترك المكلّف الإزالة واشتغل بالصلاة في أوّل وقتها عصى الأمر بالإزالة ؛

ص: 90

لأنّه فوريّ ، ولكن صلاته وقعت صحيحة لتعلّق الأمر بها ؛ لأنّ الأمر بالحصّة المزاحمة لا يزال موجودا وهو الأمر بالجامع.

وقد يقال بوقوع المزاحمة بين هذين الواجبين - كما هي مقالة الميرزا حيث ذهب إلى امتناع الأمر بالجامع بين المقدور وغيره - فإنّ الحصّة المزاحمة لا يتعلّق بها أمر ؛ لأنّه لا يمكن البعث والتحريك نحوها في فرض مزاحمتها للواجب الأهمّ الفوري أي الأمر بالإزالة ، ولذلك لا يكون هناك أمر مطلق بالصلاة في أوّل الوقت ؛ لعدم التلاؤم بين وجوب الإزالة ووجوب هذه الحصّة.

إلا أنّه لو عصى الأمر بالإزالة واشتغل بالصلاة لكانت صحيحة بناء على الترتّب ، فإنّه على القول به يكون المكلّف مأمورا بالصلاة فيما إذا لم يشتغل بالواجب الأهمّ أو المساوي.

وأمّا إذا قيل باستحالة الترتّب لم يكن بالإمكان تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لوقوع التعارض بين إطلاق وجوب الإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة الشامل لهذه الحصّة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ومع عدم الأمر تقع العبادة باطلة ، كما هي مقالة الآخوند.

والحاصل : أنّه توجد ثلاثة أقوال في هذه الحالة ، وهي :

الأول : قول الميرزا من وقوع التزاحم في الفرض المذكور ؛ لأنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ممتنع مع إمكان الترتّب.

الثاني : قول المحقّق الكركي من عدم وقوع التزاحم ولا التعارض بين الواجبين المذكورين ؛ لأنّ المكلّف بالجامع بين المقدور وغيره ممكن ، فيكون المكلّف قادرا على امتثال الواجبين فلا موضوع للتزاحم فضلا عن التعارض.

الثالث : قول الآخوند من وقوع التعارض في هذه الحالة بناء على إنكار الترتّب وكون التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ممتنعا أيضا ، فإنّه لا محالة يقع التعارض بين الجعلين ويسري إلى الدليلين.

وتحقيق الحال في هذه المسألة أن يقال :

والصحيح أن يقال : إنّ لهذه المسألة ارتباطا بمسألة متقدّمة وهي : أنّه هل يمكن التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور؟

فإن أخذنا في تلك المسألة بوجهة نظر المحقّق النائيني القائل بامتناع ذلك ،

ص: 91

وأخذنا القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ المشتمل على عدم الاشتغال بامتثال واجب مزاحم لا يقلّ عنه أهمّيّة ، كان معنى ذلك أنّ التكليف بالجامع بين الحصّة المبتلاة بمزاحم وغيرها ممتنع أيضا ، فيقوم التزاحم بين الأمر بالجامع والأمر بالإزالة ، وحينئذ يطبّق قانون التزاحم وهو التقديم بالأهمّيّة.

والتحقيق في هذه المسألة أن يقال : إنّ هذه الحالة ترتبط بما تقدّم سابقا من إمكان أو استحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره.

فإنّه إن قلنا بامتناع التكليف بهذا الجامع كما هي مقالة المحقّق النائيني ، وقلنا بإمكان الترتّب كما هو اختياره أيضا كانت النتيجة هي وقوع التزاحم.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا قلنا بامتناع التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فسوف يكون الأمر بالصلاة في أوّل الوقت غير شامل للحصّة من الصلاة المزاحمة مع الأمر بالإزالة ، لأنّ المكلّف لا يمكنه التحرّك نحوها ، والحال أنّ التكليف إنّما يجعل لأجل البعث والتحريك.

وحينئذ فإن قلنا بإمكان الترتّب وكون التكليف مشروطا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ - الذي يعني كون التكليف مقيّدا بعدم الاشتغال بالضدّ الذي لا يقلّ أهمّيّة عنه - فالنتيجة هي أنّ الأمر بالصلاة ممكن بنحو الترتّب لا مطلقا ، ولذلك لو عصى الإزالة وصلّى لصحّت صلاته.

إذا فالنتيجة هي وقوع التزاحم ولا بدّ من تطبيق قواعد التزاحم من تقديم الأهمّ على غيره (1).

ص: 92


1- وأمّا إذا قلنا بإمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره - كما هي مقالة المحقّق الكركي - فسوف لا يقع التزاحم ؛ لأنّه يمكن للمكلّف أن يمتثل كلا الواجبين فيزيل النجاسة ثمّ يصلّي ، ولكنّه لو عصى الأمر بالإزالة لوقعت صلاته صحيحة أيضا ؛ لبقاء الأمر بها فإنّ التكليف بالجامع يسري إليها أيضا في هذا الفرض لعدم سقوطه عنها ، لا من أجل الترتّب فإنّه لا موضوع له هنا ؛ إذ لا تضادّ ولا مزاحمة بين الواجبين هنا. وهذا القول لم يذكره السيّد الشهيد ولكن مقتضى المقابلة مع ما ذكره من كلام الميرزا النائيني هو ذكر الشقّ الثاني ؛ لأنّه أراد هنا بيان المسألة فكان اللازم ذكر الشقوق والمباني في مسألة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، ولكنّه اقتصر على مقالة الميرزا فقط. وعلى كلّ حال فعلى مقالة الميرزا يقع التزاحم ولا بدّ من حلّ هذا التزاحم وفقا لقواعده الخاصّة ، وهي ترجيح الأهمّ على غيره.

ولا شكّ في أنّ الأمر بالإزالة أهمّ ؛ لأنّ استيفاءه ينحصر بذلك الزمان ، بينما استيفاء الأمر بالجامع يتأتّى بحصّة أخرى ، وهذا - يعني وفقا لما تقدّم (1) - أنّ الأمر بالجامع يكون منوطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، فإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الأمر - كما عليه صاحب ( الكفاية ) - كان معنى ذلك أنّ الحصّة المزاحمة من الصلاة لا أمر بها فلا تقع صحيحة إذا آثرها المكلّف على الإزالة ، وإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الاشتغال بامتثال المزاحم - كما عليه النائيني - كان معنى ذلك أنّ الأمر بالجامع ثابت على وجه الترتّب ، فلو أتى المكلّف بالحصّة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحة.

بعد أن قلنا بوقوع التزاحم لا بدّ من تقديم الأهمّ ملاكا من الواجبين على الآخر ، وهنا لا شكّ في كون الأمر بالإزالة أهمّ من الحصّة الصلاتيّة في أوّل الوقت ؛ وذلك لأنّ الأمر بالإزالة فوري ومضيّق ، بينما الأمر بالصلاة يمكن امتثاله واستيفاء الملاك منه في حصّة أخرى غير الحصّة المزاحمة للإزالة ، فهو تكليف له بدل ، وسوف يأتي أنّ التكليف الذي لا بدل له والفوري مقدّم على ما لا بدل له وما ليس فوريّا.

ومع تقديم الأمر بالإزالة يصبح الأمر بجامع الصلاة مشروطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، كما هو مقتضى الأمر الترتّبي الناتج عن أخذ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ.

وحينئذ فنحن بين احتمالين - كما تقدّم سابقا - فإمّا أن نقول : إنّ عدم الابتلاء معناه عدم الأمر - كما هي مقالة صاحب ( الكفاية ) - فيكون التكليف بالضدّين مستحيلا سواء كانا مطلقين أو مشروطين ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر أساسا ، وهنا حيث إنّ الأمر بالإزالة هو الثابت لكونه أهمّ من حيث الملاك فيرتفع الأمر بالصلاة في فرضه ، فلا تكليف بالصلاة في وقت الإزالة ، ولذلك لو عصى وصلّى لوقعت صلاته باطلة ؛ لعدم الأمر بها والعبادة مع عدم الأمر باطلة.

بخلاف ما إذا قلنا بأنّ عدم الابتلاء معناه عدم الاشتغال - كما هي مقالة الميرزا النائيني - فإنّه في هذه الحالة سوف يكون الأمر الترتّبي بالصلاة المزاحمة ممكنا ومشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ولذلك لو عصى واشتغل بالصلاة لوقعت صحيحة لثبوت الأمر الترتّبي بها ، وقد تحقّق شرطه في هذا الفرض.

ص: 93


1- في صدر هذا البحث ، تحت عنوان : شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ.

ص: 94

التقييد بعدم المانع الشرعي

ص: 95

ص: 96

التقييد بعدم المانع الشرعي

قلنا : إنّ القانون المتّبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهمّ ملاكا ، ولكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد على ما استقلّ به العقل من اشتراط ، فقد عرفنا أنّ العقل يستقلّ باشتراط مفاد كلّ من الدليلين بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، فإذا فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطا من قبل الشارع - إضافة إلى ذلك - بعدم المانع الشرعي أي بعدم وجود حكم على الخلاف دون الدليل الآخر ، قدّم الآخر عليه ، ولم ينظر إلى الأهمّيّة في الملاك.

ومثاله : وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحجّ ، كما إذا اشترط على الشخص أن يزور الحسين علیه السلام في عرفة كلّ سنة واستطاع بعد ذلك ، فإنّ وجوب الوفاء بالشرط مقيّد في دليله بأن لا يكون هناك حكم على خلافه بلسان « أنّ شرط اللّه قبل شرطكم » (1) ، وأمّا دليل وجوب الحجّ فلم يقيّد بذلك فيقدّم وجوب الحجّ ولا ينظر إلى الأهمّيّة.

يتعرّض السيّد الشهيد في هذا المطلب إلى بيان قيد زائد على القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ في أحد المتزاحمين ، فإنّ وجود هذا القيد في أحدهما يكون مانعا من الأخذ بالقاعدة الأساسيّة في الترجيح وهي ترجيح الأهمّ ملاكا على الأقلّ أهمّيّة ، وذلك فيما إذا كان الأهمّ فيه مثل هذا القيد ، فإنّه يكون مانعا من ترجيحه على الأقلّ أهمّيّة.

وتوضيحه أن يقال : إنّ القاعدة الأساس في باب التزاحم هي ترجيح الأهمّ ملاكا على غيره - وسيأتي لا حقا الطرق التي يعرف بها الأهمّ ملاكا من غيره - إلا أنّ هذه القاعدة إنّما يؤخذ بها فيما إذا لم يكن هناك قيد زائد في الأهمّ ، فإن فرض أنّ الخطاب

ص: 97


1- وسائل الشيعة 21 : 297 ، أبواب المهور ، ب 38 ، ح 1.

الأهمّ كان مقيّدا - بالإضافة إلى القيد الذي استقلّ العقل به وهو ألاّ يكون مشتغلا بواجب أهمّ أو مساو - بعدم المانع الشرعي ، أي بعدم وجود حكم على الخلاف ، فإنّه إذا وجد الواجب الآخر على خلافه فإنّه يكون مانعا من الأخذ بالأهمّ حتّى وإن كان ذاك الواجب أقلّ أهمّيّة منه.

ومثاله : ما إذا وجب على شخص زيارة الحسين علیه السلام في يوم عرفة لنذر ونحوه ، ثمّ استطاع للحجّ قبل ذلك فصار الحجّ واجبا عليه ، فهنا وجوب الوفاء بالنذر وإن كان أهمّ ملاكا من وجوب الحجّ إلا أنّه مقيّد بعدم المانع الشرعي ؛ وذلك لأنّ مثل قوله علیه السلام : « أنّ شرط اللّه قبل شرطكم » يكون مقيّدا لأدلّة الشروط وكلّ ما علّق على شرط كالنذر ونحوه.

وهذا معناه أنّ وجوب الحجّ يعتبر مانعا شرعيّا من الوفاء بالنذر ، وحينئذ يمتنع تقديم الأهمّ ملاكا في هذه الحالة لوجود المانع الشرعي ، بينما يقدّم الواجب الأقلّ أهمّيّة لعدم وجود مثل هذا القيد فيه ، فهنا مطلبان ابدّ من بيانهما بالتفصيل :

أمّا الأوّل فلأنّه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر ؛ لأنّ وجوب الحجّ ذاته - وبقطع النظر عن امتثاله - مانع شرعي عن الإتيان بمتعلّق الآخر ، فهو حكم على الخلاف ، والمفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك ، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعليّة وجوب الحجّ.

وأمّا الثاني فلأنّ أهمّيّة أحد الوجوبين ملاكا إنّما تؤثّر في التقديم في حالة وجود هذا الملاك الأهمّ ، فإذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطا بعدم المانع الشرعي دلّ ذلك على أنّ مفاده حكما وملاكا لا يثبت مع وجود المانع الشرعي ، وحيث إنّ مفاد الآخر مانع شرعي ، فلا فعليّة للأوّل حكما ولا ملاكا مع فعليّة مفاد الآخر ، وفي هذه الحالة لا معنى لأخذ أهمّيّة ملاك الأوّل بعين الاعتبار.

أمّا المطلب الأوّل : وهو عدم تقديم الأهمّ ملاكا فيما إذا كان مقيّدا بعدم المانع الشرعي ، فلأنّ تقييده بهذا القيد معناه أنّه إذا وجد المانع الشرعي فلا يكون وجوب الأهمّ ثابتا ، وإنّما ينتفي لانتفاء موضوعه ، ومع انتفائه لا معنى لتقديمه ؛ لأنّ تقديم الأهمّ ملاكا على غيره إنّما يكون بعد فرض ثبوت وتحقّق وجوب الأهمّ. وأمّا مع عدم ثبوته فيكون الكلام عن تقديمه لغوا ولا موضوعيّة له.

ص: 98

وهنا وجوب الوفاء بالنذر أو الشرط وإن كان أهمّ إلا أنّه لمّا كان مقيّدا بعدم المانع فيكون وجوب الحجّ بنفسه - سواء كان مشتغلا به أم لا - مانعا عن ثبوت وجوب الوفاء بالنذر الأهمّ ، ومع عدم ثبوته لا معنى لتقديمه ؛ لأنّ التقديم متأخّر رتبة عن ثبوت الشيء في نفسه ، بمعنى أنّ الشيء لا بدّ أن يثبت أوّلا ثمّ يأتي الكلام في تقديمه وعدمه ، وهنا وجوب الوفاء لا ثبوت له أصلا مع وجود وجوب الحجّ المانع شرعا عن ثبوته.

وأمّا المطلب الثاني : وهو تقديم وجوب الأقلّ أهمّيّة على الأهمّ ملاكا المقيّد بعدم المانع ، فلأنّه مع فرض ثبوت وجوب الحجّ بتحقّق الاستطاعة وشروطها يصبح فعليّا ، ومع صيرورته فعليّا يتحقّق بذلك فعليّة المانع الشرعي ، ومع تحقّق المانع الشرعي الفعلي يرتفع موضوع الأهمّ ملاكا ؛ لأنّه مقيّد بعدم ثبوت هذا المانع الشرعي ، فينتفي وجود الأهمّ حكما وملاكا ، ومع انتفائه كذلك يصبح وجوب الحجّ الفعلي بلا مزاحم ؛ لأنّ مزاحمه قد انتفى في رتبة سابقة لعدم تحقّق موضوعه وشرطه أو لتحقّق المانع عنه.

وبتعبير آخر : إنّ الأهمّ ملاكا من الواجبين المتزاحمين إنّما يؤخذ به في حالة وجوده وثبوته ، ومع كونه مقيّدا بعدم المانع فلا وجود ولا ثبوت له فيما إذا تحقّق المانع ، فيكون وجوب الحجّ محقّقا لهذا المانع فينتفي موضوع الأهمّ رأسا ، ومع انتفائه كذلك لا معنى للكلام عن تقديمه لأهمّيّته ؛ لأنّه لا وجود له أصلا.

ومن هنا نصل إلى النتيجة التالية : أنّ المقيّد بالقدرة العقليّة فقط يتقدّم على المقيّد بالقدرة العقليّة والشرعيّة معا ، حتّى وإن كان أقلّ أهمّيّة منه.

وقد يطلق على الحكم المقيّد بالتقييد الزائد المفروض أنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة ، ويطلق على ما لا يكون مقيّدا بأزيد ممّا يستقلّ به العقل بأنّه مشروط بالقدرة العقليّة.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّه في حالات التزاحم يقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، فإن كانا معا مشروطين بالقدرة العقليّة جرى قانون الترجيح بالأهمّيّة.

غير أنّ نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعيّة وما يقابله قد يطلق على معنى آخر مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) ، فلاحظ ولا تشتبه.

ص: 99


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

وفي ختام الكلام عن المقيّد بالمانع الشرعي ينبّه السيّد الشهيد على بعض الأمور :

الأوّل : أنّ الواجب الذي يكون مقيّدا - بالإضافة إلى القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ - بعدم المانع الشرعي ، يطلق عليه التكليف المشروط بالقدرة الشرعيّة ، ويراد بهذا أنّه مقيّد بكلا هذين المقيّدين ، أمّا الواجب الذي لا يكون مقيّدا بهذا القيد الزائد وإنّما يكون مقيّدا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ فقط فيطلق عليه التكليف المشروط بالقدرة العقليّة ، ويراد به أنّه مقيّد بالأمر الأوّل دون المانع الشرعي.

الثاني : إذا كان هناك تزاحم بين واجبين كان أحدهما مقيّدا بالقدرة الشرعيّة بالمعنى المذكور والآخر مقيّد بالقدرة العقليّة ، قدّم المقيّد بالقدرة العقليّة على المقيّد بالقدرة الشرعيّة حتّى وإن كان الأخير أهمّ ملاكا ، فإنّه لا اعتبار حينئذ بأهمّيّة ملاكه ؛ لأنّه لا موضوع له لا حكما ولا ملاكا مع فعليّة المانع الشرعي كما تقدّم بيانه.

وأمّا إذا كانا معا مقيّدين بالقدرة العقليّة فقط ولم يكن في أحدهما تقييد زائد فيجري قانون التزاحم ويقدّم الأهمّ ملاكا على الأقلّ أهمّيّة.

الثالث : أنّ اصطلاح القدرة الشرعيّة هنا يختلف عن الاصطلاح المتقدّم للقدرة الشرعيّة ، فالقدرة الشرعيّة هنا معناها : التقييد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وبعدم المانع الشرعي ، ويقابلها القدرة العقليّة التي تعني التقييد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ فقط.

وأمّا القدرة الشرعيّة المتقدّمة في الحلقة السابقة وهنا أيضا فيراد بها كون القدرة دخيلة في الملاك والمبادئ والشوق المولوي ، ويقابلها القدرة العقليّة وهي عدم دخالة القدرة في الملاك والمبادئ.

وبهذا ينتهي البحث عن الترتّب وعن اشتراط القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ في التكليف.

ص: 100

قاعدة إمكان الوجوب المشروط

ص: 101

ص: 102

قاعدة إمكان الوجوب المشروط

للوجوب ثلاث مراحل ، وهي :

الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم. وفي كلّ من هذه المراحل الثلاث قد تؤخذ قيود معيّنة ، فاستعمال الدواء للمريض واجب مثلا ، فإذا أخذنا هذا الواجب في مرحلة الملاك نجد أنّ المصلحة القائمة به هي حاجة الجسم إليه ليسترجع وضعه الطبيعي ، وهذه الحاجة منوطة بالمرض ، فإنّ الإنسان الصحيح لا حاجة به إلى الدواء ، وبدون المرض لا يتّصف الدواء بأنّه ذو مصلحة ، ومن هنا يعبّر عن المرض بأنّه شرط في اتّصاف الفعل بالملاك ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الاتّصاف.

مقدّمة البحث : القيود والشروط تارة تكون راجعة إلى الوجوب فيكون الوجوب مشروطا ، وأخرى تكون راجعة إلى الواجب فيكون الواجب معلّقا.

فالاستطاعة مثلا شرط في وجوب الحجّ بحيث لا يكون الحجّ واجبا على المكلّف فيما إذا لم يكن مستطيعا ، والوضوء شرط في الصلاة الواجبة ، بحيث تكون الصلاة من دون وضوء أو طهارة باطلة وغير صحيحة.

وقد وقع الإشكال في إمكانيّة جعل الوجوب المشروط ، وقيل بإرجاع الشروط كلّها إلى الواجب ، ولذلك عقد السيّد الشهيد هذا البحث من أجل إثبات إمكانيّة الوجوب المشروط ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القيود والشروط نفسها تقسّم إلى قسمين : فمنها ما يسمّى بشروط وقيود الاتّصاف ، ومنها ما يسمّى بشروط وقيود الترتّب.

ولذلك أيضا بيّن السيّد الشهيد حقيقة هذه القيود وكيف يمكن أخذها في التكليف في مراحله الثلاث ؛ أي الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم.

ص: 103

والمراد من شروط الاتّصاف هو أنّ الفعل لا يتّصف بالمصلحة إلا إذا تحقّق الشرط ، فلا تكون المصلحة فعليّة إلا بعد وجود هذا الشرط.

بينما المراد من شروط الترتّب هو أنّ استيفاء المصلحة من الفعل على الوجه المطلوب منه لا يتحقّق إلا بوجود الشرط ، ومن دون هذا الشرط لا تستوفى ولا تترتّب المصلحة المرجوّة من الفعل.

وبيان هذا الأمر يستدعي البحث عن كلّ مرحلة من مراحل الوجوب ، لنرى كيف تكون القيود المأخوذة فيها ، وأنّها قيود وشروط للاتّصاف أم للترتّب؟ وبعد ذلك بحث حول إمكانيّة واستحالة الوجوب المشروط ، فنقول :

المرحلة الأولى : مرحلة الملاك ، والشروط فيها تارة تكون للاتّصاف وأخرى للترتّب.

ونطبّق الفكرة ضمن المثال التالي : استعمال الدواء واجب للمريض. ففي مرحلة الملاك نلاحظ أنّ استعمال المريض للدواء ناتج عن حاجة الجسم للشفاء من المرض لكي يعود إلى وضعه الطبيعي ، وحاجة الجسم هذه لا تتحقّق فيما إذا كان سليما من المرض ، بل تتحقّق مع وجود المرض ، بحيث لو لا وجود المرض لم يكن الجسم محتاجا إلى الدواء أصلا ، ولذلك يكون الإنسان الصحيح والسليم غير محتاج إلى الدواء ، بينما الإنسان المريض محتاج إلى الدواء ، ومن هنا كان الدواء ذا مصلحة للمريض دون الصحيح ، ممّا يعني أنّ المرض شرط وقيد لاتّصاف الدواء بالمصلحة ولولاه لم يكن فيه مصلحة أصلا.

والحاصل : وأنّ المرض شرط للاتّصاف بالمصلحة ، أي أنّه لا ملاك من دون هذا الشرط.

ثمّ إنّنا قد نفترض الشرط في هذه المرحلة للترتّب ، بمعنى أنّ المصلحة والملاك لا يستوفيان من الفعل إلا إذا تحقّق الشرط ، ومن دونه لا تستوفى المصلحة وإن كانت موجودة بالفعل ، ولذلك يقول السيّد الشهيد :

ثمّ قد نفرض أنّ الطبيب يأمر بأن يكون استعمال الدواء بعد الطعام ، فالطعام هنا شرط أيضا ولكنّه ليس شرطا في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، إذ من الواضح أنّ المريض مصلحته في استعمال الدواء منذ يمرض ، وإنّما الطعام شرط في ترتّب تلك

ص: 104

المصلحة وكيفيّة استيفائها بعد اتّصاف الفعل بها ، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضح أنّ المصلحة القائمة بالدواء لا تستوفى إلا بحصّة خاصّة من الاستعمال ، وهي استعماله بعد الطعام ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الترتّب تمييزا له عن شرط الاتّصاف ، وشرب الدواء - سواء كان مطلوبا تشريعيّا من قبل الآمر أو مطلوبا تكوينيّا لنفس المريض - له هذان النحوان من الشروط.

وأمّا تطبيق شروط الترتّب في مرحلة الملاك فتتوضّح ضمن المثال التالي :

استعمال الدواء للمريض واجب بعد تناوله الطعام أو في المساء مثلا. فهنا نلاحظ أنّ تقييد الاستعمال بكيفيّة خاصّة منه أو بفترة زمنيّة معيّنة لا ترجع إلى قيود الاتّصاف ؛ لأنّه من الواضح أنّ المريض يحتاج إلى الدواء ومصلحته فعليّة في استعمال الدواء لأجل الشفاء من المرض ؛ لأنّه ما دام المرض موجودا فالمصلحة متحقّقة في استعمال الدواء ، ولكن حيث إنّ استعمال الدواء له حصص كثيرة إن من جهة الكيف أو الكم أو الزمان ، فإذا اشترط استعماله في زمان أو كيفيّة أو كميّة معيّنة معلومة ، فهذا معناه أنّ ترتّب المصلحة المرجوّة من استعمال الدواء من أجل الشفاء من المرض لا تتحقّق ولا تترتّب ولا تستوفى إلا بعد توفّر القيد والشرط المذكور.

ممّا يعني أنّ استيفاء المصلحة من الدواء لا يكون مطلقا ، بل الاستعمال الخاصّ هو الموجب لترتّب هذه المصلحة ، بحيث لو استعمل المريض الدواء من دون هذا الشرط لم تترتّب المصلحة المرجوّة من الدواء ولم يتحقّق الشفاء أصلا.

ومن هنا كان التقييد المذكور شرطا للاستيفاء والترتّب لا للاتّصاف ؛ لأنّ الدواء يتّصف بأنّه ذو مصلحة للإنسان ما دام مريضا ؛ لأنّ المرض هو الذي يحقّق الاتّصاف بالمصلحة ، بينما كيفيّة ونوعيّة الاستعمال تحقّق الاستيفاء لهذه المصلحة.

وبهذا يتبيّن أنّ الشروط في مرحلة الملاك تارة تكون راجعة إلى اتّصاف الفعل بالمصلحة فتسمّى بشروط الاتّصاف ، وأخرى تكون راجعة إلى كيفيّة استيفاء وترتّب هذه المصلحة فتسمّى بشروط الترتّب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الفعل المطلوب فعلا تشريعيّا كطلب الآمر من مأموره ذلك ، أو أن يكون فعلا تكوينيّا كسعي الإنسان بنفسه لتحصيل الفعل ، فشرب الدواء مثلا له هذان النحوان من القيود ( الاتّصاف والترتّب ) ، سواء كان طلبه

ص: 105

من الآمر - والذي هو الطلب التشريعي - كأن يأمر المولى عبده بتناول الدواء ، أو كان طلبه من المكلّف نفسه - والذي هو الطلب التكويني - كأن يسعى المريض بنفسه لتناول الدواء من دون طلب من أحد.

وشروط الاتّصاف تكون شروطا لنفس الإرادة في المرحلة الثانية ، خلافا لشروط الترتّب فإنّها شروط للمراد لا للإرادة ، من دون فرق في ذلك كلّه بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.

فالإنسان لا يريد أن يشرب الدواء إلا إذا رأى نفسه مريضا ، ولا يريد من مأموره أن يشرب الدواء إلا إذا كان كذلك ، ولكنّ إرادة شرب الدواء للمريض أو لمن يوجّهه فعليّة قبل أن يتناول الطعام. ولهذا فإنّ المريض قد يتناول الطعام لا لشيء إلا حرصا منه على أن يشرب الدواء بعده وفقا لتعليمات الطبيب ، وهذا يوضّح أنّ تناول الطعام ليس قيدا للإرادة بل هو قيد للمراد ، بمعنى أنّ الإرادة فعليّة ومتعلّقة بالحصّة الخاصّة ، وهي شرب الدواء المقيّد بالطعام ، ومن أجل فعليّتها كانت محرّكة نحو إيجاد القيد نفسه.

المرحلة الثانية : مرحلة الإرادة ، وفي هذه المرحلة يمكننا أيضا أن نفترض شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ، ولكن شروط الاتّصاف تكون راجعة إلى الإرادة نفسها ، بينما شروط الترتّب تكون راجعة إلى المراد لا إلى الإرادة. سواء كانت الإرادة تكوينيّة أم تشريعيّة.

وتوضيح ذلك : نأخذ المثال السابق : ( استعمال الدواء واجب للمريض بعد الطعام ). فهنا قيد الاتّصاف هو المرض كما تقدّم ، وقيد الترتّب هو بعد الطعام ، فالإنسان تحصل له إرادة لشرب الدواء فيما إذا كان مريضا فعلا ، وأمّا إذا لم يكن مريضا فلا تحصل له إرادة لذلك ، سواء كانت الإرادة تكوينيّة فيما إذا كان هو نفسه رأى أنّه مريض ، أو كانت تشريعيّة فيما إذا رأى أنّ مأموره مريض فعلا. فالمرض قيد للإرادة نفسها ، وهو من شروط الاتّصاف كما تقدّم.

وأمّا قيد الترتّب أي بعد الطعام فهو ليس شرطا للإرادة نفسها ؛ لوضوح أنّ المريض فعلا له إرادة لتناول الدواء سواء تناول الطعام أم لم يتناوله. نعم ، قيد بعد الطعام شرط لترتّب المراد ، فإنّ ترتّب الشفاء مقيّد بأن يكون شرب الدواء بعد الطعام ، فيكون تناوله

ص: 106

للطعام شرطا في ذلك ، والمريض يريد أن يتناول الطعام لا لشيء سوى لحصول هذا المراد ، فكان هذا القيد شرطا في تحقّق المراد لا الإرادة.

وبتعبير آخر : إنّ الإرادة الفعليّة لتناول الدواء المتحقّقة بوجود المرض فعلا ثابتة وفعليّة قبل تناول الطعام ، وهي التي تحرّك المريض نحو تناول الطعام لأجل استيفاء المراد من شرب الدواء وهو الشفاء ، فلأجل أنّ الإرادة فعليّة في رتبة سابقة تحدث للمريض فعليّة ومحرّكيّة نحو تحقيق القيد وهو بعد الطعام ، لأجل الحصول على المراد الذي لا يتحقّق إلا بهذا القيد الذي هو الحصّة الخاصّة الذي تعلّقت به الإرادة ؛ لأنّ المريض له إرادة فعليّة لإيجاد الحصّة الخاصّة من شرب الدواء لا شربه مطلقا ، بل شربه المقيّد بتناول الطعام والذي به يتحقّق المراد.

والحاصل : نّ قيود الاتّصاف ترجع إلى الإرادة فهي لا تكون فعليّة إلا بوجود هذه القيود ، بينما قيود الترتّب ترجع إلى المراد ؛ لأنّ الإرادة تكون فعليّة قبلها وهي التي تدعو إلى إيجادها وتحقيقها من أجل استيفاء وحصول المراد بالفعل بعد تحقّقها.

غير أنّ الإرادة التي ذكرنا أنّها مقيّدة بشروط الاتّصاف ليست منوطة بالوجود الخارجي لهذه الشروط ، بل بوجودها التقديري اللحاظي ؛ لأنّ الإرادة معلولة دائما لإدراك المصلحة ولحاظ ما له دخل في اتّصاف الفعل بها لا لواقع تلك المصلحة مباشرة ، وما أكثر المصالح التي لا تؤثّر في إرادة الإنسان لعدم إدراكه ولحاظه لها.

وهنا تساؤل يجيب عنه السيّد الشهيد ، وحاصله : أنّ الإرادة المنوطة بشروط الاتّصاف هل هي منوطة بها بوجودها الخارجي أم بوجودها اللحاظي التقديري؟

والجواب : أنّ قيود الاتّصاف الراجعة إلى الإرادة تكون بوجودها التقديري اللحاظي شروطا في تحقّق الإرادة لا بوجودها الخارجي ، فالمرض مثلا بوجوده التقديري اللحاظي يكون سببا لحدوث الإرادة لشرب الدواء سواء كان الإنسان مريضا فعلا وحقيقة أم لا ؛ لأنّه يكفي أن يتصوّر نفسه مريضا ويعتقد بذلك حتّى تحدث في نفسه الإرادة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الإرادة معلولة لإدراك المصلحة ، فما دام المكلّف يرى أنّ المصلحة في تناول الدواء فيما إذا كان مريضا فسوف تحدث له إرادة تناول الدواء بمجرّد أن يعتقد ويتصوّر أنّه مريض ولو كان اعتقادا مخطئا ؛ لأنّه ما دام تصوّر أنّه

ص: 107

مريض وكان يعلم بأنّ تناول الدواء فيه مصلحة للشفاء فسوف تنقدح في نفسه إرادة تناوله حتما وقهرا ؛ لأنّ المعلول يتحقّق قهرا فيما إذا تحقّقت علّته ، وهنا المصلحة معلومة ومتصوّرة فيتّبعها جزما الإرادة.

ولا يمكن أن تكون الإرادة تابعة لقيود الاتّصاف بوجودها الخارجي ؛ إذ من الواضح أنّ الإنسان المريض واقعا وحقيقة ولكنّه لا يعلم بأنّه مريض سوف لا تنقدح في نفسه إرادة شرب الدواء ، ممّا يعني أنّ الوجود الواقعي والخارجي لقيود الاتّصاف ليست هي المؤثّرة في حصول الإرادة ، وإلا للزم أن تحصل له الإرادة حتّى مع جهله بأنّه مريض ، وهذا واضح البطلان وجدانا.

بل إنّ كثيرا من المصالح تفوّت على الإنسان لا لشيء سوى لجهله وعدم إدراكه ولحاظه لها مع كونها موجودة بالفعل خارجا.

نعم ، تختلف شروط الاتّصاف الراجعة إلى الملاك عن تلك الراجعة إلى الإرادة ، ولذلك قال :

فشروط الاتّصاف بوجودها الخارجي دخيلة في الملاك ، وبوجودها التقديري اللحاظي دخيلة في الإرادة فلا مصلحة في الدواء إلا إذا كان الإنسان مريضا حقّا ، ولا إرادة للدواء إلا إذا لاحظ الإنسان المرض وافترضه في نفسه أو فيمن يتولّى توجيهه.

وفي ختام البحث حول هذه النقطة يظهر الفرق بين شروط الاتّصاف الراجعة إلى الملاك والتي تكون بوجودها الخارجي الحقيقي قيدا في اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة ، فإنّ الإنسان لا يكون شرب الدواء ذا مصلحة وملاك له إلا إذا كان مريضا حقيقة وفعلا ، ولا يكفي مجرّد تصوّره وافتراضه ولحاظه للمرض في اتّصاف الفعل بالملاك ؛ لأنّ الملاك والمصلحة من الأمور التكوينيّة الحقيقيّة ، فلا بدّ أن يكون سببها موجودا حقيقيّا أيضا.

وهذا بخلاف قيود الاتّصاف الراجعة إلى الإرادة ، فإنّها بوجودها التقديري اللحاظي الافتراضي تكون سببا لحدوث الإرادة ، فإنّ الإنسان إذا اعتقد بأنّه مريض تحدث في نفسه إرادة شرب الدواء سواء كان مريضا حقيقة أم لا ، وأمّا إذا كان مريضا حقيقة ولكنّه لم يعلم بذلك فسوف لا تحدث له الإرادة المذكورة.

ص: 108

ولذلك صحّ القول بأنّ قيود الاتّصاف بوجودها الواقعي الحقيقي تكون دخيلة في الملاك ، وبوجودها اللحاظي التقديري تكون دخيلة في الإرادة سواء كانت إرادة تكوينيّة أم إرادة تشريعيّة.

ونفس الفارق بين شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ينعكس على المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة جعل الحكم ، فقد علمنا سابقا أنّ جعل الحكم عبارة عن إنشائه على موضوعه الموجود ، فكلّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود في موضوع الحكم ، وتعتبر شروطا للوجوب المجعول ، وأمّا شروط الترتّب فتكون مأخوذة قيودا للواجب.

المرحلة الثالثة : مرحلة جعل الحكم ، وفي هذه المرحلة أيضا يمكننا أن نفترض شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ، ولكن شروط الاتّصاف تكون راجعة للوجوب المجعول بنحو الفرض والتقدير ، بينما شروط الترتّب تكون راجعة إلى الواجب نفسه.

وتوضيحه أن يقال : نأخذ المثال السابق : ( استعمال الدواء واجب على المريض بعد الطعام ). فهنا المرض شرط لاتّصاف استعمال الدواء بالوجوب ، فالإنسان إذا كان مريضا يجب عليه استعمال الدواء ، بخلاف الإنسان الصحيح والمعافى فإنّه لا يجب عليه ذلك ، فلو لا وجود المرض لم يتّصف استعمال الدواء بالوجوب.

ولكن حيث إنّ للوجوب مرحلتين : إحداهما مرحلة جعل الحكم على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، والأخرى مرحلة الحكم المجعول والوجوب الفعلي بعد تحقّق موضوعه في الخارج ، فتكون شروط الاتّصاف مأخوذة في الوجوب بلحاظ المرحلة الأولى ، أي الحكم المفترض على موضوعه المقدّر ، وهو ما يسمّى بالجعل أو بالحكم الإنشائي.

وهذا معناه أنّ هذه الشروط مأخوذة في موضوع الوجوب بنحو الفرض والتقدير ، ويكون المراد أنّ الوجوب ثابت في فرض ثبوت المرض ، فلا يصبح الوجوب فعليّا في المرحلة الثانية إلا إذا صار المرض فعليّا ، أي اعتقد المكلّف بأنّه مريض فعلا ، سواء كان مريضا حقيقة وواقعا أم كان مخطئا في تشخيصه.

ومع فعليّة المرض يصبح الوجوب فعليّا على المكلّف ، ويخرج من مرحلة الجعل إلى مرحلة الحكم المجعول ؛ ولذلك تكون شروط الاتّصاف شروطا للوجوب المجعول

ص: 109

أيضا ، بمعنى أنّ فعليّة الوجوب لا تتحقّق إلا بعد أن تصبح شروط الاتّصاف فعليّة أيضا.

والحاصل : أنّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود بلحاظ الحكم والوجوب الإنشائي - أي مرحلة الجعل - فلا وجوب أصلا إذا لم يكن هذا الشرط مفترضا ، ولكن هذا الوجوب لا يصبح فعليّا ولا يخرج إلى مرحلة الحكم المجعول ، إلا إذا صارت شروط الاتّصاف فعليّة أيضا ، بأن رأى الإنسان نفسه مريضا مثلا.

تماما كما هو الحال في أخذ الاستطاعة في وجوب الحجّ ، فإنّ وجوب الحجّ بمعنى الوجوب الإنشائي في مرحلة الجعل قد أخذ فيه الاستطاعة ، بحيث لو لا الاستطاعة لم يكن الحجّ واجبا أصلا ، ولكن وجوب الحجّ الفعلي وخروجه من مرحلة الجعل إلى مرحلة المجعول والفعليّة تتوقّف على فعليّة الاستطاعة بأن يرى المكلّف نفسه مستطيعا بالفعل ، ولا يكفي افتراض الاستطاعة وتقديرها هنا.

وأمّا شروط الترتّب ، ففي المثال المذكور يكون قيد بعد الطعام من شروط الواجب نفسه لا الوجوب ؛ وذلك لأنّ الوجوب ثابت وفعلي عند حدوث المرض ، وأمّا تناول الطعام فهو قيد لتحصيل الغرض من استعمال الدواء وهو الشفاء ، فلأجل أن يترتّب الشفاء من استعمال الدواء الواجب على المريض لا بدّ أن يكون هذا الاستعمال بعد الطعام لا مطلقا ، فبعديّة الطعام قيد للاستعمال من أجل أن يترتّب الغرض منه وهو الشفاء وليست قيدا لأصل وجوب تناول الدواء ، فإنّه فعلي لفعليّة المرض.

وحينئذ يكون المراد أنّ تناول الدواء بعد الطعام هو الواجب على المريض ، فالوجوب مطلق من جهة هذا القيد ، ولكنّ التناول هو المقيّد به ، بحيث يكون الوجوب منصبّا على الحصّة الخاصّة من التناول لا مطلقه.

وبهذا اتّضح أنّ شروط الاتّصاف راجعة إلى الوجوب ، بينما شروط الترتّب راجعة إلى الواجب أي متعلّق الوجوب.

ولتوضيح المطلب أكثر قال السيّد الشهيد :

وإذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقّة ، وميّزنا بين الجعل والمجعول - كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) - نجد أنّ الجعل باعتباره أمرا نفسانيّا منوط ومرتبط بشروط

ص: 110


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

الاتّصاف بوجودها التقديري اللحاظي - كالإرادة تماما - لا بوجودها الخارجي ، ولهذا كثيرا ما يتحقّق الجعل قبل أن توجد شروط الاتّصاف خارجا.

وأمّا فعليّة المجعول فهي منوطة بفعليّة شروط الاتّصاف بوجودها الخارجي ، فما لم توجد خارجا كلّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم لا يكون المجعول فعليّا.

وأمّا شروط الترتّب فتؤخذ قيودا في الواجب تبعا لأخذها قيودا في المراد.

وبهذا نعرف أنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط الاتّصاف ؛ لأنّه مشروط بها في عالم الجعل.

في هذه النقطة يبيّن السيّد الشهيد الفرق بين الجعل والمجعول في كيفيّة أخذ القيود فيهما ، وعلى ضوء ذلك سوف تندفع الإشكالات الواردة حول إمكانيّة الوجوب المشروط كما سيأتي. ولذلك يقول : إنّ جعل الحكم له مرحلتان هما : الجعل والمجعول كما تقدّم في الحلقة الثانية.

فالجعل : عبارة عن الحكم الإنشائي على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، فالشارع يفترض الموضوع مع ما فيه من قيود وشروط وخصوصيّات ثمّ يجعل الحكم عليه ، فيكون الحكم منوطا ومرتبطا بها.

بينما المجعول : عبارة عن الحكم الفعلي الثابت على موضوعه الموجود فعلا في الخارج ، فما لم يوجد الموضوع في الخارج لا يكون الوجوب فعليّا.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الحكم في مرحلة الجعل عبارة عن الأمر الإنشائي النفساني ؛ لأنّه موجود فعلا في عالم اللحاظ وفي ذهن المولى ، أي في عالم الجعل والتشريع ، وهو بهذا الاعتبار منوط ومرتبط ومقيّد بشروط الاتّصاف كما تقدّم ، ولكن بوجودها التقديري اللحاظي أيضا ؛ لأنّ ما هو في الذهن وفي عالم الفرض والتقدير لا يكون مرتبطا إلا بما هو موجود في نفس ذاك العالم واللحاظ ، ممّا يعني أنّ شروط الاتّصاف تؤخذ مفترضة الوجود ومقدّرة ثمّ يناط بها الوجوب ، ولو لا افتراضها وتقديرها لم يكن الوجوب ثابتا أصلا.

تماما كما هو الحال بالنسبة لشروط الاتّصاف المأخوذة في الإرادة ، فإنّ الإرادة لمّا كانت أمرا نفسانيّا فهي لا تناط إلا بما يكون موجودا في النفس أيضا.

ممّا يعني أنّ شروط الاتّصاف لا بدّ أن تكون مقدّرة ومفترضة الوجود في النفس

ص: 111

لتحصل الإرادة ؛ ولو لا ذلك لا تحدث الإرادة أصلا ، حتّى لو كانت تلك الشروط موجودة فعلا في الخارج ، ولكن ما لم تكن موجودة في النفس أيضا فلا أثر لها ؛ لأنّ الوجود الواقعي للشرط لا يسبّب حصول ما هو منوط به ما لم تكن معلومة وموجودة في الذهن أو النفس ، ولذلك يكون الوجوب ثابتا وموجودا عند افتراض وتقدير شروط الاتّصاف ، أي بوجودها اللحاظي والذهني سواء وجدت في الخارج أم لا.

بل إنّ الوجوب في مرحلة الجعل يكون ثابتا حتّى لو لم تتحقّق شروط الاتّصاف في الخارج أصلا ؛ لأنّه ليس مرتبطا بها.

فوجوب الحجّ مثلا ثابت على فرض تحقّق الاستطاعة ، وهذا الوجوب ثابت في عالم الجعل والتشريع على المكلّف المستطيع بنحو تكون الاستطاعة مفترضة ومقدّرة الوجود ، وهذا الوجوب الثابت لا يتأثّر بوجود الاستطاعة في الخارج أو عدم وجودها كذلك ؛ لأنّه ليس مرتبطا بالخارج أصلا ، وإنّما هو مرتبط بما هو موجود في الذهن والنفس واللحاظ فقط ، والاستطاعة قد أخذت في موضوع الحكم مفترضة ومقدّرة الوجود ، فهي موجودة فعلا في عالم اللحاظ والتقدير ، ولذلك فالجعل ثابت.

نعم ، الحكم المجعول الفعلي لا يتحقّق ولا يثبت إلا إذا صارت شروط الاتّصاف فعليّة في الخارج ؛ لأنّ الحكم المجعول هو الوجوب الذي يصبح فعليّا على المكلّف وهو لا يكون كذلك إلا إذا صار موضوعه فعليّا أيضا ، فلا بدّ إذا من أن توجد شروط الاتّصاف في الخارج أو أن تصبح فعليّة على المكلّف ليصبح الحكم فعليّا.

ولذلك لا حكم فعلي ولا وجوب مجعول على المكلّف ما دامت شروط الاتّصاف لم تتحقّق في الخارج.

وبهذا يتّضح أنّ الحكم في مرحلة الجعل ثابت لثبوت شروط الاتّصاف معه في عالم اللحاظ والفرض والتقدير أو عالم الجعل والتشريع ، وهو لا يتأثّر بوجود الشروط في الخارج أو عدم وجودها كذلك ، بينما الحكم في مرحلة المجعول لا ثبوت له إلا إذا تحقّقت شروط الاتّصاف في الخارج وصارت فعليّة ، فإنّه حينئذ يصبح فعليّا. هذا كلّه بالنسبة لشروط الاتّصاف.

ص: 112

وأمّا شروط الترتّب فهي كما تقدّم مأخوذة في الواجب تماما كما هي مأخوذة في المراد ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت وفعلي ولا يتأثّر أصلا بوجود شروط الترتّب أو عدم وجودها. نعم هو يدعو إلى إيجادها.

فإنّ تناول الدواء إذا صار واجبا على المكلّف بسبب مرضه ، وكان التناول مقيّدا بتناول الطعام أوّلا ، كان هذا الوجوب الفعلي داعيا ومحرّكا إلى إيجاد هذا القيد ، ولذلك يجب على المريض أن يتناول الطعام أوّلا من أجل أن تترتّب المصلحة والغرض من استعمال الدواء الواجب عليه في رتبة سابقة.

وهذا يعني أن شروط الترتب لا علاقة لها بالوجوب أصلا ، لا على مستوى الجعل ولا على مستوى المجعول ، كما هو الحال في المراد فإنّ القيود الراجعة إليه لا مدخليّة لها في الإرادة لا سلبا ولا إيجابا كما تقدّم سابقا.

وعلى أساس التفرقة بين الوجوب في مرحلة الجعل والوجوب في مرحلة المجعول ، نقول : إنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل أن تتحقّق شروط الاتّصاف في الخارج وتصبح فعليّة ، فهو مقيّد بها ثبوتا وانتفاء ، فإذا تحقّقت شروط الاتّصاف وصارت فعليّة كان الوجوب المجعول ثابتا وفعليّا ، وإذا لم تتحقّق فلا وجوب مجعول على المكلّف وإن كان الوجوب في عالم الجعل ثابتا ؛ إذ لا يكفي للفعليّة والتنجيز والتكليف كما تقدّم في محلّه.

وبهذا يعرف أنّ الوجوب المشروط ممكن ؛ لأنّ المقصود به هو أنّ الوجوب المجعول الفعلي مشروط بتحقّق شروط الاتّصاف وصيرورتها فعليّة في الخارج ، وما يقال من استحالته غير صحيح ، ولذلك قال :

وأمّا ما يقال : من أنّ الوجوب المشروط غير معقول ؛ لأنّ المولى يجعل الحكم قبل أن تتحقّق الشروط خارجا فكيف يكون مشروطا؟ فهو مندفع بالتمييز بين الجعل والمجعول ، والالتفات إلى ما ذكرناه من إناطة الجعل بالوجود التقديري للشرط ، وإناطة المجعول بالوجود الخارجي له.

إشكال ودفعه : استشكل على إمكان الوجوب المشروط بأنّ الوجوب فعل للمولى ؛ لأنّ الوجوب من الأمور الاعتباريّة الشرعيّة التي بيد الشارع جعلها ، وحينئذ فالمولى إمّا أن يجعل

ص: 113

الوجوب أو لا ، فإذا جعل الحكم فهو ثابت في عالم التشريع ، فكيف يكون مشروطا بتحقّق القيود والشروط في الخارج؟

وبتعبير آخر : إنّ المولى إذا أراد الوجوب فإرادته فعليّة فلا معنى لإناطته بالشرط ؛ لأنّ ذلك يعني أنّ الوجوب ليس مرادا للمولى بعد ، وهو خلف.

والجواب : أنّ التمييز المتقدّم بين الجعل والمجعول يوضّح وجه المغالطة في الإشكال ، فإنّ ما هو فعل للمولى هو الوجوب في مرحلة الجعل ، وهناك يكون الجعل ثابتا ومتحقّقا لافتراض موضوعه وتقديره ، والتي منها شروط الاتّصاف أيضا ، وهذا الحكم والوجوب ثابت سواء وجدت الشروط في الخارج أم لا.

بينما الحكم والوجوب المجعول هو المتوقّف على تحقّق القيود والشروط في الخارج ، فإذا تحقّقت في الخارج كان الوجوب فعليّا ومجعولا وإلا فلا وجود للوجوب الفعلي المجعول ، وهذا الوجوب المجعول الفعلي تابع وجودا وانتفاء لتحقّق قيوده ، والمفروض أنّه منوط بها بلحاظ وجودها الخارجي كما تقدّم ، ولكن سواء تحقّقت هذه القيود أم لا فالوجوب في مرحلة الجعل لا يتأثّر بوجود المجعول أو بعدم وجوده.

والحاصل : أنّ الوجوب في مرحلة الجعل ثابت دائما ، ولا يتأثّر بالقيود والشروط في الخارج وجودا وعدما ، وأمّا الوجوب في مرحلة المجعول فهو الذي يتأثّر بالقيود وجودا وعدما في الخارج ، وما هو فعل للمولى هو الأوّل دون الثاني (1).

ص: 114


1- إلا أنّه يمكن أن يقال هنا بأنّ الوجوب المشروط وإن كان ممكنا في نفسه ولكن لا على أساس التفرقة بين الجعل والمجعول ؛ إذ لا يوجد بالدقّة هذان النحوان من الجعل للحكم ، بل لا يوجد إلا جعل واحد وحكم واحد ، وهذا الحكم والجعل الواحد المنصبّ على موضوعه المقدّر الوجود إذا تحقّقت قيوده في الخارج صار فعليّا على ذمّة المكلّف ، وإذا لم تتحقّق قيوده في الخارج فلا يكون فعليّا على المكلّف ولا يطالب به ولا يكون مسئولا عنه. وحينئذ نقول : إنّ هذا الحكم والجعل الواحد إمّا أن يكون مطلقا أي منصبّا على موضوع من دون أخذ قيود أخرى فيه ، وإمّا أن يكون مأخوذا فيه مضافا إلى الموضوع بعض القيود والخصوصيّات ، ففي الحالة الأولى يكون الوجوب مطلقا كوجوب الصلاة على كلّ مكلّف بالغ عاقل مثلا ، وفي الحالة الثانية يكون الوجوب مشروطا كوجوب الحجّ على المستطيع مثلا ، ولا فرق بين الحالتين في كون الوجوب أو الجعل واحدا وثابتا في عالم الجعل والتشريع ، وفي كونه لا يصبح فعليّا إلا إذا تحقّقت قيوده وشروطه وموضوعه في الخارج.

وبهذا ينتهي البحث عن إمكان الوجوب المشروط ، وقد ظهر ممّا تقدّم أنّه ممكن.

وأمّا ثمرة البحث عن إمكان الوجوب المشروط وامتناعه فتظهر في بحث مقبل (1) إن شاء اللّه تعالى.

حاصل الثمرة أن يقال : إنّ من ينكر الوجوب المشروط ويقول بامتناعه يرجع القيود كلّها إلى الواجب ، فيكون الوجوب فعليّا من أوّل الأمر ويكون المكلّف مسئولا عن إيجاد المقدّمات التي يفوت الواجب لو لا وجودها ، والمحرّك لذلك هو الوجوب الفعلي ، بينما من يؤمن بالوجوب المشروط لا يرى المكلّف مسئولا عن المقدّمات التي ترجع إلى الوجوب ؛ لأنّه قبل وجودها لا فعليّة للوجوب فلا يكون محرّكا نحو إيجادها وتحقيقها ، إلا إذا كانت مفوّتة دائما كما في بعض الحالات (2).

ص: 115


1- تحت عنوان : المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.
2- وتوضيح ذلك ضمن المثال التالي : وجوب الغسل على الجنب قبل طلوع الفجر في شهر رمضان ، فعلى إنكار الوجوب المشروط فالوجوب فعلي من حين هلال شهر رمضان ، فيحرّك نحو الغسل. بينما على القول بإمكان الوجوب المشروط قد يقال بأنّ وجوب الصوم للغد يبدأ من حين طلوع الفجر لا قبله ، فلما ذا يجب الاغتسال قبله؟ ولكن يجاب بأنّه يوجد وجوبان : وجوب لصوم الشهر من حين طلوع الهلال ، ووجوب لصوم كلّ يوم يوم وهو يبدأ من حين طلوع الفجر إلى الغروب ، أو يقال : إنّ هذا الشرط للواجب أي للصوم الواجب فيجب تحصيله ؛ لأنّ الوجوب يكون منصبّا على صوم اليوم من شهر رمضان مع الطهارة من الحدث الأكبر. وسوف يأتي مزيد توضيح وبيان لهذه الثمرة في الأبحاث اللاحقة.

ص: 116

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات

اشارة

ص: 117

ص: 118

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات

تنقسم المقدّمات الدخيلة في الواجب الشرعي إلى ثلاثة أقسام :

هناك عدّة تقسيمات للمقدّمة :

منها : تقسيم المقدّمات إلى وجوبيّة ووجوديّة.

فمقدّمات الوجوب هي المقدّمات التي يكون الوجوب مشروطا ومقيّدا بها بحيث قبل حصولها لا وجوب ، بخلاف المقدّمات الوجوديّة فإنّها ممّا يتوقّف عليه وجود المأمور به في الخارج بعد ثبوت الوجوب في مرتبة سابقة.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة.

فالمقدّمات التي لم تؤخذ في لسان الدليل الشرعي بل كان العقل يحكم بها فهي مقدّمات عقليّة ، كقطع المسافة بالنسبة للسفر إلى الحجّ الواجب. وأمّا إذا أخذت في لسان الدليل الشرعي فهي مقدّمات شرعيّة كالاستطاعة والطهارة ، وإذا لم تكن من هذين النوعين بل كان هناك ارتباط بحسب العادة والعرف بين الشيء والمقدّمة سمّيت المقدّمة عاديّة ، أي أنّ هذا الفعل عادة يتحقّق عن طريق المقدّمة مع إمكان الانفكاك بينها ، كنصب السلّم للصعود على السطح مثلا ، فإنّه بالإمكان الصعود من دونه.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى داخليّة وخارجيّة.

فالمقدّمات الداخليّة هي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها كأجزاء الصلاة من ركوع وسجود ونحوها ، والمقدّمات الخارجيّة هي الأمور الخارجة عن الماهيّة المأمور بها ، ولكنّها متوقّفة عليها فتكون واجبا غيريّا كما سيأتي.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى مقدّمة الوجوب ومقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة ، فالأولى هي نفسها مقدّمات الوجوب والثانية والثالثة مرادفة لمقدّمات الواجب.

ص: 119

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى الشرط المتقدّم والمتأخّر والمقارن.

فالغسل الليلي الذي هو شرط لصحّة صوم المستحاضة شرط متأخّر ، وكذا الإجازة بالنسبة لصحّة عقد الفضولي بناء على الكشف أيضا ، والاستقبال شرط مقارن لصحّة الصلاة. بينما الشرط المتقدّم هو سائر القيود المأخوذة التي يتوقّف على وجودها وجود الواجب.

وعلى كلّ حال فالبحث هنا معقود من أجل الإجابة عن السؤال التالي ، وهو : متى يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد وتحصيل القيود والمقدّمات؟

ومن أجل الإجابة عن هذا التساؤل يقسّم السيّد الشهيد المقدّمات والقيود إلى أقسام ثلاثة ، ثمّ يذكر الفرق بينها ، ثمّ يعود ليبيّن مسئوليّة المكلّف حول هذه القيود.

وأمّا أقسام المقدّمات ، فهي :

الأوّل : المقدّمات التي تتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، وهي إنّما تكون كذلك بالتقييد الشرعي ، وأخذها مقدّرة الوجود في مقام جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ؛ لأنّ الوجوب حكم مجعول تابع لجعله ، فما لم يقيّد جعلا بشيء لا يكون ذلك الشيء دخيلا في فعليّته ، وتسمّى هذه المقدّمات بالمقدّمات الوجوبيّة ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ.

القسم الأوّل : المقدّمات الوجوبيّة :

وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، بحيث إذا تحقّقت فيصبح الوجوب فعليّا ، وأمّا قبل تحقّقها فالوجوب وإن كان ثابتا في عالم الجعل والتشريع إلا أنّه لا يكون فعليّا ولا داخلا في عهدة المكلّف.

وهذه المقدّمات الوجوبيّة إنّما تكون كذلك بسبب أخذ الشارع لها في مقام الجعل والتشريع ، فيأخذ هذه القيود والمقدّمات بنحو الفرض والتقدير ثمّ يجعل الحكم على موضوعه مقيّدا بها ؛ لأنّ جعل الحكم إنّما هو على أساس القضيّة الحقيقيّة التي يكون الموضوع فيها مفترضا ومقدّر الوجود.

وما دام قد أخذ في موضوع الحكم بعض القيود والمقدّمات في عالم الجعل ، فإنّ الحكم في عالم الفعليّة يكون تابعا لتحقّق هذه القيود ؛ لأنّ الحكم في عالم المجعول تابع في وجوده لما هو مأخوذ فيه بلحاظ عالم الجعل ، وهو إمّا أن يكون مطلقا غير

ص: 120

مقيّد بشيء من القيود والمقدّمات ، وإمّا أن يكون قد أخذ فيه بعض القيود والمقدّمات ، فمع أخذها فيه تكون دخيلة في الوجوب الفعلي المجعول ، بخلاف ما إذا لم يقيّد الحكم بشيء فإنّه يكون فعليّا بنحو مطلق.

مثال ذلك : تقييد وجوب الحجّ بالاستطاعة ، فإنّ هذا الوجوب لا يصبح فعليّا ولا مجعولا على ذمّة المكلّف ولا داخلا في عهدته ومسئوليّته إلا إذا تحقّقت الاستطاعة.

وأمّا قبل تحقّقها فلا يكون لدينا إلا وجوب الحجّ بنحو الوجوب الجعلي والشأني فقط ، بخلاف ما إذا لم يكن هذا القيد مأخوذا في الوجوب ، فإنّه لا يكون الوجوب مقيّدا ولا مشروطا ، بل هو وجوب مطلق من هذه الناحية.

الثاني : المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بسبب أخذ الشارع لها قيدا في الواجب وتسمّى بالمقدّمات الشرعيّة الوجوديّة ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

القسم الثاني : المقدّمات الوجوديّة ، أي مقدّمات الواجب.

وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي ، أي متعلّق الوجوب وهو الواجب ، وأمّا الوجوب فيفترض أنّه فعلي ومطلق من ناحية هذه المقدّمات ، بمعنى أنّه سواء وجدت هذه المقدّمات والقيود أم لم توجد فالوجوب فعلي ، ومقدّمات الواجب هذه أو المقدّمات الوجوديّة تنقسم إلى قسمين : أحدهما المقدّمات الوجوديّة أو مقدّمات الواجب التي أخذت قيدا في الواجب من قبل الشارع ، بحيث لو لم يأخذها الشارع كذلك لكان المكلّف مختارا في تطبيق المأمور به على أي نحو أراد ، ولكن بسبب أخذ الشارع لهذه القيود صار المطلوب من المكلّف حصّة خاصّة من الواجب لا مطلق الواجب ، ولذلك كان أخذ الشارع لهذه القيود في الواجب يعني تحصيص الواجب إلى حصص والأمر بالحصّة الخاصّة وهي الحصّة الواجدة للقيد دون غيرها.

ومثاله : الأمر بالصلاة عن طهارة ، فإنّ وجوب الصلاة تامّ وفعلي عند زوال الشمس ، بحيث إنّ المكلّف سواء كان على طهارة أم لا فهو مطالب بوجوب الصلاة.

نعم ، حينما يريد امتثال الأمر الشرعي يجب عليه أن يصلّي عن طهارة لا مطلق

ص: 121

الصلاة ولو من دون طهارة ، أي الحصّة الخاصّة من الصلاة وهي الصلاة المقيّدة بالطهارة ، فيجب عليه تحصيل الطهارة لكون هذا القيد مطلوبا منه شرعا.

الثالث : المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بدون أخذها قيدا من قبل الشارع ، كقطع المسافة إلى الميقات بالنسبة إلى الحجّ الواجب على البعيد ، ونصب السلّم بالنسبة إلى من وجب عليه المكث في الطابق الأعلى ، وتسمّى بالمقدّمات العقليّة الوجوديّة.

القسم الثالث :

القسم الثالث : هو المقدّمات الوجوديّة أو مقدّمات الواجب التي يحكم بها العقل ، وهي القسم الثاني من مقدّمات الواجب ، وهذه المقدّمات أيضا غير مأخوذة في الوجوب ، وإنّما هي مقدّمات لامتثال متعلّق الوجوب أي الواجب ، إلا أنّها لم تؤخذ في لسان الدليل الشرعي ، فالشارع لم يأخذ هذه القيود والمقدّمات في دليل الحكم ، وإنّما يحكم بها العقل من جهة توقّف امتثال الأمر الشرعي عليها.

وهذا التوقّف إمّا أن يكون كذلك دائما وإمّا أن يكون عادة ، مع كون كلا النحوين من هذه القيود والمقدّمات ثابتا بلحاظ الواقع والتكوين والخارج.

فمثلا إذا وجب الحجّ على المستطيع وصار فعليّا عليه وكان منزله بعيدا ، فامتثال الحجّ الواجب في وقته يتوقّف على وجوده في الميقات ، ممّا يعني أنّ الكون في الميقات أو الذهاب والسفر إلى الميقات مقدّمة وجوديّة ، بحيث لا يتمكّن من امتثال الواجب ولا من إيجاده إلا بالسفر إلى الميقات.

وهكذا إذا وجب على شخص المكث في مكان عال فإنّ الصعود إلى هذا المكان على السلّم أو أي شيء آخر واجب ؛ لأنّه مقدّمة وجوديّة لهذا الواجب بحيث لو لم يصعد لم يتحقّق منه الواجب أصلا.

وإنّما سمّيت بالمقدّمات الفعليّة الوجوديّة تمييزا لها عن المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة ، وإلا فالعقل يحكم بوجوب تحقيق هذه القيود في كلا النحوين كما هو واضح.

وبالمقارنة بين هذين القسمين من المقدّمات الوجوديّة نلاحظ : أنّه في مورد المقدّمة الشرعيّة الوجوديّة قد تعلّق الأمر بالمقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات المقيّد والتقيّد ، وأنّ المقدّمة المذكورة مقدّمة عقليّة للتقيّد ، بينما نجد أنّ المقدّمة العقليّة الوجوديّة هي مقدّمة لذات الفعل.

ص: 122

الفرق بين القسمين الأخيرين : يظهر الفرق بين القسمين بلحاظ كيفيّة الأمر الشرعي ، ففي مورد المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة كالطهارة التي أخذت قيدا في الصلاة ، نجد أنّ الأمر قد تعلّق بالمقيّد أي بالصلاة عن طهارة لا بذات الفعل ، والمقيّد بالتحليل يرجع إلى الأمر بذات المقيّد أي بذات الصلاة وإلى الأمر بالتقيّد ، أي بكون هذه الصلاة عن طهارة ، وليس هناك أمر تعلّق بالقيد أي بالطهارة ابتداء.

ومن هنا كان المطلوب من المكلّف إيجاد التقيّد إلى ذات الفعل ، فإنّه لو جاء بالمقيّد وحده أي بذات الصلاة لم يكن ممتثلا للمأمور به ، ولذلك يجب عليه إيجاد التقيّد ولكن هذا التقيّد لا يحصل إلا بالإتيان بالطهارة ( من وضوء أو غسل أو تيمّم ) ، فيكون الإتيان بالطهارة مقدّمة ولكن لا لذات المقيّد ولا لكونه قيدا مأمورا به ، بل لكونه مقدّمة لتحصيل التقيّد ، فإنّ تقيّد الصلاة بكونها صلاة عن طهارة لا يتمّ ولا يتحقّق إلا إذا جاء المكلّف بالطهارة ، فالطهارة ليست علّة أو بمثابة العلّة للصلاة ، وإنّما هي علّة أو بمثابة العلّة لإيجاد التقيّد المأمور به شرعا.

والحاصل : أنّ المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة لمّا كانت عبارة عن تحصيص الواجب والأمر بالحصّة الخاصّة منه كان ذلك معناه أنّ المطلوب هو الفعل الخاصّ أي المقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات الفعل مع التقيّد بحسب التحليل ، فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد التقيّد مضافا إلى الفعل والمفروض أنّ التقيّد لا يحصل إلا بإيجاد القيد فيكون إيجاد القيد مقدّمة لحصول التقيّد والتقيّد هو المقدّمة لحصول الواجب المأمور به.

بينما في موارد المقدّمات العقليّة الوجوديّة لا يكون هناك إلا أمر بذات الفعل فقط ، والمقدّمة ترجع مباشرة إلى الفعل ذاته ، فالسفر إلى الميقات قيد للحجّ الواجب أي ذات الفعل ، والصعود إلى المكان العالي عند طريق السلّم أو غيره مقدّمة للواجب نفسه وهو نفس الكون والمكث في ذاك المكان ، وليس هناك شيء آخر يتوسّط بينهما.

وبهذا ينتهي الكلام حول تقسيم المقدّمات والقيود ، وبعد ذلك يدخل السيّد الشهيد في صلب البحث والموضوع الأساس ، وهو الإجابة عن التساؤل المتقدّم ، وهو أنّ المكلّف متى يكون مسئولا عن تحصيل المقدّمات؟ ولذلك قال :

والكلام تارة يقع في تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدّمات ،

ص: 123

وأخرى في تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى في جعل المقدّمة من هذا القسم أو ذاك.

الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدّمات ، بمعنى أنّه في أي نوع من المقدّمات يكون مسئولا عن إيجاده وتحصيله؟ ومتى لا يجب عليه تحصيله ولا يكون مسئولا عنه؟

وهذا معناه أنّه يوجد ضابط وملاك على أساسه تتحدّد مسئوليّته وعدمها.

المقام الثاني : في تحديد الضابط الذي على أساسه يجعل الشارع المقدّمة وجوبيّة أو وجوديّة شرعيّة أو وجوديّة عقليّة ، في محاولة لاستكشاف الملاك الذي يسير عليه الشارع.

أمّا تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه المقدّمات فحاصله : أنّ الوجوب - وكذلك كلّ طلب - لا يكون محرّكا نحو المقدّمات الوجوبيّة ، ولا مدينا للمكلّف بها ؛ لأنّه لا يوجد إلا بعد تحقّقها فكيف يكون باعثا على إيجادها؟! وإنّما يكون محرّكا نحو المقدّمات الوجوديّة بكلا قسميها ؛ لأنّه فعلي قبل وجودها فيحرّك لا محالة نحو إيجادها تبعا لتحريكه نحو متعلّقه ، بمعنى أنّ المكلّف مسئول عقلا من قبل ذلك التكليف عن إيجاد تلك المقدّمات ، وهذا التحريك يبدأ من حين فعليّة التكليف المجعول ، فقبل أن يصبح التكليف فعليّا لا محركيّة له نحو المقدّمات تبعا لعدم محرّكيّته نحو متعلّقه ؛ لأنّ المحرّكيّة من شئون الفعليّة.

أمّا المقام الأوّل : فمسئوليّة المكلّف تجاه القيود والمقدّمات إنّما تكون فيما إذا كانت من المقدّمات الوجوديّة بكلا قسميها ، دون ما إذا كانت من المقدّمات الوجوبيّة.

وبيان ذلك : أنّ المقدّمات الوجوبيّة إنّما يجب تحصيلها على المكلّف فيما إذا كان هناك ما يحرّك ويدعو إلى ذلك ، وهذا المحرّك ليس هو إلا الأمر والوجوب ، ولذلك فيفترض وجود الأمر والوجوب ليحرّك نحو هذه المقدّمات ، ويكون داعيا للمكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ، وفي هذه الحالة لو فرض ثبوت الوجوب وكونه فعليّا فهذا معناه أنّ هذه المقدّمات ليس مقدّمات وجوبيّة ؛ لأنّ المقدّمات الوجوبيّة هي ما يتوقّف

ص: 124

عليه الأمر الشرعي ، والمفروض أنّه ثابت من دونها ، فهذا الافتراض خلف حقيقة المقدّمات الوجوبيّة.

وأمّا إذا لم يكن الوجوب ثابتا ولا فعليّا فهذه المقدّمات وإن كانت مقدّمات وجوبيّة إلا أنّه لا يوجد ما يحرّك المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ؛ لعدم وجود الأمر والوجوب ، فكيف يمكن أن يكون الوجوب باعثا ومحرّكا نحوها وهو غير موجود بعد؟! فإنّ هذا الافتراض معناه تأثير المعدوم في الموجود وهو مستحيل عقلا ؛ إذ فرض عدم ثبوت الوجوب يعني افتراض عدمه ومعه فلا يكون له أي تأثير على المقدّمات من تحريك وباعثيّة.

وبهذا يظهر أنّ المقدّمات الوجوبيّة لا يمكن أن يكون المكلّف مسئولا عنها ولا يحكم العقل بوجوب تحصيلها ؛ لأنّها قبل الوجوب والأمر لا يوجد الداعي والمحرّك نحوها ، وبعده يفترض فعليّة الوجوب ومعه لا يكون متوقّفا عليها ، وتخرج عن كونها مقدّمات وجوبيّة ، وهو خلف.

وأمّا المقدّمات الوجوديّة - سواء العقليّة كقطع المسافة أو الشرعيّة كالطهارة - فيكون المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ؛ لأنّ الوجوب يفترض كونه ثابتا وفعليّا لتحقّق موضوعه وما هو دخيل فيه وبعد فعليّته فهو يدعو إلى إيجاد متعلّقه ؛ لأنّ كلّ وجوب وكلّ طلب يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، والمتعلّق للوجوب هو الواجب ، فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد الواجب ومطالبا به ويستحقّ الإدانة والعقاب على تركه ، ولمّا كان هذا الواجب متوقّفا على تلك المقدّمات فالعقل يحكم بلزوم تحصيلها وإيجادها ؛ وذلك لوجود المحرّك والباعث نحو ذلك ، وهو الوجوب والأمر الشرعي الثابت والفعلي.

فالأمر بوجوب الصلاة المقيّدة بالوضوء والمقيّد بالزوال يصبح فعليّا إذا زالت الشمس ، وبعد زوالها يصبح المكلّف مسئولا عن إيجاد متعلّق الوجوب أي الصلاة المقيّدة لا ذات الصلاة كما تقدّم ، ومن أجل إيجاد هذا التقيّد لا بدّ من تحصيل القيد وهو الوضوء فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمة الوجوديّة للواجب ومطالبا بها ، والمحرّك لذلك هو وجوب الصلاة الذي صار فعليّا بالزوال.

إلا أنّ الوجوب إنّما يحرّك نحو إيجاد المقدّمات الوجوديّة فيما إذا صار فعليّا كما

ص: 125

ذكرنا ، وفعليّته إنّما تبدأ فيما إذا تحقّقت سائر الشروط والقيود والمقدّمات المأخوذة فيه ، ومن جملتها الزمان كالزوال مثلا ، فإذا تحقّقت سائر الشروط باستثناء قيد الزمان لم يكن المكلّف مسئولا عن إيجاد مقدّمات الواجب قبل فعليّة زمان الوجوب ، وذلك لعدم وجود المحرّك والباعث لذلك فلا يحكم العقل بلزوم تحصيلها وإيجادها ، فالوضوء مثلا لا يجب على المكلّف إيجاده قبل الزوال ؛ لأنّه قبل الزوال لا يكون الوجوب فعليّا فلا تكون المحرّكيّة والباعثيّة موجودة ؛ لأنّهما من شئون الفعليّة.

وبهذا اتّضح أنّ المكلّف مسئول بحكم العقل عن إيجاد مقدّمات الواجب سواء كانت شرعيّة أم عقليّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الوجوب فعلي فيكون محرّكا نحو إيجاد متعلّقه ، والمفروض أنّ هذه المقدّمات راجعة إلى المتعلّق الذي هو الواجب ، بخلاف مقدّمات الوجوب فإنّ المكلّف ليس مسئولا عنها ؛ لأنّه قبل الوجوب لا يوجد المحرّك والباعث نحوها ، وبعده فيفترض حصولها وتحقّقها وإلا لم تكن مقدّمات وجوبيّة.

نعم ، هناك حالة وهي فيما إذا كانت المقدّمات مشتركة بين الوجوب والواجب فهل يجب تحصيلها أم لا؟ والجواب :

وإذا اتّفق أنّ قيدا ما كان مقدّمة وجوبيّة ووجوديّة معا امتنع تحريك التكليف نحوه ؛ لتفرّعه على وجوده ، وإنّما يكون محرّكا - بعد وجود ذلك القيد - نحو التقيّد وإيقاع الفعل مقيّدا به.

وهنا مطلب : إذا فرض أنّ بعض المقدّمات كانت مشتركة بين الوجوب والواجب فكانت مقدّمات وجوبيّة ومقدّمات وجوديّة أيضا ، فهل يجب على المكلّف إيجادها وتحصيلها أم لا؟

والجواب : أنّ هذا الفرض ملحق بالمقدّمات الوجوبيّة بمعنى أنّ المكلّف ليس مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمات المشتركة.

والوجه في ذلك واضح إذ فرض كونها مقدّمة للوجوب يعني أنّ الوجوب متوقّف عليها في وجوده وفعليّته ، فقبل وجوده لا محرّك نحو إيجادها وتحصيلها ، وبعد وجوده يفترض حصولها وتحقّقها وإلا لم تكن مقدّمة له ؛ لأنّه يستحيل وجود ذي المقدّمة من دون المقدّمة الموقوف عليها وجوده.

ص: 126

نعم ، بعد تحقّق هذه المقدّمات يصبح الوجوب فعليّا فيحرّك نحو إيجاد المتعلّق ، والمفروض أنّه مقيّد بتلك المقدّمة ممّا يعني أنّ المكلّف مسئول عن إبقاء تلك المقدّمة وإيقاع الواجب مقيّدا بها لا بعد زوالها.

فمثلا مقدّميّة الزوال قد أخذت قيدا للوجوب وللواجب معا ، فوجوب الصلاة لا يكون ثابتا ولا فعليّا إلا بعد زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس صار الوجوب فعليّا ووجبت الصلاة ، وهذه الصلاة مقيّدة أيضا بالزوال ، فإنّه لا يصحّ إيقاعها قبل الزوال ولا يكون امتثالها كذلك امتثالا للواجب الأدائي المأمور به شرعا. فالمكلّف مطالب بعد الزوال بأن يوقع الصلاة مع هذا القيد ، أي مطالب بالتقيّد أي بالصلاة عن زوال لا بالصلاة مطلقا.

وأمّا تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى فهو : أنّ كلّ ما كان من شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك فيأخذه قيدا للوجوب لا للواجب ، فيصبح مقدّمة وجوبيّة.

والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه لمّا كان شرطا في الاتّصاف فلا يهتمّ المولى بتحصيله ، بينما لو جعله قيدا للواجب وكان الوجوب فعليّا قبله لأصبح مقدّمة وجوديّة ، ولكان التكليف محرّكا نحو تحصيله ، فيتعيّن جعله مقدّمة وجوبيّة.

وأمّا المقام الثاني : فتحديد الضابط لجعل المقدّمات وجوبيّة تارة ووجوديّة أخرى هو أن يقال : هناك نوعان من القيود والشروط ، أحدهما شروط الاتّصاف والآخر شروط الترتّب.

فشروط الاتّصاف تكون مأخوذة في أصل وجود المصلحة والإرادة ، ولذلك فهي تجعل مقدّرة الوجود حين جعل الحكم ، بينما شروط الترتّب تكون مأخوذة لأجل استيفاء المصلحة وتحصيلها وهي دخيلة في المراد ، ولذلك فهي شروط خارجيّة للحكم المجعول.

وبناء على ذلك نقول : إنّ ما كان من المقدّمات والقيود راجعا إلى شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك والمصلحة أو الإرادة تكون مأخوذة في الوجوب ، وتعتبر مقدّمات وجوبيّة لا وجوديّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ شروط الاتّصاف معناها أنّ المصلحة والملاك متوقّفة على

ص: 127

وجود تلك الشروط في رتبة سابقة ولو بنحو الفرض والتقدير ، فما لم تكن هذه المقدّمات والقيود موجودة ومأخوذة في عالم الجعل والتشريع فلا مصلحة ولا إرادة ، وبالتالي لا وجوب أصلا ، وما دام الوجوب متوقّفا عليها فقبل وجودها لا يكون المولى مهتمّا بتحصيل هذه القيود ؛ لأنّه لا يوجد ما يحرّك المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ، وإنّما على فرض وجودها وتحصيلها يكون الوجوب ، وبتبعه المصلحة والإرادة ثابتا وفعليّا.

وبكلمة أخرى : إنّه قبل وجود هذه القيود لا توجد مصلحة ولا إرادة للمولى ، ومع عدمهما لا يكون المولى مهتمّا بوجودها وتحصيلها في الخارج من المكلّف ؛ لأنّه لا يوجد ما يدعوه إلى ذلك ؛ لأنّه لا إرادة له ومع عدم الإرادة لا يحصل الشوق المولوي تجاهها.

بخلاف ما لو كانت هذه القيود راجعة إلى الواجب ، فإنّها في هذه الحالة تكون من المقدّمات الوجوديّة ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت وفعلي في رتبة سابقة لثبوت وفعليّة موضوعه ، فيكون محرّكا وباعثا نحو تحصيلها ، ويكون المكلّف مسئولا ومطالبا بها ومدانا على عدم الإتيان بها ، إلا أنّ هذا يعني خروجها عن الفرض المذكور ؛ لأنّها سوف تصبح من شروط الترتّب إذ المفروض أنّ شروط الاتّصاف لا ترجع إلى الواجب وإنّما ترجع إلى الوجوب كما تقدّم.

والحاصل : أنّ فرض القيود والمقدّمات من شروط الاتّصاف يلزم منه لا محالة أن تكون من المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّه قبل وجودها لا وجوب ولا مصلحة ولا إرادة فلا تكون هناك مسئوليّة على المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها.

وأمّا ما كان من شروط الترتّب فهو على نحوين :

أحدهما : أن يكون اختياريّا للمكلّف ، وفي هذه الحالة يأخذه المولى قيدا للواجب ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيله.

والآخر : أن يكون غير اختياري ، وفي هذه الحالة يتعيّن أخذه قيدا للوجوب إضافة إلى أخذه قيدا للواجب ، ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به ؛ إذ مع الاقتصار كذلك يكون التكليف محرّكا نحوه ومدينا للمكلّف به ، وهو غير معقول ؛ لعدم كونه اختياريّا.

ص: 128

ذكرنا أنّ قيود الاتّصاف تكون من المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّ المولى لا يهتمّ بتحصيلها.

وأمّا إن كانت القيود والمقدّمات من شروط الترتّب أي راجعة إلى الواجب والمراد والحكم المجعول الفعلي ، فهذه لا تخلو من أحد أمرين :

أحدهما : أن تكون هذه المقدّمات والقيود اختياريّة للمكلّف وداخلة ضمن قدرته ، بحيث يكون مختارا وقادرا على تحصيلها أو على تركها وإعدامها ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك ما يمنع المولى من جعلها قيودا وجوديّة ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيلها.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذه القيود لمّا كانت من شروط الترتّب فهذا معناه أنّ الوجوب فعلي في رتبة سابقة ، والمكلّف صار مسئولا عن إيجاد متعلّق الوجوب أي الواجب ، وهو متوقّف على هذه المقدّمات.

والمفروض أنّ المكلّف قادر على إيجادها لكونها اختياريّة ومقدورة له ، وحينئذ يكون المولى مهتمّا بتحصيل المكلّف لها ؛ لأنّ المقتضي للتحرّك وهو الوجوب موجود وهو ثابت وفعلي ولا يوجد ما يمنع من هذا التحرّك ؛ لكون المطلوب التحرّك نحوه مقدور وواقع تحت سلطة واختيار المكلّف ، ومع عدم التحرّك سوف يترك المكلّف المصلحة ؛ لأنّها لا تستوفى إلا بالإتيان بالواجب ومقدّماته ، وترك المصلحة مع كونها فعليّة ومنجّزة ممّا لا يرضى المولى به ، بل يكون مدانا على ذلك ومستحقّا للعقاب.

والآخر : أن تكون المقدّمات والقيود غير اختياريّة للمكلّف ، فهنا يقع التضادّ بين المقتضي والمانع ؛ وذلك لأنّ فرض هذه القيود من شروط الترتّب معناه أنّ الوجوب فعلي سابقا ، ممّا يعني وجود المحرّك والباعث للمكلّف نحو تحصيل هذه القيود والمقدّمات.

ولكن لمّا كانت هذه القيود والمقدّمات غير اختياريّة للمكلّف فهو غير قادر على إيجادها وتحصيلها ، ومع عدم القدرة لا يكون المكلّف مخاطبا ولا مسئولا ولا مدانا على الترك ؛ لأنّه لا يمكن التكليف بما لا يطاق وبما لا يقدر عليه ، وهذا معناه عمليّا أنّ المكلّف لن يتحرّك نحو تحصيل هذه القيود والمقدّمات بسبب وجود المانع العقلي التكويني من تحصيلها ، وهو عدم القدرة لكونها غير اختياريّة.

ومن أجل ذلك يجمع المولى بين هذين الأمرين - المقتضي والمانع -. فبلحاظ وجود

ص: 129

المقتضي للتحرّك وهو الوجوب الفعلي لكون هذه القيود من شروط الترتّب تكون هذه المقدّمات مقدّمات وجوديّة ، ولكن بلحاظ المانع من تحصيلها وإيجادها - وهو عدم قدرته ؛ لكونها غير اختياريّة - تكون مقدّمات وجوبيّة في النتيجة العمليّة والأثر ، ولذلك تكون هذه المقدّمات وجوبيّة ووجوديّة معا.

ولا يمكن أن تكون مقدّمات وجوبيّة فقط ؛ لأنّها ليست دخيلة في المصلحة ولا في الإرادة وإنّما هي شروط لترتّب المصلحة ولتحقّق المراد ، ولا يمكن أن تكون مقدّمات وجوديّة فقط ؛ لأنّ هذا معناه تكليف المكلّف بها وجعله مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ، والمفروض أنّه غير قادر على ذلك ؛ لعدم قدرته ولكونها خارجة عن اختياره وسلطنته.

وبهذا يتّضح أنّ الضابط في جعل شيء قيدا للوجوب أحد أمرين : إمّا كونه شرط الاتّصاف ، وإمّا كونه شرط الترتّب مع عدم كونه مقدورا.

والنتيجة النهائيّة على ضوء ما تقدّم : هي أنّ الضابط لجعل القيود والمقدّمات من المقدّمات الوجوبيّة هو كونها من شروط الاتّصاف بالتوضيح المتقدّم ، أو كونها من شروط الترتّب ولكنّها غير مقدورة للمكلّف وخارجة عن اختياره.

وأمّا إذا كانت من شروط الترتّب وكانت مقدورة للمكلّف فهي من المقدّمات الوجوديّة للواجب.

* * *

ص: 130

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

ص: 131

ص: 132

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

[ أو مبحث الشرط المتأخّر ]

القيد - سواء كان قيدا للحكم المجعول أو للواجب الذي تعلّق به الحكم - قد يكون سابقا زمانا على المقيّد به ، وقد يكون مقارنا.

فالقيد المتقدّم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان الذي هو قيد لوجوب الصيام ، مع أنّ هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر. والقيد المقارن للحكم من قبيل الزوال بالنسبة إلى الصلاة. والقيد المتقدّم للواجب من قبيل الوضوء بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء لا بحالة مسبّبة عنه مستمرّة. والقيد المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.

مقدّمة البحث : القيود والشروط والمقدّمات تقدّم أنّها إمّا قيود للوجوب وإمّا قيود للواجب.

وبتعبير آخر : إمّا أن تكون راجعة إلى الحكم المجعول ، أو راجعة إلى المتعلّق الذي انصبّ عليه الحكم. ومن الواضح أنّ الشروط في كلا النحوين بمثابة العلّة أو جزء العلّة.

أمّا قيود الوجوب فهي بمثابة العلّة ؛ لأنّ الوجوب متوقّف ثبوته في عالم الجعل والتقدير على افتراضها وتقديرها ، وفي عالم المجعول والفعليّة على تحقّقها ووجودها في الخارج.

وأمّا قيود الواجب فهي شروط للصحّة وللامتثال وسقوط الأمر وبراءة الذمّة ، والخروج عن العهدة والمسئوليّة ، ولذلك فهي إن تحقّقت سقط الأمر وتحقّق الامتثال ، وحكم بصحّة ما جاء به فهي بمثابة الجزء الأخير من العلّة وليست هي تمام العلّة ؛ لأنّ المطلوب والمأمور به مركّب من الواجب ومن الشرط أي من المقيّد والتقيّد.

ص: 133

ثمّ إنّ هذه القيود - الراجعة إلى الحكم أو إلى الواجب - إمّا أن تكون متقدّمة أو تكون مقارنة ، فالقيد المتقدّم على الحكم والوجوب من قبيل هلال شهر رمضان فإنّه قيد متقدّم على وجوب الصوم ؛ لأنّه قبل تحقّق الهلال بإحدى الطرق الشرعيّة كالرؤية والبيّنة والشياع ... إلى آخره لا وجوب للصوم ، ممّا يعني أنّ هذا القيد بمثابة العلّة للوجوب ، فإذا تحقّق الهلال صار الصوم واجبا ، ولكنّه لا يبدأ من حين ثبوت الهلال ، بل من حيث طلوع الفجر ، وهكذا الحال بالنسبة لقيديّة الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ ، فإنّها قيد متقدّم للوجوب ، والوجوب لا يبدأ إلا من حين اليوم الثامن من ذي الحجّة.

وأمّا القيد المقارن للحكم : فهو من قبيل زوال الشمس بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّه لا وجوب للصلاة قبل الزوال ، فإذا زالت الشمس تحقّق الوجوب في نفس الآن الذي يحدث به الزوال ، فبالزوال يتحقّق القيد والمقيّد معا ولا تفاوت بينها من ناحية الزمان وإن كان هناك اختلاف بينهما في الرتبة ؛ لأنّ القيد متقدّم في الرتبة على المقيّد ، وإن كانا متّحدين في الزمان أو متقارنين معا ، كما هو الحال في تحقّق الانفتاح عند فتح الباب بالمفتاح ، فإنّ عمليّة إدارة المفتاح باليد مقارنة لانفتاح الباب.

وهكذا أيضا بالنسبة لطلوع الفجر وصلاة الصبح ، فإنّ طلوع الفجر قيد مقارن للوجوب أي لوجوب صلاة الصبح.

وأمّا القيد المتقدّم على الواجب فهو من قبيل الوضوء بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء لا بحالة مسبّبة عن الطهارة ، فإنّه بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء فيكون الوضوء قيدا متقدّما على الواجب ؛ لأنّه يحصل قبل الصلاة وينتهي قبلها أيضا ؛ لأنّ الوضوء عبارة عن الغسلات والمسحات وهي أفعال تحدث وتنتهي ، وليس الوضوء هنا قيدا للوجوب ؛ لأنّ وجوب الصلاة يبدأ من حين الزوال كما هو واضح.

نعم ، لو قلنا بأنّ الصلاة مقيّدة بالحالة المسبّبة عن الوضوء وهي الطهارة فهنا تكون الطهارة شرطا مقارنا للواجب ؛ لأنّ هذه الحالة التي تحدث عن الوضوء تبقى موجودة حال الصلاة ؛ لأنّه لا تجوز الصلاة مع الحدث ولا تصحّ إلا مع الطهارة.

ومن قبيل قيديّة الوضوء أو الغسل بالنسبة للطواف ؛ لأنّه كالصلاة ، ومن قبيل

ص: 134

قيديّة الختان في صحّة الحجّ ؛ فإنّه قيد متقدّم على الحجّ بمعنى أنّه يجب تحقّقه قبل الحجّ الواجب.

وأمّا القيد المقارن للواجب : فهو من قبيل الاستقبال حال الصلاة ، فإنّه يشترط في الصلاة استقبال القبلة ، وهذا القيد يجب تحقّقه من حين الشروع في الصلاة الواجبة إلى حين الفراغ منها ، فهو شرط وقيد مقارن لها ، وهكذا بالنسبة للطهارة التي تحصل بالوضوء أو الغسل أو التيمّم فيما إذا قلنا بأنّ الشرط هو الطهارة لا نفس الأفعال.

وهذان النوعان من القيود - المقارنة والمتقدّمة - سواء كانت راجعة إلى الحكم أو إلى متعلّق الحكم لا إشكال في إمكانهما ووقوعهما أيضا.

أمّا القيود المقارنة للوجوب أو للواجب فالأمر فيها واضح ؛ لأنّ القيد لمّا كان بمثابة العلّة أو جزء العلّة فلا بدّ أن يكون شيء منها مقارنا ومعاصرا لزمان المعلول.

وأمّا القيود المتقدّمة على الوجوب أو الواجب فلم يستشكل فيها أحد سوى صاحب ( الكفاية ) حيث ذهب إلى استحالتها ؛ لأنّ تقدّم العلّة بتمامها على المعلول غير معقول.

وأجيب على ذلك بأنّ هذه القيود قيود معدّة أي أنّها تعدّ لحصول الشيء المترتّب عليها ، وهذه لا يشترط معاصرتها.

والصحيح : أنّ القيود المتقدّمة هي قيود مقارنة أيضا ، ولكن بلحاظ البقاء لا الحدوث ، فهي تحدث قبل الوجوب ولكنّ استمرارها وبقاءها إلى زمان الوجوب أو الواجب ضروري ، وإلا فلو زالت بعد حدوثها انتفى الوجوب أو الواجب.

هذا كلّه مقدّمة لأصل البحث وهو الشرط المتأخّر ، فهل هو معقول أم لا؟ ولذلك قال :

وقد افترض في الفقه أحيانا كون القيد متأخّرا زمانا عن المقيّد ، ومثاله في قيود الحكم قيديّة الإجازة لنفوذ عقد الفضولي ، بناء على القول بالكشف ، ومثاله في قيود الواجب غسل المستحاضة في الليل الدخيل في صحّة صيام النهار المتقدّم ، على قول بعض الفقهاء (1).

ومن هنا وقع البحث في إمكان الشرط المتأخّر وعدمه ، ومنشأ الاستشكال هو :

ص: 135


1- منهم الشيخ الطوسي وابن إدريس ، كما ذكر ذلك في الجواهر 16 : 247.

أنّ الشرط والقيد بمثابة العلّة أو جزء العلّة للمشروط والمقيّد ، ولا يعقل أن تتأخّر العلّة أو شيء من أجزائها زمانا عن المعلول ، وإلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ لأنّ المتأخّر معدوم في الزمان السابق فكيف يؤثّر في وقت سابق على وجوده؟!

الشرط المتأخّر : هناك بعض الموارد الفقهيّة التي افترض فيها كون القيد أو الشرط متأخّرا زمانا عن المقيّد والمشروط ، وتصويره تارة يكون بلحاظ الوجوب والحكم ، وأخرى بلحاظ الواجب والمتعلّق.

أمّا تصوير الشرط المتأخّر الراجع إلى الوجوب والحكم فهو ما يقال : من أنّ عقد الفضولي لا ينفذ ولا يترتّب عليه الأثر المطلوب منه ، وهو الملكيّة والنقل والانتقال إلا إذا أجيز من قبل المالك أو وكيله ، فهنا قيديّة الإجازة اعتبرت شرطا متأخّرا زمانا على عقد الفضولي ، بناء على القول بالكشف لا النقل.

وتوضيحه : أنّنا إذا قلنا بأنّ الإجازة كاشفة كان معنى ذلك أنّ العقد يكون مؤثّرا في ترتيب الأثر ، ويعتبر نافذا من حين صدور العقد فيما إذا تعقّبته الإجازة ، فهي كاشفة عن ذلك ، وهي بهذا اللحاظ تكون شرطا متأخّرا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الإجازة ناقلة فهذا يعني أنّ ترتّب الأثر يبدأ من حين صدور الإجازة لا من حين صدور العقد ، ولذلك فهي تكون شرطا مقارنا للنفوذ والصحّة وترتّب الأثر ، أي أنّه من حين الإجازة يؤثّر العقد لا قبلها.

وهكذا أيضا بالنسبة لوجوب الصوم على المستحاضة فإنّه مقيّد بالغسل الليلي ، فإذا اغتسلت المستحاضة في الليل كشف ذلك عن أنّ الصوم لليوم السابق كان واجبا عليها من حين طلوع الفجر ، فيكون وجوب الصوم في اليوم السابق مشروطا بالغسل في الليل ، وهذا لا يكون إلا بعد انتهاء الزمان للصوم.

وأمّا تصوير الشرط المتأخّر الراجع إلى الواجب والمتعلّق ، فهو ما يقال : من أنّ صحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق مشروط بالغسل في الليل على قول بعض الفقهاء ؛ لأنّه هنا يوجد قولان :

أحدهما : أنّ غسل الاستحاضة الليلي شرط في صحّة صوم اليوم السابق ، وعلى هذا يكون الغسل الليلي شرطا متأخّرا ؛ لأنّ الواجب وهو الصوم من الفجر إلى الليل قد تحقّق وانتهى زمانه قبل الغسل.

ص: 136

والآخر : أنّ غسل المستحاضة الليلي شرط لصحّة الصوم الآتي لا السابق ، وعليه فيكون الغسل شرطا متقدّما لا متأخّرا.

وعلى كلّ حال فقد وقع البحث في إمكانيّة ومعقوليّة الشرط المتأخّر ، سواء كان راجعا إلى الحكم أم إلى الواجب.

ووجه الاستشكال فيه هو : أنّ الشرط أو القيد بمثابة العلّة للمشروط والمقيّد أو على أقلّ تقدير بمثابة جزء العلّة. ومن الواضح أنّ العلّة لا بدّ وأن تكون متقدّمة ومعاصرة للمعلول ، فإذا كانت العلّة متأخّرة عن المعلول بتمامها أو بجزء من أجزائها فهذا معناه أنّ المعلول قد وجد في زمان لم تكن فيه العلّة موجودة ، وهذا مستحيل ؛ وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : استحالة تأثير المعدوم في الموجود ، فإنّ العلّة حال وجود المعلول كانت معدومة ، فإذا كانت بعد فرض تحقّق وجودها المتأخّر زمانا عن المعلول قد أثّرت في المعلول من حينه ، فهذا معناه أنّ الشرط أو العلّة قد أثر في إيجاد المعلول من حين وجوده ، والحال أنّها معدومة والمعدوم لا يؤثّر حال انعدامه بشيء.

وإذا كانت مؤثّرة في وجود المعلول لا من حين زمان وجوده ، بل من حين زمان وجودها فهذا يعني الانقلاب ؛ لأنّ المعلول قد وقع وتحقّق غير مشروط ولا مقيّد بشيء ، فكيف يكون متأثّرا ومسبّبا عن شيء لاحق؟!

وبتعبير آخر : إنّ الشرط المتأخّر إمّا أن يؤثّر في المشروط أو لا يؤثّر ، فإن لم يكن مؤثّرا فيه فهو خلف كونه شرطا ، فيتعيّن الأوّل ، وحينئذ فهو إمّا أن يكون مؤثّرا في المشروط من حين تحقّق المشروط أو من حين تحقّق الشرط ، وكلاهما مستحيل ؛ لأنّ تأثير الشرط في المشروط من حين تحقّق المشروط معناه أنّ المعدوم قد أثّر في الموجود ؛ لأنّ الشرط معدوم حين تحقّق المشروط ؛ ولأنّ تأثير الشرط في المشروط من حين تحقّق الشرط معناه أنّ المشروط الذي تحقّق قبله متأثّر بشيء آخر وهو الشرط وهذا مستحيل ؛ لأنّه لو كان متأثّرا بالشرط ومسبّبا عن الشرط فكيف تحقّق قبل الشرط؟!

وقد أجيب على هذا البرهان : أمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للواجب فبأنّ كون شيء قيدا للواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل بحصّة خاصّة ، وليس القيد علّة أو

ص: 137

جزء العلّة للفعل ، والتحصيص كما يمكن أن يكون بإضافته إلى أمر مقارن أو متقدّم كذلك يمكن أن يكون بأمر متأخّر.

وأمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للحكم فبأنّ الحكم تارة يراد به الجعل وأخرى يراد به المجعول ، أمّا الجعل فهو منوط بقيود الحكم بوجودها التقديري اللحاظي لا بوجودها الخارجي كما تقدّم (1) ، ووجودها اللحاظي مقارن للجعل.

وأمّا المجعول فهو وإن كان منوطا بالوجود الخارجي لقيود الحكم ، ولكنّه مجرّد افتراض وليس وجودا حقيقيّا خارجيّا ، فلا محذور في إناطته بأمر متأخّر.

وقد أجيب عن إشكال الاستحالة في الموردين :

أمّا بالنسبة للإشكال على الشرط المتأخّر الراجع إلى الواجب ، كغسل المستحاضة الذي هو شرط متأخّر لصحّة صوم اليوم السابق ، فجوابه أنّ قيود الواجب ترجع إلى التحصيص.

فالفعل الواجب حينما يقيّد بشيء فهذا معناه تحصيص الفعل إلى حصّتين : الحصّة الواجدة للقيد والحصّة الفاقدة له ، والأمر بالحصّة الخاصّة دون سواها.

ومن الواضح أنّ تحصيص الفعل لا يختلف الحال فيه بين أن يكون بقيد متقدّم أو بقيد مقارن أو بقيد متأخّر ؛ لأنّ العلاقة بين القيد والفعل أو بين الشرط والمشروط هنا ليست هي علاقة العلّة والمعلول أو المؤثّر مع الأثر ، ولذلك لا يرد الإشكال المتقدّم من لزوم تأثير المعدوم في الموجود ، كما إذا فرض أنّ المولى يريد الصلاة مع التصدّق ، فإنّه يمكنه أن يقول : تصدّق ثمّ صلّ أو تصدّق حال الصلاة أو تصدّق بعد الصلاة.

والوجه في ذلك : أنّه يريد الحصّة الخاصّة من الصلاة وهي المقيّدة بالتصدّق ، ممّا يعني تحصيص الصلاة إلى حصّتين الحصّة الواجدة للتصدّق والحصّة الفاقدة له ، والأمر بالحصّة الخاصّة وليس للتصدّق تأثير في تحقّق الصلاة وفي إيجادها أصلا.

وأمّا بالنسبة للإشكال على الشرط المتأخّر الراجع إلى الحكم ، كالإجازة للعقد الفضولي التي هي شرط في صحّة ونفوذ العقد من حينه ، أي من حين صدور العقد على القول بالكشف.

فجوابه : أنّ الحكم تارة يراد به الجعل أي الحكم الإنشائي في عالم الجعل والتشريع

ص: 138


1- تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

الذي يصاغ على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، وأخرى يراد به المجعول الفعلي أي الحكم الذي صار فعليّا في الخارج بسبب فعليّة موضوعه وقيوده في الخارج.

وعليه ، فإن أريد من الحكم عالم الجعل فهنا لا يكون الشرط المتأخّر متأخّرا في الحقيقة ، بل هو شرط مقارن ؛ وذلك لأنّ الحكم في عالم الجعل إنّما يصاغ وينصبّ على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، ممّا يعني أنّ كلّ ما هو دخيل في الموضوع من قيود وشروط قد لوحظت وافترض وجودها ، فكان الشرط المتأخّر مفترضا وملحوظا في الموضوع حينما جعل الحكم عليه ، وهذا يعني أنّه مقارن للجعل لا متأخّر عن الجعل ، نعم هو متأخّر في الوجود الخارجي إلا أنّ هذا الوجود لا علاقة له بالجعل ؛ لأنّ الجعل عبارة عن الوجود التقديري واللحاظي للحكم مع موضوعه وسائر قيوده وشروطه ، وهي موجودة بالفعل في عالم اللحاظ والتقدير ، وليس شيء منها غير ملحوظ.

وأمّا إن أريد من الحكم عالم المجعول والفعليّة فهنا يكون الشرط المتأخّر متأخّرا حقيقة ؛ وذلك لأنّ الحكم في عالم المجعول لا يصبح فعليّا إلا إذا تحقّقت سائر قيود وشروط موضوعه ، والمفروض أنّ هناك شرطا متأخّرا لم يتحقّق بعد فكيف يكون الحكم فعليّا مع عدم تحقّق ذاك الشرط المتأخّر؟!

والمفروض أنّ الحكم معلول للموضوع وما يرتبط به من قيود وشروط فيأتي الإشكال ، إلا أنّه مع ذلك يمكن دفع الإشكال على أساس أنّ الحكم المجعول ليس حكما حقيقيّا ، وإنّما هو مجرّد أمر اعتباري محض ، وما دام أمرا اعتباريّا لا حقيقة له فلا محذور في إناطته بأمر متأخّر عنه ؛ لأنّ باب التأثير والمؤثّر أو العلّة والمعلول إنّما هو بلحاظ الأمور الحقيقيّة الواقعيّة ، سواء كان عالم واقعها الخارج والتكوين أم عالم الجعل والتشريع ، وكلا هذين الأمرين منتف هنا ؛ لأنّ المجعول أمر افتراضي وهمي اعتباري لا حقيقة ولا واقعيّة له.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ المجعول هو نفس الجعل وليس زائدا عنه ؛ لأنّ القضيّة الشرعيّة المؤلّفة من الحكم والموضوع قضيّة واحدة ، ولكن تارة ينظر إليها على أساس الحمل الشائع وأخرى ينظر إليها بالحمل الأوّلي.

فإذا نظر إليها بالحمل الشائع سمّيت بالجعل ، وهي بهذا النظر أمر حقيقي واقعي

ص: 139

في عالم الجعل والتشريع ، وإذا نظر إليها بالحمل الأوّلي سمّيت بالمجعول وهي بهذا النظر أمر اعتباري ؛ لأنّه عبارة عن رؤية الحكم في الخارج على أساس أنّه يجب امتثاله وإطاعته من المكلّف.

وهذا نظير الوجود والإيجاد فإنّهما شيء واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما على أساس ملاحظة الفاعل تارة وعدم ملاحظته أخرى.

وعليه ، فالمجعول ليس إلا تطبيق الجعل حينما يتحقّق موضوعه في الخارج ، فبابه باب التطبيق والامتثال وليس باب التأثير والعلّيّة (1).

والتحقيق : أنّ هذا الجواب وحده ليس كافيا ؛ وذلك لأنّ كون شرط قيدا للحكم والوجوب أو للواجب ليس جزافا ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدّم ، وحاصله : أنّ ما كان دخيلا وشرطا في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة يؤخذ قيدا للوجوب ، وما كان دخيلا وشرطا في ترتّب المصلحة على الفعل يؤخذ قيدا للواجب.

والجواب المذكور إنّما نظر إلى دخل الشرط بحسب عالم الجعل في تحصيص الواجب أو في الوجوب المجعول ، وأغفل ما يكشف عنه ذلك من دخل قيد الواجب في ترتّب المصلحة ووجودها ودخل قيد الوجوب في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، وترتّب المصلحة أمر تكويني ، واتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة أمر تكويني أيضا ، فكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر - كغسل المستحاضة في ليلة الأحد - مؤثّرا في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت السابق إذا أخذ قيدا للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر - كالغسل المذكور - مؤثّرا في اتّصاف الصوم في يوم السبت بكونه ذا مصلحة إذا أخذ قيدا للوجوب؟

ص: 140


1- نعم ، بناء على مسلك المحقّق النائيني القائل بالفرق بين الجعل والمجعول ، وأنّ المجعول أمر حقيقي غير الجعل فإنّه يتمّ الإشكال ؛ لأنّ الحكم المجعول في الخارج صار مناطا ومشروطا بقيد متأخّر عنه ، فيلزم منه محذور تأثير المتأخّر في المتقدّم أو محذور تأثير المعدوم في الموجود. ومن هنا أنكر الميرزا الشرط المتأخّر لاستحالته في عالم المجعول وإن قبله في عالم الجعل ، ومن ثمّ التزم بإرجاع الشرط المتأخّر إلى الشرط المقارن في كلّ الموارد التي ظاهرها كون الشرط متأخّرا.

والتحقيق أن يقال : إنّ الجواب المذكور وإن كان تامّا إلا أنّه لا يحلّ تمام المشكلة ؛ وذلك لأنّ إشكال استحالة الشرط المتأخّر يمكن أن يثار على ثلاثة مستويات :

الأوّل : بلحاظ عالم الحكم والوجوب ، فيقال في تقريب الإشكال : إنّ الوجوب كيف يمكن أن يتحقّق مع كونه مشروطا بأمر متأخّر ، والحال أنّ الوجوب لا يثبت ولا يتحقّق إلا بعد تحقّق موضوعه وسائر القيود والشروط المأخوذة في الموضوع؟

وهذا جوابه ما تقدّم من التفرقة في الحكم بين عالم الجعل الذي هو أمر حقيقي وبين عالم المجعول الذي هو أمر اعتباري ، وإرجاع الشرط المتأخّر إلى كونه مقارنا بلحاظ عالم الجعل ، والالتزام بكونه شرطا متأخّرا بلحاظ عالم المجعول ، ولكنّه لا يضرّ ما دام أمرا اعتباريّا ؛ لأنّه سهل المئونة.

الثاني : بلحاظ الواجب : فيقال في تقريب الإشكال : إنّ الواجب معلول للوجوب بمعنى أنّ الوجوب هو المؤثّر في إيجاد الواجب ، فلو كان هناك شرط متأخّر عنه لزم كون المتأخّر مؤثّرا في المتقدّم ، فيلزم منه تأثير المعدوم في الموجود وهو محال.

وهذا جوابه ما تقدّم من أنّ أخذ شرط أو قيد بلحاظ الواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل الواجب إلى حصّتين ، والأمر متعلّق بالحصّة الخاصّة ، وحينئذ لا استحالة في كون القيد متقدّما أو مقارنا أو متأخّرا ؛ لأنّ التحصيص ليس بابه باب التأثير والعلّيّة.

الثالث : بلحاظ عالم الملاك والمصلحة : فإنّه تقدّم فيما سبق أنّ أخذ قيد في الواجب أو في الوجوب ليس جزافا ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدّم من أنّه إذا كان القيد أو الشرط راجعا إلى أصل اتّصاف الفعل بالمصلحة فيكون قيدا في الوجوب ؛ لأنّه من دون القيد لا مصلحة ولا ملاك ومع عدم المصلحة والملاك لا وجوب ، وإذا كان القيد أو الشرط راجعا إلى ترتّب المصلحة واستيفائها فيكون قيدا للواجب ، بمعنى أنّ المصلحة الموجودة لا يمكن تحقّقها ولا يمكن استيفاؤها إلا مع تحقّق هذا القيد أو الشرط ؛ ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت والمصلحة موجودة ولكن ترتّبها على الفعل مشروط بذاك الأمر والقيد.

وبناء على ذلك يقال : إنّ ثبوت أصل المصلحة أو ترتّب استيفاء المصلحة من الأمور التكوينيّة الحقيقيّة وليست أمرا اعتباريّا وهميّا ، فكيف يعلّق ذلك على قيد أو شرط متأخّر؟ إذ تعليق أصل المصلحة أو ترتّبها على أمر متأخّر يلزم منه أن يكون هذا

ص: 141

الشيء المتأخّر مؤثّرا في الأمر المتقدّم ، ممّا يعني تأثير المعدوم في الموجود وهو مستحيل؟

وهذا الإشكال لم ينظر إليه الجواب المتقدّم ، وإنّما اقتصر النظر على حلّ الإشكال على المستويين الأوّليّين ، أي على مستوى دخالة الشرط في الوجوب أو الواجب ، مع أنّه قد ظهر ممّا بيّناه أنّ الشرط إنّما يؤخذ في الوجوب باعتباره شرطا من شروط الاتّصاف ، وإنّما يؤخذ في الواجب باعتباره شرطا من شروط الترتّب. وعليه ، فيمكننا صياغة الإشكال على مستوى الملاك والمصلحة بلحاظ شروط الاتّصاف تارة وشروط الترتّب أخرى.

فنقول - مع أخذ غسل المستحاضة تارة قيدا للواجب وأخرى قيدا للوجوب - : إنّ غسل المستحاضة في ليلة الأحد مثلا إذا كان شرطا في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت المتقدّم - فيما إذا كان شرطا للواجب - فهذا معناه أنّ ترتّب المصلحة - والتي هي من الأمور التكوينيّة الواقعيّة على الصوم المتقدّم والذي انتهى - مشروط بالغسل المتأخّر ، فكان الغسل المتأخّر مؤثّرا في ترتّب هذه المصلحة مع كون الفعل الذي تترتّب عليه المصلحة قد تمّ وانتهى ، فيؤدّي لا محالة إلى أنّ المعدوم قد أثّر في الموجود ، أو إلى أنّ العلّة متأخّرة عن المعلول وهو غير معقول.

وهكذا فيما لو كان غسل المستحاضة المذكور شرطا في اتّصاف الفعل بالمصلحة - فيما إذا كان شرطا للوجوب - فإنّه يعني أنّ الصوم يوم السبت لا يتّصف بالمصلحة إلا بعد الغسل المتأخّر ، مع أنّ المصلحة أمر تكويني واقعي مترتّب على الصوم الذي تمّ وانتهى ، فكيف تناط المصلحة بالأمر المتأخّر؟ إذ يلزم منه أن يكون الأمر المتأخّر مؤثّرا في أصل الاتّصاف في السابق مع كونه معدوما حال الفعل ، فيلزم تأثير المعدوم في الموجود ، أو يلزم منه تأخّر العلّة عن المعلول وهو مستحيل.

ومن هنا قد يقال باستحالة الشرط المتأخّر ، ويلتزم بتأويل الموارد التي توهم ذلك ، بتحويل الشرطيّة من أمر متأخّر إلى أمر مقارن ، فيقال مثلا : إنّ الشرط في نفوذ عقد الفضول - على الكشف - ليس هو الإجازة المتأخّرة ، بل كون العقد ملحوقا بالإجازة. والشرط في صوم المستحاضة يوم السبت كونه ملحوقا بالغسل ، وهذه صفة فعليّة قائمة بالأمر المتقدّم.

ص: 142

تقدّم أنّ الإشكال يمكن إثارته على مستوى الملاك والمصلحة لأنّه الأساس ، وبما أنّ شيئا من الجواب المتقدّم لا يفي بحلّه فيقال باستحالة الشرط المتأخّر ؛ لأنّ الاتّصاف أو الترتّب الراجعين إلى أصل المصلحة أو إلى ترتّبها يرتبطان بأمر واقعي حقيقي هو لا يمكن أن يكون منوطا ومسبّبا عن أمر متأخّر ؛ لأنّه يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود أو تأخّر العلّة عن المعلول.

ومن هنا التزموا باستحالة الشرط المتأخّر ، وأوّلوا الموارد التي ظاهرها إناطة الوجوب أو الواجب بأمر متأخّر بما يرجع إلى أمر مقارن ، من قبيل عنوان التعقّب أو اللحوق.

فمثلا يقال في اشتراط صحّة ونفوذ عقد الفضولي وترتّب الأثر عليه - وهو الملكيّة والنقل والانتقال بالإجازة المتأخّرة - : إنّ ما هو شرط ليس نفس الإجازة وإنّما الشرط في الحقيقة هو عنوان التعقّب واللحوق ، بمعنى أنّ عقد الفضولي الملحوق والمتعقّب بالإجازة يترتّب عليه أثره وينفذ ، وعنوان اللحوق والتعقّب مقارن لصدور العقد من الفضولي يكشف عنه بالإجازة.

وهكذا الحال بالنسبة لشرطيّة الغسل الليلي لصحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق ، فإنّ الشرط ليس هو عنوان الغسل بنفسه ، وإنّما الشرط هو لحوق الصوم بالغسل أو تعقّب الصوم بالغسل ، وهذا الشرط أي اللحوق أو التعقّب مقارن للصوم والغسل كاشف عنه فقط (1).

ص: 143


1- هذا ، ولكنّ الصحيح هو أنّ الإشكال هنا غير وارد أيضا ، ويمكن دفعه بأحد أمور ثلاثة : الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) : من أنّ الإشكال هنا نشأ من أخذ الملاك على أساس أنّه المصلحة ، والتي هي أمر تكويني ، ولكن يمكننا أن نفترض الملاك شيئا آخر وهو عنوان الحسن والقبح ، وهما أمران عقليّان وليسا أمرين تكوينيّين خارجيّين ليرد الإشكال. وحينئذ فالعقل ينتزع عنوان الحسن والقبح عن الشيء وشرطه ، وهذا الانتزاع العقلي لا فرق فيه بين أن يكون الشرط متقدّما أو مقارنا أو متأخّرا ، فإنّ المكلّف إذا حقّق الشرط المطلوب منه كان فعله حسنا ، وإذا تخلّف عنه كان قبيحا. الثاني : ما يذكره السيّد الشهيد من أنّ القيود والشروط ليست دائما سببا وعلّة ومؤثّرة في إيجاد أصل المصلحة ، أو في ترتّب استيفاء المصلحة من الفعل ليلزم الإشكال ، بل يمكن أن تكون بأحد نحوين آخرين : أحدهما : أن يكون القيد أو الشرط من المقدّمات المعدّة ..... والمهيّئة كتحضير الماء من أجل الشرب عند العطش. والآخر : أن يكون القيد أو الشرط من المقدّمات التي تحقّق وجود العلّة وعدمها يوجب انعدام العلّة ، كشرطيّة عدم التعرّض للبرد بعد تناول الدواء للمريض ، فإنّ المصلحة تترتّب بتناول الدواء والشرط المتأخّر كان لأجل أنّ عدمه يوجب انعدام العلّة أو وجود المانع منها. الثالث : ما يذكره السيّد الأستاذ من أنّ شروط الوجوب ليست دائما عبارة عن شروط الاتّصاف ، بل قد تكون من شروط الترتّب ولكن غير الاختياريّة وغير المقدورة ، كما تقدّم سابقا ، كما إذا أخذت القدرة على الصوم في كلّ آن آن من آنات النهار شرطا في وجوب الصوم في الآن الأوّل ، فإنّها شرط متأخّر ولكنّها ليست من شروط الاتّصاف ، وإنّما هي من شروط التحقّق والترتّب ولكنّها راجعة إلى الوجوب ؛ لأنّها غير مقدورة وغير اختياريّة ، فإنّ عنوان القدرة ليس اختياريّا للمكلّف ؛ لأنّ الوجوب من الآن مشروط بالقدرة على الصوم في الآن الآتي وهذا غير اختياري له من الآن ولكنّه كان شرطا للوجوب ، وهذا معناه أنّ شروط الوجوب لا يتحتّم إرجاعها إلى المصلحة دائما. وبهذا يظهر أنّ الشرط المتأخّر ممكن ولا إشكال فيه لا على مستوى الحكم ولا على مستوى الواجب ولا على مستوى المصلحة والملاك.

وثمرة البحث في الشرط المتأخّر إمكانا وامتناعا تظهر من ناحية في إمكان الواجب المعلّق وامتناعه ، فقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ إمكان الواجب المعلّق يرتبط بإمكان الشرط المتأخّر.

هناك ثمرتان يمكن ترتّبهما على هذا البحث :

الثمرة الأولى : ثمرة أصوليّة تظهر في الواجب المعلّق ويتّبعه في المقدّمات المفوّتة ، فإنّنا إذا قلنا بإمكان الشرط المتأخّر فسوف يكون الواجب المعلّق ممكنا أيضا ، وبه تحلّ مشكلة المقدّمات المفوّتة ، وأمّا إذا قلنا باستحالته فسوف يكون الواجب المعلّق مستحيلا أيضا ، وتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

إذا استطاع المكلّف للحجّ فقد صار الوقوف بعرفات واجبا عليها أيضا ، إلا أنّ زمان الوقوف بعرفات يبدأ من حين حلول ظهر اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فكان وجوب الوقوف ثابتا في زمان متقدّم ، بينما زمان الواجب متأخّر وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق.

وحينئذ فإن قلنا بإمكان الشرط المتأخّر كان الواجب المعلّق ممكنا أيضا ، والوجه في

ص: 144


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

هذا الترابط بينهما هو أنّ وجوب الحجّ على المستطيع مشروط بأمر متأخّر وهو مجيء يوم التاسع من ذي الحجّة مع توفّر سائر الشروط المعتبرة.

فإذا توفّرت هذه الشروط وجاء اليوم المذكور كشف ذلك عن كون الحجّ ثابتا على المكلّف من حين الاستطاعة.

وإذا اختلّت تلك الشروط كلاّ أو بعضا كشف ذلك عن عدم وجوب الحجّ عليه من أوّل الأمر ، فإذا كان الشرط المتأخّر للوجوب ممكنا كان القول بوجوب الحجّ على المستطيع المشروط بالشرط المتأخّر وهو مجيء يوم التاسع من ذي الحجّة مع توفّر سائر الشروط الأخرى ممكنا ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت في السابق ولكن زمان الواجب لا يثبت إلا بعد مجيء اليوم التاسع فكان معلّقا على ذلك.

وأمّا إذا قلنا باستحالة الشرط المتأخّر للوجوب فسوف لن يكون وجوب الحجّ على المستطيع واجبا من حين حدوث الاستطاعة ، بل من حين مجيء اليوم التاسع أيضا ، فإذا حلّ اليوم التاسع وكان لا يزال مستطيعا فقد وجب عليه الحجّ من الآن ، فيتقارن وجوب الحج ، زمانا مع زمان الواجب ، وبالتالي لا يكون الواجب معلّقا.

وتظهر الثمرة بينهما في لزوم تهيئة المقدّمات من السفر والكون في الميقات والإحرام وسائر ما يرتبط بالحجّ قبل زوال اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فإنّه على القول بإمكان الشرط المتأخّر وبالتالي إمكان الواجب المعلّق فسوف يكون المكلّف مسئولا عن تلك المقدّمات ؛ لأنّ الوجوب ثابت قبل زمان الواجب.

وأمّا على القول بالاستحالة فسوف لا يكون مسئولا عنها قبل ذلك الزمان إلا ما كان منها داخلا في عنوان المقدّمات المفوّتة كما سيأتي.

وتظهر من ناحية أخرى فيما إذا دلّ الدليل على شرطيّة شيء - كرضا المالك الذي دلّ الدليل على شرطيّته في نفوذ البيع - وتردّد الأمر بين كونه شرطا متقدّما أو متأخّرا ، فإنّه على القول بامتناع الشرط المتأخّر يتعيّن الالتزام بكونه شرطا مقارنا ، فيقال في المثال بصحّة عقد الفضولي على نحو النقل ؛ لأنّ الحمل على الشرط المتأخّر إن كان بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخّر فهو غير معقول ، وإن كان بالتأويل فهو خلاف ظاهر الدليل ؛ لأنّ ظاهره شرطيّة نفس الرضا لا كون العقد ملحوقا به.

ص: 145

وأمّا على الثاني فلا بدّ من اتّباع ما يقتضيه ظاهر الأدلّة أي شيء كان.

الثمرة الثانية : ثمرة فقهيّة تظهر فيما إذا دلّ الدليل الشرعي على أخذ شيء شرطا في الوجوب أو في الواجب ، وتردّد أمر هذا الشرط بين كونه شرطا متأخّرا أو شرطا متقدّما أو مقارنا ، كما هو الحال في صحّة ونفوذ عقد الفضولي المشروط برضا المالك وإجازته ، فإنّ الإجازة هنا شرط لترتّب الحكم وهو الملكيّة والنقل والانتقال ، وكما في صحّة صوم المستحاضة المشروط بالغسل الليلي فإنّ الغسل المتأخّر شرط لصحّة الواجب وهو الصوم المتقدّم.

ففي مثل هذه الموارد الفقهيّة وما شابهها تظهر الثمرة العمليّة على القول بالامتناع أو بالإمكان.

وتوضيحه : إنّنا إذا بنينا على استحالة الشرط المتأخّر ففي مثال عقد الفضولي وإجازة المالك أو رضاه سوف يبنى على كون الإجازة ناقلة لا كاشفة ، وبالتالي سوف يكون الشرط مقارنا لا متأخّرا.

والوجه في ذلك : أنّ البناء على استحالة الشرط المتأخّر لا يتناسب إلا مع القول بكون الإجازة ناقلة ؛ لأنّ معنى النقل كون الإجازة من حين صدورها يترتّب عليها الملكيّة والنقل والانتقال ، فهي تنقل العقد الذي صدر في الزمان السابق إلى زمان صدورها ، وبالتالي يترتّب الأثر المطلوب من العقد من حين الإجازة لا من حين صدوره في الزمان السابق.

وأمّا لو أردنا القول بأنّ الإجازة كاشفة مع البناء على استحالة الشرط المتأخّر فهذا لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ معنى الكشف هو أنّ الإجازة تكشف عن كون الأثر وهو الملكيّة مترتّب على العقد من حين صدور العقد ، أي في الزمان السابق لا من حين الإجازة ، وهذا معناه أنّ ترتّب الملكيّة في الزمان السابق كان مشروطا بشرط متأخّر وهو الإجازة التي يتأخّر زمانها عن زمان العقد ، والحال أنّ الشرط المتأخّر قد بنينا على استحالته.

ولا يقال : إنّنا بالإمكان التوفيق بين القول بكاشفيّة الإجازة مع البناء على استحالة الشرط المتأخّر ، وذلك بأن يلتزم بالتأويل فيقال : إنّ الشرط ليس هو الإجازة والتي هي شرط متأخّر ، بل الشرط هو لحوق العقد بالإجازة أو تعقّبه بها ، واللحوق والتعقّب

ص: 146

عنوانان انتزاعيّان ينتزعهما العقل من الطرفين ، أي العقد والإجازة ، فهما عنوانان مقارنان لا متأخّران ، فيكون العقد مؤثّرا في ترتّب الملكيّة من حين صدوره ، وشرطه ليس متأخّرا بل هو مقارن ؛ لأنّه عند ما تصدر الإجازة سوف يحكم العقل بثبوت وصف اللحوق أو التعقّب ، إلا أنّ هذا الوصف يتّصف به العقد من حين صدوره ؛ لأنّ العقل يحكم بأنّ العقد الملحوق أو المتعقّب بالإجازة يترتّب عليه أثره ، وهذا اللحوق قد ثبت بصدور الإجازة فعلا.

فإنّ هذا القول وإن كان نظريّا ممكنا إلا أنّه لا يمكن الالتزام به عمليّا ؛ لأنّه مخالف لظواهر الأدلّة التي دلّت على مثل هذا الشرط ؛ فإنّ ظاهرها أخذ نفس عنوان الشرط شرطا لا أخذ شيء آخر.

هذا كلّه إذا بنينا على استحالة الشرط المتأخّر ، وأمّا إذا قلنا بإمكانه - كما هو الصحيح - فإنّ الإجازة المتأخّرة عن صدور العقد كما يمكن أن تكون كاشفة يمكن أيضا أن تكون ناقلة ؛ إذ لا استحالة في شيء منهما ، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى إثبات نكات فنيّة أو استظهارات فقهيّة من الأدلّة.

* * *

ص: 147

ص: 148

زمان الوجوب والواجب

اشارة

ص: 149

ص: 150

زمان الوجوب والواجب

[ أو الواجب المعلّق ]

لا شكّ في أنّ زمان الوجوب لا يمكن أن يتقدّم بكامله على زمان الواجب ، ولكن وقع الكلام في أنّه هل يمكن أن يبدأ قبله أو لا؟

ومثاله : أن يفترض أنّ وجوب صيام شهر رمضان يبدأ من حين طلوع هلاله ، غير أنّ زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.

تمهيد : يمكن بالتحليل العقلي افتراض زمان الوجوب وزمان الواجب على أقسام :

الأول : أن يكون زمان الوجوب متقدّما بكامله على زمان الواجب ، وهذا مستحيل وقوعه ؛ لأنّ المحرّك والباعث على الامتثال إنّما هو الوجوب ، فإذا كان الوجوب فعليّا في زمان سابق ففي الزمان اللاحق يكون قد انتهت فعليّته ، فلا محرّكيّة ولا باعثيّة للمكلّف نحو إيجاد الفعل ، كما إذا فرضنا أنّ زمان الوجوب كان في الساعة الواحدة بينما زمان الواجب هو في الساعة الثانية ، والمفروض أنّه ينتهي قبل مجيء الساعة الثانية.

الثاني : أن يكون زمان الوجوب متأخّرا بكامله عن زمان الواجب ، وهذا مستحيل وقوعه أيضا لنفس ما ذكر في القسم الأوّل ، ومثاله عكس ما افترضناه في المثال السابق.

الثالث : أن يكون زمان الوجوب متطابقا مع زمان الواجب ، وهذا لا إشكال في إمكانه ووقوعه وهو ما يسمّى بالمنجّز ، ومثاله زوال الشمس فإنّه زمان الوجوب وزمان الواجب أيضا ، فإذا زالت الشمس صار الوجوب فعليّا وصار الواجب فعليّا أيضا.

ص: 151

الرابع : أن يكون زمان الوجوب متقدّما على زمان الواجب ولكنّه يستمرّ إلى حين حلول زمان الواجب أيضا ، بمعنى أنّ حدوثه متقدّم ولكنّه مستمرّ بقاء ، وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق ، وقد وقع الكلام في إمكانه ووقوعه.

ومثاله ما إذا فرض أنّ وجوب صيام شهر رمضان زمانه هو ثبوت الهلال بينما زمان الصوم الواجب إنّما هو من حين طلوع الفجر ، ومثاله أيضا وجوب الحجّ فإنّه يبدأ من حين الاستطاعة في أشهر الحجّ ، ولكنّ زمان الواجب أي الإتيان بالمناسك إنّما هو اليوم التاسع من ذي الحجّة.

والحاصل : أنّه يوجد قسمان من الواجب :

أحدهما : الواجب المنجّز : وهو ما كان الواجب فعليّا عند فعليّة وجوبه.

والآخر : هو الواجب المعلّق : وهو ما كان متأخّرا زمانا عن زمان فعليّة وجوبه حدوثا ، وإن كان يعاصره ويقارنه بقاء.

وقد ذهب جملة من الأصوليّين كصاحب ( الفصول ) (1) إلى إمكان ذلك ، وسمّي هذا النحو من الوجوب بالمعلّق تمييزا له عن الوجوب المشروط ، فكلّ منهما ليس ناجزا بتمام المعنى ، غير أنّ ذلك في المشروط ينشأ من إناطة الوجوب بشرط ، وفي المعلّق من عدم مجيء زمان الواجب.

أوّل من قال بفكرة الواجب المعلّق وإمكانه هو صاحب ( الفصول ) ، حيث قسّم الواجب إلى أقسام ثلاثة :

1 - أن يكون القيد راجعا إلى الوجوب فيكون الوجوب مشروطا ، وهو ما يسمّى بالواجب المشروط ، وقد تقدّم بيانه سابقا.

2 - أن يكون القيد راجعا للواجب بنحو يجب تحصيله عند فعليّة الوجوب ، وهو ما يسمّى بالواجب المنجّز ، كما في قيد الطهارة الراجع إلى الصلاة ، فإنّه يصبح فعليّا عند فعليّة الوجوب أي عند زوال الشمس مثلا.

3 - أن يكون القيد راجعا للواجب ولكن لا يجب تحصيله ، إمّا لكونه غير اختياري للمكلّف ، وإمّا لأنّ التقييد به هو أنّه إذا حصل هذا القيد فيكون الواجب فعليّا ، وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق.

ص: 152


1- الفصول : 79.

ومثاله كما تقدّم من وجوب الإتيان بالمناسك على من وجب عليه الحجّ لكونه مستطيعا ، ولكن هذا الواجب مقيّد بحلول يوم التاسع من ذي الحجّة وهو غير اختياري للمكلّف ، فإنّ هذا الزمان وإن كان حصوله حتميّا إلا أنّه ليس بيد المكلّف.

ثمّ إنّ صاحب ( الفصول ) قد ميّز بين الواجب المعلّق والوجوب المشروط ، فقال : إنّ هذين النحوين وإن كانا يشتركان في عدم التنجيز والفعليّة إلا أنّهما يختلفان في منشأ ذلك ، ففي الوجوب المشروط لا تكون هناك فعليّة من جهة أنّ الوجوب نفسه قد أنيط بقيد ، فما لم يتحقّق القيد لا يكون الوجوب فعليّا وبالتالي لا فعليّة للواجب ؛ بينما في الواجب المعلّق تكون فعليّة الواجب منتفية بسبب عدم مجيء زمانه مع كون الوجوب فعليّا فيه.

فوجوب الحجّ مثلا لا يتحقّق ولا يكون فعليّا إلا بتحقّق الاستطاعة ، وأمّا قبل الاستطاعة فكما لا فعليّة للوجوب لا فعليّة للواجب ولا يكون منجّزا على المكلّف ، بينما إذا تحقّقت الاستطاعة صار وجوب الحجّ فعليّا إلا أنّ الإتيان بالأعمال والمناسك موقوف على حلول اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فالواجب معلّق وليس فعليّا وإن كان وجوبه فعليّا (1).

فإن قيل : إذا كان زمان الواجب متأخّرا ولا يبدأ إلا عند طلوع الفجر فما الداعي للمولى إلى جعل الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ما دام وجوبا معطّلا عن الامتثال؟ أو ليس ذلك لغوا؟!

أشكل على القول بإمكان الواجب المعلّق باللغويّة ؛ وذلك لأنّ جعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب لا فائدة منه ولا أثر عملي له ؛ لأنّه سواء كان مجعولا وفعليّا قبله أم من حين حلول زمان الواجب ، فالمكلّف ليس مسئولا عن الإتيان بالواجب ولا مطالبا بالامتثال إلا بعد مجيء زمان الواجب لا قبله.

ص: 153


1- هذا ، وينبغي التنبيه هنا على أنّ مصطلح الواجب المشروط والواجب المعلّق هنا يختلفان عنهما عند الشيخ الأنصاري ، فإنّه لمّا أنكر الوجوب المشروط ذهب إلى أنّ القيود والشروط كلّها ترجع إلى المادّة ، أي إلى متعلّق الوجوب وهو الواجب ، فالواجب يكون مشروطا بينما الوجوب فعلي ، ولكنّه بدلا من أن يسمّيه الواجب المعلّق سمّاه الواجب المشروط ، فاصطلاح الواجب المشروط عنده هو نفسه الواجب المعلّق عندنا ، بينما اصطلاح الواجب المشروط عندنا هو عبارة عن الوجوب المشروط الذي أنكره الشيخ.

ففي المثال المذكور ما دام الصوم لا يبدأ إلا من حين طلوع الفجر فما هي الفائدة من جعل وجوبه من حين رؤية الهلال؟ لأنّه ما دام لا يطالب بالصوم من حين رؤية الهلال فليكن الوجوب من حين طلوع الفجر.

كان الجواب : أنّ فعليّة الوجوب تابعة لفعليّة الملاك ، أي لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمتى اتّصف الفعل بذلك استحقّ الوجوب الفعلي ، فإذا افترضنا أنّ طلوع الفجر ليس من شروط الاتّصاف بل من شروط الترتّب وأنّ ما هو من شروط الاتّصاف طلوع هلال الشهر فقط ، فهذا يعني أنّه حين طلوع الهلال يتّصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة فيكون الوجوب فعليّا وإن كان زمان الواجب مرهونا بطلوع الفجر ؛ لأنّ طلوع الفجر دخيل في ترتّب المصلحة.

ولفعليّة الوجوب عند طلوع الهلال آثار عمليّة على الرغم من عدم إمكان امتثاله ؛ وذلك لأنّه من حين يصبح فعليّا تبدأ محرّكيّته نحو المقدّمات ، وتبدأ مسئوليّة المكلّف عن تهيئة مقدّمات الواجب.

والجواب عن الإشكال المتقدّم يرجع إلى أمرين :

الأوّل : ما ذكر في الإشكال من أنّ المولى لما ذا يجعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب ، مع أنّه لا امتثال له في حينه ، وإنّما يبقى معطّلا إلى حين مجيء زمان الواجب؟

وهذا جوابه مرتبط بالملاك ، فمتى كان الملاك فعليّا صار الوجوب فعليّا؟!

والوجه في هذا الارتباط هو ما تقدّم سابقا من أنّ مبادئ الحكم عبارة عن الملاك والإرادة ، فإذا كان في الفعل مصلحة أكيدة ملزمة فسوف يحصل شوق ومحبوبيّة وإرادة مولويّة لجعله على ذمّة المكلّف ، ولذلك يتّصف بالوجوب هذا في عالم الثبوت ، ثمّ المولى يبرز هذا إلى عالم الإثبات فيعتبر الفعل على ذمّة المكلّف عن طريق صياغة إنشائيّة تقنينيّة.

وعليه ، فإذا كان الفعل ذا مصلحة اتّصف بالوجوب فعلا واستحقّ ذلك.

ففي مقامنا إذا قلنا بأنّ طلوع هلال شهر رمضان من شروط الاتّصاف وأنّ طلوع الفجر من شروط الترتّب ، كان معنى ذلك أنّ طلوع الهلال قيد في الوجوب بينما طلوع الفجر قيد في الواجب ، كما تقدّم سابقا من أنّ كلّ شروط الاتّصاف تكون

ص: 154

شروطا وقيودا في الوجوب بخلاف قيود الترتّب ، فإنّ ما كان منها اختياريّا فهو من شروط الترتّب وما لم يكن اختياريّا كان من قيود الواجب والوجوب معا.

ومن هنا فإذا أهلّ هلال شهر رمضان فهذا معناه أنّ قيد الاتّصاف والوجوب صار فعليّا في الخارج ، ممّا يعني أنّ الملاك والمصلحة صارت فعليّة في الخارج أيضا ، وحينئذ لن يكون هناك ما يمنع من اتّصاف الفعل أي الصوم في النهار بالوجوب من حين طلوع الهلال ، وإن كان زمانه لا يبدأ إلا من حين طلوع الفجر باعتبار أنّ طلوع الفجر من شروط الترتّب ، أي من شروط ترتّب الملاك والمصلحة على الفعل واستيفائها.

والحاصل : أنّ الداعي الذي يجعل المولى هذا الفعل واجبا وإن كان زمان الواجب لم يتحقّق بعد هو كون الفعل قد اتّصف بالمصلحة والملاك بالفعل ؛ لأنّ قيودهما وشروطهما قد تحقّقت في الخارج ، ومع كون الملاك فعليّا سوف يكون الوجوب فعليّا ؛ للارتباط والتلازم بينهما ثبوتا في عالم الجعل والشوق والإرادة والمحبوبيّة.

الثاني : ما ذكر في الإشكال من لغويّة جعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب.

وهذا جوابه : أنّ الواجب وإن كان معطّلا حين فعليّة الوجوب ومرهونا بمجيء زمانه إلا أنّه مع ذلك لا لغويّة من جعل الوجوب ، بل هناك فائدة وثمرة عمليّة مهمّة عليه ، وهي تخريج وجوب الإتيان بالمقدّمات المفوّتة ولزوم تهيئة المقدّمات التي يحتاجها الواجب عند حلول زمانه ، بحيث إنّه لو لم تكن موجودة قبله لم يتمكّن المكلّف من امتثال الواجب.

فإنّنا إذا قلنا بفعليّة الوجوب قبل زمان الواجب ، وكان للواجب مقدّمات يفوت بتركها وعدم تحصيلها قبله كان المكلّف مسئولا عن إيجادها وتوفيرها ، وهذه المسئوليّة ناشئة من الوجوب الفعلي الثابت من قبل ، بينما إذا لم نقل بفعليّة الوجوب من حينه وإنّما يكون فعليّا عند مجيء زمان الواجب ، فهذه المقدّمات التي يفوت الواجب بتركها كيف يمكننا إلزام المكلّف بها؟ وكيف يمكننا إدخالها في عهدته ومسئوليّته قبل الوجوب؟ إذ المفروض أنّ المحرّك نحوها إنّما هو الوجوب وهو غير موجود وليس فعليّا قبلها.

إذا فهناك ثمرة علميّة وهي تخريج وجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّه لا إشكال في لزوم تحصيلها ، وأمّا الإشكال فيما هو المحرّك والداعي والباعث لذلك ، فإنّه على القول

ص: 155

بالواجب المعلّق كان الجواب واضحا ، وهو أنّ الوجوب الفعلي الثابت قبل زمان الواجب هو المحرّك نحوها ، بينما على إنكار الواجب المعلّق يحتاج تخريجها إلى حلّ آخر وقد لا يكون موجودا أو مقبولا.

وقد اعترض على إمكان الواجب المعلّق باعتراضين :

الأوّل : أنّ الوجوب حقيقته البعث والتحريك نحو متعلّقه ، ولكن لا بمعنى البعث الفعلي وإلا لكان الانبعاث والامتثال ملازما له ؛ لأنّ البعث ملازم للانبعاث ، بل بمعنى البعث الشأني أي أنّه حكم قابل للباعثيّة ، وقابليّة البعث تلازم قابليّة الانبعاث ، فحيث لا قابليّة للانبعاث لا قابليّة للبعث فلا وجوب. ومن الواضح أنّه في الفترة السابقة على زمان الواجب لا قابليّة للانبعاث فلا بعث شأني ، وبالتالي لا وجوب.

وهنا يوجد اعتراضان على القول بإمكان الواجب المعلّق :

الاعتراض الأوّل : أنّ حقيقة الوجوب هي البعث والتحريك نحو متعلّقه ، فالشارع عند ما يجعل الوجوب على فعل ويعتبر ذاك الفعل واجبا على المكلّف فهو في الحقيقة يريد أن ينشأ ويجعل ما يحرّك المكلّف نحو الامتثال والإطاعة ، فبجعله للوجوب يكون قد جعل الباعث والمحرّك حقيقة.

والوجه في هذا هو أنّ الشخص عند ما يريد شيئا فإمّا أن يقوم بنفسه ويتحرّك نحو تحصيله وإيجاده وهذا ما يسمّى بالإرادة التكوينيّة ، وإمّا أن يحرّك غيره ويبعثه نحو تحصيل مراده وذلك بأمره والطلب منه وهذا ما يسمّى بالإرادة التشريعيّة ، فإذا أراد شرب الماء فإمّا أن يذهب بنفسه لتحصيل الماء ، وإمّا أن يأمر عبده ويطلب منه تحضير الماء ، فهو بأمره هذا قد حرّك عبده وبعثه وأرسله نحو تحقيق المطلوب ، ولذلك قيل أنّ الطلب سعي نحو المقصود.

وعليه ، فبما أنّ حقيقة الوجوب هي البعث والتحريك نحو المتعلّق والمطلوب ، فحيث لا توجد المحرّكيّة والباعثيّة لا يكون هناك وجوب ، ولكن هناك بعث فعلي وهناك بعث شأني أي قابليّة للبعث ، والتلازم بين البعث والتحريك وبين الوجوب إنّما هي في البعث والتحريك الشأني لا الفعلي.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ثبت الوجوب وصار فعليّا فهو يحدث ويسبّب البعث

ص: 156

والتحرّك الشأني أي يحدث في نفس المكلّف المأمور القابليّة للتحرّك والبعث ، لا أنّه يحدث التحرّك والبعث الفعلي وإلا لصار المكلّف مجبرا على التحرّك مع أنّنا نراه مختارا إن شاء فعل وإن شاء ترك.

ممّا يعني أنّ المقتضي للتحرّك يوجد بصيرورة الوجوب فعليّا ، وأمّا فعليّة التحرّك والانبعاث فهي راجعة إلى اختيار وإرادة المكلّف نفسه ، ومن هنا استحقّ الثواب أو العقاب على الفعل أو الترك.

وعليه ، فإذا كانت هناك قابليّة للتحرّك والانبعاث نحو الفعل كان البعث والتحريك ثابتا ، وإذا لم تكن هناك قابليّة للتحرّك والانبعاث كان البعث والتحريك منتفيا ؛ إذ لا معنى ولا فائدة من ثبوت البعث في مورد لا يقبل الانبعاث ؛ لأنّه ضرب من اللغو والعبث وإذا انتفى البعث والتحريك انتفى الوجوب ؛ لأنّه لا معنى لبقاء الوجوب فاقدا لروحه وحقيقته.

وفي مقامنا نقول : إنّ الفترة الواقعة بين زمان الوجوب وزمان الواجب ليست فيها قابليّة للانبعاث والتحرّك ؛ لوضوح أنّ المكلّف ليس مسئولا ولا مطالبا بالواجب في هذه الفترة ، ممّا يعني أنّ الوجوب ليس فيه بعث ولا تحريك نحو متعلّقه في هذه الفترة ، فلا معنى لثبوته إذا ؛ لأنّه فاقد لحقيقته وروحه.

ويرد عليه : أنّ الوجوب حقيقته في عالم الحكم أمر اعتباري وليس متقوّما بالبعث الفعلي أو الشأني ، وإنّما المستظهر من دليل جعل الوجوب أنّه قد جعل بداعي البعث والتحريك ، والمقدار المستظهر من الدليل ليس بأزيد من أنّ المقصود من جعل الحكم إعداده لكي يكون محرّكا شأنيّا خلال ثبوته ، ولا دليل على أنّ المقصود جعله كذلك من بداية ثبوته.

والجواب عن هذا الاعتراض هو أن يقال : إنّ حقيقة الوجوب وروحه ليست هي البعث والتحريك سواء الشأني أم الفعلي ، وإنّما حقيقة الوجوب هي ذلك الأمر الاعتباري الذي يعتبره الشارع في عالم الجعل والتشريع والثبوت ، أي جعل الفعل على ذمّة المكلّف ، فإنّه تقدّم في الحديث عن مبادئ الحكم أنّ الفعل إذا كان ذا مصلحة وملاك فسوف يحدث شوق وإرادة مولويّة متناسبة مع تلك المصلحة ، وبعد ذلك يجعل الشارع هذا الفعل على ذمّة المكلّف ويدخله في عهدته فيما إذا كانت

ص: 157

المصلحة ملزمة ، وهذا الاعتبار يبرزه الشارع ويصوغه في عالم الإثبات والدلالة بنحو الوجوب بالمادّة أو بالصيغة. إذا فحقيقة الوجوب هي ذاك الأمر الاعتباري.

نعم ، البعث والتحريك من شئون الوجوب بمعنى أنّ الغرض من جعل الوجوب على المكلّف هو أن يتحرّك نحو الفعل وينبعث نحوه ، إلا أنّ الغرض والداعي شيء وحقيقة الشيء شيء آخر.

وعليه ، فإذا لم يكن هناك بعث ولا تحريك في زمان فعليّة الوجوب ، فإن كان البعث والتحريك منتفيا مطلقا في تمام مدّة الفعليّة فسوف يكون الوجوب لغوا إذ لا فائدة منه ، ولكن إذا كان البعث ممكنا بلحاظ الفترات اللاحقة فسوف لن يكون هناك لغويّة من فعليّة الوجوب ؛ لأنّ الانبعاث والتحرّك سوف يتحقّقان في تلك الفترات.

والمستظهر من الأدلّة التي يوجد فيها ما يدلّ على الوجوب هو أنّ الداعي والغرض من جعل الوجوب هو كونه محرّكا وباعثا نحو الفعل ، وهذا يتحقّق وإن كان الانبعاث والتحرّك في بعض الفترات من زمان الوجوب لا في تمام الفترات ؛ إذ لا دليل على اعتبار لزوم الانبعاث والتحرّك في تمام الفترات ، والقدر المتيقّن هو أن يحصل التحرّك ، والأزيد من ذلك يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه مئونة زائدة.

الثاني : أنّ طلوع الفجر إمّا أن يؤخذ قيدا في الواجب فقط ، أو يؤخذ قيدا في الوجوب أيضا.

فعلى الأوّل يلزم كون الوجوب محرّكا نحوه ؛ لما تقدّم من أنّ كلّ قيد يؤخذ في الواجب دون الوجوب يشمله التحريك المولوي الناشئ من ذلك الوجوب ، وهذا غير معقول ؛ لأنّ طلوع الفجر غير اختياري.

وعلى الثاني يصبح طلوع الفجر شرطا للوجوب ، فإذا كان شرطا مقارنا فهذا معناه عدم تقدّم الوجوب على زمان الواجب ، وإذا كان شرطا متأخّرا يلزم محذور الشرط المتأخّر.

والشيء نفسه نقوله عن القدرة على الصيام عند طلوع الفجر ، فإنّها كطلوع الفجر في الشقوق المذكورة.

الاعتراض الثاني : ما لعلّه يظهر من كلمات الميرزا النائيني وحاصله أن يقال : إنّ المقدّمات غير الاختياريّة فوق الطلب والوجوب بمعنى أنّها لا تدخل في الطلب

ص: 158

والوجوب ، ولا يمكن إيجابها أو طلبها ؛ لأنّ فرض كونها غير اختياريّة يعني عدم قدرة المكلّف على إيجادها ، فيكون طلب إيجادها من التكليف بغير المقدور وهو محال. وعليه ، فكلّ المقدّمات غير الاختياريّة تكون قيودا للوجوب بمعنى أنّ الوجوب متوقّف على تحقّقها ووجودها ، من دون أن يكون للمكلّف مدخليّة فيها.

وأمّا المقدّمات الاختياريّة فكما يمكن أن تكون قيودا للوجوب كذلك يمكن أن تكون قيودا للواجب ، فتدخل في الطلب والوجوب لقدرة المكلّف على إيجادها وتحصيلها.

وفي مقامنا نقول : إنّ طلوع الفجر بالنسبة للصوم الواجب : إمّا أن يكون قيدا في الوجوب ، أو في الواجب ، أو في الوجوب والواجب معا.

فإن فرض كونه قيدا في الوجوب فهذا معناه أنّ وجوب الصوم لا يكون فعليّا إلا عند طلوع الفجر فيتطابق زمان الوجوب مع زمان الواجب ، ويخرج الفرض عن محلّ الكلام ؛ لأنّه يصبح من الواجب المنجّز.

وإن فرض كونه قيدا في الواجب فهذا معناه أنّه داخل تحت الإيجاب والطلب ؛ لأنّ مقدّمات الواجب الوجوديّة كلّها تدخل في عهدة المكلّف ويكون مطالبا بها كما تقدّم ؛ لأنّ الوجوب يفترض كونه فعليّا في رتبة سابقة ، ولذلك فهو يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، والمفروض أنّه مقيّد أو موقوف على تحقّق هذه المقدّمات والقيود فيجب على المكلّف إيجادها وتحقيقها ؛ ليتمكّن من تحقيق الواجب الذي اشتغلت ذمّته به ، وهذا واضح ولا كلام فيه.

إلا أنّه في مقامنا لمّا كان طلوع الفجر من الأمور الزمانيّة أي أنّه قيد زماني وهو غير اختياري للمكلّف ؛ لوضوح عدم قدرة المكلّف على الإتيان به متى شاء وكيف أراد ، فهذا معناه تكليف المكلّف بقيد خارج عن اختياره وقدرته ، فيكون تكليفا بغير المقدور وهو مستحيل.

وإن فرض كونه قيدا للواجب والوجوب معا ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ، إلا أنّه يلزم منه أنّه لمّا صار من قيود الوجوب أيضا فهو إمّا متقدّم أو مقارن أو متأخّر ، والكلّ لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك إمّا كونه شرطا أو قيدا متقدّما على الوجوب ، فهذا معناه أنّه لا فعليّة للوجوب قبله ، وإنّما تبدأ فعليّة الوجوب بعد طلوع الفجر ، وهذا لا

ص: 159

يمكن الالتزام به إذ لا يقول قائل بأنّ وجوب الصوم يبدأ بعد طلوع الفجر ، مضافا إلى خروج الفرض عن مورد النزاع ؛ لأنّ القائل بالواجب المعلّق يفترض الوجوب الفعلي قبل طلوع الفجر ، فهذا الفرض يلغي الواجب المعلّق.

وأمّا كونه قيدا أو شرطا مقارنا فهو وإن كان معقولا ومقبولا في نفسه ، إلا أنّه يجعل الوجوب الفعلي مقارنا في حدوثه لطلوع الفجر ، ممّا يعني أنّه لا فعليّة للوجوب قبله ، وهذا أيضا يلغي الواجب المعلّق ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب من قبل.

وأمّا كونه قيدا أو شرطا متأخّرا ، فهذا معناه أنّ الوجوب يصبح فعليّا من أوّل الأمر حين تحقّق هذا الشرط ، ويكون الواجب فعليّا عند تحقّق هذا الشرط أو القيد أيضا ، وهذا يؤدّي إلى القول بالواجب المعلّق لا محالة ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب في الآن السابق مع كون فعليّة الواجب في الآن اللاحق ، إلا أنّ الشرط المتأخّر مستحيل في نفسه ؛ لأنّه يؤدّي إلى تأثير المعدوم في الموجود وإلى وجود المعلول قبل علّته كما تقدّم ، وما دام مستحيلا فيستحيل أيضا القول بالواجب المعلّق.

وما ذكرناه بالنسبة للقيد الزماني هو نفسه يقال بالنسبة لسائر القيود الأخرى التي تشترط في موضوعات الأحكام من البلوغ والعقل والقدرة ، فالقدرة على الصيام كطلوع الفجر شرط في الصوم الواجب ، بمعنى أنّه عند ما يثبت الهلال إنّما يجب الصوم على الإنسان إذا طلع عليه الفجر وكان أيضا قادرا على الصوم أو بالغا أو عاقلا أو غير مريض ، فإنّ هذه القيود كلّها قيود للموضوع أي للفعل الواجب ، فالكلام المذكور بتمامه يجري فيها.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن القول بالواجب المعلّق إلا بناء على افتراض الشرط المتأخّر وهو مستحيل.

ومن هنا كنّا نقول في الحلقة السابقة (1) : إنّ إمكان الواجب المعلّق يتوقّف على افتراض إمكان الشرط المتأخّر وذلك باختيار الشقّ الأخير.

وأمّا الجواب عن هذا الاعتراض : فهو أنّنا نختار الشقّ الأخير ، وهو أن يكون قيد طلوع الفجر قيدا للوجوب والواجب معا على نحو الشرط المتأخّر ، وحيث إنّنا قلنا بإمكان الشرط المتأخّر فيما سبق فلا محذور في القول بالواجب المعلّق بناء عليه ،

ص: 160


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

وحينئذ يكون زمان الواجب شرطا متأخّرا للوجوب مع كون الوجوب فعليّا من حين طلوع الهلال.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب الصوم له شرطان :

أحدهما : طلوع الهلال والذي هو شرط مقارن لحدوث الوجوب ، وبه يكون الوجوب فعليّا.

والآخر : هو طلوع الفجر والذي هو شرط متأخّر لفعليّة الوجوب ، بمعنى أنّ هذه الفعليّة لا تصير منجّزة إلا بتحقّق الشرط.

فمن حين طلوع الهلال يكون الصوم واجبا على المكلّف فيما إذا طلع عليه الفجر وكان قادرا بالغا عاقلا ، وهذا الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال وهو فعلي من ذاك الحين ، إلا أنّ امتثال متعلّقه لا يكون منجّزا على المكلّف من الآن ، بل من حين طلوع الفجر.

وأمّا ثمرة البحث في إمكان الواجب المعلّق فتأتي الإشارة إليها (1) إن شاء اللّه تعالى.

تقدّم أنّ الثمرة في البحث عن إمكان الواجب المعلّق تظهر في المقدّمات المفوّتة ، وكيفيّة تخريجها ، فإنّه على القول بإمكان الواجب المعلّق فتخريج وجوبها واضح ؛ لأنّ الوجوب لمّا كان فعليّا قبل زمان الواجب فهو يدعو ويحرّك نحو إيجاد سائر المقدّمات التي لو لم تتحقّق قبل حلول زمان الواجب لم يمكن امتثال الواجب عند حلول زمانه ، كالسفر إلى الميقات مثلا لمن كان بعيدا عن مكّة فيما إذا وجب عليه الحجّ.

وأمّا على القول بامتناع الواجب المعلّق فسوف تكون المقدّمات المفوّتة مشكلة لا بدّ من إيجاد حلّ لها ؛ لأنّه لمّا لم يكن الوجوب فعليّا فكيف كان المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمات؟ وما هو الداعي والمحرّك له؟

* * *

ص: 161


1- في البحث القادم ، تحت عنوان : المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.

ص: 162

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت

اشارة

ص: 163

ص: 164

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت

[ أو المقدّمات المفوّتة ]

اتّضح ممّا تقدّم (1) أنّ المسئوليّة تجاه مقدّمات الواجب من قبل الوجوب إنّما تبدأ ببداية فعليّة هذا الوجوب ، ويترتّب على ذلك أنّ الواجب إذا كان له زمن متأخّر ، وكان يتوقّف على مقدّمة ولم يكن بالإمكان توفيرها في حينها ، ولكن كان بالإمكان إيجادها قبل الوقت ، فلا يجب على المكلّف إيجادها قبل الوقت ؛ إذ لا مسئوليّة تجاه مقدّمات الواجب إلا بعد فعليّة الوجوب ، وفعليّة الوجوب منوطة بالوقت ، وتسمّى المقدّمة في هذه الحالة بالمقدّمة المفوّتة.

ومثال ذلك : أن يعلم المكلّف قبل الزوال بأنّه إذا لم يتوضّأ الآن فلن يتاح له الوضوء بعد الزوال ، فيمكنه ألاّ يتوضّأ ولا يكون بذلك مخالفا للتكليف بالصلاة بوضوء ؛ لأنّ هذا التكليف ليس فعليّا الآن ، وإنّما يصبح فعليّا عند الزوال ، وفعليّته وقتئذ منوطة بالقدرة على متعلّقه في ذلك الظرف ؛ لاستحالة تكليف العاجز ، والقدرة في ذلك الظرف على الصلاة بوضوء متوقّفة بحسب الفرض على أن يكون المكلّف قد توضّأ قبل الزوال ، فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدّمات الوجوب ، وبترك المكلّف له يحول دون تحقّق الوجوب وفعليّته في حينه ، لا أنّه يتورّط في مخالفته.

مقدّمة البحث : عرفنا ممّا سبق أنّ قيود الواجب الشرعيّة أو العقليّة التكوينيّة يعتبر المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ؛ لأنّه لمّا كان ملزما عقلا بامتثال الواجب

ص: 165


1- تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

لفعليّة وجوبه فهو ملزم أيضا بتوفير وتهيئة مقدّمات هذا الواجب ، وهذا الإلزام مترشّح من الوجوب ، ولذلك كانت المقدّمات للواجب واجبة وجوبا غيريّا ، بمعنى أنّه وجوب مترشّح من الوجوب النفسي ، وهذا معناه أنّ الوجوب الغيري إنّما يبدأ من حين ثبوت الوجوب النفسي لا قبله ؛ لأنّه قبل ثبوت الوجوب النفسي يكون الوجوب الغيري منتفيا من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وعلى هذا فإنّما يطالب المكلّف بالمقدّمات ويكون مسئولا عن إيجادها ومدانا على تركها فيما إذا ثبت الوجوب النفسي وصار فعليّا ، وأمّا إذا لم يثبت الوجوب النفسي فلا معنى للمطالبة بالمقدّمات ، وهذا واضح.

ولكن قد نفرض أنّ الوجوب صار فعليّا بينما زمان الواجب متأخّر وكان لهذا الواجب مقدّمات ، ونفرض أنّه لا يمكن إيجاد هذه المقدّمات وتوفيرها بعد حلول زمان الواجب ، بحيث إذا حلّ زمانه سوف يفوت امتثاله نتيجة عدم تهيئة مقدّماته من قبل ، فهنا هل يجب على المكلّف إيجاد هذه المقدّمات قبل حلول زمان الواجب أم لا؟

والجواب : أنّه لا يجب تهيئة مثل هذه المقدّمات وإن كان الواجب سوف يفوت عند حلول زمانه.

والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه قبل حلول زمان الواجب لا يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد المقدّمات المرتبطة به ؛ لعدم وجود الداعي والمحرّك نحوها ، وبالتالي سوف يكون المكلّف عاجزا عن امتثال التكليف عند حلول زمانه ، ومع العجز عنه يسقط عن الفعليّة أو الفاعليّة.

ومثال ذلك : اشتراط الصلاة بالوضوء ، فإنّ مقدّميّة الوضوء للصلاة شرط يجب توفيره بعد دخول الوقت أي الزوال ، فإذا زالت الشمس دخل زمان الواجب فصار الوضوء واجبا على المكلّف ولا يجوز له تركه ؛ لأنّه يكون عاصيا بذلك ، وأمّا قبل زوال الشمس فلا يجب عليه الوضوء لعدم فعليّة الواجب قبل الزوال ، ولكن إذا فرضنا أنّ المكلّف كان يعلم من أوّل الأمر بأنّه لن يتمكّن من الوضوء بعد الزوال لمانع ، فهل يجب عليه تهيئة الوضوء قبل الزوال أم لا؟

والجواب : أنّه لا يجب عليه ذلك ، وإن كان بتركه للوضوء سوف يصبح عاجزا عن الإتيان بالصلاة مع الوضوء ولا يكون عاصيا بهذا الترك.

ص: 166

والوجه في ذلك : هو أنّ الوضوء قبل الزوال لا يترشّح عليه الوجوب ؛ لأنّ وجوبه الغيري إنّما يترشّح بعد فعليّة الواجب وهو مرتبط بالزوال ؛ فقبله لا فعليّة ، ومع عدم الفعليّة لا يكون المكلّف مطالبا ولا مسئولا عن شيء. وبعد دخول الزوال - والمفروض أنّه عاجز عن الوضوء - سوف يسقط الأمر بالصلاة عن الوضوء بسبب عجزه عن إيجاده ، ومع العجز لا تكليف وإلا كان من التكليف بغير المقدور وهو محال.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب الصلاة عن وضوء لا يبدأ قبل الزوال ، فترك الوضوء قبل الزوال لا يتّصف بأنّه ترك للواجب أو مخالفة للوجوب الفعلي. وإنّما يبدأ وجوب الصلاة عن وضوء بعد الزوال وهو في هذا الزمن غير قادر على الوضوء فيسقط هذا الوجوب ؛ لأنّه لا تكليف على العاجز وغير القادر.

إذا ترك المكلّف للوضوء قبل الزوال سوف يتسبّب برفع فعليّة وجوب الصلاة عن الوضوء بعد الزوال ، أو سوف يحول دون تحقّق مثل هذا الوجوب ؛ لأنّه فاقد لقيده ، والوجوب لا يتحقّق إلا بتحقّق قيوده وهذا ما يسمّى بالتعجيز ، أي أنّ المكلّف قد عجّز نفسه عن إيجاد متعلّق الوجوب في وقته ، ولكن هذا التعجيز كان قبل الوقت ولذلك لا يكون عاصيا ؛ لأنّه قبل الوقت لا يوجد ما يدعوه إلى إيجاد القيد.

ويطلق على الوضوء في مثل هذه الحالة عنوان المقدّمة المفوّتة ، أي أنّه من دونه سوف يفوّت الواجب في حينه.

ولكن هذه الصفة ليست دائميّة ، بل هي اتفاقيّة ؛ لأنّ الوضوء كما يمكن وجوده قبل الزوال يمكن وجوده بعده أيضا.

ولكن يلاحظ أحيانا أنّ الواجب قد يتوقّف على مقدّمة تكون دائما من هذا القبيل ، ومثالها وجوب الحجّ الموقوت بيوم عرفة ، ووجوب الصيام الموقوت بطلوع الفجر ، مع أنّ الحجّ يتوقّف على السفر إلى الميقات قبل ذلك ، والصيام من الجنب يتوقّف على الاغتسال قبل طلوع الفجر ، ولا شكّ في أنّ المكلّف مسئول عن طي المسافة من قبل وجوب الحجّ ، وعن الاغتسال قبل الطلوع من قبل وجوب الصيام.

ومن هنا وقع البحث في تفسير ذلك ، وفي تحديد الضوابط التي يلزم المكلّف فيها بإيجاد المقدّمات المفوّتة.

ص: 167

محل الكلام : وهو المقدّمة المفوّتة : وهي المقدّمة التي يتوقّف عليها إيجاد الواجب ، ولكن هذه المقدّمة لا يمكن توفيرها إلا قبل زمان الواجب ، بحيث إذا لم تتوفّر قبله فات الواجب عند حلول زمانه ، وهذه الصفة دائمة لها بمعنى أنّها دائما يجب أن تتوفّر قبل زمان الواجب ولا يمكن أن تتحقّق بعده ؛ لأنّه يفوت على المكلّف.

ومثالها : ما إذا وجب الحجّ على المستطيع فصار الوقوف بعرفة واجبا عليه ، إلا أنّ زمان هذا الواجب إنّما هو في اليوم التاسع من ذي الحجّة ، ولكن إذا كان المستطيع فرضه حجّ التمتّع لكونه بعيدا فيكون السفر إلى الميقات للإحرام منه واجبا عليه ؛ لكونه مقدّمة للوقوف في عرفات ، فإنّ من لا يسافر سوف يفوته الوقوف في حينه ، بل يجب أن يكون السفر قبل زوال اليوم التاسع بنحو يتمكّن المكلّف من القيام بسائر الأعمال الواجبة من إحرام وعمرة ، ولا يمكنه أن يسافر حين الزوال ؛ لأنّه سوف يفوته الواجب بذلك ، ومن هنا كان السفر المذكور مقدّمة مفوّتة دائما.

ومثالها أيضا : ما إذا هلّ هلال شهر رمضان فصار الصوم واجبا في الغد ، إلا أنّ زمانه هو طلوع الفجر ، وفرض أنّ مكلّفا كان جنبا في الليل فإنّه يجب عليه الاغتسال من الجنابة لكونه من مقدّمات الصوم الواجب ؛ لأنّه لا يصحّ الصوم من الجنب ، والمفروض أنّ زمان الواجب هو طلوع الفجر لا قبله.

ولكن إذا لم يغتسل المكلّف قبل طلوع الفجر سوف يفوته الواجب وهو الصوم عن طهارة من الحدث الأكبر ، ولو أراد أن ينتظر إلى أن يطلع الفجر ثمّ يغتسل فسوف يقع آن من الآنات مع الجنابة فيبطل الصوم ، وهذا معناه أنّ الاغتسال مقدّمة مفوّتة دائما يجب تحصيلها قبل طلوع الفجر ، مع أنّها من قيود الواجب وهو لم يحل زمانه بعد.

ومن هنا وقع البحث والكلام في كيفيّة تخريج وجوب المقدّمة المفوّتة ، فإنّ وجوبها لا إشكال فيه إثباتا ، ولكن ثبوتا كيف يمكن تخريج هذا الوجوب ؛ لأنّه على خلاف القاعدة؟

وقد ذكرت في المقام عدّة تفسيرات :

التفسير الأوّل : إنكار الوجوب المشروط رأسا ، وافتراض أنّ كلّ وجوب فعلي قبل تحقّق الشروط والقيود المحدّدة له في لسان الدليل ، وإذا كان فعليّا كذلك فتبدأ

ص: 168

محرّكيّته نحو مقدّمات الواجب قبل مجيء ظرف الواجب ، ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط يعني من الناحية العمليّة إلزام المكلّف بالمقدّمات المفوّتة للواجب من قبل ذلك الوجوب.

وهذه هي ثمرة البحث في إمكان الوجوب المشروط وامتناعه ، وقد تقدّم (1) أنّ الصحيح إمكان الوجوب المشروط - خلافا لما في تقريرات الشيخ الأنصاري (2) - الذي تقدّم بالتفسير المذكور.

وهنا توجد عدّة تفسيرات وتخريجات للقول بوجوب المقدّمات المفوّتة :

التفسير الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري ، من أنّنا نثبت وجوب المقدّمات المفوّتة على أساس الوجوب الفعلي الثابت قبلها ، فيكون هذا الوجوب هو الداعي والمحرّك والباعث لإيجادها والتحريك نحو تحصيلها ، وهذا يتمّ بناء على كون الوجوب فعليّا دائما ، وإنكار ما يسمّى بالوجوب المشروط ، فكلّ وجوب فعلي عند تحقّق موضوعه.

وأمّا ما يؤخذ في لسان الدليل من قيود وشروط فهي راجعة إلى متعلّق الوجوب ، أي الواجب لا إلى الوجوب نفسه ، بناء على ما ذكره من أنّ الوجوب تابع لإرادة المولى ، فهو إمّا أن يريد جعل الوجوب أو لا يريد ، فإذا أراده فهو فعلي ؛ إذ لو كان مشروطا فهذا معناه أنّه لم يرد جعله بعد.

وعليه ، فما دام الوجوب فعليّا من حين تحقّق موضوعه فهو يحرّك ويبعث نحو إيجاد الواجب ، ولذلك كان المكلّف مسئولا عن إيجاد وتحقيق كلّ القيود التي يتوقّف عليها الواجب ، والتي تكون واقعة تحت اختياره قبل مجيء زمان الواجب ، وأمّا الزمان نفسه فهو ليس مسئولا عنه ؛ لأنّه خارج عن قدرته واختياره ، وحينئذ يجب على المكلّف الإتيان بالوضوء قبل الزوال ؛ لأنّ وجوب الصلاة فعلي قبل الزوال ؛ لأنّ وجوب الصلاة ثابت على كلّ مكلّف بالغ عاقل ... إلى آخره.

وأمّا الصلاة فهي مقيّدة ومشروطة بالزوال بالإضافة إلى اشتراطها بالوضوء ، ولكنّ الوضوء يجب الإتيان به بخلاف الزوال ؛ لأنّ الأوّل داخل تحت الاختيار والقدرة بخلاف الثاني.

ص: 169


1- تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.
2- مطارح الأنظار : 49.

والحاصل : أنّ هذا التفسير يتمّ بناء على إنكار الوجوب المشروط.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الوجوب المشروط ممكن ، ولذلك لا يتمّ هذا التفسير والتخريج ، ولذلك ذكرنا في بحث الوجوب المشروط أنّ الثمرة تظهر في تخريج المقدّمات المفوّتة والواجب المعلّق أيضا ، فمن ينكر الوجوب المشروط ينكر الواجب المعلّق أيضا ، ويؤمن بفعليّة الوجوب من حين حدوثه ، وبالتالي يخرّج وجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّ وجوبها يترشّح من الوجوب الفعلي الثابت قبلها ، وأمّا من يقول بإمكان الوجوب المشروط فهو لا يرى الوجوب فعليّا من حين حدوثه ما دام هناك قيد زماني استقبالي لم يتحقّق بعد ، ولذلك يحتاج إلى تخريج آخر لها.

التفسير الثاني : وهو يعترف بإمكان الوجوب المشروط ولكن يقول بإمكان الواجب المعلّق أيضا ، ويفترض أنّه في كلّ مورد يقوم فيه الدليل على لزوم المقدّمة المفوّتة من قبل وجوب ذيها نستكشف أنّ الوجوب معلّق ، أي أنّه سابق على زمان الواجب. وفي كلّ مورد يقوم فيه الدليل على أنّ الوجوب معلّق نحكم فيه بمسئوليّة المكلّف تجاه المقدّمات المفوّتة.

وهذه هي ثمرة البحث عن إمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

التفسير الثاني : ما لعلّه يظهر من صاحب ( الفصول ) وحاصله أن يقال : إنّنا نؤمن بفكرة الوجوب المشروط كما نؤمن بفكرة الواجب المعلّق أيضا ، وبه تحلّ المشكلة ويتمّ تخريج وجوب المقدّمات المفوّتة.

وتوضيح ذلك : أنّ القول بإمكان الوجوب المشروط وإن كان يفترض فيه أنّ الوجوب ليس فعليّا قبل مجيء الزمان الاستقبالي ، وبالتالي لن يترشّح منه وجوب غيري على المقدّمات المفوّتة ، إلا أنّنا نؤمن أيضا بفكرة الواجب المعلّق ، والتي تفترض أنّ الوجوب يكون فعليّا قبل زمان الواجب ، والجمع بين الفكرتين ينتج أنّ الوجوب لا بدّ أن يكون فعليّا قبل زمان الواجب ، وإن كان لا يتحتّم أن يكون فعليّا من حين حدوثه.

والمثال التالي يوضّح الفكرة ، فنقول : إنّ وجوب الصيام يحدث حين طلوع الهلال ولكنّه ليس فعليّا من حينه ، بمعنى أنّه لا يحرّك المكلّف نحو إيجاد الواجب ، وهو الصوم من حين رؤية الهلال ، وإنّما من حين حلول زمان الواجب ، أي من حين طلوع

ص: 170

الفجر ، ففعليّة الوجوب بالنسبة إلى الواجب معلّقة على مجيء زمان الواجب ، ولذلك يقال : إنّ الواجب معلّق أو الوجوب الفعلي مشروط بحلول زمان الواجب.

ولكن لو لاحظنا المقدّمة المفوّتة للواجب وهي الاغتسال الليلي لمن كان جنبا ، فهذه المقدّمة وإن كانت مقدّمة للصوم الواجب والذي يبدأ زمانه من حين طلوع الفجر لا قبله ، ولذلك لا يكون الواجب محرّكا نحو إيجادها وتحصيلها لعدم فعليّته.

إلا أنّ الوجوب لمّا كان حادثا من حين طلوع الهلال فهو يحرّك نحو إيجاد هذه المقدّمة ؛ إذ لن يكون هناك ما يمنع من هذه المحرّكيّة والباعثيّة ؛ لأنّه فعلي بحسب الفرض ، وإن كانت فعليّته بالنسبة للواجب نفسه لا تبدأ إلا من حين زمان الواجب إلا أنّ فعليّته نحو المقدّمات المفوّتة تبدأ من حينه ؛ لأنّه فعلي فيترشّح عليها وجوب غيري من الوجوب النفسي للصيام الثابت حين طلوع الهلال.

ولذلك كان الجنب مطالبا بالاغتسال من حين طلوع الهلال إلى ما قبل طلوع الفجر ولو بآن ما.

إذا فالقول بالواجب المعلّق وإمكانه يترتّب عليه القول بوجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب في الزمان السابق على زمان الواجب ، فيكون وجوب المقدّمات المفوّتة مترشّحا من هذا الوجوب الفعلي. نعم ، هذا الوجوب بالنسبة للواجب نفسه لا يكون محرّكا للمكلّف ولا فعليّا بحقّه إلا حين حلول زمان الواجب ، وهذه هي ثمرة القول بإمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

التفسير الثالث : أنّ القدرة المأخوذة قيدا في الوجوب إن كانت عقليّة بمعنى أنّها غير دخيلة في ملاكه ، فهذا يعني أنّ المكلّف بتركه للمقدّمة المفوّتة يعجّز نفسه عن تحصيل الملاك مع فعليّته في ظرفه ، وهذا لا يجوز عقلا ؛ لأنّ تفويت الملاك بالتعجيز كتفويت التكليف بالتعجيز.

وإن كانت القدرة شرعيّة بمعنى أنّها دخيلة في الملاك أيضا ، فلا ملاك في فرض ترك المكلّف للمقدّمة المفوّتة المؤدّي إلى عجزه في ظرف الواجب ، وفي هذه الحالة لا مانع من ترك المقدّمة المفوّتة.

وعلى هذا ، ففي كلّ حالة يثبت فيها كون المكلّف مسئولا عن المقدّمات المفوّتة نستكشف من ذلك أنّ القدرة في زمان الواجب غير دخيلة في الملاك ، كما أنّه في

ص: 171

كلّ حالة يدلّ فيها الدليل على أنّ القدرة كذلك يثبت لزوم المقدّمات المفوّتة.

التفسير الثالث : ما لعلّه يظهر من كلمات الميرزا النائيني في المقام ، وحاصله أن يقال : إنّنا ننكر فكرة الشرط المتأخّر وفكرة الواجب المعلّق ، ولكنّنا نؤمن بالوجوب المشروط ، فيكون زمان الواجب قيدا للوجوب وليس الوجوب فعليّا من أوّل الأمر ، ولكنّه من حين مجيء زمان الواجب ، ولكن مع ذلك يمكننا حلّ مشكلة وجوب المقدّمات المفوّتة عن طريق آخر ، فنقول :

أوّلا : لا يجوز للمكلّف أن يترك التكليف المأمور به بعد أن يصبح فعليّا بحيث يكون قادرا على فعله فيتركه.

وثانيا : لا يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن امتثال التكليف بعد أن يصبح فعليّا ، كما إذا كان لديه ماء وبعد زوال الشمس أراقه فعجّز نفسه عن الوضوء.

وثالثا : لا يجوز للمكلّف أن يترك الملاك الفعلي فيما إذا كان قادرا على تحقيقه وإن لم يكن مخاطبا بالتكليف ، فإنّه إذا كان قادرا فأذهب قدرته فهو لا يخاطب بالتكليف لكونه عاجزا حينئذ ، لكنّه يطالب بتفويته الملاك الفعلي باختياره.

بعد ذلك نقول : إنّ المقدّمات المفوّتة التي يوجب فواتها عجز المكلّف وعدم قدرته على امتثال الواجب ، إنّما يجب تحصيلها فيما إذا كانت من المقدّمات العقليّة التكوينيّة لا الشرعيّة ، من قبيل السفر إلى الميقات وحفظ الماء للوضوء به لا من قبيل الوضوء قبل الوقت مثلا.

وعليه فالقدرة على هذه المقدّمات العقليّة المفوّتة إمّا أن تكون عقليّة وإمّا أن تكون شرعيّة.

فإذا كانت القدرة عليها عقليّة - والقدرة العقليّة هي التي لا تكون دخيلة في الملاك ، فيكون الملاك ثابتا حتّى بحقّ العاجز وإن لم يكن مخاطبا بالتكليف - فالمكلّف إذا ترك المقدّمات المفوّتة يكون قد أوقع نفسه في العجز عن تحصيل الملاك ، مع كون الملاك فعليّا حتّى مع فرض عجزه في زمان الواجب.

والتعجيز الذي هو فعل اختياري للمكلّف لا ينافي الاختيار ، فهو كترك الملاك رأسا مع قدرته عليه ، ولذلك يكون مدانا عقلا ؛ لأنّه قد فعل ما لا يجوز له فعله بحكم العقل ، ولا يختلف تفويت الملاك بسبب التعجيز عن تفويت التكليف الفعلي

ص: 172

بتركه رأسا أو بتعجيز نفسه عنه ، فإنّ العقل يستقلّ بلزوم حفظ القدرة على تحصيل هذه المقدّمات قبل زمان الواجب ؛ لأنّها معدّة له وهو موقوف عليها.

وأمّا إذا كانت القدرة شرعيّة - والقدرة الشرعيّة هي التي تكون دخيلة في الملاك لأخذ الشارع لها في لسان الدليل والخطاب ، ولذلك لا ملاك على العاجز كما لا تكليف عليه - فهي على أقسام :

فتارة تكون كالقدرة العقليّة تماما أي القدرة على الفعل وعلى تهيئة المقدّمات وحفظها ، غاية الأمر أنّ القدرة العقليّة ليست دخيلة في الملاك من أوّل الأمر بحكم العقل ، بينما هذه وإن كانت دخيلة في الملاك إلا أنّها لمّا كانت شاملة للمقدّمات وغيرها كانت النتيجة فيهما واحدة ، بحيث تكون من الناحية العمليّة كأنّها ليست دخيلة في الملاك ، كما إذا قيل : ( إذا قدرت فأكرم زيدا غدا ).

وأخرى لا تكون كالقدرة العقليّة ولكنّها اعتبرت بنحو يجب معه تحصيل المقدّمات قبل مجيء وقت الواجب ، فهي هنا كالقدرة العقليّة أيضا لا تكون من الناحية العمليّة دخيلة في الملاك وإن كانت دخيلة فيه ابتداء ، كما إذا قيل : ( أكرم عمرا غدا إذا قدرت على ذلك بعد مجيء زيد ) ، فهنا القدرة معتبرة بعد مجيء زيد ، فإذا جاء زيد اليوم لزم تحصيل مقدّمات إكرام عمرو من الآن فيما إذا كانت مفوّتة في الغد.

وثالثة تكون القدرة الشرعيّة معتبرة في زمان الواجب فقط ، كما إذا قال : ( إذا قدرت على إكرام زيد غدا فأكرمه ) ، فهنا القدرة كانت دخيلة في الإكرام في يوم الغد ، ولذلك لا يجب تحصيل مقدّمات الإكرام قبل مجيء يوم الغد ؛ لأنّه إذا لم يكن قادرا في الغد على الإكرام فكما لا يجب إكرامه فكذلك لا ملاك في إكرامه ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة كانت مأخوذة في الخطاب مقيّدة بالغد لا مطلقة ، ولا بنحو يشمل المقدّمات من أوّل الأمر ، ومن هنا لم يكن مسئولا عن المقدّمات المفوّتة ، بل يجوز تركها ولا شيء عليه.

وبهذا يظهر لنا أنّه في كلّ حالة يثبت فيها كون المكلّف مسئولا عن تحصيل وإيجاد المقدّمات المفوّتة ، استكشف من ذلك كون القدرة إمّا عقليّة وإمّا شرعيّة بالمعنى الواسع المطلق الشامل للمقدّمات ، وإمّا شرعيّة بنحو خاصّ بحيث يكون

ص: 173

للمقدّمات المفوّتة دخالة فيه ، والعكس صحيح أيضا ؛ بمعنى أنّه في كلّ حالة تثبت القدرة بأحد هذه المعاني فيكون المكلّف ملزما بتحصيل المقدّمات المفوّتة وإن لم تؤخذ في لسان الدليل أو لم يدلّ عليها الخطاب.

وأمّا إذا كانت القدرة شرعيّة في زمان الواجب فقط أو استكشف من الدليل عدم مسئوليّة المكلّف عن المقدّمات المفوّتة ، ففي الحالتين لا يجب على المكلّف شيء ولا يلزم بالمقدّمات ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة بهذا المعنى تكون دخيلة في الملاك بحيث لا يتحقّق الملاك من دونها.

غير أنّ هذا المعنى يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يكفيه دليل الواجب العامّ ؛ لأنّ دليل الواجب له مدلول مطابقي وهو الوجوب ومدلول التزامي وهو الملاك ، ولا شكّ في أنّ المدلول المطابقي مقيّد بالقدرة ومع سقوط الإطلاق في الدلالة المطابقيّة يسقط في الدلالة الالتزاميّة أيضا للتبعيّة ، فلا يمكن أن نثبت به كون الملاك ثابتا في حالتي القدرة والعجز معا.

يرد على هذا التفسير أنّ معرفة كون القدرة عقليّة أو شرعيّة يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يكفي فيه الدليل العامّ للواجب ، فإن تمّ الدليل الخاصّ على ذلك كان هذا التفسير وجها وتخريجا فنيّا وعمليّا أيضا ، وإن لم يتمّ الدليل الخاصّ فدليل الواجب العامّ لا يكفي لإثبات ذلك.

والوجه فيه هو أن يقال : إنّ دليل الواجب كالدليل الدالّ على وجوب الصوم : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أو الدليل الدالّ على وجوب الحج : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) له مدلولان :

أحدهما : المدلول المطابقي وهو الدلالة على الوجوب ، والآخر : وهو الدلالة على الملاك على أساس المدلول الالتزامي ؛ لأنّ ثبوت الوجوب في مورد لازمه أن يكون الملاك ثابتا فيه أيضا ، بناء على تبعيّة الأحكام للملاكات والمفاسد والمصالح.

وحينئذ نقول : إنّ المدلول المطابقي أي الوجوب لا إشكال ولا ريب في كونه مقيّدا بالقدرة ؛ لأنّه لا تكليف على العاجز كما هو واضح ، فإذا ترك المكلّف المقدّمات المفوّتة فصار عاجزا عن امتثال التكلّف فلا تكليف عليه جزما ، ولكن الملاك هل يبقى ثابتا بحقّه أم لا؟

ص: 174

فهذا لا يمكن إثباته من نفس الدليل المذكور ؛ لأنّ القاعدة تقتضي أنّه إذا سقط المدلول المطابقي سقط بتبعه المدلول الالتزامي ، فمع سقوط الوجوب والتكليف يسقط الملاك إلا إذا كانت القدرة المأخوذة عقليّة ، فإنّ الملاك يبقى ولو سقط المدلول المطابقي أي الوجوب بالعجز أو التعجيز ، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى دليل خاصّ غير دليل الواجب المذكور ، فإنّه لا يفيد أكثر من دخالة القدرة وأمّا على أي وجه هي فلا يتعرّض له.

إلا أنّه يعلّق على ذلك بأنّه قد تقدّم أنّ القدرة إذا أخذت في الخطاب وفي لسان الدليل كانت شرعيّة فتكون دخيلة في الملاك ، فيسقط الملاك تبعا لسقوط التكليف في حالات العجز والتعجيز ، وإن كانت غير مأخوذة في الدليل فهي عقليّة وهي لا تكون دخيلة في الملاك ؛ بمعنى أنّ الملاك فعلي حتّى مع العجز ، فمع سقوط الوجوب بسبب العجز لا يسقط الملاك ولا يتبعه في ذلك ؛ لأنّه يثبت في حالات العجز.

وبهذا يظهر لنا تماميّة الوجوه الثلاثة بناء على تماميّة مبانيها ، فإذا قبلنا المباني كانت هذه الوجوه وافية لتخريج وجوب المقدّمات المفوّتة (1).

ص: 175


1- والصحيح برأي السيّد الشهيد هو أن يقال : إنّ الوجوه المذكورة كلّها ناظرة إلى الإرادة التشريعيّة ، أو الأوامر والأغراض التشريعيّة ، مع أنّ المشكلة نفسها موجودة في الأغراض والإرادة التكوينيّة. ومن هنا إذا حللنا المشكلة بلحاظ الأغراض التكوينيّة فسوف تنحلّ المشكلة هناك أيضا ؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة ليست إلا الإرادة التكوينيّة عمليّا ، غاية الأمر أنّه في التكوينيّات يتحرّك الشخص نفسه بينما في التشريعيّات يحرّك غيره. وعلى هذا فنقول : إنّ الإنسان إذا علم بأنّه سوف يعطش في زمان استقبالي ، فإنّه يهيئ مقدّمات الارتواء فيحمل معه الماء قبل أن يشرع في سفره فضلا عن زمان حدوث العطش ، وهنا نسأل لما ذا قام بتهيئة المقدّمات مع أنّها ليست مطلوبة نفسيّا ، وإنّما المطلوب النفسي هو الشرب والارتواء لا حمل الماء؟ تماما كالإنسان الذي يجب عليه الحجّ عند ما يستطيع ويكون بعيدا عن مكّة ، فإنّه يهيئ مقدّمات السفر للكون في الميقات والإحرام منه وللإتيان بالعمرة ليكون على تمام الاستعداد للوقوف بعرفات بزوال يوم التاسع من ذي الحجّة ، فإنّ السفر ومقدّماته إنّما هي لأجل الوقوف وهو لم يدخل زمانه بعد ، فلما ذا تجب؟ والجواب عن ذلك : أنّه في الأمور والأغراض التكوينيّة توجد إرادة استقباليّة ، وهذه الإرادة تنحلّ إلى إرادتين : إحداهما : إرادة الجزاء على تقدير الشرط ، أي إرادة الشرب على تقدير العطش ، وهذه الإرادة مشروطة بالعطش. والأخرى : إرادة الجامع بين عدم الشرط وتحقّق الجزاء على تقدير الشرط ، أي عدم العطش أو الشرب على تقدير العطش ، وهذه الإرادة للجامع فعليّة ومنجّزة ؛ لأنّ المكلّف يريد فعلا أن يكون مرتويا إمّا بأن لا يعطش أو بالشرب عند العطش ، فهو يريد أن يبقى مرتويا على هذين التقديرين ، وهذه الإرادة فعليّة غير مشروطة ، وبهذه الإرادة الفعليّة يترشّح لدى المكلّف حبّ وإرادة لأجل تهيئة المقدّمات فيحمل معه الماء في سفره لأجل أن يشرب على تقدير عطشه. وهكذا الحال في الأوامر والأغراض التشريعيّة ، فإنّنا لمّا قبلنا فكرة الوجوب المشروط ، فهذا معناه أنّه توجد إرادتان : إحداهما مشروطة والأخرى فعليّة ، فالإرادة المشروطة هي إرادة الوجوب على تقدير حصول شرطه ، والإرادة الفعليّة هي إرادة الجامع بين إرادة الوجوب على تقدير حصول شرطه ، أو إرادة عدم الشرط وهذه الإرادة فعليّة من أوّل الأمر ، وهي لذلك تدعو إمّا لعدم تحقّق الشرط ، أو لتحقيق الجزاء على تقدير تحقّق الشرط ، ولذلك يترشّح منها إرادة لتهيئة المقدّمات المفوّتة فيما لو علم بتحقّق الشرط في المستقبل.

ص: 176

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم

اشارة

ص: 177

ص: 178

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم

قد يفترض تارة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، وأخرى أخذه في موضوع حكم مضادّ له. وثالثة أخذه في موضوع مثله ، ورابعة أخذه في موضوع حكم مخالف.

ولا شكّ في إمكان الأخير ، وإنّما وقع الكلام في الافتراضات الثلاثة الأولى.

تمهيد :

الأحكام الشرعيّة سواء التكليفيّة أم الوضعيّة هي في الأغلب الأعمّ مشتركة بين العالم والجاهل ، ولا تختصّ بالعالم بها فقط ، إلا في بعض الموارد النادرة جدّا حيث دلّ الدليل الخاصّ على ثبوت الحكم بحقّ العالم به فقط ، كما في موارد الجهر والإخفات ، وموارد القصر والإتمام ، حيث يحكم بصحّة من قرأ جهرا مكان الإخفات أو العكس جهلا منه في الحكم.

وقد استدلّ على قاعدة الاشتراك هذه بإطلاق أدلّة الأحكام فإنّها مطلقة لم يؤخذ فيها قيد العلم بها ، إلا أنّه مع ذلك لم يكتف بهذا المقدار ، بل برهن على أنّه يستحيل أخذ العلم بالحكم قيدا لثبوت الحكم ، وهذا البحث معقود لبيان ذلك ، فإنّ أخذ الحكم في موضوع الحكم لا يخلو من حالات أربع ، هي :

أوّلا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك ).

وثانيا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم مضادّ له ، أي يؤخذ العلم بالحكم كالوجوب في موضوع الحكم بالحرمة ، مع كون الموضوع فيهما واحدا ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة فقد حرمت عليك ).

وثالثا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم مماثل له ، أي يؤخذ العلم بالحكم

ص: 179

بالوجوب مثلا في موضوع الحكم بالوجوب أيضا ، ولكن لا الوجوب السابق بل وجوب آخر مماثل للوجوب السابق ؛ إذ لو كان هو نفسه لصار نفس الحالة الأولى ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك بوجوب آخر مماثل للوجوب الأوّل لا نفسه ).

ورابعا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر مخالف لموضوع الحكم الأوّل ، فالمخالفة هنا صفة للموضوع لا للحكم ، بمعنى أنّ الموضوعين مختلفان لا نفس الحكم فقط مع وحدة موضوعهما ، وإلا لصار نفس الصورة الثانية.

ومثاله : كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجب عليك التصدّق على الفقير ، أو إذا علمت بوجوب الجهاد عليك فقد حرم عليك الفرار ) ، وهذه الصورة لا إشكال في إمكانها ووقوعها أيضا.

وإنّما الكلام وقع في الصور الثلاث الباقية.

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه :

أمّا الافتراض الأوّل فقد يبرهن على استحالته بأدائه للدور ، إذ يتوقّف كلّ من الحكم والعلم به على الآخر.

وقد يجاب بأنّه لا دور ؛ لأنّ الحكم وإن كان متوقّفا على القطع لأنّه مأخوذ في موضوعه إلا أنّ القطع بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم.

الحالة الأولى : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفس هذا الحكم ، كما إذا قيل : ( تجب الصلاة جهرا على من يعلم بوجوب الجهر ). وفي هذه الحالة يقال بالاستحالة للدور.

وتقريبه : إنّ طبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب ، فالحكم مسبّب عن الموضوع بمعنى أنّ الحكم لا يوجد إلا إذا تحقّق موضوعه مع سائر القيود والشروط المأخوذة في موضوعه.

وعليه ، فإذا كان من جملة قيود الموضوع العلم بالحكم فهذا يفترض أنّ الحكم ثابت في رتبة سابقة ليعلم به ؛ لأنّ العلم لا بدّ أن يتعلّق بشيء موجود ولو في الذهن ، ممّا يعني أنّ الحكم قد فرغ عنه وافترض ثبوته مسبقا في مرحلة سابقة عن ثبوت الموضوع ، والحال أنّ الواقع يفترض أنّ الحكم متأخّر عن الموضوع ؛ لأنّه مسبّب عنه ،

ص: 180

فيلزم منه محذور تقدّم الشيء وتأخّره في آن واحد ، ولكن لمّا كان العلم بالحكم مأخوذا في موضوع الحكم ، فهذا معناه أنّ الحكم موقوف ثبوته على العلم بالحكم والعلم بالحكم موقوف تحقّقه على ثبوت الحكم ، ممّا يعني أنّ الحكم صار موقوفا على ثبوت الحكم وهو من توقّف الشيء على نفسه ، وهو معنى الدور.

وقد أجيب عن محذور الدور بأنّ التوقّف ليس من الجانبين بل هو من جانب واحد.

وتوضيحه : أنّ الحكم لمّا أخذ في موضوعه العلم به فهو متوقّف على العلم ، إلا أنّ العلم بالحكم ليس متوقّفا على ثبوت الحكم ؛ إذ لو كان كذلك لكان العلم دائما مصيبا ما دام متعلّقه ومعروضه ثابتا وهو خلف.

إذا العلم بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم ؛ لأنّ العلم بشيء لا يتوقّف على ثبوت ذلك الشيء وإلا لكان كلّ علم مصيبا وهو خلف الواقع جزما ، وإنّما يتوقّف العلم بالحكم على مجرّد الصورة الذهنيّة للحكم لا على ثبوته ووجوده حقيقة ، فالعلم بالحكم يتوقّف على أن يكون لدى الذهن صورة ذهنيّة للحكم وهذا هو المعلوم بالذات.

وأمّا حقيقة هذه الصورة وكونها موجودة فهذا لا يتوقّف عليه العلم. وعليه فنقول : إنّ ما هو مأخوذ في موضوع الحكم هو الصورة الذهنيّة فقط ، فيقال : إنّ ثبوت الحكم في الخارج وحقيقته موقوف على العلم بالحكم كصورة ذهنيّة ، فاختلف اللحاظ والموضوع بينهما ، أي أنّ المراد تحقيقه هو ثبوت العلم ووجوده بالعرض ، بينما المأخوذ قيدا هو ثبوت العلم كصورة ذهنيّة موجودة بالذات ، فلا يلزم منه توقّف الشيء على نفسه والذي هو الدور.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ القطع بالحكم إذا أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم : فإمّا أن يكون الحكم المقطوع دخيلا في الموضوع أيضا ، وذلك بأن يؤخذ القطع بالحكم بما هو مصيب في الموضوع ، وإمّا ألاّ يكون لثبوت ذات المقطوع دخل في الموضوع.

ففي الحالة الأولى تعتبر الاستحالة واضحة ؛ لوضوح الدور وتوقّف الحكم على نفسه عندئذ.

ص: 181

وأمّا في الحالة الثانية فلا يجري الدور بالتقريب المذكور.

والتحقيق في هذه الحالة أن يقال : إنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص الحكم لا يخلو من إحدى حالتين :

الأولى : أن يؤخذ العلم بالحكم مع افتراض كونه مصيبا للواقع ، فيكون التقييد بهذا المعنى ( أنّ العلم بالحكم الثابت واقعا قد أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم ).

الثانية : أن يؤخذ العلم بالحكم الأعمّ من افتراض كونه مصيبا أم مخطئا فيكون التقييد بهذا المعنى ( أنّ العلم بالحكم سواء كان الحكم ثابتا أو مجرّد صورة ذهنيّة قد أخذ قيدا في موضوع شخص ذلك الحكم ).

ففي الحالة الأولى لا إشكال في استحالة أخذ العلم بالحكم - بمعنى الحكم المقطوع الثابت في الواقع - في موضوع شخص ذلك الحكم وذلك للدور بالتقريب المتقدّم ؛ لأنّ النتيجة هي أنّ العلم سوف يكون متوقّفا على ثبوت الحكم في الواقع ، والحال أنّ العلم بذلك من قيود موضوع الحكم ممّا يعني أنّه لا ثبوت للحكم قبل العلم ، فيؤدّي إلى أنّ الحكم متقدّم على العلم ومتأخّر عنه ، أو يصبح ثبوت الحكم موقوفا على نفسه ؛ لأنّه موقوف على العلم بثبوت الحكم وكلاهما مستحيل.

وأمّا في الحالة الثانية فما ذكر من الجواب على تقريب الدور يكون تامّا ؛ وذلك لأنّ المأخوذ قيدا في موضوع الحكم ليس هو القطع المصيب ليكون الحكم الثابت واقعا هو متعلّق العلم والقطع ، بل الأعمّ منه ؛ ولذلك لو فرض خطأ القاطع في قطعه فإنّ لازم ذلك أنّ مقطوعه ليس ثابتا في الواقع ، ممّا يعني أنّ القطع به لا يجعله ثابتا وحقيقة ، ومن هنا فيحلّ إشكال الدور ؛ لأنّ القطع بالحكم الثابت لدى القاطع في ذهنه قد أخذ في موضوع ثبوت الحكم واقعا ، فيكون الثبوت الواقعي للحكم موقوفا على الثبوت الذهني له فلا دور ؛ لاختلاف الجهة والموضوع بينهما.

فإنّ الثبوت الواقعي قد أخذ في موضوعه الثبوت الذهني قيدا فيه ، وأمّا الثبوت الذهني فلم يؤخذ فيه قيديّة الثبوت الواقعي ؛ لأنّه غير متوقّف عليه أصلا.

إلا أنّه مع ذلك يقال بالاستحالة أيضا ، وذلك لوجهين آخرين غير محذور الدور ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 182

ولكنّ الافتراض مع هذا مستحيل ، وقد برهن على استحالته بوجوه :

منها : أنّ الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطا بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل أن يسلّم به القاطع ؛ لأنّه يخالف طبيعة الكاشفيّة في القطع التي تجعل القاطع دائما يرى أنّ مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.

الوجه الأوّل : أنّ أخذ القطع الأعمّ من المصيب والمخطئ قيدا في موضوع شخص الحكم وإن كان لا يبتلي بمحذور الدور المذكور سابقا ، إلا أنّه في نفسه مستحيل ؛ وذلك لأنّ تصويره يعني أنّ ثبوت الحكم موقوف على العلم بالحكم ذهنا ، ممّا يؤدّي إلى أنّ العلم بالحكم ذهنا هو السبب الذي به يوجد الحكم في الواقع ؛ لأنّ العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب.

وهذا لا يمكن قبوله ولا المصير إليه ؛ لأنّ دور القطع هو دور المرآتيّة والكاشفيّة ، فهو يري الواقع للقاطع بقطع النظر عمّا إذا كان هذا الواقع حقّا وصوابا أم مجرّد وهم وخيال ، فالقاطع يرى أنّ مقطوعه ثابت في الواقع والقطع هو الذي يريه هذا الواقع ، ممّا يعني أنّ القاطع نفسه - سواء كان قطعه مصيبا أم مخطئا - لا يرى أنّ قطعه هو الذي يولّد ويكوّن الواقع ، بل يراه كاشفا له عن الواقع فقط.

وحينئذ فما قيل في دفع إشكال الدور وإن كان معقولا في نفسه ، ولكنّه يلزم منه محذور آخر هو في الاستحالة بمكان ؛ لأنّه يؤدّي إلى صيرورة العلم هو الذي يكوّن الواقع ، وهو خلف حقيقة العلم وخلف الواقع أيضا.

ومن هنا فإذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فقد وجبت عليك ) ، كان معناه أنّ ثبوت الوجوب واقعا منوط بالعلم ذهنا بالوجوب ، فكان للعلم مدخليّة في ثبوت الواقع وتكوينه وليس مجرّد الإراءة والكشف عنه ، وهذا يستحيل التصديق به حتّى من نفس القاطع ؛ لأنّه لا يرى أنّ قطعه هو الذي كوّن وجوب الصلاة ، بل يراه كشف عن هذا الوجوب فقط ، فضلا عن كون هذا الافتراض في نفسه مخالفا لحقيقة القطع والعلم.

ومنها : أنّه يلزم الدور في مرحلة وصول التكليف ؛ لأنّ العلم بكلّ تكليف يتوقّف على العلم بتحقّق موضوعه ، وموضوعه بحسب الفرض هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقّفا على العلم بالعلم بالتكليف ، والعلم بالعلم نفس

ص: 183

العلم ؛ لأنّ العلم لا يعلم بعلم زائد ، بل هو معلوم بالعلم الحضوري لحضوره لدى النفس مباشرة ، وهذا ينتج توقّف العلم على نفسه.

الوجه الثاني : للاستحالة هو أنّ يقال : إنّه لو فرض أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع نفس الحكم بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، فإنّ مثل هذا التكليف يستحيل وصوله إلى المكلّف ، فلا يكون فعليّا بحقّه ؛ لأنّه إذا استحال وصوله إليه والوصول شرط في الفعليّة استحال كونه منجّزا وفعليّا على المكلّف.

وتوضيحه : أنّ العلم ينقسم إلى العلم الحصولي والعلم الحضوري ، فالعلم الحصولي هو حضور صورة الشيء في الذهن لا نفس الشيء ، فالعلم بالأشياء الخارجيّة كلّها من العلم الحصولي ؛ لأنّ صورتها هي التي تحصل في الذهن لا هي نفسها كالعلم بأنّ النار حارّة ، فإنّ صورة النار هي التي تحصل لا نفس النار الخارجيّة بما لها من خاصيّة الحرارة والإحراق كما هو واضح.

بينما العلم الحضوري هو حضور نفس المعلوم في الذهن لا مجرّد صورته فقط ، أي حضور شيء لشيء ، وهذا يكون بالنسبة للمجرّدات ، فالنفس بما أنّها مجرّدة فهي تعلم ذاتها علما حضوريّا ، بمعنى أنّ الإنسان يعلم ذاته لحضور ذاته بنفسها عنده لا مجرّد صورتها ، إذ المفروض أنّ النفس مجرّدة عن المادّة والصورة.

وهكذا علم النفس بما تعلمه فإنّ الصور الذهنيّة التي حضرت إلى الذهن تكون معلومة للنفس علما حضوريّا ؛ لأنّ نفس هذه الصورة حاضرة لدى النفس ولا يحتاج علمها بها إلى تصوّرها ، وإلا لزم التسلسل الذي لا ينتهي.

وعلى هذا نقول : إنّ العلم بالحكم لو كان قيدا في موضوع شخص الحكم ، فوصوله إلى المكلّف لا يكون إلا بوصول موضوعه ؛ لأنّ الحكم مرتبط بموضوعه ، وعلاقة الحكم بموضوعه علاقة السبب بالمسبّب ، فلكي يصل الحكم إلى المكلّف ويصبح فعليّا لا بدّ أن يصل موضوعه إليه ويصبح فعليّا في رتبة سابقة.

والمفروض هنا أنّ من جملة قيود الموضوع هو العلم بالحكم ، وهذا معناه أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالموضوع أي على العلم بالحكم ، ممّا يعني أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالعلم بالحكم ؛ لأنّه هو الموضوع ، وهذا ينتج أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالحكم فيتوقّف الشيء على نفسه وهو دور باطل.

ص: 184

وأمّا لما ذا كان العلم بالحكم هو نفسه العلم بالحكم؟ فهذا اتّضح ممّا ذكرناه آنفا ؛ لأنّ علم النفس بما لديها من علوم وصور ذهنيّة هو علم حضوري أي لا يحتاج إلى علم زائد ولا إلى صور ذهنيّة أخرى ، بل العلم حاضر لدى النفس بنفسه ؛ لأنّه مجرّد كيف نفساني وليس مركّبا من المادّة والصورة ، فالعلم بالعلم ليس إلا نفس العلم.

وبهذا يظهر أنّ محذور الدور والذي روحه وحقيقته توقّف الشيء على نفسه ، بمعنى أنّه إذا فرض في سلسلة المعلولات كان موجودا ، وإذا فرض في سلسلة العلل كان موجودا أيضا ، فهذا المحذور لا يجري فقط في عالم الجعل والتشريع بل يجري أيضا في عالم الوصول والفعليّة.

ولازم ذلك أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع الحكم نفسه وشخصه مستحيل.

إلا أنّ كلّ هذا إنّما يرد إذا أخذ العلم بالمجعول في موضوعه ، ولا يتّجه إذا أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، فبإمكان المولى أن يتوصّل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل.

ويمكن المناقشة في كلا التقريبين للاستحالة بالتقريب التالي :

إنّ المحذور المتقدّم سواء كان بلحاظ عالم الجعل والتشريع أم بلحاظ عالم الوصول والفعليّة ، إنّما يتوجّه فيما إذا كان قيد العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول ، فإنّه بهذا اللحاظ يشكل بالدور ، فيقال : إذا فرض أنّ العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول نفسه ، فهذا معناه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ العلم بالحكم المجعول لا يكون ثابتا إلا بعد تحقّق موضوعه وهو قد أخذ فيه العلم بالحكم المجعول ، فيلزم أن يكون العلم بالحكم المجعول موقوفا على ثبوت العلم بالحكم المجعول فيدور.

ولكن إذا أخذنا العلم بالجعل قيدا في موضوع الحكم المجعول فهذا لا إشكال فيه ولا دور.

أمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الجعل والتشريع فلأنّ ثبوت الحكم المجعول وإن صار موقوفا على العلم بالحكم الجعلي إلا أنّ هذا التوقّف لا مانع منه ؛ إذ لا محذور في أن يكون الحكم المجعول مسبّبا عن العلم بالحكم الجعلي ، وذلك للتغاير بينهما ، فإنّ

ص: 185

الحكم بلحاظ عالم الجعل هو الحكم الثابت على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، وهما موجودان وثابتان معا في عالم اللحاظ ، بينما الحكم المجعول هو الحكم الذي يصبح فعليّا على تقدير وجود موضوعه في الخارج ، فالشارع لا يجعل الحكم فعليّا على المكلّف إلا إذا علم بالحكم في عالم الجعل ، فما لم يعلم به لا فعليّة للحكم عليه.

فمثلا وجوب الجهر على المكلّف في القراءة لا يكون مجعولا ولا فعليّا على المكلّف ، إلا إذا علم بثبوت هذا الحكم في عالم الجعل ، فما هو المتوقّف عليه إنّما هو العلم بالجعل وما هو المسبّب والمتولّد من ذلك إنّما هو العلم بالمجعول فلم يتوقّف الشيء على نفسه ولم يتولّد الشيء من نفسه.

وأمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الوصول فكذلك ؛ لأنّ العلم بالحكم الجعلي ووصوله إلى المكلّف ليس هو نفسه العلم بالحكم المجعول ؛ لأنّ متعلّق العلم الأوّل لمّا كان مغايرا لمتعلّق العلم الثاني فيمكن أن يؤخذ قيدا فيه ، نظير ما إذا أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم آخر مخالف للحكم الأوّل.

وهكذا يظهر أنّه بالإمكان أن يتوصّل المولى إلى نتيجة التقييد من خلال هذا الطريق ، ولا يحتاج إلى طريق آخر للوصول إلى هذه النتيجة.

وأمّا من لم يأخذ هذا المخلص بعين الاعتبار كالمحقّق النائيني ; فقد وقع في حيرة من ناحيتين :

الأولى : أنّه كيف يتوصّل الشارع إلى تخصيص الحكم بالعالم به إذا كان التقييد المذكور مستحيلا؟

الثانية : أنّه اذا استحال التقييد استحال الإطلاق بناء على مختاره من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل الملكة والعدم ، وهذا يعني أنّ الجعل الشرعي يبقى مهملا بلا تقييد ولا إطلاق ، فكيف يرفع هذا الإهمال ويتعيّن في المطلق تارة وفي المقيّد أخرى؟

تقدّم أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ؛ لمحذور الدور فيما إذا كان العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول ، وقلنا بأنّ هذا المحذور لا يرد فيما إذا كان العلم في عالم الجعل قيدا للحكم في عالم المجعول.

ص: 186

إلا أنّ الميرزا النائيني ذهب إلى عدم إمكان حلّ إشكال الدور بذلك ، واعتبر أنّ إشكال الدور أو توقّف الشيء على نفسه ثابت ، سواء كان التقييد بلحاظ عالم الإنشاء أم بلحاظ عالم الفعليّة ، فقال ما حاصله : أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الإنشاء يلزم منه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ الإنشاء يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة أي عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر الوجود ، وهذا الإنشاء ثابت قبل تحقّق الموضوع في الخارج ، وإنّما يصبح الإنشاء فعليّا بتحقّق الموضوع في الخارج.

وعليه ، فإذا أخذ العلم بالإنشاء قيدا في الموضوع لزم حين إنشاء الحكم أن يتصوّر الموضوع ، والموضوع قد أخذ فيه العلم بالإنشاء فيكون العلم بالإنشاء سابقا على الإنشاء أو مولّدا للإنشاء وهو خلف حقيقة العلم ؛ لأنّ دوره إنّما هو الكاشفيّة لا التوليد. مضافا إلى استلزامه الدور ؛ إذ يتوقّف الإنشاء على العلم بالإنشاء.

وهكذا الحال بالنسبة لأخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الفعليّة ؛ لأنّ الحكم لا يكون فعليّا إلا يتحقّق موضوعه ووصوله إلى المكلّف ، والمفروض أنّ موضوعه قد أخذ فيه العلم بالحكم.

وهذا يعني أنّ الحكم لا بدّ أن يكون ثابتا وفعليّا وواصلا للمكلّف في رتبة سابقة ، والمفروض أنّ ثبوته كذلك يعني فعليّته التي هي فرع تحقّق موضوعه ، فصار الحكم موقوفا على تحقّق الموضوع وفعليّته ، وصار الموضوع موقوفا على تحقّق الحكم وفعليّته ، فكان كلّ منهما متوقّفا على الآخر وهذا دور.

ومن هنا ذهب إلى أنّه لا يمكن للشارع أن يتوصّل إلى نتيجة التقييد بأخذ العلم قيدا في الحكم ، سواء كان في عالم الإنشاء مأخوذا قيدا أم في عالم الفعليّة.

ولكن توجد أمامه مشكلتان لا بدّ من حلّهما :

الأولى : أنّه قد ثبت في بعض الموارد الفقهيّة تقييد الحكم بالعالم به ، فكيف يمكن للشارع أن يتوصّل إلى تقييد الحكم بالعالم به ، مع أنّ التقييد مستحيل كما تقدّم؟

والثانية : أنّ الميرزا ذهب في بحث الإطلاق والتقييد إلى أنّ التقابل بينهما في عالم الثبوت هو تقابل العدم والملكة ، بمعنى أنّه لا يصحّ الإطلاق إلا في المورد الذي يكون قابلا للتقييد ، فإذا كان المورد قابلا للتقييد ولم يقيّد استكشف من ذلك الإطلاق.

وأمّا إذا كان المورد غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق ، إذ قد يكون مراده

ص: 187

التقييد ولكنّه لم يقيّد من أجل محذور الدور أو توقّف الشيء على نفسه ، ولذلك يكون المورد مهملا من ناحية الإطلاق والتقييد ، إلا أنّ هذا الإهمال لا يمكن الالتزام به عمليّا ؛ لأنّ مراد المولى إمّا أن يكون مطلقا أو يكون مقيّدا ، ولذلك نحتاج إلى ما يرفع هذا الإهمال لتعيين المطلق أو المقيّد.

وهذا بخلاف مذهب المشهور القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما كما هي مقالة السيّد الخوئي ، فإنّ النتيجة هي أنّه إذا استحال التقييد تعيّن الإطلاق وهكذا العكس.

والحاصل : أنّ الميرزا يواجه مشكلة على صعيدين :

الأوّلى : في كيفيّة التوصّل إلى تخصيص بعض الأحكام بالعالم بها.

الثانية : في كيفيّة الخروج من حالة الإهمال بالنسبة للإطلاق والتقييد.

وأمّا جوابه عنهما فهو :

وقد حلّ رحمه اللّه ذلك بافتراض جعل ثان يتكفّل إثبات نفس الحكم للعالم بالجعل الأوّل خاصّة إذا أريد التقييد ، وللمكلّف مطلقا من حيث علمه بالجعل الأوّل وجهله به إن أريد الإطلاق.

وبذلك تتحقّق نتيجة التقييد والإطلاق ، وإنّما نعبّر بالنتيجة لا بها ؛ لأنّ ذلك لم يحصل بالجعل الأوّل المهمل ، وإنّما عوّض عن إطلاقه وتقييده بجعل ثان على الوجه المذكور.

ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد والإطلاق في نفس الجعل الأوّل ؛ لأنّ العلم بالحكم الأوّل أخذ قيدا في الحكم الثاني لا في نفسه ، فلا دور.

ونظرا إلى أنّ الجعلين قد نشا من غرض واحد ولأجل ملاك فارد كان التقييد في الثاني منهما في قوّة التقييد في الأوّل ، ولهذا عبّر عن الثاني بمتمّم الجعل الأوّل (1).

ثمّ إنّ الميرزا قد ذكر حلاّ للمشكلتين معا ، وهذا الحلّ أسماه بمتمّم الجعل.

وتوضيحه : أنّ الأمر لمّا كان مهملا من ناحية تقييده بالعالم به أو إطلاقه للعالم والجاهل معا ، وهذا الإهمال نشأ نتيجة استحالة التقييد بالعلم والمفروض أنّه إذا

ص: 188


1- فوائد الأصول 3 : 11 - 12.

استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ولكن هذا الإهمال إنّما هو بحسب عالم الدلالة والإثبات.

وأمّا بلحاظ عالم الواقع والثبوت فالشارع إمّا أن يكون قد رأى أنّ الملاك محفوظ في حالتي العلم والجهل فهذا يعني الإطلاق ، وإمّا أنّه محفوظ في حالة العلم به دون الجهل ممّا يعني أنّه مقيّد ، فالمراد الواقعي للشارع لا يخلو من الإطلاق أو التقييد ولا يتصوّر الإهمال في المراد الواقعي الجدّي في عالم الثبوت ؛ لأنّ الإهمال في عالم الملاك غير معقول.

وعلى هذا فالشارع يمكنه أن يتوصّل إلى نتيجة الإطلاق أو إلى نتيجة التقييد ، وذلك بأن يجعل حكما آخر يتكفّل إثبات أنّ الحكم الأوّل مختصّ بالعالم به إذا كان يريد التقييد ، أو إثبات أنّ الحكم الأوّل شامل للعالم والجاهل إذا كان يريد الإطلاق ، وبهذا الجعل الثاني تحصل لدينا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، ولكن لا يحصل لدينا الإطلاق والتقييد أنفسهما.

والوجه في ذلك هو : أنّ المقام ليس مثل سائر المقامات الأخرى التي يمكن استكشاف الإطلاق فيها لمجرّد عدم ذكر القيد على أساس مقدّمات الحكمة كما إذا قيل : ( أعتق رقبة ) أو ( أكرم العالم ) ، فإنّه يمكننا إثبات الإطلاق على أساس مقدّمات الحكمة ؛ لأنّه لو كان يريد التقييد لذكر ما يدلّ عليه مع كونه في مقام البيان والتفهيم ، فعدم ذكره للقيد دليل على إرادة الإطلاق ، إلا أنّ مقدّمات الحكمة هذه لا تجري في مقامنا وما شابهه كأخذ امتثال الأمر مثلا.

والفرق بين المقامين هو أنّ الحكم في تلك الموارد انصبّ على المقسم ؛ لأنّ الرقبة تنقسم إلى المؤمنة وغيرها وهكذا العالم ، فلمّا انصبّ على المقسم ولم يرد ما يدلّ على شيء آخر زائدا عليه استكشف أنّ مراده المقسم فقط الشامل لكلا القسمين فيكون مطلقا.

وأمّا في مقامنا فالحكم لا ينصبّ على المقسم ؛ لأنّ التقسيم إنّما يحصل بعد الحكم والأمر ، فمثلا العلم والجهل إنّما هما وصفان للأمر والحكم ، فالمكلّف إمّا أن يعلم بالحكم والأمر وإمّا أن يجهلهما ولكن علمه أو جهله بعد فرض ثبوت الأمر والحكم.

ومن الواضح أنّه حينما ثبت الأمر والحكم كان منصبّا على الطبيعة والماهيّة لا على

ص: 189

شيء آخر ، والطبيعة والماهيّة ليست مقسما للعلم والجهل ، ولذلك لا يمكن إثبات الإطلاق للعالم والجاهل كما لا يمكن إثبات التقييد بخصوص العالم.

هذا ولكن يمكن للشارع أن يتوصّل إلى نتيجة الإطلاق والتقييد ، وذلك بجعل حكم آخر وهو ما يسمّى بمتمّم الجعل ، فمن خلال هذا الجعل الثاني إمّا أن يستكشف نتيجة الإطلاق وإمّا أن يستكشف نتيجة التقييد ، فإذا ذكر الشارع متمّم الجعل وذكر فيه قيد العلم بأن قال : إنّ الحكم الأوّل مقيّد بالعالم به ثبتت نتيجة التقييد كما هو الحال بالنسبة للجهر والإخفات ، وإن لم يذكر متمّم الجعل هذا فعدم ذكره يكون دليلا على أنّ الجعل الأوّل المراد منه خصوص ما تعلّق به ، فيشمل حالتي العلم والجهل فتحصل نتيجة الإطلاق.

هذا وقد ثبت بمتمّم الجعل نتيجة الإطلاق في سائر الأحكام الشرعيّة ، ولذلك ادّعي الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وثبت على أساسه نتيجة التقييد في بعض الموارد كالجهر والإخفات والقصر والتمام.

يبقى الكلام في حقيقة متمّم الجعل فنقول : إنّ متمّم الجعل عبارة عن أمر آخر ناشئ من نفس ملاك الأمر الأوّل ، فهو وإن كان هناك تعدّد في الأمر إلا أنّ الأمرين لهما ملاك واحد ، ولذلك لا يوجد إلا امتثال واحد وعقاب واحد على المخالفة.

ولا يقال : إنّ الأمر الثاني لمّا كان مجعولا على نحو الاستقلال فله مخالفة وامتثال غير المخالفة والامتثال للأمر الأوّل ؛ لأنّه يقال : إنّ تعدّد الأمر لو كان على أساس تعدّد الملاك للزم الإشكال ، إلا أنّه ليس كذلك بل الأمر الثاني كان لأجل بيان المراد الواقعي وبيان ما هو الملاك الثابت واقعا من الأمر الأوّل ، وليس ناشئا من ملاك استقلالي فيه ؛ لأنّ المولى لا علاج لديه من أجل تحصيل غرضه إلا بذلك ، فهناك ملاك واحد لا يمكن إبرازه إلا بأمرين.

ومن هنا كان الوجه في تسمية الجعل الثاني بمتمّم الجعل ؛ لأنّه به يتمّ الإفصاح عن الملاك ، ولا يمكن للأمر الأوّل وحده أن يكشف عن الملاك الواقعي للمولى.

وبهذا يظهر أنّ مشكلة الإهمال تنحلّ بمتمّم الجعل الذي يثبت نتيجة الإطلاق أو التقييد ، كما أنّ مشكلة تقييد الحكم بالعالم به تنحلّ أيضا بالتوصّل إليها عن طريق متمّم الجعل هذا.

ص: 190

وأمّا مشكلة الدور التي كانت واردة فيما لو أريد أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه ، فهذه لا تأتي هنا ؛ لأنّ التقييد إنّما كان في الجعل الثاني لا في نفس الجعل الأوّل ، بمعنى أنّ الشارع قد أخذ العلم بالحكم قيدا لا في نفس الأمر الأوّل وإنّما بالأمر الثاني ، فالعلم بالحكم الأوّل قد أخذ قيدا في الحكم الثاني ، فثبوت الحكم الثاني موقوف على ثبوت الحكم الأوّل ، وأمّا الحكم الأوّل فهو ليس موقوفا على العلم بالحكم الثاني ليلزم الدور.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بالحكم الأوّل وإن كان قيدا في ثبوت الحكم الثاني ، إلا أنّ ثبوت الحكم الأوّل لم يؤخذ فيه العلم بالحكم الثاني ليلزم الدور أو توقّف الشيء على نفسه.

وأمّا كيفيّة تأثير الجعل الثاني على الجعل الأوّل في الإطلاق والتقييد ، فلأنّ الجعل الثاني لمّا كان ناشئا من نفس ملاك الجعل الأوّل فكان التقييد فيه بقوّة التقييد في الجعل الأوّل والإطلاق فيه بقوّة الإطلاق في الجعل الأوّل أيضا ، فالأمران معا كأنّهما أمر واحد ، وإنّما لم يجعل الشارع الأمر واحدا ؛ لأنّه لا يمكنه التوصّل إلى مراده الجدي وبيان ملاكه الواقعي بالأمر الواحد ؛ لأنّه سوف يبتلي بالإهمال ؛ لأنّ التقييد مستحيل فيستحيل معه الإطلاق.

هذا ملخّص ما ذكره الميرزا من حلّ للمشكلة.

إلا أنّ السيّد الشهيد لم يقبل هذه الفكرة ، ولذلك ردّ كلام الميرزا بقوله :

ويرد عليه : أنّه إن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأوّل فهذا التقييد ممكن في الجعل الأوّل مباشرة كما عرفت ، وإن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بفعليّة المجعول في الجعل الأوّل المهمل فهذا غير معقول ؛ لأنّه يفترض أنّ فعليّة المجعول بالجعل الثاني فرع العلم بفعليّة المجعول بالجعل الأوّل المهمل ، وحينئذ نتساءل أنّ المجعول بالجعل الأوّل المهمل هل ترتبط فعليّته بالعلم به أو لا؟ فعلى الأوّل يعود المحذور وهو توقّف الشيء على العلم به ، وعلى الثاني يلزم الخلف وأن يكون الجعل المهمل الذي لا إطلاق فيه مطلقا ؛ لأنّ ثبوت مجعوله بدون توقّف على القيد هو معنى الإطلاق.

الإشكال على مقالة الميرزا بمتمّم الجعل ، وحاصله أن يقال : إنّ الجعل الثاني الذي

ص: 191

به يتمّ الجعل الأوّل المهمل به ، حيث أخذ العلم قيدا فيه فنسأل عن كيفيّة أخذ قيديّة العلم هذه؟

فإن كان مقيّدا بالعلم بالجعل الأوّل بأن قال المولى : ( إذا علمت بالجعل الأوّل فالجعل الثاني فعلي ) ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ولا يلزم منه محذور الدور كما تقدّم ؛ لأنّ العلم بالجعل الأوّل لا يتوقّف على العلم بالجعل الثاني وإنّما التوقّف من جهة الجعل الثاني فقط فإنّه موقوف على العلم بالجعل الأوّل ، إلا أنّه مع ذلك يكون لغوا ولا فائدة منه ؛ لأنّه تطويل بلا فائدة إذ كان بإمكان المولى أن يقيّد بهذا القيد في نفس الجعل الأوّل فيقول : ( إذا علمت بالجعل الأوّل فيصبح فعليّا عليك ) ؛ لأنّ العلم بالجعل يمكن أخذه قيدا في المجعول كما تقدّم.

وإن كان مقيّدا بالعلم بفعليّة الجعل الأوّل ، بأن قال المولى : ( إذا علمت بفعليّة الجعل الأوّل المهمل فالجعل الثاني فعلي ) ، فهذا غير معقول في نفسه.

والوجه في ذلك : هو أنّ الفعليّة معناها تحقّق الموضوع وقيوده وشروطه ، فلكي يصبح الحكم فعليّا لا بدّ من تحقّق الموضوع وكلّ ما أخذ فيه. وعليه ، فلكي يعلم المكلّف بفعليّة الجعل الأوّل لا بدّ من تحقّق موضوعه أوّلا ، وموضوع الجعل الأوّل لا يخلو إمّا أن يكون مقيّدا أو مطلقا أو مهملا ، والكلّ لا يمكن الالتزام به. إذا فلا يمكن أن يعلم المكلّف بالفعليّة لعدم إمكان تحقّق هذه الفعليّة.

وبيان ذلك : أنّ موضوع الجعل الأوّل إن كان مقيّدا بالعلم ومختصّا بالعالم فقط ، فهذا يلزم منه محذور الدور وتوقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ معناه هكذا ( العلم بالجعل الأوّل قيد في موضوع الجعل الأوّل ) فيتوقّف العلم به على العلم.

وإن كان غير مقيّد بالعلم فهذا معناه أنّه يشمل العالم والجاهل وهو معنى الإطلاق ، والمفروض أنّه مهمل ، والمهمل معناه أنّ التقييد والإطلاق غير ملحوظين فيه ، فيكون إطلاقه مخالفا لحقيقة الإهمال فيه.

وإن كان مهملا كما يفترضه الميرزا فهذا معناه أنّ المكلّف لا يمكنه العلم بموضوعه ؛ لأنّه لا يعلم هل موضوعه مقيّد بالعلم أم هو شامل للعلم والجهل معا؟ ومع عدم العلم بموضوعه لا يمكن العلم بفعليّته ، وبالتالي لا يكون الجعل الثاني ثابتا ؛ لأنّه موقوف على العلم بفعليّة الجعل الأوّل المهمل.

ص: 192

مضافا إلى أنّ الإهمال نفسه غير معقول ثبوتا ؛ إذ المولى إمّا أن يكون لاحظ قيد العلم أو لا ، فعلى الأوّل يكون مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا ، ولا معنى لفرض الإهمال الثبوتي.

وبهذا يظهر أنّ فكرة متمّم الجعل غير ممكنة في نفسها.

وثمرة هذا البحث تظهر في إمكان التمسّك بإطلاق دليل الحكم لنفي دخل قيد العلم في موضوعه ، فإنّه إن بني على إمكان التقييد والإطلاق معا أمكن ذلك ، كما هو الحال في نفي سائر القيود المحتملة بالإطلاق.

وإن بني على مسلك المحقّق النائيني القائل باستحالة التقييد والإطلاق معا فلا يمكن ذلك ؛ لأنّ الإطلاق في الحكم مستحيل ، فكيف يتمسّك بإطلاق الدليل إثباتا لاكتشاف أمر مستحيل؟!

وإن بني على أنّ التقييد مستحيل والإطلاق ضروري - كما يرى ذلك من يقول بأنّ التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل التناقض أو تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما - فلا يمكن التمسّك بإطلاق الدليل ؛ لأنّ إطلاق الدليل إنّما يكشف عن إطلاق مدلوله وهو الحكم ، وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبنى ، وإنّما الشكّ في إطلاق الملاك وضيقه ، ولا يمكن استكشاف إطلاق الملاك لا بإطلاق الحكم المدلول للدليل ولا بإطلاق نفس الدليل.

أمّا الأوّل فلأنّ إطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يجعله مقيّدا فلم يفعل ، والمفروض في المقام استحالة التقييد.

وأمّا الثاني فلأنّ الدليل مفاده مباشرة هو الحكم لا الملاك.

وأمّا الثمرة : من هذا البحث فهي تظهر فيما إذا شكّ في كون العلم مأخوذا قيدا في موضوع الحكم أو لا ، بمعنى أنّه في صورة الشكّ في أخذ العلم قيدا في موضوع الحكم ، هل يمكن نفي هذا القيد على أساس مقدّمات الحكمة أم لا يمكن ذلك؟

والجواب يختلف باختلاف المباني ، وبيان ذلك : أنّه إذا بني على أنّ التقييد والإطلاق كلاهما ممكن في نفسه ، بمعنى أنّ الشارع يمكنه أن يجعل الحكم مقيّدا بالعلم به كما يمكنه أن يجعله مطلقا من هذه الناحية ، فإذا جاء الدليل الدالّ على

ص: 193

الحكم خاليا من القيد المذكور أمكن القول بأنّه مطلق لجريان مقدّمات الحكمة ، فإنّه يقال : لو كان يريد القيد ومع ذلك لم يذكره لكان مخلاّ في مقام البيان لمراده ، إذا فهو لا يريد التقييد ، فيتعيّن أنّه يريد الإطلاق ؛ لأنّ الإهمال الثبوتي مستحيل. وهذا نظير سائر الموارد التي يحتمل فيها التقييد فإنّه ينفى بقرينة الحكمة.

وأمّا إذا بني على مسلك المحقّق النائيني بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، ففي مقامنا حيث يستحيل التقييد بالعلم لما مرّ من محذور الدور أو توقّف الشيء على نفسه أو على العلم به ، فيستحيل الإطلاق أيضا.

ولا يمكننا إثبات الإطلاق على أساس قرينة الحكمة ؛ لأنّها تبتني على أنّ المولى إذا لم يقيّد فهو يريد الإطلاق والمفروض أنّ التقييد مستحيل ، فقد يكون المولى مراده التقييد ولكنّه لم يقيّد لأجل محذور الاستحالة ، فلا يستكشف من إطلاق الدليل على أساس مقدّمات الحكمة الإطلاق ؛ لأنّها لا تجري أصلا.

بل لو قيل بجريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الدليل فمع ذلك لا يمكننا الأخذ بها ؛ لأنّها تريد أن تثبت لنا الإطلاق والمفروض أنّنا أثبتنا استحالته في رتبة سابقة ، ولا يمكن الأخذ بدليل يثبت لنا أمرا مستحيلا.

وأمّا إذا بني على مسلك السيّد الخوئي القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو بني على المسلك المختار عند السيّد الشهيد القائل بأنّ التقابل بينهما هو تقابل النقيضين ، فهنا لمّا استحال تقييد الحكم بالعلم به فسوف يتعيّن الإطلاق بالضرورة ؛ لأنّ النقيضين وهكذا الضدّين اللذين لا ثالث لهما إذا استحال أحدهما تعيّن الآخر بالضرورة ؛ إذ يستحيل ارتفاع النقيضين معا كما هو واضح.

وعليه ، فإذا كان الإطلاق ضروري الوقوع فلا يمكننا أيضا التمسّك بإطلاق الدليل وإجراء مقدّمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ إطلاق الدليل ما ذا يراد به؟

فإن كان المراد به إثبات إطلاق الحكم فهذا معلوم بالضرورة ؛ لأنّ الحكم الذي هو مدلول للدليل قد علم إطلاقه في رتبة سابقة ، فيكون إثبات الإطلاق لاكتشافه تحصيلا للحاصل فيلغو.

وإن كان المراد به إثبات إطلاق الملاك فهذا غير ممكن أيضا ؛ لأنّ إثبات إطلاق

ص: 194

الملاك إمّا أن يكون عن طريق الإطلاق في الدليل ، وإمّا عن طريق الإطلاق في المدلول أي في الحكم ، وكلاهما غير ممكن.

أمّا عدم إمكان إثبات إطلاق الملاك على أساس الإطلاق في الدليل ؛ فلأنّ الإطلاق في الدليل يثبت كون المدلول مطلقا والمدلول ليس هو إلا الحكم ، فينحصر الوجه في إثبات إطلاق الملاك بإطلاق الحكم.

وأمّا عدم إمكان إثبات إطلاق الملاك بإطلاق الحكم الذي هو مدلول الدليل ، فلأنّ اكتشاف الإطلاق بهذا الطريق فرع أن يكون الحكم مطلقا ، وإطلاق الحكم في المقام كان ضروريّا لاستحالة التقييد ، إلا أنّ هذا لا يكشف عن الإطلاق في الملاك ؛ لأنّه قد يكون ملاك المولى في التقييد ولكنّه لم يقيّد بسبب الاستحالة ولهذا أطلق ، فإطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك فيما لو كان يمكن للمولى أن يجعل الحكم مقيّدا ولكنّه لم يقيّده ، فيدلّ ذلك على أنّه مطلق وإطلاقه حينئذ يكشف عن إطلاق الملاك ، إلا أنّ هذا غير موجود في محلّ الكلام بسبب استحالة التقييد.

وبتعبير آخر : إنّ إطلاق الملاك ينحصر طريقه في إثبات الإطلاق في الحكم ، ولكن الإطلاق في الحكم تارة يكون متعيّنا ومفروضا على المولى ، وأخرى لا يكون كذلك بل المولى يريده.

فعلى الثاني يمكن استكشاف إطلاق الملاك على أساس إطلاق الحكم ؛ لأنّ إطلاق الحكم لمّا كان مرادا للمولى فهو يعني أنّ الحكم مطلق لجميع الحالات وبه يستكشف إطلاق الملاك كذلك.

وأمّا على الأوّل فلا يمكن استكشاف إطلاق الملاك ؛ لأنّ إطلاق الحكم لمّا كان مفروضا على المولى ومتعيّنا فهو قد لا يريده ثبوتا ، وإنّما أطلق بسبب المحذور في التقييد ، فقد يكون الملاك على أساس التقييد فقط فلا يمكن إثبات إطلاق الملاك.

وفي مقامنا إطلاق الحكم كان على أساس استحالة التقييد ممّا يعني أنّ الإطلاق مفروض ومتعيّن على المولى ؛ لأنّه ضروري الوقوع ، ولذلك لا يمكن أن يكشف عن إطلاق الملاك.

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله :

وأمّا الافتراض الثاني فهو مستحيل ؛ لأنّ القاطع - سواء كان مصيبا في قطعه أو

ص: 195

مخطئا - يرى في ذلك اجتماع الحكمين المتضادّين فيمتنع عليه أن يصدّق بالحكم الثاني ، وما يمتنع تصديق المكلّف به لا يمكن جعله ، وفي حالات إصابة القطع للواقع يستبطن الافتراض المذكور اجتماع الضدّين حقيقة.

وهذا الافتراض في حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع بجعل حكم على القاطع مضادّ لمقطوعه ، واستحالته بتعبير آخر هي استحالة الردع عن العمل بالقطع.

الحالة الثانية : أن يؤخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم مضادّ لهذا الحكم ، كما إذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب الصلاة فهي حرام عليك ) ، أو قيل : ( إذا قطعت بحرمة شرب الخمر فهو حلال لك ).

وفي هذه الحالة يقال أيضا بالاستحالة ؛ وذلك للتقريب التالي : أنّ من قطع بوجوب الصلاة مثلا فقطعه إمّا أن يكون مصيبا للواقع أو يكون مخطئا.

وعليه ، فإن كان قطعه مخطئا وفي الواقع لم تكن الصلاة واجبة ، ولكنّه لمّا علم بوجوبها فهو يعتقد أنّها واجبة ، فمثل هذا القاطع لا يمكنه أن يصدّق بأنّها محرّمة ؛ لأنّ تصديقه بذلك يعني أنّه يصدّق باجتماع الضدّين ، واجتماع الضدّين كما أنّه مستحيل الوقوع فكذلك هو مستحيل التصديق والاعتقاد به.

فالاستحالة في اجتماع الضدّين لا تتوقّف على الوقوع في الخارج ، بل هي تعمّ الوجود الذهني أيضا ، فكما لا يمكن وجود الضدّين معا في الخارج على موضوع واحد ، فكذلك لا يمكن وجودهما معا في الذهن على صورة ذهنيّة واحدة.

وإذا استحال التصديق بهما كذلك يستحيل للمولى أن يجعل مثل هذا الحكم ؛ لأنّه لا أثر ولا محرّكيّة له ، وما دام الحكم فاقدا للمحرّكيّة والباعثيّة كان جعله لغوا ، والشارع يمتنع في حقّه أن يشرّع ما هو لغو في نفسه.

وأمّا إن كان قطعه مصيبا للواقع ، فهذا معناه أنّ الصلاة واجبة واقعا والشارع قد حكم بوجوبها واقعا ، ومعه فبالإضافة إلى المحذور السابق سوف يردّ محذور اجتماع الضدّين واقعا وحقيقة ، بمعنى أنّ لازم الحكم المذكور أنّ الشارع قد حكم بوجوب الصلاة وبحرمتها أيضا ، وهذا مستحيل صدوره من الشارع الحكيم الملتفت ؛ لأنّه مستحيل في نفسه.

ص: 196

هذا ، ويمكن تقريب الاستحالة بنحو آخر وذلك بأن يقال : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع ضدّه تعبير آخر عن الردع عن العمل بالقطع بعد حصوله ، ومثل هذا الردع مستحيل ؛ لأنّه إمّا أن يكون بحكم واقعي أو بحكم ظاهري وكلاهما مستحيل.

أمّا أنّه يستحيل الردع الواقعي فلأنّه يؤدّي إلى صدور حكمين متضادّين واقعا ، وهو غير معقول في نفسه فيما إذا كان القطع مصيبا للواقع ، أي يؤدّي إلى اجتماعهما في نظر القاطع وفي الواقع أيضا وهو غير معقول ؛ لأنّه لا يمكنه التصديق بهما معا.

وأمّا أنّه يستحيل الردع الظاهري فلأنّ الحكم الظاهري مأخوذ فيه الشكّ في الحكم الواقعي في رتبة سابقة ، والمفروض أنّ المكلّف قد قطع بوجوب الصلاة فهو غير شاكّ ، ولذلك لا يرى أنّ الردع الظاهري جدّيا بالنسبة إليه على فرض صدوره.

وهذا التقريب تقدّم في مباحث القطع وأنّه لا يعقل سلب المنجّزيّة ولا المعذّريّة عن القاطع لا بحكم واقعي ولا بحكم ظاهري.

ومقامنا يعتبر مصداقا لذلك فهو تعبير آخر عن الردع ؛ لأنّه لمّا كان عبارة عن إنشاء حكم مضادّ لما قطع به ، فهذا معناه أنّ الحكم الثاني يردعه عن العمل بالحكم الأوّل الذي قطع به.

ولا فرق بين المقامين ؛ لأنّه هناك كان من باب سلب الحجّيّة عن القطع وهنا كان من باب جعل حكم آخر مضادّ للحكم المقطوع به ، إلا أنّهما عمليّا شيء واحد ؛ لأنّ سلب الحجّيّة معناها عدم العمل بالقطع وجعل حكم مضادّ معناه أنّه لا يعمل بالقطع السابق.

وأمّا الافتراض الثالث : فقد يطبّق عليه نفس المحذور المتقدّم ، ولكن باستبدال محذور اجتماع الضدّين بمحذور اجتماع المثلين.

وقد يجاب على ذلك بأنّ محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكّد والتوحّد ، كما هو الحال في ( أكرم العادل وأكرم الفقير ) فإنّهما يتأكّدان في العادل الفقير.

ولكنّ هذا الجواب ليس صحيحا ؛ لأنّ التأكّد على نحو التوحّد إنّما يكون في مثلين لا طوليّة وترتّب بينهما كما في المثال لا في المقام ، حيث إنّ أحدهما متأخّر رتبة عن الآخر لترتّبه على القطع به فلا يمكن أن يرتفع محذور اجتماع المثلين بالتأكّد.

ص: 197

الحالة الثالثة : أن يؤخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم مماثل له ؛ كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك ).

وفي هذه الحالة يقال بالاستحالة أيضا ؛ للزوم محذور اجتماع المثلين ، فإنّ اجتماع المثلين كاجتماع الضدّين كلاهما مستحيل سواء كان المكلّف مصيبا في قطعه للواقع أم كان مخطئا ، فإنّه إذا كان مصيبا في قطعه فهذا معناه اجتماع المثلين واقعا على موضوع واحد ، وإن كان مخطئا في قطعه فلازمه اجتماع المثلين في اعتقاده وتصديقه بذلك ؛ لأنّه يرى أنّه مصيب بقطعه دائما ولا يرى أنّ قطعه مخطئ.

والوجه في استحالة المثلين : هو أنّ الحكمين المتماثلين كغيرهما من الأوصاف والأعراض الخارجيّة لا يمكن اجتماعهما معا مع الحفاظ على تعدّدهما ، فإذا كان شيء ما أسود فلا معنى لثبوت سواده مجدّدا بنحو يكون لكلّ سواد منهما وجود مستقلّ ومباين للآخر ، وهكذا في الأحكام الشرعيّة فإنّه إذا كان شيء ما حراما أو واجبا فلا معنى لإيجابه أو تحريمه مجدّدا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيلغو.

وأجيب عن المحذور المذكور بأنّ اجتماع المثلين ممكن فيما إذا أدّى إلى التأكّد والتوحّد ، فيصبح الأمران أمرا واحدا والوجوبان وجوبا واحدا ولكنّه آكد وأشدّ ، نظير ما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( أكرم الفقير ) فإنّهما إذا اجتمعا في شخص واحد لم يكن من اجتماع المثلين ؛ لأنّ الوجوبين يتّحدان ويتأكّدان بلحاظه. ولا يلزم منه تحصيل الحاصل واللغويّة ؛ لأنّ التأكّد فيه غرض عقلائي واضح.

وفيه : أنّ التوحّد والتأكّد إنّما يتصوّران فيما إذا كان بين الشيئين اللذين يراد توحيدهما وتأكيدهما رتبة عرضيّة ، ولم يكن أحدهما متوقّفا على الآخر ومترتّبا في وجوده عليه وفي طوله ، وإلا لكان التأكّد مستحيلا.

وتوضيحه : أنّنا إذا فرضنا شيئين في رتبة واحدة وفي عرض واحد في الوجود أمكن عروضهما على موضوع واحد فيصبحان شيئا واحدا آكد وأشدّ ، كما هو الحال في الأعراض والأوصاف الخارجيّة ، فإنّ عروض السواد على ما هو أسود يؤدّي إلى تأكّد السواد وصيرورته شديدا أكثر ممّا كان عليه سابقا.

وهكذا في مثل : ( أكرم العالم ) و ( أكرم الفقير ) فإنّ عروضهما على شخص واحد يتّصف بالوصفين معا يجعل من وجوب إكرامه وجوبا أكيدا ، ممّا يعني أنّه يوجد

ص: 198

وجوب واحد لإكرامه ولكنّه بسببين هما الفقر والعلم ، وهذا ممكن في نفسه ولا محذور فيه.

ولكن إذا افترضنا شيئين ليس بينهما رتبة وجوديّة عرضيّة ، بل كان أحدهما في طول الآخر ووجوده متوقّف على وجود الآخر ، فهنا يستحيل التأكّد والتوحّد ، والوجه فيه هو : أنّ أحدهما لمّا كان سابقا في وجوده على الآخر وكان الآخر متوقّفا ومترتّبا عليه ، فهذا معناه أنّه صار علّة وسببا لوجوده وصار الثاني معلولا ومسبّبا عنه. ومن الواضح أنّ العلّة والمعلول أو السبب والمسبّب لا يمكن أن يتوحّدا معا ويصيرا شيئا واحدا ، بل هما أمران متغايران ومتعدّدان.

وهذا الكلام يجري في مقامنا ، فإنّ الوجوب الثاني لمّا كان مترتّبا وموقوفا على العلم بالوجوب الأوّل فهذا معناه أنّه متولّد منه ومتفرّع عليه في الوجود ، فلا بدّ من ثبوت الوجوب الأوّل ثمّ يتولّد من العلم به الوجوب الثاني ، ولا يمكن للوجوب الثاني أن يتّحد مع الوجوب الأوّل ؛ لأنّه متأخّر في الوجود عنه لأنّه معلول له ، والعلّة لا تتّحد مع المعلول.

فإذا كانا متعدّدين جاء محذور اجتماع المثلين ؛ لأنّ الوجوب الثاني يعتبر لغوا وتحصيلا للحاصل ولا فائدة منه ، ولذلك يستحيل جعله من الشارع ويستحيل التصديق به من قبل المكلّف.

وبهذا يظهر أنّ هذا الفرض مستحيل أيضا.

* * *

ص: 199

ص: 200

الواجب التوصّلي والتعبّدي

اشارة

ص: 201

ص: 202

الواجب التوصّلي والتعبّدي

لا شكّ في وجود واجبات لا يخرج المكلّف عن عهدتها إلا إذا أتى بها بقصد القربة والامتثال ، وفي مقابلها واجبات يتحقّق الخروج عن عهدتها بمجرّد الإتيان بالفعل بأي داع كان. والقسم الأوّل يسمّى بالتعبّدي ، والثاني يسمّى بالتوصّلي.

مقدّمة البحث : للواجب التوصّلي عدّة معان ويقابله في ذلك الواجب التعبّدي ، وهي :

1 - الواجب الذي يسقط بفعل أي واحد من المكلّفين ، ويقابله الواجب الذي لا يسقط إلا بفعل المكلّف نفسه ، وهذا البحث يأتي في الواجب العيني والواجب الكفائي.

2 - الواجب الذي يسقط إذا فعله المكلّف ولو عن اضطرار ، ويقابله الواجب الذي لا يسقط إلا إذا فعله المكلّف اختيارا ، وهذا يأتي في البحث عن سقوط الواجب بالفعل الاضطراري وعدمه.

3 - الواجب الذي يتحقّق امتثاله سواء كان في الفرد المحرّم أم المحلّل ، ويقابله الواجب الذي لا يتحقّق امتثاله إلا ضمن الفرد السائغ فقط ، وهذا يبحث عنه في اجتماع الأمر والنهي.

4 - الواجب الذي لا يشترط فيه قصد القربة أو امتثال الأمر ، ويقابله الواجب الذي يشترط فيه قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

إذا الواجب التوصّلي في المقام : هو الواجب الذي يخرج المكلّف عن عهدته وتبرأ ذمّته بالإتيان به كيفما اتّفق من دون قصد القربة ولا امتثال الأمر ، بل مجرّد إتيانه بالفعل بأي داع كان يعتبر امتثالا للواجب.

ص: 203

وأمّا الواجب التعبّدي : فهو الواجب الذي لا يخرج المكلّف عن عهدته ولا تبرأ ذمّته منه إلا بإتيانه بقصد القربة أو قصد امتثال الأمر لا كيفما كان.

ومثال الأوّل : أداء الدين ، فإنّه لا يشترط فيه نيّة القربة ، بل هو عبارة عن إرجاع مال الغير إليه بأي نحو كان.

ومثال الثاني : سائر العبادات ؛ كالصلاة والصيام والحجّ ، فإنّها يشترط فيها قصد القربة أو قصد الامتثال مضافا إلى إتيان أصل الفعل لا مجرّد الفعل فقط.

والكلام يقع في تحليل الفرق بين القسمين ، فهل الاختلاف بينهما مردّه إلى عالم الحكم والوجوب؟ بمعنى أنّ قصد القربة والامتثال يكون مأخوذا قيدا أو جزءا في متعلّق الوجوب التعبّدي ، ولا يكون كذلك في الوجوب التوصّلي ، أو أنّ مردّ الاختلاف إلى عالم الملاك دون عالم الحكم؟ بمعنى أنّ الوجوب في كلّ من القسمين متعلّق بذات الفعل ، ولكنّه في القسم الأوّل ناشئ عن ملاك لا يستوفى إلا بضمّ قصد القربة ، وفي القسم الثاني ناشئ عن ملاك يستوفى بمجرّد الإتيان بالفعل.

ومنشأ هذا الكلام هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، فإن ثبتت هذه الاستحالة تعيّن تفسير الاختلاف بين التعبّدي والتوصّلي بالوجه الثاني ، وإلا تعيّن تفسيره بالوجه الأوّل.

الفرق بين القسمين : الواجب التعبّدي هو الواجب الذي يشترط فيه قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، والواجب التوصّلي هو الواجب الذي لا يشترط فيه ذلك ، ولكن يتّجه البحث إلى تحليل هذا الفارق ، وهنا يوجد احتمالان :

الأوّل : أن يكون الفرق بينهما ناشئا عن عالم الوجوب والحكم ، بمعنى أنّ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر قد أخذ قيدا أو جزءا في متعلّق الوجوب التعبّدي ، فقصد الامتثال يعتبر جزءا دخيلا من الواجب أو شرطا من شروطه ، بينما في الوجوب التوصّلي لم يؤخذ هذا الشيء لا قيدا ولا جزءا.

فالشارع عند ما أراد جعل الوجوب على الواجب التعبّدي أخذ في موضوعه ذات الفعل بالإضافة إلى هذا القيد بنحو الجزء أو الشرط ، بينما لم يأخذ ذلك في موضوع الواجب التوصّلي.

ص: 204

الثاني : أن يكون الفرق بينهما في عالم الملاك والغرض ، بمعنى أنّ قصد القربة أو الامتثال ليس دخيلا في الوجوب ، بل الوجوب في التعبّدي والتوصّلي على حدّ واحد ، بمعنى أنّ الوجوب مجعول على ذات الفعل فقط ، وإنّما في الواجب التعبّدي كان الملاك والغرض منه سنخ ملاك لا يتحقّق ولا يمكن تحصيله إلا إذا جاء المكلّف بالفعل قاصدا التقرّب به أو مع قصد امتثال الأمر ، بينما في الواجب التوصّلي كان الملاك والغرض فيه يمكن تحصيله وتحقيقه سواء جاء المكلّف بالفعل بقصد القربة أو الامتثال أم لم يقصد ذلك حين إتيانه بالفعل.

فيعود الفرق حينئذ إلى كيفيّة تحصيل الملاك والغرض ، لا إلى كيفيّة جعل الوجوب.

ومنشأ الاحتمالين هو أنّ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، هل يمكن أخذه في الوجوب بنحو الشرط أو الجزء أو يستحيل ذلك؟ فإن قيل بإمكان أخذه تعيّن الاحتمال الأوّل ، وإن قيل بالاستحالة تعيّن الاحتمال الثاني.

وعليه ، فالبحث ينصبّ حول إمكان أو استحالة أخذ هذا القيد في الوجوب ، وهذا بحث عقلي تحليلي يدخل ضمن البحث عن القضايا العقليّة التحليليّة ، وهو أيضا يقع صغرى لإثبات قضيّة عقليّة تركيبيّة ؛ لأنّ البحث عن الاستحالة نفيا أو إثباتا يشكّل برهانا على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر أو إمكانه.

ولذلك قال السيّد الشهيد :

ومن هنا يتّجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة ، وقد برهن عليها بوجوه :

الأوّل : أنّ قصد امتثال الأمر متأخّر رتبة عن الأمر ؛ لتفرّعه عليه ، فلو أخذ قيدا أو جزءا في متعلّق الأمر والوجوب لكان داخلا في معروض الأمر ضمنا ، ومتقدّما على الأمر تقدّم المعروض على عارضه ، فيلزم كون الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا.

البراهين التي ذكرت على الاستحالة : وهنا يذكر السيّد الشهيد ثلاثة براهين تثبت استحالة أخذ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر في عالم الحكم والوجوب ، وهي :

البرهان الأوّل : ما يظهر من صاحب ( الكفاية ) حيث قال : ( إنّ ما لا يكاد يتأتّى

ص: 205

إلا من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلّقه ). ومراده إثبات الاستحالة للدور أو التهافت أو التقدّم والتأخّر.

ببيان : أنّ قصد امتثال الأمر متأخّر في الرتبة عن نفس الأمر ؛ لأنّ الأمر يوجد أوّلا ثمّ يقصد امتثاله أو لا يقصد ، والوجه في تأخّره عن الأمر هو أنّ الأمر إمّا أن تكون العلّة لهذا القصد ، أو يكون متقدّما عليه ولو من غير جهة العلّيّة ، فهناك طوليّة بين الأمر وبين قصده إمّا للعلّيّة وإمّا للترتّب في الوجود وإن لم يكن الأوّل علّة للثاني.

وعليه ، فلو أخذ قصد امتثال الأمر قيدا أو جزءا من متعلّق الأمر والوجوب ، بحيث كان الأمر والوجوب منصبّا على المتعلّق الذي يكون فيه قصد امتثال الأمر جزءا دخيلا فيه ، أو شرطا من شروطه العارضة عليه ، فهذا لازمه أن يكون قصد امتثال الأمر داخلا في معروض الأمر إمّا بنحو الجزئيّة أو بنحو الشرطيّة ، فإذا كان كذلك صار قصد امتثال الأمر متقدّما على الأمر ؛ لأنّ الأمر يعرض على هذا المتعلّق المركّب من الفعل ومن قصد امتثال الأمر ، ومن الواضح أنّ المعروض لا بدّ أن يثبت أوّلا ثمّ يعرض عليه الشيء.

وهنا لمّا كان الأمر عارضا على المتعلّق ، والمتعلّق مركّب من قصد الامتثال فلا بدّ من تحقّق المتعلّق أوّلا ، وتحقّقه يفترض أيضا تحقّق قصد امتثال الأمر ، ممّا يعني أنّ قصد امتثال الأمر صار متقدّما على الأمر مع كونه متأخّرا عنه رتبة كما هو المفروض ، فيلزم التقدّم والتأخّر بلحاظ الشيء الواحد.

بل يلزم منه التهافت في عالم اللحاظ والجعل ؛ إذ لحاظ الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا معا ممّا لا يمكن في نفسه ، وفي النتيجة يلزم الدور أيضا ؛ لأنّ الأمر صار متوقّفا على ثبوت قصد الامتثال وهو متوقّف بدوره على ثبوت الأمر أوّلا ؛ لأنّ الأمر يثبت ثمّ يقصد امتثاله. وبهذا يظهر أنّ أخذ هذا القيد مستحيل في نفسه.

إذا فالوجوب والحكم مجعول على ذات الفعل فقط ، فيتعيّن تفسير التعبّديّة والتوصّليّة على أساس الملاك والغرض لا على أساس الأمر والوجوب.

فالوجوب التعبّدي هو وجوب منصبّ على ذات الفعل ، ولكن الغرض والملاك لا يتحقّق إلا بقصد القربة والامتثال ؛ بخلاف التوصّلي فإنّ ملاكه يتحقّق بالإتيان بالفعل كيفما كان.

ص: 206

والجواب : أنّ ما هو متأخّر عن الأمر ومتفرّع على ثبوته قصد الامتثال من المكلّف خارجا ، لا عنوانه وتصوّر مفهومه في ذهن المولى ، وما يكون متقدّما على الأمر تقدّم المعروض على عارضه هو عنوان المتعلّق وتصوّره في ذهن المولى ؛ لأنّه ما لم يتصوّر الشيء لا يمكنه أن يأمر به.

وأمّا الوجود الخارجي للمتعلّق فليس متقدّما على الأمر ، بل هو من نتائجه دائما فلا محذور.

وجواب هذا البرهان :

أنّ محذور التقدّم والتأخّر أو محذور الدور أو التهافت في اللحاظ ، إنّما يتمّ فيما إذا كان الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا على نفسه ، أو كان وجوده تارة يكون علّة وأخرى معلولا ، وهذا يشترط فيه أن تكون جميع الحيثيّات المأخوذة في التناقض متوفّرة ، والتي من جملتها وحدة الحمل ووحدة الموضوع ووحدة الجهة ووحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الكلّيّة والجزئيّة. وأمّا إذا كان هناك اختلاف في هذه الأمور فلن يتحقّق المحذور.

وتوضيحه : أنّ قصد امتثال الأمر حينما يفرض متأخّرا عن الأمر فهذا إنّما يكون بلحاظ عالم الواقع الخارجي ؛ لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر في الخارج حين إتيانه بالفعل أو بالواجب التعبّدي ، إلا إذا كان الأمر ثابتا وموجودا في رتبة سابقة.

ولكن حينما يفرض أنّ قصد امتثال الأمر متقدّم على الأمر ، فهذا إنّما يكون بلحاظ عالم الجعل والتشريع للأمر ؛ لأنّ المولى حينما يريد أن يجعل الأمر على شيء فهو يتصوّر موضوعه وكلّ ما له دخل في الموضوع ؛ ومنه قصد امتثال الأمر - فيما لو أخذ قيدا أو جزءا - ممّا يعني أنّ الوجود التصوّري واللحاظي أو المفهومي لقصد امتثال الأمر هو المفروض كونه متقدّما على الأمر ، لا قصد الامتثال حقيقة والذي لا يوجد إلا بفعل المكلّف له في الخارج.

إذا فهناك اختلاف في العالم والجهة ، فقصد امتثال الأمر المتأخّر إنّما هو في عالم الواقع الخارجي وهذا يكون بلحاظ المكلّف ؛ لأنّه هو الذي يقصد الامتثال ، بينما قصد امتثال الأمر المتقدّم إنّما هو في عالم الجعل والتشريع والتصوّر واللحاظ المفهومي وهذا يكون بلحاظ الشارع ؛ لأنّه هو الذي يجعل الأمر.

ص: 207

والنتيجة : هي عدم لزوم المحذور من أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في موضوع الأمر أو جزءا منه ؛ لعدم لزوم توقّف الشيء على نفسه الذي هو ملاك الدور ؛ لأنّ الأمر الذي هو فعل للمولى عالمه هو واقع الجعل والتشريع ، واللحاظ متوقّف على تصوّر قصد امتثال الأمر ولحاظه المفهومي ، بينما الأمر بلحاظ الخارج ليس متوقّفا على قصد امتثال الأمر ، بل هو متقدّم عليه ، فاختلفت الجهة ومعها لا يكون الشيء متوقّفا على نفسه.

وهكذا بالنسبة للتقدّم والتأخّر فهو متأخّر بلحاظ عالم الجعل والتشريع ولكنّه متقدّم بلحاظ عالم الواقع الخارجي. وبذلك لا يلزم التهافت في اللحاظ ؛ لأنّه في لحاظ المولى كان الأمر متأخّرا فقط ، وفي لحاظ المكلّف كان الأمر متقدّما فقط.

والبرهان المذكور انطوى على مغالطة واضحة وخلط بين الموضوع والمتعلّق والجعل والمجعول ، ولهذا قال السيّد الشهيد :

وكأنّ صاحب هذا البرهان اشتبه عليه المتعلّق بالموضوع ، فقد عرفنا سابقا (1) أنّ فعليّة الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجا ، وحيث اختلط على هذا المبرهن المتعلّق والموضوع ، فخيّل له أنّ قصد الامتثال إذا كان داخلا في المتعلّق فهو داخل في الموضوع ، ويكون الوجوب الفعلي تابعا لوجوده بينما وجوده متفرّع على الوجوب.

ونحن قد ميّزنا سابقا بين المتعلّق والموضوع (2) ، وميّزنا بين الجعل والمجعول (3) ، وعرفنا أنّ المجعول تابع في فعليّته لوجود الموضوع خارجا لا لوجود المتعلّق ، وأنّ الجعل منوط بالوجود الذهني لأطرافه من المتعلّق والموضوع لا الخارجي ، فلا تنطوي علينا المغالطة المذكورة.

بيان الاشتباه والمغالطة في البرهان المتقدّم :

تقدّم سابقا بيان المراد من المتعلّق والموضوع ، وهنا نقول باختصار :

ص: 208


1- تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.
2- في بحث الدليل العقلي من الحلقة الأولى ، تحت عنوان : العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه.
3- في بحث الدليل العقلي من هذه الحلقة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

المتعلّق هو ما ينصبّ عليه الحكم مباشرة ، فهو متعلّق الحكم كقولنا : ( أكرم ) فإنّ متعلّق الوجوب هو الإكرام ، وكقولنا : ( صلّ ) فإنّ متعلّق الوجوب هو الصلاة.

وأمّا الموضوع فهو متعلّق الحكم ، أي أنّ متعلّق الحكم قد تعلّق بشيء آخر فهو الموضوع ، كقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ الإكرام تعلّق بالعالم فهو متعلّق المتعلّق فيسمّى الموضوع ، وكقولنا ( يجب الحجّ على المستطيع ) فإنّ المستطيع متعلّق وجوب الحجّ فهو الموضوع.

وتقدّم أيضا الفرق بين الجعل والمجعول ، فقلنا : إنّ الجعل : هو عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر والمفترض الوجود ، بينما المجعول : هو عبارة عن فعليّة الحكم لتحقّق موضوعه في الخارج ، فالجعل يتوقّف على تصوّر وافتراض الموضوع ، بينما المجعول يتوقّف على تحقّق الموضوع في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ صاحب البرهان المذكور قد اشتبه عليه الموضوع بالمتعلّق ، وخلط بين الجعل والمجعول ؛ وذلك لأنّ قصد امتثال الأمر حينما أخذ قيدا في متعلّق الأمر تخيّل صاحب هذا البرهان أنّه مأخوذ في الموضوع ودخيل فيه.

وحيث إنّ الموضوع إذا صار فعليّا في الخارج فيتّبعه فعليّة الأمر المجعول فيلزم - على حسب اعتقاده - أنّ قصد امتثال الأمر لا بدّ أن يصبح فعليّا ؛ لأنّه دخيل في الموضوع في مرحلة سابقة عن فعليّة الأمر نفسه ، مع أنّه متأخّر عن الأمر كما هو المفروض فيلزم الدور أو التوقّف والتأخّر.

ولكنّ الصحيح هو أنّ قصد امتثال الأمر ليس دخيلا في الموضوع وإنّما هو قيد مأخوذ في المتعلّق ، أي في الشيء الذي تعلّق به الأمر مباشرة وانصبّ عليه ، فقولنا : ( صلّ ) يكون قصد امتثال الأمر دخيلا في الصلاة التي هي متعلّق الأمر فيكون المطلوب هو الصلاة عن هذا القصد ، وهكذا في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ قصد الامتثال قيد في الإكرام لا في العالم ، أي أنّ الإكرام لا بدّ أن يقع بهذا القصد ولا مدخليّة للموضوع في ذلك.

وعليه ، فلا يكون قصد الامتثال دخيلا في الموضوع لكي يكون فعليّة الأمر موقوفة على فعليّة الموضوع ، وبالتالي موقوفة على فعليّة هذا القيد.

إذا ففعليّة الأمر في الخارج موقوفة على فعليّة الموضوع ، ولا مدخليّة لقصد الامتثال

ص: 209

في ذلك ؛ لأنّه ليس دخيلا في الموضوع وإنّما هو دخيل في المتعلّق فقط ، وحينئذ لا يكون الأمر موقوفا على قصد امتثال الأمر في الخارج ، وإن كان موقوفا عليه في عالم الجعل واللحاظ الذهني كما سنبيّن.

وقصد امتثال الأمر موقوف على فعليّة الأمر في الخارج فهو متأخّر عنه ولكنّه متقدّم عليه في عالم الجعل واللحاظ ، وهذا لا مانع منه.

والوجه في ذلك : هو أنّ الحكم أو الأمر في عالم الجعل لا بدّ أن يكون متأخّرا عن تصوّر موضوعه ومتعلّقه ، وكلّ ما له دخل فيهما ، بمعنى أنّ كلّ هذه الأمور تفترض مقدّرة الوجود وتلحظ في رتبة سابقة عن الأمر ، فوجودها الذهني اللحاظي في عالم الجعل متقدّم على الأمر ، ولكن فعليّة الأمر في الخارج موقوفة على فعليّة الموضوع فقط في الخارج لا على وجود المتعلّق.

فإذا تحقّق الموضوع في الخارج كان الأمر فعليّا وهو بذلك يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، فالمتعلّق متأخّر في وجوده عن الأمر الفعلي في عالم المجعول وإن كان متقدّما عليه في عالم الجعل ، ولكن المتقدّم هو لحاظ ومفهوم المتعلّق وما له دخل في المتعلّق كقصد امتثال الأمر ، وما هو المتأخّر هو وجود المتعلّق في الخارج وما له دخل فيه كالقيد المذكور ، فيكون قصد الامتثال بوجوده الذهني متقدّما ؛ لأنّه دخيل في المتعلّق وهو لا بدّ من فرض وجوده حين جعل الأمر ، ويكون بوجوده الخارجي متأخّرا عن فعليّة الأمر ؛ لأنّ الأمر الفعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه وكلّ ما له دخل في المتعلّق.

وعلى أساس هذه التفرقة بين الموضوع والمتعلّق من جهة وبين الجعل والمجعول من جهة أخرى ، يتّضح لنا حال هذا البرهان المبني على هذه المغالطة والاشتباه.

الثاني : أنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن محرّكيّة الأمر ، والأمر لا يحرّك إلا نحو متعلّقه ، فلو كان نفس القصد المذكور داخلا في المتعلّق لأدّى إلى أنّ الأمر يحرّك نحو نفس هذه المحرّكيّة ، وهذا مستحيل.

وببيان آخر : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر إلا بالإتيان بما تعلّق به ذلك الأمر ، فإن كان القصد المذكور دخيلا في المتعلّق فهذا يعني أنّ الأمر لم يتعلّق بذات الفعل ، فلا يمكن للمكلّف أن يقصد الامتثال بذات الفعل.

وإن شئت قلت : إنّ قصد امتثال الأمر بفعل يتوقّف على أن يكون مصداقا

ص: 210

لمتعلّق الأمر ، وكونه كذلك - على فرض أخذ القصد في المتعلّق - يتوقّف على انضمام القصد المذكور إليه ، وهذا يؤدّي إلى توقّف الشيء على نفسه ، واستحالة الامتثال.

البرهان الثاني : وهو أيضا ما يظهر من كلمات صاحب ( الكفاية ) في المقام حيث قال : ( إنّ الأمر بالفعل المقيّد أو المركّب من ذات الفعل وقصد الأمر لا يمكن أن يكون داعيا للإتيان بالفعل بقصد الأمر ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلّق به ، والفعل لا يكون مأمورا به ، فلا يمكن الإتيان به بقصد الأمر ) ، وهذا البرهان ذكره المحقّق الأصفهاني أيضا. ولهذا البرهان ثلاثة تقريبات :

التقريب الأوّل : وحاصله أن يقال : إنّ الأمر له داعويّة ومحرّكيّة نحو متعلّقه ؛ لأنّه إنّما يجعل لأجل المحرّكيّة والداعويّة ؛ إذ لو لم يكن له داعويّة ولا محرّكيّة لكان جعله لغوا ، ولذلك فبعد تحقّق موضوعه فهو يدعو ويحرّك نحو إيجاد متعلّقه.

فإذا قلنا بأنّ قصد امتثال الأمر دخيلا في المتعلّق ، فهذا معناه أنّ الأمر يحرّك ويدعو إلى قصد امتثال الأمر أيضا ، ولكن حيث إنّ قصد امتثال الأمر ليس إلا عبارة عن محرّكيّة الأمر ، باعتبار أنّ القصد عبارة عن التحرّك نحو الفعل ، فتكون النتيجة هي أنّ الأمر يحرّك نحو محرّكيّته ويدعو إلى داعويّته وهذا مستحيل ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلى نفسه ولا يحرّك نحو محرّكيّته ، وإنّما هو يدعو ويحرّك نحو متعلّقه أي الفعل.

وعليه ، فأخذ قصد الامتثال يؤدّي إلى هذا المحذور فلا يمكن الالتزام به.

التقريب الثاني : وحاصله : أنّ قصد امتثال الأمر إذا كان دخيلا في متعلّق الأمر ، فإذا أراد المكلّف أن يتحرّك نحو إيجاد متعلّق الأمر فلا بدّ أن يتحرّك نحو هذا القصد أيضا ، وحينئذ نقول : إن قصد امتثال الأمر هل هو دخيل في المتعلّق أو لا؟

فإن كان دخيلا في المتعلّق فهذا معناه أنّ المكلّف لا بدّ أن يقصد شيئين : ذات الفعل ، وقصد امتثال الأمر ؛ لأنّ المفروض كونه دخيلا في المتعلّق فلا بدّ من قصده ، وهذا باطل جزما ؛ لأنّ معناه محرّكيّة الشيء نحو نفسه ، وللزوم الخلف أيضا لصيرورة قصد الامتثال داخلا وخارجا ، أي علّة ومعلولا ؛ لأنّ المحرّكيّة سنخ من العلّيّة فيكون قصد الامتثال علّة للتحرّك ومعلولا للتحرّك أيضا ، وهو محال.

وإن لم يكن دخيلا في المتعلّق فهذا معناه أنّ متعلّق الأمر هو ذات الفعل فقط ،

ص: 211

وهذا خلف المفروض ؛ إذ المفروض أنّ الفعل تعبّدي وليس توصّليّا ، فلا يتحقّق المطلوب بالإتيان بالفعل فقط.

وبهذا يظهر أنّه لا يمكن أن يكون قصد الامتثال قيدا في متعلّق الأمر.

التقريب الثالث : وحاصله : أنّ امتثال متعلّق الأمر يتوقّف على أن يكون ما أتى به المكلّف من فعل مصداقا للمأمور به ، أي مصداقا لما تعلّق به الأمر ، وإلا لو أتى بشيء آخر لم يتعلّق به الأمر لم يتحقّق الامتثال. نعم يحتاج تحقّق الامتثال حينئذ إلى دليل خاصّ ، وهو ما سوف يأتي في مبحث الإجزاء.

وهنا إذا كان قصد امتثال الأمر مأخوذا قيدا في متعلّق الأمر ، فهذا معناه أنّ امتثال الأمر متوقّف على أن يأتي المكلّف بالفعل مع قصد امتثال الأمر ، وهذا لازمه أن يكون قصد امتثال الأمر موقوفا على قصد امتثال الأمر وهو دور باطل.

ووجهه هو : أنّ المكلّف حينما يقصد امتثال الأمر لا بدّ أن يأتي بذات الفعل منضمّا إليه قصد امتثال الأمر ، ولا يكفي إتيانه بذات الفعل فقط ، وحينئذ يتوقّف قصد امتثال الأمر على قصد امتثاله وهو دور مستحيل ، ولذلك يستحيل أخذه قيدا في متعلّق الأمر.

والحاصل : أنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر يؤدّي إلى ثلاثة محاذير ، كلّها لا يمكن الأخذ بها ، وهي :

أوّلا : يؤدّي إلى أن يكون الأمر داعيا ومحرّكا نحو داعويّته ومحرّكيّته.

وثانيا : يؤدّي إلى صيرورة الشيء علّة ومعلولا ، أي متقدّما ومتأخّرا على نفسه في الرتبة.

وثالثا : يؤدّي إلى الدور ، لتوقّف الشيء على نفسه في الامتثال.

وقد أجيب علي ذلك بأنّ القصد إذا كان داخلا في المتعلّق انحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين لكلّ منهما محرّكيّة نحو متعلّقه.

أحدهما : الأمر بذات الفعل. والآخر : الأمر بقصد امتثال الأمر الأوّل وجعله محرّكا.

فيندفع البيان الأوّل في البرهان المذكور بأنّ الأمر الثاني يحرّك نحو محرّكيّة الأمر الأوّل ، لا نحو محرّكيّة نفسه.

ص: 212

ويندفع البيان الثاني بأنّ ذات الفعل متعلّق للأمر وهو الأمر الضمني الأوّل.

أجاب المشهور عن هذا البرهان بما حاصله : أنّ أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلّق معناه انحلال الأمر إلى أمرين ضمنيّين.

والوجه في ذلك : هو أنّ الأمر بالمركّب من الفعل وقصد الامتثال أو الأمر بالمقيّد من الفعل والقيد ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين :

أحدهما : الأمر الضمني بذات الفعل.

والآخر : الأمر الضمني بقصد امتثال الأمر.

فيكون المكلّف مأمورا بأمرين : أحدهما الإتيان بذات الفعل أو بذات المقيّد ، والآخر الإتيان بالتقيّد ، أي كون هذا الفعل متقيّدا بقصد الامتثال. وبهذا سوف ينحلّ الإشكال المذكور بتقريباته الثلاثة :

أمّا التقريب الأوّل الذي يقول : إنّ الأمر سوف يكون محرّكا نحو نفسه لا نحو متعلّقه ، فهذا جوابه : أنّ ما هو المحال هو محرّكيّة الأمر نحو محرّكيّته بنفس هذا الأمر ، وأمّا محرّكيّة الأمر نحو محركيّة أمر غيره فلا استحالة فيها.

وفي مقامنا يكون الأمر الضمني الثاني المتعلّق بقصد امتثال الأمر محرّكا نحو محرّكيّة الأمر الضمني الأوّل لا نحو محرّكيّة نفسه ، والأمر الضمني الأوّل يحرّك نحو متعلّقه وهو الفعل.

وأمّا التقريب الثاني الذي يقول بأنّ أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر سوف يؤدّي إمّا إلى الخلف وإمّا إلى كون الشيء داعيا وعلّة نحو إيجاد نفسه ، فهذا جوابه : أنّنا نلتزم بكون قصد الامتثال يدعو إلى المحرّكيّة ، ولكنّ قصد الامتثال هنا يدعو إلى قصد امتثال الأمر الضمني الأوّل لا إلى قصد امتثاله نفسه ، فهو يحرّك وعلّة لإيجاد متعلّق الأمر الضمني الأوّل لا إلى إيجاد متعلّق نفسه ، فلا يكون علّة لنفسه ، بل يكون علّة لغيره أي لإيجاد ذات الفعل.

وأمّا التقريب الثالث الذي يقول بلزوم الدور وتوقّف الشيء على نفسه ، فجوابه : أنّ قصد امتثال الأمر لمّا كان مأمورا به بأمر ضمني مستقلّ عن الأمر الضمني الأوّل ، فهذا معناه أنّ امتثال المتعلّق يكون بالأمر الضمني الأوّل ، ولكنّ الأمر الضمني الثاني يدعو إلى امتثال الأمر الضمني الأوّل ، فامتثال الأمر الأوّل وإن كان موقوفا على الأمر

ص: 213

الثاني إلا أنّ الأمر الثاني ليس موقوفا على الأمر الأوّل ؛ لأنّه لا يدعو ولا يحرّك إلا إلى متعلّقه وهو الفعل فقط. نعم الأمر الثاني هو الذي يدعو إلى أن يكون امتثال الأمر الأوّل بقصد الامتثال (1).

الثالث : أنّ قصد امتثال الأمر إذا أخذ في متعلّق الأمر كان نفس الأمر قيدا من قيود الواجب ، وحيث إنّه قيد غير اختياري فلا بدّ من أخذه في موضوع الوجوب ، وهذا يعني أخذ الأمر في موضوع نفسه وهو محال ، وقد مرّ بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة (2).

ص: 214


1- هذا ، ويمكن التعليق على هذا الجواب بأن يقال : إنّ الأمر الضمني لا محرّكيّة ولا داعويّة له بنحو استقلالي وزائدا على الأمر النفسي ، كما سيأتي في محلّه. وعليه ، فالأمر الضمني لا يزيد في المحرّكيّة عن الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب ، وحينئذ يرجع المحذور ؛ لأنّه يقال : إنّ الأمر بالمركّب هل يدخل فيه قصد امتثال الأمر أو لا؟ فإن لم يكن داخلا فهو خلف المفروض من عدم تحقّق الامتثال بذات الفعل ، بل لا بدّ من قصد الامتثال معه ، وإن كان داخلا فهذا معناه محرّكيّة الأمر نحو محرّكيّة نفسه وداعويّته إلى داعويّته ، فيلزم التقدّم والتأخّر وتوقّف الشيء على نفسه. وبتعبير آخر : إنّ الأمر بالمركّب الذي ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين لا يوجد فيه داعويّتان ومحرّكيّتان مستقلّتان ؛ وإلا للزم تحقّق الامتثال والعصيان معا فيما إذا حقّق أحد الأمرين دون الآخر ، وهذا باطل جزما ؛ لأنّه لا يوجد إلا إطاعة وامتثال واحد وعصيان واحد. ويجاب على ذلك : إنّ الأمر الضمني لا يشترط فيه أن يكون له داعويّة ومحرّكيّة ، بل يكفي فيه أن يكون قد أخذ في عالم اللحاظ من أجل أن يتحقّق المطلوب ، بمعنى أنّ عدمه مانع من تحقّق المطلوب فلذلك يؤخذ. فالأمر بالمركّب من ذات الفعل وقصد امتثال الأمر لا يشترط فيه أكثر من أن تكون هناك محرّكيّة وباعثيّة وداعويّة نحو الإتيان بالمتعلّق وهو الأمر الضمني الأوّل ، وأمّا الأمر الضمني الثاني وهو الأمر بقصد الامتثال فلا يشترط فيه الداعويّة والمحرّكيّة ، وإنّما أخذه الشارع تحت الأمر لكونه دخيلا في الملاك ، بحيث لا يتحقّق المطلوب إلا بفعل المتعلّق معه لا بدونه. وبتعبير آخر : أخذ الشارع لهذا الأمر الضمني الثاني من أجل الحفاظ على الأمر الاستقلالي ، وهو الإتيان بالمتعلّق مع سائر ما يتعلّق به من شروط وقيود ، وهذا أثره في تحقّق الامتثال وعدمه ، فإنّه ما لم يأت بهذا القيد لا يتحقّق الامتثال ، وهذا يكفي لدفع محذور اللغويّة ، ولا يشترط في دفع اللغويّة إثبات المحرّكيّة ، بل يكفي وجود مطلق الفائدة والأثر.
2- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه.

البرهان الثالث : ما يظهر من الميرزا في ( أجود التقريرات ) حيث قال ما حاصله :

إنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر يلزم منه الدور والتهافت في عالم اللحاظ.

وتوضيحه : أنّ متعلّق الأمر هو ما يكون الأمر داعيا إلى إيجاده وتحقيقه ، ومتعلّق المتعلّق هو الموضوع وهذا لا يكون الأمر داعيا إلى إيجاده ، بل يؤخذ مفروض الوجود وهذا هو الموضوع.

ثمّ إنّ القيود المأخوذة في الوجوب لا يجب تحصيلها ؛ لأنّها فوق الوجوب وهو موقوف عليها فلا يدعو إليها ؛ لأنّه معدوم قبل وجودها بخلاف قيود الواجب فإنّه يجب تحصيلها ؛ لأنّ الوجوب الثابت هو الذي يدعو لإيجادها.

وعليه ، فقيود الواجب لا بدّ أن تكون اختياريّة للمكلّف ، وإلا لكان من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّه مسئول عنها ولا يمكن تكليفه بغير المقدور بخلاف قيود الوجوب فإنّها قد تكون اختياريّة أو غير اختياريّة على حدّ سواء ؛ لأنّ المكلّف ليس مسئولا عنها. ومن هنا إذا كان القيد الراجع للواجب غير اختياري فلا بدّ من إرجاعه إلى الوجوب أيضا ، وإلا لزم المحذور.

وفي مقامنا نقول : إنّ أخذ قيد قصد امتثال الأمر إن كان راجعا إلى المتعلّق والمفروض أنّ المتعلّق يجب إيجاده وتحصيله ؛ لأنّ الوجوب والأمر يدعو إلى إيجاده فيلزم أن يكون الأمر والوجوب داعيا إلى إيجاد قصد امتثال الأمر.

ولمّا كان قصد امتثال الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلا بعد ثبوت الأمر ، بحيث إنّ الأمر يوجد أوّلا ثمّ يقصد امتثاله ، فهذا معناه أنّ الأمر والوجوب يكون داعيا إلى إيجاد الأمر أوّلا وإلى قصده بعد وجوده ثانيا ، ولذلك يلزم محذور الدور أو التهافت اللحاظي.

وبيانه : أنّ الأمر لمّا كان مأخوذا في المتعلّق والمفروض أنّه في عالم الجعل والتشريع للأمر ، لا بدّ أن يلحظ الشارع المتعلّق ، والموضوع مفروض الوجود ومقدّر ، فهذا معناه أنّه يلحظ الأمر مفروغا عنه مع أنّه لم يجعله بعد ، وهذا تهافت في اللحاظ ؛ لأنّه يفترض الشيء موجودا في عالم اللحاظ مع أنّه ليس موجودا بعد.

ويلزم منه الدور أيضا ؛ لأنّ الأمر يكون موقوفا على لحاظ الأمر في عالم الجعل ،

ص: 215

فالشارع حينما يريد جعل الأمر لا بدّ أن يجعل الأمر في رتبة سابقة ؛ لأنّه مأخوذ في المتعلّق ، وهو سابق على جعل الأمر ، فيكون جعل الأمر موقوفا على جعل الأمر.

وبتعبير آخر : إنّ قصد امتثال الأمر لمّا كان قيدا غير اختياري - لكون القصد موقوفا على ثبوت الأمر وثبوت الأمر فعل للمولى لا للمكلّف - فلا بدّ أن يكون قيدا للوجوب أيضا مضافا إلى الواجب ، ممّا يعني أنّه مأخوذ في موضوع الوجوب ؛ لأنّ كلّ قيود الوجوب تؤخذ في موضوعه.

وإذا كان دخيلا في الموضوع لزم المحذور ؛ لأنّ الأمر - سواء في عالم الجعل أو الفعليّة - موقوف على تحقّق الموضوع ، إمّا بلحاظ الفرض والتقدير في عالم الجعل ، وإمّا بوجوده الخارجي في عالم المجعول ، ممّا يعني أنّ الأمر موقوف على قصد امتثال الأمر وهو دور وتهافت ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن القصد وعن ثبوت الأمر أيضا ، فيكون الأمر موقوفا على ثبوت الأمر ، وهو محال.

وقد يعترض عليه بأنّ القيد غير الاختياري للواجب إنّما يلزم أن يؤخذ قيدا في موضوع الوجوب ؛ لأنّه لو لم يؤخذ كذلك لكان الأمر محرّكا نحو المقيّد ، وهو يساوق التحريك نحو القيد ، مع أنّه غير اختياري ، فلا بدّ من أخذه في الموضوع ليكون وجود الأمر ومحرّكيّته بعد افتراض وجود القيد ، وفي هذه الحالة لا يحرّك إلا إلى التقيّد وذات المقيّد.

اعتراض السيّد الخوئي على هذا البرهان.

ومحصّله أن يقال : إنّ القيد غير الاختياري إذا كان راجعا إلى الواجب فليس دائما يجب إرجاعه إلى الوجوب ليكون دخيلا في موضوع الوجوب أيضا ، بل في بعض الحالات لا يجب إرجاعه للوجوب ، والضابط لذلك هو أنّ قيد الواجب غير الاختياري على نحوين : فتارة لا يكون حاصلا بمجرّد وجود الأمر ، وأخرى يحصل بحصول وثبوت الأمر نفسه.

ففي الحالة الأولى - أي فيما إذا لم يكن القيد غير الاختياري حاصلا بحصول الأمر - : فهنا يكون الأمر داعيا إلى إيجاده وتحصيله ؛ لكونه دخيلا في المتعلّق وقيدا له ، ولكن لمّا كان هذا القيد غير اختياري للمكلّف فكان التكليف به تكليفا بغير المقدور وهو محال ، ولذلك كان لا بدّ من إرجاعه إلى قيود الوجوب نفسه ، وحينئذ لا يكون

ص: 216

الوجوب داعيا لإيجاده وتحصيله ؛ لأنّ الوجوب لا يدعو إلى تحصيل وإيجاد قيود موضوعه ، لأنّها فوق الوجوب.

بينما في الحالة الثانية : فهذا القيد غير الاختياري المأخوذ في المتعلّق لا يجب أخذه في الموضوع أيضا ؛ وذلك لأنّه لمّا كان يحصل ويتحقّق بنفس حصول وثبوت الأمر فلا محذور في بقائه من قيود المتعلّق ؛ لأنّ الوجوب والأمر لن يدعو ويحرّك نحو إيجاده ؛ إذ المفروض أنّه يحصل معه فيكون التحريك نحوه لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

ومثال الحالة الأولى قيديّة الزوال مثلا ، فإنّها لمّا كانت مأخوذة في الصلاة وهي غير اختياريّة تعيّن أخذها في الوجوب أيضا ، ولذلك لا يكون الوجوب داعيا المكلّف إلى تحصيل الزوال ، بل هو موقوف على حصول الزوال من نفسه ، ولو بقيت قيدا للمتعلّق فقط - أي للصلاة - للزم على المكلّف تحصيل الزوال ، وهو ليس باختياره فيكون تكليفا بغير المقدور ، وهو مستحيل.

ومثال الحالة الثانية ما نحن فيه من أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر ، فإنّ هذا القيد وإن لم يكن اختياريّا للمكلّف ، إلا أنّه لا يتعيّن أخذه في موضوع الوجوب ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّه يحصل بمجرّد حصول وثبوت الأمر ، وما دام كذلك فلا معنى لداعويّة الأمر لإيجاده وتحصيله ؛ لأنّها تكون لغوا.

وبتعبير آخر : إنّ القيد غير الاختياري إنّما يجب أخذه في قيود الوجوب أيضا ؛ لئلاّ يلزم من بقائه قيدا للمتعلّق فقط أن يكون الأمر داعيا إلى إيجاد المقيّد ، الذي هو عبارة عن ذات الفعل والقيد.

فإنّ التحريك نحو الفعل ممكن ، ولكنّ التحريك نحو القيد الذي هو قصد الامتثال غير ممكن ؛ للدور المتقدّم ، فإذا أخذ في موضوع الوجوب صار الأمر محرّكا نحو المتعلّق أي ذات الفعل دون القيد ؛ لأنّ المفروض أنّ الوجوب لا يتحقّق إلا إذا تحقّق القيد من نفسه.

فمحرّكيّة الوجوب تفترض أنّ القيد متحقّق من قبل ، فلا تكون هناك محرّكيّة إلا إلى ذات المقيّد والتقيّد دون القيد.

وأمّا إذا افترضنا أنّ القيد غير الاختياري كأن يحصل بحصول الأمر أيضا ، فهاهنا

ص: 217

لا مانع من بقاء قيديّة قصد امتثال الأمر راجعة إلى المتعلّق فقط دون الموضوع ؛ لأنّ الأمر لن يدعو ولن يحرّك نحو هذا القيد ؛ لأنّه يحصل معه فالتحريك نحوه تحصيل للحاصل فيلغو ، ومع عدم محرّكيّة الأمر إلى القيد فلا يكون محرّكا إلا إلى ذات المقيّد ، أي ذات الفعل مع تقيّده بالقيد دون القيد ، فلا محذور ولا دور.

ولا يخفى ما في العبارة من قصور لأداء هذا المعنى ، فإنّه لا بدّ من ذكر تتمّة لها بأن يقال في آخرها : ( ومقامنا ليس من هذا القبيل ، فإنّ قصد امتثال الأمر يحصل بنفس الأمر فلا يكون الأمر داعيا ومحرّكا نحوه فلا يتعيّن أخذه في موضوعه ، وبالتالي لا دور حينئذ ).

ثمّ إنّ السيّد الشهيد ره قد بيّن اعتراض السيّد الخوئي ره بنحو آخر ، فقال :

وهذا البيان إنّما يبرهن على أخذ القيد غير الاختياري للواجب قيدا في موضوع الوجوب إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وأمّا إذا كان مضمونا كذلك فلن يحرّك الأمر حينئذ نحو القيد ؛ لأنّه موجود بنفس وجوده ، بل يتّجه في تحريكه دائما نحو التقيّد وذات المقيّد.

والمقام مصداق لذلك ؛ لأنّ الأمر يتحقّق بنفس الجعل الشرعي فأيّة حاجة إلى أخذه قيدا في الموضوع؟

وهذه التتمّة راجعة إلى تكملة اعتراض السيّد الخوئي ، فإنّ السيّد الشهيد قد ذكره ناقصا ولذلك أكمله بهذه التتمّة ، ونحن قد ذكرنا الاعتراض كاملا ، ولكن نعيده باختصار طبقا لهذه التكملة فنقول : إنّ القيد غير الاختياري إذا أخذ في المتعلّق أي الواجب ، كان لا بدّ من أخذه في الوجوب أي في موضوع الوجوب ، ولكن هذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن القيد مضمون الحصول والوجود بمجرّد جعل الأمر وثبوته ، كما هو الحال في سائر القيود غير الاختياريّة كالزوال مثلا وما شابهه.

وأمّا إذا كان القيد مضمون الحصول بمجرّد ثبوت الأمر ، فحينئذ لا يجب أخذه في موضوع الوجوب مضافا إلى أخذه في المتعلّق ، بل يبقى قيدا للمتعلّق فقط ، ولا يلزم من ذلك المحذور المتقدّم عن الميرزا ؛ لأنّ الوجوب لن يدعو ولن يحرّك إلى إيجاد هذا القيد ؛ لأنّه لمّا كان يحصل بجعل الأمر وتشريعه فهو حاصل من نفسه ، فلا معنى للتحريك نحوه وإلا لكان لغوا وتحصيلا للحاصل.

ص: 218

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الأمر يثبت بمجرّد جعله وتشريعه فأخذ قصد امتثاله قيدا في المتعلّق لا يعني أنّ الوجوب يدعو ويحرّك نحوه ؛ لأنّه حاصل من نفسه مع الأمر ، وفائدته هي أنّ المطلوب هو إيجاد ذات المتعلّق ، وهذا ما يحرّك الوجوب نحوه مضافا إلى التقيّد بهذا القيد من دون أن يكون الوجوب داعيا إلى القيد.

هذه أهمّ براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها.

وبهذا ينتهي الحديث عن البراهين التي ادّعيت لإثبات الاستحالة مع بعض التعليق عليها (1).

وثمرة هذا البحث :

إنّ الاختلاف بين القسمين إذا كان مردّه إلى عالم الحكم فبالإمكان - عند الشكّ في كون الواجب تعبّديّا أو توصّليّا - التمسّك بإطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد الامتثال في متعلّق الوجوب ، كما هو الحال في كلّ القيود المحتملة ، فتثبت التوصّليّة.

وأمّا إذا كان مردّه إلى عالم الملاك - بسبب استحالة أخذ القصد المذكور في متعلّق الأمر - فلا يمكن التمسّك بالإطلاق المذكور لإثبات التوصّليّة ؛ لأنّ التوصّليّة لا تثبت حينئذ إلا بإثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك ، وهذا ما لا يمكن

ص: 219


1- والصحيح عندنا أن يقال : إنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر مستحيل ؛ للدور والتهافت وتوقّف الشيء على نفسه ، ومحذور التهافت اللحاظي ثابت بحقّ العالم والجاهل ، بمعنى أنّ الآمر العرفي الذي لا يراعي الدقّة العقليّة لا يمكنه أخذ قيد الامتثال في متعلّق أمره ؛ لأنّه سوف يقع في التهافت اللحاظي. إلا أنّ السيّد الأستاذ ( دام ظله ) قد ذهب إلى أنّه لا محذور في أخذ قصد الامتثال قيدا في متعلّق الأمر ، ودفع كلّ البراهين التي أقيمت على ذلك ، وتبنّى هذه المقولة وهي : أنّ الأمر لا يكون داعيا إلا إلى ذات الفعل ، ولكنّه بنفس هذه الداعويّة تترشّح منه داعويّة إلى سائر القيود والأجزاء والشروط المأخوذة في الفعل أي المتعلّق ، ولكن هذه الداعويّة الثانية الضمنيّة لا محرّكيّة لها بنحو استقلالي وزائد على أصل محرّكيّة الأمر النفسي ، وإنّما هي داعويّة ناشئة من أجل الحفاظ على الأمر النفسي ، وهذا المقدار من الأثر يكفي لدفع محذور اللغويّة ؛ لأنّه لا يشترط من الأمر أن يكون دائما محرّكا ، بل يكفي أن يكون ذا أثر وفائدة ، وهذا حاصل.

إثباته بدليل الأمر لا مباشرة ؛ لأنّ مفاد الدليل هو الأمر لا الملاك ، ولا بصورة غير مباشرة عن طريق إثبات الإطلاق في متعلّق الأمر ؛ لأنّ الإطلاق في متعلّق الأمر إنّما يكشف عن الإطلاق في متعلّق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يأمر بالمقيّد فلم يفعل ، والمفروض هنا عدم الإمكان.

وأمّا الثمرة من البحث في رجوع قصد امتثال الأمر إلى الوجوب أو إلى الملاك ، فتظهر في موردين :

المورد الأوّل : عند الشكّ في التوصّليّة والتعبّديّة بلحاظ الأصل اللفظي ، فهنا تارة نقول بإمكان أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ، وأخرى نبني على استحالته.

فإذا قلنا بإمكانه كان الاختلاف بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي مرجعه إلى تقييد الحكم وإطلاقه ، فإذا شكّ في واجب أنّه تعبّدي أو توصّلي أمكن التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة لإثبات التوصّليّة ونفي التعبّديّة ؛ لأنّ التعبّديّة تحتاج إلى تقييد الحكم والأمر بقصد الامتثال ، فحيث لم يقيّد في لسان الدليل بذلك كشف عن إرادته التوصّليّة ؛ لأنّه لو كان يريد التعبّديّة لكان اللازم بيان القيد الزائد في لسان الدليل وهو ممكن بحسب الفرض ، فمع عدم ذكر القيد في الدليل فهو لا يريده وإلا لكان مخلاّ في البيان والتفهيم ، فتعيّن إرادة الإطلاق وهو معنى التوصّليّة.

وهذا نظير سائر الموارد التي يشكّ فيها في دخالة قيد ، فإنّه ينفى بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وأمّا إذا قلنا بالاستحالة فيكون الاختلاف بين التعبّديّة والتوصّليّة بلحاظ الملاك ، فإن كان الملاك مقيّدا فيكون الواجب تعبّديّا ، وإن كان مطلقا فيكون توصّليّا ، وهنا لا يمكننا إثبات التوصّليّة على أساس الإطلاق ومقدّمات الحكمة في لسان الدليل ؛ والوجه في ذلك هو أنّ إثبات الإطلاق في الملاك أو التوصّلية لا يكون إلا بأحد طريقين كلاهما غير تامّ :

أحدهما : إثبات الملاك على أساس إطلاق الدليل.

والآخر : إثبات الملاك على أساس إطلاق المدلول.

أمّا الطريق الأوّل فلأنّ إطلاق الدليل إنّما يثبت مدلوله المطابقي مباشرة ، ومدلول

ص: 220

الدليل المطابقي هو الحكم ، فيثبت بإطلاق الدليل إطلاق الحكم لا أكثر دون إطلاق الملاك.

وأمّا الطريق الثاني وهو التمسّك بإطلاق الحكم لإثبات الملاك فهو إنّما ينفع في حالة دون أخرى.

وتوضيحه : أنّ إطلاق الحكم تارة يكون مرادا جدّيّا للمولى بأن يكون الإطلاق هو المراد الواقعي للمولى في عالم الثبوت ، بحيث كان المولى يتمكّن من التقييد ولكنّه لم يفعل ؛ لأنّ مراده هو الإطلاق ، وأخرى لا يكون الإطلاق دخيلا في المراد الجدّي للمولى ، بمعنى أنّ المولى ليس مراده الجدّي والواقعي في عالم الثبوت هو الإطلاق ، وإنّما أطلق الحكم من أجل استحالة التقييد فقط ، ولذلك قد يكون مراده الواقعي هو التقييد ولكنّه لم يقيّد ؛ لعدم تمكّنه من ذلك بسبب وجود المحذور العقلي.

فعلى الأوّل يمكن أن يستكشف عن طريق إطلاق الحكم ؛ لأنّ الملاك مطلق أيضا فتثبت التوصّليّة ؛ لأنّ المولى لو كان يريد التقيّد ومع ذلك لم يذكر ما يدلّ عليه لكان مخلا في مقام البيان والتفهيم لمراده.

بينما على الثاني لا يمكن أن يستكشف من إطلاق الحكم إطلاق الملاك ؛ لأنّ المولى قد يكون مراده التقييد ، ومجرّد عدم ذكره للقيد لا يكشف عن عدم إرادته ؛ لأنّه لم يذكر القيد بسبب المحذور العقلي أي الاستحالة.

ومقامنا من النحو الثاني أي أنّ المولى لم يقيّد الحكم بقصد امتثال الأمر بسبب ما ذكر من البراهين على الاستحالة ، ولكنّه واقعا وثبوتا قد يكون مراده التقييد ، فلا يمكننا على أساس مقدّمات الحكمة وإطلاق الحكم في عالم الإثبات والدلالة أن نستكشف الإطلاق في الملاك ؛ لأنّ إطلاقه للحكم كان ضروريّا ومفروضا عليه بسبب استحالة التقييد.

نعم ، يحتاج إثبات أحد الأمرين من التعبّديّة والتوصّليّة إلى دليل خاصّ غير الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وقد تذكر ثمرة أخرى في مجال الأصل العملي عند الشكّ في التعبّديّة وعدم قيام الدليل ، وهي أنّ هذا الشكّ مجرى للبراءة إذا كان قصد الامتثال ممّا

ص: 221

يؤخذ في الواجب على تقدير اعتباره ؛ إذ يدخل في كبرى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، ومجرى لأصالة الاشتغال إذا كان قصد الامتثال ممّا لا يؤخذ كذلك ، إذ لا شكّ في وجوب شيء شرعا وإنّما الشكّ في سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته.

المورد الثاني : عند الشكّ في التوصّليّة والتعبّديّة بلحاظ الأصل العملي :

فإنّنا إذا قلنا بإمكان أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، فهذا يعني أنّ الاختلاف في التعبّديّة والتوصّليّة مرجعه إلى تقييد الحكم أو إطلاقه ، فإذا شككنا في واجب أنّه تعبّدي أو توصّلي وفرض عدم قيام الدليل لا العامّ - أي الإطلاق ومقدّمات الحكمة - ولا الخاصّ ، فهنا سوف يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر ، ويكون المورد من مصاديق كبرى الدوران بين الأقلّ والأكثر والتي يتعيّن فيها الأقلّ ، فتثبت التوصّليّة.

وتوضيح ذلك : أنّ التعبّديّة تعني وجود قيد زائد في الحكم المجعول وهو لزوم قصد امتثال الأمر ، فيكون الشكّ في التعبّديّة شكّا في وجوب شيء زائد عمّا أفاده ، بينما التوصّليّة ليس فيها أي قيد زائد عمّا أفاده ، فيدور الأمر بين تقييد زائد وعدم ذلك ، وهذا مرجعه إلى الدوران بين وجوب زائد وعدمه فهو شكّ في الوجوب الزائد ، وهو مجرى لأصالة البراءة.

وأمّا إذا قلنا باستحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، وبنينا على أنّه دخيل في الملاك فقط ، فهنا سوف تختلف النتيجة ، ويكون المورد من موارد الشكّ في المحصّل وهو مجرى لأصالة الاشتغال فتثبت التعبّديّة.

وتوضيحه : أنّه لا إشكال في ثبوت الوجوب على المكلّف فهو يعلم يقينا باشتغال ذمّته بالتكليف ، فحينما يشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة فشكّه هذا يرجع في الحقيقة إلى أنّ الواجب الذي علم باشتغال ذمّته به يقينا ، هل يحصل من دون قصد الامتثال أو لا يحصل إلا معه ، فتجري أصالة الاشتغال لإثبات التعبّديّة.

وبتعبير آخر : إنّ الملاك من هذا الحكم هل يمكنه تحصيله من دون هذا القيد أو لا يكون تحصيله إلا مع القيد؟ فيكون من الشكّ في المحصّل للملاك والغرض فتجري فيه أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الملاك معلوم ثبوته ودخوله في عهدة المكلّف.

ص: 222

والشكّ هنا ليس في إطلاق الوجوب وتقييده لينفى القيد بالبراءة ؛ لأنّ الوجوب يجعله الشارع مطلقا بناء على عدم دخالة قصد الامتثال في الوجوب (1).

ص: 223


1- إلا أنّ السيّد الشهيد لا يرتضي هذه الثمرة ويقول بأنّ البراءة هي التي تجري حتّى لو بنينا على استحالة أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ، والوجه في ذلك هو أنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في التكليف وهو مجرى للبراءة. وتوضيحه : أنّ التعبّديّة معناها أنّ الإتيان بالفعل من دون قصد الامتثال لا يوجب فراغ الذمّة ولا يوجب سقوط الأمر ، بل يبقى المكلّف مطالبا بالأمر. وعليه ، فإذا شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة فهو يشكّ في وجود الأمر مجدّدا حين إتيانه بالفعل من دون قصد الامتثال ، أي أنّه يشكّ هل هو مكلّف بتكليف مجدّدا أم لا؟ فتجري البراءة لنفي التكليف الزائد.

ص: 224

التخيير في الواجب

اشارة

ص: 225

ص: 226

التخيير في الواجب

التخيير تارة يكون عقليّا وأخرى شرعيّا ، فإن كانت البدائل مذكورة على نحو التردّد متعلّقا للأمر في لسان الدليل فالتخيير شرعي ، وإلا فهو عقلي.

وقد وقع الكلام في تحليل واقع الوجوب في موارد التخيير وكيفيّة تعلّقه.

وفي ذلك عدّة اتّجاهات :

مقدّمة البحث : الوجوب التخييري وهو ما يقابل الوجوب التعييني ، وبيانه :

إنّ المولى تارة يأمر بشيء على سبيل التعيين بحيث لا يكون له بدل ولا عدل كوجوب الحجّ مثلا.

وأخرى يأمر بشيء ويكون له بدل أو عدل فيكون الأمر به على سبيل التخيير لا التعيين ، وهذا التخيير على نحوين :

فتارة يكون التخيير شرعيّا ، بمعنى أنّ الشارع هو الذي تصدّى لبيان البدائل بنفسه وأمر بها على نحو التخيير ، كما هو الحال في خصال الكفّارة المخيّرة بين الصوم أو الإطعام أو العتق.

وأخرى يكون التخيير عقليّا ؛ بمعنى أنّ الشارع يأمر بالطبيعة وهي بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيها يثبت كونها مطلقة فتنطبق على كلّ فرد من أفرادها ، فيكون المكلّف مخيّرا في امتثال هذا الأمر ضمن أي فرد من أفراد هذه الطبيعة.

ولهذا قال السيّد الشهيد بأنّ التخيير الشرعي عبارة عن كون البدائل مذكورة في لسان الدليل على نحو التردّد بينها ، أي أنّ الشارع قد جعل الامتثال مردّدا بينها ولا أولويّة لأحدها على الآخر.

وأمّا إذا لم يؤخذ ذلك في لسان الدليل فالتخيير عقلي ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بالتخيير ، كما لو كان هناك طريقان أو عدّة طرق للوصول إلى المكان الذي يجب

ص: 227

عليه الذهاب إليه ، ولم يكن في أحدها أيّة أولويّة أو خصوصيّة معتبرة فالعقل يحكم بالتخيير فيما بينها.

وهكذا الحال بالنسبة لمتعلّقات الأحكام إذا كانت لها أفراد أو مصاديق أو حصص وكانت متساوية جميعا ، فالعقل يحكم بالتخيير فيما بينها.

وهذا الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما وقع الكلام عندهم في حقيقة التخيير في الواجب وكيفيّة تحليله ثبوتا ، مضافا إلى الخلاف في أنّ التخيير الشرعي هل يرجع إلى التخيير العقلي أو العكس هو الصحيح؟

ولذلك ينفتح البحث العقلي التحليلي في هذه القضيّة الفعليّة.

وهنا توجد عدّة اتّجاهات لتفسير الوجوب التخييري هي :

الاتّجاه الأوّل : أنّ الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، وفي موارد التخيير الشرعي متعلّق بكلّ واحد من البدائل ولكن مشروطا بترك البدائل الأخرى.

التفسير الأوّل : ما ذكره مشهور المتأخّرين ، وحاصله أن يقال : إنّ الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع بين البدائل أو الحصص ، فالشارع يصبّ حكمه على عنوان الجامع ، فهناك موضوع واحد وحكم واحد ، ويكون التخيير بلحاظ أنّ كلّ حصّة أو مصداق يحقّق هذا الجامع في عالم الامتثال ، ومن هنا يحكم العقل بالتخيير بينها.

بينما الوجوب في موارد التخيير الشرعي يتعلّق بكلّ واحد من هذه البدائل على سبيل التعيين ، ولكن وجوبه في كلّ منها مشروط بترك البدائل الأخرى ، وهذا معناه أنّه توجد وجوبات عديدة على عناوين متعدّدة ، فيتعدّد الوجوب بتعدّد الأفراد والحصص التي أخذها الشارع في لسان الدليل ، فيكون لكلّ حصّة وجوب تعييني ، ولكنّ هذا الوجوب ليس مطلقا وإنّما هو مشروط.

والوجه في عدم كونه مطلقا : أنّ الملاك والغرض من هذه الحصص سنخ ملاك يحصل ويتحقّق بأي فرد أو حصّة ، بحيث لا تكون الحصّة الأخرى بعد تحقّق الحصّة الأولى واجدة للملاك ، ولذلك لا يكون الأمر والوجوب متعلّقا بها بعد تحقّق غيرها.

وهذا معناه أنّه يوجد غرض واحد وملاك فارد يتحقّق بأيّة واحدة من هذه البدائل ،

ص: 228

أو يكون الملاك والغرض متعدّدين ففي كلّ واحدة من البدائل غرض مستقلّ ، ولكنّ هذه الأغراض متضادّة لا يمكن اجتماعها ولا يتمكّن المكلّف من تحصيلها جميعا ، بحيث إذا حصّل الغرض والملاك في أحدها فات الملاك والغرض من البدائل الأخرى ، فمن أجل ذلك جعل الشارع الوجوب مخيّرا بين البدائل ؛ إذ لو كانت غير متضادّة وكان يمكن تحصيلها كلّها لكانت كلّ واحدة واجبة بالوجوب التعييني لا التخييري.

وقد يلاحظ عليه بأنّ الوجوبات المشروطة تستلزم أمورا لا تناسب الوجوب التخييري كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، من قبيل تعدّد العقاب بترك الجميع.

وأورد على هذا التفسير بأنّه يلزم من الوجوبات المشروطة بعض اللوازم التي لا يمكن الالتزام بها ؛ لكونها مخالفة لحقيقة التخيير ، وهي :

أوّلا : يلزم تعدّد العقاب فيما لو ترك الجميع ؛ وذلك لأنّ كلّ واحد من البدائل وجوبه مشروط بترك الحصص الأخرى ، وهذا الشرط متحقّق في الفرض ، فيكون قد ترك وجوبات فعليّة متعدّدة ومعه يلزم تعدّد العقاب ، وهذا لا يمكن الالتزام به ، بل هو مخالف لحقيقة الوجوب التخييري الذي يستبطن مئونة أخفّ وأقلّ من الوجوب التعييني ، فكيف يكون أشدّ منه؟!

وثانيا : يلزم منه عدم تحقّق الامتثال فيما لو جاء بالبدائل كلّها ؛ لأنّه لن يكون الشرط متحقّقا في شيء منها ؛ لأنّ الشرط هو ترك الحصص الأخرى ، وهذا لم يتحقّق على هذا الفرض ؛ لأنّه جاء بالجميع ، ولذلك لا يكون شيء من الوجوب فعليّا ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به أيضا ؛ لوضوح أنّ الامتثال بالإتيان بأكثر من حصّة يكون أشدّ وآكد منه فيما لو أتى بحصّة واحدة.

وثالثا : أنّ جعل الوجوب التخييري عبارة عن الوجوبات المتعدّدة المشروطة خلاف حقيقة الوجوب التخييري وخلاف الظاهر من أدلّة هذا الوجوب ، حيث لا يوجد إلا وجوب واحد متعلّق بالجميع لا وجوب متعدّد بتعدّد الحصص (2).

ص: 229


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : التخيير الشرعي في الواجب.
2- إلا أنّه يمكن دفع هذه الإشكالات الثلاثة بأن يقال : أمّا الإشكال الأخير فهو إشكال إثباتي وهو ليس محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في عالم الثبوت وكيفيّة لحاظ المولى عند جعله الوجوب. وأمّا الإشكال الثاني فيندفع بأنّ البدائل قد أخذت كلّها على أساس أن يكون وجود أحدها قبل الآخر مانعا من استيفاء الغرض والملاك من البقيّة ، ولكن في صورة الإتيان بالجميع معا يكون الملاك والغرض الواحد متحقّقا بالجميع لا بأحدها. وتوضيحه : أنّه في صورة الطوليّة في الوجود يكون كلّ واحد منها علّة مستقلّة تامّة للملاك والغرض ، فإذا تحقّق أحدها حصل به الغرض والملاك فلا يكون الإتيان بالحصص الأخرى محقّقا لشيء من الملاك والغرض ، ولكن إذا حصلت كلّها معا فالملاك والغرض يتحقّق بالجميع فيكون كلّ واحد منها علّة ناقصة ، نظير اجتماع علّتين على معلول واحد فإنّ تأثيرها بنحو استقلالي ممنوع ، ولكن يقال بأنّ العلّة يكون المجموع منهما وهو ما يسمّى بالنقصان العرضي لا الذاتي ، ومن هنا يفصّل بين الوجود الطولي للحصص والوجود الدفعي المتقارن. وأمّا الإشكال الأوّل فيندفع بأنّ الشرط المذكور هو شرط لوجود الملاك الفعلي وليس شرطا للاتّصاف بالوجوب ، فإذا قلنا بأنّ ترك الحصص الأخرى شرط للاتّصاف بالوجوب ، فمع الترك للجميع يكون الوجوب في كلّ منها فعليّا فيكون المكلّف قد ترك وجوبات فعليّة فيتعدّد العقاب ، إلا أنّنا نقول بأنّ الشرط المذكور شرط لوجوب الملاك الفعلي في الحصّة الأخرى ، ممّا يعني أنّه إذا فعل إحدى الحصّتين فسوف لن يتحقّق الملاك الفعلي في الأخرى فلا تفويت للملاك الفعلي وإنّما يرتفع بارتفاع موضوعه ، ولذلك فالمولى سوف يفوته الملاك على كلّ حال إذا فعل المكلّف إحدى الحصّتين ، وأمّا إذا تركهما معا لا يكون مفوّتا لملاكين بل لملاك فعلي واحد ؛ لأنّ الآخر ضروري التفويت ، ومن هنا كان هذا التفسير مقبولا ثبوتا.

الاتجاه الثاني : إرجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، فيلتزم بأنّ الوجوب يتعلّق بالجامع دائما ، إمّا ببرهان استحالة الوجوبات المشروطة كما أشير إليه فيتعيّن هذا.

وإمّا ببرهان أنّ الوجوب التخييري له ملاك واحد والواحد لا يصدر إلا من واحد ، فلا بدّ من فرض جامع بين البدائل يكون هو علّة تحصيل ذلك الملاك.

التفسير الثاني : أن يقال : إنّ التخيير الشرعي يرجع إلى التخيير العقلي ، فهناك وجوب واحد متعلّق بالجامع بين البدائل ، وهذا الجامع إمّا أن يكون جامعا حقيقيّا وذلك فيما إذا أمكن أن يكون هناك جامع ذاتي بين البدائل فيكون مصبّ الحكم هو هذا الجامع الحقيقي ، وإمّا أن يكون جامعا انتزاعيّا وذلك فيما إذا لم يمكن أن يكون هناك جامع ذاتي بين البدائل بأن كانت متباينة فيما بينها فينتزع عنها عنوان ( أحدها ) ويصبّ الحكم عليه.

ص: 230

والوجه في إرجاع الوجوب التخييري الشرعي إلى العقلي وكونه متعلّقا بالجامع ، هو أحد أمرين :

الأوّل : ما تقدّم في الإشكال على الوجوبات المتعدّدة من لزوم تعدّد العقاب عند ترك الجميع ، ومن لزوم عدم تحقّق الامتثال عند فعل الجميع ، فإنّ هذه اللوازم لمّا لم يمكن الالتزام بها كان القول بالوجوبات المشروطة باطلا ، فيتعيّن وجود وجوب واحد متعلّق بالجامع بين البدائل.

الثاني : الاعتماد على قانون ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) فإنّ الملاك والغرض إمّا أن يكون متعدّدا بتعدّد البدائل ، فيكون لكلّ حصّة غرض وملاك مستقلّ عن الغرض والملاك في الحصص الأخرى ، وإمّا أن يكون واحدا. والفرض الأوّل باطل جزما ، وإلا لصارت كلّ حصّة من البدائل واجبة تعيينيّا ؛ لأنّ ملاكها مغاير للملاك في الحصص الأخرى والوجوب تابع للملاك ، وهذا الوجوب التعييني مطلق وليس مشروطا لما تقدّم من بطلان ذلك.

فيتعيّن أن يكون هناك غرض وملاك واحد ، ولمّا كان الواحد لا يصدر إلا من واحد فيستحيل أن يكون هذا الغرض الواحد ممّا يصدر من البدائل المتكثّرة ، فيلزم أن تكون هذه البدائل مؤثّرة في هذا الغرض لا بعنوانها الخاصّ ، بل بما هي مصداق لعنوان واحد هو الذي يكون مؤثّرا في الغرض.

وهذا العنوان الواحد إمّا أن يكون عنوانا حقيقيّا فيما إذا أمكن أن يكون بينها جامع ذاتي وإمّا أن يكون انتزاعيّا فيما إذا لم يمكن انتزاع الجامع الذاتي.

وبهذا يتّضح أنّ الوجوب التخييري الشرعي كالعقلي تماما عبارة عن وجوب واحد على موضوع واحد هو الجامع ، يبقى الفرق بينه وبين التخيير العقلي فهو أنّ الشارع في التخيير الشرعي هو الذي يتصدّى لبيان الحصص ؛ لأنّه أحرز أنّ الملاك والغرض يمكن أن يتحقّق بها دون غيرها ، بخلاف التخيير العقلي فإنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة والجامع يكون محصّلا للغرض بوصفه مصداقا لا بعنوانه الخاصّ. وهذا الوجه مقبول ثبوتا أيضا.

الاتّجاه الثالث : التسليم بأنّ الوجوب في موارد التخيير يتعلّق بالجامع دائما ، ولكن يقال : إنّ وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص والأفراد ،

ص: 231

أي وجوب كلّ واحدة منها بشرط انتفاء الحصص الأخرى.

وهذه الوجوبات بمجموعها لمّا كانت روحا نفس ذلك الوجوب المتعلّق بالجامع فليس من ناحيتها إلا عقاب واحد في فرض ترك الجميع.

التفسير الثالث : أنّ الوجوب في موارد التخيير عبارة عن وجوب واحد متعلّق بالجامع ، فالتخيير العقلي والتخيير الشرعي على حدّ واحد من هذه الناحية ، فيكون الحكم والوجوب متعلّقا بالجامع كما تقدّم في الاتّجاه الثاني.

ولكن يقال هنا : إنّه في موارد التخيير الشرعي أو العقلي سوف يسري الوجوب من الجامع إلى الحصص والأفراد ، فيكون كلّ واحد منها واجبا ولكن بنحو مشروط بترك الحصص أو الأفراد الأخرى ، وهذا معناه الرجوع إلى النظريّة الأولى في تفسير حقيقة الوجوب التخييري من الالتزام بالوجوبات المشروطة.

إلا أنّ الإشكالات التي أوردت هناك لا تأتي هنا ، فلا يلزم تعدّد العقاب عند ترك الجميع ولا عدم تحقّق الامتثال عند امتثالها دفعة.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذه البدائل والحصص لم ينصبّ عليها الوجوب ابتداء وإنّما وجوبها وجوب مترشّح من الوجوب المتعلّق بالجامع ، فهي بروحها وحقيقتها لا تزيد عن الجامع ؛ لأنّه لا يوجد إلا ملاك وغرض واحد مترتّب على الجامع ابتداء ، ومنه يترتّب هذا الغرض على أي واحد من الأفراد والحصص فيما لو جاء به وترك البقيّة.

وهذا نظير الوجوب الغيري للأجزاء في المركّب ، فإنّه ليس هناك إلا وجوب واحد فيه ملاك وغرض واحد متعلّق بالمركّب ، ولكن يترشّح من هذا الوجوب وجوبات متعدّدة بعدد الأجزاء تسمّى بالوجوبات الضمنيّة ، وهي وجوبات غيريّة كما سيأتي ، فترك كلّ جزء جزء لا يزيد عن ترك المركّب ، فليس هناك إلا عقاب واحد ، وفعل الجميع معناه الإتيان بالمركّب ، فليس هناك إلا امتثال واحد.

ومقامنا شبيه بذلك فإنّه إذا ترك جميع الحصص والأفراد يكون في الحقيقة قد ترك الجامع ؛ لأنّ ترك الجامع يكون بترك كلّ حصصه وأفراده فهناك عقوبة واحدة لتركه الجامع المتحقّق بترك جميع الحصص.

وأمّا إذا فعل أكثر من حصّة وأتى بأكثر من فرد فالامتثال متحقّق بأحدها فقط ؛

ص: 232

لأنّه به يحصل الملاك والغرض بوصفه مصداقا للجامع ، أو لكون وجوده مانعا من تحقّق الغرض من الآخر.

وهذا التفسير مبني على أنّ الأمر يتعلّق بالأفراد لا بالطبائع كما هو واضح.

والفرق بين هذا الاتّجاه وسابقه : أنّ هذا يقول بسراية الوجوب إلى الحصّة بالنحو المذكور ، وأمّا ذاك الاتّجاه فلا يلتزم بالسراية. وعليه لا تكون الحصّة معروضة للوجوب ، بل مصداقا لمعروض الوجوب. فالوجوب بالنسبة إلى الحصّة في موارد التخيير كالنوعيّة بالنسبة إلى أفراد الإنسان ، فإنّ هذا الفرد أو ذاك مصداق لمعروض النوعيّة لا معروض لها.

الفارق بين الاتّجاهين الثاني والثالث : الاتّجاه الثاني كان يرى أنّ الوجوب التخييري - سواء الشرعي أو العقلي - عبارة عن وجوب واحد متعلّق بالجامع الحقيقي أو الانتزاعي ، إمّا بناء على استحالة الوجوبات المشروطة وإمّا بناء على أنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد.

ولذلك فهو يرى أنّ هناك ملاكا وغرضا واحدا مترتّبا على الجامع يحقّقه هذا الفرد أو ذاك بوصفه مصداقا للجامع ، وهذا الوجوب لا يسري من الجامع إلى الفرد ولذلك لا يتّصف الفرد بالوجوب ، بل يعتبر مصداقا لما هو المأمور به ، فالمأمور به هو الجامع وهو معروض الوجوب ، وأمّا الفرد فليس هو معروض الوجوب ولذلك لا يتّصف بالوجوب ، وإنّما هو مصداق لما هو معروض الوجوب.

وهذا نظير ما إذا قلنا : الإنسان نوع ، فإنّ وصف النوعيّة لا يمكن أن يتّصف به هذا الفرد من الإنسان أو ذاك ؛ لأنّه جزئي حقيقي لا يقبل الانطباق إلا على نفسه ، وعنوان النوعيّة من العناوين الكلّيّة الانتزاعيّة. نعم ، هذا الفرد من الإنسان يعتبر مصداقا لمعروض النوعيّة أي مصداق للإنسان الذي عرضت عليه النوعيّة.

بينما الاتّجاه الثالث يذهب إلى أكثر من تعلّق الوجوب بالجامع ، فيرى أنّ هذا الجامع يسري إلى الفرد فيتّصف الفرد بالوجوب أيضا ، ولكن لمّا كان هناك غرض وملاك واحد ، فلا يكون هذا الوجوب الذي يسري إلى الأفراد متعدّدا وإلا للزم صدور الواحد من المتكثّر وهو محال.

بل هذا الوجوب في كلّ فرد مشروط بترك الأفراد الأخرى ، كما هو عليه التفسير

ص: 233

الأوّل مع فارق بينهما ، وهو أنّ التفسير الأوّل كان يرى أنّ الوجوب متعدّد ابتداء ممّا يعني أنّ لكلّ فرد وجوبا مجعولا بنحو مستقلّ عن وجوب الأفراد الأخرى ولكنّها مشروطة ، ولذلك أشكل عليها بتلك الإشكالات.

وأمّا هنا فالأفراد ليست معروضة للوجوب ابتداء ليكون لدينا وجوبات مستقلّة متعدّدة ، بل هناك وجوب واحد فقط له عصيان واحد وامتثال واحد كما تقدّم.

وقد يعترض على الاتّجاه الثالث بأنّ الوجوب فعل اختياري للشارع يجعله حيثما أراد ، فإذا جعله على الجامع لا يعقل أن يسري بنفسه إلى غير الجامع ، فإن أريد بالوجوبات المشروطة سريان نفس ذلك الوجوب فهو مستحيل ، وإن أريد أنّ الشارع يجعل وجوبات أخرى مشروطة فهو بلا موجب فيكون لغوا.

اعترض على التفسير الثالث بما حاصله : أنّ ما ذكره من كون وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص لا معنى له ؛ وذلك لأنّ الوجوب فعل اختياري للمولى فهو إن شاء جعل الوجوب وإن شاء لم يجعله ، فإذا أراد جعل الوجوب فإنّه إمّا أن يجعله وجوبا واحدا على الجامع فيما إذا لم يلاحظ الأفراد وكان الملاك في الجامع ، وإمّا أن يجعل وجوبات متعدّدة مطلقة أو مشروطة تبعا لما لاحظه في عالم الجعل من وحدة الملاك والغرض أو تعدّدهما.

وعليه ، فإذا جعل الشارع وجوبا واحدا على الجامع فلا معنى للقول بأنّ هذا الوجوب الواحد يستلزم وجوبات متعدّدة مشروطة ؛ لأنّ هذا إمّا أن يكون من نفس الوجوب وإمّا أن يكون من الشارع بجعل جديد ، وكلاهما باطل.

أمّا بطلان أن تكون الوجوبات المشروطة من نفس الوجوب المتعلّق بالجامع ، فلمّا ذكرنا من أنّ الوجوب فعل اختياري للمولى وليس أمرا قهريّا مفروضا عليه ، والسريان المذكور يعني أنّ تعدّد الوجوب كان قهريّا ، وهذا ينافي الاختياريّة في الجعل للمولى.

وأمّا بطلان أن تكون الوجوبات المشروطة مجعولة بجعل جديد من الشارع ، فلأنّ وجوب الجامع أوّلا يكفي مئونة جعل تلك الوجوبات المشروطة ؛ إذ المفروض أنّه لا يوجد إلا ملاك واحد يتحقّق بالإتيان بأي فرد أو مصداق أو حصّة ، وهذا المقدار يفي به الوجوب على الجامع ، فأيّة حاجة إلى جعل الوجوبات المشروطة على الحصص مجدّدا؟ فإنّه لا يكون إلا تحصيلا للحاصل فيلغو.

ص: 234

وبهذا ظهر أنّ سريان الوجوب من الجامع إلى الأفراد أو استلزامه لذلك في غير محلّه ، وحينئذ يكون الوجه الثالث كالثاني القائل بعدم السراية.

ويمكن أن يجاب على ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ في مرحلة جعل الحكم والإيجاب لا في مرحلة الشوق والإرادة ، إذ لا مانع من دعوى الملازمة في هذه المرحلة بين حبّ الجامع وأنحاء من الحبّ المشروط للحصص.

ولا يأتي الاعتراض باللغويّة ؛ لأنّ الكلام هنا عن المبادئ التكوينيّة للحكم.

وهذه الملازمة لا برهان عليها ، ولكنّها مطابقة للوجدان.

والجواب عن هذا الاعتراض :

أنّ ما ذكر في الاعتراض إنّما يتمّ لو قصرنا النظر على مرحلة جعل الحكم والإيجاب ، فإنّه يقال حينئذ بأنّ الشارع إمّا أن يجعل الوجوب على الجامع فقط أو يجعل وجوبات مشروطة على الحصص ، فإذا جعل الوجوب على الجامع فهو لا يسري إلى الأفراد لا بنفسه ؛ لأنّ الوجوب فعل اختياري للمولى ، ولا بجعل جديد من المولى ؛ لأنّه يكون لغوا وتحصيلا للحاصل.

إلا أنّنا إذا لاحظنا عالم الحبّ والشوق والإرادة أي عالم المبادئ للحكم فلا مانع ولا محذور حينئذ من سريان الحبّ والشوق والإرادة من الجامع إلى الأفراد ، فيقال بالملازمة بينهما ، بمعنى أنّ المولى إذا أحبّ شيئا فهو يحبّ أفراده وحصصه ولكن بنحو مشروط.

وهذا لن يبتلى بمحذور اللغويّة ؛ لأنّ كلامنا عن الحبّ والشوق والإرادة لا عن جعل الوجوب ، ليكون سريان ذلك تحصيلا للحاصل ولغوا.

نعم ، هذه الملازمة أو دعوى سريان الحبّ والشوق والإرادة من الجامع إلى الأفراد ولو مشروطا ممّا لا يمكن إقامة الدليل عليها ، إلا أنّها مع ذلك مطابقة للوجدان ، فإنّ المولى العرفي أو الإنسان مطلقا إذا تعلّق حبّه وشوقه وأراد شيئا وكان لهذا الشيء أفراد وحصص ، فهذا الشوق سوف يسري إلى الأفراد بمعنى أنّه سوف يحبّ ويريد كلّ فرد من الأفراد ولكن بنحو مشروط لا مطلقا ، بمعنى أنّه يريد أن يحقّق غرضه وملاكه في أي واحد من هذه الأفراد ، وبما أنّ كلّ واحد منها واجد للملاك ويمكن تحصيله منه فهو يحبّه. نعم لا يمكنه تحصيل مجموع الملاكات منها ؛ لما تقدّم سابقا من أنّها متضادّة في عالم الوجود أي وجود الملاك الأوّل يمنع من وجود الملاك الثاني ، وهكذا.

ص: 235

وبهذا ظهر أنّ التفسير الثالث مقبول ثبوتا أيضا ولا محذور فيه.

وهذا التحليل للوجوب التخييري له ثمرات :

منها : ما سوف يظهر في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ومنها : ما قد يقال : من أنّه إذا شكّ في واجب أنّه تخييري أو تعييني ، فعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى إيجاب الجامع يكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإن قيل هناك بالبراءة قيل بها هنا بإجرائها عن التعيين ، وإلا فلا.

وعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى الوجوبات المشروطة - كما يقرّره الاتّجاه الأوّل - فالشكّ مرجعه إلى الشكّ في إطلاق الوجوب واشتراطه ، أي في ثبوته في حال الإتيان بما يحتمل كونه بديلا وعدلا ، وهذا شكّ في الوجوب الزائد بلا إشكال فتجري البراءة.

وأمّا ثمرة البحث : فهي تظهر في موردين :

الأوّل : ما سوف يأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّه إن قيل بوجوب الجامع وعدم سراية الوجوب من الجامع إلى الفرد فيكون التخيير الشرعي كالعقلي ، فحينئذ سوف يكون اجتماع الأمر والنهي بلحاظ الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة جائزا ولا محذور فيه ؛ لأنّ الأمر بالجامع لمّا لم يسر إلى الأفراد فالحصّة فيها مبادئ الحرمة فقط دون الوجوب ، فلم تجتمع المبادئ المتضادّة على شيء واحد ؛ لأنّ مبادئ الوجوب متعلّقة بالجامع ، والجامع غير الفرد ، فالمعروض مختلف.

وأمّا إن قيل بسراية الوجوب من الجامع إلى الفرد فسوف تكون مسألة الاجتماع هذه غير ممكنة ؛ لأنّ السريان معناه أنّ الوجوب ومبادئه متعلّقة بالحصص والأفراد ، فتكون الحصّة التي تعلّق بها النهي ومبادئه قد تعلّق بها الأمر والوجوب ومبادئه ، فيلزم اجتماع المبادئ المتضادّة على شيء واحد وهو مستحيل.

الثاني : ما إذا شكّ في واجب أنّه تعييني أو تخييري ، كما لو شكّ في كون وجوب صوم الشهرين هل هو تعييني أم تخييري؟

فإن قيل بأنّ التخيير الشرعي يرجع إلى الوجوبات المشروطة للحصص فسوف يكون المورد من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، بمعنى أنّ الشكّ في كون الصوم

ص: 236

تعيينيّا أو تخييريّا معناه الشكّ في أنّ وجوب الصوم هل هو مطلق حتّى لو أتى بسائر الحصص أو أنّه مشروط بعدم الإتيان بتلك الحصص؟ وبالتالي يعود هذا الشكّ إلى كون وجوب الصوم هل هو وجوب مطلق أم هو وجوب مشروط؟

وحينئذ فإذا أعتق رقبة أو أطعم المساكين سوف يشكّ في بقاء الوجوب عليه ؛ لأنّ وجوب الصوم إن كان تعيينيّا فهذا يعني أنّ وجوبه مطلق ، فهو ثابت وفعلي ولا يسقط بالإتيان بغيره ، وإن كان تخييريّا فوجوبه يكون مشروطا بعدم الإتيان بسائر الحصص ، فإذا جاء بأحدها سقط وجوب الصوم عنه ، وهذا من الشك في سعة وضيق الوجوب المجعول عليه.

ومثل هذا الشكّ هل يكون مجرى للبراءة أم هو مجرى لأصالة الاشتغال؟ فيه كلام بينهم ، إلا أنّ الصحيح كونه مجرى لأصالة البراءة ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد ؛ لأنّه حينما يأتي بإحدى الخصال الأخرى غير ما يحتمل كونها تعيينيّة فسوف بشكّ في جعل وجوب زائد فتجري فيه البراءة.

وقد يقال بأنّه مجرى لأصالة الاشتغال ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته بالوجوب ويشكّ في خروجه عن عهدة التكليف فيما لو أتى بغير ما يحتمل كونه تعيينيّا.

وأمّا إن قيل برجوع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، بمعنى أنّه لا يوجد إلا وجوب واحد متعلّق بالجامع دون الحصص والأفراد ، فهنا سوف يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بوجوب هذه الحصّة بالخصوص أو هي وغيرها من الحصص على سبيل البدل ، فهو علم بتكليف دائر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فيما لو كان الجامع حقيقيّا ، ومثل هذا العلم ينحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب الجامع وشكّ بدوي في وجوب الحصّة ، فتجري البراءة عن الحصّة أي عن التعيين من دون معارض ؛ لأنّ البراءة عن الجامع لا يمكن جريانها كما سيأتي في محلّه.

وإن كان الجامع انتزاعيّا فالشكّ دائر بين عنوانين متباينين ، فإن قيل بالانحلال الحكمي للجامع فسوف تجري البراءة عن الزائد وهو التعيين ؛ لأنّ فيه مئونة زائدة ، وإن لم يحكم بالانحلال فيجب الاحتياط.

ص: 237

ص: 238

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب

ص: 239

ص: 240

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب تعريف الواجب الغيري :

اتّضح ممّا تقدّم (1) أنّ المكلّف مسئول عن مقدّمات الواجب من قبل نفس الوجوب المتعلّق بها ؛ لأنّه يحرّك نحوها تبعا لتحريكه نحو متعلّقه ، وهذه المسئوليّة في حدودها العقليّة متّفق عليها باعتبارها من شئون حكم العقل بلزوم الامتثال.

وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدّمة ، فالمشهور بين الأصوليّين هو أنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّمته ، فتتّصف المقدّمة بوجوب شرعي غير أنّه تبعي ، إمّا بمعنى أنّه معلول لوجوب ذي المقدّمة ، أو بمعنى أنّ الوجوبين معا معلولان للملاك القائم بذي المقدّمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدّي إلى إيجاب ذي المقدّمة نفسيّا ، وبضمّ مقدّميّة المقدّمة يؤدّي إلى إيجابها غيريّا. وعلى كلا الوجهين فالتلازم بين الوجوبين محفوظ.

تمهيد : تقدّم سابقا أنّ المقدّمات على نحوين فتارة تكون مقدّمات وجوبيّة وأخرى تكون مقدّمات للواجب ، وقلنا بأنّ المكلّف ليس مسئولا عن إيجاد المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّها دخيلة في موضوعه فلا يكون داعيا ولا محرّكا نحوها.

نعم ، المكلّف مسئول عن المقدّمات الوجوديّة للواجب ، وهذه المسئوليّة ثابتة بحكم العقل ، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بهذه المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الواجب كالسفر إلى الحجّ مثلا أو تحصيل الوضوء ونحوه من أجل الصلاة مع طهارة ، وهذا الوجوب العقلي الذي يحرّك المكلّف نحو المقدّمات حفاظا منه على تحقّق الامتثال والإطاعة لتكليف المولى ، إنّما نشأ من نفس ثبوت الوجوب المتعلّق بالواجب ،

ص: 241


1- تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

فإنّه لمّا كان هذا الفعل واجبا ووجوبه فعليّ ، فالعقل يحكم بلزوم امتثاله وتحصيل سائر المقدّمات التي يتوقّف عليه الامتثال. إذا هذا الوجوب العقلي متفرّع عن الوجوب الشرعي للواجب.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه عند الأصوليّين.

وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدّمات ، فهل يحكم الشارع بوجوب المقدّمات أم يكتفي بالإلزام والإيجاب العقلي الثابت لها؟

ذهب المشهور إلى أنّ إيجاب شيء يستلزم إيجاب مقدّمته أيضا ، فتتّصف المقدّمة بالوجوب الشرعي مضافا إلى الوجوب العقلي ، غير أنّ هذا الوجوب ليس وجوبا نفسيّا ناشئا من مبادئ في نفس المقدّمة ، وإنّما هو وجوب تبعي غيري أي أنّه بتبع الواجب النفسي كان هذا الوجوب.

والوجه في ذلك هو أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون الواجب النفسي هو العلّة لنشوء هذا الواجب الغيري ، فكان الواجب الغيري تابعا للوجوب النفسي من باب تبعيّة المعلول لعلّته. فمن هنا أطلق عليه الوجوب التبعي أي أنّه تابع لغيره وناشئ من غيره.

الثاني : أن يكون الوجوب النفسي والوجوب الغيري كلاهما تابعين للملاك الموجود في الواجب النفسي ، بمعنى أنّ الشارع لمّا لاحظ المبادئ من ملاك ومصلحة في الفعل تولّد من ذلك الوجوب النفسي فالوجوب تابع للملاك والمصلحة ، ولمّا لاحظ أنّ هذا الفعل لا يتحقّق إلا بمقدّمات يتوقّف وجوده عليها تولّد منه الوجوب الغيري ، فالوجوب النفسي والغيري كلاهما متولّدان من الملاك القائم في الفعل ، فهو الذي يسبّب وجود الوجوب النفسي المتعلّق بنفس الفعل ووجود الوجوب الغيري المتعلّق بمقدّمات الفعل ، ولذلك فكلاهما تابع للملاك ، فمن هنا كانت التسمية بالوجوب التبعي.

وعلى كلّ حال فسواء كانت التبعيّة على أساس الوجه الأوّل أو الوجه الثاني ، فلا إشكال في ثبوت الملازمة بين وجوب شيء نفسيّا ووجوب مقدّماته غيريّا ، غير أنّ التلازم على الوجه الأوّل يكون بين المقدّمات وذات الفعل مباشرة ؛ لأنّها معلولة له ، بينما على الوجه الثاني يكون التلازم بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها بتوسّط الملاك ؛ لأنّهما تابعان معا للملاك.

ص: 242

ويعرّف هؤلاء القائلون بالملازمة الواجب الغيري بأنّه ما وجب لغيره ، أو ما وجب لواجب آخر. والواجب النفسي بأنّه ما وجب لنفسه أو ما وجب لا لواجب آخر.

وعلى هذا الأساس يصنّفون الواجبات في الشريعة إلى قسمين :

فالصلاة والصيام والحجّ ونحوها واجبات نفسيّة ، والوضوء والغسل وطيّ المسافة واجبات غيريّة.

تعريف الوجوب الغيري : عرّف القائلون بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته شرعا الواجب الغيري بأحد تعريفين :

أحدهما : أنّ الواجب الغيري : هو ما وجب لغيره. وفي مقابله الواجب النفسي : وهو ما وجب لنفسه.

والآخر : أنّ الواجب الغيري هو ما وجب لواجب آخر. وفي مقابله الواجب النفسي : وهو ما وجب لا لواجب آخر.

وعلى هذا الأساس قسّموا الواجبات الشرعيّة إلى قسمين :

أحدهما الواجبات النفسيّة كالصلاة والصيام والحجّ فإنّها واجبات وجبت لنفسها لا لغيرها ولا لواجب آخر.

والآخر الواجبات الغيريّة كالوضوء والغسل وطيّ المسافة فهذه واجبات وجبت لغيرها أي للصلاة والصيام والحجّ ، أو وجبت لواجب آخر وهو وجوب الصلاة والصيام والحجّ ولم تجب لنفسها أو بمعزل عن الواجب الآخر.

وأمّا الفرق بين التعريفين فيظهر في تماميّة الإشكال الآتي وعدمه.

وقد لوحظ عليهم : أنّ الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع إلا لما يترتّب عليها من الفوائد والمصالح ، وهي مغايرة وجودا لتلك الفوائد والمصالح فيصدق عليها أنّها وجبت للغير ، وهذا يعني أنّ كلّ هذه الواجبات تصبح غيريّة ، ولا يبقى في نطاق الواجب النفسي إلا ما كانت مصلحته ذاتيّة له كالإيمان باللّه سبحانه وتعالى.

الإشكال على التعريف : أشكل على تعريف الوجوب الغيري ( بأنّه ما وجب للغير ) بأنّ كثيرا بل أغلب الواجبات التي ذكر أنّها واجبات نفسيّة قد أوجبها الشارع للغير لا لنفسها.

ص: 243

فالصلاة مثلا أوجبها ؛ لأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصيام أوجبه ؛ لأنّه سبب لحصول التقوى ، وهكذا في سائر الواجبات النفسيّة. فإنّ الشارع إنّما أوجبها من أجل ما يترتّب عليها من المصالح والملاكات والفوائد سواء منها الماديّة أم المعنويّة.

والحال أنّ هذه الواجبات ليست هي نفس تلك الفوائد والمصالح ، بل هما متغايران ومتباينان في الوجود ، وحيث إنّها وجبت للغير فينطبق عليها تعريف الوجوب الغيري ، وهذا لا يمكن الالتزام به ؛ بل لا يبقى من الواجبات ما هو نفسي إلا الإيمان باللّه عزّ وجلّ ، وما عدا ذلك كلّه واجب للغير.

وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكورة بأنّ الصلاة وإن كانت واجبة من أجل المصلحة المترتّبة عليها ، إلا أنّ هذا لا يدرجها في تعريف الواجب الغيري ؛ لأنّ الواجب الغيري ليس كلّ ما وجب لغيره ، بل ما وجب لواجب آخر ، والمصلحة الملحوظة في إيجاب الصلاة ليست متعلقا للوجوب بنفسها ، فلا يصدق على الصلاة أنّها وجبت لواجب آخر.

والجواب عن الإشكال : أن هذا الإشكال إنّما يرد على تعريف الوجوب الغيري ( بأنّه ما وجب للغير ) إلا أنّنا نبدّل التعريف إلى قولنا : ( بأنّه ما وجب لواجب آخر ) فكلّ شيء وجب من أجل واجب آخر يكون وجوبه غيريّا ، وحينئذ تكون الصلاة ونحوها واجبات نفسيّة ؛ وذلك لأنّها وجبت لنفسها ولم تجب لواجب آخر.

وأمّا الفوائد والمصالح التي تترتّب على الواجبات النفسيّة فهي وإن كانت كذلك ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ الصلاة مثلا صارت واجبا غيريّا ؛ لأنّها لم تجب لواجب آخر ، فإنّ هذه المصالح ليست واجبة ولم يتعلّق بها الوجوب في رتبة سابقة. نعم ، هي مجرّد فوائد ومصالح لا أكثر إلا أنّ الشارع لم يوجبها أوّلا وبالذات ، وإنّما أوجب الصلاة فهي متعلّق الوجوب دون تلك المصالح.

فإن سألت : كيف لا تكون تلك المصلحة واجبة مع أنّ الصلاة الواجبة إنّما أوجبت من أجلها؟

كان الجواب : أنّ الإيجاب مرجعه إلى الاعتبار والجعل الذي هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في مقام الثبوت ، وغاية الواجب إنّما يجب أن تكون مشاركة للواجب بدرجة أقوى في عالم الحبّ والإرادة ؛ لأنّ حبّه إنّما هو لأجلها ،

ص: 244

لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّ الجعل قد يحدّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حبّ الأصيل ؛ لما تقدّم في بداية هذه الحلقة (1) من أنّ المولى له أن يحدّد مركز حقّ الطاعة في مقدّمات مراده الأصيل بجعل الإيجاب عليها لا عليه ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل دونه.

وقد يشكل بأنّ تلك المصالح والفوائد كيف لا تكون واجبة ، مع أنّ الواجبات الشرعيّة كالصلاة والصيام ونحوها إنّما أوجبها الشارع من أجل تلك المصالح ، فكانت هي السبب الباعث على تشريع تلك الواجبات؟

والجواب عن ذلك : هو أنّ الإيجاب يمثّل العنصر الثالث من مبادئ الحكم في عالم الثبوت ، كما تقدّم مفصّلا في بداية هذه الحلقة ، حيث قلنا بأنّ الشارع عند ما يريد أن يجعل الحكم فهو يمرّ في ثلاث مراحل ، هي : الملاك والإرادة والاعتبار.

والملاك : هو المصالح أو المفاسد التي تتعلّق بالفعل وعلى ضوء ذلك يحصل الشوق والحبّ المولوي فتنشأ المحبوبيّة أو المبغوضيّة.

ثمّ بعد ذلك يأتي دور الاعتبار ، وفي هذا اللحاظ يجعل الشارع الإيجاب أو التحريم ، ولكن الاعتبار يستخدمه الشارع من أجل تحديد مركز حقّ الطاعة ولكنّه ليس ضروريّا ، بمعنى أنّ الشارع إذا أحبّ شيئا وأراده فليس من الضروري أن يوجبه على المكلّف ويجعله مصبّا لحقّ الطاعة ، بل قد يوجبه أو يوجب مقدّماته التي يرى أنّها تؤدّي إليه لا محالة.

ومن هنا كان دور الاعتبار والذي يعبّر الإيجاب عنه هو تحديد ما يجعله المولى داخلا في حقّ الطاعة ، ولهذا فقد يتّحد الاعتبار مع ما أحبّه المولى وقد يغايره.

فإذا أوجب المقدّمات فهذا يعني أنّها هي الواجبة دون أصل الشيء الذي أحبّه وأراده ، ولا يكون المكلّف مسئولا إلا عمّا أوجبه الشارع ؛ لأنّه هو الذي حدّده داخلا في حقّ الطاعة دون أصل الشيء ، وإن كان أصل الشيء محبوبا بدرجة أقوى ، ولكن في عالم الحبّ والشوق والإرادة فقط دون عالم الإيجاب والجعل والاعتبار.

وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال ، فإنّ كون المصالح والفوائد محبوبة للمولى لا يعني أنّها واجبة ؛ لأنّ الإيجاب فعل اختياري للمولى يبرز ما هو داخل في دائرة حقّ

ص: 245


1- في البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

الطاعة عمّا هو خارج عنها ، والمفروض أنّ المولى لم يوجب تلك المصالح وإن كانت محبوبة له ؛ لأنّه ليس كلّ شيء أحبّه المولى فهو واجب ، بل الواجب ما جعله واجبا بإبراز الاعتبار الكاشف عنه ، وعلى هذا فنقول :

وعلى هذا فإذا جعل الشارع الإيجاب على الصلاة ابتداء وحدّدها مركزا لحقّ الطاعة ، ولم يدخل المصلحة المنظورة له في العهدة ، كانت الصلاة واجبا نفسيّا لا غيريّا ؛ لأنّها لم تجب لواجب آخر ، وإن وجبت لمصلحة مترتّبة عليها ، وخلافا لذلك الوضوء فإنّه وجب من أجل الصلاة الواجبة فينطبق عليه تعريف الواجب الغيري.

وحاصل الجواب أن يقال : إنّ الشارع إذا جعل الإيجاب على الصلاة مثلا كانت الصلاة هي الواجبة ؛ لأنّ إيجابها معناه أنّ حقّ الطاعة قد حدّده المولى في نطاق الصلاة لا أكثر ، فتكون واجبا نفسيّا ؛ لأنّها وجبت لا لواجب آخر ؛ لأنّ المفروض أنّ تلك المصلحة لم تكن واجبة ؛ لأنّ المولى لم يدخلها في نطاق حقّ الطاعة ولم يجعل الإيجاب عليها.

نعم ، لو جعل الشارع الإيجاب على تلك المصلحة وجعل الإيجاب على الصلاة كانت الصلاة واجبا غيريّا ؛ لأنّها تكون في هذه الحالة قد وجبت لواجب آخر إلا أنّ مثل هذا الفرض لم يقع.

وهذا بخلاف وجوب الوضوء فإنّه وجب لأجل الصلاة والمفروض أنّ الصلاة واجبة أيضا ، فيكون الوضوء واجبا غيريّا ؛ لأنّه وجب لواجب آخر.

ومن هنا نعرف : أنّ ما تعلّق به الحبّ والشوق المولوي قد يكون هو نفس ما تعلّق به الإيجاب وقد يكون مغايرا له ، والسرّ في ذلك هو ما يلحظه المولى من مصلحة عند جعله الإيجاب ؛ إذ ليس كلّ محبوب للمولى يمكن أن يحقّقه المكلّف ، فإذا جعل الإيجاب عليه يلزم منه المشقّة أو العسر والحرج أو التكليف بما لا يطاق ، ولذلك يجعل الوجوب على مقدّماته التي توصل إليه أو التي من شأنها أن توصل إليه.

ص: 246

خصائص الوجوب الغيري

اشارة

ص: 247

ص: 248

خصائص الوجوب الغيري

ولا شكّ لدى الجميع في أنّ الوجوب الغيري للمقدّمة - إذا كان ثابتا - فهو لا يتمتّع بجملة من خصائص الوجوب النفسي. ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيري فيما يلي :

أوّلا : أنّه ليس صالحا للتحريك المولوي بصورة مستقلّة ومنفصلة عن الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ من لا يكون بصدد التحرّك عن الوجوب النفسي للحجّ لا يمكن أن يتحرّك بروحيّة الطاعة والإخلاص للمولى عن الوجوب الغيري لطيّ المسافة ؛ لأنّ إرادة العبد المنقاد التكوينيّة يجب أن تتطابق مع إرادة المولى التشريعيّة ، ولمّا كانت إرادة المولى للمقدّمة في إطار مطلوبيّة ذيها ومن أجل التوصّل إليه ، فلا بدّ أن تكون إرادة العبد المنقاد لها في إطار امتثال ذيها.

خصائص الوجوب الغيري : يختلف الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي في عدّة نقاط ، فإنّنا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الشرعي والذي هو وجوب غيري فهو لا يحمل نفس الخصائص التي يتميّز بها الوجوب النفسي ، ويمكننا تلخيص هذه الفوارق ضمن عدّة نقاط ، هي :

الخصوصيّة الأولى : بلحاظ المحرّكيّة.

فالوجوب النفسي من خصائصه كونه محرّكا وداعيا نحو إيجاد متعلّقه بصورة مستقلّة ومنفصلة عن أي شيء آخر ، فوجوب الصلاة مثلا يحرّك المكلّف بعد تحقّق موضوعه وصيرورته فعليّا نحو إيجاد متعلّقه أي الصلاة.

وأمّا الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة فهو لا يحرّك المكلّف نحو إيجادها بصورة مستقلّة ومنفصلة عن إيجاد ذي المقدّمة الذي هو الواجب النفسي ، فمثلا طيّ المسافة من أجل الحجّ الواجب لا يمكن أن يكون الوجوب الغيري المتعلّق بها محرّكا للمكلّف نحو

ص: 249

إيجادها ، بقطع النظر عن التحرّك نحو إيجاد الحجّ الواجب ، فالمكلّف إذا لم يرد أن يحجّ مع وجوبه عليه فلا يتحرّك نحو طيّ المسافة لمجرّد وجوبها الغيري ، بمعنى أنّه لا يمكنه أن يأتي بهذه المقدّمة بقصد الإطاعة والامتثال للحجّ الواجب مع كونه لا يريد الحجّ.

نعم يمكنه أن يطوي هذه المسافة تكوينا فيسافر إلى الميقات مثلا ولكن من دون أن يقصد بها التوصّل إلى الحجّ الواجب ؛ لأنّه لا يوجد لديه إرادة لذلك ، ومع عدم حصول الإرادة للإتيان بالواجب فلا تنقدح لديه إرادة للإتيان بمقدّمته بقصد التوصّل إليها وإلا لحصل التهافت في الإرادة ؛ إذ لا معنى للإتيان بالمقدّمة بقصد الإطاعة مع كونه يريد المعصية وعدم الإتيان بالواجب.

والوجه في ذلك : هو أنّ المكلّف لمّا توجّه إليه الخطاب النفسي بالحجّ فإرادة المكلّف تصبح مصداقا لإرادة المولى التشريعيّة ؛ لأنّ المكلّف هو الذي يحقّق الإرادة التشريعيّة للمولى بالتحرّك تكوينا نحو امتثال الواجب ، ولمّا كانت إرادة المولى التشريعيّة قد تعلّقت بالمقدّمة على أساس التبعيّة للواجب النفسي ، فالإرادة التكوينيّة للمكلّف يجب أن تتطابق مع الإرادة التشريعيّة هذه - مع فرض كون المكلّف منقادا ومطيعا للمولى - فلا يمكنه الإتيان بالمقدّمة تكوينا ، إلا إذا أراد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، فإنّه حينئذ يكون منقادا ومطيعا ، ولذلك يكون المحرّك نحو المقدّمة هو نفس الوجوب النفسي.

وأمّا التحرّك نحو المقدّمة على أساس وجوبها الغيري من دون التوصّل إلى الواجب النفسي ، فهو ضرب من العبث واللّهو ؛ لأنّه ليس هو المراد للمولى فلا يكون قد حقّق شيئا للمولى من الطاعة والامتثال.

نعم ، هناك محرّكيّة للوجوب الغيري ولكنّها في طول محرّكيّة الوجوب النفسي ، بمعنى أنّها مترشّحة من المحرّكيّة في الوجوب النفسي وناشئة منها.

وبعبارة أوضح معلولة لها وبتبعها وفي طولها ، وليست مستقلّة ومنفصلة عنها.

فإذا أراد التحرّك نحو الواجب النفسي نشأت لديه محرّكيّة أخرى تبعيّة وغيريّة نحو المقدّمة ، وأمّا إذا لم يكن يريد الواجب النفسي ولا يكون بصدد التحرّك نحوه فلن تنشأ لديه هذه المحرّكيّة نحو المقدّمة ، وإن كان يمكنه الإتيان بالمقدّمة ولكن بدواع أخرى كما هو واضح.

ص: 250

وثانيا : أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال له ؛ وذلك لأنّ المكلّف إن أتى بالمقدّمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بداية في امتثال الوجوب النفسي ويستحقّ الثواب عندئذ من قبل هذا الوجوب ، وإن أتى بالمقدّمة وهو منصرف عن امتثال الواجب النفسي فلن يكون بإمكانه أن يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري ؛ لما تقدّم من عدم صلاحيّة الوجوب الغيري للتحريك المولوي.

الخصوصيّة الثانية : بلحاظ الثواب.

فالوجوب النفسي إذا امتثله المكلّف وأتى بمتعلّقه استحقّ الثواب عليه ؛ لأنّه يكون مطيعا ومنقادا للمولى فيحكم العقل باستحقاقه الثواب من جهة تعظيمه واحترامه للمولى.

وأمّا الوجوب الغيري فهو بنفسه هل يوجب الإتيان به ثوابا زائدا على الثواب الموجود في الواجب النفسي أم لا؟

ذهب المشهور إلى أنّ الوجوب النفسي لا يوجب امتثاله الثواب بما هو واجب غيري ، أي لا يترتّب على عنوانه هذا أيّ ثواب ، وإنّما الثواب على الواجب النفسي فقط.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ المكلّف إذا جاء بالمقدّمة كطيّ المسافة بداعي امتثال الواجب النفسي وبقصد التوصّل إليه بها كان امتثاله هذا من بدايته يتّصف بأنّه امتثال للواجب النفسي.

أو بتعبير أدقّ يقال : إنّه شرع في امتثال الواجب النفسي ، وحينئذ يستحقّ الثواب على المقدّمة هذه لا بعنوان كونها مقدّمة ، بل بما هي شروع في امتثال الواجب النفسي ، وهذا الاستحقاق للثواب إنّما يأتي من قبل الوجوب المتعلّق بالواجب النفسي ، لا الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة.

وأمّا إذا لم يأت بالواجب النفسي بعد إتيانه بالمقدّمة بأن كان ناويا من أوّل الأمر ألاّ يأتي بالواجب النفسي بعد السفر وطيّ المسافة ، فهنا لا يكون مستحقّا للثواب لا على عنوان الواجب النفسي ولا على عنوان الواجب الغيري.

أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّه لم يأت بالواجب النفسي فلا يستحقّ ثوابا من قبل الوجوب النفسي ، وأمّا الثاني فلأنّ عنوان المقدّميّة الذي هو ملاك الوجوب الغيري لم

ص: 251

يتحقّق فلا يستحقّ الثواب على الإتيان بالمقدّمة ؛ لأنّها لا تتّصف بعنوان المقدّميّة إذ المفروض أنّه لم يتوصّل بها إلى الواجب النفسي عن علم وعمد واختيار ، ومجرّد إتيانه بالمقدّمة لا يمكن أن يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لأنّ هذا الإتيان لم يكن من قبل الوجوب الغيري ؛ لأنّه لا محرّكيّة ولا داعويّة له مستقلّة عن الوجوب النفسي كما تقدّم ، وبالتالي لا يستحقّ الثواب ؛ لأنّه لم يتحرّك عنه (1).

وثالثا : أنّ مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ليست موضوعا مستقلا لاستحقاق العقاب ، إضافة إلى ما يستحقّ من عقاب على مخالفة الوجوب النفسي ؛ وذلك لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الواجب إنّما هو بلحاظ ما يعبّر عنه الواجب من مبادئ وملاكات تفوت بذلك. ومن الواضح أنّ الواجب الغيري ليس له مبادئ وملاكات سوى ما للواجب النفسي من ملاك ، فلا معنى لتعدّد استحقاق العقاب.

ص: 252


1- وخالف في ذلك السيّد الخوئي ، حيث ذهب إلى استحقاق من أتى بالمقدّمة للثواب زائدا على الثواب الموجود في الواجب النفسي فيما لو كانت موصلة للواجب النفسي بأن جاء بالواجب النفسي بعد المقدّمة ، بل يستحقّ الثواب على الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي حتّى لو لم يتحقّق بعدها الواجب النفسي بأن صدّ أو منع أو عجز عنه فيما بعد. وعلّل ذلك بأنّ الثواب يترتّب على عنوان الانقياد والإطاعة وهو هنا ثابت. وجوابه : أمّا استحقاق الثواب الزائد على الواجب النفسي فهذا لم يحصل من نفس الوجوب الغيري ، وإنّما حصل نتيجة ترتّب عنوان آخر وهو كون « أفضل الأعمال أحمزها » ، ممّا يعني أنّه استحقّ الثواب على عنوان الأشقيّة لا على عنوان الوجوب الغيري ، وهذا ما دلّت عليه الروايات وإلا لم يكن يستحقّ للثواب الزائد. وأمّا استحقاق الثواب على الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل ولكن لم يترتّب عليها الواجب النفسي لا عن عمد واختيار ، فهذا إمّا يكون نحو تفضّل من المولى ، وإمّا للروايات الخاصّة التي دلّت على أنّ من يهمّ بالحسنة ولم يعملها فله ثوابها ، أو من همّ بعمل ولم يعمله كان له ثوابه. وأمّا التعليل فهو وإن كان صحيحا إلا أنّه بمعنى أنّ المكلّف ينقاد للمولى ويأتي بمطلوب المولى النفسي بحسب علم المكلّف لا بحسب الواقع ؛ إذ قد لا يكون ما علم به ثابتا أصلا ، فالانقياد موضوعه أوسع ؛ لأنّه يشمل من يطيع ويأتي بالمطلوب النفسي الواقعي ومن يطيع ولا يأتي بالمطلوب النفسي الواقعي ، بل يأتي بما يعتقد أنّه كذلك مع كونه مخطئا في الحقيقة وغير مصيب للواقع.

الخصوصيّة الثالثة : بلحاظ العقاب.

لا إشكال في عدم ترتّب العقاب على مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ، بمعنى أنّه لا يحكم العقل باستحقاق المكلّف الذي يترك المقدّمة العقاب على ترك المقدّمة زائدا على العقاب الذي يستحقّه بترك ذي المقدّمة أي الواجب النفسي. وكذا لا يحكم العقل بازدياد العقوبة أو شدّتها وإلا للزم ازدياد العقاب كلّما كثرت المقدّمات ، وهذا لا يقول به أحد.

والوجه في عدم استحقاق العقوبة على ترك المقدّمة هو أنّ المناط في حكم العقاب باستحقاق العقوبة عند مخالفة الواجب إنّما يكون بلحاظ ما يفوت بترك الواجب من المبادئ والملاكات على المولى ، فالمكلّف بتركه للواجب الفعلي يكون قد فوّت على المولى ملاكا فعليّا مع قدرته على تحصيله ، ولذلك يحكم العقل باستحقاق العقوبة ، ولا يشترط أن يكون الملاك الذي يفوت ثابتا في الواقع ، بل يكفي أن يكون ثابتا باعتقاد المكلّف وعلمه ، ولذلك استحقّ المتجرّي العقوبة كالعاصي ؛ لأنّهما يشتركان في هتك حرمة المولى والتعدّي على حدوده.

وحينئذ يقال : إنّ الوجوب الغيري لمّا لم يكن ناشئا من ملاكات ومبادئ مستقلّة عن الواجب النفسي كما تقدّم سابقا ، فلا يكون عدم التحرّك عنه مفوّتا لملاك زائد عن الملاك الموجود في الواجب النفسي ، إذ تقدّم أنّ الواجب الغيري لا محرّكيّة ولا داعويّة له بنحو مستقلّ عن الواجب النفسي ، وهذا لأنّه ليس له مبادئ في نفسه ، ومن هنا لا يكون قد فات على المولى إلا ملاك واحد لا أزيد فيحكم العقل باستحقاق المكلّف عقوبة واحدة لا أكثر.

ومن هنا لم يكن هناك عقوبات متعدّدة بتعدّد المقدّمات فيما لو تركها جميعا ، فإنّ الوجدان والعرف يقضيان بعدم التعدّد ، وهذا شاهد على عدم كون الوجوب الغيري موضوعا مستقلاّ لحكم العقل باستحقاق العقوبة على الترك.

ورابعا : أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة ، وهذا يفرض تعلّقه بواقع المقدّمة دون أن يؤخذ فيه أيّ شيء إضافي لا دخل له في حصول ذي المقدّمة.

ومن هنا كان قصد التوصّل بالمقدّمة إلى امتثال أمر المولى والتقرّب بها نحوه تعالى خارجا عن دائرة الوجوب الغيري ؛ لعدم دخل ذلك في حصول الواجب النفسي.

ص: 253

فطيّ المسافة إلى الميقات كيفما وقع وبأي داع اتّفق يحقّق الواجب الغيري ، ولا يتوقّف الحجّ على وقوع هذا الطي بقصد قربي ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ الوجوبات الغيريّة توصّليّة.

الخصوصيّة الرابعة : في ملاك الوجوب الغيري.

ممّا تقدّم يظهر لنا أنّ الملاك للوجوب الغيري هو عنوان المقدّميّة ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري إنّما كان واجبا بملاك كونه مقدّمة للواجب النفسي ؛ إذ لو لم يكن مقدّمة للواجب النفسي لم يكن هناك أي داع ولا غرض للمولى في جعل الوجوب الشرعي عليه.

وهذا معناه أنّ الوجوب الغيري متعلّق بالمقدّمة أي بواقع المقدّمة ، أي ما يصدّق عليه في الواقع أنّه مقدّمة للواجب النفسي ، فمثلا طيّ المسافة إلى الميقات من أجل الحجّ الواجب إنّما يتّصف بكونه مقدّمة فيما لو كان واقعا وحقيقة مقدّمة يستتبعها الإتيان بالواجب ، بحيث لم يكن هناك أي شيء يمنع من تحقّق الواجب خارجا عن قدرة المكلّف واختياره ، فالمقتضي موجود وأمّا المانع الذاتي والداخلي فهو منتف.

نعم ، قد يتّفق حصول المانع الطارئ والخارج عن اختيار وقدرة المكلّف ، فيكون المقصود من واقع المقدّمة هو الفعل الذي من شأنه أن يؤدّي إلى الواجب ويكون مقتضيا لذلك في نفسه بقطع النظر عن المانع الخارجي ، وليس هناك أي شيء آخر يضاف إلى واقع المقدّمة ممّا لا يكون دخيلا في تحقّق ذي المقدّمة.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ قصد التوصّل بالمقدّمة إلى امتثال أمر المولى أي الواجب النفسي ، والتقرّب بالمقدّمة إلى المولى ليس داخلا في دائرة الوجوب الغيري ، بل هو خارج عنه ، بمعنى أنّ المكلّف لا يشترط حين إتيانه بالمقدّمة أن يقصد التوصّل بها إلى أمر المولى ولا يشترط أن يقصد القربة أيضا. نعم ، يمكنه أن يقصد ذلك إلا أنّه ليس شرطا.

والوجه في ذلك : هو أنّ الوجوب الغيري لمّا تعلّق بواقع المقدّمة فالمهمّ والمطلوب هو حصول هذه المقدّمة من المكلّف ، سواء قصد حين الإتيان بها القربة أم لا ، وسواء قصد التوصّل بها إلى الواجب أم لا. نعم ، يشترط ألاّ يقصد عدم التوصّل بها إلى الواجب ؛ لأنّه من الواضح أنّ المكلّف الذي يكون قاصدا عدم التوصّل بالمقدّمة إلى

ص: 254

الواجب لن تكون المقدّمة واقعا ، بمعنى أنّ المقتضي ليس موجودا فيها ؛ لأنّنا قلنا : إنّ المقدّمة هي التي تكون واجدة لمقتضي الإتيان بالواجب ، فمن يقصد عدم الإتيان بالواجب يكون ما أتى به من فعل ليس مقدّمة حقيقة وواقعا.

وبتعبير آخر : إنّ طيّ المسافة للذهاب إلى الميقات من أجل الإتيان بالحجّ الواجب ، إنّما يتّصف هذا الفعل بعنوان المقدّميّة فيما إذا كان فيه المقتضي للإتيان بالواجب ، وهذا المقتضي يتحقّق بأن لا يقصد المكلّف عدم الإتيان بالواجب.

وأمّا شرطيّة قصد التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب ، أو شرطيّة القربة لله تعالى بالمقدّمة فهذه خارجة عن دائرة الوجوب الغيري ؛ لأنّ عنوان المقدّمة أو واقع المقدّمة يتحقّق سواء قصد ذلك أم لا.

فمثلا من يذهب إلى الميقات من دون قصد التوصّل ومن دون قصد القربة يمكنه أن يأتي بالحجّ الواجب ما دام لم يقصد عدم الإتيان به ، وأمّا لو قصد عدم الإتيان بالحجّ الواجب فذهابه إلى الميقات لا يفيد شيئا ولا يسمّى مقدّمة أصلا ، إلا إذا تاب ورجع عن قصده ذاك.

ومن هنا يتّضح معنى ما يقال : من أنّ الواجبات الغيريّة توصّليّة ، فإنّ المقصود من ذلك أنّ الملاك من الوجوب الغيري هو عنوان الوصول ، أو ما يكون موصّلا إلى الواجب النفسي من دون أيّة إضافات أخرى. وهذا غير التوصّليّة المقابلة للتعبّديّة فإنّها بمعنى عدم اشتراط قصد القربة في الفعل في مقابل اشتراطه ، بينما هنا بمعنى الوصول بالمقدّمة إلى ذيها ، أي كون المقدّمة موصلة إلى الواجب النفسي بمعنى وجود المقتضي للإيصال.

ص: 255

ص: 256

مقدّمات غير الواجب

ص: 257

ص: 258

مقدّمات غير الواجب

كما تتّصف مقدّمات الواجب بالوجوب الغيري عند القائلين بالملازمة ، كذلك تتّصف مقدّمات المستحبّ بالاستحباب الغيري لنفس السبب.

وأمّا مقدّمات الحرام فهي على قسمين :

أحدهما : ما لا ينفكّ عنه الحرام ، ويعتبر بمثابة العلّة التامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة له ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق.

والقسم الآخر : ما ينفكّ عنه الحرام ، وبالإمكان أن يوجد ومع هذا يترك الحرام.

فالقسم الأوّل من المقدّمات يتّصف بالحرمة الغيريّة دون القسم الثاني ؛ لأنّ المطلوب في المحرّمات ترك الحرام وهو يتوقّف على ترك القسم الأوّل من المقدّمات ، ولا يتوقّف على ترك القسم الثاني.

ومقدّمات المكروه كمقدّمات الحرام.

مقدّمات غير الواجب على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : في مقدّمات المستحبّ ، فهل هي مستحبّة غيريّا أم لا؟

الثاني : في مقدّمات الحرام ، فهل تكون محرّمة مطلقا أو يفصّل فيها؟

الثالث : في مقدّمات المكروه ، فهل هي مكروهة غيريّا مطلقا أو يفصّل فيها أيضا؟

أمّا الأمر الأوّل : فالقائلون بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، يقولون بالملازمة بين استحباب شيء واستحباب مقدّماته شرعا أيضا ، فتتّصف مقدّمات المستحبّ بالاستحباب الغيري.

والوجه في ذلك : هو نفس الملاك الذي ذكر في مقدّمة الواجب ، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما وجبت عند من يقول بالملازمة لأجل كونها مقدّمة أي بملاك المقدّميّة ، بحيث يكون فعل الواجب متوقّفا عليها ، وهكذا يقال في مقدّمة المستحبّ.

ص: 259

وأمّا الأمر الثاني : فإنّ مقدّمات الحرام على قسمين ، ولذلك لا بدّ من التفصيل بينها :

القسم الأوّل : المقدّمات التي لا ينفكّ عنها الحرام بحيث تكون العلّة التامّة لحصوله أو الجزء الأخير من العلّة التامّة لحصول الحرام ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق ، وفرض أنّ الإحراق حرام كما هو ثابت بالنسبة لإحراق كلام اللّه عزّ وجلّ والقرآن والأحاديث بقصد الإهانة والهتك.

وهنا لا إشكال في كون هذه المقدّمات تتّصف بالحرمة الغيريّة ؛ وذلك لأنّ ملاك الحرام النفسي يتحقّق بها ، والحال أنّ المطلوب في الحرام هو ترك الفعل الذي تعلّقت به الحرمة ، وهذا الترك لمّا كان موقوفا على ترك علّته أو ما يكون بمثابة العلّة التامّة له أو جزئها الأخير ، فلا بدّ أن يتعلّق الحرام الغيري بالمقدّمات التي لا ينفكّ عنها الحرام ، فتكون مجموع المقدّمات محرّمة لا جميع المقدّمات ؛ إذ من الواضح أنّه لو أتى ببعض أجزاء العلّة دون البعض الآخر فسوف لن يتحقّق الحرام فلا تتّصف بالحرمة الغيريّة ، وإنّما يتّصف بها المجموع.

والمقدّمات من هذا القسم تسمّى بالمقدّمات التوليديّة ، أي التي تولّد الحرام بحيث تكون العلّة التامّة أو جزئها الأخير.

والقسم الثاني : هو المقدّمات التي ينفكّ عنها الحرام ، بمعنى أنّ الحرام قد يترتّب عليها وقد لا يترتّب ، ولذلك فهي ليست من قبيل العلّة التامّة أو جزئها الأخير للحرام ، بل هي من قبيل إيجاد المقتضي والسبب والمؤثّر والذي يتوقّف على عدم وجود المانع ، ومنه القصد والاختيار والإرادة من الغير ، فمثلا الجمع بين شخصين للزنا يكون مقدّمة للحرام ولكن قد يحصل الزنا وقد لا يحصل ؛ لأنّه موقوف على القصد والاختيار والإرادة من الغير لا من نفس الشخص الذي جمعهما.

وفي هذا القسم لا تتّصف المقدّمات بالحرمة الغيريّة ؛ لأنّ ترك الحرام لا يتوقّف على عدم هذه المقدّمات ؛ بل عليها وعلى شيء آخر ، ولذلك فهي لا تستتبع توليد الحرام بنفسها ولا تكون علّة له ولا يتوقّف عليها ، فلا تتّصف بملاك المقدّميّة فلا تحرّم.

وأمّا الأمر الثالث : فمقدّمات المكروه كمقدّمات الحرام ، فيفصّل فيها بين المقدّمات التوليديّة فتكون مكروهة غيريّا ، وبين المقدّمات الاختياريّة فلا تكون مكروهة كذلك.

* * *

ص: 260

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري

ص: 261

ص: 262

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري

ومسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته على الرغم من كونها من المسائل الأصوليّة العريقة في علم الأصول ، قد وقع شيء من التحيّر لدى باحثيها في ثمرتها الفقهيّة.

وقد يبدو لأوّل نظرة أنّ ثمرتها إثبات الوجوب الغيري وهو حكم شرعي نستنبطه من الملازمة المذكورة.

ولكنّ الصحيح عدم صواب هذه النظرة ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يبحثه علم الفقه - ويطلب من علم الأصول ذكر القواعد التي يستنبط منها - إنّما هو الحكم القابل للتحريك المولوي الذي تقع مخالفته موضوعا لاستحقاق العقاب ، وقد عرفت أنّ الوجوب الغيري - على تقدير ثبوته - ليس كذلك ، فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرة لهذه المسألة الأصوليّة.

الثمرة الفقهيّة بين القول بالوجوب الغيري للمقدّمة وبين إنكار ذلك

وهنا من الواضح أنّ الثمرة لا بدّ أن تكون أصوليّة بمعنى أن يكون هذا البحث يؤدّي إلى إثبات جعل كلّي شرعي ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة هي ما يستنبط منها جعل من هذا القبيل ، وأمّا إذا أدّى البحث إلى إثبات صغرى لهذا الجعل أو تطبيق من تطبيقاته فيكون البحث فقهيّا لا أصوليّا.

وعلى هذا فقد يقال : إنّه لا ثمرة من البحث الأصولي عن وجوب المقدّمة ؛ وذلك لأنّ الثمرة التي يمكن أن تترتّب عليها هي إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه ، والوجوب وإن كان حكما كلّيّا بمعنى أنّه يجري بلحاظ كلّ واجب مع مقدّماته في مختلف الأبواب ، إلا أنّه مع ذلك لا يدخل في البحث الأصولي ؛ لأنّ مرادهم من الحكم الشرعي هو ما يكون له قابليّة التنجيز والتعذير ، وما يكون محرّكا وباعثا نحو

ص: 263

متعلّقه ، وما يكون على امتثاله الثواب وعلى مخالفته العقاب. وهذه كلّها غير ثابتة للوجوب الغيري كما تقدّم ؛ لأنّه وجوب تبعي وليس فيه ملاكات ومبادئ مستقلّة عن الواجب النفسي ، وهكذا في سائر الأمور الأخرى.

وحينئذ لا معنى للبحث عن وجوب المقدّمة أصلا ، إلا بنحو من الاستطراد فقط ، كما ذهب إليه المشهور.

ومن هنا أنكر المشهور كون وجوب المقدّمة من المسائل الأصوليّة ؛ لأنّ عدم إمكان تصوير ثمرة أصوليّة عليها أدّى إلى التشكيك في أصوليّتها ، بل إلى إنكار ذلك.

إلا أنّ الصحيح كون المسألة أصوليّة ، بل هي لعلّها أقدم المسائل الأصوليّة وأعرقها.

والصحيح أيضا وجود الثمرة التي تترتّب على البحث الأصولي لوجوب المقدّمة ، ويمكننا أن نذكر بهذا الصدد ثمرتين :

وأفضل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلي :

أوّلا : أنّه إذا اتّفق أن أصبح واجب علّة تامّة لحرام ، وكان الواجب أهمّ ملاكا من الحرام ، فتارة ننكر الملازمة وأخرى نقبلها.

فعلى الأوّل : يكون الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب ، فنرجع إلى قانون باب التزاحم وهو تقديم الأهمّ ملاكا ، ولا يسوغ تطبيق قواعد باب التعارض كما عرفنا سابقا.

وعلى الثاني : يكون دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين ؛ لأنّ الحرمة تقتضي تعلّق الحرمة الغيريّة بنفس الواجب ، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعل واحد ، وهذا يعني أنّ التنافي بين الجعلين ، وكلّما كان التنافي بين الجعلين دخل الدليلان في باب التعارض وطبّقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.

الثمرة الأولى : وهذه الثمرة لم يذكرها السيّد الشهيد في بحث الخارج ، ولعلّه لعدم تماميّتها كما سيتّضح ذلك.

وحاصلها : ما إذا كان الواجب الأهمّ علّة تامّة للحرام ، كما إذا كان إنقاذ الغريق علّة تامّة لإتلاف مال الغير فإنّه حرام ، فإنّه على القول بعدم الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، أو بين حرمة شيء وحرمة مقدّمته التوليديّة التي تكون بنحو العلّة

ص: 264

التامّة أو الجزء الأخير منها ، فسوف يكون الفرض المذكور من موارد التزاحم لا التعارض.

وبيان ذلك : أنّ الواجب لمّا كان أهمّ ملاكا من الحرمة فوجوبه فعلي ومطلق وغير مشروط بعدم الاشتغال بالحرام ، بمعنى أنّه سواء اشتغل بترك الحرام أم لا فالواجب يجب امتثاله ، ولكن لمّا كان الواجب علّة تامّة للحرام فسوف يحصل الحرام تلقائيّا بعد امتثال الواجب ، والمفروض أنّ الواجب في هذه الحالة لا يصبح حراما وإن كان علّة تامّة توليديّة للحرام ؛ لأنّنا ننكر الملازمة.

وحينئذ فإذا أراد امتثال الواجب وقع لا محالة في الحرام ، وإذا أراد امتثال الحرام أي تركه وقع لا محالة في مخالفة الواجب ؛ لأنّ ترك الحرام لا يكون إلا بترك علّته التامّة ، ولذلك يدور الأمر بين امتثال أحدهما وترك الآخر ، وهذا ما يسمّى بالتزاحم ؛ فإنّ التزاحم - كما مرّ وسيأتي في محلّه - : عبارة عن التنافي بين المدلولين في مقام الامتثال ، بحيث يكون امتثال أحدهما مفوّتا لامتثال الآخر ولا يمكن للمكلّف أن يجمع بين الامتثالين.

وفي هذه الحالة يطبّق قانون باب التزاحم وهو تقديم الأهمّ ملاكا على الآخر فيقدّم الواجب ؛ لأنّنا فرضناه الأهمّ ملاكا من الحرام ، ويكون الحرام الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعصيان الواجب ، أي أنّ امتثال الحرام يكون مشروطا بعدم امتثال الواجب وعصيانه ، فإذا اشتغل بالواجب الأهمّ ارتفع موضوع خطاب الحرام ؛ لعدم تحقّق شرطه ، ولذلك يكون المكلّف حين الاشتغال بالواجب الأهمّ قد حقّق كلا الملاكين للمولى.

أو بتعبير آخر : لم يفوّت على المولى شيئا من الملاك الفعلي ، أمّا ملاك الأهمّ فلأنّه قد امتثله ، وأمّا ملاك الحرام فلأنّه قد ارتفع موضوعه ومع ارتفاع موضوعه لا يكون ملاكه فعليّا فلا تفويت.

وأمّا إذا قلنا بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو حرمة الشيء وحرمة مقدّمته التوليديّة أي علّته التامّة ، فهنا سوف يدخل الفرض في باب التعارض لا التزاحم.

وبيانه : أنّ الواجب لمّا كان ملاكه أهمّ فهو مطلق وفعلي سواء اشتغل بترك الحرام

ص: 265

أم لا ، وأمّا الحرام فلمّا كانت مقدّمته توليديّة وعلّة تامّة فسوف تكون علّته ومقدّمته محرّمة أيضا بناء على الملازمة كما تقدّم.

وحينئذ يكون الواجب متعلّقا للوجوب الفعلي ومتعلّقا للحرمة الفعليّة باعتباره العلّة التامّة للحرام ، ممّا يعني اجتماع الوجوب والحرمة على شيء واحد في آن واحد ، فيكون من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ، ولذلك يقع التنافي بين دليل الحرمة ودليل الوجوب لاستحالة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ، ممّا يؤدّي بالنتيجة إلى كون التنافي بين نفس الجعلين لا بلحاظ المدلولين والمجعولين فقط.

وفي مثل هذه الحالة سوف تطبّق قواعد باب التعارض من الترجيح أو الجمع العرفي أو التساقط (1).

ص: 266


1- وهنا كلام للسيّد الأستاذ حول تماميّة هذه الثمرة ، وحاصله : أنّ هذه الثمرة بهذا الفرض غير تامّة ، فإنّنا سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها فلا تعارض بين الوجوب والحرمة ، بل المورد داخل في باب التزاحم على التقديرين. وتفصيل ذلك : أمّا على تقدير إنكار الملازمة فلما تقدّم بيانه في أصل البحث. وأمّا على تقدير قبول الملازمة فلأنّه تقدّم سابقا أنّ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ شرط في التكليف ، وهناك فسّرناها بأنّها بمعنى أن كلّ تكليف مقيّد بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ عنه أهمّيّة. وعليه ، فخطاب الحرمة لمّا كان أقلّ أهمّيّة فهو مقيّد عقلا بعدم الاشتغال بالواجب ؛ لأنّه أهمّ ملاكا ، وحيث إنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا ؛ لأنّ قيود الحكم ترجع إلى قيود المتعلّق فيكون الحرام هو الحصّة الخاصّة غير المقارنة للواجب. وأمّا الحصّة المقارنة للواجب فهي ليست محرّمة ؛ لأنّ خطاب الحرمة لا يشملها من أوّل الأمر ؛ لأنّه مقيّد عقلا بالقدرة التي ذكرناها ، وحينئذ لن يقع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة ؛ لأنّ دليل الحرمة مقيّد بغير هذه الحصّة التي تعلّق بها الوجوب ، فلا يكون في الواجب إلا خطاب الوجوب فقط وهو مطلق وفعلي ، فإذا امتثله يكون قد حقّق ملاك الوجوب ، ويكون قد ارتفع موضوع الحرمة ، بل إنّ الحرمة لا موضوع لها حينئذ لعدم شمولها لهذه الحصّة ، ممّا يعني أنّه لا تزاحم أصلا فضلا عن التعارض. نعم ، يمكن بيان هذه الثمرة بأن نفرض أنّ الحرام هو الأهمّ لا الواجب وكان الواجب علّة تامّة للحرام ، كما إذا صارت الصلاة علّة تامّة وسببا توليديّا لإزهاق النفس المحترمة. فعلى إنكار الملازمة فلن تسري الحرمة إلى الواجب ، فيكون فعل الصلاة واجبا ، وقتل النفس المحترمة حراما ، وحيث إنّ الحرام هو الأهمّ ملاكا فهو مطلق وفعلي ويكون الواجب مشروطا بعدم عصيان الحرام ، ولكن لمّا كان عدم عصيان الحرام متوقّفا على عدم علّته التامّة فيكون فعل الواجب مقارنا لفعل الحرام دائما ؛ لأنّه إذا أراد امتثال الحرام فاللازم ألاّ يريد الصلاة ؛ لأنّها العلّة التامّة للحرام إلا أنّ عصيان الحرام ليس محصورا بالإتيان بالواجب فقط ، وإن كان هو العلّة التامّة له ؛ إذ يمكنه قتل النفس المحترمة أوّلا ثمّ الصلاة ، ولذلك يكون فعل الواجب مشروطا بأن لا يعصي الحرام ولو بسبب وبعلّة أخرى ، فإذا عصاه وجبت الصلاة فالمورد من موارد التزاحم وتقديم الأهمّ. وأمّا على القول بالملازمة فسوف يكون الواجب الذي هو علّة تامّة للحرام وسببا توليديّا محرّما أيضا على أساس الملازمة بين حرمة شيء وحرمة مقدّمته بنحو العلّة التامّة التوليديّة ، فهنا سوف يقع التعارض ؛ لأنّه من باب اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل ، ممّا يؤدّي إلى التنافي بين دليل الوجوب ودليل الحرمة في عالم الجعل لا في عالم الامتثال فقط ، وحينئذ تطبّق قواعد التعارض لا التزاحم. ويمكن أن نفرض هذه الثمرة بنحو آخر : وذلك فيما إذا صار الواجب علّة تامّة لترك واجب آخر ، كما إذا نذر أن يصلّي صلاة الليل في كلّ ليلة فاتّفق في ليلة أن كانت صلاة الليل سببا توليديّا ؛ لعدم القدرة على الصيام الواجب في الغد ، وفرض أنّ وجوب الصوم هو الأهمّ ملاكا من صلاة الليل. فإنّه على القول بعدم الملازمة فسوف يكون المورد من موارد التزاحم ، فيقدّم الأهمّ ملاكا ؛ لأنّه مطلق وفعلي سواء اشتغل بالآخر أم لا ، ويكون الواجب الآخر الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعدم الاشتغال بالصيام الأهمّ. وأمّا على القول بالملازمة فسوف يكون المورد من موارد التعارض ؛ لأنّ الصوم لمّا كان هو الأهمّ فيجب فعله ويحرّم تركه ؛ لأنّ تركه عبارة عن الضدّ العامّ ، فإذا حرم الترك حرمت مقدّمته التوليديّة وعلّته التامّة وهي صلاة الليل بحسب الفرض ، وحينئذ سوف يجتمع الوجوب والحرمة على صلاة الليل وهو من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل ، وهذا معناه التنافي بين الجعلين أو الدليلين فيقع التعارض بين دليل الوجوب ودليل الحرمة. وهذا بخلاف ما إذا فرضنا أنّ صلاة الليل هي الأهمّ من وجوب الصوم ، فإنّه على هذا الفرض فسواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها فلا تعارض ولا تزاحم ؛ لأنّ صلاة الليل لمّا كانت هي الأهمّ فوجوب الصوم يكون مقيّدا بالمقيّد اللبّي ، أي بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وهو ألاّ يكون مشتغلا بالواجب الأهمّ ، فإذا اشتغل بصلاة الليل ارتفع موضوع وجوب الصوم فلا تفويت لملاكه ؛ لأنّ موضوعه منتف ، وإذا لم يشتغل بصلاة الليل وعصاها كان وجوب الصوم فعليّا.

وثانيا : أنّه إذا اتّفق عكس ما تقدّم في الثمرة السابقة فأصبح الواجب صدفة متوقّفا على مقدّمة محرّمة ، كإنقاذ الغريق إذا توقّف على اجتياز الأرض المغصوبة ،

ص: 267

فلا شكّ في أنّ المكلّف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حراما ؛ لأنّ الحرمة تسقط في هذه الحالة رعاية للواجب الأهمّ.

وأمّا إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حراما إذا أنكرنا الملازمة ، وكذلك إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري يختصّ بالحصّة الموصلة من المقدّمة ، ولم يرتكب حراما إذا قلنا بالملازمة وأنّ الوجوب الغيري لا يختصّ بالحصّة الموصلة.

أمّا أنّه ارتكب حراما على الأوّلين فلأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ولا يوجد ما يحول دون اتّصافه - في حالة عدم التوصّل به إلى الإنقاذ - بالحرمة.

وأمّا أنّه لم يرتكب حراما على الأخير فلأنّ الوجوب الغيري يحول دون اتّصافه بالحرمة.

الثمرة الثانية : وهي الثمرة المشهورة بينهم. وقبل الشروع في بيان الثمرة المذكورة نبيّن أمرين :

الأوّل : أنّ الثمرة المذكورة مبنيّة على أن تكون تمام حصص المقدّمة محرّمة ؛ وذلك لأنّ حصص المقدّمة يمكن تصوّرها على أنحاء ثلاثة :

1 - أن تكون جميع حصص المقدّمة مباحة فهنا لا تظهر الثمرة في الفرض المذكور سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها.

2 - أن تكون بعض الحصص مباحة وبعضها محرّمة ، فهنا على المذهب المشهور والمختار سوف تتعلّق المقدّمة بالحصّة المباحة دون غيرها ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري ينصبّ على الحصّة المباحة دون المحرّمة ، ولذلك لا تظهر الثمرة ؛ لأنّه إذا أتى بالواجب ضمن الحصّة المباحة فواضح ، وإذا أتى به ضمن الحصّة المحرّمة فهي ليست واجبة فلا تزاحم ولا تعارض ، بل هو امتثال من جهة وعصيان من جهة أخرى.

وأمّا على مسلك السيّد الخوئي القائل بأنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالجامع بين الحصّة المباحة والمحرّمة فسوف تظهر الثمرة ؛ لأنّ الحصّة المحرّمة كالمباحة سوف يسري إليها الوجوب من الجامع ، وبالتالي تصبح واجبة والمفروض أنّها محرّمة ، فعلى القول بالملازمة يحصل التعارض ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي وهو مستحيل ، وعلى إنكار

ص: 268

الملازمة فسوف يحصل التزاحم بين الواجب والمقدّمة المحرّمة ويقدّم الأهمّ ملاكا منهما.

3 - أن يفرض أنّ تمام حصص المقدّمة محرّمة أو لا يوجد إلا حصّة واحدة من المقدّمة وهي الحصّة المحرّمة ، فهنا يأتي ما ذكر من كلام في هذه الثمرة.

الثاني : أنّ الثمرة المذكورة مبنيّة أيضا على كون الواجب هو الأهمّ لا الحرام ، وأمّا إذا فرضنا أنّ الحرام هو الأهمّ بأن كان إنقاذ المال القليل للشخص نفسه موقوفا على إتلاف مال الغير الخطير ، فهنا لن تظهر الثمرة بمعنى أنّه لا تعارض ولا تزاحم سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها ؛ وذلك لأنّ فرض أهمّيّة الحرام معناه أنّه فعلي ومطلق سواء اشتغل بالآخر أم لا ، فيكون الواجب مقيّدا بالمقيّد اللبّي العقلي وهو عدم الاشتغال بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة.

فإذا أراد امتثال الحرام ارتفع موضوع الواجب فلا يكون ملاكه قد فات على المولى ؛ لأنّه ليس فعليّا بل هو منتف لانتفاء موضوعه ، وإذا عصى الحرام وارتكبه صار الواجب فعليّا لتحقّق شرطه وقيده ، وحينئذ لا يأتي الكلام عن الملازمة وعدمها ؛ لأنّه لا موضوع لها.

وأمّا بيان هذه الثمرة ، فيقال : إنّنا إذا فرضنا توقّف الواجب الأهمّ على مقدّمة محرّمة بحيث كان منحصرا بها إمّا لكونها الحصّة الوحيدة ، وإمّا لكون تمام الحصص محرّمة ، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : فيما إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق ، فهنا لا تظهر الثمرة سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها.

أمّا على القول بالملازمة فلأنّ فرض أهمّيّة الواجب يعني أن يكون دليل الحرمة غير شامل للحصّة التي صارت مقدّمة للواجب الأهمّ ؛ لأنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا فيكون الحرام في غير هذه الحصّة المقرونة بفعل الواجب ، ولذلك لا تعارض بين دليل الوجوب ودليل الحرمة ؛ لأنّ هذه المقدّمة يرتفع عنها دليل الحرمة ، ويبقى دليل الوجوب شاملا لها فقط ، وكذا لا تزاحم ؛ لأنّ هذه المقدّمة ليس فيها إلا دليل الوجوب الغيري.

ص: 269

وأمّا على إنكار الملازمة فلأنّ المقدّمة تبقى على حرمتها ولا يترشّح عليها وجوب غيري ، ولكنّ هذه الحرمة لا تكون فعليّة في مقامنا لفرض أهمّيّة الواجب ، ممّا يعني أنّ دليل الحرمة مقيّد بعدم الاشتغال بالواجب ، فإذا اشتغل بالواجب كانت المقدّمة المذكورة فيها حرمة تعليقيّة لا فعليّة ، إذ إنّها ترتفع عنها لفرض كونها مقدّمة للواجب الأهمّ ، فلا تعارض أيضا ولا تزاحم.

الصورة الثانية : فيما إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولكنّه لم ينقذ الغريق بعد ذلك ، فهنا تظهر الثمرة ؛ لأنّنا تارة نقول بالملازمة ، وأخرى ننكرها. وعلى القول بالملازمة تارة نقول بوجوب مطلق المقدّمة ، وأخرى نقول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ، فالوجوه ثلاثة :

الأوّل : أن ننكر القول بالملازمة ، فهنا لن يترشّح وجوب غيري على المقدّمة فهي على حرمتها النفسيّة ، وهذه الحرمة فعليّة ، إذ لا يوجد ما يحول دون اتّصافها بالحرمة الفعليّة ؛ لأنّ ما يمنع من ذلك إنّما هو اقترانها بفعل الواجب الأهمّ والمفروض أنّه ترك الواجب ، فلم يتوصّل بها إلى الإنقاذ الواجب الأهمّ ، ولذلك يكون مقتضي الحرمة موجودا والمانع من فعليّة هذه الحرمة مفقودا ، فهي محرّمة ويكون قد ارتكب حراما حينئذ.

الثاني : أن نقول بالملازمة ولكن نقول : إنّ الوجوب الغيري يختصّ بالمقدّمة الموصلة فقط دون غيرها ، فهنا أيضا سوف يكون قد ارتكب حراما ؛ لأنّ الوجوب الغيري لا يترشّح إلى هذه المقدّمة ؛ لأنّها لم تكن موصلة لفعل الواجب ؛ لأنّه تركه بحسب الفرض ، فلذلك يكون مقتضي الحرمة موجودا والمانع مفقودا.

الثالث : أن نقول بالملازمة ونقول أيضا بأنّ الوجوب الغيري ينصبّ على مطلق المقدّمة سواء كانت موصلة أم غير موصلة ، فهنا لم يرتكب حراما ؛ لأنّه سوف يترشّح وجوب غيري من الواجب الأهمّ على هذه المقدّمة ، وحيث إنّ الواجب هو الأهمّ فيكون دليل الحرمة مقيّدا من أوّل الأمر بغير هذه الحصّة التي صارت مقدّمة للواجب ، ولذلك يرتفع عنها الحرمة ؛ لأنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا ، فيكون الحرام هو غير هذه الحصّة وبالتالي لا تكون هذه المقدّمة إلا واجبة سواء حصل بعدها الواجب أم لا.

ص: 270

وبهذا يمكننا تصوير الثمرة ، فنقول : إنّه على القول بإنكار الملازمة أو على القول بأنّ الوجوب الغيري هو خصوص المقدّمة الموصلة ، فهنا لا وجوب على المقدّمة ، بل تبقى على حرمتها.

وأمّا إذا قلنا بالملازمة وكون الوجوب الغيري هو مطلق المقدّمة فسوف يرتفع الحرام عنها ؛ لأنّ دليل الحرمة يكون مقيّدا من أوّل الأمر بغير هذه الحصّة فتكون واجبة لا غير (1).

ص: 271


1- إلا أنّه يمكن التعليق على هذه الثمرة فنقول : إنّ عدم إنقاذ الغريق بعد فعل المقدّمة تارة يكون اتّفاقيّا وخارجا عن اختيار المكلّف ، وأخرى يكون مقصودا له. فإذا كان عدم الإتيان بالواجب اتّفاقيّا بأن كان المكلّف قاصدا من أوّل الأمر وحين إتيانه بالمقدّمة أن يتوصّل بها إلى الواجب ، لكنّه اتّفق وجود المانع الذي حال بينه وبين إنقاذ الغريق ، فهنا لا يكون قد ارتكب حراما حتّى على القول بإنكار الملازمة أو على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ؛ لأنّه يكون من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المقدور له هو القصد والتوصّل بالمقدّمة إلى الإنقاذ وفعل مقدّماته ، وأمّا حصول النتيجة أو عدمها فهو غير تابع لاختياره فقط ، بل موقوف على عدم وجود المانع من ذلك ، ولذلك يكون معذورا عند العقلاء ولا يكون مدانا. وأمّا إذا كان عدم الإتيان بالواجب نتيجة اختياره لذلك بأن كان قاصدا من أوّل الأمر ألاّ يمتثل الواجب ، أو بدا له بعد الإتيان بالمقدّمة ألاّ يأتي بالواجب عن عمد واختيار منه ، فهنا يكون فعله للمقدّمة حراما ؛ لأنّه يعتبر مقصّرا بنظر العقلاء فيستحقّ الإدانة واللوم والعقوبة بحكم العقل أيضا. ومن هنا كان لا بدّ من تقييد عدم إنقاذ الغريق بأنّه كان عن اختيار وقصد من المكلّف بعدم امتثاله ، إمّا من أوّل الأمر وإمّا بعد الإتيان بالمقدّمة.

ص: 272

شمول الوجوب الغيري

ص: 273

ص: 274

شمول الوجوب الغيري

قام القائلون بالملازمة بعدّة تقسيمات للمقدّمة ، وبحثوا في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلّ تلك الأقسام أو لا؟

ونذكر فيما يلي أهمّ تلك التقسيمات :

التقسيم الأوّل : تقسيم المقدّمة إلى داخليّة وخارجيّة.

ويراد بالداخليّة جزء الواجب ، وبالخارجيّة ما توقّف عليه الواجب من أشياء سوى أجزائه.

وقد وقع البحث بينهم في أنّ الوجوب الغيري هل يعمّ المقدّمات الداخليّة أو يختصّ بالمقدّمات الخارجيّة؟

فقد يقال بالتعميم ؛ لأنّ ملاكه التوقّف ، والواجب كما يتوقّف على المقدّمة الخارجيّة يتوقّف أيضا على وجود جزئه ؛ إذ لا يوجد مركّب إلا إذا وجدت أجزاؤه.

ذكر القائلون بالملازمة عدّة تقسيمات للمقدّمة ، وغرضهم من ذلك هو معرفة أنّ الوجوب الغيري هل يشمل جميع أقسام المقدّمة ، أو أنّه يختصّ ببعضها فقط؟ وأهمّ تلك التقسيمات ثلاثة :

التقسيم الأوّل : تقسيم المقدّمة إلى داخليّة وخارجيّة.

والمقصود من المقدّمة الداخليّة هو ما يكون جزءا من الواجب ، كالركوع والسجود والقراءة بالنسبة للصلاة.

بينما المقصود من المقدّمة الخارجيّة هو ما يكون خارجا عن الواجب ولكنّه يتوقّف عليه ، كالوضوء والزوال وطهارة اللباس والمكان والاستقبال بالنسبة للصلاة.

بعد ذلك وقع البحث في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلا هذين القسمين أو يختصّ بالمقدّمات الخارجيّة فقط؟

ص: 275

ذهب البعض إلى أنّه يشمل كلا القسمين ؛ وذلك لأنّ ملاك الوجوب الغيري موجود في القسمين على حدّ سواء ؛ لأنّ الوجوب الغيري كان ملاكه المقدّميّة والتوقّف ، فكلّ ما يكون مقدّمة لشيء وما يكون الشيء متوقّفا عليه فهو واجد لملاك الوجوب الغيري فيتّصف به ، فالصلاة مثلا كما تتوقّف على الزوال والطهارة كذلك تتوقّف على القراءة والركوع والسجود ، وكما تكون الطهارة والزوال مقدّمة للصلاة كذلك تكون القراءة والركوع والسجود مقدّمة لوجود الصلاة.

والحاصل : أنّ الواجب كما يتوقّف في وجوده على المقدّمات الخارجيّة كذلك يتوقّف وجوده فيما إذا كان مركّبا من أجزاء على وجود أجزائه ؛ إذ يستحيل وجود المركّب من دون أجزائه.

وذهب البعض الآخر إلى عدم الشمول واختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الخارجيّة فقط دون الداخليّة ، واستدلّوا على ذلك بوجهين ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ويقال في مقابل ذلك بالاختصاص ونفي الوجوب الغيري عن الجزء ، إمّا لعدم المقتضي له أو لوجود المانع.

وبيان عدم المقتضي أن يقال : إنّ التوقّف والمقدّميّة يستبطن المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه ؛ لاستحالة توقّف الشيء على نفسه ، والجزء ليس مغايرا للمركّب في الوجود الخارجي ، فلا معنى لاتّصافه بالوجوب الغيري.

وبيان المانع بعد افتراض المقتضي أن يقال : إنّ الجزء متّصف بالوجوب النفسي الضمني ، فلو اتّصف بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين.

وأمّا القول الآخر الذي ذهب إلى اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الخارجيّة ، وعدم شموله للمقدّمة الداخليّة ، فقد استدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : عدم وجود المقتضي للاتّصاف بالوجوب الغيري ، وبيانه أن يقال :

إنّ الوجوب الغيري ملاكه التوقّف والمقدّميّة ، ولكن هذا العنوان يستبطن المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه أو بين المقدّمة وذي المقدّمة ؛ لوضوح أنّ الشيء يستحيل أن يتوقّف على نفسه ، أو أن يكون مقدّمة لنفسه للزوم الدور أو التهافت أو التقدّم والتأخّر والكلّ مستحيل. وعليه ، فإذا كانت المقدّمة مغايرة لذيها كان المقتضي لاتّصافها

ص: 276

بالوجوب الغيري موجودا ، وأمّا إذا لم تكن مغايرة له فلا مقتضي لاتّصافها بالوجوب الغيري ؛ إذ يكشف ذلك عن عدم وجود الملاك فيها.

وفي مقامنا نقول : إنّ الجزء ليس مغايرا للمركّب في الوجود فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لعدم وجود المقتضي فيه ، والوجه في عدم المغايرة بينهما هو أنّ وجود الجزء وسائر الأجزاء عبارة أخرى عن وجود المركّب وليس شيئا زائدا عليه ولا مغايرا له ؛ لأنّ المركّب يوجد بوجود أجزائه فهو عين أجزائه وهي عين المركّب في الوجود.

نعم ، بلحاظ المفهوم والعنوان يكون الجزء كمفهوم وعنوان مغايرا للمركّب كذلك ، إلا أنّ ذلك ليس داخلا في محلّ الكلام ؛ لأنّ الحديث عن واقع المقدّمة كما تقدّم سابقا أي ما يكون مقدّمة واقعا وحقيقة في الوجود.

والآخر : وجود المانع من الاتّصاف بالوجوب الغيري بعد التسليم بوجود المقتضي لذلك. وبيانه : أنّ الأجزاء الداخليّة للمركّب متّصفة بالوجوب الضمني ، بمعنى أنّ الأمر بالمركّب ينحلّ إلى أوامر ضمنيّة كلّها نفسيّة ، فإذا فرض أنّه واجد لملاك الوجوب الغيري لكونه مقدّمة لحصول المركّب لزم من ذلك اجتماع الوجوبين على شيء واحد ، واجتماع المثلين مستحيل. إذا فيوجد ما يمنع من اتّصاف الجزء بالوجوب الغيري وهو محذور اجتماع المثلين.

فإن قيل : يمكن أن يفترض تأكّدهما وتوحّدهما من خلال ذلك في وجوب واحد فلا يلزم محذور.

كان الجواب : أنّ التأكّد والتوحّد هنا مستحيل ؛ لأنّ الوجوب الغيري إذا كان معلولا للوجوب النفسي - كما يقال - فيستحيل أن يتّحد معه وجودا ؛ لاستحالة الوحدة بين العلّة والمعلول في الوجود.

وقد يجاب عن إشكال اجتماع المثلين بأنّ الوجوبين يستحيل اجتماعهما على شيء واحد فيما إذا بقي كلّ واحد منهما متشخّصا ومتميزا عن الآخر ، فإنّه يلزم منه تحصيل الحاصل واللغويّة ، وأمّا إذا افترض توحّدهما معا في وجوب واحد مؤكّد فلا محذور في ذلك ؛ لأنّ الوجوب يكون آكد وأشدّ ممّا كان عليه.

نظير اجتماع وجوب إكرام الفقير ووجوب إكرام العالم في شخص واحد بأن

ص: 277

كان عالما فقيرا ، فإنّ إكرامه يشتدّ ويتأكّد ، ولا يلزم من ذلك اجتماع المثلين ؛ لصيرورة الوجوبين وجوبا واحدا.

ويرد على ذلك بأنّ التأكّد والتوحّد يشترط فيهما أن يكون كلا الأمرين والوجوبين في عرض واحد ، بمعنى ألاّ يكون أحدهما في طول الآخر ومتأخّرا عنه في الرتبة ومتولّدا منه ؛ لأنّه إذا كان كذلك فلن يحصل التوحّد والتأكّد بينهما لفرض اختلاف الرتبة بينهما.

وفي المقام يقال بأنّ الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي وفي طوله ، ولذلك يستحيل أن يتوحّد معه في الوجود أو أن يكون أحدهما مؤكّدا للآخر ؛ لاستحالة التوحّد بين العلّة والمعلول في الوجود ؛ لأنّه لا يمكن أن تكون العلّة هي نفس المعلول في الوجود.

التقسيم الثاني : تقسيم المقدّمة إلى مقدّمة واجب ومقدّمة وجوب.

ولا شكّ في أنّ المقدّمة الوجوبيّة كما لا يكون المكلّف مسئولا عنها من قبل ذلك الوجوب على ما تقدّم ، كذلك لا يتعلّق الوجوب الغيري بها ؛ لأنّه إمّا معلول للوجوب النفسي أو معه ، فلا يعقل ثبوته إلا في فرض ثبوت الوجوب النفسي ، وفرض ثبوت الوجوب النفسي يعني أنّ مقدّمات الوجوب قد تمّت ووجدت فلا معنى لإيجابها.

التقسيم الثاني : تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة وجوب ومقدّمة واجب.

فمقدّمة الوجوب من قبيل الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ والزوال لوجوب الصلاة ، ومقدّمة الواجب من قبيل السفر إلى الميقات للإتيان بالمناسك ، وهنا يفصّل فيقال : إنّ مقدّمة الوجوب لا تتّصف بالوجوب الغيري بينما مقدّمة الواجب تتّصف به.

أمّا عدم اتّصاف مقدّمة الوجوب بالوجوب الغيري ؛ فلأنّ مقدّمة الوجوب لا يكون المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها قبل ثبوت الوجوب ؛ لأنّه لا محرّك ولا داعي نحو إيجادها من قبل الوجوب النفسي ؛ لأنّه موقوف عليها لأنّها دخيلة في موضوعه ، والوجوب لا يدعو إلى تحقيق موضوعه ؛ لأنّه في طول وجوده في عالم الفعليّة والمجعول وفي طول لحاظه وتصوّره في عالم الجعل والتشريع.

وعليه ، فكما أنّ المقدّمة الوجوبيّة لا تكون واجبة بالوجوب النفسي فكذلك لا

ص: 278

يمكن أن تكون واجبة بالوجوب الغيري أيضا ؛ لأنّ الوجوب الغيري إمّا معلول للوجوب النفسي فلا يحصل إلا بعده وفي طوله ، وإمّا كلاهما معلولان معا للملاك فيوجدان معا وفي عرض واحد ، ولذلك يستحيل أن يثبت الوجوب الغيري على مقدّمة الوجوب ؛ لأنّ فرض ثبوته يعني ثبوت الوجوب النفسي إمّا قبله وإمّا معه ، ومع ثبوت الوجوب النفسي فهذا يفترض أنّ موضوعه وسائر ما يرتبط به من قيود وشروط ومقدّمات قد تحقّقت ؛ لأنّه موقوف عليها كما قلنا ، فإذا كانت حاصلة فلا معنى لإيجابها غيريّا ؛ لأنّه يكون تحصيلا للحاصل وإيجابا لشيء قد فرغ عن وجوده وحصوله فيكون لغوا.

وأما مقدّمة الواجب فهي تتّصف بالوجوب الغيري بلا إشكال ؛ لأنّ الداعي لإيجاد وتحصيل الواجب هو نفسه يكون داعيا ومحرّكا نحو المقدّمة الموقوف عليها ، ولذلك يحكم العقل بلزوم تحصيل هذه المقدّمة وعلى أساس الملازمة يتعلّق بالمقدّمة الوجوب الغيري.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدّمة إلى شرعيّة وعقليّة وعلميّة.

والمقدّمة الشرعيّة ما أخذها الشارع قيدا في الواجب.

والمقدّمة العقليّة ما يتوقّف عليها ذات الواجب تكوينا.

والمقدّمة العلميّة هي ما يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ، كالجمع بين أطراف العلم الإجمالي.

ولا شكّ في أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق بالمقدّمة العلميّة ؛ لأنّها ممّا لا يتوقّف عليها نفس الواجب بل إحرازه ، كما لا شكّ في تعلّقه بالمقدّمة العقليّة إذا ثبتت الملازمة ، وإنّما الكلام في تعلّقه بالمقدّمة الشرعيّة.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدّمة إلى شرعيّة وعقليّة وعلميّة.

أمّا المقدّمة الشرعيّة فهي المقدّمة التي أخذها الشارع قيدا في الواجب ، كالوضوء بالنسبة للصلاة.

وأمّا المقدّمة العقليّة فهي المقدّمة التكوينيّة التي يتوقّف عليها الإتيان بالواجب ، كالسفر بالنسبة إلى الحجّ.

وأمّا المقدّمة العلميّة فهي المقدّمة التي يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ،

ص: 279

كالإتيان بأطراف العلم الإجمالي مثلا كما إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة ، فالإتيان بالصلاتين يعتبر مقدّمة علميّة لتحصيل الواجب وإحرازه.

وهنا بحثوا في تعلّق الوجوب الغيري في هذه الأقسام أو في بعضها فقط ، فقالوا : أمّا المقدّمة العلميّة فلا شكّ ولا خلاف في عدم تعلّق الوجوب الغيري بها ؛ وذلك لأنّها ليست مقدّمة للإتيان بالواجب ، بل هي مقدّمة لإحرازه ، بمعنى أنّ الواجب لا يتوقّف الإتيان به على هذه المقدّمة بل يوجد من دونها ، فإنّ المكلّف يمكنه أن يصلّي الظهر فقط أو العصر فقط ، وليست إحدى الصلاتين موقوفة على الأخرى ، وإنّما الذي يتوقّف على هذه المقدّمة العلميّة هو تحصيل العلم بأنّه قد أتى بالواجب ؛ لأنّه بالجمع بين الصلاتين يحرز أنّه أتى بالواجب يقينا. إذا فهي خارجة عن محلّ الكلام ؛ لأنّ البحث موضوعه المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب. نعم ، هي واجبة من باب تحصيل الفراغ اليقيني ومن باب الاحتياط.

وأمّا المقدّمة العقليّة فلا إشكال ولا خلاف في تعلّق الوجوب الغيري بها - على القول بالملازمة طبعا - وذلك لأنّ طيّ المسافة مثلا لمّا كان يتوقّف عليها الإتيان بالحجّ تكوينا فيحكم العقل بوجوبها ، وعلى أساس الملازمة يحكم الشارع بوجوبها الغيري.

وأمّا المقدّمة الشرعيّة كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فقد وقع الخلاف بينهم في تعلّق الوجوب الغيري بها وعدمه. ولذلك قال السيّد الشهيد :

إذ ذهب بعض الأعلام كالمحقّق النائيني رحمه اللّه (1) إلى أنّ المقدّمة الشرعيّة كالجزء تتّصف بالوجوب النفسي الضمني ، وعلى هذا الأساس أنكر وجوبها الغيري.

ودعوى الوجوب النفسي للمقدّمة الشرعيّة تقوم على افتراض أنّ مقدّميّتها بأخذ الشارع لها في الواجب النفسي ، ومع أخذها في الواجب ينبسط عليها الوجوب.

ونردّ على هذه الدعوى بما تقدّم (2) من أنّ أخذها قيدا يعني تحصيص الواجب بها وجعل الأمر متعلّقا بالتقيّد ، فيكون تقيّد الفعل بمقدّمته الشرعيّة واجبا نفسيّا ضمنيّا لا القيد نفسه.

ص: 280


1- فوائد الأصول 1 : 265.
2- تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

ذهب المحقّق النائيني وغيره إلى إنكار تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الشرعيّة.

واستدلوا على ذلك بأنّ المقدّمة الشرعيّة هي ما أخذه الشارع قيدا في الواجب ، ومع أخذ الشارع لها قيدا في الواجب يكون الوجوب منصبّا على الواجب وعلى القيد ، فينحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين نفسيّين أحدهما متعلّق بذات الواجب والآخر متعلّق بالقيد ، ومع كونها متّصفة بالوجوب الضمني النفسي يستحيل أن تتّصف بالوجوب الغيري تماما كما قيل في الجزء ؛ إمّا لعدم المقتضي وإمّا لوجود المانع.

وبعبارة ثانية : أنّ مقدّميّة المقدّمة الشرعيّة إنّما جاءت بسبب أخذ الشارع لهذه المقدّمة قيدا في الواجب ، ومع أخذها كذلك يكون الوجوب النفسي متعلّقا بالواجب مع هذا القيد ، وهذا الوجوب ينحلّ إلى وجوبين ضمنيّين أحدهما متعلّق بذات الواجب والآخر متعلّق بالقيد ، فيكون القيد واجبا نفسيّا ضمنيّا ومعه يستحيل اتّصافه بالوجوب الغيري ؛ لوجود المانع من ذلك.

فإنّ الواجب والقيد وإن كانا متغايرين وكان القيد مقدّمة لوجود الواجب ، إلا أنّ اتّصافه بالوجوب الضمني النفسي يمنع من اتّصافه بالوجوب الغيري ، وإلا للزم اجتماع المثلين وهو مستحيل.

ويجاب عن ذلك : أنّ أخذ المقدّمة الشرعيّة قيدا في الواجب معناه تحصيص الواجب إلى حصّتين ، الحصّة الواجدة للقيد والحصّة الفاقدة له ، ويكون الأمر منصبّا على الحصّة الواجدة للقيد أي على الصلاة المقيّدة بالوضوء. وبالتحليل نلاحظ أنّ الوجوب الضمني النفسي يتعلّق بذات المقيّد ، أي بالصلاة وبالتقيّد بالقيد أي كونها عن وضوء لا بنفس القيد ، بل يكون القيد خارجا عن متعلّق الوجوب ، وإنّما هو مقدّمة لحصول التقيّد المأمور به ضمنيّا.

وبعبارة أخرى : المطلوب من المكلّف هو إيجاد الصلاة المقيّدة ، فالواجب هو ذات المقيّد والتقيّد لا القيد. نعم ، القيد مقدّمة لحصول التقيّد ؛ لأنّ الصلاة عن وضوء لا تحصل إلا بالإتيان بالوضوء.

فإن قيل : إنّ التقيّد منتزع من القيد ، فالأمر به أمر بالقيد.

كان الجواب : أنّ القيد وإن كان دخيلا في حصول التقيّد ؛ لأنّه طرف له ، لكنّ هذا لا يعني كونه عينه ، بل التقيّد بما هو معنى حرفي له حظّ من الوجود والواقعيّة

ص: 281

مغاير لوجود طرفيه ، وذلك هو متعلّق الأمر النفسي ضمنا ، فالمقدّمة الشرعيّة إذن تتّصف بالوجوب الغيري كالمقدّمة العقليّة إذا تمّت الملازمة.

وقد يشكل على ما ذكرناه من كون الأمر بالصلاة المقيّدة ينحلّ إلى أمرين : أمر بذات المقيّد أي بالصلاة ، وأمر بالتقيّد أي بكونها عن وضوء دون القيد فإنّه خارج ، فيقال : إنّ التقيّد عنوان انتزاعي من القيد نفسه ، بمعنى أنّ الصلاة عن وضوء أو الصلاة المقيّدة بالوضوء لا يمكن أن يتحقّق تقيّدها بذلك إلا بالإتيان بالوضوء ، فيكون الأمر بالتقيّد أمرا بالقيد لا محالة ؛ لأنّه منشأ انتزاعه ، ومعه يتّصف القيد بالوجوب الضمني النفسي فيمتنع اتّصافه بالوجوب الغيري.

ولكن يجاب عن ذلك بأنّ القيد وإن كان دخيلا في حصول التقيّد ؛ لأنّ الصلاة عن وضوء لا يمكن أن تتحقّق إلا بالإتيان بالوضوء ، فيكون الوضوء طرفا لانتزاع التقيّد والطرف الآخر هو الصلاة ، وبحصول هذين الطرفين ينتزع منهما عنوان التقيّد. إلا أنّ هذا لا يعني أنّ القيد صار عين التقيّد ونفسه ، بل هما أمران متغايران.

والوجه في ذلك : هو أنّ التقيّد وصف انتزاعي فهو من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة ، بمعنى أنّ له ثبوتا وتحقّقا في عالم انتزاعه ممّا يعني أنّ له وجودا خاصّا به مستقلا عن طرفيه ( الصلاة والوضوء ) ؛ لأنّ الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة لها وجود في عالم انتزاعها يختلف عن نفس وجود الشرط والمشروط أو الجزء والمركّب أو المانع والممنوع ، وهنا التقيّد نسبة بين الصلاة والوضوء منتزعة منهما فهي معنى حرفي وهو له وجود مستقلّ عن نفس الطرفين اللذين هما منشأ انتزاعه ، ووجوده يكون في عالم الذهن.

وعليه ، فالتقيّد ليس هو نفس القيد والمقيّد بل هو مغاير لهما. نعم ، لا يحصل التقيّد إلا بطرفيه ولكن هذا لا يجعله منطبقا عليهما ، ولذلك يكون الأمر النفسي الضمني متعلّقا بالتقيّد وبالمقيّد فهما داخلان بينما القيد خارج عن الأمر.

ولذلك لا مانع من اتّصافه بالوجوب الغيري على القول بالملازمة ؛ لأنّه ليس متّصفا بالوجوب النفسي الضمني.

* * *

ص: 282

تحقيق حال الملازمة

ص: 283

ص: 284

تحقيق حال الملازمة

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب مع التسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الوجوب الغيري إن أريد به الوجوب المترشّح بصورة قهريّة من قبل الوجوب النفسي ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الوجوب جعل واعتبار ، والجعل فعل اختياري للجاعل ، ولا يمكن ترشّحه بصورة قهريّة.

وإن أريد به وجوب يجعل بصورة اختياريّة من قبل المولى ، فهذا يحتاج إلى مبرّر ومصحّح لجعله ، مع أنّ الوجوب الغيري لا مصحّح لجعله ؛ لأنّ المصحّح للجعل - كما تقدّم في محلّه - إمّا إبراز الملاك بهذا اللسان التشريعي ، وإمّا تحديد مركز حقّ الطاعة والإدانة ، وكلا الأمرين لا معنى له في المقام ؛ لأنّ الملاك مبرز بنفس الوجوب النفسي ، والوجوب الغيري لا يستتبع إدانة ولا يصلح للتحريك - كما مرّ بنا - فيلغو جعله.

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب والتسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة. فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : إنكار الوجوب الغيري ، أي إنكار الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، وأمّا وجوب المقدّمة عقلا فهذا غير قابل للإنكار لفرض توقّف امتثال الواجب عليها ، فالملازمة ثابتة عقلا لا شرعا.

والوجه في عدم ثبوت الملازمة شرعا هو أنّ الوجوب الغيري المدّعى ثبوته شرعا ما ذا يراد به؟

فإن أريد به الوجوب المترشّح قهرا من قبل الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري يثبت شرعا بمجرّد ثبوت الوجوب النفسي من دون أنّ يتدخّل الشارع في

ص: 285

جعل هذا الوجوب أو بصورة قهريّة فوق الإرادة المولويّة. فمثل هذا الوجوب الغيري مستحيل ؛ لأنّ الوجوب والإيجاب فعل اختياري للمولى بمعنى أنّه جعل بيد الجاعل وضعه أو رفعه ، وليس بيد أحد غيره ولا يكون رغم إرادته ، ولا يمكن أن يترشّح قهرا بمجرّد جعله للوجوب النفسي.

وبتعبير آخر : إذا أوجب الشارع شيئا فليس بالضرورة أن يوجب مقدّمته ، بل قد يوجبها وقد لا يوجبها ؛ لأنّ الإيجاب فعله وباختياره ، ولا يكون قهرا عليه أو رغم إرادته ؛ ليقال : إنّ الوجوب الغيري يترشّح قهرا من الوجوب النفسي ، فإنّ هذا الكلام لا معنى ولا محصّل له.

وإن أريد به الوجوب الغيري الذي يجعله الشارع باختياره وإرادته ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّ الجعل والإيجاب الشرعي لا يكون عبثا ومن دون أي مبرّر وغرض ، ولذلك نسأل ما هو الغرض والداعي والمبرّر الذي أدّى إلى جعل مثل هذا الوجوب الغيري؟

والجواب على ذلك أحد أمرين ، كلاهما باطل في المقام ، وهما :

الأوّل : أن يكون الغرض من جعل الوجوب الغيري إبراز الملاك - فإنّ إبراز الملاك غرض مصحّح للجعل والإيجاب المولوي - بمعنى أنّ الشارع قد تعلّق غرضه بإبراز الملاك بهذا الوجوب الغيري.

فهنا تارة يكون الملاك الذي أراد إبرازه هو الملاك الموجود في الوجوب النفسي ، وهذا المفروض أنّ الشارع قد أبرزه بجعل الوجوب النفسي فإبرازه مجدّدا تحصيلا للحاصل فيلغو ، وأخرى يكون المراد إبرازه هو ملاك الوجوب الغيري ، وهذا غير معقول ؛ لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري ليس فيه ملاك زائد على الملاك الموجود في الوجوب النفسي ، وإلا لصار وجوبا نفسيّا لا غيريّا وهو خلف.

الثاني : أن يكون الغرض من جعل الوجوب الغيري إثبات المنجّزيّة والمحرّكيّة والباعثيّة ، وتحديد مركز حقّ الطاعة من أجل تسجيل الثواب على الامتثال والعقاب على المخالفة ، فإنّ هذا غرض مصحّح للإيجاب أيضا ، فيكون غرض المولى إثبات المحرّكيّة والمنجّزيّة والثواب والعقاب بجعله الوجوب الغيري ، وهذا غير معقول في المقام ؛ لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري ليس فيه منجّزيّة ولا محرّكيّة ولا

ص: 286

ثواب ولا عقاب زائدا على ما في الوجوب النفسي من ذلك.

وبهذا يظهر أنّه لا يوجد أي مبرّر ولا غرض للمولى في جعل الإيجاب الغيري فلا معنى لجعله ؛ لأنّه يكون ضرب من اللغو والعبث ، وهو مستحيل تصوّره بحقّ المولى عزّ وجلّ.

وأما الثاني : فمن أجل التلازم بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، وهو تلازم لا برهان عليه ، وإنّما نؤمن به لشهادة الوجدان ، وبذلك صحّ افتراض الحبّ في جلّ الواجبات النفسيّة التي تكون محبوبة بما هي مقدّمات لمصالحها وفوائدها المترتّبة عليها.

ولو أنكرنا الملازمة بين حبّ الشيء وحبّ مقدّمته لما أمكن التسليم بمحبوبيّة هذه الواجبات النفسيّة.

المطلب الثاني : هو الإيمان والتسليم بالملازمة بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، فتكون هناك محبوبيّة غيريّة للمقدّمة تبعا للمحبوبيّة النفسيّة للواجب.

وهذه الدعوى لا يمكن البرهان عليها وإنّما هي ثابتة وجدانا ، والوجه في ذلك هو أنّ الوجدان يقضي بأنّه كلّما تحقّقت الإرادة والشوق والحبّ في شيء استلزم ذلك نشوء الإرادة والشوق والحبّ الغيري نحو المقدّمات ، فمن يريد أن يفعل شيئا وتكون المبادئ موجودة فيه فإنّ هذه المبادئ سوف تسري إلى مقدّماته ؛ إذ لو لم يحبّ مقدّماته ولم يردها فلن يستطيع التوصّل إلى محبوبه النفسي ، فمن يريد شرب الماء مثلا فهو يبحث عنه ويحصّله ويهيّئه وهذه كلّها مقدّمات له.

ومن هنا كانت سائر الواجبات النفسيّة محبوبة تبعا لمحبوبيّة الملاكات والمصالح المترتّبة عليها ، إذ لو لم تكن هناك ملازمة بين حبّ شيء وحبّ مقدّماته لم يمكن القول بمحبوبيّة الواجبات النفسيّة ، وهو واضح البطلان.

والفرق بين ثبوت الملازمة هنا وعدم ثبوتها هناك أنّ الشوق والحبّ أثر تكويني فيعقل أن يستلزم حبّ شيء آخر بخلافه هناك ، فإنّ الجعل فعل اختياري للمولى (1).

ص: 287


1- وعلّق السيّد الأستاذ على ذلك بقوله : إنّ الشوق والإرادة على نحوين : الأوّل : تحريك العضلات ، والآخر : الحبّ وهو فعل اختياري للإنسان. والوجدان يقضي بأنّ الإنسان إذا أراد شيئا فإنّه يتحرّك نحوه ، فهنا التلازم ثابت بين الإرادة والشوق وتحريك العضلات إلا أنّ ذلك خارج عن محلّ الكلام. وأمّا التلازم بين إرادة شيء والشوق إليه وحبّ مقدّماته فهذا لا يقضي به الوجدان ، بل الوجدان على خلافه ، فإنّ من يضطرّ لبيع داره من أجل تأمين معيشته لا يتعلّق الحبّ ببيع الدار وإن كانت مقدّمة للوصول إلى المحبوب ، وهو تأمين المال للمعيشة. ولذلك لا يمكن إثبات الملازمة بلحاظ المحبوبيّة والشوق والإرادة ؛ لأنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد.

ص: 288

حدود الواجب الغيري

ص: 289

ص: 290

حدود الواجب الغيري

وفي حالة التسليم بالواجب الغيري في مرحلتي الجعل والحبّ معا ، أو في إحدى المرحلتين على الأقلّ ، يقع الكلام في أنّ متعلّق الوجوب الغيري هل هو الحصّة الموصلة من المقدّمة أو طبيعي المقدّمة؟

في وجوب المقدّمة الموصلة أو مطلق المقدّمة : بعد التسليم بأنّ الملازمة ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، أو على الأقلّ بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، يقع الكلام في متعلّق الوجوب الغيري ، فهل الوجوب الغيري متعلّق بمطلق المقدّمة أو بخصوص المقدّمة الموصلة؟ قولان في المسألة ، ولكلّ منهما أدلّته وبراهينه.

فذهب صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بمطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة ، ونسبه للمشهور.

وذهب صاحب ( الفصول ) إلى وجوب المقدّمة الموصلة بالخصوص.

وذهب صاحب ( المعالم ) إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة التي يقصد المكلّف بها الإتيان بالواجب.

وذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي.

والمهمّ هو القولان الأوّلان.

قد يقال بأنّ المسألة مبنيّة على تعيين الملاك والغرض من الواجب الغيري.

فإن كان الغرض هو التمكّن من الواجب النفسي فمن الواضح أنّ هذا الغرض يحصل بطبيعي المقدّمة ، ولا يختصّ بالحصّة الموصلة ، فيتعيّن أن يكون الوجوب الغيري تبعا لغرضه متعلّقا بالطبيعي أيضا.

وإن كان الغرض حصول الواجب النفسي فهو يختصّ بالمقدّمة الموصلة ،

ص: 291

ويثبت حينئذ اختصاص الوجوب بها أيضا تبعا للغرض.

وفي المسألة قولان ، فقد ذهب صاحب ( الكفاية ) (1) وجماعة (2) إلى الأوّل ، وذهب صاحب ( الفصول ) (3) وجماعة إلى الثاني.

قد يقال : إنّ تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة أو بطبيعي المقدّمة مرتبط بالملاك والغرض الذي من أجله جعل الوجوب الغيري على المقدّمة ، فإنّ تحديد الملاك والغرض هو الضابط والملاك الذي على أساسه يتحدّد ما هو متعلّق الوجوب الغيري ، وهنا يوجد احتمالان في تعيين هذا الملاك ، وعلى أساس كلّ احتمال يبتني القول بوجوب مطلق المقدّمة أو خصوص المقدّمة الموصلة فقط ، والاحتمالان هما :

الاحتمال الأوّل : أن يكون الغرض والملاك من جعل الوجوب الغيري على المقدّمة هو التمكّن من الإتيان بالواجب ؛ لأنّه من دون هذه المقدّمة سوف لن يتمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب النفسي ، فإن كان هذا هو الملاك والغرض فهذا لازمه أن يكون مطلق المقدّمة هو الواجب لا خصوص المقدّمة الموصلة ؛ لأنّ جعل الإيجاب على مطلق المقدّمة يجعل المكلّف متمكّنا من الإتيان بالواجب النفسي.

الاحتمال الثاني : أن يكون الغرض والملاك من جعل الوجوب الغيري على المقدّمة هو حصول وترتّب الواجب النفسي على المقدّمة ؛ لأنّه إذا لم يتوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي أو لم يترتّب الواجب النفسي على المقدّمة فيكون جعل الإيجاب على المقدّمة لغوا ولا فائدة منه ، وهذا لازمه أن يكون الوجوب الغيري متعلّقا بالمقدّمة الموصلة فقط دون غيرها ؛ لأنّ الواجب النفسي إنّما يحصل ويترتّب فيما إذا كانت المقدّمة موصلة إليه فقط.

ولذلك ذهب صاحب ( الكفاية ) وجماعة إلى تعيين الاحتمال الأوّل ، بينما ذهب صاحب ( الفصول ) وجماعة إلى تعيين الاحتمال الثاني ، ولكلّ من القولين أدلّته.

ويمكن أن يبرهن على الأوّل بأنّ الوجوب الغيري لو كان متعلّقا بالحصّة الموصلة إلى الواجب النفسي خاصّة لزم أن يكون الواجب النفسي قيدا في متعلّق

ص: 292


1- كفاية الأصول : 142.
2- منهم المحقّق النائيني في فوائد الأصول 1 : 286 ، وأجود التقريرات 1 : 237.
3- الفصول الغروية : 86.

الوجوب الغيري ، والقيد مقدّمة للمقيّد ، وهذا يؤدّي إلى أن يصبح الواجب النفسي مقدّمة للواجب الغيري.

الدليل على وجوب مطلق المقدّمة : أنّ الوجوب الغيري لو كان متعلّقا بالحصّة الموصلة من المقدّمة إلى الواجب النفسي دون غيرها ، فيلزم من ذلك أن يكون متعلّق الوجوب الغيري مركّبا من أمرين ، هما : ( ذات المقدّمة ، وكونها موصلة إلى الواجب النفسي ) أي بذات المقيّد وبالتقيّد بالإيصال إلى الواجب النفسي ، ولكن حصول التقيّد يتوقّف على حصول القيد ؛ لأنّ القيد مقدّمة لحصول التقيّد ومن دون حصول القيد لا يمكن أن يحصل التقيّد.

نظير تقيّد الصلاة بالوضوء فإنّ هذا التقيّد موقوف على الإتيان بالقيد أي بالوضوء ؛ لكي تقع الصلاة المقيّدة بالوضوء عن وضوء فعندئذ يحصل التقيّد ، وهنا لكي يقع المقيّد مع التقيّد أي المقدّمة مع تقيّدها بالإيصال إلى الواجب النفسي لا بدّ أن يتحقّق الواجب النفسي أوّلا ؛ لكي تتّصف المقدّمة بأنّها موصلة ، وحينئذ يكون الإتيان بالواجب النفسي قد صار قيدا ومقدّمة لحصول المقيّد أو التقيّد ، فإذا صار مقدّمة لزم أحد المحاذير التالية :

الأوّل : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للتقيّد أو للمقيّد ، فهذا معناه أنّه يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لأنّ ملاك الوجوب الغيري هو المقدّميّة والتوقّف ، فيكون واجبا نفسيّا وواجبا غيريّا وهذا مستحيل ؛ لأنّه يعني أنّ شيئا واحدا يكون فعل المقدّمة من أجله ويكون فعله هو من أجل المقدّمة فيلزم الدور أو الخلف.

الثاني : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للمقيّد أو للتقيّد ، والمفروض أنّ المقدّمة هي خصوص الحصّة الموصلة فيكون الإتيان بالواجب النفسي الموصل إلى التقيّد هو المقدّمة لا غير ، وحينئذ يرجع الكلام الأوّل إلى هنا ؛ لأنّه سوف يكون مركّبا من ذات الواجب النفسي ومن كونه موصلا ، فيعود الكلام نفسه وهكذا فيتسلسل.

الثالث : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للمقيّد أو للتقيّد فسوف يتّصف بالوجوب الغيري ، والحال أنّه متّصف بالوجوب النفسي ، فيلزم اجتماع المثلين وهو مستحيل.

ص: 293

الرابع : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للإتيان بالمقيّد أو التقيّد ، والمفروض أنّ المقيّد أي ( المقدّمة الموصلة ) مقدّمة له فيلزم من ذلك توقّف الواجب النفسي على حصول المقدّمة الموصلة ، وتوقّف حصول المقدّمة الموصلة على الواجب النفسي وهذا دور ؛ لتوقّف كلّ منهما على الآخر في الوجود (1).

وبذلك يظهر أنّ الوجوب الغيري لا يمكن أن يتعلّق بالحصّة الموصلة ، بل هو متعلّق بمطلق المقدّمة. وعليه يتعيّن أن يكون الملاك من الوجوب الغيري هو التمكّن من الإتيان بالواجب لا الوصول إليه وحصوله.

ويمكن أن يبرهن على الثاني بأنّ غرض الوجوب الغيري ليس هو التمكّن ، بل نفس حصول الواجب النفسي ؛ لأنّ دعوى أنّ الغرض هو التمكّن إن أريد بها أنّ التمكّن غرض نفسي فهو باطل بداهة وخلف أيضا ؛ لأنّه يجعل المقدّمة موصلة دائما لعدم انفكاكها عن التمكّن الذي هو غرض نفسي ، مع أنّنا نتكلّم عن المقدّمة التي تنفكّ خارجا عن الغرض النفسي.

وإن أريد بها أنّ التمكّن غرض غيري فهو بدوره طريق إلى غرض نفسي لا محالة ، إذ وراء كلّ غرض غيري غرض نفسي ، فإن كان الغرض النفسي منه حصول الواجب النفسي ثبت أنّ هذا هو الغرض الأساسي من الواجبات الغيريّة ، وإلا تسلسل الكلام حتّى يعود إليه لا محالة.

الدليل على وجوب المقدّمة الموصلة : أنّ الغرض والملاك من الوجوب الغيري هو

ص: 294


1- ونضيف إلى ذلك بعض المحاذير التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) : أوّلا : أنّ الإتيان بالمقدّمة مع عدم قصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، معناه أنّ ما أتى به ليس هو متعلّق الوجوب الغيري ؛ لأنّه مختصّ بالمقدّمة الموصلة فيلزم منه الإعادة مجدّدا. وثانيا : لو كانت المقدّمة خصوص الموصلة إلى الواجب النفسي ، فحيث إنّ فعل الواجب اختياري للمكلّف إن شاء فعله وإن شاء خالفه فيلزم تعليق المقدّمة الموصلة على اختيار المكلّف ، فيكون اختياره دخيلا في الملاك والغرض ، وهذا لا يمكن لأحد أن يلتزم به. وثالثا : أنّ المكلّف إذا أتى بالمقدّمة ولم يشرع بالواجب بعد ، فهل يسقط الوجوب الغيري المتعلّق بها أو لا؟ فإن قيل بعدم سقوطه لزم الإعادة والتكرار ، وإن قيل بسقوطه فهذا لازمه أنّه لم يتعلّق بالحصّة الموصلة.

حصول الواجب النفسي دون التمكّن ؛ وذلك لأنّ كون الغرض والملاك هو التمكّن يلزم منه عدّة محاذير عقليّة.

وتوضيح ذلك : أنّنا لو فرضنا كون التمكّن من الإتيان بالواجب بفعل المقدّمة هو الملاك والغرض ، فهنا نسأل هل هذا الغرض والملاك نفسي أم غيري؟

فإن قيل بأنّه غرض وملاك نفسي فيلزم منه محذوران :

أحدهما : وضوح الفساد والبطلان ؛ لأنّ فرض الغرض النفسي معناه أنّه يوجد غرضان نفسيّان أحدهما موجود في الوجوب النفسي والآخر موجود في الوجوب الغيري ، وهذا واضح البطلان بداهة عدم وجود إلا غرض نفسي واحد يترتّب على الوجوب النفسي فقط.

وقد تقدّم سابقا أنّ الوجوب الغيري ليس فيه ملاك ولا غرض زائد على الواجب النفسي ، وإلا لصار التمكّن واجبا نفسيّا مع أنّه واجب غيري بحسب الفرض فيلزم الخلف.

والآخر : أنّ فرض كون التمكّن هو الغرض النفسي لازمه أن تكون المقدّمة دائما موصلة ؛ لأنّ التمكّن لو كان هو المطلوب النفسي من المقدّمة فكلّ المقدّمات تتّصف بالتمكّن ، سواء جاء المكلّف بالواجب أم لا ، فتكون المقدّمة دائما موصلة للتمكّن ؛ لأنّ التمكّن لا ينفكّ عن المقدّمة مع أنّ الواجب قد يتحقّق بعدها وقد لا يتحقّق ، فكيف تتّصف بكونها موصلة مع أنّ الواجب قد لا يتحقّق بعدها؟ وكيف يمكن أن نفرض المقدّمة غير الموصلة ما دام فعلها دائما يستتبع التمكّن ، والمفروض أنّه هو الغرض النفسي من فعل المقدّمة وليس الواجب النفسي؟

والحاصل : أنّ فرض كون التمكّن هو الغرض النفسي والأساسي من فعل المقدّمة ، لا يمكن المصير إليه ؛ لأنّه يستلزم الخلف من جعل المقدّمة للواجب وصيرورتها مقدّمة للتمكّن فقط ؛ ولأنّه يؤدّي إلى تعدّد الغرض والملاك النفسي مع أنّ المفروض كونه واحدا مترتّبا على الوجوب النفسي لا الغيري.

وإن قيل بأنّ التمكّن غرض غيري ، فهنا نسأل هل يوجد غرض نفسي وراء هذا الغرض الغيري أو لا يوجد؟

فإذا قيل بأنّه لا يوجد فهو واضح الفساد والبطلان ، إذ ما يكون غرضا غيريّا فهذا

ص: 295

لازمه لا محالة وجود غرض نفسي ورائه ؛ لأنّ ما يكون غرضا لغيره فهذا الغير إمّا أن يكون أصيلا ونفسيّا أو لا يكون كذلك ، فإن لم يكن نفسيّا بل كان غيريّا عاد السؤال إليه ولا ينقطع التسلسل إلا بفرض وجود غرض نفسي يرجع إليه الغرض الغيري ، إذا لا بدّ من التسليم بوجود الغرض النفسي ورائه.

وإذا قيل بوجود غرض نفسي ورائه كما هو الصحيح ، فهنا نسأل عن هذا الغرض النفسي ما هو؟

فإذا كان هو حصول الواجب ثبت المدّعى ، وأنّ الغرض الأساس والنفسي من الوجوب الغيري هو حصول الواجب النفسي ، وليس التمكّن فقط.

وإذا كان هو التمكّن من الواجب النفسي عاد الكلام من أوّله ولا ينقطع ، فيلزم منه التسلسل الممتنع (1).

وبهذا يظهر أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق إلا بالمقدّمة الموصلة ، ممّا يعني أنّ الملاك والغرض منه إنّما هو حصول الواجب النفسي على المقدّمة وترتّبه عليها.

وإلى هنا نكون قد استعرضنا أدلّة الطرفين ، وأمّا الصحيح منهما فهو :

فالصحيح إذا : اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة ، ولكن لا بمعنى أخذ الواجب النفسي قيدا في متعلّق الوجوب الغيري كما توهّم في البرهان على القول الأوّل ، بل بمعنى أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموعة المقدّمات التي متى ما وجدت كان وجود الواجب بعدها مضمونا.

ص: 296


1- ونضيف إلى ذلك ما ذكره صاحب ( الفصول ) ، فقال ما ملخّصه : أوّلا : أنّ الوجدان يقضي باختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ؛ لأنّ العقل الذي يدرك وجوب المقدّمة يقضي بتعلّق الوجوب بالمقدّمة الموصلة للواجب لا غير. وثانيا : أنّ الغرض من الواجب الغيري ليس إلا الحصّة الموصلة ؛ لأنّ العقلاء إذا تعلّقت أغراضهم التكوينيّة بشيء فيسلكون الطريق الموصل إليه لا غيره ، فالمولى العرفي إذا تعلّق غرضه بشيء فلا يتحرّك بنفسه ولا يحرّك عبده إلا نحو المقدّمات الموصلة لغرضه دون غيرها. وثالثا : أنّ المولى يمكنه أن ينهى ويردع عن المقدّمة غير الموصلة ، فلو كانت مطلق المقدّمة واجبة شرعا لم يمكنه إصدار مثل هذا النهي ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل.

وأما القول المختار : فهو أنّ الوجوب الغيري إنّما يتعلّق بخصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، وفاقا لصاحب ( الفصول ) وغيره ، ولكن على أساس ما نختاره من تفسير للإيصال.

وتوضيحه : أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموع المقدّمات والأجزاء المساوقة للعلّة التامّة ، بحيث إذا وجدت كان وجود الواجب النفسي مضمونا أي مضمون التحقّق بعدها ، فذات المقدّمة وواقع العلّة التامّة هي المأخوذة تحت الإرادة الغيريّة وتحت الوجوب الغيري ، ولا يكون كلّ جزء جزء بنحو مستقلّ أو بنحو مركّب هو العلّة والمقدّمة ، بل مجموع الأجزاء بما هو مجموع هو العلّة التامّة والمقدّمة الموصلة للواجب.

وبهذا سوف يندفع الإشكال الذي ذكر في البرهان على القول الأوّل ، والذي كان حاصله : أنّ الواجب النفسي سوف يصبح قيدا للوجوب الغيري وهو غير معقول ؛ لما ذكر من المحاذير.

ووجه اندفاعه : أنّ أخذ مجموع الأجزاء والمقدّمات لا يعني أنّ كلّ جزء متوقّف على حصول الجزء الآخر ، أو مقيّد بذات الجزء الآخر ، بل المجموع بما هو مجموع مأخوذ في المقدّمة.

ومن جملة هذه المقدّمات والأجزاء أيضا اختيار المكلّف للفعل ، فإنّ الاختيار جزء من العلّة التامّة واقعا ، فيكون دخيلا في المقدّمة أيضا.

والحاصل : أنّنا نقصد بالمقدّمة الموصلة هو تحقّق كلّ ما يكون دخيلا في إيجاد الواجب بحيث إذا وجدت كلّها ترتّب الواجب عليها ، فهي بمثابة العلّة التي متى ما وجدت وجد المعلول بعدها لا محالة ، إلا إذا وجد مانع خارج عن اختيار وقدرة المكلّف.

* * *

ص: 297

ص: 298

مشاكل تطبيقيّة

ص: 299

ص: 300

مشاكل تطبيقيّة

استعرضنا فيما سبق (1) أربع خصائص وحالات للوجوب الغيري ، وتنصّ الثانية منها على أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا ، وتنصّ الرابعة منها على أنّ الواجب الغيري توصّلي.

وقد لوحظ أنّ ما ثبت من ترتّب الثواب على جملة من المقدّمات - كما دلّت عليه الروايات - ينافي الحالة الثانية للوجوب الغيري ، وأنّ ما ثبت من عباديّة الوضوء والغسل والتيمّم واعتبار قصد القربة فيها ينافي الحالة الرابعة له.

توجد مشكلتان في التطبيق :

الأولى : في ترتّب الثواب على جملة من المقدّمات ، حيث دلّت الروايات على ثبوت الثواب حين الإتيان بالمقدّمة وإن لم يأت بالواجب ، فإنّ هذا يتنافى مع ما تقدّم من خصائص الوجوب الغيري وأنّه لا يستتبع ثوابا زائدا عمّا في الواجب النفسي من ثواب.

فمثلا دلّت الروايات على ثبوت الثواب على من زار الحسين علیه السلام ماشيا ، وأنّ له بكلّ خطوة ألف حسنة و ... إلى آخره ، مع أنّ المشي مقدّمة لحصول الزيارة التي يفرض تعلّق الوجوب النفسي بها ولو بعنوان آخر كمن نذر زيارته علیه السلام .

الثانية : في ثبوت صفة العباديّة في بعض المقدّمات ، كالغسل والتيمّم والوضوء ، ولزوم الإتيان بها بقصد القربة ، بحيث تكون هذه الصفة جزءا دخيلا فيها ولا تتحقّق من دونها ، وهذا يتنافى مع ما تقدّم من كون الوجوب الغيري توصّليّا لا يشترط فيه أي داع آخر مضافا إلى الإتيان بذات المقدّمة ؛ لأنّ المطلوب منه الوصول به إلى الواجب والتوصّل إليه.

ص: 301


1- تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

وهاتان المشكلتان لا بدّ من حلّهما بنحو يتناسب مع حقيقة الوجوب الغيري والمحافظة على خصائصه المتقدّمة ، وإلا لكانت نقضا على ما ذكر من خصائص للوجوب الغيري ، بل تكون دليلا على عدم صحّتها في نفسها ؛ لأنّ الواقع على خلافها.

هذا ، وقد أجيب عن هاتين المشكلتين بأجوبة عديدة ومختلفة ، والسيّد الشهيد يذكر جوابا لكلّ واحدة من المشكلتين ، ولذلك قال :

والجواب : أمّا فيما يتّصل بالحالة الثانية : فهو أنّها تنفي استتباع امتثال الوجوب الغيري بما هو امتثال له للثواب ، ولا تنفي ترتّب الثواب على المقدّمة بما هي شروع في امتثال الوجوب النفسي ؛ وذلك فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل بها إلى امتثاله.

وما ثبت بالروايات من الثواب على المقدّمات يمكن تطبيقه على ذلك.

أمّا الجواب عن المشكلة الأولى : فقد تقدّم في خصائص الوجوب الغيري أنّه لا يستتبع ثوابا على فعله ، ولكن قلنا هناك بأنّه لا يستتبع الثواب على فعله ( بما هو امتثال له ) ، فإنّ هذا التقييد يحلّ المشكلة المذكورة ؛ وذلك لأنّنا ننفي ترتّب الثواب على فعل الواجب الغيري من جهة كونه امتثالا للواجب الغيري ، ولم ننف ترتّب الثواب على فعله ولو من جهة أخرى بأن كان قاصدا التوصّل به إلى الواجب النفسي مثلا.

ولذلك فمن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي يكون قد شرع في امتثال الواجب النفسي من حين اشتغاله بالمقدّمة ، ولذلك يبدأ الثواب من ذاك الحين ، فهنا الثواب لم يترتّب على امتثال الواجب الغيري بما هو وجوب غيري ، بل يترتّب عليه بما هو امتثال للواجب النفسي وشروع في امتثاله. إذا ترتّب الثواب على المقدّمات لا يخالف حقيقة الوجوب الغيري.

وما ورد من ترتّب الثواب على فعل بعض المقدّمات يمكن حمله على هذا المعنى ، أي على أنّه قد شرع في امتثال الواجب النفسي من حين إتيانه بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي (1).

ص: 302


1- هذا كلّه فيما إذا أتى بالواجب النفسي بعد المقدّمة ، وأمّا مع عدم تحقّق الواجب النفسي فلعلّ ما ذكر لا يكفي في تخريج الاستحباب ، ولذلك يوجد تخريجان آخران : أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من ثبوت الاستحباب النفسي للمقدّمة ، فإنّ الدليل ... الدالّ على ترتّب الثواب على المقدّمة سواء تحقّق الواجب بعدها أم لا ، يعتبر دليلا على إثبات استحبابها النفسي فيأتي بها بقصد امتثال أمرها ولذلك يثاب عليها. وهذا إخراج لها من دائرة الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي. والآخر : أنّ المقدّمة شيء ، وما ورد الثواب عليه بعنوانه شيء آخر. فلو وجبت الزيارة مثلا وجبت مقدّمتها وهي السفر وطيّ المسافة ، وما ورد عليه الثواب هو المشي أي أحد مصاديق المقدّمة ، أو أحد كيفيّاتها ، فنفس المقدّمة بعنوانها الكلّي الجامع واجب غيري لا ثواب عليه ، وأمّا عنوان المشي بنفسه فهو مورد للثواب وللاستحباب النفسي بعنوانه الخاصّ. وقد يجاب أيضا بالأشدّيّة والأحمزيّة ؛ لأنّ أفضل الأعمال أحمزها ؛ فالمشي يوجب مزيد مشقّة وتعب فيشمله الدليل المذكور.

وأمّا فيما يتّصل بالحالة الرابعة فإنّها في الحقيقة إنّما تنفي دخول أيّ شيء في دائرة الوجوب الغيري زائدا على ذات المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب النفسي.

فإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على ذات الفعل امتنع أخذ قصد القربة في متعلّق الوجوب الغيري ؛ لعدم توقّف الواجب النفسي عليه.

وإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على الفعل مع قصد القربة تعيّن تعلّق الوجوب الغيري بهما معا ؛ لأنّ قصد القربة في هذه الحالة يعتبر جزءا من المقدّمة.

وفي كلّ مورد يقوم فيه الدليل على عباديّة المقدّمة نستكشف انطباق هذه الحالة [ عليه ].

وأما الجواب عن المشكلة الثانية : فقد ذكرنا في الخصوصيّة الرابعة أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة والتوقّف ، ولذلك فهو يتعلّق بواقع المقدّمة من دون أن يكون لأيّة خصوصيّة أخرى مدخليّة في ذلك. وعليه ، لم يكن قصد التوصّل لامتثال الواجب ولم يكن للتقرّب والعباديّة أيّة دخالة فيه ، فيتحقّق الواجب الغيري سواء قصد ذلك أم لا.

وهذا إنّما ينفي أن يكون قصد القربة والعباديّة جزءا دخيلا في الوجوب الغيري ، ووجه الانتفاء واضح ؛ لأنّه لا داعويّة ولا محرّكيّة ولا ثواب ولا عقاب ولا ملاك فيه ، إلا أنّ هذا لا ينفي إمكان وقوع الواجب الغيري مع قصد التوصّل والامتثال أو التقرّب والعباديّة.

وعليه ، فإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على ذات الفعل فقط فلا معنى لأخذ

ص: 303

قصد القربة في الوجوب الغيري ؛ لأنّ الواجب النفسي لم يكن متوقّفا على هذا القصد ، فإذا فرضنا الواجب النفسي توصّليّا لا يشترط فيه قصد القربة وفرضناه أيضا متوقّفا على ذات الفعل أي على المقدّمة فقط ، فلا معنى لأخذ قصد القربة في الوجوب الغيري ؛ لأنّه غير مأخوذ في الوجوب النفسي الذي يكون فعل المقدّمة لأجله ، بل يمتنع أخذ هذا القصد فيه.

ووجه الامتناع هو أنّ الوجوب الغيري في نفسه لا يكون داعيا ولا محرّكا ولا مستتبعا للثواب والعقاب ولا ملاك فيه وقصد القربة ، إنّما يكون ناشئا أو تابعا لأحد هذه الأمور وكلّها منتفية فلا موضوع له أصلا ليقصد ، بل إذا قصده لزم منه المحذور العقلي وهو لزوم الخلف ؛ لأنّ قصد التوصّل والقربة إن كان بالأمر الغيري فهو خلف ؛ لأنّه لا مقربيّة ولا داعويّة فيه ، وإن كان بالأمر النفسي فهذا يعني توقّف الأمر النفسي على المقدّمة مع هذا القصد مع أنّنا قد فرضناه متوقّفا على ذات الفعل فقط.

وأما إذا كان الواجب النفسي متوقّفا على الفعل مع قصد القربة ، فهنا يتعيّن أخذ قصد القربة في الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة أيضا.

والوجه في ذلك : هو أنّ الواجب النفسي لمّا كان أمرا تعبّديّا يشترط فيه قصد القربة ، فهذا معناه أنّه يجب الإتيان بالواجب مع هذا القصد ، ولمّا كان الواجب متوقّفا على المقدّمة مع قصد القربة كان معناه أنّ الوجوب الغيري قد تعلّق بمقدّمة مركّبة من ذات الفعل ومن قصد القربة ، فكان قصد القربة جزءا من الوجوب الغيري وليس أمرا طارئا عليه وخارجا عنه.

وعليه ، فإذا أراد المكلّف التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي كان عليه أن يأتي بالمقدّمة مع هذا القصد ؛ لأنّ إتيانه بالمقدّمة مجرّدة عن قصد القربة لا يوصله إلى الواجب ، فلكي تكون المقدّمة موصلة وبالتالي هي المطلوبة غيريّا لا بدّ من إيجاد هذا القصد.

وبتعبير آخر : إنّ قصد القربة الذي نفينا ثبوته في الوجوب الغيري هو الذي يكون خارجا عن المقدّمة وليس دخيلا فيها ، وإنّما بعد ثبوت الوجوب الغيري يراد إثبات هذا القصد ولزوم ضمّه إلى المقدّمة ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الوجوب الغيري بنفسه ليس فيه مقرّبيّة ولا داعويّة كما تقدّم.

ص: 304

فلا بدّ أن يكون هذا القصد من جهة الوجوب النفسي وهذا يفترض النظر إلى متعلّقه ، وهل أنّه يكفي فيه امتثال الفعل فقط أو هو مع قصد القربة؟ فعلى الأوّل يمتنع قصد القربة للزوم الخلف وعلى الثاني يتعيّن ؛ لأنّ الامتثال موقوف عليه.

ومن هنا نقول : إنّ الوضوء والغسل والتيمّم حيث إنّها مقدّمات للصلاة الواجبة فهي غيريّة لا يشترط فيها قصد القربة ، ولكن لمّا دلّ الدليل الخاصّ على اشتراط ذلك وعلى ترتّب الثواب عليها ، كشف هذا عن كون الواجب النفسي متوقّفا لا على ذات المقدّمة ، بل على المقدّمة مع قصد القربة ، وأنّ هذا القصد جزء دخيل في المقدّمة يعرض عليه الوجوب الغيري وليس خارجا عن المقدّمة ليكون منضمّا إليها.

فإن قيل : أليس قصد القربة معناه التحرّك عن محرّك مولوي لإيجاد الفعل؟ وقد فرضنا أنّ الأمر الغيري لا يصلح للتحريك المولوي - كما نصّت عليه الحالة الأولى من الحالات الأربع المتقدّمة للوجوب الغيري - فما هو المحرّك المولوي نحو المقدّمة؟

كان الجواب : أنّ المحرّك المولوي نحوها هو الوجوب النفسي المتعلّق بذيها ، وهذا التحريك يتمثّل في قصد التوصّل ، هذا إضافة إلى إمكان افتراض وجود أمر نفسي متعلّق بالمقدّمة أحيانا ، بقطع النظر عن مقدّميّتها كما هو الحال في الوضوء على القول باستحبابه النفسي.

إشكال وجوابه : أمّا الإشكال فهو أنّ قصد القربة يتوقّف على أن يكون الإتيان بالفعل بقصد امتثال أمره الشرعي ، بحيث يتحرّك العبد بهذا القصد من أجل امتثال أمر المولى ، وهذا يفترض أن يكون هناك أمر هو الذي حرّك المكلّف ، وحينئذ نسأل عن هذا الأمر والمحرّك ما هو؟

فإن كان هو الأمر الغيري فهو باطل ؛ لأنّه تقدّم في الخصوصيّة الأولى من خصائص الوجوب الغيري أنّه لا يصلح للتحريك ولا للداعويّة ولا للقربيّة ؛ لأنّه متعلّق بالمقدّمة ذاتها بحيث كان ملاكها هو كونها ممّا يتوقّف عليه الواجب ، وهذا الملاك يكفي في تحقيقه إيجاد واقع المقدّمة من دون أي شيء زائد عليها.

وإن كان هو الوجوب النفسي فهو لا يدعو ولا يحرّك إلا نحو إيجاد متعلّقه لا أكثر.

وبهذا يتبيّن أنّه لا يوجد محرّك مولوي ليكون هو الذي يتقرّب به بفعل المقدّمة.

ص: 305

وأما الجواب : فهو أنّنا نختار الشقّ الثاني ، فيكون المحرّك المولوي نحو إيجاد المقدّمة هو الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة ، فإنّ الأمر النفسي كما يحرّك ويدعو إلى إيجاد متعلّقه أي الواجب النفسي فهو يدعو أيضا إلى تحقيق كلّ ما يتوقّف عليه الواجب النفسي بالتبعيّة ، ولذلك قلنا : إنّ الوجوب الغيري ليس فيه محرّكيّة وداعويّة ومقرّبيّة زائدة على ما في الوجوب النفسي ، وهذا لا ينفي أصل المحرّكيّة والداعويّة ، والمقرّبيّة ، وإنّما ينفي كونها استقلاليّة وبمعزل عن الوجوب النفسي.

وعليه ، فنقول : إنّ التحرّك الذي هو قوام المقرّبيّة يمكن افتراضه بالنسبة للمقدّمة بأحد طريقين :

الأوّل : من خلال قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها ، فإنّ المكلّف إذا قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها حين الشروع في المقدّمة كان هذا القصد كافيا للتحرّك وبالتالي لقصد القربة ، دون ما إذا لم يقصد التوصّل بها إلى ذيها فإنّه في هذه الحالة لا يكون إتيانه بها قربيّا ؛ لعدم تحرّكه عن الأمر لا الغيري ولا النفسي ، أمّا الغيري فلأنّه لا وجود له بنحو مستقلّ ، وأمّا النفسي فلأنّه لم يقصده.

الثاني : من خلال افتراض ثبوت أمر نفسي متعلّق بالمقدّمة بقطع النظر عن كونها مقدّمة ، بحيث كان الأمر النفسي متعلّقا بها لأجل نفسها لا لكونها من أجل واجب آخر غيرها ، فهنا يمكن للمكلّف أن يتحرّك عن هذا الأمر النفسي ويكون قربيّا ، وهذا ما يمكن ادّعاؤه بالنسبة للطهارات الثلاث كالوضوء ونحوه ، حيث ثبت الأمر الاستحبابي النفسي بها فيمكن قصده والتحرّك عنه.

وكلا هذين الطريقين يحقّق القربيّة ؛ لأنّ القربيّة معناها أن يأتي المكلّف بالفعل مضافا إلى المولى ، أي أن يكون الفعل محبوبا للمولى ومن أجله ، فكلّ فعل يمكن أن يكون من أجل المولى فيكون قربيّا ويمكن التحرّك عنه بهذا القصد ؛ لأنّه يكون راجحا.

* * *

ص: 306

دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء

ص: 307

ص: 308

دلالة الأوامر

الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء

لا شكّ في أنّ الأصل اللفظي - في كلّ واجب لدليله إطلاق - [ يقتضي ] أنّه لا يجزي عنه شيء آخر ؛ لأنّ إجزاءه عنه معناه كونه مسقطا ، ومرجع مسقطيّة غير الواجب للواجب أخذ عدمه قيدا في الوجوب ، وهذا التقييد منفي بإطلاق دليل الواجب. وهذا ما قد يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

المراد من الإجزاء هو معناه اللغوي أي الكفاية والاكتفاء بما أتى به المكلّف ، فإنّه لا شكّ في إجزاء الأمر وسقوطه فيما إذا أتى المكلّف بمتعلّقه على الوجه الذي أمر به ، وسقوطه هنا بمعنى سقوط فاعليّته كالعصيان أيضا.

وأما إذا أتى بشيء آخر غير ما أمر به فالأصل الأوّلي يقتضي عدم إجزائه ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلا إلى متعلّقه لا إلى شيء آخر. نعم ، يسقط بتحقيق الغرض والملاك أيضا كما تقدّم في طي البحوث السابقة.

وأمّا إجزاء غير المتعلّق وغير الغرض والملاك فهو معناه أنّ الأمر قد قيّد بعدمه ، فيكون عدم ذاك الشيء مأخوذا قيدا في الأمر ؛ لأنّه إذا وجد سقط الأمر عن الفعليّة أو الفاعليّة.

إلا أنّ هذا التقييد في الأمر لا يمكن قبوله ؛ لأنّ دليل الأمر لمّا كان خاليا من هذا القيد أمكن نفيه بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، إذ لو كان الشارع يريد التقييد ثبوتا وواقعا لدلّ عليه إثباتا وذكره في لسان الدليل.

وبهذا يتبيّن أنّ الأصل اللفظي في كلّ واجب هو عدم إجزاء غيره عنه ؛ لأنّ إجزاءه يعني أخذ عدمه قيدا وبما أنّ القيد غير مذكور فهو غير مراد.

ص: 309

وهذا ما يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

نعم ، إذا دلّ دليل خاصّ من خارج دليل الأمر على الإجزاء فيؤخذ به ، كما هو الحال في إجزاء الأضحية عن العقيقة ، فإنّها تجزي بمعنى أنّ الأضحية تسقط استحباب العقيقة وتجزي عنها. وأمّا مع عدم وجود الدليل الخاصّ فالأصل هو عدم إجزاء شيء آخر عن الواجب.

ولكن يدّعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استنادا إلى ملازمة عقليّة ، كما في حالة الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري.

إذ قد يقال بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدلّ دلالة التزاميّة عقليّة على إجزاء متعلّقه عن الواجب الواقعي على أساس وجود ملازمة بين جعله وبين نكتة تقتضي الإجزاء ، والتفصيل كما يلي :

قد يقال : إنّ الأصل المتقدّم وهو عدم إجزاء غير الواجب عن الواجب قد يخرج عنه في بعض الحالات لا بسبب وجود الدليل الخاصّ على الإجزاء ، فإنّ هذا لا كلام فيه ، وإنّما على أساس دعوى وجود ملازمة عقليّة تقتضي الإجزاء.

ومن هنا يقال : إنّ الأمر الاضطراري يجزي عن الأمر الاختياري ، من قبيل الصلاة من جلوس فإنّ المكلّف مأمور بالصلاة من قيام ، ولكنّه إذا اضطرّ إلى الجلوس في بعض الحالات فصلّى بهذه الحالة أجزأه عن الأمر الاختياري ، ولا يجب عليه الإعادة ولا القضاء.

وهكذا يقال بالنسبة للأمر الظاهري فإنّه يجزي عن الأمر الواقعي ، كما إذا عمل بالأمارة أو بالأصل ثمّ انكشف له الواقع فيما بعد أو انكشف خلاف ما عمل ، فإنّه يقال بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

والإجزاء في هذين الموردين بما أنّه ليس على القاعدة والأصل اللفظي على خلافه احتاج إلى دليل ، وبما أنّ الدليل الخاصّ من آية أو رواية ليس موجودا ، فيكون المدرك لذلك هو الدليل العقلي اللبّي ، فيقال : إنّ العقل يحكم بالتلازم بين العمل بالأمر الاضطراري أو الظاهري وبين الإجزاء. وهذا ما يسمّى بقاعدة الإجزاء ، وهو ما سوف نبحث عنه في مقامنا.

ص: 310

والبحث ينصبّ في كلا المقامين عن إبراز النكتة والملاك الذي من أجله يقال بالملازمة العقليّة الدالّة على الإجزاء. ومن هنا كان لا بدّ من تفصيل البحث حول الأمرين كلّ على حدة.

* * *

ص: 311

ص: 312

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا

ص: 313

ص: 314

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا

إذا تعذّر الواجب الأصلي على المكلّف فأمر بالميسور اضطرارا ، كالعاجز عن القيام تشرّع في حقّه الصلاة من جلوس ، فتارة يكون الأمر الاضطراري مقيّدا باستمرار العذر في تمام الوقت ، وأخرى يكون ثابتا بمجرّد عدم التمكّن في أوّل الوقت.

المقام الأوّل : في دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا.

فهل العقل يحكم بإجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري لتثبت الدلالة العقليّة الالتزاميّة بعد أن فرضنا كون الدليل اللفظي مطلقا وغير مقيّد بما يستفاد منه الإجزاء شرعا ، أم لا يحكم بذلك؟

فإذا فرضنا المكلّف قد عجز عن بعض أجزاء الصلاة كالركوع أو القيام فصلّى من جلوس مثلا استنادا إلى ما ورد من « إنّ الميسور لا يسقط بالمعسور » (1) أو إلى ما ورد من أنّ ( ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه أو جلّه ) فهل صلاته الاضطرارية هذه تجزيه عن الصلاة الاختياريّة سواء في الوقت أم خارجه أو لا؟ وهنا يوجد حالتان :

الأولى : أن يفرض كون الأمر الاضطراري الموجّه إلى المكلّف مقيّدا باستمرار العذر في تمام الوقت ، بمعنى أنّ العذر إذا ارتفع في الوقت فيكون موضوع الأمر الاضطراري منتفيا من أوّل الأمر ولا يكون المكلّف مخاطبا به واقعا وحقيقة ، وإن اعتقد ذلك بداية إلا أنّه ينكشف له الواقع حين ارتفاع العذر وأنّه كان مخطئا.

وأمّا إذا لم يرتفع العذر فموضوع الأمر الاضطراري ثابت حقيقة فهل يجزيه فيما لو ارتفع بعد الوقت أم لا؟ وهكذا الحال بالنسبة لما إذا ارتفع في الأثناء فهل يجزيه أم لا؟

ص: 315


1- المحاسن 2 : 644 ، عوالي اللآلئ 1 : 20 ، و 4 : 58 ، بلفظ : لا يترك الميسور بالمعسور

الثانية : أن يفرض أنّ الأمر الاضطراري ثابت بمجرّد طروّ العذر ولا يشترط فيه استمرار العذر إلى آخر الوقت ، فهنا إذا صلّى المكلّف في أوّل الوقت ثمّ ارتفع عذره في الأثناء أو بعد الوقت ، فهل يجزيه ما أتى به أم لا بدّ من الإعادة أو القضاء؟

ثمّ هل يجوز له البدار إلى امتثال الأمر الاضطراري ، أم يجب عليه الانتظار إلى آخر الوقت ، أو إلى حين اليأس من البرء من العذر؟

وسوف نتناول كلّ واحدة من هاتين الحالتين مع التفصيل بقدر الإمكان بين الشقوق الواردة في كلّ منهما.

ولنبدأ بالثاني فنقول : إذا بادر المريض فصلّى جالسا في أوّل الوقت ثمّ ارتفع العذر في أثناء الوقت ، فلا تجب عليه الإعادة.

والبرهان على ذلك : أنّ المفروض أنّ الصلاة من جلوس التي وقعت منه في أوّل الوقت كانت مصداقا للواجب بالأمر الاضطراري.

وحينئذ نتساءل : أنّ وجوبها هل هو تعييني أو تخييري؟

والجواب : هو أنّه تخييري ، ولا يحتمل أن يكون تعيينيّا ؛ لوضوح أنّ هذا المريض كان بإمكانه أن يؤخّر صلاته إلى آخر الوقت فيصلّي عن قيام.

وإذا كان وجوبها تخييريّا فهذا يعني وجود عدلين وبديلين يخيّر المكلّف بينهما.

الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الأمر الاضطراري ثابتا بمجرّد طروّ العذر.

فهنا إذا أخّر الصلاة إلى آخر الوقت فصلّى الصلاة الاضطراريّة فلا إشكال في الإجزاء ، وإنّما الكلام فيما لو بادر إلى الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت - بناء على جواز البدار - ثمّ ارتفع عذره في أثناء الوقت ، فهل تجب عليه الإعادة أو أنّها تجزي عن الصلاة الاختياريّة؟

والجواب عن ذلك : أنّها تجزي ولا تجب الإعادة ، والدليل على ذلك هو ما ذكره الميرزا من برهان حيث قال : إنّ الصلاة الاضطراريّة لا تخلو من أحد احتمالات أربعة :

1 - أن تكون وافية بتمام الغرض والملاك ، فهنا لا إشكال في الإجزاء ؛ لأنّ الإجزاء له ملاكان : أحدهما الإتيان بالمأمور به ، والآخر تحقيق الملاك ولو عن طريق آخر غير ما تعلّق به الأمر الاختياري.

ص: 316

2 - أن تكون وافية بأكثر الملاك والغرض ، والباقي لا يجب تحصيله ، وهنا أيضا يحكم بالإجزاء.

3 - أن تكون وافية ببعض الغرض ، ولكنّ الباقي لا يمكن تحصيله وتداركه ، وهنا يحكم بالإجزاء أيضا.

4 - أن تكون وافية ببعض الغرض ، والباقي يمكن تداركه وتحصيله ، وهذه هي التي يبحث في إجزائها وعدمه.

فيقال : إنّ الصلاة الاضطراريّة التي وقعت في أوّل الوقت كانت مصداقا للأمر الاضطراري ، وحينئذ نطرح التساؤل التالي : هل هذه الصلاة الاضطراريّة المأمور بها بالأمر الاضطراري واجبة تعيينيّا أم تخييريّا؟

والجواب : أنّها واجبة تخييريّا ، ولا يمكن أن تكون واجبة تعيينيّا ؛ لوضوح أنّ المكلّف لو لم يأت بها أوّل الوقت وانتظر إلى آخره لكان فعله صحيحا وجائزا ، بل هو أولى ؛ لأنّه لو انتظر إلى آخر الوقت فإمّا أن يزول عذره فيصلّي الصلاة الاختياريّة ، أو لا يزول كذلك فيصلّي الصلاة الاضطراريّة في آخره.

فالمتعيّن إذا كونها على نحو التخيير ، وحينئذ نسأل عن الأمر التخييري وأنّه دائر بين أي شيئين؟ لأنّ التخيير يفترض - لا محالة - وجود عدلين أو أكثر يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، وهنا يوجد احتمالان في هذا الأمر التخييري ، هما :

فإن كان هذان العدلان هما الصلاة الاضطراريّة والصلاة الاختياريّة ، فقد ثبت المطلوب ؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الواجب هو الجامع بين الصلاتين وقد حصل فلا موجب للإعادة.

وإن كان هذان العدلان هما مجموع الصلاتين من ناحية والصلاة الاختياريّة من ناحية أخرى ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يصلّي من جلوس أوّلا ومن قيام أخيرا ، وبين أن يقتصر على الصلاة من قيام في آخر الوقت ، فهذا تخيير بين الأقلّ والأكثر وهو مستحيل. وبهذا يتبرهن الإجزاء.

الاحتمال الأوّل : أن يكون الأمر التخييري دائرا بين الصلاة الاضطراريّة من جهة وبين الصلاة الاختياريّة من جهة ثانية ، فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يصلّي الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت أو أن يصبر وينتظر إلى آخر الوقت ، فإن زال عذره صلّى الصلاة الاختياريّة.

ص: 317

وعلى هذا الاحتمال يثبت المطلوب وهو الإجزاء ؛ لأنّه يكون قد أتى بأحد فردي الجامع المأمور به ، فيكون ممتثلا حقيقة فلا تجب عليه الإعادة.

الاحتمال الثاني : أن يكون المكلّف مخيّرا بين الصلاة الاضطراريّة والصلاة الاختياريّة من جهة وبين الصلاة الاختياريّة من جهة ثانية ، فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يصلّي الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت ثمّ إذا زال عذره صلّى الصلاة الاختياريّة ، وبين أن يصبر إلى آخر الوقت فيصلّي الصلاة الاختياريّة إذا زال عذره أو الصلاة الاضطراريّة إذا استمرّ عذره.

وعلى هذا الاحتمال يكون المكلّف مخيّرا بين الأقلّ والأكثر في الوجوب وهو مستحيل ؛ لأنّ فعل الأقلّ يستلزم سقوط الأمر لامتثاله ضمن أحد فرديه ، فيكون الأكثر تكليفا زائدا لا موجب له فيلغو ، أو لأنّ الأقلّ ضروري الوقوع على كلّ تقدير إمّا مستقلاّ أو ضمن الأكثر فيكون من التخيير بين المتناقضين وهو مستحيل.

ووجه الاستحالة : أنّه لا يمكن ارتفاع العدلين هنا ؛ لأنّه إمّا أن يصلّي الصلاة الاختياريّة أو الصلاة الاضطراريّة ، فالمكلّف إذا أوقع الصلاة الاضطراريّة يكون مخيّرا في إيقاع الزائد وعدم إيقاعه ، ومثل هكذا تخيير لا يكون له معنى محصّل فيلغو. وهكذا يتبرهن الإجزاء ؛ لأنّ التخيير يتعيّن في الاحتمال الأوّل دون الثاني.

هذا كلّه في الحالة الثانية.

وأما إذا كان الأمر الاضطراري مقيّدا باستيعاب العذر لتمام الوقت ، فتارة يصلّي المريض في أوّل الوقت ثمّ يرتفع عذره في الأثناء ، وأخرى يصلّي في جزء الوقت ويكون عذره مستوعبا للوقت حقّا ، ففي الحالة الأولى لا يقع ما أتى به مصداقا للواجب الاضطراري ، إذ لا أمر اضطراري في هذه الحالة ليبحث عن دلالته على الإجزاء ، وفي الحالة الثانية لا مجال للإعادة.

وأمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان الأمر الاضطراري مقيّدا باستمرار العذر إلى آخر الوقت.

فهنا إذا أخّر المكلّف الصلاة إلى آخر الوقت فصلّى الصلاة الاختياريّة أو الاضطراريّة كان ما أتى به مصداقا للواجب ؛ لأنّ عذره إذا ارتفع فصلّى الصلاة

ص: 318

الاختياريّة أو لم يرتفع فصلّى الصلاة الاضطراريّة يكون قد حقّق ما هو المطلوب منه واقعا.

وأمّا إذا بادر إلى الصلاة في أوّل وقتها أو في أثنائه - بناء على جواز البدار - فصلّى الصلاة الاضطراريّة ، فهنا تارة يرتفع عذره في الأثناء وأخرى يستمرّ إلى آخر الوقت ، فهنا حالتان :

ففي الحالة الأولى لا إشكال في لزوم الإعادة والإتيان بالصلاة الاختياريّة بعد زوال العذر في الوقت ؛ وذلك لأنّ الأمر الاضطراري كان مقيّدا باستمرار العذر واستيعابه لتمام الوقت وهذا القيد لم يتحقّق ؛ إذ المفروض زوال العذر في الوقت فيكشف زوال العذر عن عدم تعلّق الأمر الاضطراري بالصلاة الاضطراريّة التي أتى بها المكلّف ، وحينئذ لا يكون ما أتى مصداقا للمأمور به ، بل لا أمر بما أتى به واقعا وإنّما كان يتوهّم وجود الأمر.

وأمّا في الحالة الثانية فلا معنى لوجوب الإعادة ؛ إذ فرض استمرار العذر إلى تمام الوقت معناه أنّ الصلاة التي أتى بها كانت مصداقا للأمر الاضطراري وكان هو ثابتا على المكلّف ؛ لتحقّق قيده وهو استيعاب العذر لتمام الوقت ، ومع كون ما أتى به مصداقا للمأمور يحكم بالإجزاء ؛ لأنّه أحد ملاكيه كما تقدّم.

نعم ، يبحث هنا عن وجوب القضاء فيما إذا زال العذر بعد الوقت ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن يقع الكلام عن وجوب القضاء ، فقد يقال بعدم وجوب القضاء ؛ لأنّ الأمر الاضطراري يكشف عقلا عن وفاء متعلّقه بملاك الواجب الاختياري ؛ إذ لو لا ذلك لما أمر به ، ومع الوفاء لا فوت ليجب القضاء.

في وجوب القضاء : وقع الكلام في وجوب القضاء وعدمه فيما إذا زال العذر بعد الوقت ، وكان المكلّف قد أتى بوظيفة الأمر الاضطراري ، فهل يجب القضاء بعد الوقت أم لا؟

قد يقال : بعدم وجوب القضاء ؛ وذلك لأنّ ثبوت الأمر الاضطراري على المكلّف أثناء الوقت لازمه عقلا كونه وافيا بتمام الملاك والغرض الموجود في الأمر الاختياري أو بأكثر الملاك والباقي لا يجب تحصيله ، أو ببعض الملاك مع كون الباقي لا يمكن

ص: 319

تحصيله ، وإذا كان كذلك فيحكم بالإجزاء لتحقّق أحد ملاكيه ولو فرض أنّ الأمر الاضطراري لا يحصّل تمام الملاك ، بل بعضه وبعضه الآخر يمكن تحصيله لم يكن هناك معنى للأمر به تعيينا ، بل لا بدّ من ضمّ الأمر الاختياري إليه أيضا فيكون مكلّفا بالجامع بين الأقلّ والأكثر كما تقدّم وهو محال.

ولكن يرد على ذلك : أنّ الأمر الاضطراري يصحّ جعله في هذه الحالة إذا كانت الوظيفة الاضطراريّة وافية بجزء من ملاك الواقع مع بقاء جزء آخر مهم لا بدّ من استيفائه ، إذ في حالة من هذا القبيل يمكن للمولى أن يأمر بالوظيفة الاضطراريّة في الوقت إدراكا لذلك الجزء من الملاك في وقته الأصلي ثمّ يأمر بعد ذلك بالقضاء استيفاء للباقي ، فلا دلالة للأمر الاضطراري عقلا على الإجزاء في هذه الحالة.

ويجاب على ما ذكر بأن يفرض أنّ الأمر الاضطراري وافيا ببعض الملاك والغرض ، والبعض الآخر يمكن تحصيله وتداركه ويكون على نحو الإلزام ، فإنّه في هذه الحالة لا مانع من ثبوت القضاء.

وتوضيحه : أنّ الشارع لمّا لاحظ أنّ الأمر الاضطراري لا يفي إلا بجزء من الملاك الموجود في الأمر الاختياري ، وكان هناك جزء آخر من الملاك يجب تحصيله وتداركه لكونه مهمّا ويضرّ المولى فواته ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك أي مانع عقلا من صدور أمرين : أحدهما الأمر الاضطراري من أجل أن يحصل المكلّف به جزء الملاك في الوقت ، والآخر الأمر الاختياري بعد الوقت وبعد زوال العذر من أجل تحصيل ما تبقّى من الملاك ، بحيث يفرض أن ما تبقّى من الملاك يمكن تحصيله بعد الوقت.

وحينئذ لا يكون الأمر الاضطراري دالاّ على الإجزاء عقلا بمعنى عدم ثبوت القضاء ، وإن كان دالا على الإجزاء عقلا بمعنى عدم ثبوت الإعادة ، حيث تقدّم إنّ العذر إذا ارتفع في الوقت وفرض أنّ الأمر الاضطراري كان مقيّدا بمجرّد طروّ العذر فيجزي الأمر الاضطراري ؛ لأنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلى التخيير بين الأقلّ والأكثر وهو مستحيل.

وأمّا هنا فإنّ التخيير ليس بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يوجد تخيير أصلا ، وإنّما هناك

ص: 320

أمران تعيينيّان : أحدهما الصلاة الاضطرارية في الوقت ، والآخر الصلاة الاختياريّة بعد زوال العذر خارج الوقت.

ومنه يظهر أنّ الاستدلال بالملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر الاضطراري وبين الأجزاء غير تامّة ، ولذلك هنا يحتاج الفقيه إلى مراجعة الروايات والأدلّة التي دلّت على الأمرين ( الاضطراري والاختياري ) ، فإن أمكنه استظهار شيء منها يدلّ على نفي وجوب القضاء أو على ثبوت القضاء فهو ، وإلا تعيّن الرجوع إلى الأصل العملي وهو البراءة في المقام ؛ لأنّ وجوب القضاء تكليف زائد مشكوك ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

بل يبقى على الفقيه استظهار الحال من لسان دليل الأمر الاضطراري وإطلاقه ، فقد يستظهر منه الإجزاء لظهور لسانه في وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل ، أو ظهور حاله في أنّه في مقام بيان تمام ما يجب ابتداء وانتهاء ، فإنّ سكوته عن وجوب القضاء حينئذ يدلّ على عدمه.

كيفيّة الاستظهار : ذكرنا أنّ وجوب القضاء لا يمكن نفيه على أساس الملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر الاضطراري والإجزاء ، وقلنا بأنّه لا بدّ من الرجوع إلى الأدلّة ليستظهر منها الحال ، فتارة يستظهر من لسان الدليل نفي وجوب القضاء ، وأخرى لا يمكن استظهار ذلك ، بل يبقى مشكوكا.

أمّا في الحالة الثانية فيرجع إلى الأصل العملي في المقام وهو هنا البراءة ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد ، كما عن صاحب ( الكفاية ) وغيره ، ومنهم السيّد الشهيد.

وأمّا في الحالة الأولى فيمكن أن يستظهر نفي وجوب القضاء بأحد طريقين :

الأوّل : أن يستظهر من الدليل أي من دليل الأمر الاضطراري كونه بدلا عن الفعل الاختياري ؛ كما قال الميرزا ، فإنّ ظاهر البدليّة كون البدل وافيا بتمام الملاك والغرض من المبدل ، وهذا لا يكون مختصّا بحالة الاضطرار واستمرار العذر ، بل هو مطلق لما بعد زوال الاضطرار والعذر أيضا ، أي أنّه بدل عنه في تمام الموارد والحالات.

الثاني : أن يستظهر من دليل الأمر الاضطراري أنّ تمام الوظيفة الثابتة على المكلّف هو الفعل الذي يقوم به حال الاضطرار ، فيستفاد من مجموع الأمرين ( الاضطراري والاختياري ) ، أنّ الشارع يحدّد الوظيفة للمكلّف ابتداء وانتهاء في حالة العذر وفي

ص: 321

حالة عدم العذر ، فالشارع يبيّن للمكلّف وظيفته في هاتين الحالتين ، وما دام سكت عن وجوب القضاء فهو ليس دخيلا في الوظيفة لا ابتداء ولا انتهاء ؛ إذ لو كان داخلا لكان اللازم ذكر ما يدلّ عليه ، فسكوته عنه دليل على عدم إرادته ، وهذا تمسّك بالإطلاق المقامي.

فإذا تمّ شيء من هذين الاستظهارين كان وجوب القضاء منتفيا من خلال الدليل اللفظي نفسه ، وإلا رجعنا إلى الأصل العملي وقد قلنا أنّ نتيجته عدم وجوب القضاء أيضا (1).

ص: 322


1- لا يبعد كون استظهار البدليّة تامّا في نفسه ، ويكون لسان الدليل حينئذ هو لسان الحكومة والتوسعة بلحاظ الإجزاء. فيستفاد من مثل قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) [ النساء : ٤٣ ] أو قوله ٧ : التيمّم أحد الطهورين [ المقنع : ٩ ] أنّ التيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّه يؤدّي نفس الغرض والمصلحة منه خصوصا مع ملاحظة ما ورد من أنّه يكفي عشر سنين.

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا

اشارة

ص: 323

ص: 324

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا

قد تؤدّي الحجّة إلى تطبيق الواجب المعلوم على غير مصداقه الواقعي ، بأن تدلّ على أنّ الواجب صلاة الظهر مع أنّه صلاة الجمعة ، أو على أنّ الثوب طاهر مع أنّه نجس.

فإذا أتى المكلّف بالوظيفة وفقا للحجّة الظاهريّة فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجة إلى قيام دليل خاصّ على الإجزاء ، أو يحتاج إثبات الإجزاء في كلّ مورد إلى دليل خاصّ ، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء؟

المقام الثاني : في دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا.

فإذا فرضنا قيام الأمارة أو الأصل العملي لدى المكلّف فعمل على طبقهما ثمّ انكشف له الواقع وأنّه مخالف لهما ، فهل يجزيه ذلك أم لا بدّ من الإعادة في الوقت؟ أو يجب القضاء خارج الوقت؟

فإذا دلّ خبر الثقة على وجوب الظهر في يوم الجمعة فصلّى الظهر ثمّ انكشف له الواقع ، وأنّ الواجب يوم الجمعة هو صلاة الجمعة لا الظهر ، فهل تجب عليه إعادة الصلاة أو قضاء الصلوات التي صلاّها أم لا؟

وإذا تمسّك بأصالة الطهارة أو الحلّيّة وطبّقها في مورد على طهارة الثوب المشكوك فصلّى فيه ، ثمّ انكشف له الواقع وأنّه نجس ، فهل تجب الإعادة أو القضاء أم لا؟

وفي كلّ هذه الموارد يكون المكلّف قد طبّق الأمارة أو الأصل على خلاف الواقع ، ويكون قد امتثل للمأمور به في غير مصداقه الواقعي ، وهنا يأتي البحث عن الإجزاء وعدمه ، فهل هناك ملازمة عقليّة بين ثبوت الأمر الظاهري وبين الإجزاء ، أو لا يوجد مثل هذه الملازمة؟

فإن قيل بوجود الملازمة العقليّة حكم بالإجزاء ، وإن أنكر وجود الملازمة كان لا بدّ

ص: 325

من اكتشاف الإجزاء على أساس استظهاري من نفس دليل الحكم الظاهري ، وإن لم يوجد الدليل الاستظهاري أيضا رجعنا إلى الأصل الأوّلي في المسألة وهو عدم الإجزاء ؛ لأنّ إجزاء غير المأمور به من المأمور به يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه خلاف تحقّق الإطاعة والامتثال للأمر المولوي. ولذلك سوف نستعرض الأقوال في هذه المسألة مع أدلّة كلّ واحد منها فنقول :

قد يقال بالإجزاء بدعوى الملازمة العقليّة بين الأمر الظاهري وبينه ؛ لأنّ الأمر الظاهري في حالات المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحة في مورده على نحو يستوفي به الملاك الواقعي الذي يفوّت على المكلّف بسبب التعبّد بالحجّة الظاهريّة ، وذلك ببرهان : أنّه لو لا افتراض مصلحة من هذا القبيل لكان جعل الأمر الظاهري قبيحا ؛ لأنّه يكون مفوّتا للمصلحة على المكلّف وملقيا له في المفسدة ، ومع اكتشاف مصلحة من هذا القبيل يتعيّن الإجزاء فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء لحصول الملاك الواقعي واستيفائه ، والبناء على الاكتشاف المذكور يسمّى بالقول بالسببيّة في جعل الحجّيّة ، بمعنى أنّ الأمارة الحجّة تكون سببا في حدوث ملاك في موردها.

القول الأوّل : هو إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي عقلا على أساس مسلك السببيّة.

وهذا القول مبني على أنّ الحكم الظاهري مجعول على أساس المصلحة الموجودة فيه ، وهو ما يسمّى بالسببيّة.

وتوضيح ذلك : تقدّم سابقا أنّه توجد إشكالات على جعل الحكم الظاهري يطلق عليها إشكالات ابن قبة ، وكانت تتمحور في أنّ جعل الحكم الظاهري مستحيل ؛ لأنّه يؤدّي إلى أحد محاذير ثلاثة :

الأول : لزوم اجتماع الضدّين في حالة المخالفة بين الحكم الظاهري والواقعي ، أو لزوم اجتماع المثلين في حالة توافقهما.

الثاني : لزوم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فيما إذا كان الحكم الظاهري مخالفا للواقع ؛ لأنّ المصالح والمفاسد - بناء على مذهب العدليّة - واقعيّة ومشتركة بين العالم والجاهل.

ص: 326

الثالث : عدم إمكان تنجّز التكليف المشكوك ؛ لأنّ الحكم الظاهري مورده الشكّ ومع الشكّ تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد أجيب عن هذه الإشكالات بأجوبة عديدة ؛ كان منها القول بالسببيّة من جعل الحكم الظاهري ، بمعنى أنّ الشارع عند ما جعل الحكم الظاهري فقد جعله لمصلحة فيه ، فيكون الحكم الظاهري سببا لحدوث تلك المصلحة ، وعلى أساس هذه المصلحة المفترضة الوجود سوف تندفع شبهات ابن قبة كما ذكر في محلّه.

وفي مقامنا يقال : إنّ جعل السببيّة في الحكم الظاهري لن يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة ؛ لأنّ المكلّف إذا أخذ بالحكم الظاهري في مورده فسوف تكون هناك مصلحة في هذا الحكم مساوية أو لا تقلّ أهمّيّة عن مصلحة الواقع ، وبها يتدارك ما فات من مصلحة الواقع.

وبالتالي فإنّ الملاك الواقعي الذي فات المكلّف عند انكشاف الخطأ في الحكم الظاهري وكون الواقع على خلافه كان متداركا ، وبالتالي لا يكون هناك تفويت للملاك وإن لم يمتثل المكلّف المأمور به إلا أنّ هذا يكفي ؛ لأنّ أحد ملاكي الإجزاء هو تحصيل الغرض والملاك من الأمر ولو من غير طريق الإتيان بالمتعلّق والمأمور به.

إذا جعل السببيّة يؤدّي إلى الإجزاء لا محالة ، والدليل على ذلك هو أنّ جعل الحكم الظاهري من دون أن يفترض فيه هذه المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، فسوف يكون جعله قبيحا ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحاذير التي ذكرها ابن قبة فيكون جعله قبيحا ومستحيلا صدوره من الشارع ، فلمّا كان الحكم الظاهري ثابتا وصادرا من الشارع كشف ذلك عن وجود تلك المصلحة ، وبهذه المصلحة يحصّل المكلّف الملاك فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء ؛ لأنّه لا موضوع لهما (1).

ص: 327


1- هذه السببيّة قال بها بعض أصحابنا ، وفي مقابلها يوجد نحوان من السببيّة : أحدهما : السببيّة التي قال بها الأشاعرة والتي تفترض عدم وجود حكم واقعي في مرتبة سابقة عن الحكم الظاهري ، وإنّما الواقع هو ما أدّى إليه الدليل. والآخر : السببيّة التي قال بها المعتزلة ، والتي تفترض وجود أحكام واقعيّة ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة والدليل على خلافها ، وإلا فإنّها تتبدّل. وعلى أساس هذين القولين من السببيّة سوف يكون الحكم الظاهري مجزيا بلا إشكال ، إلا أنّ المبنيين يؤدّيان إلى التصويب وهو باطل جزما ؛ لأنّ الأحكام مشتركة بين العالم ... والجاهل بحكم العقل ولإطلاقات الأدلّة بحسب ظاهرها. وأمّا هذا القول فهو وإن كان يؤدّي إلى القول بالإجزاء لكنّه يؤدّي إلى التصويب فيمتنع.

ويرد على ذلك :

أوّلا : أنّ الأحكام الظاهريّة - على ما تقدّم (1) - أحكام طريقيّة لم تنشأ من مصالح وملاكات في متعلّقاتها ، بل من نفس ملاكات الأحكام الواقعيّة ، وقد مرّ دفع محذور استلزام الأحكام الظاهريّة لتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.

ولو كانت الأحكام الظاهريّة ناشئة من مصالح وملاكات على ما ادّعي للزم التصويب ، إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهريّة بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي مختصّا بمتعلّقه الأوّل ، بل ينقلب - لا محالة - ويتعلّق بالجامع بين الأمرين ، وهذا نحو من التصويب.

الإيراد الأول على القول المذكور : إنّ الصحيح في جعل الأحكام الظاهريّة هو ما ذكرناه سابقا من أنّها أحكام طريقيّة وليست أحكاما حقيقيّة ؛ وذلك لأنّها مجرّد خطابات تعيّن ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فإنّ الشارع في هذه الحالة يجعل الحكم الظاهري لأجل حلّ هذه المشكلة التي يواجهها المكلّف.

ومن هنا لم يكن في الأحكام الظاهريّة ملاكات ومصالح مستقلّة وزائدة عن الحكم الواقعي ، بل ملاكاتها هي نفس ملاكات الواقع.

وعلى هذا المسلك - والذي هو المختار - سوف تنحلّ شبهات ابن قبة ؛ لأنّه لن يكون هناك اجتماع للمثلين أو للضدّين ؛ إذ لا يوجد حكم آخر سوى الحكم الواقعي ، وليس الحكم الظاهري إلا طريقا إليه فقد يصيبه وقد يخطأه.

ولن يكون هناك تفويت للمصلحة أو إلقاء في المفسدة ؛ لأنّ تفويت مصلحة الأمر الواقعي كانت رعاية لغرض أهمّ ، وهي الحفاظ على الملاكات الواقعيّة التي لاحظ أهمّيّتها على تلك المصلحة ؛ كما تقدّم شرحه مفصلا عند الكلام على حقيقة الحكم الظاهري.

ص: 328


1- في هذه الحلقة ، عند البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهرية.

وعليه ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع كشف ذلك عن أنّ الملاكات الواقعيّة بنظر الشارع ليست على طبق ما أدّت إليه الأمارة ، ممّا يعني أنّ الملاك لم يحصل ولم يتدارك فلا إجزاء.

وأمّا على القول بالسببيّة فيلزم التصويب ؛ وذلك لأنّه يفترض أنّ الحكم الظاهري يسبّب وجود مصلحة في متعلّقه ، وحينئذ لا بدّ من فرض كون هذه المصلحة مساوية أو أهمّ من مصلحة الواقع ؛ لأنّها إن كانت أقلّ أهمّيّة منها فمحذور تفويت المصلحة الذي طرحه ابن قبة يبقى على حاله. وعليه ، فما دامت المصلحة وافية بمصلحة الواقع فلن يكون هناك تفويت للملاك والغرض ، ومع عدم التفويت يحكم بالإجزاء لتحقّق ملاكه الثاني وهو استيفاء الغرض والملاك.

إلا أنّ هذا يؤدّي إلى أن يكون الوجوب الواقعي متعلّقا إمّا بالإتيان بالحكم الواقعي ، وإمّا بالإتيان بالحكم الظاهري على نحو التخيير ، فينقلب الأمر الواقعي من كونه تعيينيّا إلى كونه تخييريّا ومتعلّقا بالجامع بين الأمرين. وهذا لا يمكن أن يلتزم به ؛ لأنّ هذا الجامع يكون متعلّقه إمّا الحكم الواقعي وإمّا الأمارة المخالفة للواقع ، فإذا قامت لديه الأمارة فإن كانت موافقة للواقع فيكون قد أحرز الحكم الواقعي ، وإن كانت مخالفة للواقع فيكون قد امتثل الحكم الظاهري ، وهذا يفترض وجود حكم واقعي تخالفه الأمارة أو تصيبه ، ممّا يعني أنّ الجعل الواقعي تعييني في نفسه قبل الأمر بالجامع.

وحينئذ يستحيل وصول الأمر بالجامع إلى المكلّف ؛ لأنّ وصول الشقّ الثاني منه وهو الأمارة المخالفة للواقع يتوقّف على إحراز مخالفتها ، فإن أحرز مخالفتها لم يكن له العمل بها قطعا ، وإن لم يحرز مخالفتها لم يحرز وصول الشقّ الثاني من طرفي الجامع ، وإذا أحرز موافقتها فهو يعلم بالواقع أي بالشقّ الأوّل.

وبهذا يظهر أنّ الأمر بالجامع يؤدّي دائما إلى ثبوت الواقع التعييني دون الواقع التخييري الذي يلزم منه الإجزاء.

وعلى فرض ثبوت الواقع التخييري الذي لازمه الإجزاء فهذا لا يتمّ إلا بنحو من التصويب ؛ لأنّ التبدّل من التعيين إلى التخيير نحو من أنحاء التصويب.

وثانيا : إذا سلّمنا أنّ ما يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهريّة من مصالح

ص: 329

لا بدّ أن تضمن الحجّة تداركه ، إلا أنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحة إلا بقدر ما يفوت بسببها ، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجّة إلا فضيلة الصلاة في أوّل وقتها مثلا لا أصل ملاك الواقع لإمكان استيفائهما معا ، وهذا يعني أنّ المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبّد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلّف بهذا السلوك ، وليست قائمة بالمتعلّق وبالوظيفة الظاهريّة بذاتها ، فإذا انقطع التعبّد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة.

وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكيّة ، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلا.

الإيراد الثاني على القول بالإجزاء : ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الأحكام الظاهريّة مجعولة على أساس المصلحة السلوكيّة ، بمعنى أنّ في سلوك الأمارة مصلحة ؛ إذ لو لم يكن فيها أيّة مصلحة لكان جعلها لغوا ، وعليه فيستكشف من جعل الأمارات أو الحكم الظاهري عموما وجود تلك المصلحة.

فإذا سلك المكلّف على طبق الأمارة ثمّ انكشف له أنّها مخالفة للواقع ، فهذا الانكشاف تارة يكون في أثناء الوقت وأخرى يكون خارجه.

فإن انكشف الخلاف في الوقت كان معناه أنّ المصلحة السلوكيّة في الأمارة لم تكن بمقدار مطابق لتمام مصلحة الواقع ، وإنّما بمقدار ما سلكه على طبق الأمارة وهو جزء من مصلحة الواقع ، وأمّا الجزء الباقي فالمفروض أنّه يمكن تحصيله ؛ لأنّ الوقت لا يزال باقيا فيأتي بالحكم الواقعي في الوقت ، وهذا معناه عدم الإجزاء.

وإن انكشف الخلاف بعد الوقت فهذا معناه أنّ المصلحة السلوكيّة على طبق الأمارة كانت مستوفية لتمام مصلحة الواقع ، ولكن هذا الاستيفاء كان متعلّقا بسلوك الأمارة لا بنفس متعلّق الحكم الواقعي ؛ لأنّ المفروض أنّ ما أتى به من فعل لم يكن هو المأمور به واقعا لفرض انكشاف الخطأ بعد الوقت ، وعلى هذا تكون مصلحة الواقع لا تزال فعليّة ؛ لأنّ المكلّف لم يأت بالمأمور به ولم يحقّق ملاكه ، ومن هنا كان لا بدّ من القضاء خارج الوقت ، وهو معنى عدم الإجزاء.

وبتعبير آخر : إنّ سلوك الأمارة لا بدّ أن يتضمّن وجود مصلحة في السلوك بقدر ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك الأمارة ، وإلا لكان جعلها لغوا.

ص: 330

ولكن لا يلزم من وجود المصلحة السلوكيّة الإجزاء ، سواء حصل انكشاف الخطأ في الوقت أم في خارجه ؛ وذلك لأنّه إذا انكشف الخلاف في الوقت فصلّى الظهر مثلا ثمّ انكشف له وجوب الجمعة لا الظهر ، كان سلوكه للأمارة قد فوّت عليه المصلحة الواقعيّة لفضيلة الصلاة في أوّل الوقت وهذا المقدار الفائت يجب أن يضمنه سلوك الأمارة.

وأمّا الأكثر من ذلك فهو يمكن تداركه واستيفاؤه وذلك بالإتيان بالأمر الواقعي وبمتعلّقه ، فإنّ سلوك الأمارة لا يضمن هذا المقدار ؛ لأنّ المصلحة لم تكن في المتعلّق وإنّما التعبّد كان بسلوك الأمارة وكانت المصلحة مترتّبة على السلوك فقط ، فإذا انقطع التعبّد بسلوك الأمارة لفرض انكشاف الواقع انقطع ما تجبره الأمارة بسلوكها ، وبقيت المصلحة الواقعيّة المتعلّقة بالفعل المطلوب واقعا فعليّة ويمكن تداركها واستيفاؤها فتجب ، ولذلك لا يتحقّق الإجزاء.

وهكذا فيما لو كان الانكشاف خارج الوقت ، فإنّ سلوك الأمارة وإن ضمن الخسارة الحاصلة بفوات الوقت إلا أنّ المصلحة المترتّبة على الفعل المأمور به واقعا لا تزال فعليّة ؛ لأنّ المأمور به لم يتحقّق ولأنّ ملاكه لم يحصّل ، وإنّما حصّل المكلّف ملاكا ومصلحة بسلوكه الأمارة مطابقا لما خسره بفوات الوقت فقط.

وبكلمة ثانية : أنّ سلوك الأمارة يضمن الخسارة ، والخسارة هنا كانت للوقت بتمامه ، وأمّا المأمور به الواقعي أي متعلّق الأمر الواقعي فهذا يمكنه أن يستوفي مصلحته ولو بعد الوقت فتجب ، وهذا معناه عدم الإجزاء أيضا.

نعم ، يبقى إمكان دعوى الإجزاء بتوهّم حكومة بعض أدلّة الحجّيّة على أدلّة الأحكام الواقعيّة وتوسعتها لموضوعها ، وقد أوضحنا ذلك سابقا.

وهو إجزاء مبنيّ على الاستظهار من لسان دليل الحجّيّة ، ولا علاقة له بالملازمة العقليّة.

ويأتي دفع هذا التوهّم عند التمييز بين الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة في مباحث التعارض إن شاء اللّه تعالى.

القول الثاني : الإجزاء على أساس الحكومة ، وهو دليل استظهاري لا عقلي.

ذهب الآخوند وغيره إلى أنّه يمكن القول بالإجزاء بالنسبة لبعض أدلّة الأصول

ص: 331

العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، على أساس استكشاف ذلك من أدلّتها الظاهرة في الحكومة.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ الحكم الظاهري يقسّم إلى الأمارات ، والأصول.

والأصول تنقسم إلى الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، والأصول الجارية في الشبهات الحكميّة.

أمّا الأمارات والأصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة - كالبراءة والاحتياط - فهي لا تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ؛ ولذلك فهي على القاعدة لا تقتضي الإجزاء فيما لو انكشف كون الواقع على خلافها ، بل لا بدّ من الإعادة في الوقت ، أو القضاء خارجه إن استفيد ذلك من نفس الدليل أو من دليل خاصّ.

وأمّا الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة - كأصالة الطهارة أو الحليّة واستصحابهما - فهي تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ؛ بمعنى أنّه يستفاد من أدلّتها كونها حاكمة على أدلّة الأحكام الواقعيّة التي اشترط فيها الطهارة أو الحلّيّة ، ومعنى كونها حاكمة أنّها توسّع دائرة الشرطيّة لتشمل الأعمّ من الطهارة الواقعيّة أو الطهارة الظاهريّة.

وعليه ، فمن يصلّي في الثوب المشكوكة طهارته - بناء على جريان أصالة الطهارة فيه أو على أساس استصحابها فيه - يكون قد أتى بأحد فردي هذه الشرطيّة ، ولكنّه يعتقد - بناء على عدم علمه بمخالفة الأصل للواقع - بأنّه يأتي بالطهارة الواقعيّة لا الظاهريّة ، إلا أنّ هذا الاعتقاد لا يضرّ ؛ لأنّه خطأ في التطبيق فقط لا في الامتثال. ولهذا لو انكشف خلاف الواقع لم تجب عليه الإعادة فضلا عن القضاء ؛ لأنّه قد امتثل أحد مصداقي الشرطيّة.

والفرق بين هذا وما تقدّم من الأمارات والأصول الجارية في الشبهات الحكميّة هو استظهار الحكومة من أدلّة هذا القسم دونها ، فإنّ استظهار الحكومة معناه إيجاد فرد من موضوع الشرطيّة ، فالشرط متحقّق ، بخلاف الأمارات والأصول الحكميّة فإنّ لسانها ليس لسان الحكومة ، بل هي تفيد أنّ هذا هو الفرد الواقعي ؛ لأنّ الأمارات كاشفة عن الواقع أي أنّ المجعول فيها هو المنجّزيّة والمعذّريّة فهي تحرز الواقع لدى المكلّف ، فإذا انكشف كون الواقع على خلافها تبيّن أنّه لم يأت بالفرد المأمور به واقعا فتجب عليه الإعادة أو القضاء.

ص: 332

ومثلها الأصول الجارية في الشبهات الحكميّة كالبراءة أو الاحتياط ، فإنّ لسانها لسان تسجيل الوظيفة العمليّة على المكلّف أي التنجيز أو التعذير فقط.

هذا حاصل ما يمكن أن يستفاد منه ، وعلى أساسه يثبت الإجزاء ولا تجب الإعادة ولا القضاء سواء انكشف الخلاف في الوقت أم خارجه.

وهذا الوجه - كما قلنا - استظهاري وليس مبنيّا على أساس الملازمة العقليّة ؛ لأنّه يستفيد الإجزاء من خلال استفادة الحكومة من لسان الدليل ، فإن تمّ فهو وإلا رجعنا إلى الأصل الأوّلي وهو عدم الإجزاء.

والصحيح عدم تماميّة هذا الوجه ، وذلك إذا عرفنا أنّ الحكومة تنقسم إلى قسمين. الحكومة الظاهريّة ، والحكومة الواقعيّة.

أمّا الحكومة الظاهريّة : فهي التوسعة أو التضييق في الحكم الواقعي ، بحيث يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك بأن يؤخذ الشكّ في الحكم الواقعي في الدليل الحاكم ، فهذا يجعله في طول الدليل المحكوم ، وهذا معناه أنّ الدليل الحاكم يؤثّر أثره من التوسعة أو التضييق ما دام عنوان الشكّ موجودا ، وأمّا إذا ارتفع عنوان الشكّ وحصل العلم لدى المكلّف فإنّ هذا الأثر ينتهي ويبقى الحكم الواقعي على حاله.

وأمّا الحكومة الواقعيّة فهي التوسعة أو التضييق في الحكم الواقعي ، من دون أن يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك بأن لا يكون المأخوذ فيه عنوان الشكّ في الحكم الواقعي ، فحينئذ يكون الدليل الحاكم مؤثّرا ويترتّب عليه الآثار الواقعيّة سواء كان الشكّ موجودا أم ارتفع بعد ذلك.

ففي النحو الأوّل لا يحكم بالإجزاء فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت أو خارجه ؛ لأنّه بانكشاف الخلاف يتبيّن أنّ الدليل الحاكم لم تكن الآثار التي رتّبها على الحكم الواقعي صحيحة ؛ لأنّه إنّما رتّبها في صورة الشكّ ولكن بشرط أن يستمرّ هذا العنوان ولا ينكشف الواقع على خلافه. والمفروض أنّه انكشف خلافه فينكشف أنّ ترتّب الآثار لم يكن صحيحا ، وهذا معناه أنّ الأمر الواقعي لم يمتثل ولا يزال باقيا على حاله مع فعليّته فتجب الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه على القول بأنّه يستفاد من نفس الدليل.

ص: 333

وأمّا في النحو الثاني من الحكومة وهو الحكومة الواقعيّة فيحكم بالإجزاء ؛ لأنّ ترتّب الآثار لم يكن مشروطا ببقاء عنوان الشكّ ، كما في مثل : « الطواف في البيت صلاة » أو « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّه لم يؤخذ في لسانه عنوان الشكّ في شرطيّة الطهارة للطواف أو عنوان الشكّ في الربا بين الأب وابنه ، ولذلك فهو حكومة واقعيّة. ففي المثال الأوّل يوسّع دائرة الشرطيّة لتشمل الصلاة والطواف معا حقيقة وواقعا ، بينما في المثال الثاني يضيّق دائرة الربا ؛ ليخرج منها ما كان بين الأب وابنه حقيقة وواقعا أيضا.

وفي مقامنا نقول : إنّ الأصول الموضوعيّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة والتي ادّعى صاحب ( الكفاية ) حكومتها وإجزائها وهي من نوع الحكومة الظاهريّة التي يكون فيها الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك لأنّه قد أخذ عنوان الشكّ في أدلّتها ، فمثلا قاعدة الطهارة تستفاد من قوله علیه السلام : « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه نجس » أو « قذر » ، وقاعدة الحلّيّة تستفاد من قوله علیه السلام : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » أو « حتّى تعرف الحرام » منه بعينه ».

ومن الواضح أخذ عنوان الشكّ وعدم العلم فيهما ، ممّا يعني أنّ حكومتهما - لو سلّمت - فهي حكومة ظاهريّة لا تفيد أكثر من ترتيب الآثار على الطهارة وعدم النجاسة أو على الحلّيّة وعدم الحرمة ما دام الشكّ موجودا وباقيا ، وأمّا مع انكشاف الخلاف فهي تكشف عن عدم ترتّب تلك الآثار من أوّل الأمر ، وهذا لازمه أنّه قد صلّى مثلا في الثوب النجس ممّا يعني أنّه لم يمتثل الحكم الواقعي ، فلا إجزاء (1).

ص: 334


1- هذا كلّه فيما إذا كان مراد صاحب ( الكفاية ) هو الحكومة. ولكن قد يقال : إنّ مراده هو الورود بدليل أنّه عرّف الحكومة بالحكومة اللفظيّة التي تستخدم فيها أدوات التفسير من قبيل : ( أعني وأي وأقصد ومرادي ) ... إلى آخره ، فعلى هذا يكون الدليل الوارد موسّعا حقيقة وواقعا للدليل المورود عليه _ كما سيأتي في بحث التعارض _ ، وحيث لا يشترط في الدليل الوارد النظر إلى الدليل المورود فيصحّ ترتيب الآثار الواقعيّة من دون توقّف على عنوان الشكّ. إلا أنّه مع ذلك لا يمكن أن يستفاد من أدلة الطهارة أو الحلّيّة الورود ؛ لأنّ لسانها ظاهر في التنزيل والحكومة الظاهريّة.

امتناع اجتماع الأمر والنهي

اشارة

ص: 335

ص: 336

امتناع اجتماع الأمر والنهي

لا شكّ في التضادّ بين الأحكام التكليفيّة الواقعيّة ، وعلى هذا الأساس يمتنع اجتماع الأمر والنهي ؛ لتضادّهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك ، وبلحاظ النتائج وعالم الامتثال.

أمّا الأوّل فلأنّ مبادئ الأمر هي المصلحة والمحبوبيّة ، ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضيّة.

وأما الثاني فلضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما معا وعدم إمكان الترتّب بينهما ، وقد سبق في مباحث القدرة (1) أنّه كلّما ضاقت قدرة المكلّف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالإمكان الترتّب بين أمريهما وحكميهما امتنع جعل الحكمين.

تمهيد البحث : تقدّم فيما سبق أنّ الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها ، والتضادّ فيها إنّما يكون بلحاظ عالم المبادئ والملاكات وليس بلحاظ الاعتبار ، فإنّ الاعتبار مجرّدا عن المبادئ والملاكات يكون خاليا عن أيّ مضمون فهو سهل المئونة ، فالوجوب والحرمة مثلا إنّما يتحقّق التضادّ بينهما بما يحمله كلّ منهما من ملاكات ومبادئ ، وليس بين اعتبار الوجوب والحرمة مجرّدين.

وعلى هذا الأساس كان اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بحيث يكونان متعلّقين بعنوانين متّحدين ذاتا ومصداقا مستحيلا للتضادّ بينهما من جهتين :

الأولى : بلحاظ عالم المبادئ والملاكات ، فإنّ الأمر في هذا العالم : عبارة عن المصلحة والمحبوبيّة ، بينما النهي عبارة : عن المفسدة والمبغوضيّة.

ص: 337


1- ضمن بحث شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ من أبحاث الدليل العقلي تحت عنوان : ما هو الضدّ.

ومن الواضح أنّ اجتماع المصلحة والمفسدة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة على شيء واحد ذاتا ومصداقا مستحيل ؛ إذ لا يمكن أن يكون واجدا للمصلحة والمفسدة معا ، أو للمحبوبيّة والمبغوضيّة معا. ولهذا كان اجتماع الضدّين مع توفّر سائر الحيثيّات والجهات مستحيلا.

الثانية : بلحاظ عالم النتائج والامتثال ، فإنّ الأمر يتطلّب من المكلّف التحرّك نحو الفعل ولزوم إيجاد متعلّقه وتحقيقه ، بينما النهي يتطلّب من المكلّف الامتناع والانزجار عن الفعل بمعنى عدم إيجاده وتحقيقه.

ومن الواضح أنّ المكلّف لا يمكنه في آن واحد أن يتحرّك نحو إيجاد شيء ولا يتحرّك نحوه ؛ لأنّ قدرة المكلّف إمّا أن يصرفها في هذا أو ذاك ولا يمكنه أن يصرفها فيهما معا ؛ لضيق قدرته عن ذلك ، فيمتنع اجتماعهما لذلك.

ولا يقال هنا بأنّ المكلّف لمّا كانت قدرته لا تتّسع إلا لأحدهما فقط فيكون مأمورا بكلا التكليفين على نحو الترتّب ، بمعنى أنّه إذا عصى الأهمّ أو المساوي كان الآخر فعليّا ، كما هو الحال في سائر الموارد التي تضيق قدرة المكلّف عن امتثال التكليفين كالصلاة والإزالة حيث يكون مأمورا بهما بنحو الترتّب ، أي مشروطا بترك أو عصيان الأهمّ أو المساوي.

لأنّه يجاب عن ذلك : أنّ الترتّب إنّما يمكن فرضه فيما إذا كان هناك تكليفان متعلّقان بموضوعين متغايرين ذاتا ومصداقا كالصلاة والإزالة ، فإنّ الصلاة مغايرة للإزالة مفهوما ومصداقا ، غاية الأمر أنّ المكلّف لمّا ضاق وقت الصلاة لم يمكنه إلا امتثال أحدهما فضاقت قدرته عن امتثالهما معا لذلك ، وإلا فلو كان الوقت متّسعا لامتثلهما معا من دون أي محذور.

وأمّا هنا فالأمر والنهي لمّا كانا متعلّقين بشيء واحد من جهة المفهوم والمصداق ، فضيق قدرة المكلّف ثابتة سواء كان الوقت متّسعا أم ضيّقا ؛ لأنّ التمانع والتضادّ بينهما في هذه الحالة ذاتي وليس عرضيّا ، ولذلك لا يمكن أن يكلّف بهما ولو بنحو مشروط ؛ لأنّ أحدهما ضروري الوقوع والتحقّق ، فإنّه إمّا أن يتحرّك أو لا يتحرّك ولا يوجد شيء آخر بينهما ، بخلاف الإزالة والصلاة فإنّه يمكنه مخالفتهما معا بأن يفعل شيئا آخر غير الصلاة والإزالة.

ص: 338

والحاصل : أنّ الملاك في التضادّ بين الأمر والنهي أحد أمرين :

الأوّل : التنافي والتضادّ بلحاظ المبادئ والملاكات ، أي المصلحة والمفسدة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة.

الثاني : التنافي والتضادّ بلحاظ الامتثال والنتائج أي البعث والزجر على شيء واحد لضيق قدرة المكلّف.

وعلى هذا الأساس إذا دلّ دليل على الأمر بشيء ودلّ دليل آخر على النهي عنه - من قبيل ( صلّ ) و ( لا تصلّ ) - كان الدليلان متعارضين ؛ للتنافي بين الجعلين بسبب التضادّ في عالم الملاك أوّلا ، وبسبب ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الامتثالين مع عدم إمكان الترتّب ثانيا.

وهذا ممّا لا إشكال فيه من حيث الأساس ، ولكن قد نفترض بعض الخصوصيّات في الأمر والنهي التي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين حقّا على شيء واحد ، فيزول الامتناع ولا ينشأ التعارض بين دليليهما. ويمكن تلخيص تلك الخصوصيّات فيما يلي :

موضوع البحث : ذكرنا أنّ اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ممتنع. وعليه فنقول : إنه إذا دلّ دليل على الأمر بشيء ودلّ دليل آخر على النهي عنه كان الدليلان متعارضين ؛ لامتناع اجتماعهما.

فإذا ورد الأمر بالصلاة يوم الجمعة بصلاة الجمعة وورد النهي عن هذه الصلاة في يوم الجمعة أيضا كانا متعارضين ؛ لتحقّق كلا الملاكين للتضادّ ؛ أمّا الملاك الأوّل فلأنّ الأمر يحمل مبادئ المصلحة والمحبوبيّة بينما النهي يحمل مبادئ المفسدة والمبغوضيّة ، ولا يمكن أن تكون صلاة الجمعة واجدة للمصلحة والمفسدة أو للمحبوبيّة والمبغوضيّة في آن واحد.

وأمّا الملاك الثاني فلأنّ الأمر يتطلّب التحرّك نحو إيجاد الفعل ؛ لأنّه عبارة عن البعث والإرسال بينما النهي يتطلّب الانزجار وعدم التحرّك نحو الفعل ؛ لأنّه عبارة عن الزجر والإمساك. ولا يمكن للمكلّف أن يمتثلهما معا لضيق قدرته عن التحرّك وعدم التحرّك في آن واحد نحو شيء واحد.

والحال أنّ الترتّب بينهما ممتنع لأنّ شرطيه - وهما التغاير بين التكليفين في العنوان

ص: 339

والمصداق وعدم كون أحدهما ضروري الوقوع - غير متحقّقين في المقام ، فلا يمكن التكليف بهما معا ولو بنحو مشروط.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال ولا كلام فيه عند أحد من الأصوليّين ، وليس هو محلّ البحث والنزاع بينهم. وإنّما الكلام فيما إذا كان هناك بعض الخصوصيّات في الأمر والنهي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين على شيء واحد ، فإنّه يبحث في كفاية ذلك لزوال الامتناع والتعارض أو عدم كفايته.

ولتوضيح هذا نقول :

تارة يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متّحدين ذاتا ومصداقا أي متّحدين بلحاظ المفهوم وبلحاظ المصداق ، كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ ) فهنا لا إشكال في الامتناع ونشوء التعارض بينهما ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

وأخرى يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متغايرين ذاتا ومصداقا أي متغايرين من حيث المفهوم ومن حيث المصداق ، كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تشرب الخمر ) فإنّه لا إشكال في إمكان اجتماعهما ؛ لأنّ مبادئ الأمر متعلّقة بغير ما تعلّقت به مبادئ النهي ؛ ولأنّ المكلّف يقدر على الصلاة وعلى عدم شرب الخمر. فهنا لا إشكال في صدور مثل هذين التكليفين ، وهذا خارج عن محلّ الكلام أيضا.

وثالثة يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متغايرين ذاتا ومفهوما ولكنّهما متّحدين مصداقا. كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ) أو قيل : ( صلّ ) و ( لا تغصب ). فهنا وقع البحث والنزاع بين الأصوليّين في كفاية ذلك لزوال الامتناع والتعارض أو عدم كفايته.

فإذا صلّى المكلّف في الحمام أو في المكان المغصوب ، فهل يكون الأمر والنهي مجتمعين على شيء واحد ليقال بالامتناع والتعارض ، أو أنّ التغاير العنواني يكفي في نفسه أو لا يكفي إلا إذا أدّى إلى التغاير في المعنون؟ ومن هنا اتّجه البحث الأصولي حول هذه المسألة بقسميها :

الأوّل : في التغاير العنواني بنحو الأمر بالإطلاق والنهي عن الحصّة.

الثاني : في التغاير العنواني بنحو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، أي التباين في المفهوم والاتّحاد في المصداق ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 340

الخصوصيّة الأولى : أن نفترض تعلّق الأمر بالطبيعة على نحو التخيير العقلي بين حصصها ، وتعلّق النهي بحصّة معيّنة من حصصها ، من قبيل ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ).

وهذا الافتراض يوجب اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد. ولا شكّ في أنّ ذلك يوجب زوال السبب الثاني للتنافي وهو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الامتثالين ؛ وذلك لأنّه إذا كان بإمكان المكلّف أن يصلّي في غير الحمّام فهو قادر على الجمع بين الامتثالين.

وإنّما المهمّ تحقيق حال السبب الأوّل للتنافي وهو التضادّ في عالم المبادئ ، فقد يقال بزواله أيضا ؛ لأنّ الوجوب بمبادئه متعلّق بالجامع ولا يسري إلى الحصّة ، والحرمة بمبادئها قائمة بالحصّة ، فلم يتّحد المعروض لهما.

الخصوصيّة الأولى : فيما إذا كان الأمر متعلّقا بالجامع البدلي والنهي متعلّق بحصّة معيّنة منه.

كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ) ، فهنا الأمر متعلّق بالطبيعة ، وهي بعد إجراء الإطلاق فيها ومقدّمات الحكمة يثبت كونها مطلقة على نحو البدليّة ، بحيث تشمل أفرادا وحصصا من الصلاة في عمود الزمان الممتد من الزوال إلى الغروب ، ويكون المطلوب فردا واحدا وحصّة واحدة من هذه الحصص ، وهكذا يثبت إطلاقها بلحاظ المكان أيضا ، فأيّة حصّة في أي مكان أو زمان تعتبر مصداقا للمأمور به ، ولذلك يحكم العقل بالتخيير بين أفرادها وحصصها. ولم يكن إطلاقها شموليّا للعلم من الخارج بأنّه لا تجب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة.

بينما النهي متعلّق بحصة خاصّة منها وهي الصلاة في المكان المعيّن أي الصلاة في الحمام دون سائر الحصص الأخرى.

وهنا يبحث في كفاية التغاير العنواني بين متعلّق الأمر والنهي ؛ لأنّ الأمر متعلّق بالإطلاق والنهي متعلّق بالتقييد ، فهل الاختلاف في الإطلاق والتقييد يكفي لدفع غائلة التضادّ واجتماع الأمر والنهي على شيء واحد أم لا؟

وللإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ من ملاحظة الملاكين السابقين والذي كان الامتناع مبنيا على تحقّق أحدهما ، فنقول :

ص: 341

أمّا الملاك الثاني وهو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين بلحاظ عالم الامتثال والمتطلّبات فهو غير وارد هنا ؛ وذلك لأنّ المكلّف يمكنه أن يجمع بين الامتثالين فيصلي في مكان آخر غير ما تعلّق به النهي ، فيكون قد جمع بين التكليفين ممّا يعني أنّه قادر على امتثالهما معا من دون أي محذور.

وأمّا الملاك الأوّل وهو التنافي والتضادّ بين الأمر والنهي بلحاظ الملاكات والمبادئ.

فقد يقال بأنّ هذا الملاك منتف أيضا ؛ وذلك لأنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالجامع - والمفروض أنّه لا يسري إلى الفرد أو الحصّة - فسوف تكون مبادئ الأمر من المصلحة والمحبوبيّة متعلّقة بالجامع ، والنهي لمّا كان متعلّقا بالفرد أو الحصّة المعيّنة فسوف تكون مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة متعلّقة بالفرد أو الحصّة.

ولكن حيث إنّ الأمر والنهي يعرضان على الصورة الذهنيّة المفروضة والمقدّرة الوجود بما هي حاكية عن الخارج ، فمتعلّق الأمر حيث إنّه متعلّق بالجامع فهو لا يري إلا الطبيعة مجرّدة. بينما متعلّق النهي يري الحصّة أو الفرد مع المشخّصات الخارجيّة.

ومن الواضح أنّ الطبيعة كصورة مرئيّة بالجامع غير الفرد المشخّص المرئي بالتقييد. وعليه ، فيكون متعلّق الأمر والنهي متغايرين ليس فقط بلحاظ المفهوم ، بل بلحاظ ما ينطبق عليه المفهوم ، وحينئذ لا تكون مبادئهما قد اجتمعت على شيء واحد.

وبعبارة أخرى : أنّ المعروض للأمر والنهي مختلف فمعروض الأمر هو الجامع البدلي وهو لا ينطبق إلا على الطبيعة ، بينما معروض النهي هو الحصّة أو الفرد وهو لا ينطبق إلا على الفرد مع المشخّصات الخارجيّة ، فلا يلزم اجتماع المبادئ والملاكات على شيء واحد ؛ لعدم اتّحاد معروضهما.

إلا أنّ السيّد الشهيد يعلّق على هذا القول بقوله :

وهذا مبنيّ على بحث تقدّم في التخيير العقلي ، وأنّه هل يستبطن تخييرا شرعيّا ووجوبات مشروطة للحصص ولو بلحاظ عالم المبادئ؟

فإن قيل باستبطانه ذلك لم يجد اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد في التغلّب على السبب الأوّل للتنافي ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه إلى الحصص.

وإن أنكرنا الاستبطان المذكور اتّجه القول بعدم التنافي وجواز الأمر بالمطلق

ص: 342

والنهي عن الحصّة.

ويلاحظ على الافتراض المذكور أنّه مبنيّ على ما هو المختار في مسألة التخيير العقلي حيث يوجد فيها قولان ، هما :

القول الأوّل : أنّ التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، فهناك وجوب واحد ومتعلّق واحد ، وهذا الوجوب لا يسري من الجامع إلى الأفراد والحصص ؛ لأنّ السريان القهري ممنوع حيث إنّ الجعل والإيجاب فعل اختياري للجاعل ، والسريان الاختياري لازمه القول بالوجوبات المشروطة للحصص والأفراد وهي مستحيلة ؛ لاستلزامها تعدّد العقاب حال ترك الجميع لفعليّة كلّ منهما في هذا الفرض ، أو لعدم تحقّق الامتثال حال التقارن.

القول الثاني : أنّ التخيير العقلي يرجع إلى التخيير الشرعي ، فيكون مرجع تعلّق الأمر بالجامع إلى تعلّقه بكلّ حصّة منه بنحو مشروط ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري إلى الفرد. أو يقال - كما اختاره السيّد الشهيد - أنّ السراية من الجامع إلى الفرد لا تكون بلحاظ الحكم والوجوب وإنّما بلحاظ المبادئ ، فمن أحبّ الجامع أحبّ أفراده بنحو مشروط لا محالة.

فعلى القول الأوّل ، يقال هنا : إنّ الأمر لمّا تعلّق بالجامع والجامع لا يسري إلى الفرد ، فسوف يكون متعلّق الأمر مغايرا لمتعلّق النهي سواء في ذلك عالم الإيجاب والمبادئ. فيندفع محذور اجتماع الأمر والنهي بلحاظ المبادئ.

وأمّا على القول الثاني ، فسوف يكون الفرد واجدا لوجوب مشروط أو على الأقلّ فيه محبوبيّة مشروطة ، وحينئذ يكون متعلّق الأمر ومتعلّق النهي متّحدين بلحاظ المبادئ أو الإيجاب ؛ لأنّ الحصّة المنهي عنها قد سرى الوجوب أو المحبوبيّة إليها أيضا فيلزم المحذور (1).

ص: 343


1- وحيث إنّ السيّد الشهيد قبل هناك دعوى وجدانيّة الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، فلا محالة سوف يختار هنا امتناع اجتماع الأمر والنهي ، والنتيجة على ضوء ذلك هي كون دليل النهي مقيّدا لدليل الأمر بالجامع في غير الحصّة التي تعلّق بها النهي. بينما لو اخترنا القول الأوّل فاجتماع الأمر والنهي لمّا كان جائزا في هذا المورد _ أي تعلّق الأمر بالجامع والنهي بالحصّة _ فالمكلّف إذا جاء بالجامع ضمن الحصّة التي تعلّق بها النهي يكون ممتثلا من جهة وعاصيا من جهة أخرى.

هذا هو التصوّر الصحيح للمسألة ، غير أنّه يوجد تصوّر آخر ذكره الميرزا ولذلك قال :

غير أنّ مدرسة المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) برهنت على التنافي بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة بطريقة أخرى منفصلة عن الاستبطان المذكور وهي :

إنّ الأمر بالمطلق يعني أنّ الواجب لوحظ مطلقا من ناحية حصصه ، والإطلاق مؤدّاه الترخيص في تطبيق الجامع على أيّة واحدة من تلك الحصص ، وهذا متعدّد بعدد الحصص ، وعليه فالترخيص في تطبيق الجامع على الحصّة المنهيّ عنها ينافي هذا النهي لا محالة ؛ لأنّ نفس الحصّة معروضة لهما معا.

فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصّة والأمر بالمطلق ، بل بين النهي عن الحصّة والترخيص فيها الناتج عن إطلاق متعلّق الأمر.

ذهب الميرزا ومدرسته إلى امتناع الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة لاستلزامه اجتماع النهي والترخيص معا ، وهما متضادّان سواء في عالم المبادئ والملاكات أم في عالم الامتثال والمتطلّبات والقدرة.

وبيان ذلك أن يقال : إنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالجامع وبالطبيعة بنحو صرف الوجود أي الإطلاق البدلي ، فهذا يعني أنّ الواجب وهو ما تعلّق به الأمر مطلق أيضا ، وهنا العقل ينتزع من هذا الإطلاق جواز تطبيق الجامع أو الطبيعة على أيّ فرد أو حصّة ، فهو يرخّص للمكلّف في تطبيق الجامع على هذا أو ذاك ، فهو ترخيص يشمل تمام الأفراد والحصص.

وحينئذ نقول : إنّ الحصّة التي تعلّق بها النهي قد شملها هذا الترخيص والجواز ، ممّا يعني أنّها منهيّ عنها وفي نفس الوقت يجوز فعلها ؛ لأنّ العقل قد رخّص في تطبيق الجامع عليها. ومن الواضح أنّ اجتماع النهي مع الجواز أو الترخيص كاجتماعه مع سائر الأحكام التكليفيّة ممتنع في نفسه بلحاظ المبادئ والملاكات.

وبتعبير آخر : إنّ التنافي بلحاظ المبادئ والملاكات لا يكون أوّلا وبالذات بين الأمر والنهي ؛ لأنّنا لا نقول بسراية الوجوب أو الحبّ من الجامع إلى الفرد ، وإنّما هو بلحاظ ما يستلزمه الأمر بالجامع عقلا من جواز تطبيق الجامع على كلّ أفراده على حدّ واحد

ص: 344


1- راجع فوائد الأصول 2 : 435 - 436.

حتّى الحصّة التي تعلّق بها النهي ، فتكون هذه الحصّة معروضة للنهي وللجواز معا ، فيمتنع اجتماع الأمر والنهي ثانيا وبالعرض بلحاظ هذا المدلول الالتزامي.

والنتيجة هي تقييد متعلّق الأمر بغير الحصّة التي تعلّق بها النهي.

والفرق بين إثبات التنافي بطريقة الميرزا هذه وإثباتها بدعوى الاستبطان المذكور سابقا : أنّه على طريقة الميرزا لا يكون هناك تناف بين وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن حصّة من حصصه ؛ لأنّ الكراهة لا تنافي الترخيص. وبهذا فسّر الميرزا كراهة الصلاة في الحمّام وأمثالها.

وأمّا على مسلك الاستبطان المذكور سابقا فالتنافي واقع بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة ، سواء كان تحريميّا أو كراهيّا.

الفارق بين المسلكين :

تقدّم المسلك الذي يختاره السيّد الشهيد من أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة والجامع بنحو البدل وصرف الوجود يستبطن تخييرا شرعيّا بلحاظ المبادئ ، وعلى أساسه يقال بالامتناع.

بينما اختار الميرزا طريقا آخر وهو دعوى وجود دلالة التزاميّة عقليّة من الأمر بالجامع ، وهي جواز تطبيق الجامع على كلّ حصّة حصّة من أفراده وحصصه. وعليه أيضا يقال بالامتناع.

إلا أنّه مع ذلك يوجد فارق بينهما وهو أنّه على مسلك الميرزا لا يحكم بالامتناع إلا إذا كان النهي تحريميّا ؛ لأنّ النهي التحريمي يمتنع اجتماعه مع الجواز.

وأمّا إذا كان النهي كراهيّا كما في الصلاة في الحمام أو صوم يوم عاشوراء ، فما ذكره من دليل لا يتمّ ؛ لأنّ الكراهة تجتمع مع الجواز ؛ لأنّ معنى الكراهة جواز الفعل والترك مع كون الترك أولى أو أفضل. ولذلك ذكر هذا الوجه في تفسير كراهة العبادة ، ولم يذكره هنا وإنّما ذكرته مدرسته.

بينما على المسلك المتقدّم والذي اختاره السيّد الشهيد ، من دعوى الملازمة الوجدانيّة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، فالامتناع يشمل ما إذا كان النهي تحريميّا أم كراهيّا من دون فرق بينهما ؛ لأنّ الكراهة بلحاظ المبادئ تعني وجود المفسدة أو الحزازة ، والمفسدة والمصلحة لا يمكن اجتماعهما معا على شيء واحد.

ص: 345

وحينئذ يحتاج تخريج كراهة العبادة إلى علاج آخر كقيام الإجماع ونحوه على ثبوت الكراهة في العبادة.

وهكذا أيضا لو قيل بأنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوبات مشروطة بعدد الحصص والأفراد ، فإنّ الحصّة المنهي عنها سوف تكون متعلّقة للأمر والنهي معا ، وهما متضادّان بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال أيضا وضيق قدرة المكلّف عن الجمع بينهما.

ولكنّ التحقيق : أنّ طريقة الميرزا هذه في إثبات التنافي غير وجيهة ؛ لأنّ الإطلاق ليس ترخيصا في التطبيق ولا يستلزمه.

أمّا إنّه ليس ترخيصا فلأنّ حقيقة الإطلاق - كما تقدّم (1) - عدم لحاظ القيد مع الطبيعة عند ما يراد جعل الحكم عليها.

وأمّا أنّه لا يستلزم الترخيص ، فلأنّ عدم لحاظ القيد إنّما يستلزم عدم المانع من قبل الأمر في تطبيق متعلّقه على أيّة حصّة من الحصص ، وعدم المانع من قبل الأمر شيء وعدم المانع من قبل جاعل الأمر المساوق للترخيص الفعلي شيء آخر ، وما ينافي النهي عقلا هو الثاني دون الأوّل.

وعلى أيّة حال فإذا تجاوزنا هذه الخصوصيّة وافترضنا الامتناع والتنافي على الرغم من الاختلاف بالإطلاق والتقييد بين المتعلّقين نصل حينئذ إلى الخصوصيّة الأخرى كما يلي.

والتحقيق أن يقال : إنّ ما ذكره الميرزا أو مدرسته من البرهان على الامتناع غير تامّ ، وذلك لعدم تماميّة ما ذكره من الملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر بالجامع وبين الترخيص في التطبيق على الأفراد.

وتوضيحه : أنّ الميرزا ذكر أنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلّق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، فإنّ هذا الأمر يقتضي الترخيص في إيجاد الطبيعة في ضمن أيّة حصّة ، بمعنى أنّ الأمر بإطلاقه يقتضي الرخصة في تطبيق الجامع والطبيعة على كلّ أفراده ، حتّى الحصّة التي تعلّق بها النهي.

ص: 346


1- في بحث الإطلاق من أبحاث تحديد دلالات الدليل الشرعي ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

ومن هنا فإذا كان النهي المتعلّق بالحصّة المعيّنة نهيا كراهيّا أو تنزيهيّا فلا تنافي بين الأمر والنهي ؛ لأنّ النهي يقتضي الرخصة أيضا.

وأمّا إذا كان النهي تحريميّا فيقع التنافي بين الرخصة المستفادة من إطلاق الأمر وبين عدم الرخصة في إتيان تلك الحصّة الخاصة المستفادة من النهي فيحصل التدافع بينهما.

وحينئذ نقول : ما هو المقصود من قوله : ( إنّ الأمر بإطلاقه يقتضي الرخصة ... )؟ ، فهل مقصوده من ذلك أنّ الإطلاق نفسه معناه الرخصة في تطبيق الجامع على الأفراد ، أو أنّ الإطلاق يستلزم الترخيص المذكور؟

فإن قيل : إنّ الإطلاق معناه الترخيص ، فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ الإطلاق كمفهوم ذهني معناه عدم لحاظ القيد مع الطبيعة على ما هو الصحيح ، أو لحاظ الطبيعة مجرّدة عن القيد كما هي مقالة السيّد الخوئي من أنّه رفض القيد.

وإن قيل : إن الإطلاق يستلزم الترخيص ، فهذا وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنّنا نتساءل مجدّدا فيما هو المراد من الترخيص ، فهل المراد منه الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة أو هو الترخيص الوضعي؟

فإذا كان المراد من الترخيص الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة فما ذكره الميرزا صحيح ؛ لأنّ الترخيص التكليفي يكون من قبل الجاعل والشارع ، ممّا يعني أنّ الحصّة التي تعلّق بها النهي قد تعلّق بها الترخيص التكليفي من قبل الشارع أيضا ، فيلزم التنافي بين الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر وبين عدم الترخيص المستفاد من دليل النهي ، لعدم إمكان اجتماعهما على شيء واحد للتضادّ بين الملاكات والمبادئ فيهما.

وأمّا إذا كان المراد من الترخيص الترخيص الوضعي ، بمعنى أنّ إطلاق الأمر يستفاد منه جواز تطبيق هذا الجامع على أيّة حصّة وفرد منه ، فأيّة حصّة أو فرد من الجامع يأتي به المكلّف يكون صحيحا ومجزيا ويحقّق الامتثال. وهذا معناه أنّ الأمر المتعلّق بالجامع بنحو صرف الوجود لا يأبى ولا يوجد أي مانع من قبله في تطبيق هذا الجامع على أي فرد من أفراده ، فعلى هذا لا تتمّ مقالة الميرزا ؛ لأنّ هذا الترخيص إنّما هو حكم عقلي منتزع من الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، ولا

ص: 347

يتضمّن أيّة مبادئ أو ملاكات ، فلا يقع التنافي بين الأمر بالجامع وبين النهي عن الحصّة.

والصحيح هو : أنّ الترخيص المستفاد من الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود هو الترخيص الوضعي أي الترخيص المستفاد من قبل الأمر نفسه وليس الترخيص التكليفي المستفاد من جاعل الأمر ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بذلك ؛ لأنّه يرى أن الأمر لمّا تعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود فالمراد هو إيجاد الطبيعة في الخارج وإيجادها كذلك يتحقّق ضمن أي فرد من أفرادها على حدّ سواء فلا مانع من تطبيقها على أي فرد من أفرادها ، وكذلك فيما لو تعلّق النهي بالطبيعة فإنّ العقل يحكم بأنّ إعدام الطبيعة لا يكون إلا بإعدام تمام أفرادها ، وهكذا نلاحظ أنّ العقل هو الذي يحكم بذلك ؛ لأنّ الترخيص إنّما كان بلحاظ عالم الامتثال لا بلحاظ عالم الجعل والتشريع.

وبهذا يظهر أنّ هذه الخصوصيّة أي ( تعلّق الأمر بالجامع البدلي وتعلّق النهي بالحصّة المعيّنة ) لا توجب زوال التنافي بين الأمر والنهي ، بناء على مسلك الميرزا وبناء على ما اخترناه من كون التخيير العقلي يستبطن الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، أو أنّه يستبطن الوجوبات المشروطة بناء على القول الآخر.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التخيير العقلي لا يستبطن هذه الملازمة لا في عالم الحبّ ولا في عالم الإيجاب ولم نقبل طريقة الميرزا أيضا ، فسوف تكون هذه الخصوصيّة وافية لمنع التنافي ؛ لأنّ مبادئ الأمر تكون في الجامع ولا تسري إلى الفرد بينما مبادئ النهي والحرمة تكون في الحصّة المعيّنة ، والنتيجة هي أنّه لو أتى بالحصّة المنهي عنها لكان امتثالا من جهة وعصيانا من جهة أخرى. ولا يلزم التقييد لعدم التنافي بينهما.

وبهذا ينتهي البحث حول الخصوصيّة الأولى.

الخصوصيّة الثانية : أن نفترض تعدّد العنوان وتعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر ، وتعدّد العنوان قد يسبّب جواز الاجتماع ورفع التنافي بأحد وجهين :

الأوّل : أن تعدّد العنوان يبرهن على تعدّد المعنون.

والثاني : دعوى الاكتفاء بمجرّد تعدّد العنوان في دفع التنافي ، مع الاعتراف بوحدة المعنون والوجود خارجا.

ص: 348

الخصوصيّة الثانية : فيما إذا كان العنوانان متغايرين مفهوما مع اتّحادهما مصداقا ، كما إذا تعلّق الأمر بالصلاة وتعلّق النهي بالغصب ، فقيل : ( صلّ ) و ( لا تغصب ) فإنّهما عنوانان متغايران ذاتا ؛ لأنّ المفهوم مختلف فيهما ، ولكن بلحاظ الصدق الخارجي النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فيجتمعان في الصلاة في الأرض المغصوبة.

إذا فالبحث هنا مورده حالة الاجتماع لا الافتراق ، فهل يكفي التغاير العنواني والمفهومي أو لا يكفي؟

قد يقال : إنّ التغاير العنواني إذا أدّى إلى التغاير في المعنون فهو يكفي لرفع التنافي ، إذ ما دام الوجود الخارجي متغايرا فلن يتحقّق الاجتماع أصلا.

وقد يقال : إنّ التغاير العنواني يكفي سواء أدّى إلى تعدّد المعنون أم كان المعنون واحدا في الصدق الخارجي.

أمّا الوجه الأوّل ، فهو إذا تمّ يرفع التنافي بكلا تقريبيه ، أي بتقريب استبطان الأمر بالجامع للوجوبات المشروطة بالحصص وبتقريب استلزامه الترخيص في التطبيق على الحصّة المنافي للنهي ، إذ مع تعدّد الوجود الخارجي لا يجري كلا هذين التقريبين.

الوجه الأوّل : أنّ تعدّد العنوان يؤدّي إلى تعدّد المعنون.

وتقريبه أن يقال : إنّ تعدّد العنوان إذا كان موجبا لتعدّد المعنون في الخارج ، فهذا معناه أنّ ما هو موجود في الخارج شيئان لا شيء واحد ، غايته أنّ أحدهما انضمّ إلى الآخر فكان التركيب بينهما انضماميّا لا اتّحاديّا. ففي مثل ( صلّ ) و ( لا تغصب ) إذا صلّى المكلّف في الأرض المغصوبة ففي الخارج يوجد فعلان أحدهما الصلاة والآخر الغصب إلا أنّهما انضمّا معا.

وحينئذ يقال : إنّ الحبّ ومبادئ الأمر تعلّقت بالحيثيّة الصلاتيّة بينما البغض وملاكات النهي تعلّقت بالحيثيّة الغصبيّة ، وهاتان حيثيّتان متغايرتان بحسب الصدق الخارجي فلا يلزم الاجتماع.

وأمّا متى يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون في الخارج؟

فهذا جوابه - كما عن الميرزا - : أنّ العنوانين إذا كانا من العناوين المبدئيّة ( أي

ص: 349

العناوين التي هي مبدأ الاشتقاق كالطول فإنّه مبدأ لاشتقاق الطويل والضحك والعلم ، فإنّهما المبدأ لاشتقاق الضاحك والعالم ) وكانت النسبة بينهما هي العموم من وجه فيكون في مورد الاجتماع ما به تحقّق هذا العنوان مغايرا لما به تحقّق العنوان الآخر ، بدليل أنّنا إذا أخذنا عنوانين مبدئيّين النسبة بينهما هي العموم من وجه ولاحظنا موردي الافتراق فيكون لكلّ منهما ماهيّة وحقيقة مباينة للآخر.

وأمّا بلحاظ مورد الاجتماع فإن كان لكلّ منهما ماهيّة وحقيقة مباينة للأخرى فهو المطلوب ؛ لأنّه يثبت في الخارج وجود حقيقتين متباينتين ، غايته انضمّت إحداهما إلى الأخرى ، وإن كانت لهما ماهيّة وحقيقة واحدة ، فهذا لازمه أن يكون لكلّ منهما حقيقتان :

إحداهما في مورد الافتراق : وهي توجب المباينة والمغايرة مع الأخرى.

والثانية في مورد الاجتماع : وهي توجب الاتّحاد والوحدة في الوجود ، وهذا اللازم مستحيل ؛ لأنّ العنوان ليس فيه إلا مقولة ماهويّة واحدة ، فيتعيّن الأوّل وبه يثبت عدم تحقّق الاجتماع في مصداق واحد ، وإنّما لكلّ عنوان مصداقه الخارجي انضمّ أحدهما إلى الآخر.

وفي مقامنا نقول : إنّ ( الغصب ) و ( الصلاة ) من العناوين المبدئيّة ؛ لأنّه يشتقّ منهما المصلّي والغاصب ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه ، فيكون مورد اجتماعهما مركّبا من مصداقين انضمّ أحدهما إلى الآخر.

وعلى هذا الأساس سوف تنحلّ مشكلة اجتماع الأمر والنهي بكلا التقريبين :

أمّا التقريب القائل بأنّ الامتناع منشؤه كون الأمر بالجامع يستبطن الوجوبات المشروطة للحصص ففي كلّ حصّة وجوب مشروط ، أو على الأقلّ يستبطن الأمر بالجامع الحبّ المشروط للأفراد. فهنا الأمر بالصلاة معناه وجوب كلّ فرد فرد منها مشروطا بترك البقيّة أو معناه تعلّق الحبّ بكلّ فرد منها مشروطا بترك البقيّة ، والنهي عن الغصب لمّا كان شموليّا بمعنى أنّه ينحلّ إلى كلّ فرد فرد من أفراد الغصب فكلّ فرد فيه حرمة ؛ لأنّ النهي عن الطبيعة لا يكون إلا بإعدام كلّ أفرادها إذ لو وجد فرد منها لم تكن منعدمة. وحينئذ ففي مورد الاجتماع سوف يكون هذا المصداق متعلّقا للأمر الصلاتي وللنهي عن الغصب وفيه مبادئ الأمر ومبادئ النهي فيمتنع.

ص: 350

وهذا جوابه : أنّ ما هو موجود في الخارج لمّا كان متعدّدا فيكون الأمر متعلّقا بالفرد وبالمصداق المغاير لمّا تعلّق به النهي فلا تجتمع مبادئهما على شيء واحد ، فلا وجه للامتناع.

وأمّا التقريب القائل : بأنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ فرد ، وحيث إنّ النهي شمولي ، ففي مورد الاجتماع يكون هذا المجمع مصداقا للجامع المأمور به ومصداقا للغصب المنهي عنه ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي أو يلزم اجتماع الترخيص مع عدم الترخيص المستفاد من الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

وهذا جوابه : ما تقدّم من أنّه في الخارج يوجد مصداقان لا مصداق واحد فلا يلزم اجتماع الترخيص وعدم الترخيص على شيء واحد ، بل لكلّ منهما مصداقه الخاصّ به.

وبهذا يظهر أنّ هذا الوجه يحلّ مشكلة الامتناع بكلا تقريبيها ، هذا فيما إذا كان تامّا في نفسه ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن الإشكال في تماميّة هذا الوجه ، إذ لا برهان على أنّ مجرّد تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون خارجا ؛ لأنّ بالإمكان انتزاع عنوانين من موجود خارجي واحد.

نعم ، إذا ثبت أنّ العنوان ماهيّة حقيقيّة للشيء تمثّل حقيقيته النوعيّة ، فمن الواضح أنّ تعدّده يساوق تعدّد الشيء خارجا ؛ إذ لا يمكن أن يكون للشيء الخارجي الواحد ماهيّتان نوعيّتان ، ولكن ليس كلّ عنوان يشكّل الماهيّة النوعيّة لمعنونه ، بل كثيرا ما يكون من العناوين العرضيّة المنتزعة.

الإشكال على الوجه الأوّل : أنّه لا يوجد برهان يثبت أنّ مجرّد تعدّد العنوان موجب لتعدّد المعنون على إطلاقه ، بمعنى أنّه ليس دائما تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ؛ وذلك لأنّنا نجد أنّه بالإمكان انتزاع أكثر من عنوان من معنون واحد في الخارج.

فمثلا يمكننا انتزاع عنوان الطويل والعالم والأبيض من زيد الموجود في الخارج ، فلو كان تعدّد العنوان مطلقا موجبا لتعدّد المعنون لكان هذا نقضا عليه ، إذا فالمدّعى أنّ بعض العناوين توجب تعدّد المعنون لا مطلقا.

ص: 351

وهذا يمكن فرضه فيما إذا كان العنوان ماهيّة حقيقيّة للشيء ، أي كان العنوان يمثّل الحقيقة النوعيّة للشيء كالجنس أو النوع أو الفصل ، فإنّه حينئذ يكون الوجود الخارجي متعدّدا بسبب تعدّد العنوان الماهوي النوعي.

فمثلا إذا أمر المكلّف برسم خطّ ونهي عن الانحناء ، فإنّه إذا رسم خطّا منحنيا كان هذا الفعل الخارجي متعدّدا ؛ وذلك لتعدّد العنوان الماهوي ، فإنّ رسم الخطّ عنوان ماهوي حقيقي ؛ لأنّه جنس له ما بإزاء في الخارج ، وفعل الانحناء في الخطّ عنوان ماهوي حقيقي ؛ لأنّه فصل للخطّ فهذا له ما بإزاء في الخارج أيضا ، وما دام العنوانان يمثّلان حقيقة نوعيّة فيكون الشيء في الخارج متعدّدا ؛ لأنّه يكون مصداقا لكلا هاتين المقولتين أي الجنس والفصل.

وأمّا إذا كان العنوان من العناوين العرضيّة الانتزاعيّة وهي ( غير الجنس والفصل والنوع ) كمقولة الكيف أو الوضع أو الأين أو المكان والزمان أو الملك أو الإضافة ، فهنا يمكن أن تنتزع هذه العناوين من معنون واحد في الخارج ؛ لأنّ هذه العناوين يمكن عروضها أو انتزاعها من الذات الواحدة البسيطة ؛ وذلك لأنّها لا تشكّل حقيقة ماهويّة للشيء ليقال بتعدّد الحقيقة الماهويّة فيه ، وإنّما هي تعرض على حقيقة ماهويّة واحدة كالإنسان أو الحيوان أو زيد ، حيث تقبل هذه الحقائق عروض أكثر تلك العناوين العرضيّة الانتزاعيّة كما هو واضح.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره الميرزا إنّما يتمّ فيما إذا كان العنوانان من المقولات الماهويّة الحقيقيّة لا غير.

وفي مقامنا الصلاة والغصب وإن كانا من العناوين المبدئيّة ، إلا أنّ هذا لا يخرجهما عن كونهما من الأعراض الانتزاعيّة التي تعرض على مقولة ماهويّة واحدة كالإنسان النوع ، فإنّه ينتزع من فعله الواحد عنوان الصلاة والغصب وغيرهما أيضا ولا يوجب ذلك تعدّد الشيء والمعنون في الخارج ؛ لأنّها ليست حقائق ماهويّة.

وأمّا الوجه الثاني فحاصله : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي مباشرة. فإذا كان العنوان في أفق الذهن متعدّدا كفى ذلك في عدم التنافي.

ص: 352

الوجه الثاني : أنّ تعدّد العنوان يكفي وإن كان المعنون واحدا.

ففي مثال الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، حيث إنّ عنوان الصلاة مغاير ذاتا ومفهوما لعنوان الغصب ؛ وذلك لأنّ عنوان الصلاة عبارة عن تلك الأفعال من قراءة وركوع وسجود ... وإلى آخره ، بينما عنوان الغصب عبارة عن التصرّف في ملك الغير من دون إذنه أو رضاه ، فالمكلّف إذا صلّى في مكان مغصوب تكون صلاته صحيحة ومجزية وفي نفس الوقت يكون عاصيا ؛ لأنّ هذا الفعل حتّى وإن كان واحدا حقيقة ولكنّه ينطبق عليه عنوانان متغايران هما الصلاة والغصب.

والوجه في كفاية تغاير العنوان هو أنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي ، فالأمر متعلّق بعنوان الصلاة بما يحمله من إيجاب وشوق ومحبوبيّة ومصلحة ، والنهي متعلّق بعنوان الغصب بما يحمله من تحريم ومفسدة ومبغوضيّة ، والمفروض أنّهما متغايران ولذلك لم تتّحد مبادئ الأمر والنهي على عنوان واحد.

وأمّا لما ذا كانت الأحكام متعلّقة بالصورة الذهنيّة لا بالوجود الخارجي؟

فهذا جوابه ما تقدّم سابقا في بحث القضايا الحقيقيّة والخارجيّة وهناك قلنا : إنّ الحاكم لا بدّ أن يصبّ حكمه على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي الموجود في الخارج ؛ وذلك لأنّ الحكم أو الجعل عبارة عن أمر ذهني فلا يمكن أن يتعلّق إلا بما هو في الذهن وليس ذاك إلا الصورة الذهنيّة.

ولو قيل بتعلّقه بالموضوع لزم من ذلك عدّة محاذير :

منها : عدم ثبوت الحكم إلا بعد فرض تحقّق الموضوع في الخارج ؛ لأنّ الموضوع سابق على الحكم رتبة ، فإذا تحقّق الموضوع في الخارج كان الأمر به لغوا وتحصيلا للحاصل.

ومنها : يلزم انتفاء الحكم وعدم ثبوته فيما إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج ، ممّا يعني عدم تحقّق المعصية ؛ لأنّ المكلّف لم يخالف الحكم الثابت.

ومنها : كون الحكم داعيا إلى إيجاد متعلّقه وهو الموضوع الخارجي ، والمفروض أنّه متوقّف عليه توقّف الحكم على موضوعه فيلزم التقدّم والتأخّر أو التهافت.

وبهذا ظهر أنّ الأحكام متعلّقة بالعناوين والصور الذهنيّة ، فإذا كانت متغايرة فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي على عنوان واحد حتّى وإن كان الموضوع الخارجي واحدا.

ص: 353

فإن قيل : إنّ العناوين في الذهن إنّما يعرض لها الأمر والنهي بما هي مرآة للخارج ، وهذا يعني استقرار الحكم في النهاية على الوجود الخارجي بتوسّط العنوان ، والوجود الخارجي واحد فلا يمكن أن يثبت أمر ونهي عليه ولو بتوسّط عنوانين.

كان الجواب على ذلك : أنّ ملاحظة العنوان في الذهن مرآة للخارج عند جعل الحكم عليه لا يعني أنّ الحكم يسري إلى الخارج حقيقة ، وإنّما يعني أنّ العنوان ملحوظ بما هو صلاة أو غصب لا بما هو صورة ذهنيّة.

إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال فهو أنّ الأحكام وإن كانت معروضة أوّلا وبالذات على الصور الذهنيّة لا على الموضوع الخارجي ، إلا أنّها لا بدّ أن تكون معروضة عليها بما هي مرآة وحاكية عن الخارج ثانيا وبالعرض ؛ وذلك لأنّ الجاعل أو الحاكم لا يريد الصورة الذهنيّة والمفهوم بما هو كذلك ، وإلا لزم ألاّ يتحقّق الامتثال في الخارج ؛ إذ يكفي تصوّر ذاك المفهوم لتحقّق الامتثال وهذا واضح البطلان.

وعليه ، فالموضوع الخارجي أو الفرد هو المقصود النهائي من متعلّق الأحكام بالصور والعناوين ، وحينئذ فإن كان الموضوع والمعنون الخارجي واحدا فيلزم اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل. وهذا الإشكال طرحه صاحب ( الكفاية ) وغيره.

والحاصل عندهم عدم كفاية تعدّد العنوان ، بل لا بدّ من تعدّد المعنون.

وجوابه : أنّنا نسلّم أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالصور الذهنيّة بوصفها مرآة وحاكية عن الخارج ، إلا أنّ المرآتيّة والحكاية ليست بمعنى تعلّق الأحكام بالأفراد والموضوع الخارجي بتوسّط العنوان والصورة ، وإنّما معنى ذلك أنّ الذهن يدرك الواقع ويراه من خلال هذه الصور والعناوين ؛ لأنّه لا يمكنه أن يتعلّق بالواقع الخارجي مباشرة ؛ لأنّ الحكم من شئون الذهن فلا يتعلّق إلا بما هو موجود في الذهن للزوم السنخيّة.

وهذا معناه أنّ الذهن يلاحظ مفهوم الصلاة بالحمل الأوّلي ، أي بما هي صورة ذهنيّة حاكية عن الخارج ، لا بالحمل الشائع بما هي صورة ذهنيّة قائمة في الذهن

ص: 354

فقط. فهو يريد أن يرى الخارج بتوسّط هذه الصور وهذا لا يكون إلا بتجريد الخارج عن خصائصه ومشخّصاته ، وبتجريد ما في الذهن عن قيوده الذهنيّة ، فحينئذ يكون ما في الذهن عين ما في الخارج وحاكيا عنه ومرآة له.

ولا يلزم من ذلك سريان الحكم إلى الخارج حقيقة ، بل الحكم موضوعه واحد وهو العنوان ، فهناك حكم واحد وموضوع واحد ، إلا أنّ هذا الموضوع الواحد يري الخارج حقيقة بالحمل الأوّلي فيري الصلاة الواقعيّة لا صورة الصلاة فقط.

وهذا الوجه إذا تمّ إنّما يدفع التنافي بالتقريب الأوّل ، أي بدعوى الاستبطان المذكور سابقا ، فإنّ الأمر بجامع الصلاة إذا كان يستبطن وجوبات مشروطة بعدد الحصص فكلّ وجوب متعلّق بحصّة من حصص الصلاة بهذا العنوان ، لا بها بما هي حصّة من حصص الغصب ، فلا تنافي بين الوجوبات المشروطة والنهي بعد افتراض تعدّد العنوان.

ثمّ إنّه على القول بتماميّة هذا الوجه وأنّ تعدّد العنوان وحده يكفي حتّى لو كان المعنون واحدا ، فهل يندفع محذور اجتماع الأمر والنهي أو لا؟

والجواب عن ذلك : هو أنّ محذور الامتناع كان له تقريبان :

الأوّل : ما تقدّم من أنّ الأمر بالجامع يستبطن الوجوبات المشروطة بعدد الحصص ، أو أنّ تعلّق الحبّ بالجامع يسري إلى أفراده بنحو مشروط.

الثاني : ما تقدّم عن الميرزا من أنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ أفراده وحصصه.

أمّا المحذور الأوّل فيندفع بناء على كفاية تعدّد العنوان ، وذلك أنّنا قلنا : إنّ الجامع يستبطن الوجوبات المشروطة أو المحبوبيّة المشروطة بعدد الحصص والأفراد ، وهذا يعني أنّ كلّ حصّة وفرد فيه محبوبيّة ووجوب ، ومن ناحية النهي فهو شمولي لكلّ الأفراد والحصص.

فإذا ورد الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب واجتمعا معا في موضوع واحد بأن صلّى في مكان مغصوب ، فهنا إذا قلنا بكفاية تعدّد العنوان ، فسوف يكون هذا الموضوع بوصفه حصّة وفردا من الجامع واجبا أو محبوبا ، وفي نفس الوقت بوصفه حصّة وفردا من متعلّق النهي فسوف يكون مبغوضا وحراما ، إلا أنّ كونه واجبا أو

ص: 355

محبوبا كان لأجل أنّه حصّة من حصص الجامع لا لأجل كونه حصّة من حصص الغصب.

وهكذا العكس ، فلم يتعلّق الوجوب والحرمة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة بحصّة واحدة وفرد واحد ، وإنّما الوجوب والمحبوبيّة متعلّقهما الحصّة الصلاتيّة والحرمة والمبغوضيّة متعلّقهما الحصّة الغصبيّة ، وهما عنوانان متغايران وتعدّد العنوانين يكفي لرفع غائلة التضادّ والتنافي.

إذا لا تنافي بين الوجوبات المشروطة أو المحبوبيّة المشروطة المتعلّقة بالحصص مع النهي ، بناء على كفاية تعدّد العنوان ؛ لأنّ الإيجاب والتحريم أو المحبوبيّة والمبغوضيّة تتعلّق بالعنوان لا بالوجود الخارجي.

هذا كلّه بالنسبة للمحذور الأوّل.

ولكنّ الوجه المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي أفاده المحقّق النائيني ، وهو المنافاة بين النهي عن الحصّة والترخيص في التطبيق ؛ لأنّ إطلاق الواجب لحالة غصبيّة الصلاة إذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيّد بهذه الحالة فهو مناف لتحريم هذه الغصبيّة لا محالة.

وأمّا المحذور الثاني الذي أفاده الميرزا فهذا لا يندفع حتّى لو قلنا بكفاية تعدّد العنوان.

والوجه في ذلك : أنّ دعوى استلزام الأمر بالجامع الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ فرد من أفراده ، معناه أنّ كلّ فرد يجوز تطبيق الجامع فيه ، وحيث إنّ النهي شمولي ففي كلّ حصّة وفرد لا يجوز تطبيق متعلّق النهي فيه.

وحينئذ يقال : إنّ الفرد الغصبي من الصلاة ينصبّ عليه عنوانان : أحدهما جواز تطبيق الجامع بعنوان كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، والآخر عدم جواز تطبيق متعلّق النهي عليه بعنوان كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، وهذا معناه أنّ الفرد الغصبي من الصلاة انصبّ عليه حكمان متضادّان متعلّقان بعنوانه الخاصّ وهو كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، وهذان الحكمان المتضادّان هما الترخيص في التطبيق وعدم الترخيص في التطبيق ، فيلزم محذور اجتماع الضدّين.

وبتعبير آخر : إنّ الترخيص في التطبيق المستفاد من الأمر بالجامع انصبّ على عنوان غصبيّة الصلاة ، والحال أنّ هذا العنوان نفسه انصبّ عليه عدم الترخيص في التطبيق

ص: 356

المستفاد من النهي الشمولي. فيكون هناك فرد واحد عنوانه الصلاة الغصبيّة موردا لحكمين متنافيين هما الترخيص في التطبيق وعدم الترخيص في التطبيق.

ولا يجدي هنا كون الصلاة بعنوانها مغايرة للغصب بعنوانه بناء على كفاية تعدّد العنوان ؛ لأنّ التنافي لم يكن بلحاظ نفس الصلاة كعنوان ، ونفس الغصب كعنوان آخر مباين للأوّل ذاتا ومفهوما ، وإنّما التنافي هنا بلحاظ ما يستفاد من الأمر بالجامع المتعلّق بالصلاة ومن النهي الشمولي المتعلّق بالغصب ، فإنّ المستفاد من الأوّل جواز تطبيق الجامع على كلّ فرد فرد ومنها عنوان الفرد الغصبي الصلاتي ، والمستفاد من الثاني عدم جواز تطبيق النهي على كلّ فرد فرد ومنها عنوان الفرد الغصبي الصلاتي ، فهذا العنوان الواحد انصبّ عليه حكمان متنافيان فيلزم المحذور.

وبهذا ظهر أنّ هذه الخصوصيّة تتمّ على ما اختاره السيّد الشهيد فيندفع محذور الاجتماع لكفاية تعدّد العنوان. بينما لا تكفي لدفع المحذور بناء على ما اختاره الميرزا من تقريب للتنافي.

الخصوصيّة الثالثة : أن نسلّم بأنّ الخصوصيّتين السابقتين غير نافعتين لدفع التنافي ، وأنّ الصلاة في المكان المغصوب لا يمكن أن يجتمع عليها أمر ونهي بعنوانين ، ولكنّنا نفترض أنّها متعلّقة للأمر والنهي مع عدم تعاصرهما في الفعليّة زمانا ، فيبحث عمّا إذا كان هذا نافعا في دفع التنافي أو لا.

ومثاله المقصود حالة طروّ الاضطرار بسوء الاختيار ، وتوضيحه : أنّ الإنسان تارة يدخل إلى الأرض المغصوبة بدون اختياره ، وأخرى يدخلها بسوء اختياره ، وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرّا إلى التصرّف في المغصوب بالمقدار الذي يتضمّنه الخروج ، غير أنّ هذا المقدار يكون مضطرّا إليه لا بسوء الاختيار في الحالة الأولى ، ومضطرّا إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية.

ويترتّب على ذلك : أنّ هذا المقدار في الحالة الأولى يكون مرخّصا فيه من قبل الشارع ، خلافا للحالة الثانية ؛ لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسئوليّة والإدانة كما تقدّم (1) ، ولكنّ النهي ساقط على القول المتقدّم بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا.

ص: 357


1- في بحث قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، تحت عنوان : حالات ارتفاع القدرة.

الخصوصيّة الثالثة : فيما إذا كان الأمر والنهي غير متعاصرين في الفعليّة زمانا.

وهنا تارة يكون الاضطرار إلى الدخول في الأرض المغصوبة باختيار المكلّف بأن دخل باختياره وإرادته إلى الأرض ، وهذا ما يسمّى بالاضطرار بسوء الاختيار حيث اختار المعصية فكان اختياره سيّئا.

وأخرى لا يكون الاضطرار للدخول إلى المغصوب عن اختيار منه بأن أكره أو ألجئ على ذلك ، فهنا رغم إرادته واختياره حصل منه الدخول.

ففي الحالة الأولى لا إشكال في كونه عاصيا بالدخول بخلاف الحالة الثانية ، ولكنّهما يشتركان معا في مسألة وهي أنّه بعد أن تحقّق منه الدخول وصار موجودا في الأرض المغصوبة ، فكونه وبقاؤه في المغصوب يعتبر غصبا أيضا فيكون مأمورا بالخروج من أجل تخليص نفسه من الغصب الزائد ، وهذا الحكم عقلي ؛ لأنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، فلمّا كان تخليص النفس من المعصية واجبا وكان موقوفا على الخروج فيكون الخروج واجبا عقلا ، وعلى أساس الملازمة الشرعيّة بينهما يثبت وجوبه الشرعي أيضا.

وحيث إنّ الخروج يستلزم التصرّف في المغصوب أيضا ؛ لأنّه يتطلّب مقدارا من الزمان والمرور والمشي في المغصوب ، فيكون هذا التصرّف الغصبي الذي يستلزمه الخروج مضطرّا إليه المكلّف. نعم ، في حالة دخوله بسوء اختياره يكون هذا الاضطرار أيضا بسوء الاختيار بخلاف الدخول لا عن اختيار ، فإنّه يكون اضطرارا لا عن سوء اختيار.

والنتيجة هنا : هي أنّ المكلّف لمّا كان دخوله بسوء اختياره فيكون اضطراره إلى التصرّف الغصبي الزائد الذي يحتاجه الخروج الواجب عقلا أو عقلا وشرعا من سوء اختياره أيضا.

وقد تقدّم فيما سبق أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي التكليف عقابا وإدانة.

نعم ، هو ينافي التكليف خطابا ، بمعنى أنّه يستحقّ العقوبة ويكون مدانا ولكنّ الخطاب والتكليف من وجوب أو حرمة لا يشمله ؛ لأنّه مقيّد بالقدرة ، وهو هنا غير قادر على ترك الغصب كما هو واضح.

بخلاف ما إذا كان دخوله لا عن اختيار منه فإنّ هذا التصرّف الغصبي الزائد كما لا تكليف فيه كذلك لا إدانة ولا عقوبة عليه.

ص: 358

إذا الدخول بسوء الاختيار يؤدّي إلى كون التصرّف الغصبي الزائد حال الخروج الواجب فيه مسئوليّة وإدانة وعقوبة وإن كان النهي والتحريم ساقطا بلحاظ هذا المقدار ؛ لأنّه مضطرّ إليه فلا قدرة له على الإطاعة وإن كان موجودا من أوّل الأمر.

بينما الدخول لا عن اختيار لا يؤدّي إلى العقوبة والإدانة كما لا يؤدّي إلى التحريم والنهي ، بل هنا المقدار مرخّص فيه من أوّل الأمر. ويترتّب على هذا نتيجة فقهيّة مهمّة ، وهي :

وعليه ، فلو كان وقت الصلاة ضيّقا وكان بإمكان المكلّف أن يصلّي حال الخروج بدون أن تطول بذلك مدّة الخروج ، فصلّى بنفس خروجه ، فهذه صلاة في المكان المغصوب.

ولا شكّ في وجوبها في الحالة الأولى ؛ لأنّ الخروج باعتباره مضطرا إليه لا بسوء الاختيار غير منهيّ عنه منذ البدء.

وأمّا في الحالة الثانية ، فقد يقال بأنّها منهيّ عنها ومأمور بها ، غير أنّ النهي والأمر غير متعاصرين زمانا ، ومن هنا جاز ثبوتهما معا ؛ وذلك لأنّ النهي سقط خطابا بالاضطرار الحاصل بسوء الاختيار وإن لم يسقط عقابا وإدانة ، والأمر توجّه إلى الصلاة حال الخروج بعد سقوط النهي ، فلم يجتمعا في زمان واحد.

الصلاة حال الخروج : فتارة يفرض سعة الوقت للصلاة بعد الخروج من المغصوب ، فهنا تجب الصلاة بعد الخروج ؛ لأنّه ليس مضطرّا للصلاة في المغصوب حينئذ ؛ لأنّ الأمر بالصلاة لمّا كان بدليّا فهو لا يتعيّن بهذا الفرد أو ذاك ، فإذا كان هناك مانع من تعلّقه بالفرد المعيّن ككونه غصبا - كما هنا - فإنّه لا يكون متعلّقا به ومنصرفا إلى غيره من الأفراد التي لا يوجد فيها أي مانع ولا محذور. ولكنّه لو صلّى في المغصوب حال الخروج مع سعة الوقت فهل صلاته صحيحة أم لا؟

والجواب : أنّ صلاته في المغصوب لو كانت أقلّ كمالا أو مساوية في الكمال للصلاة خارجه فهي باطلة ، كما لو كانت الصلاة في المغصوب إيمائيّة والصلاة خارجه اختياريّة أو كانتا معا إيمائيّتين أو اختياريّتين.

وإن كانت الصلاة في المغصوب أكمل بأن كانت اختياريّة وكانت الصلاة خارجه إيمائيّة ، فهنا إن استلزمت المكث الزائد عن الخروج فهي باطلة ، وإن لم تستلزم

ص: 359

المكث الزائد كما إذا صلّى الصلاة الاختياريّة حال الخروج وهو على ظهر مركب مثلا فهي صحيحة. وهذا الفرض بشقوقه لم يذكره السيّد الشهيد هنا وإنّما اقتصر على الشقّ الثاني الآتي.

وأخرى يفرض ضيق وقت الصلاة ، بحيث لو أراد الانتظار إلى أن يخرج لفات وقتها ، فهنا إذا أراد أن يصلّي في المكان المغصوب فيكون قد اجتمع الأمر والنهي على موضوع واحد ؛ لأنّ صلاته تكون واجبة ومصداقا للمأمور به. وتكون حراما ومصداقا للمنهي عنه ؛ لأنّ ما يفعله يكون صلاة ويكون غصبا أيضا. وحينئذ ما هو حكم صلاته؟

وهنا صورتان :

الأولى : أن يبنى على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فتكون صلاته في المغصوب صحيحة. فيصلّي إيماء حال الخروج. وأمّا إذا صلّى الصلاة الاختياريّة فإن لم تستلزم المكث الزائد كما إذا كان على ظهر مركب فهي صحيحة أيضا ، وإن استلزمت المكث الزائد كانت صحيحة ولكنّه يعاقب على المكث الزائد ، وهذه الصورة ليست هي موضع البحث هنا.

الثانية : أن يبنى على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فهنا إن استلزمت الصلاة مكثا زائدا عن الخروج كما لو أراد الصلاة الاختياريّة فتقع باطلة ؛ لأنّ الوقوف والسجود يعتبران غصبا زائدا عن الخروج فتبطل ؛ لأنّه ليس مضطرّا للغصب الزائد.

وأمّا إن لم تستلزم صلاته المكث الزائد كما لو أراد أن يصلّي إيماء حال الخروج ، أو أراد أن يصلّي الصلاة الاختياريّة من على ظهر المركب مثلا ، فهنا تظهر ثمرة الفرق بين الدخول بسوء الاختيار وبين الدخول لا بسوء الاختيار ، وهذه الصورة هي موضع البحث هنا.

فنقول : إذا كان دخوله إلى الأرض المغصوبة لا بسوء اختياره ، فهنا تكون صلاته في المغصوب مع عدم استلزامها المكث الزائد عن الخروج صحيحة ؛ وذلك لأنّ الخروج لم يتعلّق به النهي لا قبل الدخول ولا بعده.

أمّا عدم تعلّق النهي بالخروج بعد الدخول إلى المغصوب فلأنّه بعد الدخول يصبح مضطرّا للخروج لكونه مقدّمة للتخلّص من الغصب الزائد ؛ لأنّ بقاءه في المغصوب غصب أيضا فيكون واجبا أو على الأقلّ مرخّصا فيه.

ص: 360

وأمّا عدم تعلّق النهي بالخروج قبل أن يدخل إلى المغصوب فلأنّ النهي لا يكون فعليّا في هذا الظرف ، فلا يوجد إذا إلا الأمر بالصلاة فقط.

وأمّا إذا كان دخوله إلى الأرض المغصوبة بسوء اختياره ، فهنا قد يقال : إنّ الصلاة مأمور بها حال الخروج ومنهي عنها أيضا ؛ لأنّها في المغصوب ، ولكنّ الأمر والنهي ليسا متعاصرين في الفعليّة زمانا ، فإنّ زمان الأمر هو حال الخروج ؛ لأنّه في هذه الحالة يتوجّه إليه الأمر بالصلاة التي لا تستلزم المكث الزائد ، بينما زمان النهي عن الصلاة في المغصوب من حين الدخول إلى الأرض المغصوبة ، ولكنّه بعد أن دخل إلى المغصوب بسوء اختياره سقط هذا النهي عن الفعليّة وإن كان مدانا ويستحقّ العقاب على ذلك. فزمان النهي متقدّم على زمان الأمر ؛ لأنّه ثابت حين الدخول لا بعده ، وأمّا زمان الأمر فهو متأخّر عن زمان النهي ؛ لأنّه ثابت حال الخروج.

والنتيجة على ضوء ذلك : أنّه في حال الخروج لم يتعاصر الأمر والنهي ؛ إذ لا يوجد إلا الأمر فقط ، ومع عدم التعاصر بين الأمر والنهي في الزمان لا يلزم محذور الاجتماع ؛ لأنّ من شروط التضادّ وحدة الزمان أيضا - كما هو واضح - ولذلك تقع صلاته صحيحة أيضا وإن استحقّ العقاب بسبب دخوله بسوء اختياره ، ولكنّ السيّد الشهيد لا يرتضي هذا القول ، ولذلك علّق عليه بقوله :

ولكنّ التحقيق : أنّ ذلك لا يدفع التنافي بين الأمر والنهي ؛ لأنّ سقوط النهي لو كان لنسخ وتبدّل في تقدير الملاكات لأمكن أن يطرأ الأمر بعد ذلك ، وأمّا إذا كان بسبب الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان ، فهذا إنّما يقضي سقوط الخطاب لا المبادئ ، فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت على كلّ حال. هذا إذا أخذنا بالقول السابق الذي يقول بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطابا ، وإذا أنكرنا هذه المنافاة فالأمر أوضح.

والتحقيق : أنّ عدم التعاصر الزماني بين الأمر والنهي لا يكفي لدفع غائلة التنافي بين الأمر والنهي ؛ وذلك لأنّ التنافي بينهما إنّما هو بلحاظ المبادئ والملاكات والمفسدة والمصلحة والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وليس مختصّا بلحاظ عدم القدرة على الامتثال في مقام المتطلّبات فقط.

ص: 361

وحينئذ نقول : إنّ سقوط النهي تارة يكون تكليفا وملاكا ، وأخرى يكون بلحاظ التكليف دون الملاك.

فإن كان النهي ساقطا خطابا وملاكا تمّ ما ذكر ، وأمّا إن كان ساقطا خطابا فقط مع بقاء ملاكه فلا يتمّ القول المذكور.

وفي مقامنا النهي ساقط خطابا فقط ، ممّا يعني أنّ ملاكاته بما تتضمّن من المفسدة والمبغوضيّة لا تزال موجودة ، ولذلك استحقّ العقوبة بدخوله بسوء اختياره ؛ إذ لو كانت ساقطة لم يكن معنى لبقاء العقوبة. ومع بقاء المبادئ والملاك سوف تكون الصلاة حال الخروج فيها مبادئ الأمر من مصلحة ومحبوبيّة ، وفيها مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة فيلزم المحذور.

نعم ، لو كان النهي ساقطا خطابا وملاكا فلا محذور ، ولكن سقوط النهي كذلك لا يكون إلا بالنسخ أو بتبدّل الملاكات وكلاهما باطل ؛ لأنّ النسخ الحقيقي مستحيل وبمعناه الممكن يحتاج إلى دليل ؛ ولأنّ التبدّل معناه البداء وهو يستلزم الجهل وهو ممتنع.

وبهذا يظهر أنّنا حتّى لو قلنا بأنّ سوء الاختيار ينافي التكليف خطابا فلا يكفي عدم التعاصر الزماني لدفع المحذور ؛ لأنّ الملاكات والمبادئ لا تزال باقية على حالها.

وأمّا إذا أنكرنا هذا المبنى وقلنا بأنّ سوء الاختيار لا ينافي التكليف فضلا عن العقوبة ، فالنهي موجود بخطابه أيضا لا بملاكاته ومبادئه فقط ، فيكون محذور الاجتماع أوضح.

وبهذا ينتهي الكلام حول حكم الصلاة حال الخروج.

وقد واجه الأصوليّون هنا مشكلة اجتماع الأمر والنهي من ناحية أخرى في المقام ، وحاصلها : أنّه قد افترض كون الخروج مقدّمة للتخلّص الواجب من الغصب ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فيكون الخروج واجبا فعلا مع كونه منهيّا عنه بالنهي السابق الذي لا يزال فعليّا بخطابه وروحه معا أو بروحه وملاكه فقط على الأقلّ.

فهل يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدّمة للواجب ، أو بتخصيص في دليل حرمة التصرّف في المغصوب على نحو ينفي وجود نهي من أوّل الأمر عن هذه الحصّة من التصرّف ، أو بانخرام في قاعدة وجوب المقدّمة؟ وجوه بل أقوال :

ص: 362

حكم الخروج في نفسه :

إنّنا إذا افترضنا دخول الإنسان إلى الأرض المغصوبة - سواء كان دخوله بسوء اختياره أم لا - فهنا يتوجّه إليه أمر نفسي بوجوب تخليص نفسه من الغصب ، إلا أنّ هذا الواجب يتوقّف على مقدّمة وهي الخروج من الأرض المغصوبة ؛ إذ لا يمكن أن يتحقّق التخليص الواجب إلا بالخروج كما هو واضح ، فالخروج إذا مقدّمة وجوديّة للواجب يحكم بها العقل ، فهو واجب ولازم بحكم العقل.

ولكنّ السؤال هنا أنّه بناء على القول بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، فهل يمكن أن يكون الخروج واجبا شرعيّا من باب المقدّميّة أو لا يمكن ذلك؟

فإن قيل بأنّه ما دام مقدّمة للواجب فعلى الملازمة لا بدّ أن يتّصف بالوجوب الغيري أيضا.

فيقال : إنّ اتّصافه بالوجوب يستلزم اجتماع الأمر والنهي على عنوان واحد ؛ وذلك لأنّ الخروج عبارة عن التصرّف في المغصوب أيضا بما يستلزمه من التحرّك والتنقّل من المكان الذي هو فيه إلى خارج المغصوب فيكون أيضا تصرّفا غصبيّا ، وحيث إنّ حرمة الغصب انحلاليّة وشموليّة فهي تشمل هذه الحصّة من الغصب ، وتكون النتيجة اجتماع الأمر والنهي على عنوان الخروج :

إمّا بلحاظ المبادئ والملاكات فقط ، فيما إذا قيل بأنّ الدخول بسوء الاختيار ينافي التكليف خطابا ، ولكنّه لا ينافيه عقابا المستلزم لبقاء الملاك فيه.

وإمّا بلحاظ المبادئ والملاكات والإيجاب والتحريم والمفسدة والمصلحة ، فيما إذا قيل بأنّ الدخول بسوء الاختيار لا ينافي التكليف لا خطابا ولا عقابا.

وحينئذ فعلى القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي فهذه المشكلة لا بدّ من حلّ لها بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : أن يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدّمة للواجب فلا يتّصف بالوجوب ، بل هو محرّم فقط.

ثانيا : أن يلتزم بتخصيص دليل الحرمة والنهي في غير هذه الحصّة من الغصب المستلزمة للخروج ، فيكون الخروج واجبا فقط.

ص: 363

ثالثا : أن يلتزم بانخرام قاعدة وجوب المقدّمة ، فيقال بوجوب المقدّمة في غير هذه الحالة مع التسليم بكونها مقدّمة ، فيكون الخروج محرّما فقط.

فهنا أقوال ثلاثة :

أمّا الوجه الأوّل فحاصله : أنّ الخروج والبقاء متضادّان ، والواجب هو ترك البقاء ، وفعل أحد الضدّين ليس مقدّمة لترك ضدّه ؛ كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

وهذا الوجه حتّى إذا تمّ لا يحلّ المشكلة على العموم ؛ لأنّ هذه المشكلة لا نواجهها في هذا المثال فقط ، بل في حالات أخرى لا يمكن إنكار المقدّميّة فيها من قبيل من سبّب بسوء اختياره إلى الوقوع في مرض مهلك ينحصر علاجه بشرب الشراب المحرّم ، فإنّ مقدّميّة الشرب في هذه الحالة واضحة.

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الخروج لا يمكن أن يتّصف بكونه مقدّمة للواجب ؛ وذلك لأنّ الواجب وهو تخليص نفسه من الغصب ليس إلا عنوانا مشيرا لترك الحرام ، وهو هنا البقاء في المغصوب فيكون الواجب هو ترك البقاء في المغصوب.

وحيث إنّ الخروج والبقاء ضدّان لكونهما فعلين وجوديين ، فلو كان الخروج مقدّمة لترك البقاء للزم من ذلك أن يكون أحد الضدّين وهو الخروج مقدّمة لعدم الضدّ الآخر أي لعدم البقاء أو لترك البقاء.

ومن الواضح : أنّ الضدّين كما لا يمكن أن يكون أحدهما علّة للآخر ، كذلك لا يمكن أن يكون أحدهما علّة لعدم الآخر ، ولذلك يمتنع اتّصاف الخروج بكونه مقدّمة.

والوجه في أنّ أحد الضدّين لا يكون علّة للآخر أو علّة لعدم الآخر ، ما تقدّم منّا سابقا في الحلقة الثانية ، وملخّصه : أنّ المقدّمة تكون بمثابة العلّة أو الجزء الأخير من العلّة ، وفعل أحد الضدّين أو تركه ليست علّته فعل أو ترك الضدّ الآخر ، بل علّته إرادة المكلّف الفعل أو الترك ، فإن أراد فعل هذا الضدّ كان لازم ذلك تركه للضدّ الآخر وإن أراد ترك هذا الضدّ كان لازمه فعل الضدّ الآخر ، فترك الضدّ أو فعله

ص: 364


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

يلازم العلّة أو الجزء الأخير من العلّة وليس هو نفسهما ، وما دام كذلك فلا يتّصف بكونه مقدّمة.

وفي مقامنا الخروج ليس هو العلّة أو جزءها الأخير ، بل العلّة هي إرادة المكلّف البقاء أو ترك البقاء ، والخروج وعدمه ملازم لذلك فقط. وهذا معناه أنّ الخروج لا يتّصف بالوجوب ، وإنّما يتّصف بالحرمة فقط لكونها انحلاليّة وتشمل كلّ حصص وأفراد الغصب والتي منها الغصب حال الخروج.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ هذا الوجه غير تامّ في نفسه ؛ وذلك لأنّنا وإن قبلنا كون أحد الضدّين لا يكون علّة لفعل الضدّ الآخر أو لعدمه ، إلا أنّ هذا المعنى غير متحقّق في مقامنا ؛ وذلك لأنّ الخروج ليس علّة لترك البقاء في الغصب في نفس آن الخروج ، وإنّما هو علّة لترك البقاء في الغصب بلحاظ الآنات اللاحقة ، ممّا يعني أنّ الزمان مختلف.

ومن الواضح : أنّ من شروط امتناع كون أحد الضدّين علّة لعدم الآخر أو لفعله هو وحدة الزمان بأن يكون الضدّ علّة لعدم ضدّه مثلا في نفس الآن الذي يثبت فيه الضدّ ، وأمّا إذا كان علّة لعدمه في الآن اللاحق فلا مانع منه ؛ لأنّه مع اختلاف الزمان ينحلّ التناقض فضلا عن التضادّ.

فمثلا إذا قلنا بأنّ الإزالة والصلاة متضادّان ، فلا يكون فعل أحدهما علّة لعدم الآخر ، ففعل الصلاة ليس هو علّة عدم الإزالة في نفس زمان وجود الصلاة ، إلا أنّ هذا لا يمنع أن يكون فعل الصلاة علّة لعدم الإزالة في الآن اللاحق عن الصلاة ؛ لأنّه بعد الفراغ من الصلاة سوف يكون قد سبّب عدم الإزالة فيكون فعلها ملازما لعدم الصلاة لا علّة لها ، والتلازم غير العلّيّة ؛ لأنّه يمكن أن يكونا معا معلولين لعلّة ثالثة ، وهي اختيار وإرادة المكلّف ، فإنّه لمّا لم يرد الإزالة قام بفعل الصلاة.

وهنا كذلك فهو لمّا أراد ترك البقاء في الآن اللاحق في الغصب قام بالخروج ، فيكون الخروج ملازما لترك البقاء في الغصب في الآن اللاحق ، وهذا أمر معقول في نفسه.

وثانيا : لو سلّمنا بمقالة المحقّق الأصفهاني وانطباقها على مقامنا ، إلا أنّها ليست مطّردة في سائر الأحوال ، ممّا يعني أنّ ما ذكره ليس قاعدة عامّة وكلّيّة ، بل هي تختلف من مورد لآخر.

ص: 365

فمثلا من سبّب لنفسه المرض الشديد بسوء اختياره بأن شرب السمّ مثلا ، وتوقّف علاجه على تناول المحرّم ، فلا إشكال في كون تناول المحرّم مقدّمة للشفاء من المرض أو الموت ، فيتّصف بالوجوب مع كونه محرّما في نفسه.

إذا فما ذكره من إنكار المقدّميّة إنّما هو مختصّ في حالات كون الفعلين متضادّين. وأمّا في غيرهما من الحالات كالمثال المذكور فإنّ شرب الدواء ليس ضدّا للشفاء أو لعدم الشفاء ، فلا يتمّ ما ذكره ، ممّا يعني أنّ مشكلة اجتماع الأمر والنهي لا تزال قائمة ونحتاج إلى حلّ آخر غير ما ذكره.

وأمّا الوجه الثاني : فلا يمكن الأخذ به إلا مع قيام برهان على التخصيص المذكور ، بتعذّر أي حلّ آخر للمشكلة.

الوجه الثاني : ما يقال : من كون الخروج يتّصف بالوجوب العقلي وبالوجوب الشرعي الغيري أيضا ؛ لكونه مقدّمة للواجب ، إلا أنّ الحرمة ساقطة خطابا وملاكا في ذاك الفرض ، أمّا سقوطها خطابا فهو واضح وتامّ على جميع المسالك والمباني ؛ وذلك لفرض الاضطرار الرافع للتكليف ، وأمّا ارتفاعها ملاكا حال الخروج فلأنّ الخروج محبوب للشارع فلا يكون مبغوضا كذلك.

وهذا لازمه تخصيص دليل حرمة الغصب في غير الحصّة المقارنة مع الخروج ، فإنّها لا تكون محرّمة لا خطابا ولا ملاكا.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ لو كان هناك دليل تام على التخصيص ، ولذلك يحتاج إلى قيام برهان على ذلك ، فمع عدمه لا يمكن المصير إليه ، مضافا إلى أنّ المصير إلى هذا الوجه إنّما يتّجه لو فرض عدم تماميّة الوجه الثالث الآتي مضافا إلى عدم تماميّة الوجه الأوّل أيضا. وسوف يأتي في الوجه الثالث أنّ البرهان قائم على بقاء الحرمة ولو بلحاظ مبادئها على الأقلّ.

وأمّا الوجه الثالث فهو المتعيّن ، وذلك بأن يقال : إنّ المقدّمة من ناحية انقسامها إلى فرد مباح وفرد محرّم على أقسام :

أحدها : أن تكون منقسمة إلى فردين من هذا القبيل فعلا ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو غير المحرّم خاصّة ؛ لأنّ الملازمة التي يدركها العقل لا تقتضي أكثر من ذلك.

ص: 366

ثانيها : أن تكون منحصرة أساسا - وبدون دخل للمكلّف في ذلك - في الفرد المحرّم ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو الفرد المحرّم إذا كان الوجوب النفسي أهمّ من حرمته ، وتسقط الحرمة حينئذ.

ثالثها : أن تكون منقسمة أساسا إلى فرد مباح وفرد محرّم غير أنّ المكلّف عجّز نفسه بسوء اختياره عن الفرد المباح.

الوجه الثالث : وهو ما يختاره السيّد الشهيد من انخرام قاعدة وجوب المقدّمة في مقامنا ، مع الإيمان بها في سائر الموارد - على القول بها طبعا ولو بلحاظ المبادئ - فيكون الخروج غير متّصف بالوجوب فلا يوجد إلا الحرمة.

وبيانه أن يقال : إنّ المقدّمة تنقسم بلحاظ أفرادها إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن تكون منقسمة إلى فردين مباح ومحرّم ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وكان لإنقاذه وسيلتان : إحداهما اجتياز الأرض المباحة ، والأخرى اجتياز الأرض المغصوبة ، فهنا يتعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة المباحة أي بالفرد المباح منها ، ولا يتعلّق بالفرد المحرّم.

والدليل على ذلك هو العقل فإنّه هو الحاكم بالملازمة وهو يحكم أيضا بلزوم امتثال الواجب في الفرد المباح ، وأمّا الفرد المحرّم ففيه مئونة زائدة وهي الحرمة ولا يوجد أيّ داع لارتكابها ؛ لأنّ العقل يحكم أيضا بلزوم إطاعة تكاليف المولى ، فيمكن للمكلّف أن يحصّل كلا الغرضين والملاكين فينقذ الغريق ولا يرتكب الحرام. وهذا واضح ، وهو خارج عن محلّ كلامنا.

الثاني : أن يكون للمقدّمة فرد واحد فقط ، وهو الفرد المحرّم خاصّة ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وتوقّف على اجتياز الأرض المغصوبة أو على إتلاف مال الغير ، فإنّ انحصار المقدّمة بالفرد المحرّم لا مدخليّة للمكلّف فيه ، وفي هذه الحالة تارة يكون الأهمّ هو الحرام ، وأخرى يكون الأهمّ هو الواجب.

فإذا كان الأهمّ هو الحرام سوف يكون الوجوب ساقطا عن الفعليّة ؛ لأنّ كلّ تكليف مشروط بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة لعدم وجود المانع الشرعي ، وهنا يوجد مانع شرعي أهمّ. فتكون المقدّمة محرّمة لا غير.

وإذا كان الأهمّ هو الواجب فسوف يكون دليل الحرمة مختصّا بغير هذه الحصّة ؛

ص: 367

لأنّه مشروط أيضا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة لعدم وجود واجب آخر أهمّ ، فتكون المقدّمة واجبة غيريّا لوجوب ذيها الأهمّ ، وتسقط عنها الحرمة. وهذا الفرض خارج عن محلّ الكلام أيضا.

الثالث : أن يكون للمقدّمة فردان أحدهما مباح والآخر محرّم ، غير أنّ المكلّف بسبب سوء اختياره يحصر المقدّمة بالفرد المحرّم دون المباح ، وهذا الانحصار ناشئ من تعجيز المكلّف نفسه عن اختيار الفرد المباح ، وهذه الحالة هي محلّ بحثنا وكلامنا ، فنقول :

وفي هذه الحالة يدرك العقل أنّ الانحصار في الفرد المحرّم غير مسوّغ لتوجّه الوجوب الغيري نحوه ما دام بسوء الاختيار ، فالفرد المحرّم يظلّ على ما هو عليه من الحرمة ، ويكون تعجيز المكلّف نفسه عن الفرد المباح من المقدّمة مع بقاء الفرد المحرّم على حرمته تعجيزا له شرعا عن الإتيان بذي المقدّمة ؛ لأنّ المنع شرعا عن مقدّمة الواجب تعجيز شرعي عن الواجب ، ولمّا كان هذا التعجيز حاصلا بسوء اختيار المكلّف فيسقط الخطاب المتكفّل للأمر بذي المقدّمة على القول المشهور دون العقاب والإدانة ، غير أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل ذي المقدّمة ولو بارتكاب المقدّمة المحرّمة ؛ لأنّ ذلك أهون الأمرين ، وهذا يؤدّي إلى اضطراره إلى ارتكاب الفرد المحرّم من المقدّمة ، غير أنّه لمّا كان منشأ هذا الاضطرار أساسا سوء الاختيار فيسقط الخطاب على القول المشهور دون العقاب.

وينتج عن ذلك : أنّ الخطابات كلّها ساقطة فعلا ، وأنّ روحها بما تستتبعه من إدانة ومسئوليّة ثابت.

ذكرنا أنّ القسم الثالث من أقسام المقدّمة ما إذا كان لها فردان أحدهما مباح والآخر محرّم ، ولكنّ المكلّف بسوء اختياره أوقع نفسه في العجز فانحصرت المقدّمة بالفرد المحرّم دون المباح ، كما هو الحال في محلّ بحثنا فإنّ المكلّف يجب عليه تخليص نفسه من الغصب أو يجب عليه أن يترك البقاء في الغصب ، وهذا الواجب له فردان :

أحدهما : ألاّ يرتكب المعصية ولا يدخل إلى المكان المغصوب ، فإنّه إذا لم يدخل إلى المكان المغصوب يكون قد حقّق الواجب المطلوب منه وهو تخليص نفسه من الغصب ،

ص: 368

أو عدم بقائه في المغصوب من باب السالبة بانتفاء الموضوع. وهذا الفرد مباح.

والآخر : أن يدخل إلى المكان المغصوب ويرتكب المعصية فعلا ، فإنّه لا يمكنه تخليص نفسه من ذلك إلا بالخروج وهو يستلزم التصرّف في الحرام أيضا ، ولذلك يكون هذا الفعل مقدّمة محرّمة للواجب. ولكن هذه المقدّمة هي الطريق الوحيد لهذا الواجب ؛ لأنّ المكلّف لمّا دخل الأرض المغصوبة فهو بسوء اختياره قد عجّز نفسه عن الفرد المباح وحصر المقدّمة بالفرد المحرّم.

وحينئذ فهل يكون الفرد المحرّم واجبا لصيرورته مقدّمة للواجب ، أو يبقى على حرمته فقط من دون اتّصافه بالوجوب ، أو يتّصف بالوجوب والحرمة معا؟

الصحيح هو أنّ العقل لا يحكم بتوجّه الوجوب الغيري على الفرد المحرّم بسبب انحصار المقدّمة فيه بسوء اختيار المكلّف ؛ لأنّ العجز غير التعجيز ، وهذا معناه أنّ الفرد المحرّم لا ينصبّ عليه الوجوب الغيري ، وإنّما يبقى على حرمته شرعا ، فيكون المكلّف ممنوعا شرعا من ارتكاب هذه المقدّمة المحرمة لتعلّق الحرمة بها بوصفها حصّة من الغصب. وهذا سوف يؤدّي إلى أنّ المكلّف سوف يعجز عن امتثال الواجب أي ذي المقدّمة ، فإنّ منعه شرعا عن التوصّل بالفرد المحرّم إلى الواجب يعني تعجيزه شرعا من الإتيان بالواجب ؛ لأنّ المفروض انحصار فعل الواجب بالفرد المحرم وقد فرضنا أنّه ممنوع من ارتكابه شرعا.

وتكون النتيجة إلى هنا أنّ المكلّف لن يمتثل الواجب ؛ لأنّه ممنوع من الخروج لتعلّق النهي به شرعا ، ولكن هذا التعجيز الشرعي حصل بسوء اختيار المكلّف ؛ لأنّه دخل إلى المغصوب باختياره ، ولذلك سوف يسقط التكليف والأمر بذي المقدّمة خطابا فقط ، وأمّا عقابا وإدانة فيبقى ، وهذا معناه أنّ المكلّف يحرم عليه الخروج لتعلّق النهي به ولا يجب عليه تخليص نفسه ؛ لأنّه ممنوع شرعا عن مقدّمته المحرّمة المنحصرة ولكن مع ذلك يعاقب على تركه التخليص.

وإذا لاحظنا هذه الحالة نجد أنّه يوجد محذوران :

أحدهما : البقاء في المغصوب والمستلزم لحرمة الغصب في كل آن آن من البقاء.

والآخر : التخلّص من الغصب وذلك بارتكاب مقدّمته المحرّمة وهي الخروج ؛ لأنّه متعلّق للنهي دون الوجوب الغيري.

ص: 369

وحينئذ يحكم العقل باختيار المحذور الثاني ؛ لأنّه أهون وأخفّ مئونة من المحذور الأوّل ، فيحكم العقل بوجوب تخليص نفسه من المغصوب ولو بارتكاب الخروج المحرّم ، فيكون مضطرّا إلى ارتكاب الفرد المحرّم ولكن ، لمّا كان هذا الاضطرار ناشئا عن سوء اختياره ؛ لأنّه هو الذي أوقع نفسه في ذلك بسبب دخوله الأرض المغصوبة باختياره فسوف تسقط حرمته خطابا بسبب الاضطرار ولكن تبقى الحرمة عقابا وإدانة.

وتكون النتيجة النهائيّة هي سقوط الحرمة عن الخروج تكليفا ، فقد تقدّم أنّ التكليف بتخليص نفسه وهو الواجب النفسي قد سقط تكليفا أيضا ، والخروج نفسه لا يشمله الوجوب الغيري من أوّل الأمر لكونه أحد فردي المقدّمة المتّصف بالحرمة ، فيكون الوجوب الغيري منصرفا عنه ، والمفروض أيضا سقوط حرمة الغصب فعلا بعد الدخول لصيرورته مضطرّا إلى الغصب.

وهذا معناه أنّ كلّ التكاليف وهي أربعة ساقطة تكليفا أي عن الفعليّة ، ولكنّها ثابتة بروحها أي من حيث استتباعها للإدانة والعقوبة.

وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث يحلّ المشكلة ؛ لأنّ جميع التكاليف ساقطة ، فالخروج لا يتّصف لا بالوجوب ولا بالحرمة ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله وإن وجب عليه بحكم العقل لكونه أهون المحذورين ، فيكون حكم الخروج هو كونه واجبا بحكم العقل من باب أهون المحذورين من دون أن يتّصف بالوجوب أو الحرمة شرعا ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله ؛ لأنّه كان بسوء اختياره.

وفي كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لا يختلف الحال في ذلك بين الأمر والنهي النفسيّين أو الغيريين أو الغيري مع النفسي ؛ لأنّ ملاك الامتناع مشترك ، فكما لا يمكن أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا لنفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون محبوبا لغيره ومبغوضا لنفسه مثلا ؛ لأنّ الحبّ والبغض متنافيان بسائر أنحائهما.

ونحن وإن كنّا ذهبنا إلى إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والحكم ولكنّا اعترفنا به في مرحلة المبادئ ، وهذا كاف في تحقيق ملاك الامتناع ؛ لأنّ نكتة الامتناع تنشأ من ناحية المبادئ وليست قائمة بالوجود الجعلي للحكمين.

ص: 370

حدود امتناع اجتماع الأمر والنهي :

في كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي ، أي إذا بنينا على امتناع الاجتماع بينهما ، فهذا لا يختلف حاله بين أن يكون الأمر والنهي نفسيّين أو يكونا غيريّين أو يكون أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا. فهنا شقوق أربعة :

الأوّل : أن يكون الأمر والنهي نفسيّين ، كما في ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمام ) أو ( لا تغصب ) ، فهنا الأمر بالصلاة نفسي والأمر بالغصب نفسي أيضا. فعلى القول بالامتناع فيكون الامتناع لجهة اجتماع المبادئ المتضادّة على شيء واحد.

الثاني : أن يكون الأمر والنهي غيريّين ، كما في السفر من أجل الحجّ الواجب فإنّه واجب غيري لكونه مقدّمة للواجب ، وفرض أنّ السفر يسبّب الأذيّة للوالدين فيكون محرّما غيريّا لكونه سببا لحصول الحرام وهو التأذّي.

فعلى القول بالامتناع يكون السفر قد اجتمعت فيه المحبوبيّة الغيريّة والمبغوضيّة الغيريّة معا.

الثالث : أن يكون الأمر نفسيّا والنهي غيريّا ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وكان الإنقاذ سببا توليديّا لإتلاف مال الغير ، فإنّه واجب نفسي من جهة وحرام غيري من جهة ثانية ، لكونه مقدّمة للحرام وهو إتلاف مال الغير. وهنا على القول بالامتناع سوف تجتمع المحبوبيّة النفسيّة مع المبغوضيّة الغيريّة على شيء واحد.

الرابع : أن يكون الأمر غيريّا والنهي نفسيّا ، كما إذا دخل إلى مكان مغصوب ، فإنّ الخروج منه لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب يتّصف بالوجوب الغيري ، وبما أنّه مصداق للغصب يتّصف بالحرمة النفسيّة ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة النفسيّة والمحبوبيّة الغيريّة على شيء واحد.

وفي هذه الشقوق كلّها على القول بالامتناع سوف يكون ملاك الامتناع متحقّقا وموجودا فيها. ولا بدّ من علاج المسألة.

ونحن حيث أنكرنا الوجوب الغيري كما تقدّم فقد يشكل علينا بأنّ ملاك الامتناع ينتفي في حالة كون الأمر والنهي أو أحدهما على الأقلّ غيريّا ؛ لأنّه لا محرّكيّة ولا داعويّة ولا مقرّبيّة ولا محبوبيّة ولا مبادئ ولا ملاكات فيه.

ولكن نجيب عن ذلك بأنّنا وإن أنكرنا الوجوب الغيري كما تقدّم ، إلا أنّنا إنّما

ص: 371

أنكرناه بلحاظ الجعل والإيجاب والمحرّكيّة والداعويّة والمحبوبيّة والملاكات المستقلّة ، ولكنّنا اعترفنا بالوجوب الغيري في مرحلة الحبّ والشوق والإرادة وقلنا : إنّ حبّ شيء يستلزم حبّ مقدّمته وبغض شيء يستلزم بغض مقدّمته أيضا.

وعليه فعلى القول بالامتناع فيكون ملاكه تامّا بهذا اللحاظ ؛ لأنّ نكتة الامتناع لا تختصّ بما إذا لم يمكن جعل الحكمين من ناحية المتطلّبات من تحرّك ونحوه ، وإنّما يشمل ما إذا لم يمكن تعلّق الحبّ والبغض على شيء واحد أيضا للزوم التهافت في ذلك.

وأمّا ثمرة البحث في مسألة الاجتماع

فهي أنّه على الامتناع يدخل الدليلان المتكفّلان للأمر والنهي في باب التعارض ، ويقدّم دليل النهي على دليل الأمر ؛ لأنّ النهي إطلاقه شمولي ودليل الأمر إطلاقه بدلي ، والإطلاق الشمولي أقوى.

وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض بين الدليلين ، وحينئذ فإن لم ينحصر امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام وكانت للمكلّف مندوحة في مقام الامتثال فلا تزاحم أيضا ، وإلا وقع التزاحم بين الواجب والحرام.

الثمرة من بحث الاجتماع : يذكر السيّد الشهيد ثمرتين :

الثمرة الأولى : أنّه على القول بالامتناع سوف يدخل بحث الاجتماع في باب التعارض ، بينما على القول بالجواز فسوف يكون من موارد التزاحم الامتثالي. وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ دليل الأمر بالصلاة ودليل النهي عن الغصب إذا فرض اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في المكان المغصوب ، وقلنا بأنّ الاجتماع مستحيل وممتنع فسوف يقع التعارض والتنافي بين الدليلين بلحاظ هذا المجمع ؛ لأنّه سوف يكون مشمولا لكلا الدليلين فتكون مبادئ النهي ومبادئ الأمر قد اجتمعت على شيء واحد.

وحينئذ لا بدّ من تطبيق قواعد التعارض من الجمع أو الترجيح أو التساقط ، وهنا يقدّم دليل النهي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق فيه شمولي ؛ لأنّ الحرمة انحلاليّة بينما إطلاق الأمر بدلي ؛ لأنّ الواجب هو الطبيعة وهي تتحقّق بفرد منها. فيكون دليل النهي أقوى فيرجّح على دليل الأمر. ويحكم ببطلان الصلاة لو صلّى في المكان المغصوب.

ص: 372

وأمّا إذا قلنا بأنّ الاجتماع ممكن وجائز فسوف يدخل المورد في باب التزاحم ؛ وذلك لأنّ دليل الأمر ودليل النهي بلحاظ الامتثال سوف يحصل بينهما التدافع ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي في مقام العمل والمتطلّبات غير ما يستدعيه الآخر.

وحينئذ يفصّل بين ما إذا كان هناك مندوحة للمكلّف وبين ما إذا لم يكن لديه مندوحة.

فإن كان لديه مندوحة بأن كان يمكنه الصلاة خارج المكان المغصوب مع بقاء الوقت ، فهنا كما لا تعارض لا تزاحم أيضا ؛ وذلك لأنّ المكلّف يمكنه الخروج من المغصوب والصلاة خارجه ، فيكون ممتثلا لكلا الدليلين.

وإن لم يكن لديه مندوحة بأن انحصر فعل الصلاة في المكان المغصوب لضيق الوقت عن الإتيان بها خارجه ، فهنا يدخل المورد في باب التزاحم وتطبّق عليه قاعدته وهي ترجيح الأهمّ ملاكا فيكون فعليّا ، بينما يكون الأقلّ أهمّيّة مشروطا بترك أو بعصيان الأهمّ.

وعليه ، فإذا كان دليل الصلاة هو الأهمّ فصلّى في المكان المغصوب كان ما فعله واجبا وصحيحا ومجزيا ولا يتّصف بالحرمة ؛ لأنّ دليل النهي ليس فعليّا. وإذا كان دليل النهي هو الأهمّ كان فعله حراما ولكنّه لو عصى وصلّى كانت صلاته صحيحة ومجزية أيضا ؛ لأنّه في حالة عصيان دليل النهي الأهمّ يكون دليل الأمر فعليّا لتحقّق شرطه وهو عدم امتثال الأهمّ.

وأمّا صحّة امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام فترتبط بما ذكرنا من التعارض والتزاحم بأن يقال : إنّه إذا بني على التعارض بين الدليلين وقدّم دليل النهي ، فلا يصحّ امتثال الواجب بالفعل المذكور سواء كان واجبا توصّليّا أو عباديّا ؛ لأنّ مقتضى تقديم دليل النهي سقوط إطلاق الأمر وعدم شموله له فلا يكون مصداقا للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف القاعدة كما تقدّم (1).

الثمرة الثانية : في صحّة أو فساد امتثال الواجب في المجمع. فهنا يفصّل بين القول بامتناع الاجتماع ، وبين القول بجوازه :

ص: 373


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء.

فإن قيل بالامتناع ووقوع التعارض بين الدليلين ، قدّم دليل النهي كما قلنا ؛ لأنّه أقوى بسبب إطلاقه الشمولي ، وحينئذ يكون الإتيان بالصلاة في المكان المغصوب باطلا وليس امتثالا للمأمور به.

والوجه في ذلك : هو أنّ دليل الأمر قد سقط بسبب وجود المعارض الأقوى ، ومع سقوطه لا يكون ما أتى به المكلّف مصداقا للمأمور به ؛ لأنّه ليس مشمولا لإطلاق الأمر البدلي عندئذ ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواجب عباديّا أو توصّليّا.

ووجه عدم الإجزاء هو أنّ الإجزاء إنّما يكون بأحد أمرين كلاهما منتف هنا :

الأوّل : الإتيان بالمأمور به بحيث يكون ما أتى به مصداقا للواجب المأمور به. وهذا واضح الانتفاء هنا ؛ لأنّ الأمر لمّا كان ساقطا إطلاقه عن المجمع فلا يكون فعل الصلاة في المكان المغصوب امتثالا للواجب المأمور به ؛ إذ لا أمر بالصلاة في هذه الحالة.

الثاني : الإتيان بالملاك ، وحيث إنّ الملاك لا يعرف إلا من قبل إطلاق الدليل أو إطلاق المدلول ، ولكن حيث تقدّم سابقا أنّ الإطلاق في كلا النحوين لا يكفي لاستفادة وجود الملاك ، فلا يكون هناك دليل على ثبوت الملاك.

أمّا إطلاق الدليل فالمفروض سقوطه لوجود المعارض الأقوى ، وأمّا إطلاق المدلول فهو لا يدلّ إلا على إطلاق الحكم ، وإطلاق الحكم لا يبقى مع فرض سقوط إطلاق الدليل ؛ لأنّه يستفاد من الدليل ، والحال أنّ الملاك مدلول التزامي فيسقط تبعا لسقوط المدلول المطابقي.

وإذا انتفى كلا الملاكين للإجزاء احتاج الإجزاء إلى دليل خاصّ وهو منتف في المقام أيضا.

هذا كلّه على الامتناع.

وإذا بني على عدم التعارض فينبغي التفصيل بين أن يكون الواجب توصّليّا أو عباديّا.

فإن كان توصّليّا صحّ وأجزأ سواء وقع التزاحم لعدم المندوحة أو لا ؛ لأنّه مصداق للواجب ، والأمر ثابت به على وجه الترتّب في حالة التزاحم وعلى الإطلاق في حالة عدم التزاحم ووجود المندوحة.

ص: 374

وأمّا إذا بني على جواز الاجتماع وعدم التعارض بين الدليلين ، فهنا يوجد تفصيل بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي :

فإن كان الواجب توصّليّا كما إذا أمره بإحدى المعاملات كالبيع أو الشراء ونهاه عن أذيّة الوالدين ، وفرضنا أنّ المعاملة التي أجراها كانت موجبة لأذيّة الوالدين فهنا يحكم بصحّة المعاملة سواء كان هناك مندوحة أم لا ، وسواء وقع التزاحم مع عدم المندوحة أم لا ؛ وذلك لأنّ ما أتى به من المعاملة يكون مصداقا للواجب المأمور به.

فإن كان هناك مندوحة بأن كان بإمكانه إجراء المعاملة في المورد الذي لا يوجب أذيّة الوالدين ، فهنا لا يتحقّق التزاحم أصلا ، فيكون دليل الأمر مطلقا وبإطلاقه يشمل المورد الذي فعله فيكون ما أتى به مصداقا للواجب.

وإن لم يكن هناك مندوحة ، وانحصر فعل الواجب بالفرد الموجب للأذيّة فهنا يقع التزاحم ، والمفروض أنّ دليل النهي أهمّ ملاكا فيكون مطلقا وفعليّا ، بينما دليل الواجب يكون مشروطا بعصيان الأهمّ ، فإذا عصى الأهمّ وأتى بالواجب صحّ أيضا لصيرورته فعليّا عندئذ.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر إمّا أن يكون مطلقا وفعليّا ، وهذا فيما إذا كان هناك مندوحة ، وإمّا أن يكون مشروطا على وجه الترتّب فيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، ففي الحالة الأولى يكون ما أتى به مصداقا لإطلاق الواجب الفعلي. وفي الحالة الثانية يكون مصداقا للواجب الذي يصبح فعليّا بترك الأهمّ. ففي الحالتين يكون المأتي به مصداقا للواجب فيجزي عنه طبقا للقاعدة.

وإن كان عباديّا صحّ وأجزأ كذلك إذا كان مبنى عدم التعارض هو القول بالجواز بملاك تعدّد المعنون.

وأمّا إذا كان مبناه القول بالجواز بملاك الاكتفاء بتعدّد العنوان مع وحدة المعنون ، فقد يستشكل في الصحّة والإجزاء ؛ لأنّ المفروض حينئذ أنّ الوجود الخارجي واحد وإنّه حرام ، ومع حرمته لا يمكن التقرّب به نحو المولى فتقع العبادة باطلة لأجل عدم تأتّي قصد القربة ، لا لمحذور في إطلاق دليل الأمر.

وأمّا إن كان الواجب عباديّا وقلنا بالجواز وعدم التعارض ، فهل يقع صحيحا أم لا؟ وهنا يفصّل :

ص: 375

فتارة نبني الجواز وعدم التعارض على أساس تعدّد المعنون ، فهنا إذا أوقع الصلاة في المكان المغصوب وقلنا بأنّ ما هو موجود في الخارج متعدّد ، فلا إشكال في صحّة صلاته وكونها مجزية عن المأمور به ؛ لأنّه يمكنه أن يأتي بالصلاة قاصدا التقرّب بها إلى المولى ، وإن كان من جهة أخرى يعتبر عاصيا لكونه موجودا في المكان المغصوب ، فيكون ما أتى به في الخارج مصداقا للمأمور به غاية الأمر كونه قد انضمّ إليه مصداق آخر وهو الغصب.

وأخرى نبني الجواز وعدم التعارض على أساس كفاية تعدّد العنوان وإن كان المعنون واحدا.

فهنا يشكل صحّة الصلاة ؛ لأنّ الموجود الخارجي لمّا كان شيئا واحدا وفعلا واحدا فقط ، فهو يتّصف بعنوان الحرمة لكونه مصداقا للنهي فيكون مبغوضا للمولى ، فإذا أراد أن يمتثل بهذا الفعل المبغوض للمولى للأمر الصلاتي كان معناه أنّه يريد التقرّب بالفعل المبغوض.

ومن المعلوم أنّ العبادة يشترط فيها قصد القربة بمعنى كون الفعل مطلوبا ومحبوبا للمولى ويمكن التقرّب به إليه ، وفي مقامنا وإن كان فعل الصلاة مطلوبا حتّى لو كان في المكان المغصوب بناء على الجواز ، إلا أنّه ليس محبوبا للمولى ؛ لتعلّق المبغوضيّة فيه لكونه غصبا.

وبتعبير آخر : إنّ الفعل الصلاتي الغصبي فيه المقتضي ؛ وذلك لأنّ إطلاق الواجب يشمله بناء على كفاية تعدّد العنوان ، فهو من هذه الجهة يسمّى صلاتا ويعتبر مصداقا للصلاة ، إلا أنّه يوجد ما يمنع من صحّة هذه الصلاة وهذا المانع هو كون هذا الفعل واحدا في الحقيقة والوجود ، والمفروض أنّ النهي متعلّق به فهو مبغوض في نفسه ، وحينئذ يمتنع التقرّب بالفعل المبغوض للمولى.

فالإشكال هنا ليس من ناحية كونه صلاة ، فإنّ الإطلاق في الأمر يشمله ولكن الإشكال من ناحية قصد القربة ، فإنّه لا يتحقّق في هذه الفرضيّة فلا تقع الصلاة صحيحة ؛ لأنّ قصد القربة شرط فيها والمفروض أنّه غير ممكن فتقع الصلاة باطلة (1).

ص: 376


1- وهذا الإشكال قد يجاب عنه بأنّه إذا كان تعدّد العنوان كافيا للجواز فلن يجتمع الأمر والنهي على شيء واحد لا في الذهن ولا في الخارج. أمّا عدم اجتماعهما في الذهن فلأنّ مفهوم الصلاة شيء مباين لمفهوم الغصب. وأمّا عدم اجتماعهما في الخارج فلأنّ امتثال الصلاة بالفعل المتّحد إنّما يكون من جهة انطباق عنوان الصلاة عليه ، فهو يقصد التقرّب بالعنوان المنطبق على هذا الفعل لا بالفعل بما هو كذلك. ولذلك لا مانع من أن يتقرّب بما أتى به بعنوان كونه صلاة ، فإنّه بهذا العنوان لم يتعلّق به النهي ولا مبادئه.

وفي كلّ حالة حكمنا فيها بعدم صحّة العمل من أجل افتراض التعارض ، فلا يختلف الحال في ذلك بين الجاهل والعالم بها ؛ لأنّ التعارض تابع للتنافي بين الوجوب والحرمة ، وهذا التنافي قائم بين وجوديهما الواقعيّين بقطع النظر عن علم المكلّف وجهله.

وفي كلّ حالة حكمنا فيها بعدم صحّة العمل من أجل كونه عبادة وتعذّر قصد التقرّب به فينبغي أن يخصّص البطلان بصورة تنجّز الحرمة ، وأمّا مع الجهل بها وعدم تنجّزها فالتقرّب بالفعل ممكن فيقع عبادة ، ولا موجب للبطلان حينئذ.

وهنا تنبيه يعقده السيّد الشهيد للتنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّنا إذا حكمنا بعدم صحّة العمل بملاك التعارض بين الدليلين فهذا لا يختلف الحال فيه بين العالم والجاهل.

والآخر : أننا إذا حكمنا بعدم صحّة العمل بملاك عدم إمكان التقرّب فهذا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.

أمّا الأمر الأوّل : فإذا قيل بالامتناع ووقوع التعارض بين الدليلين ، فهذا يؤدّي إلى بطلان العمل وعدم كونه مصداقا للمأمور به سواء كان المكلّف عالما بالحرمة أم جاهلا بها ، وسواء كان الواجب عباديّا أم توصّليّا.

والدليل على ذلك : هو أنّ التعارض بين الدليلين معناه التنافي بينهما سواء في عالم المبادئ أم في عالم الجعل ، فهناك تناف بينهما لأجل التنافي بين المحبوبيّة والمبغوضيّة ، ولأجل التنافي بين الإيجاب والتحريم أيضا ، وهذا التنافي موجود بلحاظ الواقع ، أي أنّه يوجد تضادّ وتناف واقعي ؛ لأنّه تابع للوجود الواقعي للأمر والنهي أو للإيجاب والتحريم ، ووجودهما الواقعي هو عالم الجعل والتشريع ، بمعنى أنّه يستحيل وجودهما معا في عالم الجعل والتشريع.

ص: 377

وحينئذ لا يكون لعلم المكلّف أو جهله أي مدخليّة في ثبوت هذا التنافي أو ارتفاعه ، بمعنى أنّه إذا علم بالتنافي فليس علمه هو الذي يحقّق التنافي ، وإذا جهل بالتنافي فجهله لا يرفع هذا التنافي ، فالتنافي موجود في عالمه وواقع وجوده وهو الجعل والتشريع ، وليس مرتبطا بعلم المكلّف أو بجهله.

وهذا نظير اجتماع الضدّين أو النقيضين فإنّهما ممتنعان سواء علم المكلّف باجتماعهما أم جهل به. وعليه ، فيحكم ببطلان عمله سواء كان عباديّا أم توصّليّا ؛ لأنّه ما أتى به ليس مأمورا به ؛ لأنّ الأمر يسقط في حالة التعارض مع النهي لكون النهي أقوى ؛ لأنّ الإطلاق فيه شمولي انحلالي.

وأمّا الأمر الثاني : فإن قيل بعدم صحّة العمل وبطلانه لأجل عدم تحقّق قصد القربة فيه ، فهذا مضافا إلى اختصاصه بالواجبات التعبّديّة وعدم شموله للواجبات التوصّليّة ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة ، فهو أيضا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.

والوجه في هذا التفصيل : هو أنّ المانع من صحّة العمل العبادي هو عدم إمكان تأتّي قصد القربة من المكلّف حال علمه بالحرمة ؛ لأنّه مع علمه بالحرمة فسوف يكون الفعل الحرام منجّزا عليه ، ومع تنجّزه تكون حرمته فعليّة ومع كونها فعليّة تكون مبغوضة للمولى ، والفعل المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه.

إلا أنّ هذا كلّه فرع الفعليّة ، والفعليّة متوقّفة على التنجّز والتنجّز موقوف على الوصول والوصول موقوف على العلم ، إذا مع عدم علم المكلّف بالحرمة لا تكون الحرمة واصلة إليه ، ومع عدم وصولها إليه لا تكون منجّزة وبالتالي لا تكون فعليّة بحقّه ، ومع عدم فعليّتها لا يكون الفعل مبغوضا بالفعل ، فيمكنه أن يقصد التقرّب بالفعل الحرام واقعا مع جهله به ؛ لأنّ قصد القربة يمكن أن يتأتّى منه في هذه الحالة ؛ لأنّه لا يقصد التقرّب بالمبغوض إلى المولى ، بل يقصد التقرّب بهذا العمل الذي يعتقد أنّه مباح وليس بمحرّم.

ومن هنا يظهر لنا السرّ في فتوى المشهور من الحكم بصحّة العبادة المأتي بها في المجمع فيما إذا كان جاهلا أو ناسيا للحرمة ، فإنّ التخريج الصحيح لها هو ما تقدّم ذكره.

وبهذا ينتهي البحث عن اجتماع الأمر والنهي.

* * *

ص: 378

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

اشارة

ص: 379

ص: 380

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

وقع البحث في أنّ وجوب شيء هل يقتضي حرمة ضدّه أو لا؟

ويراد بالضدّ المنافي على نحو يشمل الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ، ويراد بالاقتضاء استحالة ثبوت وجوب الشيء مع انتفاء حرمة ضدّه ، سواء كانت هذه الاستحالة ناشئة من أنّ أحدهما عين الآخر أو من أنّ أحدهما جزء الآخر ، أو من الملازمة بينهما.

تمهيد : من المسائل الأصوليّة المطروحة للبحث فيما إذا وجب شيء فهل يقتضي ذلك النهي عن ضدّه أو لا؟

وقبل الدخول في بحث المسألة لا بدّ من بيان المراد من الضدّ أوّلا ، ثمّ بيان المراد من الاقتضاء ثانيا.

أمّا الضدّ فالمراد به ما يعمّ النقيضين والضدّين باصطلاح المناطقة ، وليس المراد به خصوص الضدّين فقط.

أمّا النقيضان فأطلق عليهما في الأصول هنا الضدّ العامّ ، فيقال : إنّ وجوب شيء هل يقتضي النهي عن ضدّه العامّ أي نقيضه أو لا؟ والنقيض هنا هو ترك الوجوب.

وأمّا الضدّان فأطلق عليهما هنا عنوان الضدّ الخاصّ ، وهو الفعل الوجودي المضادّ للفعل الواجب ، فيقال : إنّ وجوب الصلاة مثلا هل يقتضي النهي عن الفعل الوجودي المنافي لفعل الصلاة أو لا؟

وأمّا الاقتضاء فمعناه الاستحالة ، بمعنى أنّه يستحيل أن يجتمع وجوب الشيء مع عدم حرمة الضدّ العامّ أو الخاصّ ، فإذا وجب شيء كانت حرمة ضدّه ضروريّة ويستحيل ثبوتها معه.

وهذه الاستحالة لها مناشئ ثلاثة :

ص: 381

الأوّل : أن تكون بملاك العينيّة ، بمعنى أنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة الضدّ ؛ لأنّ الوجوب نفسه عين حرمة الضدّ ، فتكون الحرمة ثابتة بمجرّد ثبوت الوجوب وإلا للزم التفكيك بين الشيء ونفسه.

الثاني : أن تكون بملاك التضمّن والجزئيّة ، بحيث يكون وجوب الشيء مركّبا من النهي عن الضدّ ومن طلب الفعل ، فيكون الاقتضاء ثابتا لكونه مدلولا تضمّنيّا بحيث إذا ثبت وجوب الشيء تضمّن ذلك النهي عن الضدّ ؛ لأنّه جزء المدلول.

الثالث : أن يكون بملاك الملازمة والتلازم ، بحيث يكون وجوب الشيء لازمه العقلي النهي عن ضدّه العامّ أو الخاصّ ، فإذا ثبت الوجوب حكم العقل بحرمة الضدّ على أساس الملازمة بينهما.

وسوف نستعرض البحث في مقامين :

الأوّل : في الضدّ العامّ ، وأنّه هل يكون الوجوب مقتضيا للنهي عنه بأحد هذه الملاكات الثلاثة أو لا؟

الثاني : في الضدّ الخاصّ ، وأنّه هل يكون منهيّا عنه كذلك أو لا؟

والمشهور في الضدّ العامّ هو القول بالاقتضاء وإن اختلف وجهه ، فقال البعض (1) إنّه بملاك العينيّة ، وهو غريب ؛ لأنّ الوجوب غير التحريم فكيف يقال بالعينيّة؟

وقد يوجّه ذلك : تارة بأنّ وجوب الشيء عين حرمة الضدّ العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة ، فكما أنّ حرمة الضدّ العامّ تبعّد عنه كذلك وجوب الشيء يبعّد عن ضدّه العامّ بنفس مقرّبيّته نحو الفعل ومحرّكيّته إليه.

وتارة أخرى بأنّ النهي عن الشيء عبارة عن طلب نقيضه ، فالنهي عن الترك عبارة عن طلب نقيضه وهو الفعل ، فصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالفعل عين النهي عن الضدّ العامّ.

المقام الأوّل في الضدّ العامّ :

المشهور أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ، فوجوب الصلاة مثلا يقتضي النهي عن ترك الصلاة ؛ لأنّ ترك الصلاة نقيض لفعل الصلاة ، وقد قرّب ذلك على أساس الملاكات الثلاثة للاقتضاء ، وهي :

ص: 382


1- نسبه الميرزا الرشتي في بدائع الأفكار : 387 ، إلى بعض المحقّقين.

القول الأوّل : أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ؛ لأنّه عينه ، فالأمر معناه طلب الفعل بينما النهي معناه طلب الترك ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر لا محالة لاستحالة اجتماع النقيضين معا ، وهذه المقالة للميرزا.

ولمّا كانت هذه المقالة غريبة ، فقد وجّهت بأحد بيانين :

أمّا وجه الغرابة فيها : فهو أنّ الوجوب مغاير للتحريم ؛ وذلك لأنّ مفهوم الوجوب عبارة عن البعث والإرسال ؛ بينما مفهوم النهي عبارة عن الزجر والإمساك ، فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟! ولأنّ الوجوب يعبّر عن المصلحة والمحبوبيّة والتحريم يعبّر عن المفسدة والمبغوضيّة فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟!

وأمّا توجيه هذه المقالة فهو بأحد بيانين :

البيان الأوّل : أنّ وجوب الشيء عين ضدّه العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة.

أمّا إنّه ليس عينه في عالم الحكم والإرادة فواضح ؛ لأنّ الوجوب كحكم معناه البعث والتحريك بينما النهي معناه الزجر والمنع وهما متغايران مفهوما ومصداقا : أمّا مفهوما فلأنّ الصورة الذهنيّة لكلّ منهما مباينة للأخرى ، وأمّا مصداقا فلأنّ البعث والتحريك يقتضي الفعل ؛ بينما الزجر والمنع يقتضي الترك. وهكذا بالنسبة لعالم الإرادة فإنّ المولى إمّا أن يريد البعث أو يريد الزجر ، وإمّا أن يحبّ الفعل أو يحبّ الترك.

ولكنّ المدّعى أنّه عينه في مقام التأثير ؛ وذلك لأنّ وجوب الشيء يقرّب المكلّف نحو الفعل ويبعّده عن الترك ، والنهي يقرّب المكلّف نحو الترك ويبعّده عن الفعل ، فإذا وجبت الصلاة كان هذا معناه أنّ الوجوب يقرّب المكلّف نحو الفعل ويبعّده عن الترك ، وحيث إنّ وجوب الشيء عين النهي عن ضدّه العامّ فسوف يكون النهي متعلّقا بترك الصلاة ، فيكون النهي مقرّبا نحو ترك ترك الصلاة ؛ لأنّ النهي يقرّب نحو ترك متعلّقه ويكون مبعّدا عن فعل ترك الصلاة ؛ لأنّ النهي يبعّد عن فعل متعلّقه.

وحينئذ تكون النتيجة : أنّ الوجوب يقرّب نحو فعل الصلاة وهو عين ما يقرّب إليه النهي المتعلّق بضدّها العام ؛ لأنّه يقرّب إلى ترك ترك الصلاة ، ومن المعلوم أنّ ترك الترك عبارة أخرى عن الفعل ، فيكون مقرّبا إلى فعل الصلاة فيتّحدان.

ص: 383

وهكذا بلحاظ المبعّديّة فإنّ الوجوب يبعّد عن ترك الصلاة ، والنهي يبعّد عن فعل ترك الصلاة ، وفعل الترك ليس إلا الترك فيكون النهي مبعّدا عن الترك كالوجوب فيتّحدان.

وبهذا ظهر أنّ التأثير فيهما واحد فيتّحدان بهذا اللحاظ.

البيان الثاني : أنّ وجوب الشيء عين ضدّه العامّ بلحاظ عالم المفهوم ؛ وذلك لأنّ النهي عن الشيء معناه طلب نقيضه ، فإذا قيل ( لا تشرب الخمر ) معناه أنّه يريد نقيض الشرب أي ( أريد عدم شرب الخمر ) ، فيكون النهي مركّبا من المنع والزجر عن الفعل مع طلب الترك.

وعليه ، فإذا تعلّق النهي بترك شيء كما إذا قيل : ( لا تترك الصلاة ) ، فحيث إنّ النهي عن شيء معناه طلب نقيضه فيكون معنى ( لا تترك الصلاة ) بقوّة ( أريد عدم ترك الصلاة ) ، وإرادة عدم الترك معناها إرادة الفعل فيكون المعنى ( أريد فعل الصلاة ).

والنتيجة هي : أنّ النهي المتعلّق بترك شيء عبارة أخرى عن إرادة فعله. وإرادة الفعل هي نفس الأمر بالفعل ؛ لأنّ إرادة فعل الصلاة هي نفس الأمر بفعل الصلاة ، وهذا معناه اتّحاد الأمر والنهي عن الترك في المعنى والمفهوم.

ويرد على التوجيه الأوّل أنّه لا يفي بإثبات حرمة الضدّ حقيقة.

وعلى التوجيه الثاني بأنّه يرجع إلى مجرّد التسمية ، هذا مضافا إلى أنّ النهي عن شيء معناه الزجر عنه لا طلب نقيضه.

والجواب : عن هذه المقالة أن يقال : إنّ العينيّة بين وجوب شيء والنهي عن ضدّه العامّ باطلة في نفسها كما تقدّم ، وما ذكر من التوجيه بتقريبيه غير تامّ أيضا.

أمّا التوجيه الأوّل ، فكان حاصله الاتّحاد في مقام التأثير ، وفيه أنّ الاتّحاد المذكور ليس حقيقيّا ؛ لأنّه لو كان حقيقيّا فكان اللازم تعدّد العقوبة على المخالفة ، إحداهما على مخالفة الوجوب ، والأخرى على مخالفة النهي ، وهذا اللازم واضح الفساد بداهة.

وما دام الاتّحاد ليس حقيقيّا فلا يفيد ذلك في إثبات حرمة الضدّ العامّ بما تعبّر عنه من مبادئ وملاكات ، ومجرّد ثبوت عنوان الحرمة خاليا عن المبادئ ليس إلا مجرّد صياغة لفظيّة لا أكثر ما دامت خالية عن المضمون والمحتوى.

ص: 384

والنتيجة : أنّ هذا التوجيه وإن كان يثبت حرمة الضدّ العامّ ولكن من دون أن تكون حرمته معبّرة عن شيء من معنى الحكم وحقيقته وروحه. وهذا لا يفيد في المقام ؛ لأنّنا نبحث عن الحرمة الحقيقيّة ذات المبادئ والملاك.

وأمّا التوجيه الثاني ، فكان حاصله اتّحاد معنى النهي عن الترك والأمر بالفعل ، وفيه إيرادان :

الأوّل : أنّ هذه النتيجة ليست إلا تسمية لفظيّة لا أكثر. كما تقدّم بيانه في الإيراد على التوجيه الأوّل.

الثاني : أنّ المبنى الذي اعتمد عليه هذا التوجيه فاسد في نفسه ؛ وذلك لأنّه فرض أنّ النهي عبارة عن ( طلب النقيض ) وهذا باطل ؛ لأنّ النهي عبارة عن ( الزجر والمنع ) أو النسبة الإمساكيّة والزجريّة. مضافا إلى أنّ طلب النقيض الذي هو إرادة الفعل كما تتناسب مع الوجوب تتناسب مع الاستحباب أيضا ؛ لأنّ إرادة الفعل فيهما على نحو واحد ولكن تارة تكون الإرادة لزوميّة وأخرى لا تكون لزوميّة. ممّا يعني أنّ المدّعى أخصّ من البرهان.

وبهذا ينتهي الكلام عن القول الأوّل مع مناقشته.

وقال البعض (1) : إنّه بملاك الجزئيّة والتضمّن ؛ لأنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

وقد تقدّم في بحث دلالة الأمر على الوجوب إبطال دعوى التركّب في الوجوب على هذا النحو.

القول الثاني : وهو دعوى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام بملاك الجزئيّة والتضمّن.

وبيان ذلك : هو أنّ الوجوب مركّب من شيئين : أحدهما طلب الفعل والآخر المنع عن الترك. فكان المنع عن الترك والذي هو حرمة الضدّ العامّ مدلولا تضمّنيّا للأمر والوجوب. أي أنّه مأخوذ فيه.

والدليل على ذلك : هو أنّ طلب الفعل كما يكون في الوجوب يكون في الاستحباب أيضا فهو جنس لهما ، ولذلك يحتاج كلّ منهما إلى فصل يميّزه عن

ص: 385


1- منهم صاحب المعالم في المعالم : 63 - 64.

الآخر ، وهذا الفصل هو النهي أو المنع عن الترك وعدمه ، فإنّ هذا يميّز الوجوب عن الاستحباب ؛ لأنّ الوجوب فيه حيثيّة الإلزام فيكون طلبا للفعل مع النهي عن تركه بينما الاستحباب ليس فيه حيثيّة الإلزام ؛ لأنّه يجوز تركه فكان طلبا للفعل مع عدم النهي عن الترك.

وفيه : أنّه تقدّم سابقا في بحث دلالة الأمر على الوجوب عدم تماميّة هذا لنحو من التركيب ؛ وذلك لأنّ هذه الخصوصيّة المميّزة للوجوب وهي ( المنع عن الترك ) هي نفسها الجنس للتحريم ، فيكون الوجوب حينئذ مركّبا من جنسين وهذا مستحيل في نفسه.

والصحيح هو : أنّ الوجوب مركّب من ( طلب الفعل ) الذي هو الجنس ، ومن عدم الترخيص في الترك ، بينما الاستحباب مركّب من ( طلب الفعل ) الذي هو الجنس ، ومن الترخيص في الترك.

وقال البعض : إنّه بملاك الملازمة ؛ وذلك لأنّ المولى بعد أمره بالفعل يستحيل أن يرخّص في الترك ، وعدم الترخيص يساوق التحريم.

والجواب : أنّ عدم الترخيص في الترك يساوق ثبوت حكم إلزامي ، وهو كما يلائم تحريم الترك ، كذلك يلائم إيجاب الفعل ، فلا موجب لاستكشاف التحريم.

القول الثالث : دعوى أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بملاك الملازمة والتلازم بينهما.

والوجه في ذلك : هو أنّ المولى إذا أمر بفعل فيستحيل أن يرخّص في تركه ؛ لأنّه إذا أمر بالصلاة مثلا ثمّ رخّص في تركها فيلزم منه اجتماع الضدّين : هما الوجوب والترخيص ، وهما متنافيان في عالم المبادئ والملاكات كما هما متنافيان في عالم الامتثال والمتطلّبات.

وعليه ، فإذا استحال الترخيص في الترك فلازم ذلك تحريم الترك ، وهو المطلوب.

وبهذا يكون تحريم الترك أو المنع عن الترك لازم عقلي للأمر بالشيء ، ممّا يعني أنّ وجوب الشيء يستلزم تحريم تركه أو المنع من الترك أي المنع عن الضدّ العامّ.

وجوابه : أنّنا نسلّم بأنّ المولى إذا أمر بشيء فيستحيل أن يرخّص فيه ، إلا أنّنا لا

ص: 386

نسلّم أنّ عدم الترخيص مساوق للتحريم ، بل هو أعمّ منه ؛ وذلك لأنّ عدم الترخيص كما يتناسب مع التحريم ؛ لأنّ التحريم يعني عدم الترخيص ، كذلك يتناسب مع الوجوب فإنّ الوجوب معناه عدم الترخيص أيضا.

وحينئذ يكون ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح. أو استظهار التحريم دون الوجوب يحتاج إلى دليل خاصّ. وهنا الدليل المتقدّم يثبت أنّ الوجوب مركّب من أمرين : أحدهما طلب الفعل ، والآخر عدم الترخيص في الترك وعدم الترخيص يكفي فيه ألاّ يرد الترخيص ولا يشترط فيه أن يرد ما يدلّ على حرمة الترخيص. ممّا يعني أنّ هذه الملازمة ليست ثابتة أو أنّها ليست جارية على الدوام ، وهذا يخرجها عن كونها ملازمة ؛ لأنّ التلازم العقلي معناه ثبوت أحد المتلازمين عند ثبوت الملازم الآخر حتما.

وبهذا ظهر أنّ هذا الملاك ليس تامّا أيضا. ومنه يتّضح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ لا بنحو العينيّة ولا بنحو التضمّن ولا بنحو التلازم. وبه ينتهي الكلام عن المقام الأوّل.

وأمّا الضدّ الخاصّ : فقد يقال باقتضاء وجوب الشيء لحرمته بأحد دليلين :

الدليل الأوّل : وهو مكوّن من مقدّمات :

الأولى : أنّ الضدّ العامّ للواجب حرام.

الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ.

الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام.

ويبطل هذا الدليل بإنكار مقدّمته الأولى كما تقدّم ، وبإنكار المقدّمة الثالثة إذ لا دليل عليها.

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ

قد يقال : إنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ ، فمثلا إذا وجبت الصلاة حرم ضدّها الخاصّ أي كلّ فعل مناف للصلاة كالإزالة مع ضيق وقت الصلاة بحيث لا يتّسع إلا لأحدهما.

واستدلّ على ذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : ويسمّى بمسلك التلازم أو الاستلزام ، وبيانه ضمن المقدّمات التالية :

ص: 387

المقدّمة الأولى : أن يبنى على حرمة الضدّ العامّ أي النقيض ، فإذا كانت الصلاة واجبة حرم نقيضها أي تركها.

المقدّمة الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ في الوجود ، بمعنى أنّه متى ما وجد الضدّ الخاصّ استلزم من ذلك تحقّق الضدّ العامّ أي النقيض ، ففي مثال وجوب الصلاة إذا اشتغل بالإزالة أي الضدّ الخاصّ كان هذا مستلزما لتحقّق الضدّ العام أيضا ؛ لأنّه بفعله الإزالة قد ترك الصلاة أيضا.

المقدّمة الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام. وهنا الضدّ الخاصّ لمّا كان ملازما للضدّ العامّ فهو ملازم لفعل الحرام وهو ترك الصلاة ، وكلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام ؛ وذلك لأنّ الحرمة تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر ؛ لأنّه لا بدّ أن يكونا متسانخين في الحكم.

والنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّ الصلاة إذا كانت واجبة فقد حرم نقيضها أي الضدّ العامّ وهو ترك الصلاة ، ولمّا كانت الإزالة ملازمة لترك الصلاة ، والمفروض أنّ الحرمة تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر ، فتكون الإزالة محرّمة لكونها ملازمة لما هو حرام وهو ترك الصلاة.

ويرد عليه : أوّلا : ما تقدّم من إنكار حرمة الضدّ العامّ ، فإنّه إذا لم يكن ترك الصلاة حراما فالإزالة التي هي ملازمة له لا تكون حراما أيضا ؛ لأنّ المتلازمين متسانخان في الحكم.

وثانيا : إنكار المقدّمة الثالثة ، فإنّه لا دليل على أنّ ملازم الحرام حرام وإنّما الدليل قائم على أنّ ملازم الحرام لا يمكن أن يتّصف بحكم مخالف للحرمة.

فهنا مطلبان :

أمّا المطلب الأوّل : وهو أنّ ملازم الحرام لا يمكن أن يتّصف بحكم مخالف للحرام ، فهذا واضح بداهة أنّ المتلازمين في الوجود لا يمكن للمولى أن يجعل أحدهما حراما ، بينما يجعل الآخر واجبا أو مكروها أو مستحبا أو مباحا ؛ لأنّه يعني طلب الجمع بين الحكمين المتضادّين وهو مستحيل جعله فضلا عن امتثاله.

فإذا كانت الإزالة واجبة وفرضنا أنّ ترك الصلاة ملازم لها فيستحيل أن يتّصف ترك الصلاة بحكم مخالف للوجوب ؛ لأنّ ترك الصلاة إذا كان حراما أو مستحبّا أو

ص: 388

مكروها أو مباحا ، فهذا معناه أنّه إمّا يجب فعل الصلاة على المكلّف أو يستحب أو يكره أو يباح وكلّها لا يمكن أن تجتمع مع وجوب الإزالة ؛ لأنّ المفروض ضيق القدرة عنها ، فالمولى إذا شرّعهما معا فهذا معناه إلقاء المكلّف في العجز وعدم القدرة ، وهو تكليف مستحيل.

وأمّا المطلب الثاني : وهو أنّ ملازم الحرام لا بدّ أن يكون حراما ، فهذا لا دليل عليه ، بل يكفي فيه ألاّ يكون فيه حكم آخر مخالف ، أي يكفي ألاّ يكون واجبا ولا مستحبّا ولا مكروها ولا مباحا ، فهو خال عن الحكم تماما ، فإنّ خلوّه عن الحكم أمر ممكن في نفسه ومعقول ثبوته شرعا بأن لا يكون غرض المولى إلا في ملازمه لا في نفسه (1).

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّمات أيضا :

الأولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لضدّه.

الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وعليه فترك الضدّ الخاصّ للواجب واجب.

الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه وهو إيقاع الضدّ الخاصّ ، وبذلك يثبت المطلوب.

الدليل الثاني : وهو ما يسمّى بمسلك المقدّميّة ، وبيانه ضمن المقدّمات التالية :

المقدّمة الأولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لحصول أو لفعل الضدّ الآخر. فإنّه إذا وجبت الإزالة فحصولها ووجودها يتوقّف على ترك ضدّها أي على ترك الصلاة ؛

ص: 389


1- ويمكن أيضا المناقشة في المقدّمة الثانية فإنّ الضدّ الخاصّ ليس ملازما للضدّ العامّ ، فإنّ فعل الصلاة ليس ملازما لترك الإزالة الذي هو الضدّ العامّ لوجوب الإزالة ؛ لأنّ ترك الإزالة كما يتحقّق بفعل الصلاة فهو أيضا يتحقّق بغيرها ممّا يعني أنّ فعل الصلاة أمر مقارن لترك الإزالة. والوجه في ذلك : هو أنّ الملازمة تنشأ بين ذات أحد الضدّين وذات عدم ضدّه ، فالملازمة تكون بين ذات الإزالة وبين ذات عدم الإزالة لا بين فرد خاصّ من عدم الإزالة. فإنّ لعدم الإزالة أفرادا منها الصلاة أو الأكل أو اللعب أو السفر ، وهكذا. وعليه ، فالملازمة كانت قبل فعل الصلاة وفعل الصلاة كان بعد الملازمة ، أي هو من شئون وتبعات الملازمة ومتفرّع عن الملازمة ؛ لأنّ ذات عدم الإزالة لا يتحقّق إلا بفعل مضادّ للصلاة ، ولكنّه ليس هو نفس هذا الفعل المضادّ.

لأنّه إذا فعل الصلاة فلا تتحقّق الإزالة ، فيكون ترك الصلاة مقدّمة لحصول الإزالة.

المقدّمة الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة كما تقدّم ذلك في بحث الوجوب الغيري - بناء على القول بالملازمة بينهما شرعا - وعليه يكون ترك الصلاة واجبا ؛ لأنّه مقدّمة لحصول الإزالة الواجبة.

المقدّمة الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه - بناء على أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ - وعليه ، فلمّا كان ترك الصلاة واجبا فيحرم نقيضه ونقيض ترك الصلاة هو فعل الصلاة ، فيكون فعل الصلاة حراما وهو المطلوب.

هذا ويمكن صياغة الدليل المذكور بنحو آخر ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وقد نستغني عن المقدّمة الثالثة ونكتفي بإثبات وجوب ترك الضدّ الخاصّ ؛ لأنّ هذا يحقّق الثمرة المطلوبة من القول بالاقتضاء وهي عدم إمكان الأمر بالضدّ الخاصّ ولو على وجه الترتّب. ومن الواضح أنّه كما لا يمكن الأمر به مع حرمته كذلك مع الأمر بنقيضه ؛ لاستحالة ثبوت الأمر بالنقيضين معا.

الصياغة الثانية للدليل : أن يكتفى بالمقدّمتين الأولى والثانية ، مع الاستغناء عن المقدّمة الثالثة ، فيقال : إنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لحصول الضدّ الآخر ، ويبنى على أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، فتكون النتيجة هي أنّ الإزالة إذا كانت واجبة فترك الصلاة مقدّمة لحصولها ؛ لأنّه لو لم يتركها واشتغل بها لم يتحقّق منه فعل الإزالة ، وحيث إنّ المقدّمة تتّصف بالوجوب فيكون ترك الصلاة واجبا.

وإثبات وجوب ترك الصلاة التي هي الضدّ الخاصّ للإزالة يكفي لإثبات نتيجة الاقتضاء ؛ لأنّ الصلاة لمّا كان تركها واجبا فيستحيل أن يؤمر بها لا مطلقا ولا على وجه الترتّب.

أمّا أنّه لا يمكن أن يؤمر بالصلاة مطلقا فللزوم اجتماع النقيضين ؛ إذ يكون ترك الصلاة واجبا وفعل الصلاة واجبا أيضا.

وأمّا أنّه لا يمكن أن يؤمر بالصلاة مشروطا فلأنّ الشرط هو عصيان الأمر الأهمّ فتكون الصلاة مأمورا بها في حال عصيان ترك الصلاة ؛ أي في حال فعلها المحرّم ممّا يعني أنّها مأمور بها في حال حرمتها ، وهذا مستحيل أيضا ؛ للزوم التهافت والتناقض أيضا.

كما أنّ المقدّمة الثانية لا نريد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة في كلّ

ص: 390

مراحل الحكم بما فيها عالم الجعل ، بل يكفي ثبوته بلحاظ عالم المبادئ. وعليه فهذه المقدّمة ثابتة.

والمهمّ إذا تحقيق حال المقدّمة الأولى ، وقد برهن عليها بأنّ أحد الضدّين مانع عن وجود ضدّه ، وعدم المانع أحد أجزاء العلّة ، فتثبت مقدّميّة عدم أحد الضدّين بهذا البيان.

إثبات المقدّمتين الأولى والثانية : أمّا المقدّمة الثانية : وهي إثبات أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

فتارة يراد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة ، بمعنى أنّه في عالم الجعل والإيجاب يكون هناك وجوب شرعي مجعول على المقدّمة للملازمة بين المقدّمة وذيها.

وأخرى يراد بها إثبات الوجوب الغيري بلحاظ المبادئ ، أي أنّ حبّ ذي المقدّمة لازمه حبّ المقدّمة ، أو إرادة ذي المقدّمة يستلزم إرادة المقدّمة.

والنحو الأوّل قد تقدّم في بحث الوجوب الغيري عدم تماميّته ، ولكن النحو الثاني سلّمنا به على أساس دعوى وجدانيّة ، وهذا المقدار يكفي هنا بحيث يكون هناك إرادة متعلّقة بالمقدّمة.

فهذه المقدّمة ثابتة ولا نقاش فيها.

وأمّا المقدّمة الأولى : وهي إثبات مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر ، فقد يقال في مقام الاستدلال عليها بأنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الضدّ الآخر ؛ لاستحالة وجود الضدّين معا ، فإذا وجد أحدهما كان الآخر مرتفعا لا محالة. وهذا معناه أنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الضدّ الآخر ؛ لأنّه لو لم يكن مانعا عن وجوده لزم اجتماع الضدّين معا وهو مستحيل.

وعليه ، فحيث إنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، فلكي يتحقّق وجود الضدّ لا بدّ من توفّر أمرين : أحدهما وجود المقتضي له ، والآخر عدم المانع ، ولمّا كان المانع هو وجود ضدّه فيكون عدم الضدّ من أجزاء العلّة ؛ لأنّه يحقّق عدم المانع.

وحينئذ يثبت أنّ عدم الضدّ - بوصفه من أجزاء العلّة - يكون مقدّمة لحصول ووجود الضدّ الآخر ؛ لأنّ المقدّميّة معناها العلّة التامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة ، فيثبت المطلوب.

ص: 391

هذا هو عمدة البرهان على إثبات مقدّميّة عدم الضدّ ؛ لحصول الضدّ الآخر.

ونجيب على هذا البرهان بجوابين :

الجواب الأوّل : يتكفّل حلّ الشبهة التي صيغ بها البرهان.

وبيانه : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع. فالمقتضي هو السبب الذي يترشّح منه الأثر. والشرط دخيل في ترشّح الأثر في مقتضيه. والمانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير.

ومن هنا يتوقّف وجود الأثر على المقتضي والشرط وعدم المانع.

وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع ، ولكنّه لا ينشأ من وجود المانع إلا في حالة وجود المقتضي ؛ لأنّ تأثير المانع إنّما هو بمنعه للمقتضي عن التأثير ، ومع عدم وجود المقتضي لا معنى لهذا المنع ، وهذا يعني أنّ المانع إنّما يكون مانعا إذا أمكن أن يعاصر المقتضي لكي يمنعه عن التأثير ، وأمّا إذا استحال أن يعاصره استحالت مانعيّته له ، وبالتالي لا يكون عدمه من أجزاء العلّة.

الجواب الأوّل عن برهان إثبات المقدّميّة : وهذا الجواب يراد به دفع الشبهة التي على أساسها صيغ البرهان على إثبات المقدّميّة ، فإنّه كان يبتني على أنّ أحد الضدّين بوجوده مانع عن الضدّ الآخر ، فإنّ هذه المانعيّة غير صحيحة إذا توضّح ما يلي :

أوّلا : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع.

والمراد من المقتضي : هو السبب الذي يترشّح منه الأثر أي المسبّب.

والمراد من الشرط : هو ما يكون دخيلا في ترتّب أو ترشّح الأثر على المقتضي أي المسبّب على السبب.

والمراد من المانع : الذي يكون عدمه شرطا في العلّة ، هو ما يمنع من تأثير المقتضي في ترتّب السبب.

ومن هنا يقال بأنّ ترتّب الأثر أو المعلول أو السبب يتوقّف على وجود المقتضي ووجود الشرط وانتفاء المانع ، فمثلا إذا أردنا إحراق ورقة فلا بدّ أوّلا من وجود المقتضي وهو السبب الذي يولّد الإحراق كالنار مثلا.

ثانيا : لا بدّ من وجود الشرط للإحراق كأن توضع الورقة في النار ؛ لأنّها ما دامت

ص: 392

بعيدة عنها فلن تحترق ، فالمماسّة أو الاتّصال بين النار والورقة شرط لحصول الأثر أي الإحراق.

ثالثا : لا بدّ من انتفاء المانع عن الاحتراق ، فإذا كانت الورقة رطبة مثلا رطوبة كثيفة جدّا ، أو وضع عليها مائع معيّن كثيف فسوف لن تحترق رغم وجود النار ، ورغم المماسّة بين الورقة والنار ، وهذا معناه أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، فإذا انتفت الموانع فسوف يتحقّق الاحتراق ونحصل على الأثر المطلوب.

وبهذا يتّضح أنّ انتفاء الأثر أو عدم ترتّب المسبّب له أحد أسباب ثلاثة :

الأوّل : عدم وجود المقتضي ، فإنّه إذا لم يكن لدينا ما يسبّب الإحراق كالنار ونحوها لم يتحقّق المسبّب أو الأثر المطلوب.

الثاني : عدم وجود الشرط ، فإنّه إذا لم يحصل الاتّصال والمماسّة بين النار والورقة فلن يحصل الاحتراق الذي هو المسبّب والأثر.

الثالث : وجود المانع ، فإنّه إذا كان المانع موجودا كالسائل اللزج الكثيف على الورقة المانع من احتراقها فلن يتحقّق الأثر والمسبب.

ونحن إذا لاحظنا وجود المانع نجد أنّه يمنع من حصول المسبّب والأثر بعد فرض وجود المقتضي والشرط ؛ لأنّ المانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير ، وهذا يفترض مسبقا وجود المقتضي لكي يمنعه.

وأمّا إذا افترضنا أنّ المقتضي غير موجود من أوّل الأمر ، فهذا المانع لا يسمّى مانعا ولا يكون عدمه من أجزاء العلّة ؛ لأنّه سواء كان المانع موجودا أم منتفيا فالأثر أو المسبّب لن يتحقّق ؛ لأنّ المقتضي له غير موجود لا لأنّ المانع موجود.

إذا ففرض مانعيّة المانع هي فرض وجود المقتضي ممّا يعني أنّ المقتضي والمانع لا بدّ من تعاصرهما في الوجود ، فإذا كانا متعاصرين وجودا كان المانع مانعا عن تأثير المقتضي وكان عدمه من أجزاء العلّة.

وأمّا إذا لم يكونا متعاصرين بأن كان وجود المقتضي لا يجتمع مع المانع فلن تحصل المانعيّة ، والنتيجة ستكون عدم مانعيّة هذا المانع وعدم كونه من أجزاء العلّة.

وعلى هذا الأساس إذا لاحظنا الصلاة بوصفها ضدّا لإزالة النجاسة عن المسجد نجد أنّ المقتضي لها هو إرادة المكلّف ، ويستحيل أن تجتمع الإزالة مع إرادة

ص: 393

المكلّف للصلاة. وهذا معناه أنّ مانعيّة الإزالة عن الصلاة مستحيلة ، فلا يمكن أن يكون عدمها أحد أجزاء العلّة.

وإن شئت قلت : إنّه مع وجود الإرادة للصلاة لا حالة منتظرة ، ومع عدمها لا مقتضي للصلاة ليفرض كون الإزالة مانعة عن تأثيره.

وممّا ذكرنا يظهر لنا أنّ عدم الضدّ ليس مقدّمة للضدّ الآخر.

فمثلا إذا أخذنا الصلاة والإزالة فنقول إنّهما ضدّان وجوديّان ، ولكن عدم الإزالة لا يمكن فرضه مانعا ؛ وذلك لأنّ فرض المانع هو فرض وجود المقتضي أيضا لاشتراط التعاصر بينهما ، والمقتضي للصلاة هو إرادة المكلّف للصلاة فإنّه إذا لم يرد الصلاة فلا مقتضي لوجودها أصلا.

وعليه ، فإذا أراد المكلّف الصلاة استحال أن يكون المانع وهو الإزالة موجودا ؛ لأنّ الضدّين لا يمكن اجتماعهما معا ، وهو هنا يريد الصلاة فالإزالة منتفية لا محالة ، ومع انتفاء الإزالة لا يمكن أن يفرض عدمها من أجزاء العلّة ؛ لأنّ المانع لا يجتمع مع المقتضي أي الإزالة لا تجتمع مع إرادة الصلاة.

نعم ، المانع لإرادة المكلّف الصلاة هو عدم إرادته لها أي عدم وجود المقتضي لها أو وجود المقتضي للضدّ الآخر ، أي إرادة الإزالة فإنّ إرادة الإزالة تمنع من وجود الصلاة ، وهذا معناه أنّ المانع للصلاة ليس هو الإزالة ، بل هو إمّا عدم إرادتها وإمّا إرادة الإزالة.

وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إمّا أن يريد الصلاة أو لا يريدها ، فإن أراد الصلاة فليس هناك شيء آخر إلا وجود الصلاة. وإذا لم يرد الصلاة فلا يكون المقتضي لها موجودا فهي منتفية لانتفاء المقتضي ، ولا مدخليّة للإزالة في ذلك ليقال بأنّ وجودها مانع فعدمها من أجزاء العلّة.

وبهذا ظهر أنّ وجه الشبهة هي صياغة كون أحد الضدّين مانعا بوجوده عن وجود الضدّ الآخر ، مع أنّنا أثبتنا بهذا البيان والبرهان العقلي أنّ أحد الضدّين لا يمكن فرضه مانعا ، وإنّما المانع هو إمّا عدم إرادة الضدّ أو إرادة الضدّ الآخر لا نفس الضدّ الآخر.

فإن قيل : كيف تنكرون أنّ الإزالة مانعة مع أنّها لو لم تكن مانعة لاجتمعت مع الصلاة ، والمفروض عدم إمكان ذلك؟

ص: 394

كان الجواب : أنّ المانعيّة التي تجعل المانع علّة لعدم الأثر ، وتجعل عدم المانع أحد أجزاء العلّة للأثر إنّما هي مانعيّة الشيء عن تأثير المقتضي في توليد الأثر.

وقد عرفت أنّ هذه المانعيّة إنّما تثبت لشيء بالإمكان معاصرته للمقتضي ، وأمّا المانعيّة بمعنى مجرّد التمانع وعدم إمكان الاجتماع في الوجود - كما في الضدّين - فلا دخل لها في التأثير ، إذ متى ما تمّ المقتضي لأحد المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط ، وانتفى المانع عن تأثير المقتضي أثّر أثره لا محالة في وجود أحد المتمانعين ونفي الآخر.

ونتيجة ذلك : أنّ وجود أحد الضدّين مع عدم ضدّه في رتبة واحدة ، ولا مقدّميّة بينهما.

الفرق بين المانعيّة والتمانع :

وهذا الفارق يتّضح من خلال إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال فحاصله : أنّ الجواب المتقدّم من السيّد الشهيد على برهان المقدّميّة ، يثبت فيه إنكار كون أحد الضدّين مانعا من وجود الضدّ الآخر ليكون عدمه من أجزاء العلّة.

وعليه ، فلو فرض أنّ عدم الضدّ ليس من أجزاء العلّة ولا يعتبر وجوده مانعا فيلزم من ذلك إمكان اجتماع الضدّين معا ، وهو مستحيل.

فمثلا لو قلنا بأنّ الإزالة ليست بوجودها مانعة من وجود الصلاة فاللازم إمكان اجتماعهما ، والحال أنّ اجتماع الضدّين غير ممكن في نفسه. فلما كان اجتماعهما مستحيلا دلّ ذلك على أنّ الإزالة لا بدّ أن تكون معدومة حين الصلاة ، وهذا معناه أنّ عدم الإزالة ممّا يتوقّف عليه وجود الصلاة فهو مقدّمة له أو جزء العلّة له.

وأمّا الجواب : فإنّ المانعيّة على نحوين :

أحدهما : المانعيّة بمعنى أنّ المانع عدمه من أجزاء العلّة ، بحيث يكون دخيلا في ترتيب الأثر للمقتضي. وهذا يشترط فيه أن يكون المانع معاصرا للمقتضي في الوجود ؛ لأنّه لو لم يكن معاصرا له في الوجود لم يتّصف بأنّ عدمه مانع من التأثير ، إذ سوف يكون عدم التأثير في هذه الحالة نتيجة عدم وجود المقتضي أو عدم وجود الشرط. وهذا ما بيّناه في جوابنا السابق.

ص: 395

والآخر : المانعيّة بمعنى التمانع والتضادّ في الوجود ، وهذا التمانع ليس دخيلا عدمه في العلّيّة ؛ وذلك لأنّ التمانع بين الضدّين إنّما هو لأجل عدم إمكان الاجتماع في الوجود.

ففي مثال الإزالة والصلاة يوجد بينهما تمانع في الوجود بحيث لا يمكن اجتماعهما. ولكن إذا فرضنا وجود المقتضي لأحدهما كما إذا أراد المكلّف الصلاة ، فإنّ هذا المقتضي مع توفّر الشرط يكون هو المانع من وجود الضدّ الآخر أي الإزالة ، لا أنّ نفس الصلاة هي التي تمنع من وجود الإزالة بحيث تكون دخيلة في عدم تأثير المقتضي للإزالة مع وجوده ؛ لأنّه مع وجود المقتضي للإزالة تكون الصلاة منتفية بسبب عدم وجود المقتضي لها كذلك.

وبهذا نعرف أنّ المانع لوجود الضدّ إنّما هو وجود المقتضي لضدّه ، فانتفاء المقتضي للضدّ يعتبر من أجزاء العلّة ؛ لوجود الضدّ الآخر.

وهذا معناه أنّ الضدّين في رتبة واحدة بحيث لا طوليّة ولا تقدّم ولا تأخّر ولا توقّف لأحدهما على الآخر. وإنّما هما في رتبة واحدة عرضيّة ، وما يكون مقدّمة وفي طول الآخر إنّما هو المقتضي فإنّه مقدّمة لوجود الضدّ ، وعدمه من أجزاء العلّة لوجود الضدّ الآخر.

والجواب الثاني : أنّ افتراض المقدّميّة يستلزم الدور ، كما أشرنا إليه في الحلقة السابقة (1) ، فلاحظ.

الجواب الثاني على ما تقدّم من برهان إثبات المقدّميّة هو لزوم الدور.

وبيانه : أنّه لو كان عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر ، فحيث إنّ المقدّميّة من الطرفين فيكون عدم الضدّ الآخر مقدّمة للضدّ الأوّل ، فيلزم أن يكون الضدّ الأوّل معلولا لعدم الضدّ الثاني ، بينما يكون الضدّ الثاني معلولا للضدّ الأوّل.

وهذا معناه أنّ الشيء في نفسه يكون علّة ومعلولا ومتقدّما ومتأخّرا ، ومن ذلك يلزم الدور ؛ لأنّ الضدّ الأوّل لمّا كان موقوفا على عدم الضدّ الثاني ، والضدّ الثاني لمّا كان موقوفا على عدم الضدّ الأوّل فيكون الضدّ الأوّل موقوفا على عدم ( عدم الضدّ الأوّل ) ، أي على وجود الضدّ الأوّل فيتوقّف على نفسه ، وهو دور.

فمثلا لو كان عدم الإزالة علّة ومقدّمة للصلاة ، وحيث إنّ التمانع والمقدّميّة من

ص: 396


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

الطرفين ، فيكون عدم الصلاة علّة ومقدّمة للإزالة ، وهذا لازمه أنّ وجود الصلاة متوقّف على عدم الإزالة ، وهذا بدوره متوقّف على فعل الصلاة ؛ لأنّه بفعل الصلاة يتحقّق عدم الإزالة فيكون وجود الصلاة متوقّفا على وجود الصلاة ، وهذا دور.

وعليه ، فالصحيح أنّ وجوب شيء لا يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ.

وبهذا ظهر أنّه لا دليل على حرمة الضدّ الخاصّ ، كما لم يتمّ الدليل على حرمة الضدّ العامّ أيضا. والنتيجة : هي أنّ وجوب شيء لا يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ ولا العامّ.

وأمّا ثمرة هذا البحث فهي - كما أشرنا في الحلقة السابقة (1) - تشخيص حكم الصلاة المضادّة لواجب أهمّ إذا اشتغل بها المكلّف وترك الأهمّ ، وكذلك أي واجب آخر مزاحم من هذا القبيل.

فإذا قلنا بالاقتضاء تعذّر ثبوت الأمر بالصلاة ولو على وجه الترتّب ، فلا تصحّ.

وإذا لم نقل بالاقتضاء صحّت بالأمر الترتّبي.

وبصيغة أشمل في صياغة هذه الثمرة :

إنّه على القول بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلي الواجبين المتزاحمين ؛ لأنّ كلاّ من الدليلين يدلّ بالالتزام على تحريم مورد الآخر ، فيكون التنافي في أصل الجعل ، وهذا ملاك التعارض كما مرّ بنا.

وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فلا تعارض ؛ لأنّ مفاد كلّ من الدليلين ليس إلا وجوب مورده وهو مشروط بالقدرة وعدم الاشتغال بالمزاحم كما تقدّم ، ولا تنافي بين وجوبين من هذا القبيل في عالم الجعل.

ثمرة البحث : توجد ثمرتان للقول باقتضاء وجوب الشيء النهي عن ضدّه الخاصّ أو عدمه.

الثمرة الأولى : فيما إذا كان هناك واجبان متضادّان أحدهما مضيّق والآخر موسّع ، فمثلا إذا وجبت إزالة النجاسة عن المسجد فهي واجب فوري والواجب الفوري مضيّق ، وفرضنا أنّ الصلاة قد دخل وقتها وهو لا يزال واسعا فهي ليست مضيّقة ؛ لإمكان فعلها بعد الإزالة مع سعة الوقت كما هو المفروض.

ص: 397


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

فهنا يكون وجوب الإزالة أهمّ ، ولكنّه لو عصاه وصلّى فهل تكون صلاته صحيحة أم باطلة؟

فإن قلنا بأنّ وجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فوجوب الإزالة الأهمّ يقتضي النهي عن الصلاة فتحرم ، فمع الإتيان بها تقع باطلة ؛ لأنّها منهي عنها فلا يتعلّق الأمر بها في هذه الحالة ، ومع عدم كونها مأمورا بها فلا تقع مصداقا للواجب لعدم الأمر.

وأمّا إن قلنا بأنّ وجوب الشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فالأمر بوجوب الإزالة وإن كان أهمّ إلا أنّه ليس فيه دلالة على حرمة الصلاة ، فلو عصى الإزالة وصلّى لكانت صلاته صحيحة لكونها مأمورا بها فتقع مصداقا للواجب المأمور به وتكون مجزية وصحيحة. وإن كان بلحاظ عدم امتثاله للإزالة عاصيا ويستحقّ العقوبة.

الثمرة الثانية : فيما إذا كان هناك واجبان متزاحمان كما في وجوب الإزالة الفوري ووجوب الصلاة في آخر وقتها فإنّه مضيّق ، بحيث لو اشتغل بأحدهما لفاته الآخر.

فهنا تظهر بين القولين كما يلي : أنّنا إذا قلنا بأنّ وجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فسوف يقع التعارض بين الدليلين الدالّين على وجوب الصلاة وعلى وجوب الإزالة ، والوجه في ذلك هو أنّ الأمر بالإزالة كما يدلّ بالمطابقة على وجوبها يدلّ أيضا - إمّا بدلالة مطابقيّة أو تضمّنيّة أو التزاميّة - على حرمة الصلاة بوصفها ضدّا خاصّا.

ومن جهة الأمر بالصلاة له دلالتان أيضا دلالة على وجوب الصلاة بالمطابقة ، ودلالة على حرمة الإزالة بإحدى الدلالات الثلاث.

وعليه ، فسوف يقع التكاذب والتنافي بين المدلول الدالّ على الوجوب في أحدهما مع المدلول الآخر الدالّ على الحرمة ، وهذا التنافي ناشئ من نفس الأمرين والجعلين ، والتنافي بين الجعلين والدليلين هو ملاك التعارض.

وحينئذ لا بدّ من تطبيق قواعد التعارض من الجمع أو الترجيح أو التخيير أو التساقط.

ص: 398

وأمّا إذا قلنا بأنّ وجوب شيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فسوف لا يقع التعارض بين الدليلين ؛ وذلك لأنّ الدليل في كلّ منهما لا يثبت أكثر من وجوب متعلّقه من دون أن يكون له دلالة أخرى على التحريم. ولكن حيث إنّ كلّ تكليف يشترط فيه القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ أي بمعنى عدم الاشتغال بالواجب الأهمّ أو المساوي ، فسوف يكون كلا الدليلين - في حالة تساويهما في الأهمّيّة - مشروطا بترك الآخر ، فهو مأمور به على نحو الترتّب من الجانبين ، وسوف يكون أحدهما - في حالة كونه أهمّ من الآخر - مطلقا ، والآخر - الأقلّ أهمّيّة - مشروط بعصيان الأهمّ.

وهذا معناه أنّ مبحث الترتّب المتقدّم يرتبط بمبحث الضدّ ومتفرّع عليه ، فإنّنا إذا قلنا بالاقتضاء دخل المتزاحمان في باب التعارض ، وإذا قلنا بعدم الاقتضاء كان للتزاحم أحكامه الخاصّة به من تقديم الأهمّ أو كون الواجبين معا مشروطا كلّ منهما بعصيان الآخر.

وبهذا ينتهي الكلام عن مبحث الضدّ. وقد عرفنا أنّه لا يقتضي الحرمة.

* * *

ص: 399

ص: 400

اقتضاء الحرمة للبطلان

ص: 401

ص: 402

اقتضاء الحرمة للبطلان

لا شكّ في أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو بالمعاملة إرشادا إلى شرط أو مانع ، يكشف عن البطلان بفقد الشرط أو وجود المانع.

وإنّما الكلام في الحرمة التكليفيّة واقتضائها لبطلان العبادة بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وبطلان المعاملة بمعنى عدم ترتيب الأثر عليها. فهنا مبحثان : موضوع البحث :

أوّلا : المراد من النهي المتعلّق بالعبادة هو النهي التحريمي التكليفي (1) أي الحرمة النفسيّة التي تنشأ من المبادئ والملاكات أي من المفسدة والمبغوضيّة.

وليس المراد من النهي هنا النهي الإرشادي ؛ لأنّه لا إشكال في دلالته على البطلان سواء تعلّق بالعبادة أم بالمعاملة ؛ وذلك لأنّ النهي الإرشادي تارة يكون إرشادا لشرطيّة شيء ، وأخرى يكون إرشادا إلى مانعيّة شيء.

فمثلا قولنا : ( لا تصلّ لغير القبلة ) مفاده الإرشاد إلى شرطيّة الاستقبال في الصلاة.

وقولنا : ( لا تصلّ في النجس ) إرشاد إلى مانعيّة النجاسة من صحّة الصلاة ، وكذا قولنا : ( لا تصلّ بالمغصوب ).

وفي هاتين الحالتين إذا فقد الشرط أو وجد المانع كشف ذلك عن عدم تحقّق

ص: 403


1- وأمّا النهي الكراهتي فإن كان معنى الكراهة قلّة الثواب فلا مانع من اجتماعها مع الأمر ؛ لأنّ النتيجة تكون النقص من المحبوبيّة ، وإن كان معناها المفسدة والمبغوضيّة فإذا بني على جواز الاجتماع فلا محذور في اجتماع الأمر بالعبادة والنهي عنها. وأمّا إذا بني على الامتناع فيلزم محذور اجتماع المفسدة والمبغوضيّة مع المصلحة والمحبوبيّة ، فيدخل هذا المورد في موضوع البحث.

المأمور به على الوجه المطلوب شرعا ، فمثلا إذا صلّى لغير القبلة أو صلّى في النجاسة أو المكان المغصوب فيكشف ذلك عن البطلان ؛ لأنّ المأتي به ليس مصداقا للمأمور به فلا يجزي عنه ولا يكون امتثالا ، وهذا واضح ؛ لأنّه على القاعدة لأنّ إجزاء غير المأمور به على وجهه والحكم بصحّته على خلاف القاعدة.

وعليه ، فمفاد النهي الإرشادي هو البطلان عند فقدان الشرط أو وجود المانع ، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

وثانيا : أنّ الاقتضاء معناه الملازمة ، فيبحث في أنّ النهي التحريمي ، هل يستلزم الفساد فيما إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة أم لا؟ ولذلك يكون البحث أصوليّا ؛ لأنّه داخل في المستلزمات العقليّة.

وثالثا : أنّ الصحّة هنا بمعنى الإجزاء في العبادة ، وترتّب الأثر في المعاملة ، والفساد بمعنى عدم الإجزاء في العبادة ولزوم الإعادة ، وعدم ترتّب الأثر المطلوب من المعاملة.

ورابعا : أنّ البحث ينقسم إلى قسمين ؛ لأنّ النهي تارة يتعلّق بالعبادة وأخرى يتعلّق بالمعاملة ، فهنا بحثان :

الأوّل : اقتضاء النهي أي الحرمة لبطلان العبادة.

الثاني : اقتضاء النهي أي الحرمة لبطلان المعاملة.

* * *

ص: 404

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة

اشارة

ص: 405

ص: 406

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة

والمعروف بينهم أنّ الحرمة تقتضي بطلان العبادة ، ويمكن أن يكون ذلك لأحد الملاكات التالية :

الأوّل : أنّها تمنع عن إطلاق الأمر خطابا ودليلا لمتعلّقها لامتناع الاجتماع ، ومع خروجه عن كونه مصداقا للواجب لا يجزي عنه ، وهو معنى البطلان.

الثاني : أنّها تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ، ومع كونها مبغوضة يستحيل التقرّب بها.

الثالث : أنّها تستوجب حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلّقها لكونه معصية مبعّدة عن المولى ، ومعه يستحيل التقرّب بالعبادة.

المبحث الأوّل : في اقتضاء النهي عن العبادة للبطلان.

إذا تعلّق النهي بعبادة ما كما إذا قيل : ( لا تصلّ في الحمّام ) أو ( لا تصم يوم عاشوراء ) ، فهل هذا النهي يقتضي ويستلزم بطلان العبادة فيما لو أتى بها المكلّف أو لا؟

المشهور بينهم أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها وبطلانها ، وذكر لذلك أدلّة ترجع إلى ملاكات ثلاثة :

الملاك الأوّل : أنّ الحرمة عن العبادة تمنع من إطلاق الأمر وشموله للعبادة ، فيسقط الأمر عن العبادة ؛ لأنّه لو ظلّ شاملا لها للزم اجتماع الأمر والنهي وهو ممتنع. ومع سقوط الأمر عن العبادة تخرج العبادة المأتي بها في حال تعلّق الحرمة بها عن كونها مصداقا للواجب ؛ لأنّ ما يكون مصداقا للواجب هو ما يكون مصداقا للمأمور به ، والمفروض أنّه لا يوجد أمر بالعبادة لسقوطه ، وحينئذ تقع باطلة ؛ لأنّ إجزائها عن الواجب يحتاج إلى دليل خاصّ ؛ لأنّه يكون من باب إجزاء غير المأمور به عن المأمور

ص: 407

به. وكذا لا يمكن إثبات إجزائها ببقاء الملاك فيها ؛ لأنّه مدلول التزامي ومع سقوط المدلول المطابقي يسقط الالتزامي للتبعيّة بينهما.

وهكذا يتعيّن الإعادة أو القضاء ؛ لأنّ الذمّة مشغولة يقينا بالتكليف ويشكّ في فراغها حين الإتيان بهذه العبادة المنهي عنها.

الملاك الثاني : أنّ الحرمة المتعلّقة بالعبادة تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ؛ وذلك لأنّ النهي التحريمي معناه وجود المفسدة والمبغوضيّة في متعلّقه ، وحيث إنّه متعلّق بالعبادة فتكون مبغوضة للمولى ، والحال أنّ الشيء المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه ؛ لأنّ التقرّب بالمأتي به معناه إضافته للمولى والفعل المبغوض للمولى كيف يمكن إضافته إليه؟!

وهذا معناه أنّ العبادة فيها قصور لا من حيث ذاتها ، بل من ناحية عدم إمكان التقرّب بها فتبطل ؛ لأنّ قصد القربة من شروط تحقّق العباديّة ، فمع عدمه لا يكون ما وقع عبادة.

الملاك الثالث : أنّ الحرمة المتعلّقة بالعبادة تستلزم حكم العقل بقبح الإتيان بها ؛ لأنّ الحرمة إذا تعلّقت بشيء حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلّق الحرمة ؛ لكونه معصية قبيحة من جهة حكم العقل بلزوم إطاعة تكاليف المولى ، وهنا تكليف المولى يستلزم ترك ما تعلّق به النهي ، ففعله يكون مخالفة فيحكم العقل بقبح ذلك.

وعليه ، فإذا أتى المكلّف بالعبادة في هذه الحالة لم يمكنه التقرّب بها إلى المولى من جهة كون الإتيان بها معصية قبيحة ، والمعصية لا يمكن أن تكون مقرّبة للمولى أو لا يمكن أن يقصد القربة حال فعل المعصية.

وهذا نتيجته القصور من جهة عدم إمكان تحقّق قصد القربة فتبطل العبادة ؛ لأنّ قصد القربة شرط في تحقّقها.

وهذا الوجه يبتني على أنّه لا يمكن اجتماع الحسن والقبح على شيء واحد.

والمعصية والطاعة لا يمكن اجتماعهما معا ؛ لأنّه لا يمكن اجتماع المقرّبيّة مع المبعّديّة.

وهذه الملاكات على تقدير تماميّتها تختلف نتائجها :

ص: 408

فنتيجة الملاك الأوّل لا تختصّ بالعبادة ، بل تشمل الواجب التوصّلي أيضا ، ولا تختصّ بالعالم بالحرمة ، بل تشمل حالة الجهل أيضا ، ولا تختصّ بالحرمة النفسيّة ، بل تشمل [ الحرمة ] الغيريّة أيضا.

ونتيجة الملاك الثاني تختصّ بالعبادة ؛ إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها ، وبالعالم بالحرمة ؛ لأنّ من يجهل كونها مبغوضة يمكنه التقرّب.

ونتيجة الملاك الثالث تختصّ بالعبادة وبفرض تنجّز الحرمة ، وأيضا تختصّ بالنهي النفسي ؛ لأنّ الغيري ليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بقبح المخالفة ، كما تقدّم في مبحث الوجوب الغيري (1).

الفارق بين الملاكات الثلاثة :

أمّا الملاك الأوّل : فهو يتمّ في العبادات والمعاملات ، وفي حالتي العلم بالحرمة والجهل بها ، وفي الحرمة النفسيّة والغيريّة.

أمّا تماميّته في العبادات والمعاملات ، فلأنّ هذا الملاك يبتني على سقوط الأمر وإذا سقط الأمر لم يكن ما أتى به مصداقا للواجب المأمور به ، سواء كان هذا الواجب عبادة أم معاملة.

وأمّا تماميّته في صورتي العلم والجهل ، فلأنّه يبتني على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة الامتناع أمر واقعي لا يختلف الحال فيه بين العالم والجاهل بالحرمة ؛ لأنّه مع الامتناع يسقط الأمر واقعا فلا أمر بالعبادة ولا المعاملة.

وأمّا تماميّته في الوجوب النفسي والغيري معا ، فلأنّ الواجب الغيري ما يكون مقدّمة ، فإذا تعلّق النهي بالمقدّمة لزم من ذلك تقيّد الأمر بالفرد المباح ؛ لأنّ الحرمة الغيريّة معناها العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها للحرام فيحرم ؛ لأنّه سبب توليدي للحرمة وهذا يوجب مبغوضيّة المقدّمة ، ومعها لا يشملها الأمر وإلا للزم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة معا وهو مستحيل.

وأمّا الملاك الثاني : فهو يتمّ في العبادات دون التوصّليّات ، ويتمّ في صورة العلم دون الجهل ، ولكنّه يتمّ في الحرمة النفسيّة والحرمة الغيريّة معا.

أمّا عدم تماميّته في التوصّليّات ، فلأنّه يبتني على عدم إمكان التقرّب بالمبغوض.

ص: 409


1- تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

ومن الواضح أنّ قصد القربة إنّما هو في خصوص العبادات دون التوصّليّات ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة.

وأمّا عدم تماميّته في حال الجهل بالحرمة ، فلأنّ عدم إمكان التقرّب بالمبغوض فيما إذا كان يعلم بأنّ العبادة مبغوضة للمولى ، وهذا فرع تنجّزها عليه وهذا لا يكون إلا بوصولها والعلم بها ، فمع الجهل بها لا تكون الحرمة متنجّزة عليه ، ولذلك يمكن أن يتأتّى منه قصد القربة ؛ لأنّه لا يعتقد بوجود المبغوضيّة بالعبادة التي يأتي بها ؛ لعدم علمه بحرمتها.

وأمّا تماميّته في الحرمة النفسيّة والغيريّة معا ، فلأنّ الحرمة الغيريّة معناها حرمة المقدّمة التي تكون علّة أو جزء العلّة للحرام ، فيكون الحرام النفسي المبغوض للمولى مستلزما لمبغوضيّة مقدّمته ، ومع كون المقدّمة مبغوضة لا يمكن ثبوت الأمر بها ؛ لأنّ لازمه كونها محبوبة أيضا ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة والمحبوبيّة على شيء واحد ، وهو مستحيل.

وأمّا الملاك الثالث : فهو يختصّ بالعبادات دون التوصّليّات ، ويختصّ أيضا بفرض تنجّز الحرمة والعلم بها دون حالة الجهل ، ويختصّ أيضا بالحرمة النفسيّة لا الغيريّة.

أمّا اختصاصه بالعبادات دون التوصّليّات ، فلأنّه يبتني على أنّ التقرّب لا يمكن أن يكون بما هو معصية قبيحة ، وهذا فرع اشتراط قصد القربة ، وفي التوصّليّات لا يشترط قصد القربة. إذا فمجرّد كونها معصية قبيحة عقلا لا يمنع من صحّتها.

وأمّا اختصاصه بصورة العلم دون الجهل ، فلأنّ عدم إمكان قصد التقرّب بالمعصية القبيحة إنّما هو فرع وصولها وتنجّزها ، وأمّا مع عدم وصول الحرمة وعدم تنجّزها على المكلّف فلا تكون فعليّة ، ولذلك فهو لا يعتقد بحرمة ما يأتي به ويمكنه أن يتأتّى منه قصد القربة به.

وأمّا عدم شموله للحرمة الغيريّة ، فلأنّ الحرمة الغيريّة كما تقدّم في بحث الوجوب الغيري ، ليس فيها عقوبة زائدة على العقوبة الموجودة في الحرام النفسي ، فإذا فعل المقدّمة التي تؤدّي إلى الحرام لا يكون قد فعل معصيتين ليستحقّ

ص: 410

عقوبتين ، ومع عدم العقوبة والمعصية فيها لا يكون فعلها مانعا من التقرّب.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ الملاك الأوّل أعمّ من الملاكين الآخرين. والثاني أعمّ من الثالث أيضا (1).

ثمّ إذا افترضنا أنّ حرمة العبادة تقتضي بطلانها ، فإن تعلّقت بالعبادة بكاملها فهو ما تقدّم ، وإن تعلّقت بجزئها بطل هذا الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة ، وبطل الكلّ إذا اقتصر على ذلك الفرد من الجزء. وأمّا إذا أتى بفرد آخر غير محرّم من الجزء صحّ المركّب إذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر ، من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات.

وإن تعلّقت الحرمة بالشرط نظر إلى الشرط ، فإن كان في نفسه عبادة كالوضوء بطل ، وبطل المشروط بتبعه ، وإلا لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط ، أمّا الأوّل فلعدم كونه عبادة ، وأمّا الثاني فلأنّ عباديّة المشروط لا تقتضي بنفسها عباديّة الشرط ولزوم الإتيان به على وجه قربي ؛ لأنّ الشرط والقيد ليس داخلا تحت الأمر النفسي المتعلّق بالمشروط والمقيّد ، كما تقدّم (2) في محلّه.

كيفيّة تعلّق النهي بالعبادة : تارة يتعلّق النهي بالعبادة بكاملها ، وأخرى يتعلّق بجزء منها ، وثالثة يتعلّق بشرط من شروطها ، فهنا ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن يتعلّق النهي بالعبادة بكاملها ، كما في النهي عن صوم يوم عاشوراء ، أو عن الصلاة في الحمّام ، فإنّ النهي متعلّق بأصل الصوم وبأصل الصلاة بتمامها.

وهذه الحالة هي التي كان البحث السابق معقودا لأجلها ، فإن قيل باقتضاء الحرمة

ص: 411


1- هذا كلّه على تقدير تماميّة هذه الملاكات هنا ، إلا أنّ الصحيح هو عدم تماميّتها وذلك : أمّا الملاك الأوّل فلأنّه مبني على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ونحن قد ذكرنا سابقا أنّ الصحيح هو جواز الاجتماع. وأمّا الملاكان الثاني والثالث فلأنّهما يبتنيان على عدم إمكان التقرّب بما هو مبغوض أو بما هو معصية ، وهذا متوقّف ليس فقط على الفعل الخارجي ، بل على ضمّ الداعي إليه ، فلو كان الفعل مبغوضا ولم يكن الداعي هو المعصية بل الطاعة لأمكن التقرّب به.
2- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة تنوّع القيود وأحكامها.

للبطلان كان المصداق الأبرز والأهمّ هو النهي المتعلّق بالعبادة بكاملها ، فتقع باطلة.

الحالة الثانية : أن يتعلّق النهي بجزء من أجزاء العبادة ، كما في النهي عن قراءة السور العزائم الأربع في الصلاة ، فهنا هل يقتضي النهي المتعلّق بالجزء البطلان للجزء فقط ، أم له وللمركّب أيضا؟

والجواب : أنّ حرمة الجزء - على القول باقتضاء الحرمة للبطلان - تقتضي بطلان الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة أيضا ، فالصلاة المركّبة من ركوع وسجود وقراءة وذكر وتشهّد وتسليم وتكبير كلّها أجزاء لها وكلّ جزء منها عبادة. ومع بطلان الجزء العبادي يبطل المركّب العبادي أيضا ؛ لأنّ الاقتصار على الإتيان بالفرد المحرّم من الجزء لمّا كان يوجب بطلان الجزء فلا يتحقّق المركّب ؛ لأنّ المركّب لا يتحقّق إلا بتمام أجزائه وينتفي بانتفاء جزء منها ، ولذلك ينتفي المركّب.

وأمّا إذا أعاد الجزئيّة ضمن فرد آخر مباح كأن قرأ سورة أخرى غير العزائم بعد أن قرأ إحدى العزائم فهنا يفصّل :

فإن كانت هذه الزيادة موجبة للبطلان كما في زيادة الركن فإنّ زيادته مطلقا موجبة للبطلان ، فلا يفيد التكرار والإعادة ضمن الفرد المباح.

وإن لم تكن هذه الزيادة موجبة للبطلان بأن لم يكن الزائد ركنا مثلا فهنا تقع العبادة صحيحة لتحقّق المركّب ضمن أجزائه المباحة.

الحالة الثالثة : أن يتعلّق النهي والحرمة بالشرط ، كالوضوء مثلا فإنّه شرط في الصلاة ، فإذا كان الإنسان مريضا وكان الماء يضرّ به فهو منهي عن الوضوء ، فإذا توضّأ وصلّى فهل تقع صلاته صحيحة أم لا؟

فهنا فصّل صاحب ( الكفاية ) بين أن يكون الشرط عبادة في نفسه وبين ألاّ يكون عبادة.

فإن كان الشرط عبادة كالوضوء بطل الشرط وبتبعه يبطل المشروط ؛ لعدم تحقّق شرطه ، إذ مع عدم تحقّق الشرط لا يقع المشروط على الوجه المطلوب والمأمور به.

وإن لم يكن الشرط عبادة كالتستّر باللباس المغصوب حال الصلاة ، فإنّ التستّر شرط ولكنّه ليس عبادة ؛ لأنّه لا يشترط فيه قصد القربة ، فهنا لا يبطل الشرط ولا يبطل المشروط به أيضا.

ص: 412

أمّا عدم بطلان الشرط فلأنّه ليس عبادة فلا تشمله الملاكات المتقدّمة ؛ لأنّها مختصّة بالنهي عمّا يكون عبادة. نعم ، الملاك الأوّل كان شاملا لغير العبادات أيضا ، إلا أنّه مبني على القول بالامتناع ونحن قد اخترنا القول بجواز الاجتماع كما تقدّم.

وأمّا عدم بطلان المشروط فلأنّ المركّب وإن كان في نفسه عباديّا إلا أنّه لا ملازمة بين كونه عبادة وبين عباديّة شرطه. فيمكن أن يكون عباديّا ولكن شرطه ليس عبادة ولا يشترط فيه قصد القربة ، بل يكفي حصوله وتحقّقه.

مضافا إلى أنّ الأمر بالمركّب المشروط بشيء ينحلّ إلى الأمر بذات الفعل وإلى تقيّده بالشرط ، بحيث يكون المقيّد والتقيّد داخلين تحت الأمر مع كون القيد خارجا عن الأمر ، فالمأمور به هو كون الصلاة عن ستر أي مقيّدة بكونها عن ستر فالتقيّد جزء منها ، وأمّا القيد وهو التستّر فهو مقدّمة لحصول التقيّد ؛ لأنّه لا يمكن حصول الصلاة عن ستر إلا بوجود ما يكون ساترا ، والمقدّمة إذا لم تكن عبادة في نفسها فلا يقتضي النهي عنها بطلانها ولا بطلان ما هو مشروط بها أيضا ؛ لأنّه يمكن أن يجتمع الأمر النفسي مع النهي الغيري عن المقدّمة غير العباديّة.

* * *

ص: 413

ص: 414

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

ص: 415

ص: 416

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

وتحلّل المعاملة إلى السبب والمسبّب ، والحرمة تارة تتعلّق بالسبب وأخرى بالمسبّب.

فإن تعلّقت بالسبب فالمعروف بين الأصوليّين أنّها لا تقتضي البطلان ، إذ لا منافاة بين أن يكون الإنشاء والعقد مبغوضا وأن يترتّب عليه مسبّبه ومضمونه.

المبحث الثاني : في اقتضاء النهي عن المعاملة للبطلان.

وهنا المعاملة يمكن تحليلها وتقسيمها عقلا إلى السبب والمسبّب. وعليه ، فالنهي تارة يتعلّق بالسبب وأخرى يتعلّق بالمسبّب.

والمراد من السبب هو الإنشاء والعقد وما يكون سببا شرعيّا لترتّب الأثر الشرعي المطلوب من المعاملة. والمراد من المسبّب هو الأثر الشرعي المطلوب ترتّبه على السبب ، فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : فيما إذا تعلّق النهي عن السبب ، كما إذا قيل بحرمة البيع يوم الجمعة وقت النداء للصلاة ؛ استنادا إلى قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (1). فهنا النهي متعلّق بالإنشاء وإيجاد السبب وهو عقد البيع ، فهل يقتضي هذا النهي - على فرض كونه تحريميّا - فساد المعاملة لو أنشأها حال النداء أم لا؟

المشهور بين الأصوليّين وهو الصحيح أيضا أنّ النهي عن السبب لا يقتضي بطلان المعاملة ؛ لأنّه يمكن أن يكون السبب مبغوضا ، ومع ذلك يحكم بصحّته ونفوذه وترتّب الأثر الشرعي المطلوب منه ؛ إذ لا ملازمة بين مبغوضيّة السبب ومبغوضيّة المسبّب لإمكان التفكيك بينهما.

ص: 417


1- الجمعة : 9.

وهذا له نظائر كثيرة في الفقه من قبيل تطهير الثوب المتنجّس بماء مغصوب ، فإنّه يطهر به وإن كان سبب حصول الطهارة مبغوضا لكونه غصبا محرّما ، وهكذا الحال في موارد الاضطرار إلى إجراء المعاملة فإنّ المكلّف وإن كان لا يحبّ إجراء المعاملة ولكنّه مضطرّ إليها ؛ لما في الأثر المطلوب منها من فائدة له.

ومثاله في الإيقاعات الظهار ، فإنّه محرّم ولكن لو تحقّق لترتّب عليه أثره وهو الانفصال بين الزوجين فيما إذا لم يكفّر عن ذلك.

وإن تعلّقت بالمسبّب - أي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصّل إليه بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلّف وأثرا تسبيبيّا له - فقد يقال بأنّ ذلك يقتضي البطلان لوجهين :

الأوّل : أنّ هذا التحريم يعني مبغوضيّة المسبّب ، أي التمليك بعوض في مورد البيع مثلا ، ومن الواضح أنّ الشارع إذا كان يبغض أن تنتقل ملكيّة السلعة للمشتري فلا يعقل أن يحكم بذلك ، وعدم الحكم بذلك عبارة أخرى عن البطلان.

المطلب الثاني : فيما إذا تعلّق النهي عن المسبّب ، كما في النهي الوارد عن عدم تملّك الكافر للعبد المسلم ، وكذا النهي المتعلّق ببيع المصحف للكافر ، فإنّ مراده من ذلك هو عدم تملّكه له.

وعليه ، فهل النهي المتعلّق بالمسبّب أي بالأثر والمضمون الذي يراد تحقّقه من السبب يقتضي فساد المعاملة أم لا؟

قد يقال : أنّ النهي عن المسبّب يقتضي بطلان السبب أي المعاملة ؛ وذلك لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ التحريم المتعلّق بالمسبّب معناه مبغوضيّة المولى لهذه المسبّب ، فالشارع يبغض ترتّب الأثر وحصول التملّك والنقل والانتقال ، وإذا كان مبغوضا فيستحيل أن يحكم الشارع بتحقّق الأثر المترتّب على العقد والسبب ؛ لأنّه لو حكم بنفوذه وصحّته لكشف ذلك عن كونه مرادا ومطلوبا له وأنّه ليس مبغوضا ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة وعدمها. فلا بدّ حينئذ أن يحكم ببطلان السبب ؛ لأنّه هو الذي يحقّق هذا الأثر الذي يبغضه ولا يريد تحقّقه.

وبتعبير آخر : لمّا كان الشارع يبغض المسبّب وهو لا يحصل إلا بواسطة السبب

ص: 418

فسوف تسري المبغوضيّة إلى السبب أيضا ، ومع كونه مبغوضا يكون باطلا ؛ لأنّ معنى مبغوضيّتها له أنّه لا يعتبرها ولا يجعلها وعدم جعلها يعني بطلانها.

ثمّ إنّ السيّد الشهيد قد أشار بقوله : ( أي بمضمون المعاملة التي يراد التوصّل إليه بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلّف وأثرا تسبيبيا له ) إلى وجود شبهة في أصل إمكانيّة تعلّق النهي بالمسبّب.

وحاصل هذه الشبهة هو أنّ المسبّب - أي الأثر - فعل للمولى فكيف يتعلّق النهي بما هو فعل للمولى؟! مع أنّ الأحكام كلّها يضعها ويجعلها الشارع على المكلّف وعلى أفعالهم لا على أفعاله هو نفسه.

والجواب : أنّ الأثر وإن كان مجعولا شرعيّا إلا أنّه ينسب إلى المكلّف بالواسطة باعتباره السبب في حصوله ؛ لأنّ المكلّف بإيجاده للسبب يوجد المسبّب أيضا ، فصحّ انتسابه إليه بالتسبيب وبالواسطة وإن كان المسبّب مباشرة فعل المولى.

والجواب : أنّ تملّك المشتري للسلعة يتوقّف على أمرين :

أحدهما : إيجاد المتعاملين للسبب وهو العقد.

والآخر : جعل الشارع للمضمون ، وقد يكون غرض المولى متعلّقا بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل خاصّة ، لا بإعدامه من ناحية الأمر الثاني ، فلا مانع من أن يحرّم المسبّب على المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون على تقدير تحقّق السبب.

والجواب عن هذا الوجه أن يقال : إن تملّك المشتري للسلعة الذي هو الأثر المطلوب ترتّبه من البيع مثلا ، يتوقّف على أمرين :

الأوّل : وجود السبب في الخارج ، وهذا يتحقّق بإنشاء المعاملة من الطرفين المتوقّف على الإيجاب والقبول.

الثاني : حكم الشارع بتحقّق المضمون والأثر والمسبّب على المعاملة.

فإنّه إذا حصل الإيجاب والقبول وتحقّق العقد بكامل شروطه وكان الشارع قد رتّب الأثر وجعله على هذا العقد ، فسوف يترتّب الأثر الوضعي المطلوب وهو حصول الملكيّة.

وأمّا إذا انتفى أحدهما بأن لم يتحقّق السبب في الخارج أو لم يوجد العقد ، أو لم

ص: 419

يكن الشارع قد رتّب الأثر على العقد كما إذا وقع العقد عن إكراه مثلا ، فإنّ الشارع لم يجعل المضمون والأثر مترتّبا على هكذا عقد. فحينئذ سوف لن تتحقّق الملكيّة.

وعليه ، فنقول : تارة يكون غرض المولى بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل وأخرى يكون من ناحية الأمر الثاني.

فإن تعلّق غرضه بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الثاني ، فهذا لازمه ألاّ يجعل المولى المسبّب على العقد الواقع من الطرفين في الخارج ، وذلك كما في العقد المكره عليه ، فإنّ الشارع هنا أعدم المسبّب بمعنى أنّه لم يجعله شرعا على هذا العقد.

وإن تعلّق غرضه في إعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل ، فهذا معناه أنّ الشارع لا يريد إيجاد السبب من الطرفين لمبغوضيّة ومفسدة في إيجاده ، ولكنّه مع ذلك يرتّب المسبّب ويجعله على تقدير حصول هذا العقد في الخارج ولو عصيانا ؛ لأنّ المانع ليس من طرفه فإنّه لم يعدم المسبّب كما هو الفرض ، وهذا معناه أنّ المسبّب مجعول من قبله وجعله من قبله مع بغضه لحصول السبب إنّما يكون مشروطا وعلى تقدير حصول السبب ولو عصيانا ، فإنّه إذا وجد رتّب المسبّب عليه.

وهذا لازمه أن يكون هناك مبغوضيّة في ترتّب المسبّب على السبب ، ولكنّه على تقدير وقوع السبب تحصل هناك محبوبيّة ومصلحة في ترتيب المسبّب. وهذا نظير ما تقدّم من أنّ الدخول إلى الأرض المغصوبة فيه مبغوضيّة ومفسدة ، ولكن لو دخل الإنسان إلى الأرض المغصوبة ولو عصيانا فسوف تنشأ محبوبيّة للخروج مع كونه غصبا أيضا ، ولكن مفسدته هذه ليست بأقوى من محبوبيّة التخلّص من الغصب الزائد.

وهكذا الحال هنا فإنّ المولى يبغض حصول المسبّب فيمنع من إيجاد سببه ولكنّه لو تحقّق سببه في الخارج ولو عصيانا فسوف يحبّ ترتّب المسبّب ؛ لوجود مصلحة أقوى من مفسدة إيجاد السبب.

الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) من أنّ هذا التحريم يساوق الحجر على المالك وسلب سلطنته على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصحّ المعاملة.

ص: 420


1- فوائد الأصول 1 : 472.

والجواب : أنّ الحجر على شخص له معنيان :

أحدهما : الحجر الوضعي ، بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.

والآخر : الحجر التكليفي ، بمعنى منعه.

فإن أريد أنّ التحريم يساوق الحجر بالمعنى الأوّل فهو أوّل الكلام.

وإن أريد أنّه يساوقه بالمعنى الثاني فهو مسلّم ، ولكن من قال : إنّ هذا يستتبع الحجر الوضعي؟ فالظاهر أنّ تحريم المسبّب لا يقتضي البطلان ، بل قد يقتضي الصحّة كما أشرنا في حلقة سابقة (1).

الوجه الثاني : - للقول باقتضاء النهي عن المسبّب للبطلان - هو ما ذكره الميرزا وحاصله : أنّ ترتّب المسبّب والأثر على المعاملة يتوقّف على توفّر شروط ثلاثة :

الأوّل : أن يكون هناك عقد وإيجاب وقبول ، أي على وجود الصيغة الشرعيّة.

الثاني : أن يكون المتعاملان المالكين أو الوكيلين أو بالاختلاف للثمن والمثمن.

الثالث : أن يكون للمتعاملين السلطنة والولاية والقدرة على التصرّف في الثمن والمثمن.

فإذا اختلّ أحد هذه الشروط الثلاثة كشف ذلك عن عدم تحقّق الأثر والمسبّب.

وفي مقامنا إذا تعلّق النهي عن المسبّب اختلّ الشرط الثالث ، بحيث يكون المالك ممنوعا من التصرّف ومسلوب القدرة والسلطنة والولاية على نقل المال إلى الغير ، وبذلك يكون محجورا عليه تماما كالصغير. فإذا كان كذلك وقعت المعاملة منه فاسدة بمعنى عدم ترتّب الأثر عليها ، وهذا معناه بطلان المعاملة بالنهي عن المسبّب.

والجواب : أنّ الحجر بمعنى انتفاء القدرة والسلطنة والولاية يحتمل فيه أحد أمرين :

أحدهما : الحجر الوضعي ، بمعنى عدم نفوذ معاملاته والحكم ببطلانها كالصغير.

الآخر : الحجر التكليفي ، بمعنى أنّه لا يجوز له إنشاء المعاملات وإنّما هو ممنوع شرعا من إنشائها.

فإن أريد المعنى الأوّل ، فهذا هو المدّعى في الوجه الذي ذكره الميرزا ، ويحتاج إثباته إلى دليل عليه ، وهو غير موجود ؛ لأنّ الثابت شرعا هو الحجر الوضعي على الصغير

ص: 421


1- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء الحرمة للبطلان.

والسفيه والمجنون بالأدلّة الخاصّة ، وهذا المورد لم يرد فيه دليل خاصّ فيكون على مقتضى القاعدة من التسلّط والقدرة على المال.

وإن أريد المعنى الثاني ، فهذا مسلّم به ، فإنّ معنى النهي هو المنع الشرعي ، ولكن لا ملازمة بين المنع الشرعي وبين البطلان ؛ لأنّ هذا هو محلّ البحث. ولا ملازمة بين الحجر التكليفي والحجر الوضعي لاحتياجه إلى دليل خاصّ عليه ؛ لأنّه على خلاف القاعدة.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد دليل تامّ على كون النهي عن المسبّب يقتضي البطلان في المعاملة ، كما أنّ النهي عن السبب لا يقتضي البطلان أيضا ، بل يمكن أن يقال بأنّ النهي عن المسبّب يقتضي صحّة السبب ونفوذه وترتّب الأثر عليه.

والوجه في ذلك : أنّ النهي - ككلّ تكليف - يشترط فيه القدرة على متعلّقه ، فلو لم يكن متعلّقه مقدورا للمكلّف لامتنع التكليف به ؛ لأنّه يكون من التكليف بغير المقدور وهو محال عقلا.

وعليه ، فإذا تعلّق النهي عن المسبّب فلا بدّ من فرض قدرة المكلّف على إيجاد المسبّب ، وحيث إنّ المكلّف لا يقدر على إيجاد المسبّب إلا بإيجاد سببه فلا بدّ أن يكون السبب صحيحا ونافذا ومؤثّرا في حصول المسبّب ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لكان انتفاء المسبّب ضروري الوقوع دائما ؛ لأنّه دائما ينتفي عند وجود سببه ، وما دام ضروري الوقوع فلا يتعلّق به النهي ؛ لأنّ القدرة والاختيار على الفعل والترك شرط في التكليف ، وهنا لا يكون المكلّف قادرا على إيجاد المسبّب ؛ لأنّه ليس باختياره وقوعه وعدم وقوعه لأنّه دائما منتف.

* * *

ص: 422

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

اشارة

ص: 423

ص: 424

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

يقسم الحكم العقلي إلى قسمين :

أحدهما : الحكم النظري وهو إدراك ما يكون واقعا.

والآخر : الحكم العملي وهو إدراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي أن يقع.

وبالتحليل نلاحظ رجوع الثاني إلى الأوّل ؛ لأنّه إدراك لصفة واقعيّة في الفعل ، وهي أنّه ينبغي أن يقع وهو الحسن ، أو لا ينبغي وهو القبح.

تقسيم الحكم العقلي : ينقسم حكم العقل بلحاظ متعلّقه إلى قسمين ، وأمّا نفس حكم العقل فهو واحد ؛ لأنّه عبارة عن الإدراك. فالعقل إمّا أن يدرك أو لا يدرك ، فإن أدرك فمتعلّق إدراكه ينقسم إلى قسمين : وذلك لأنّه تارة يدرك ما يكون واقعا وموجودا ، فيسمّى بالعقل النظري أو الحكم النظري.

وأخرى يدرك ما ينبغي أن يقع فيسمّى بالعقل العملي أو الحكم العملي.

والمراد من الإدراك العقلي : هو الحكم الذي يصدره العقل بنحو الجزم والقطع واليقين مستندا فيه إلى العقل نفسه ، وهو ما يسمّى بالمستقلاّت العقليّة. وفي قبال ذلك الإدراك العقلي المستند إلى حكم الشارع أي الذي يكون في طول حكم الشارع ، وهو ما يسمّى بغير المستقلاّت العقليّة.

ثمّ إنّ مدركات العقل العملي ترجع إلى مدركات العقل النظري بالتحليل والملاحظة. والوجه في ذلك : هو أنّ إدراك العقل العملي لما ينبغي أو لا ينبغي أن يقع معناه إدراك العقل لوجود صفة واقعيّة في متعلّقه أي الفعل ، فإنّ الفعل إذا كان حسنا فهو ينبغي أن يقع ، بينما إذا كان قبيحا فهو لا ينبغي أن يقع ، وهذا معناه أنّ الفعل تارة يكون حسنا وأخرى يكون قبيحا ، فالحسن والقبح صفتان واقعيّتان يتّصف بهما الفعل ، فإدراك العقل لهاتين الصفتين إدراك لما هو كائن وموجود واقعا ، وهو معنى الحكم النظري.

ص: 425

ولذلك سوف نتكلّم عن حقيقة هاتين الصفتين ولو بشيء من الاختصار فنقول :

وعلى هذا نعرف أنّ الحسن والقبح صفتان واقعيّتان يدركهما العقل كما يدرك سائر الصفات والأمور الواقعيّة ، غير أنّهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جريا عمليّا معيّنا خلافا للأمور الواقعيّة الأخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال : إنّ الحكم النظري هو إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي بذاتها جريا عمليّا معيّنا ، والحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي بذاتها ذلك.

الحسن والقبح :

الحسن والقبح من مدركات الحكم العقلي العملي ؛ وذلك لأنّهما صفتان واقعيّتان يتّصف بهما الفعل في الواقع ، أي في واقع الأمر الأعمّ من الوجود الخارجي المادي ، وهو ما يعبّر عنه بنفس الأمر.

فالحسن : هو الفعل الذي يستحقّ المدح ، بينما القبح : هو الفعل الذي يستحقّ الذمّ. فهما متعلّقان بالفعل بحيث إذا كان حسنا فهو ينبغي صدوره من الفاعل ويستحقّ المدح عليه كالصدق والوفاء والإخلاص والمروءة والإحسان. وأمّا إذا كان قبيحا فهو ممّا لا ينبغي صدوره من الفاعل ويستحقّ الذمّ عليه كالكذب والخيانة والظلم والعدوان والإساءة ، وهاتان صفتان للفعل بحدّ ذاته ونفسه وبقطع النظر عن وجود الموانع أو حالات التزاحم.

والحسن والقبح كغيرهما من الأمور والصفات الواقعيّة الحقيقيّة ، غير أنّهما يختلفان عنها ، فهناك نقطة اشتراك وهي كونهما واقعيّتين أي لهما واقع قبل تحقّقهما في الخارج وقبل صدورهما من الفاعل ، فقبل صدورهما من الفاعل يدرك العقل الحسن والقبح في الفعل ذاته ، وهذا إدراك لما هو كائن وموجود ، ثمّ بعد ذلك يحكم بأنّه ينبغي أن يقع هذا الفعل الحسن من الفاعل ، وينبغي ألاّ يقع الفعل القبيح من الفاعل ، وهذا إدراك لما ينبغي أو لا ينبغي أن يقع. وهذه هي نقطة الاختلاف بينهما وبين سائر الأمور الواقعيّة الأخرى.

وبتعبير آخر : إنّ الحسن والقبح يشتركان مع سائر الأمور الواقعيّة بوجودها الواقعي ، فاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين من الأمور الواقعيّة الحقيقيّة ، وهكذا

ص: 426

الحسن والقبح. ولكنّهما يختلفان عن غيرهما من الأمور الواقعيّة بأنّهما يقتضيان جريا عمليّا معيّنا على طبقهما ، فإنّ الحسن المتعلّق بفعل يقتضي جريا عمليّا وهو صدوره ، بينما القبح يقتضي عدم صدوره.

ولهذا يمكننا تعريف الحكم النظري بأنّه إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي الجري العملي ، بينما الحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي جريا عمليّا معيّنا بذاتها وبقطع النظر عن وجود المانع وحالات التزاحم التي قد تمنع من ذلك في بعض الأحيان.

فالحسن والقبح بلحاظ وجودهما الواقعي يدخلان في الحكم النظري ، ولكن بلحاظ ما يقتضيان من الجري العملي على طبقهما من الفعل أو الترك يدخلان في الحكم العملي ، هذا بحسب التحليل والملاحظة. وإلا فهما من مدركات العقل العملي ؛ لأنّ الحسن ينبغي وقوعه والقبح لا ينبغي وقوعه.

ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري ؛ لأنّ المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجري العملي ، ويختصّ الحكم العملي من العقل بإدراك الحسن والقبح.

وسنتكلّم فيما يلي عن الملازمة بين كلا هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع.

المصلحة والمفسدة :

ذكرنا سابقا في بحوث متقدّمة أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها.

فالفعل إذا كان فيه مصلحة فسوف يتعلّق به حكم شرعي طبقا لهذه المصلحة ، فإن كانت لزوميّة تعلّق بها الوجوب وإن كانت غير لزوميّة تعلّق بها الاستحباب.

وأمّا إذا كان فيه مفسدة فسوف يتعلّق به التحريم أو الكراهة تبعا للزوميّة المفسدة وعدم لزوميّتها. وأمّا إذا لم يكن فيه المصلحة والمفسدة أو كان واجدا لهما بنحو واحد فسوف يكون مباحا.

وهذا معناه أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور الواقعيّة التي يتّصف بها الفعل. ولكن هذه المفسدة والمصلحة لا تقتضيان بذاتيهما جريا عمليّا على طبقهما ، فإنّه ليس كلّ

ص: 427

مصلحة ينبغي وقوعها وليس كلّ مفسدة ينبغي عدم وقوعها ، وإنّما يرتبط بذلك بما يلاحظه الشارع ويجعله ، فليس كلّ مصلحة يوجبها وليس كلّ مفسدة يحرّمها ؛ لأنّ الجعل فعل اختياري للشارع يجعله متى ما تعلّقت إرادته وشوقه ، وهذا يعني أنّ مجرّد المصلحة والمفسدة بذاتيهما لا يقتضيان الإيجاب والتحريم ، بل لا بدّ من وجود الشوق والإرادة المولويّة للجعل.

نعم ، جعل الوجوب والتحريم يكشف بالملازمة عن وجود المصلحة والمفسدة في متعلّقيهما.

ولهذا فيكون إدراك المصلحة والمفسدة من مختصّات الحكم العقلي النظري ؛ لأنّه إدراك لما هو موجود وواقع. ولا يدخلان في مدركات الحكم العقلي العملي ؛ لعدم استتباعهما الجري العملي على وفقهما بذاتهما.

وهذا بخلاف الحسن والقبح كما تقدّم فإنّهما من مختصّات مدركات العقل العملي ؛ لأنّهما يقتضيان الجري العملي على طبقهما ، وإن كانا بالتحليل والملاحظة يرجعان إلى الحكم النظري أيضا ، باعتبارهما صفتان واقعيّتان لهما وجود واقعي في عالم الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن صدورهما من الفاعل أو عدم صدورهما منه.

ونحن حينما نتكلّم عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع فهذا يعني ملاحظة حكم العقل النظري تارة وحكم العقل العملي أخرى. فالبحث يقع في مقامين :

المقام الأوّل : الملازمة بين الحكم النظري للعقل مع حكم الشارع.

المقام الثاني : الملازمة بين الحكم العقلي العملي مع حكم الشارع.

* * *

ص: 428

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع

ص: 429

ص: 430

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع

لا شكّ في أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الملاك متى ما تمّ بكلّ خصوصيّاته وشرائطه وتجرّد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلّة التامّة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقا لحكمته تعالى.

وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريّا أن نفترض إدراك العقل النظري لذلك الملاك بكلّ خصوصيّاته وشئونه ، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافا لمّيّا ، أي بالانتقال من العلّة إلى المعلول.

المقام الأوّل : في تحقيق حال الملازمة بين حكم العقل النظري وبين حكم الشارع.

المراد من حكم العقل النظري : هو إدراكه للصفة الواقعيّة الموجودة في عالم الواقع ونفس الأمر ، والمقصود هنا ليس كلّ الصفات وإنّما خصوص صفتي المصلحة والمفسدة ، وأمّا سائر الصفات الواقعيّة الأخرى - كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين أو استحالة الدور والتسلسل اللامنتهى والخلف - فهذه كلّها لا ارتباط لها في البحث ؛ وذلك لأنّ الكلام عن الملازمة بين هذا الإدراك العقلي وبين حكم الشارع.

وحكم الشارع : عبارة عن جعله الإيجاب أو التحريم على متعلّقيهما ، وحيث إنّ الأحكام تابعة للمفاسد والمصالح في متعلّقاتهما كما هو الصحيح فيكون الإيجاب كاشفا عن المصلحة والتحريم كاشفا عن المفسدة ، ومن هنا صح طرح البحث عن الملازمة بين إدراك العقل النظري للمصلحة أو المفسدة وبين حكم الشارع بالإيجاب أو التحريم.

فإذا أدرك العقل النظري وجود مصلحة أو مفسدة في شيء من الأفعال التي تنسب إلى المكلّف ، فهل يكشف ذلك عن وجود حكم شرعي بالوجوب أو الحرمة من قبل الشارع أم لا؟

ص: 431

وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من بيان أمرين :

الأوّل : أنّ الأحكام لا شكّ في كونها تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، وهذا ما يعبّر عنه بالملاك ، ولكن ليس وجود المصلحة أو المفسدة وحده دخيلا في الملاك ، بل هناك أمور أخرى يؤخذ وجودها شرطا أو عدمها ضروريّا لكي يكون الملاك مع توفّر كلّ الشروط المعتبرة وانتفاء كلّ الموانع مؤثّرا في وجود الحكم ، بمعنى أنّه يصبح داعيا إلى الإيجاب أو التحريم ؛ لأنّه ليس إذا تمّ الملاك في شيء ترتّب عليه الحكم قهرا ، لما تقدّم من أنّ جعل الحكم فعل اختياري للشارع. فيكون تماميّة الملاك داعيا إلى وجود الحكم فهو بحكم العلّة التامّة ؛ لأنّه موقوف على الجعل المولوي وليس العلّة التامّة وإلا لصار قهريّا.

وهذا نقوله طبقا لحكمة المولى ، بمعنى أنّ المولى بحكمته ولطفه وتقديره يفعل ذلك ، أي أنّه يجعل الإيجاب والتحريم عند وجود المصلحة والمفسدة وعند تحقّق سائر الشرائط وانتفاء سائر الموانع.

الثاني : أنّ العقل النظري تارة يدرك وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل أو الشيء المتعلّق لفعل المكلّف ، وأخرى لا يدرك ذلك.

فإن لم يدرك شيئا من المصلحة أو المفسدة فهذا خارج من محلّ الكلام جزما.

وإن أدرك المصلحة أو المفسدة مع كلّ الشروط المعتبرة الأخرى ولاحظ انتفاء الموانع تماما ، فهنا لا إشكال في كونه كاشفا عن الحكم الشرعي ، فيحكم بالملازمة بين إدراك العقل وبين حكم الشارع. وهذا استدلال من العلّة على المعلول ؛ لأنّ الحكم معلول للمصلحة مع ما يرتبط بها من تحقّق الشرائط وانتفاء الموانع ، فإنّ الشارع يجعل الحكم وفقا لحكمته وهو ما يسمّى بالدليل اللمّي ، أي بالاستدلال على وجود المعلول من خلال وجود العلّة.

وهذا الأمر ممكن وليس مستحيلا أو ممتنعا في نفسه ، ولكنّه نادر الوقوع ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكنّ هذا الافتراض صعب التحقّق من الناحية الواقعيّة في كثير من الأحيان ؛ لضيق دائرة العقل وشعور الإنسان بأنّه محدود الاطّلاع ، الأمر الذي يجعله يحتمل غالبا أن يكون قد فاته الاطّلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك

ص: 432

المصلحة في فعل ولكنّه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهمّيتها وبعدم وجود أيّ مزاحم لها ، وما لم يجزم بكلّ ذلك لا يتمّ الاستكشاف.

والصحيح : هو عدم الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشارع.

والوجه في ذلك هو : أنّ استكشاف الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع يتوقّف على إدراك العقل لما هو بمثابة العلّة للحكم ، أي لوجود المصلحة وكونها مهمّة جدّا ، وإدراكه لكلّ الشروط المعتبرة فيها ، ولإدراك انتفاء سائر الموانع التي تمنع من التأثير.

وإدراك كلّ هذه الأمور ممّا لا يتيسّر للعقل في كثير من الأحيان ؛ لأنّ العقل محدود في اطّلاعاته ومقيّد بما يصل إليه من معلومات عن طريق الحواسّ والتجارب ونحوهما.

وهذا الأمر يجعله غالبا غير محيط بكلّ ما هو شرط وما هو مانع لو سلّم إدراكه للمصلحة أو المفسدة في الفعل ، وإلا فإنّه قد يخطئ أيضا في تشخيص المصلحة أو المفسدة أيضا.

وهذا معناه أنّنا نعلم إجمالا بأنّ كثيرا من المصالح والمفاسد وما هو دخيل فيهما كشرط أو عدم مانع ممّا لا يقدر أن يدركها العقل بتمامها وبصورة كاملة ، وهذا يجعلنا نحتمل الخطأ في مدركاتنا للمصالح والمفاسد ، الأمر الذي يجعلنا في الأغلب بعيدين عن القطع والجزم ، وما دام كذلك فلا تتحقّق الملازمة ؛ لعدم تحقّق طرفها الأوّل وهو إدراك العقل فإنّه أحد طرفي الملازمة ؛ لأنّه من خلال القطع والجزم بما أدركه العقل نريد أن نحكم بأنّ الشارع له حكم مطابق ، وإذا لم نجزم ونقطع بل كنّا نحتمل أو نظنّ بتحقّق الإدراك العقلي فلن يتيسّر لنا الحكم بالملازمة ، وبالتالي لن نستكشف حكم الشارع.

ومن هنا أنكر صاحب ( الفصول ) الملازمة مدّعيا أنّ العقل قد يدرك المصلحة والمفسدة ، ولكنّ الموانع والشروط المعتبرة قد لا يصل إليها الإدراك العقلي ؛ لعدم إحاطته بالواقعيّات على ما هي عليه.

* * *

ص: 433

ص: 434

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع

ص: 435

ص: 436

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع

عرفنا أنّ مرجع الحكم العملي إلى الحسن والقبح ، وأنّهما أمران واقعيّان يدركهما العقل ، وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي أن نقول كلمة عن واقعيّة هذين الأمرين ، فإنّ جملة من الباحثين فسّر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيّين أي مجعولين من قبل العقلاء تبعا لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشري ، فما يرونه مصلحة كذلك يجعلونه حسنا ، وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا. ويميّزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائيّة اتّفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما ؛ لوضوح المصالح والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما.

المقام الثاني : في تحقيق حال الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

قبل الدخول في تحقيق حال الملازمة يذكر الشهيد أنّ الحسن والقبح من الأمور الواقعيّة وليسا من الأمور الجعليّة الاعتباريّة ، فهنا أمران :

الأوّل : في واقعيّة الحسن والقبح ، ذكرنا سابقا أنّ العقل يدرك الحسن والقبح بما يستتبعان من موقف وسلوك عملي معيّن على طبقهما ؛ نظير إدراكه للقضايا العقليّة الواقعيّة الأخرى ، غاية الأمر أنّ إدراكه لمثل اجتماع النقيضين واستحالته واستحالة الدور ونحوهما لا يستتبع سلوكا وموقفا عمليّا ، ولذلك كان النحو الأوّل من مدركات العقل العملي بينما الثاني من مدركات العقل النظري.

فالعقل يدرك حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا معناه أنّ الظلم بواقعه وبما يستتبعه من موقف وسلوك قبيح بنظر العقل ، بخلاف العدل فإنّه بواقعه وبما يقتضيه من سلوك عملي حسن.

وهكذا حسن الطاعة وقبح المعصية فإنّ الطاعة والمعصية بما يستتبعان من موقف

ص: 437

وسلوك عملي يتّصفان بالحسن والقبح ، فهما من الأمور الواقعيّة التي لها ثبوت في عالم الواقع واللوح ونفس الأمر.

وهكذا الحال بالنسبة للكذب والصدق فإنّهما بذاتهما وبقطع النظر عن الموانع وحالات التزاحم يتّصفان بالحسن والقبح.

والوجدان خير دليل وشاهد على ذلك فإنّ العقل السليم يدرك حسن أو قبح هذه الأشياء ونظائرها. وإذا كان هناك تشكيك فهو في تحقّق الصغرى والمصداق ، بمعنى أنّ الفعل الفلاني هل هو صدق أم لا؟ وليس التشكيك في أنّ الصدق حسن وإنّما في تطبيقه على مصاديقه في الخارج ، وهذا ليس محلّ الكلام ؛ لأنّه خلاف في الصغريات ، وكلامنا نحن في أصل ثبوت الكبرى أي حكم العقل بحسن الصدق مثلا فهذا ممّا لا يختلف فيه عاقل.

بل إنكار واقعيّة الحسن والقبح يؤدّي إلى عدم الإيمان بالشريعة وبالنبوّة وعدم وجوب الطاعة ؛ لأنّه إذا لم يكونا واقعيّين فما هو الدليل على صدق نبوّة النبي الذي يأتي بالمعجزة؟ ولما ذا يصدّق لو لم يكن ذلك من الكاذب قبيحا ومن الصادق حسنا؟ وما هو الدليل على وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ما لم يكن الأوّل حسنا بذاته والآخر قبيحا؟!

الثاني : ذهب البعض إلى أنّ الحسن والقبح من الأمور الاعتباريّة الجعليّة العقلائيّة ، فالعقلاء يحكمون بالحسن والقبح وليسا ذاتيّين للأشياء أو للأفعال بواقعها ؛ بل هما حكمان مجعولان من قبل العقلاء ؛ بمعنى أنّ العقلاء اتّفقوا فيما بينهم على حسن هذا وقبح ذاك تبعا لوجود المصلحة أو المفسدة بلحاظ النوع البشري ، فما يرونه فيه مصلحة يحكمون بكون فعله حسنا وما يرون فيه المفسدة فيحكمون بقبح فعله.

فمثلا يحكمون بقبح الضرب للصبي إذا كان للتشفّي ؛ لأنّ فيه مفسدة. بينما لو كان الضرب للتأديب فيحكمون بحسنه ؛ لأنّ فيه المصلحة ، وأمّا ذات الضرب فهو لا يتّصف بالحسن ولا بالقبح بواقعه ، وإنّما الحسن والقبح عنوانان أو وصفان يجعلهما العقلاء على الفعل الواجد للمصلحة أو الواجد للمفسدة.

والمصلحة والمفسدة التي يحكم العقلاء بالحسن والقبح في الأفعال هي مصلحة النوع البشري ، كحفظ النظام مثلا وبقاء النوع.

ص: 438

والحاصل : أنّ العقلاء يحكمون بمدح من يفعل الإحسان أو الصدق ، وبذمّ من يفعل الخيانة والكذب ، فالعدل حسن ؛ لأنّ فاعله ممدوح عند العقلاء ، والظلم قبيح ؛ لأنّ فاعله مذموم لدى العقلاء. ووجه الذمّ والمدح هو رعاية المصلحة في حفظ النظام ، أو النوع البشري ، أو وجود المفسدة على النظام والنوع البشري.

وهذان الحكمان العقلائيّان كغيرهما من الأحكام العقلائيّة الأخرى من حيث الجعل الاعتباري ، ولكن هذان الأمران متّفق عليهما من العقلاء كافّة في كلّ زمان ومكان ، بينما بقيّة الأحكام العقلائيّة قد يختلف حالها وحكمها باختلاف أحوال الناس واختلاف العصور والأمكنة والعادات والتقاليد ، ممّا يؤثّر على الاختلاف في تشخيص المصالح والمفاسد بنظر العقلاء أو في خفائها أيضا.

وهذا التفسير خاطئ وجدانا وتجربة.

أمّا الوجدان فهو قاض بأنّ قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل كإمكان الممكن.

وأمّا التجربة فلأنّ الملحوظ خارجيّا عدم تبعيّة الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتّفق العقلاء على قبحه ، فقتل إنسان لأجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتمّ به إنقاذ إنسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشكّ أحد في أنّ هذا ظلم وقبيح عقلا.

فالحسن والقبح إذا ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة ، بل لهما واقعيّة تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثير من الأحيان وتختلف معها أحيانا.

الردّ على القول بأنّ الحسن والقبح مجعولان عقلائيّان :

أوّلا بالوجدان ، فإنّ العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بقطع النظر عن وجودهما في الخارج وصدورهما من الإنسان ، فإنّه بأدنى تأمّل فيهما يدرك حسن الأوّل وقبح الثاني ، ولا يحتاج ذلك إلى برهان ولا إلى تعلّم ولا إلى عادات وتقاليد ؛ نظير إمكان الممكن ، فإنّ العقل بمجرّد أن يلتفت إلى كونه ممكنا يحكم بإمكانه سواء صدر ووقع في الخارج أم لا ، بل هذا الحكم ثابت حتّى لو لم يوجد إنسان في الخارج أصلا ، وليس ذاك إلا لأنّه موجود في الواقع وعالم الأمر.

ص: 439

نعم ، دور العقلاء هنا هو إدراك ما هو واقع وكائن بعقولهم لا باتّفاقهم وعاداتهم ونحوها.

وثانيا بالتجربة ، فإنّنا نستقرئ عدّة مفردات موجودة وواقعيّة ويحكم العقل بحسنها أو بقبحها من دون أن يكون ذلك تابعا لمصلحة أو مفسدة فيها. فلو كان الحسن والقبح تابعين للمصالح والمفاسد لم يكن سبيل للحكم بحسنها وقبحها أصلا ، مع أنّ العقلاء يحكمون بذلك بلا إشكال ، وهذا يدلّ على أنّ الحسن والقبح يتجرّدان عن المصالح والمفاسد ، فهما ليسا تابعين لها بل هما صفتان للفعل في نفسه وذاته ، ممّا يعني أنّهما وصفان واقعيّان يحكم بهما العقل.

فمثلا : قد تفرض المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة الموجودة فيه ، ومع ذلك يحكم العقل والعقلاء بقبحه لا بحسنه.

فإذا كان قتل إنسان واحد فيه مصلحة إنقاذ شخصين من الموت ، فهنا المصلحة في قتله أكبر من المفسدة ، ولكن مع ذلك يحكم بكون قتله قبيحا بقطع النظر عن أي شيء آخر ، وحكمهم بالقبح هنا لا يتناسب مع ما قيل : من أنّ القبح تابع للمفاسد التي يراها العقلاء ، فإنّهم هنا يرون المصلحة الكبيرة ولكنّهم يحكمون بالقبح ، وليس ذاك إلا لأنّ القتل للنفس المحترمة في نفسه ظلم وهو قبيح ذاتا.

نعم ، في كثير من الأحيان يكون القبيح ناشئا من المفسدة ، والحسن ناشئا من المصلحة ، ولكنّهما ليسا تابعين للمصالح والمفاسد دائما ، وهذا يكفي للردّ على ما ذكر من كونهما مجعولين عقلائيّين.

والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي.

وهناك من ذهب (1) إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي بالحسن والقبح ، فهذان اتّجاهان :

أمّا الاتّجاه الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم ، فإذا كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شيء وقبحه فلا بدّ أن يكون الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.

ص: 440


1- كصاحب الفصول في الفصول : 337 ، ونسبه المحقّق النائيني في فوائد الأصول 3 : 60 إلى بعض الأخباريّين أيضا.

حكم الملازمة : بعد أن اتّضح أنّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يحكم بهما العقل العملي بمعنى إدراكه لما ينبغي أن يقع ولما ينبغي ألاّ يقع ، نأتي إلى تحقيق حال الملازمة ، فهل إذا حكم العقل العملي بحسن شيء أو قبحه حكم الشارع بوجوبه أو حرمته أم لا؟ قولان :

الأوّل : ما ذهب إليه مشهور العلماء من ثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

والثاني : ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الخوئي من استحالة حكم الشارع على طبق ما حكم به العقل العملي. وممّن أنكر الملازمة صاحب ( الفصول ) أيضا. أمّا القول الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء بل سيّد العقلاء ، فإذا حكم العقلاء بعقلهم بحسن شيء أو بقبحه ، فبما أنّ الشارع واحد منهم بل سيّدهم فهو داخل معهم في هذا الحكم ، غايته أنّ حكمهم بالحسن أو بالقبح بمعنى إدراكهم لذلك ، بينما حكمه بذلك يعني الإيجاب أو التحريم. وهذا التقريب ذكره المحقّق الأصفهاني (1).

وبتعبير آخر أدقّ : أنّ العقل إذا استقرأ استقراء تامّا فحكم بالحسن أو بالقبح أدّى ذلك إلى وجود حكم للشارع مطابق لما حكم به العقل ، وإن كان الاستقراء ناقصا فلا يستكشف منه حكم الشارع.

والتحقيق : أنّا تارة نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيّين يدركهما العقل ، وأخرى بوصفهما مجعولين عقلائيّين رعاية للمصالح العامّة.

فعلى الأوّل : لا معنى للتقريب المذكور ؛ لأنّ العقلاء بما هم عقلاء إنّما يدركون

ص: 441


1- وذكر المحقّق النائيني أيضا بأنّ العقل إذا حكم بقبح الكذب المؤدّي إلى هلاك نبيّ مع عدم رجوع نفع في ذلك إلى الكاذب حكم العقل بحرمته قطعا ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد وقد حكم العقل بوجود المفسدة هنا فكيف لا يحكم الشارع بالحرمة؟! وذكر الشيخ المظفّر أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه وتطابقت آراء العقلاء على ذلك بما هم عقلاء فلا بدّ أن يحكم الشارع على طبق ذلك أيضا ؛ لأنّه منهم بل رئيسهم ؛ لأنّه لو لم يشاركهم في ذلك لما كان ذلك الحكم رأي الجميع وهو خلاف الفرض. فإذا خالفهم ولم يحكم على طبق ما أطبقوا عليه كشف ذلك عن وجود مانع بنظر الشارع لم يدركه العقل ولا العقلاء.

الحسن والقبح ، ولا شكّ في أنّ الشارع يدرك ذلك ، وإنّما الكلام في أنّه هل يجعل حكما تشريعيّا على طبقهما أو لا؟

وعلى الثاني : إن أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامّة التي دعتهم إلى التحسين والتقبيح ، فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم العقلي النظري لا العملي ؛ لأنّ مناطه هو إدراك المصلحة ولا دخل للحسن والقبح فيه.

وإن أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح ، فلا مبرّر لذلك ؛ إذ لا برهان على لزوم صدور جعل من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.

والتحقيق : أنّ الحسن والقبح اللذين يدركهما العقل العملي ويحكم العقلاء على أساسهما بوجود حكم للشارع على طبقهما ، تارة نقول : إنّهما أمران واقعيّان ، وأخرى نعتبرهما مجعولين عقلائيّين تابعين للمصالح والمفاسد العامّة ، فهاهنا قولان :

الأوّل : أن نتعامل معهما على أساس أنّهما أمران واقعيّان يدركهما العقل ، وهذا ما اخترناه سابقا ، فعلى هذا لا يأتي التقريب المتقدّم ؛ لأنّ العقلاء إذا كانوا يدركون الحسن والقبح الواقعيّين فلازمه أيضا أن يكون الشارع مدركا لهما أيضا ؛ لأنّه من العقلاء بل سيّد العقلاء.

إلا أنّ هذه الملازمة لا تفيد شيئا وليست هي محلّ الكلام. وإنّما المطلوب استكشاف الحكم الشرعي من خلال إدراك الحسن والقبح ، وهذا لا يمكن استكشافه ولو سلّمت الملازمة بين إدراك العقلاء وإدراك الشارع ؛ لأنّ الحكم ليس تابعا لمجرّد وجود الحسن أو القبح ، بل هناك شروط لا بدّ من توفّرها ، وهناك موانع لا بدّ من أخذ عدمها ، ثمّ إن شاء الشارع جعل الحكم وإن شاء لم يجعله ؛ لأنّ الحكم جعل من الشارع وهو فعل اختياري للشارع وليس قهريّا عليه.

فدعوى الملازمة بين إدراك العقلاء للحسن والقبح وبين حكم الشارع على طبقهما أوّل الكلام ، ولا يمكن الاستدلال على الملازمة المذكورة بالملازمة بين إدراك العقلاء وإدراك الشارع ؛ لأنّ إدراك العقلاء معناه كشفهم عن ذلك ؛ لأنّهما أمران واقعيّان -

ص: 442

بحسب الفرض - ومجرّد وجود الحسن والقبح لا يلزم منه وجود الإيجاب أو التحريم حتما وجزما ، بل قد يوجد ذلك وقد لا يوجد.

والحاصل : أنّ الحسن والقبح لمّا كانا واقعيّين فهما صفتان واقعيتان للأشياء والأفعال ، وإدراك العقلاء والعقل والشارع لهما يؤكّد هذا المعنى ، ولكنّه لا يدلّ على وجود حكم للشارع في موردهما جزما وقطعا ، بل قد يحكم وقد لا يحكم ؛ لأنّ الحكم جعل من الشارع باختياره.

الثاني : أن نتعامل معهما على أساس أنّهما حكمان عقلائيّان لا واقعيّة لهما قبل الجعل والاعتبار العقلائي التابع للمصالح والمفاسد العامّة ، فهنا يوجد احتمالان :

أحدهما : أن يراد إثبات الملازمة واستكشافها بين حكم العقلاء بالحسن والقبح ، وبين حكم الشارع بالوجوب والحرمة من خلال المصالح والمفاسد العامّة التي يدركها العقلاء في الحسن والقبح.

بمعنى أنّ العقلاء إنّما يحكمون بالحسن والقبح تبعا لوجود المصلحة في الأوّل والمفسدة في الثاني بلحاظ النوع البشري والنظام ، فيراد من خلال حكمهم بالحسن والقبح الكاشفين عن المصلحة والمفسدة إثبات حكم الشارع ، فالملازمة بالدقّة بين المصلحة والمفسدة وبين حكم الشارع.

وهذا جوابه : أنّ إثبات حكم الشارع من خلال المصلحة والمفسدة يرجع إلى مدركات العقل النظري كما تقدّم سابقا ، فإنّ المصلحة والمفسدة لا تقتضيان بذاتهما سلوكا وجريا معيّنا.

وحينئذ يأتي ما ذكرناه من عدم الملازمة بين حكم العقل النظري وبين حكم الشارع ؛ لأنّ الحكم الشرعي وإن كان تابعا للمصلحة والمفسدة إلا أنّه توجد هناك شرائط وخصوصيّات لا بدّ من توفّرها أو انتفائها لتتحقّق العلّة التامّة ، وليس مجرّد المصلحة والمفسدة وحدهما كافيين للحكم ؛ إذ قد توجد الموانع وحالات التزاحم المانعة من الحكم.

والعقل فضلا عن العقلاء لا يمكنهم إدراك كلّ هذه الخصوصيّات والحيثيّات والموانع والشرائط ؛ لأنّه محدود الاطّلاع بلا شكّ في ذلك.

ص: 443

مضافا إلى أنّ إدراك الحسن والقبح شيء وإدراك المصلحة والمفسدة شيء آخر ، فإنّ إدراك الحسن والقبح من شئون العقل العملي بينما إدراك المصلحة والمفسدة من شئون العقل النظري ، فهنا وقع خلط بين الأمرين. ونحن حيث قلنا برجوع العقل العملي إلى العقل النظري بالتحليل فيدخل هذا الاحتمال في البحث المتقدّم.

والآخر : أن يراد إثبات الملازمة بلحاظ نفس الحسن والقبح ، بمعنى أنّ نفس حكم العقلاء بالحسن والقبح يلازمه حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة ، فهذه الملازمة لا برهان ولا دليل عليها.

ومجرّد حكم العقلاء بحسن شيء أو قبحه لا يلازمه دائما أو قطعا حكم الشارع ؛ لأنّه يشترط فيه وجود أمور أخرى وانتفاء ما يكون مانعا أيضا مضافا إلى الحسن والقبح في الفعل. فدائما يحتمل أن يكون هناك شيء آخر غير الحسن والقبح ، وهذا ناشئ من محدوديّة اطّلاع العقل والعقلاء.

وأمّا الاتّجاه الثاني : فقد قرّب بأنّ جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ؛ لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسئوليّة والمحرّكيّة.

ويرد على ذلك : أنّ حسن الأمانة وقبح الخيانة مثلا وإن كانا يستبطنان درجة من المسئوليّة والمحرّكيّة غير أنّ حكم الشارع على طبقهما يؤدّي إلى نشوء ملاك آخر للحسن والقبح وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكّد المسئوليّة والمحرّكيّة ، فإذا كان المولى مهتمّا بحفظ واجبات العقل العملي بدرجة أكبر ممّا تقتضيه الأحكام العمليّة نفسها حكم على طبقها وإلا فلا.

وبذلك يتّضح أنّه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتّجاهين غير تامّ.

الاتّجاه الثاني : ذهب إلى استحالة الملازمة ، فإذا حكم العقل العملي بشيء استحال أن يكون للشارع حكم على طبقه.

وقد قرّب ذلك بلزوم اللغويّة ؛ وذلك أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو بقبحه كفى ذلك في إثبات المحرّكيّة والمسئوليّة والإدانة ؛ لأنّ حكم العقل بالحسن والقبح يستنتج ويقتضي سلوكا عمليّا معيّنا حسب ما يقتضيه الفعل.

ص: 444

فإذا كان للشارع حكم أيضا لزم تحصيل الحاصل ؛ لأنّ الشارع يجعل الوجوب أو الحرمة ، وهذان يستفادان من نفس حكم العقل بالحسن أو القبح من دون حاجة إلى جعل الشارع ، فيكون جعله لغوا فيمتنع.

وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الخوئي.

ويرد عليه : أنّ حكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل أو بقبح الكذب وحسن الصدق أو حسن الأمانة وقبح الخيانة وإن كان يستلزم جريا عمليّا وسلوكا على طبقه ، غير أنّ حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة في ذاك المورد لا يلزم منه اللغويّة ؛ وذلك لأنّ حكم الشارع يوجد ملاكا آخر للتحرّك والمسئوليّة والإدانة ، وهذا الملاك هو الطاعة والامتثال لحكم الشارع. وعليه ، فيكون حكم الشارع بوجوب الصدق فيه ملاكان للتحرّك.

أوّلا ؛ لأنّه حسن في نفسه والحسن يقتضي التحرّك والسلوك العملي وفقا لما يقتضيه الصدق.

وثانيا : لأنّه طاعة للمولى ؛ لأنّه قد صار متعلّقا لتكليفه وحكمه فيحكم العقل بحسن إطاعته وقبح مخالفته.

وبذلك يظهر أنّ حكم الشارع يوجب تأكّد المحرّكيّة والمسئوليّة.

ومن هنا ، فإذا كان الشارع مهتمّا بحفظ أحكام العقل العملي بدرجة أكبر ممّا يقتضيه حكم العقل العملي من محرّكيّة وسلوك ، فلن يجد مانعا من إصدار حكم على وفق ما حكم به العقل.

وبهذا يظهر أنّ دعوى استحالة الملازمة كدعوى ضرورة الملازمة كلاهما غير تامّ في نفسه ، وإنّما الصحيح أنّ الشارع قد يحكم وقد لا يحكم في موارد حكم العقل بقبح شيء أو بحسنه.

* * *

ص: 445

ص: 446

حجّيّة الدليل العقلي

اشارة

ص: 447

ص: 448

حجّيّة الدليل العقلي

الدليل العقلي إن كان ظنّيّا فهو بحاجة إلى دليل على حجّيّته ، ولا دليل على حجّيّة الظنون العقليّة. وأمّا إذا كان قطعيّا فهو حجّة من أجل حجّيّة القطع.

ونسب إلى بعضهم (1) القول بعدم حجّيّة القطع الناشئ من الدليل العقلي ، وهو بظاهره غير معقول ؛ لأنّ حجّيّة القطع الطريقي غير قابلة للانفكاك عنه مهما كان سببه.

ومن هنا حاول بعض الأعلام (2) توجيهه ثبوتا بدعوى تحويل القطع الطريقي إلى موضوعي ، وذلك بأن يفرض عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم المجعول ، فمع القطع العقلي لا حكم ليكون القطع منجّزا له.

حجّيّة الدليل العقلي :

بعد أن فرغنا من الكلام عن القواعد التي يحكم بها العقل وهو بمثابة الصغرى ، نأتي للحديث عن حجّيّة هذه القواعد العقليّة وهذا بحث كبروي ، فهل هي حجّة أم لا؟

الصحيح هو التفصيل بين الأدلّة العقليّة الظنيّة والقطعيّة.

فإن كان الدليل العقلي ظنيّا فهو بحاجة إلى دليل خاصّ يدلّ على حجّيّته ، وإلا فإنّه لم يثبت لدينا حجّيّة كلّ الظنون العقليّة ، فإنّ ما استدلّ به على حجّيّة مطلق الظنّ وهو دليل الانسداد وغيره لم يكن تامّا في نفسه ، ولذلك يحتاج كلّ ظنّ إلى التعبّد بحجّيّته بمعنى قيام دليل قطعي على حجّيّته.

ص: 449


1- نسبه الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 1 : 51 إلى بعض الأخباريّين.
2- كالمحقّق النائيني في فوائد الأصول 3 : 13 - 14.

وأمّا إن كان الدليل العقلي قطعيّا فلا إشكال في حجّيّته من باب الأخذ بحجّيّة القطع كما تقدّم ؛ لأنّ سلب الحجّيّة عن القطع مستحيل مهما كان نوعه ومهما كان منشؤه. ولا يتمّ سلب الحجّيّة إلا بما ذكرناه من تحويل القطع إلى قطع موضوعي ، فإنّه يمكن أخذ عدمه قيدا كما تقدّم بيانه سابقا ، وأمّا إذا كان قطعا طريقيّا فلا يمكن الردع عن العمل به ، هذا هو التصوّر الصحيح.

إلا أنّ هناك جماعة من الأخباريّين قالوا بعدم حجّيّة الدليل العقلي حتّى وإن كان قطعيّا فضلا عمّا إذا كان ظنّيّا. فإذا حصل القطع عن طريق العقل فهذا القطع لا يكون حجّة على ثبوت الحكم المقطوع به من هذا الطريق.

وفيه : أنّ هذا غير معقول ؛ لأنّ القطع بعد حصوله يستحيل سلب الحجّيّة عنه كما يستحيل الردع عن العمل به ؛ لأنّ الردع إمّا أن يكون بدليل واقعي أو بدليل ظاهري وكلاهما مستحيلان.

أمّا الدليل الواقعي فلاستلزامه اجتماع الضدّين أو النقيضين في الواقع أو في نظر المكلّف على كلّ حال كما تقدّم بيانه في البحث عن حجّيّة القطع ، وأمّا الدليل الظاهري فلأنّه فرع الشكّ ومع القطع ولو بطريق العقل لا شكّ فلا موضوع له.

وعلى كلّ حال لا يمكن للمكلّف التصديق بتوجّهه إليه فلا يكون جدّيّا بنظره فيفقد الغرض والمطلوب من التكليف.

وهناك من ذهب إلى تحويل القطع من طريق العقل إلى قطع موضوعي في محاولة لتبرير مقالة الأخباريّين ، فقال : إنّ عدم القطع العقلي مأخوذ قيدا في الحكم الشرعي ، فإذا تحقّق الحكم الشرعي عن غير طريق العقل فيؤخذ به لتحقّق القيد ، وإن حصل القطع بالحكم الشرعي عن طريق العقل فلا يمكن الأخذ به ؛ لأنّ قيده لم يتحقّق فلا يكون موضوعه متحقّقا ومع انتفاء موضوع الحكم أو بعض قيوده لا يوجد الحكم ولا يكون فعليّا ولا منجّزا.

إذا ثبوتا يمكن أن يكون الشارع قد أخذ في موضوعات الأحكام عدم القطع بها من طريق العقل ، وهذا نتيجته سلب الحجّيّة عن القطع الحاصل من طريق العقل ، وهو ما يريده الأخباريّون.

ص: 450

ويرد على ذلك :

أوّلا : أنّ القطع العقلي الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل هو القطع بالحكم المجعول أو بالجعل؟

والأوّل واضح الاستحالة ؛ لأنّ القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلا ، فكيف يعقل أن يصدّق بأنّه يساوق انتفاءه؟!

وأمّا الثاني فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة ؛ إذ قد يصدق القاطع بالجعل بعدم فعليّة المجعول ، ولكنّ التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ؛ لأنّ المفروض قيام الدليل العقلي القطعي على ثبوت تمام الملاك للحكم ، فكيف يعقل التصديق بإناطة الحكم بقيد آخر؟!

وبكلمة موجزة : أنّ المكلّف إذا كان قاطعا عقلا بثبوت تمام الملاك للحكم فلا يمكن أن يصدّق بإناطته بغير ما قطع عقلا بثبوته ، وإذا كان قاطعا عقلا بثبوت الملاك للحكم ولكن على نحو لا يجزم بأنّه ملاك تامّ ويحتمل دخل بعض القيود فيه ، فليس هذا القطع حجّة في نفسه بلا حاجة إلى بذل عناية في تحويله من طريقيّ إلى موضوعي.

ويرد على تحويل القطع العقلي من طريقي إلى موضوعي :

أوّلا : أنّ أخذ عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم الشرعي ما ذا يراد به؟

فهل يراد أخذه كذلك في الحكم الشرعي المجعول أم في الحكم الشرعي بمعنى الجعل؟

فإن أريد أخذه في الحكم الشرعي بمعنى المجعول ، بأن يقال : إنّ فعليّة الحكم الشرعي وكونه منجّزا بحقّ المكلّف يشترط فيه ألاّ يكون قد قطع به من طريق العقل ، فهذا غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ القاطع بالحكم الشرعي من خلال العقل يرى أنّ الحكم الشرعي مجعولا بحقّه وفعليّا ومنجّزا عليه ، فكيف يصدّق في نفس الوقت بأنّه ليس فعليّا وليس منجّزا؟!

وهذا يعني أنّ مثل هكذا تقييد يلزم منه عدم الجدّيّة وعدم إمكان التصديق به ؛ لأنّ كلّ قاطع يرى أنّ التكليف المقطوع به فعلي بحقّه.

وإن أريد أخذه في الحكم الشرعي بمعنى الجعل ، بأن يقال : إنّ الجعل إذا قطع به

ص: 451

المكلّف بدليل العقل فهو ليس فعليّا في حقّه ولا منجّزا عليه ، فهذا معقول في نفسه ولا يلزم منه المحذور المتقدّم ؛ لأنّه يمكن للمكلّف أن يصدّق بذلك.

إلا أنّه في خصوص مقامنا مستحيل ؛ وذلك لأنّه يؤدّي إلى الخلف.

وبيانه : أنّه إذا قام الدليل العقلي القطعي لدى المكلّف على الحكم الشرعي فهذا معناه أنّ العقل قد لاحظ تمام ما هو دخيل في ملاك الحكم الشرعي ؛ لأنّ العقل لا يحكم بشيء إلا بعد ملاحظة الموضوع مع كلّ ما هو دخيل فيه وكلّ ما هو خارج عنه ، وهذا يعني أنّ حكم العقل بشيء معناه إدراكه لتمام الملاك المفروض في هذا الحكم الشرعي ، وحينئذ كيف يصدّق القاطع بوجود تمام الملاك للحكم بأنّ الحكم مقيّد بقيد آخر غير ما أدركه ولاحظه العقل؟! فإنّ هذا خلف ثبوت تمام الملاك للحكم لدى العقل.

وبتعبير آخر : إنّ الدليل العقلي القطعي إذا قام على ثبوت الحكم ، فإمّا أن يكون العقل قاطعا بتمام الملاك للحكم أو لا.

فإن كان قاطعا بتمام الملاك للحكم ، فالقاطع لن يصدّق بوجود قيد آخر قد علّق عليه هذا الحكم ؛ لأنّ قطعه بتمام الملاك يعني أنّ هذا القيد منتف جزما ، ومع عدم تصديقه بوجود قيد آخر سوف يكون قطعه بالجعل مساوقا لفعليّته.

وإن لم يكن قاطعا بتمام الملاك للحكم ، فمثل هذا الدليل العقلي لا يكون قطعيّا ، إذ ما دام يحتمل العقل وجود شيء آخر وراء ما أدركه ولاحظه فهذا يعني أنّه لم يصل إلى القطع ، ومع عدم كونه قطعيّا لا يكون حجّة في نفسه ؛ لأنّه سوف يدخل في الدليل العقلي الظنّي وهو يحتاج إلى ما يثبت حجّيّته ، وحينئذ لا نحتاج إلى إثبات عدم حجّيّته بتحويله من طريقي إلى موضوعي ؛ لأنّه ليس حجّة في رتبة سابقة.

وثانيا : أنّ القطع العقلي لا يؤدّي دائما إلى ثبوت الحكم ، بل قد يؤدّي إلى نفيه ، من قبيل ما يستدل به على استحالة الأمر بالضدّين ولو على وجه الترتّب ، فما ذا يقال بهذا الشأن؟

وهل يفترض أنّ المولى يجعل الحكم المستحيل في حقّ من وصلت إليه الاستحالة بدليل عقلي على الرغم من استحالته؟

ص: 452

الإيراد الثاني : أنّنا لو فرضنا قيام الدليل العقلي القطعي على نفي الحكم الشرعي لا على إثباته ، فما ذا يقال بهذا الشأن هل يحكم بحجّيّته أم لا؟

فإن قيل بحجّيّته كان هذا تفصيلا في الدليل العقلي من دون أن يكون له أي مبرّر.

وإن قيل بعدم حجّيّته ، فلو فرضنا أنّنا قلنا باستحالة ثبوت الحكمين المتضادّين ولو على وجه الترتّب ، فإنّ هذه الاستحالة عقليّة ، وهي تنفي ثبوت الحكم الشرعي. فإذا لم يكن الدليل العقلي حجّة فاللازم أن يحكم الشارع بعدم ثبوت هذه الاستحالة ؛ لأنّ الدليل عليها كان من العقل وبالتالي يحكم بلزوم الأخذ بالحكمين المتضادّين ، فهل هذا معقول؟!

فالصحيح إذا أنّ المنع شرعا عن حجّيّة الدليل العقلي القطعي غير معقول لا بصورة مباشرة ولا بتحويله من القطع الطريقي إلى الموضوعي.

وبهذا يتبيّن أنّ الصحيح ما ذكرناه من كون الدليل العقلي القطعي حجّة في نفسه من باب حجّيّة القطع.

ولا يمكن أن يقال بعدم حجّيّته لا بسلب الحجّيّة عنه مباشرة والردع عن العمل به ؛ لأنّه مستحيل كما تقدّم ، ولا بتحويله من قطع طريقي إلى قطع موضوعي بمعنى أخذ عدمه قيدا في الحكم الشرعي ؛ لأنّنا أثبتنا عدم جدوى ذلك.

ولكنّ القائلين بعدم حجّيّة الدليل العقلي استندوا إلى جملة من الروايات (1) التي ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة ، وأكّدت على عدم قبول أي عمل غير مبنيّ على الاعتراف بأهل البيت علیهم السلام ونحو ذلك من الألسنة.

الدليل الآخر على عدم حجّيّة الدليل العقلي :

استدلّ الأخباريّون على عدم حجّيّة الدليل العقلي القطعي بالروايات الدالّة على ذلك ، فإنّ الروايات ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة ، وأكّدت على لزوم العمل بما يصدر من أهل البيت علیهم السلام وكلّ عمل غير مبني على الاعتراف بهم فلا يكون مقبولا.

ص: 453


1- انظر : وسائل الشيعة 27 : 35 ، أبواب صفات القاضي ، ب 6.

وهذا معناه أنّ دليل العقل وغيره لا يثبت الحكم الشرعي ولا يجوز العمل بالحكم الشرعي ؛ لأنّه طريق آخر غير أهل البيت علیهم السلام .

فالروايات التي ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة كثيرة جدّا كقوله علیه السلام : « إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول » ، والروايات التي أكّدت على لزوم العمل بما ورد عن أهل البيت علیهم السلام دون غيرهم ، وأنّه لا يقبل أي عمل من دون الاعتراف بهم كثيرة جدّا أيضا ، كقوله علیه السلام : « بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية ».

والحاصل : أن الروايات دلّت على أنّ أي عمل لا يكون مصدره أهل البيت علیهم السلام فلا يكون مقبولا.

والصحيح : أنّ الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يدّعى ، وإنّما هي بصدد أمور أخرى ، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأي والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقليّة.

وبعضها بصدد بيان كون الولاية شرطا في صحّة العبادة.

وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف عن الأدلّة الشرعيّة والتوجّه رأسا إلى الاستدلالات العقليّة ، مع أنّ التوجّه إلى الأدلّة الشرعيّة كثيرا ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلي ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة.

والصحيح : أنّ الروايات التي استندوا إليها ليست حجّة على مدّعاهم من عدم حجّيّة الدليل العقلي القطعي ، وذلك لأنّ هذه الروايات يمكن تصنيفها إلى عدّة طوائف :

الأولى : الروايات التي تنهى عن العمل بالظنّ والرأي والاستحسان ونحو ذلك من الأدلّة العقليّة الظنيّة ، ونحن قلنا بأنّ دليل العقل إن كان ظنّيّا فهو ليس حجّة في نفسه ، بل يحتاج إلى دليل على حجّيّته. فتكون هذه الروايات دليلا على عدم ثبوت الحجّيّة لمثل هذه الظنون العقليّة.

الثانية : الروايات التي تدلّ على أنّ الولاية شرط لقبول العمل وصحّة العبادة ، وهذه معناها أنّ سائر العبادات من دون أن تكون مقرونة بولاية أهل البيت علیهم السلام لا تجدي نفعا لصاحبها.

ص: 454

الثالثة : الروايات التي تمنع من التوجّه ابتداء إلى الأدلّة العقليّة ، وهذه مفادها أنّه لا بدّ من طلب حكم اللّه تعالى من الكتاب والسنّة أوّلا ، فمع عدم وجوده فيهما حينئذ يتوجّه إلى الأدلّة العقليّة. والسرّ في ذلك هو أنّ الأدلّة الشرعيّة كثيرا ما تحول دون حصول القطع من الاستدلالات العقليّة ؛ لأنّ العقل قد يخطئ في اكتشافه للملاك بتمامه مع كلّ ما أخذ فيه ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة ، حيث استغرب أبان كيف تكون دية الأربع أصابع عشرين مع كون دية الثلاثة أصابع ثلاثين ، فإنّ استغرابه هذا ناشئ من استدلاله بعقله على الحكم من دون أن يرجع فيه أوّلا إلى أهل البيت علیهم السلام .

وهكذا يظهر أنّ الروايات ليست دليلا على المنع من الأخذ بدليل العقل القطعي.

وبهذا ينتهي البحث في الدليل العقلي وبذلك نختم الكلام في مباحث الأدلّة من الحلقة الثالثة.

وقد كان الشروع فيها في اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية 1397 ه. ق ، وكان الفراغ في اليوم الثالث والعشرين من شهر رجب 397 ه. ق.

وبما ذكرناه يتمّ الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ويتلوه الجزء الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة إن شاء اللّه تعالى ، وهو في مباحث الأصول العمليّة. وإلى المولى سبحانه نبتهل أن يتقبّل منّا هذا بلطفه ، ويوفّقنا لمراضيه ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

* * *

ص: 455

ص: 456

الفهرس

الدليل العقلي... 5

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور... 21

شرطيّة القدرة ومحلّها ... 23

حالات ارتفاع القدرة... 35

الجامع بين المقدور وغيره... 45

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ... 53

[ ثمرات بحث الترتّب ]... 71

ما هو الضدّ؟... 81

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة... 87

التقييد بعدم المانع الشرعي... 95

قاعدة إمكان الوجوب المشروط... 101

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات... 117

القسم الأوّل : المقدّمات الوجوبيّة :... 120

القسم الثاني : المقدّمات الوجوديّة الشرعية... 121

القسم الثالث : المقدّمات الوجوديّة العقلية... 122

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد [ أو مبحث الشرط المتأخر ]... 131

زمان الوجوب والواجب... 149

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت [ أو المقچمات المفوتة ]... 163

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم... 177

تمهيد :... 179

ص: 457

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ... 180

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله ... 195

الواجب التوصّلي والتعبّدي... 201

بيان الاشتباه والمغالطة في البرهان المتقدّم ... 208

اعتراض السيّد الخوئي على هذا البرهان... 216

ثمرة هذا البحث ... 219

التخيير في الواجب... 225

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب... 239

تعريف الواجب الغيري ... 241

خصائص الوجوب الغيري... 247

مقدّمات غير الواجب... 257

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري... 261

شمول الوجوب الغيري... 273

تحقيق حال الملازمة... 283

حدود الواجب الغيري... 289

مشاكل تطبيقيّة... 299

دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء... 307

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا... 313

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا... 323

ويرد على ذلك ... 328

امتناع اجتماع الأمر والنهي... 335

الفارق بين المسلكين ... 345

حكم الخروج في نفسه ... 363

حدود امتناع اجتماع الأمر والنهي ... 371

ثمرة البحث في مسألة الاجتماع... 372

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه... 379

ص: 458

المقام الأول : في الضدّ العام... 382

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ... 387

الفرق بين المانعيّة والتمانع ... 395

ثمرة البحث... 397

اقتضاء الحرمة للبطلان... 401

موضوع البحث ... 403

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة... 405

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة... 415

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع... 423

المصلحة والمفسدة ... 427

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع... 429

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع... 435

حجّيّة الدليل العقلي... 447

الدليل الآخر على عدم حجّيّة الدليل العقلي ... 453

الفهرس... 457

ص: 459

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 429

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

4

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الرابع

الأصول العملية

البراءة

العلم الإجمالي

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

خصائص الأصول العمليّة

ص: 5

ص: 6

خصائص الأصول العمليّة

عرفنا فيما تقدّم (1) أنّ الأصول العمليّة نوع من الأحكام الظاهريّة الطريقيّة المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعيّة أو التعذير عنها ، وهو نوع متميّز عن الأحكام الظاهريّة في باب الأمارات ، وقد ميّز بينهما بعدّة وجوه :

تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة تصدر من الشارع عند التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة للأحكام ؛ لبيان ما هو الأهمّ من هذه الملاكات عند عدم تمييز المكلّف لها ، وقلنا : إنّها على قسمين : الأمارات والأصول.

وتقدّم أيضا أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها أحكام طريقيّة يراد بها التوصّل للحكم الواقعي ، فهي لا تشتمل على مبادئ وملاكات زائدة عن ملاكات ومبادئ الأحكام الواقعيّة ، بل هي إبراز لما هو الأهمّ من ملاكات الواقع بداعي تنجيزها إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ ، أو التعذير عنها إن كانت ملاكات الإباحة هي الأهمّ.

إلا أنّ الحكم الظاهري المجعول في باب الأمارات يختلف عنه في باب الأصول وإن اتّحدا في كونهما حكما ظاهريّا ، وأمّا حقيقة كلّ منهما وتمييز أحدهما عن الآخر فهذا ما سوف نبحث فيه الآن.

ولذلك نقول : اختلفت كلماتهم في الفرق بين الأمارات والأصول على أقوال :

الأوّل : أنّ الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول في دليل حجّيّة الأمارة ودليل الأصل ، فالمجعول في الأوّل الطريقيّة مثلا ، وفي الثاني الوظيفة العمليّة أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي بدون تضمّن لجعل الطريقيّة.

الاتّجاه الأوّل : ذكرت مدرسة الميرزا تبعا للشيخ الأنصاري أنّ الفارق بين الأمارات

ص: 7


1- في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.

والأصول ينشأ من نوعيّة وسنخ المجعول في كلّ منهما ، وذلك بأن يقال : إنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة والعمليّة والكاشفيّة ، أي أنّ الشارع نزّل الأمارة منزلة العلم في الكاشفيّة والطريقيّة ، فهي وإن كانت كاشفيّتها وطريقيّتها ناقصة تكوينا ، إلا أنّ الشارع بجعله الحجّيّة لها تمّم هذا الكشف ، كما هو الحال في خبر الثقة مثلا.

بينما المجعول في باب الأصول أحد أمرين :

1 - أن يكون المجعول تحديد الوظيفة العمليّة فقط في مقام الشكّ من دون أن يكون هناك أيّة كاشفيّة أو تنزيل ، وإنّما يلحظ الشكّ فقط ويعالجه ، كما هو الحال في الأصول العمليّة المحضة ، كالبراءة والاحتياط ، فإنّ المجعول في الأوّل المعذّريّة وفي الثاني المنجّزيّة عن المورد المشكوك من دون أن يكون فيهما كاشفيّة أو تنزيل أصلا.

2 - أن يكون المجعول التنزيل أي أنّ الشارع ينزّل الأصل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي فقط الذي هو الخصوصيّة الثالثة لليقين ، بناء على تقسيمات الميرزا وتصوّراته ، فهذا النحو من الأصول العمليّة قد لوحظ فيه أن يكون باعثا ومحرّكا تماما كاليقين ، كما هو الحال في الاستصحاب حيث يقال : إنّ الشارع قد نزّل مؤدّى الاستصحاب أي الحكم المستصحب منزلة اليقين ، فكأنّ الحكم ثابت واقعا ، وهو يستدعي الجري العملي على طبقه.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك ، ومرّ بنا أنّ هذا ليس هو الفرق الحقيقي.

وحاصل فذلكة الموقف : أنّه لم يرد عنوانا ( الأمارة ) و ( الأصل ) في دليل ليتكلّم عن تمييز أحدهما عن الآخر بأي نحو اتّفق ، وإنّما نعبّر بالأمارة عن تلك الحجّة التي لها آثارها المعهودة بما فيها إثباتها للأحكام الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة لمؤدّاها ، ونعبّر بالأصل عن ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار.

وقد عرفنا سابقا أنّ مجرّد كون المجعول في دليل الحجّيّة الطريقيّة لا يفي بإثبات تلك الآثار للأمارة.

ويرد عليه : أنّ هذا الفرق بينهما لا ينظر إلى حقيقة الأمارة والأصل ، وإنّما ينظر إلى كيفيّة صياغة الحكم الظاهري في موارد الأمارة والأصل فقط ، مع أنّه لا شكّ بوجود فارق جوهري وثبوتي يختلف على أساسه الأصل عن الأمارة ، سواء كان لسان جعله

ص: 8

عنوان الجري العملي وتحديد الوظيفة العمليّة ، أم كان بلسان الطريقيّة والكاشفيّة ، فإنّ هذه مجرّد صياغات اعتباريّة.

والحاصل أنّ عنواني الأمارة والأصل لو كانا واردين في دليل شرعي - كالأخبار - كان لهذه التفرقة وجه ؛ لأنّ الشارع يكون على هذا الأساس قد فرّق بينهما في الواقع وأنّه يوجد ملاك واقعي للفرق بينهما ، فيكون ما ذكره الميرزا من الفارق الظاهري صحيحا ؛ لأنّه لا يطالب بالكشف عن الفارق الثبوتي ما دام الشارع قد قال بوجوده واقعا. إلا أنّهما لم يردا في الأخبار كذلك ، وعليه فلا مبرّر للتفرقة بينهما بأي نحو اتّفق.

وإنّما عنوانا الأمارة والأصل من المصطلحات الأصوليّة للتعبير عن نحوين من الحكم الظاهري فيقال : إنّ الحكم الظاهري الذي يثبت به المدلول الالتزامي بحيث تترتّب الأحكام الشرعيّة على لوازمه الشرعيّة والعقليّة يعبّر عنه بالأمارة ، بينما الحكم الظاهري الذي لا يثبت به إلا المدلول المطابقي فقط أو هو مع المدلول الالتزامي الشرعي دون العقلي يعبّر عنه بالأصل.

ومن هنا ارتكز عندهم أنّ مثبتات الأمارة حجّة سواء كانت هذه اللوازم شرعيّة أم عقليّة ، بينما مثبتات الأصل ليست حجّة إلا إذا كانت اللوازم شرعيّة فقط.

وحينئذ يبحث عن حقيقة المجعول في الأمارة والأصل من أجل بيان النكتة الثبوتيّة في كلّ منهما والتي على أساسها حصل هذا الاختلاف ، فالبحث ينبغي أن ينصبّ حول هذا الفارق الثبوتي والذي هو من المخترعات الأصوليّة.

وقد تقدّم أنّ مجرّد كون المجعول في الأمارة الطريقيّة والكاشفيّة والعمليّة دون الأصل لا يكفي لتبرير حجّيّة مثبتات الأمارة دون الأصل ؛ وذلك لأنّ هذه التفرقة لا تنظر إلى النكتة الثبوتيّة ، وإنّما هي مجرّد صياغة إثباتيّة فقط.

وعليه فلو كان الأصل مجعولا بلسان الطريقيّة والكاشفيّة أيضا لم تكن مثبتاته حجّة ، بينما تكون مثبتات الأمارة حجّة حتّى لو كانت مجعولة بلسان الجري العملي وتحديد الوظيفة العمليّة ، وهذا يعني أنّ الفارق أعمق من ذلك.

الثاني : أنّ الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشكّ موضوعا للأصل العملي ، وعدم أخذه كذلك في موضوع الحجّيّة المجعولة للأمارة.

ص: 9

وهذا الفرق مضافا إلى أنّه لا يفي بالمقصود غير معقول في نفسه ؛ لأنّ الحجّيّة حكم ظاهري ، فإن لم يكن الشكّ مأخوذا في موضوعها عند جعلها لزم إطلاقها لحالة العلم ، وجعل الأمارة حجّة على العالم غير معقول.

ومن هنا قيل بأنّ الشكّ مأخوذ في حجّيّة الأمارة موردا لا موضوعا ، غير أنّنا لا نتعقّل بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت نحوين من الأخذ.

الاتّجاه الثاني : في بيان الفرق بين الأمارة والأصل ما يقال : من أنّ الشكّ قد أخذ في موضوع الأصل ، بينما لم يؤخذ في موضوع الأمارة ، فالفرق نشأ من هذه الجهة.

فمثلا البراءة والاحتياط أخذ في موضوعهما الشكّ في التكليف أو الشكّ في المكلّف به ، بينما خبر الثقة مثلا لم يؤخذ في موضوعه الشكّ.

وفيه أوّلا : أنّه لا يفي بالمقصود من التفرقة بين الأمارة والأصل من حيث حجّيّة مثبتات الأمارة ولوازمها الشرعيّة والعقليّة وعدم حجّيّة اللوازم العقليّة للأصل ؛ وذلك لأنّه لا يكشف عن النكتة الثبوتيّة التي على أساسها حصل هذا الاختلاف ، إذ مجرّد كون الشكّ مأخوذا في الأصل دون الأمارة ليس إلا صياغة اعتباريّة فقط ؛ لأنّه لو فرض عدم أخذ الشكّ في موضوع الأصل مع ذلك لم تكن لوازمه العقليّة حجّة ، ولو فرض أخذ الشكّ في موضوع الأمارة كانت لوازمها حجّة أيضا.

وثانيا : أنّ أخذ الشكّ وعدمه غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ الحجّيّة المجعولة في الأمارات والأصول حكم ظاهري ، غايته إثبات التنجيز أو التعذير عن الحكم الواقعي ، فلو لم يؤخذ الشكّ في موضوعه كما هو المدّعى في الأمارات لزم إطلاقها.

وهذا يعني أنّ الأمارة حجّة حتّى على العالم بالحكم الشرعي الواقعي ، ومن الواضح أنّ جعل الأمارة حجّة على العالم بالحكم غير معقول في نفسه ؛ لأنّ هذه الأمارة إن كانت موافقة بحسب مؤدّاها للمعلوم كانت الحجّيّة للعلم فجعلها كذلك للأمارة لغو ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ؛ لأنّ معناها أنّ من تنجّز عليه التكليف فهو منجّز عليه ، وإن كانت مخالفة للمعلوم ومع ذلك كانت حجّة فلازمه كون الأمارة رادعة عن العمل بالعلم ، والردع عن العمل بالعلم مستحيل ؛ لأنّ حجّيّة العلم يستحيل جعلها ويستحيل رفعها ، كما تقدّم.

ص: 10

ومن هنا لم يكن هناك معنى للتفرقة بين الأمارة والأصل بأخذ الشكّ وعدمه ، إذ لا يمكن تعقّل ذلك في نفسه.

فإن قيل : بأنّ الشكّ مأخوذ في الأصل موضوعا بينما الشكّ مأخوذ في الأمارة موردا لا موضوعا ، بمعنى أنّ الشكّ مأخوذ في الأمارات والأصول من حيث المورد والظرف ؛ لأنّهما حكم ظاهري وهو مجعول في مقام الشكّ في الحكم الواقعي غير أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع الأصل أيضا دون الأمارة.

كان الجواب : أنّ هذا - لو سلّم - فهو يتخلّص من الاعتراض السابق ، إلا أنّه مع ذلك ليس صحيحا ؛ لأنّ الحكم الظاهري الذي يجعله الشارع إمّا أن يكون قد لوحظ فيه الشكّ أو لا.

فإن كان الشكّ ملحوظا فيه كان معناه أنّ الشكّ موضوع للحكم الظاهري سواء في ذلك الأمارة والأصل ؛ لأنّ معنى لحاظه كونه قيدا.

وإن لم يكن الشكّ ملحوظا من قبل الشارع كان الحكم الظاهري مطلقا سواء في ذلك الأمارة والأصل ، وإطلاقه يعني شموله لحالة العلم فيأتي الإشكال السابق.

وبتعبير آخر : أنّ الحكم الظاهري نوع واحد في عالم الجعل والثبوت الذي هو عالم التشريع ولحاظ الحكم والموضوع ، وهذا النوع الواحد إمّا أن يلاحظ فيه الشكّ أو لا ، فإن لوحظ كان مقيّدا وإن لم يلاحظ كان مطلقا ، ولا يمكن فرض نوعين من الحكم الظاهري في مقام الجعل والثبوت أحدهما أخذ ولوحظ فيه الشكّ دون الآخر.

نعم ، يمكن فرض ذلك في عالم الإثبات والصياغة الاعتباريّة كما هو مفاد الاتّجاه الثالث ، فيأتي فيه الإشكال الذي سنورده عليه.

الثالث : أنّ الفرق بينهما ينشأ من ناحية أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل ، وعدم أخذه في لسان دليل حجّيّة الأمارة ، بعد الفراغ عن كونه مأخوذا في موضوعهما ثبوتا معا.

وهذا الفرق لا يفي أيضا بالمقصود. نعم ، قد يثمر في تقديم دليل الأمارة على دليل الأصل بالحكومة.

هذا ، مضافا إلى كونه اتّفاقيا ، فقد يتّفق أخذ عدم العلم في موضوع دليل

ص: 11

الحجّيّة كما لو بني على ثبوت حجيّة الخبر بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فهل يقال بأنّ الخبر يكون أصلا حينئذ؟!

الاتّجاه الثالث : يذهب إلى التفرقة بين الأمارة والأصل على أساس ما هو المأخوذ في دليل حجّيّة كلّ منهما.

فإن كان المأخوذ في لسان الدليل الشكّ كان الحكم الظاهري أصلا ، وإن لم يكن الشكّ مأخوذا في لسان الدليل كان أمارة ، فالأصل هو ما أخذ الشكّ موضوعا في لسان دليله بينما الأمارة لم يكن الشكّ مأخوذا في لسان دليلها ، هذا في مرحلة الإثبات والصياغة.

وأمّا في مرحلة الثبوت ومقام الجعل والتشريع فلا فرق بين الأمارة والأصل في كون الشكّ مأخوذا في موضوعهما معا ؛ لأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ويرد على هذا الاتّجاه ، أوّلا : أنّه لا يفي بما تقدّم من كون مثبتات الأمارة ولوازمها العقليّة حجّة دون الأصل ؛ لأنّه مجرّد صياغة إثباتيّة ولا يبرز النكتة الثبوتيّة التي على أساسها حصل هذا الاختلاف.

نعم ، لعلّ هذه التفرقة تنفع في حلّ مشكلة تقدّم الأمارات على الأصول بالحكومة ، وذلك بأن يقال : إنّ الحكومة التي هي نوع من التخصيص والتقييد ولكن بلسان رفع الموضوع إنّما تجري بين الدليلين اللفظيّين ؛ لأنّ القرينة من شئون الألفاظ ، وحيث إنّ هذا الاتّجاه يفرّق بين الأمارة والأصل بلحاظ عالم الصياغة والدليل ، فهو ناظر إلى كيفيّة صياغة الدليل لفظا من كون الشكّ موجودا في موضوع دليل الأصل دون الأمارة.

وعلى هذا يقال : إنّ الأمارة حيث لم يؤخذ في موضوع دليلها الشكّ فهي مطلقة من هذه الناحية إثباتا لا ثبوتا ، ومفادها جعل العمليّة والطريقيّة والكاشفيّة لكلّ ما ليس بعلم ، فتشمل موارد الأصل أيضا ، فإذا كان هناك أمارة في مورد الأصل تقدّمت عليه ؛ لأنّها ترفع موضوعه بجعل العمليّة للمورد الذي قامت عليه ، وبالتالي يرتفع الشكّ تعبّدا فلا يجري الأصل.

وثانيا : أنّ هذه التفرقة ليست تامّة في تمام الموارد ، بل هي مجرّد اتّفاق محض ؛

ص: 12

وذلك لأنّه إذا اتّفق وجعل الدليل خاليا من الشكّ كان أمارة ، وأمّا إذا كان الشكّ مأخوذا في الدليل كان أصلا ، وهذا قد يتّفق في بعض الحجج والأمارات كخبر الثقة حيث إنّ بعض أدلّته كآية : ( النبأ ) و ( النفر ) لم يؤخذ في لسانها الشكّ فيكون الخبر أمارة ، بينما بعض أدلّته الأخرى كآية : ( السؤال ) أخذ في لسانها الشكّ فيكون من ناحيتها أصلا ، فهل يلتزم بكونه أصلا مع ذلك أو كونه أصلا وأمارة في آن واحد؟!

الرابع : ما حقّقناه في الجزء السابق (1) من أنّ الأصل العملي حكم ظاهري لوحظت فيه أهمّيّة المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه ، بينما لوحظت في أدلّة الحجّيّة الأهمّيّة الناشئة من قوّة الاحتمال محضا.

وقد عرفنا سابقا أنّ هذه النكتة تفي بتفسير ما تتميّز به الأمارة على الأصل من حجّيّة مثبتاتها.

الاتّجاه الرابع : ما هو الصحيح والمختار من أنّ الشارع عند ما يجعل الحكم الظاهري في مقام الشكّ والاشتباه بين التكاليف لدى المكلّف ، تارة يجعله بلحاظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى بلحاظ أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

فإذا لوحظت في الحكم الظاهري أهمّيّة المحتمل أي نوعيّة الحكم المنكشف في هذا الحكم كان أصلا عمليّا ، فمثلا البراءة والاحتياط لوحظت فيهما قوّة المحتمل من نفي التكليف والمعذّريّة في البراءة ، ومن أهمّيّة الإلزام في الاحتياط وذلك عند الاختلاط والاشتباه والتزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة وعدم تمييز المكلّف لها.

وإذا لوحظت أهمّيّة الاحتمال أي قوّة الكاشف كان الحكم الظاهري أمارة ، كخبر الثقة مثلا فإنّ الملاحظ فيه قوّة الكاشفيّة في الخبر الذي يأتي به الثقة بقطع النظر عن نوعيّة المحتمل والحكم الذي يحكي عنه.

وإذا لوحظت قوّة الاحتمال والمحتمل معا كان أصلا تنزيليّا أو أصلا محرزا ، كما هو الحال في الاستصحاب حيث لوحظ فيه قوّة الكاشفيّة الناشئة من غلبة أنّ ما يوجد يبقى ، ولوحظ فيه قوّة المحتمل أيضا من توفّر أركان الاستصحاب في القضيّة المستصحبة.

ص: 13


1- في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد تحت عنوان : الأمارات والأصول.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفسّر ما هو المرتكز عند الأصوليّين من تقديم الأمارات على الأصول ، ومن كون مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة دون الأصل ، وذلك على أساس أنّ الكاشفيّة الموجودة في الأمارة نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ واحد ، فهي كما تكشف عن المؤدّى تكشف عن كلّ لوازمها بنسبة واحدة ، فحينما تجعل الحجّيّة لها على أساس قوّة الكاشفيّة فهذا يعني أنّ الحجّيّة ثابتة للمدلولين معا.

بينما في الأصل لم يلحظ إلا أنّ هذا الحكم الذي يحكي عنه الأصل ثابت ، وأمّا لوازمه ومثبتاته فلم تجعل لها الحجّيّة ؛ لعدم نظر دليل الحجّيّة ؛ إليها ، ومعه يمكن للشارع أن يتعبّد بالمدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي ظاهرا وإن كانا متلازمين واقعا.

وعلى هذا الأساس أيضا تتقدّم الأمارة على الأصل ؛ لأنّها أخصّ من الأصل ونصّ في موردها ، فتقدّم بنكتة الأخصّيّة والنصّيّة على ما سوف يأتي تحقيقه في بحث التعارض.

* * *

ص: 14

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة

اشارة

ص: 15

ص: 16

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة

وتنقسم الأصول العمليّة إلى شرعيّة وعقليّة.

فالشرعيّة هي ما كنّا نقصده آنفا ، ومردّها إلى أحكام ظاهريّة شرعيّة نشأت من ملاحظة أهمّيّة المحتمل.

والعقليّة وظائف عمليّة عقليّة ، ومردّها في الحقيقة إلى حقّ الطاعة إثباتا ونفيا ، فحكم العقل مثلا بأنّ ( الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) مرجعه إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى الذي يستقلّ به العقل إنّما هو حقّ الطاعة القطعيّة ، فلا تفي الطاعة الاحتماليّة بحقّ المولى. وحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان - على مسلك المشهور - مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة خاصّة ، بينما يرجع حكم العقل بمنجّزيّة التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة ، وهكذا.

تنقسم الأصول العمليّة إلى قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة الشرعيّة وهي الأحكام الظاهريّة المجعولة بلحاظ أهمّيّة المحتمل ونوعيّة الحكم كالاحتياط والبراءة ، فإنّها أصول عمليّة جعلها الشارع لتحديد الموقف العملي والوظيفة عند الشكّ والاشتباه أو المجعولة بلحاظ أهمّيّة الاحتمال والمحتمل معا ، من قبيل الاستصحاب فإنّه أصل عملي محرز أو تنزيلي مجعول شرعا ، فهذه الأصول كلّها تعبّدات محضة أنشأها الشارع.

الثاني : الأصول العمليّة العقليّة وهي الأحكام التي يدركها العقل العملي ، فيحكم بأنّ هذا ما ينبغي أن يكون عند الشكّ البدوي في الحكم الشرعي ، أو عند الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، فالعقل هو الذي يحدّد وظيفة المكلّف العمليّة في مثل هذه الموارد.

ص: 17

والملاك الكلّي في هذه الأصول العقليّة واحد ، وهو تحديد دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى عقلا ، وأنّ حقّ الطاعة هل يثبت في هذا المورد أم لا؟

ومن أمثلة هذه الأصول العقليّة :

أوّلا : قاعدة الاشتغال اليقيني التي تجري في الشبهات الموضوعيّة عند الشكّ في المكلّف به ، فهذه القاعدة مرجعها في الحقيقة إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة ، وأنّ هذه الدائرة هل تختصّ بالامتثال اليقيني فقط أو تشمل الامتثال الاحتمالي أيضا؟ فيقال : إنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى لا يكفي فيه الامتثال والطاعة الاحتماليّة ، بل لا بدّ من الامتثال اليقيني ؛ لكي يعلم بفراغ الذمّة وخروجها عن عهدة حقّ الطاعة ، وأمّا الطاعة الاحتماليّة فلا تفي بفراغ الذمّة وخروجها يقينا عن العهدة وحقّ الطاعة.

وثانيا : قاعدة البراءة العقليّة على مسلك المشهور ، حيث ذهبوا إلى أنّ العقل يحكم في موارد الشبهات الحكميّة البدويّة بالبراءة والتأمين ، فإنّ هذه القاعدة مرجعها في الحقيقة إلى أنّ دائرة حقّ الطاعة لا تشمل إلا التكاليف المقطوعة أي المعلومة يقينا ، وأمّا التكاليف المظنونة والمشكوكة والمحتملة فهي ليست موردا لحقّ الطاعة.

وثالثا : قاعدة الاحتياط العقلي في موارد الشبهات الحكميّة على المسلك المختار ، فإنّها حكم عقلي مرجعها إلى أنّ دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى تشمل كلّ انكشاف للتكليف ، سواء كان بنحو قطعي أم ظنّي أم كان احتمالا فقط.

وهكذا البحث في سائر الأصول العمليّة العقليّة كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّ العقل يحكم بلزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة فيها ، وليس ذلك إلا لأنّ دائرة حقّ الطاعة تشمل كلّ انكشاف للتكليف الأعمّ من القطعي وغيره.

وكذا قاعدة التنجيز العقلي في موارد التعارض أو الدوران بين المتباينين ، فإنّ مردّها إلى دائرة حقّ الطاعة أيضا.

وبهذا يظهر أنّ الأصول العمليّة العقليّة من المدركات العقليّة التي يستقلّ العقل بها في موارد الشكّ في الحكم الشرعيّ ، والتي مرجعها إلى حقّ الطاعة سعة وضيقا.

وللقسمين مميّزات يمكن ذكر جملة منها فيما يلي :

أوّلا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة أحكام شرعيّة ، والأصول العمليّة العقليّة

ص: 18

ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحقّ الطاعة.

ثمّ إنّه توجد فوارق نظريّة وعمليّة بين الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة ، نذكر منها ما يلي :

أوّلا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة مرجعها إلى حكم الشارع فلا بدّ أن تكون صادرة من الشارع ؛ لأنّه هو الذي يحدّد هذه الوظائف التي يرجع إليها المكلّف عند الشكّ في التكليف ، فمدركها الآيات والروايات أو الإجماع أو السيرة.

بينما الأصول العمليّة العقليّة مرجعها إلى حكم العقل العملي بأنّ هذا ما ينبغي أن يوجد ويكون ، أي أنّ العقل يستقلّ بالحكم في تحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف الشاكّ في التكليف ، وهذا الحكم العقلي أساسه الذي يستند عليه هو دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا وإثباتا ونفيا.

وهذا فارق نظري بين القسمين.

ثانيا : أنه ليس من الضروري أن يوجد أصل عملي شرعي في كلّ مورد ، وإنّما هو تابع لدليله ، فقد يوكل الشارع أمر تحديد الوظيفة العمليّة للشاكّ إلى عقله العملي ، وهذا خلافا للأصل العملي العقلي ، فإنّه لا بدّ من افتراضه بوجه في كلّ واقعة من وقائع الشكّ في حدّ نفسها.

ثانيا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة ليس من الضروري وجودها في كلّ مورد مشكوك ؛ وذلك لأنّها أحكام شرعيّة مجعولة من قبل الشارع ، وعليه فيمكن للشارع أن يجعل حكما شرعيّا فيحدّد على أساسه الوظيفة العمليّة للشاكّ في هذه الواقعة ، ويمكنه ألاّ يتدخّل مباشرة وذلك بأن يوكل أمر تحديد الوظيفة العمليّة إلى حكم العقل ، فلذلك يكون جعلها ممكنا كعدم جعلها أيضا.

وأمّا الأصول العمليّة العقليّة فمن الضروري أن تكون موجودة في كلّ واقعة من الوقائع المشكوكة سواء منها البدويّة أم المقرونة بالعلم الاجمالي ؛ وذلك لأنّها من مدركات العقل العملي المستقلّ بأنّ هذا ما ينبغي أن يوجد ويكون ، ففي كلّ واقعة يحكم العقل إمّا بلزوم الامتثال والإطاعة وإمّا بالتأمين والمعذّريّة ، وإمّا بالتخيير ولا تخلو واقعة من أحد هذه الأحكام العقليّة.

ثمّ إنّ هذا الحكم العقلي قد يبقى بأن يصدر من الشارع حكما مؤيّدا ومرشدا

ص: 19

لحكم العقل ، أو يسكت عنه كذلك ، أو يصدر من الشارع ما يخالف حكم العقل هذا ، وفي هذه الحالة يستحيل أن يكون حكم العقل قطعيّا ؛ لأنّه لا يمكن أن يصدر من الشارع ما يخالف أحكام العقل القطعيّة ، بل يكون ظنّيّا ، وحينئذ يكون صدور الحكم الشرعي متقدّما على حكم العقل الظنّي ؛ لأنّه يكون إرشادا إلى عدم حجّيّة مثل هذا الحكم.

ثالثا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة قد تردّ إلى أصلين ؛ لأنّ العقل إن أدرك شمول حقّ الطاعة للواقعة المشكوكة حكم بأصالة الاشتغال ، وإن أدرك عدم الشمول حكم بالبراءة ، ولكن قد يفرض أصل عملي عقلي ثالث وهو أصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

ثالثا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة يمكن إرجاعها إلى أصلين فقط ، وذلك بأن يقال : إنّ الأصول العقليّة مرجعها إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا أو إثباتا ونفيا ، وحينئذ نقول : إنّ العقل تارة يدرك أنّ حقّ الطاعة منتف في هذه الواقعة المشكوكة فيحكم بالبراءة والتأمين ، وليس هناك شيء آخر ، فمثلا إذا كانت الشبهة بدويّة حكم العقل بالتأمين بناء على مسلك المشهور باعتبار أنّ حقّ الطاعة مختصّ بالتكاليف الثابتة بالقطع فقط ، وأخرى يدرك ثبوت حقّ الطاعة فيحكم بالتنجيز كما إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّه يحكم بالاحتياط ووجوب الموافقة القطعيّة فيكون حقّ الطاعة أوسع من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

ثمّ إنّه قد يفرض وجود أصل عملي عقلي ثالث ، وهو أصالة التخيير وذلك فيما إذا كانت الواقعة المشكوكة يدور أمرها بين محذورين كالوجوب والحرمة ، فإنّ العقل لا يحكم بالاحتياط إذ يستحيل الجمع بين المحذورين معا ؛ لأنّه من اجتماع الضدّين معا على موضوع واحد ، ولا يحكم بالبراءة ؛ لأنّ المكلّف عمليّا إمّا أن يفعل أو يترك ، فلا يمكن التأمين عنهما معا لثبوت أحدهما واقعا فيلزم الوقوع في المخالفة القطعيّة ولو التزاما كما سيأتي في محلّه ، فحينئذ يحكم بالتخيير.

وقد يعترض على افتراض هذا الأصل : بأنّ التخيير إن أريد به دخول التكليف في العهدة واشتغال الذمّة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول ؛ لأنّ الجامع بين الفعل والترك في موارد الدوران بين المحذورين ضروري الوقوع ، وإن أريد به

ص: 20

أنّه لا يلزم المكلّف عقلا بفعل ولا ترك ولا يدخل شيء في عهدته فهذا عين البراءة.

وسيأتي (1) تفصيل الكلام حول ذلك في بحث دوران الأمر بين المحذورين إن شاء اللّه تعالى.

إشكال وجوابه : إلا أنّ هذا الأصل العملي الثالث وجّه إليه اعتراضات منها هذا الاعتراض وحاصله : أنّ التخيير المفترض في موارد دوران الأمر بين المحذورين ما ذا يراد به؟

فإن أريد به كون التكليف داخلا في العهدة والذمّة على نحو التخيير - بمعنى أنّ المكلّف يجب عليه تكليف ما في هذه الواقعة التي يدور أمرها بين الوجوب والحرمة ، فجامع التكليف داخل في العهدة ، والذمّة مشتغلة به إلا أنّ المكلّف مخيّر بينهما في مقام الامتثال فله أن يختار الحرمة أو الوجوب - فهذا غير معقول ؛ وذلك لأنّ الجامع بين الفعل والترك والذي يدخل في العهدة ضروري الوقوع ؛ وذلك لأنّ المورد يدور بين المحذورين فالمكلّف إمّا فاعل أو تارك لا محالة ، وحينئذ لا نحتاج إلى الحكم بالتخيير ؛ إذ لا فائدة منه عمليّا فيكون مثل هذا الأصل العقلي لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وإن أريد به كون المكلّف غير ملزم بشيء من هذين التكليفين أي أنّه لا يدخل في عهدته ولا تشتغل ذمّته بشيء منهما لا بنحو التفصيل ولا بنحو الجامع ، فهذا عين البراءة ؛ لأنّ البراءة معناها التأمين عن التكليف المشكوك ، وحينئذ يلغي جعل التخيير ؛ لأنّ البراءة تفي بالمقصود منه.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد معنى محصّل للتخيير العقلي في هذا المورد.

والجواب عنه سيأتي مفصّلا عند الكلام عن دوران الأمر بين المحذورين ، وحاصله : أنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف المشكوك في موارد الشبهات البدويّة ، وأمّا الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري فيها البراءة للعلم بأصل التكليف والذي يعتبر بيانا إجماليّا ، ولذلك لا يمكن إجراء البراءة هنا ما دام العلم الإجمالي بالجامع موجودا ، وإنّما تجري أصالة التخيير العقلي والتي نتيجتها عمليّا كالبراءة.

ص: 21


1- في البحث الثالث من أبحاث الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ ، تحت عنوان الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فلا حصر عقلي لها في البراءة أو الاشتغال ، بل هي تابعة لطريقة جعلها ، فقد تكون استصحابا مثلا.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فلا يمكن حصرها عقلا ، وذلك لما تقدّم من أنّها أحكام شرعيّة يجعلها الشارع في موارد الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، ولهذا تكون تابعة لكيفيّة جعلها شرعا وللصياغة والأسلوب التي تصاغ به هذه الأصول العمليّة ، وعليه فقد يجعل الشارع البراءة أو الاحتياط والاشتغال وقد يجعل الاستصحاب أو التخيير ونحو ذلك.

هذا كلّه بحسب الموضوعات الخارجيّة أي بلحاظ النظر إلى عالم الخارج ، وأمّا بلحاظ عالم الجعل والتشريع فالشارع عند تصوّره الحكم المشكوك إمّا أن يؤمّن عنه ، أو يجعله منجّزا فهي محصورة من هذه الناحية عقلا.

إلا أنّه بلحاظ الوقائع الخارجيّة فقد تكون في الواقعة خصوصيّة معيّنة يلاحظها الشارع فلا يجعل البراءة أو الاحتياط ، بل يجعل بل يجعل الاستصحاب أو التخيير ، إلا أنّ النتيجة عمليّا بالنسبة للمكلّف واحدة ؛ لأنّه إمّا أن يفعل أو يترك.

رابعا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة لا يعقل التعارض بينها لا ثبوتا - كما هو واضح - ولا إثباتا ؛ لأنّ مقام إثباتها هو عين إدراك العقل لها ، ولا تناقض بين إدراكين عقليّين.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فيعقل التعارض بينها إثباتا بحسب لسان أدلّتها ، ولا بدّ من علاج ذلك وفقا لقواعد باب التعارض بين الأدلّة.

رابعا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة لا يعقل فيها التعارض لا ثبوتا ولا إثباتا.

أما ثبوتا فلأنّ الأصول العمليّة العقليّة مرجعها إلى مدركات العقل العملي بما ينبغي أن يكون في حال الشكّ في التكليف الواقعي ، فالعقل تارة يدرك أنّ ما ينبغي أن يكون هو الاحتياط وشغل الذمّة على أساس سعة دائرة حقّ الطاعة وشمولها للمورد كما في حالات الشكّ في المكلّف به والعلم الإجمالي ، وأخرى يدرك بأنّ ما ينبغي أن يكون هو البراءة والتأمين عن الواقعة المشكوكة على أساس عدم شمول حقّ الطاعة للمورد كما في حالات الشبهات البدويّة ، وحينئذ لا يقع التعارض بين هذين الإدراكين ؛ لأنّ لكلّ منهما موضوعا يختلف عن الآخر فيستحيل اجتماعهما معا.

ص: 22

وأمّا إثباتا فلأنّ الأصول العقليّة لا فرق فيها بين مقام الإثبات والثبوت ، بمعنى أنّ مقام إثباتها هو نفسه عين مقام ثبوتها وإدراكها ، والوجه في هذا الاتّحاد بين المقامين هو : أنّ المدركات العقليّة لا تصدر من العقل ولا يحكم بها إلا بعد تحقّق موضوعها مع كلّ الخصوصيّات والقيود ؛ لأنّ الموضوع بمثابة العلّة للحكم العقلي ، فإذا أدرك العقل تمام الموضوع بجميع خصوصيّاته وحيثيّاته أصدر حكمه ، وإن لم يلاحظ ذلك فإنّه لا يصدر حكما ، وما دام الأمر كذلك فإذا صدر الحكم العقلي إثباتا فهو ناشئ عن ملاحظة الموضوع ثبوتا ، وقد قلنا : إنّ ملاحظة الموضوع وإدراكه عقلا يختلف حاله بين البراءة والاحتياط ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر ثبوتا فكذلك إثباتا.

من هنا يقال : إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص ؛ لأنّها إمّا أن توجد أو لا ، فإذا وجدت لا ترتفع إلا إذا ارتفع موضوعها حقيقة ولا وجه للاستثناء أو التخصيص أو التقييد لها بعد تحقّق موضوعها ؛ لأنّه بمثابة العلّة وهي إذا تحقّقت تحقّق معلولها.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فالتعارض يمكن تصوّره إثباتا لا ثبوتا ، فهنا دعويان :

الأولى : أنّ التعارض مستحيل ثبوتا ؛ وذلك لأنّ الشارع الحكيم الملتفت عند ما يريد تشريع هذه الأحكام الشرعيّة لا بدّ أن يتصوّر موضوعها ، فلكلّ واحد منها موضوع يختلف عن الآخر ، ولذلك يستحيل أن يجعل حكمين ظاهريّين مختلفين على موضوع واحد ؛ لأنّه تناقض يستحيل افتراضه بحقّ الشارع الحكيم.

الثانية : أنّ التعارض معقول إثباتا أي بلحاظ مرحلة صياغة دليل الحكم الظاهري ، فهنا يمكن أن يفرض التعارض بلحاظ ألسنة هذه الأدلّة ؛ لأنّ التعارض كما سيأتي من شئون عالم اللفظ ، فقد يكون الدليل الذي يدلّ على الاحتياط يفترض موضوعا هو نفسه موضوع البراءة أو الاستصحاب ؛ لأنّ كلاّ منهما موضوعه الشكّ فيمكن تصوّر التعارض بينها ، وهذا التعارض لا بدّ من عرضه على القواعد المقرّرة في باب التعارض لنرى أنّه من التعارض المستقرّ أو غير المستقرّ وكيفيّة علاجه.

خامسا : أنّه لا يعقل التصادم بين الأصول العمليّة الشرعيّة والأصول العمليّة العقليّة ، فإذا كانا مختلفين في التنجيز والتعذير ، فإن كان الأصل العقلي معلّقا على

ص: 23

عدم ورود أصل شرعي على الخلاف كان هذا واردا ، وإلا امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي في مورده.

خامسا : أنّه يستحيل تعقّل التصادم والتعارض بين الأصول العمليّة العقليّة والأصول العمليّة الشرعيّة ، ومن هنا يقال : إنّ ما حكم به العقل يحكم به الشرع أيضا هذا واقعا ، وأمّا إذا فرض ظاهرا وجود تعارض بين أصلين أحدهما عقلي والآخر شرعي على موضوع واحد فهنا صور :

1 - أن يكون كلّ من الحكمين ينجّز الواقعة فهنا لا إشكال ولا تصادم أصلا.

2 - أن يكونا معذّرين عن الواقعة فكذلك لا تصادم.

3 - أن يكون الأصل العقلي منجّزا ، والأصل الشرعي معذّرا.

4 - أن يكون الأصل العقلي معذّرا ، والأصل الشرعي منجّزا.

ففي الصورتين الثالثة والرابعة تارة يفرض أنّ حكم العقل معلّق على عدم ورود أصل شرعي عملي ، وأخرى يفرض كونه مطلقا من هذه الناحية.

فإن كان الأصل العقلي معلّقا على عدم ورود أصل شرعي كان ورود الأصل الشرعي على نفس موضوع الأصل العقلي رافعا للحكم العقلي لارتفاع قيده ، فيكون واردا عليه.

وإن لم يكن الأصل العقلي معلّقا على ذلك ، بل كان مطلقا فهنا إمّا أن نلتزم بأنّ هناك خطأ في مدركات العقل العملي أو نلتزم بعدم صحّة هذا الأصل الشرعي.

هذا كلّه في غير الحكمين القطعيّين كما هو واضح.

* * *

ص: 24

الأصول التنزيليّة والمحرزة

ص: 25

ص: 26

الأصول التنزيليّة والمحرزة

الأصول العمليّة الشرعيّة : تارة تكون مجرّد وظائف عمليّة بلسان إنشاء حكم تكليفي ترخيصي أو إلزامي بدون نظر بوجه إلى الأحكام الواقعيّة ، وهذه أصول عمليّة بحتة.

وأخرى تبذل فيها عناية إضافيّة إذ تطعّم بالنظر إلى الأحكام الواقعيّة ، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين :

تقسّم الأصول العمليّة الشرعيّة إلى قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة الشرعيّة التي تحدّد الوظيفة العمليّة والموقف اتّجاه الواقعة المشكوكة ، من دون النظر إلى الأحكام الواقعيّة ، أي لا يوجد فيها شيء من الكاشفيّة والطريقيّة أصلا ، وإنّما تجعل لأجل التنجيز أو التعذير فقط ، كما هو الحال في البراءة والاحتياط فإنّ المنظور في البراءة التأمين والتعذير عن الواقعة المشكوكة ، والمنظور في الاحتياط تنجيزها ، ولا نظر فيهما إلى الحكم الواقعي بوجه من الوجوه ، لا بنحو إجمالي ولا بنحو تفصيلي ، وهذه تسمّى بالأصول العمليّة المحضة أو البحتة.

ثانيهما : الأصول العمليّة الشرعيّة التي - مضافا إلى أنّها تحدّد الوظيفة والموقف تجاه الواقعة المشكوكة - يوجد فيها عناية زائدة على ذلك وهي كونها ناظرة إلى الواقع بنحو من الأنحاء ، كما هو الحال في قاعدة الاستصحاب والفراغ ، فإنّ الاستصحاب كما أنّه يحدّد موقف الشاكّ كذلك فيه نظر إلى الواقع ؛ لأنّه يعتمد على أنّ الغالب فيما يوجد أن يبقى ، فينزّل المستصحب منزلة المتيقّن من حيث الآثار المترتّبة عليه.

والمنظور في قاعدة الفراغ مثلا أنّ الغالب الإتيان بالفعل على وجهه الصحيح استنادا إلى غلبة الانتباه والتذكّر أثناء العمل ، ومن هنا لا تجري القاعدة إذا ثبت الغفلة والنسيان.

ص: 27

فهذه الأصول تسمّى بالأصول التنزيليّة أو المحرزة ؛ لأنّه يوجد فيها عناية إضافية وهي النظر إلى الأحكام الواقعيّة.

وهذه العناية يمكن تصويرها بأحد وجهين :

أحدهما : أن يجعل الحكم الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعي ، كما قد يقال في أصالة الحلّ وأصالة الطهارة ، إذ يستظهر أن قوله علیه السلام : « كلّ شيء لك حلال » أو « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم ... » يتكفّل تنزيل مشكوك الحليّة ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلة الطاهر الواقعي ، خلافا لمن يقول : إنّ دليل هذين الأصلين ليس ناظرا إلى الواقع ، بل ينشئ بنفسه حليّة أو طهارة بصورة مستقلّة ، ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية التنزيليّة بالأصل التنزيلي.

الوجه الأوّل : أنّ هذه العناية هي تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فينزّل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي ، فالوجوب الظاهري كالوجوب الواقعي ، وكذا الطهارة الظاهريّة كالطهارة الواقعيّة.

وتوضيحه : أنّ دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحلّيّة أي « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » و « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » مفاده تنزيل مشكوك الحلّيّة والطهارة منزلة معلومهما.

فمشكوك الطهارة محكوم ظاهرا بالطهارة أي نفس الطهارة الواقعيّة وليست طهارة أخرى مستقلّة في نفسها ، وهذا المعنى يستظهر من دليلهما بناء على كون الجملة إخباريّة عن كون كلّ شيء طاهرا بما في ذلك المشكوك ، فيكون مفادها أنّ معلوم الطهارة ومظنونها ومشكوكها ومحتملها على حدّ سواء ، ولا يخرج إلا ما كان معلوم القذارة والنجاسة فقط ، فيكون المشكوك كالمعلوم محكوم ظاهرا بالطهارة الواقعيّة ، كما أنّ معلوم الطهارة محكوم واقعا بالطهارة الواقعيّة ، فصار الظاهر كالواقع من حيث كونهما معا طاهرين واقعا.

وأمّا إذا قلنا : إنّ دليل أصالة الطهارة أو الحلّيّة مفاده الإنشاء لا الإخبار فهذا يعني أنّ هذا الدليل يجعل وينشئ طهارة ظاهريّة مستقلّة على مشكوك الطهارة ، وكذلك يجعل وينشئ حلّيّة ظاهريّة مستقلّة على مشكوك الحلّيّة ، وهذا يعني أنّه لا نظر في

ص: 28

هاتين الأصالتين إلى الحكم الواقعي ، ولسانهما لا يستفاد منه التنزيل لمشكوك الحلّيّة أو الطهارة منزلة معلومهما ، فيكونان على هذا أصلين عمليّين بحتين.

ويسمّى الأصل العملي على القول الأوّل بالأصل التنزيلي بناء على هذه العناية.

وقد تترتّب على هذه التنزيليّة فوائد ، فمثلا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة تنزيلي ترتّب عليه حين تطبيقه على الحيوان مثلا طهارة مدفوعه ظاهرا ؛ لأنّها مترتّبة على الحلّيّة الواقعيّة ، وهي ثابتة تنزيلا فكذلك حكمها ، وأمّا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة ليس تنزيليّا ، بل إنشاء لحلّيّة مستقلّة فلا يمكن أن ننقّح بها طهارة المدفوع ، وهكذا.

وأمّا الثمرة العمليّة بين القولين فهي :

إذا قيل بأنّ أصالة الحلّيّة أصل تنزيلي بالنحو المتقدّم أي أنّها تثبت الحلّيّة الواقعيّة ظاهرا فعند ما نطبّقها على حيوان مشكوك الحلّيّة سوف نثبت الحلّيّة الواقعيّة ظاهرا ، وحينئذ سوف يتنقّح موضوع طهارة مدفوع هذا الحيوان ؛ لأنّ طهارة مدفوعه موضوعها الحيوان المحلل الأكل ، والمفروض أنّ هذا الحيوان المشكوك قد ثبتت حلّيّته الواقعيّة ظاهرا ببركة أصالة الحلّيّة ، فالموضوع متحقّق فيترتّب الحكم بطهارة مدفوع هذا الحيوان.

فلا فرق بين كون هذا الحيوان حلالا واقعا لقيام الدليل المحرز على حلّيّته ، وبين كونه حلالا ظاهرا استنادا على أصالة الحلّيّة ؛ لأنّه في كلا الحالين سوف نثبت الحلّيّة الواقعيّة إلا أنّها في الأوّل ثابتة وجدانا وفي الثاني ثابتة تعبّدا وتنزيلا ، وحينئذ يترتّب الحكم الشرعي ؛ لأنّ موضوعه محرز فيحكم بطهارة مدفوعه ؛ لأنّ الحلّيّة الواقعيّة ثابتة.

وأمّا إذا قيل بأنّ أصالة الحلّيّة أصل علمي بحث وليس فيها أي نحو من التنزيل ، فسوف يثبت بها حلّيّة ظاهريّة مجعولة بنحو الاستقلال على عنوان مشكوك الحلّيّة ، وهذه الحلّيّة الظاهريّة تختلف عن الحلّيّة الواقعيّة ، وحينئذ لا يتنقّح موضوع طهارة المدفوع ؛ لأنّ موضوعها هو الطهارة الواقعيّة وهي ليست ثابتة لا وجدانا ، ولا تعبّدا وتنزيلا.

وهكذا الحال بالنسبة لأصالة الطهارة.

ص: 29

والآخر : أن ينزّل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين ، بأن تجعل الطريقيّة في مورد الأصل ، كما ادعي ذلك في الاستصحاب من قبل المحقّق النائيني (1) والسيّد الأستاذ (2) على فرق بينهما ، حيث إنّ الأوّل اختار أنّ المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط ، والثاني اختار أنّ المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفيّة ، فلم يبق على مسلك جعل الطريقيّة فرق بين الاستصحاب والأمارات في المجعول على رأي السيّد الأستاذ.

ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية بالأصل المحرز.

الوجه الثاني : أنّ هذه العناية هي تنزيل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين ، ومثاله المعروف الاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب أصل مركّب من أركان أربعة : اليقين السابق ، والشكّ اللاحق ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، والأثر العملي ، وفيه أيضا احتمال كاشف وهو غلبة ما يوجد يبقى.

وحينئذ يقال : إنّ دليل التنزيل تارة ينزّل الأصل نفسه أي الاستصحاب بأركانه منزلة اليقين.

وأخرى ينزّل الاحتمال المقوّم لهذا الأصل والذي على أساسه كان كاشفا منزلة اليقين.

وفي كلا الموردين يكون التنزيل منزلة العلم بلحاظ الطريقيّة ؛ لأنّ للعلم أربع جهات ، هي :

1 - الصفتيّة ، وهي كونه نورا يبعث على الإذعان واستقرار النفس.

2 - الكاشفيّة عن متعلّقه بحيث يكون منيرا وكاشفا عما انصبّ عليه.

3 - الجري العملي أي الباعثيّة والمحرّكيّة فعلا أو تركا.

4 - المنجّزيّة والمعذّريّة وهو معنى الحجّيّة.

والاستصحاب المنزّل منزلة العلم - إمّا في نفسه أو للاحتمال المقوّم له - يوجد فيه قولان :

أحدهما : للمحقّق النائيني حيث ذهب إلى أنّ المجعول في الاستصحاب هو تنزيله

ص: 30


1- فوائد الأصول 4 : 486.
2- مصباح الأصول 2 : 38 ، و 3 : 154.

منزلة العلم بلحاظ الجري العملي فقط ، بخلاف الأصل العملي المحض فإنّ المجعول فيه المنجّزيّة والمعذّريّة فقط ، وبخلاف الأمارة فإنّها مجعولة بلحاظ الطريقيّة والكاشفيّة.

والآخر : للسيّد الخوئي حيث ذهب إلى أنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة والكاشفيّة لا مجرّد الجري العملي.

فعلى القول الثاني لا يبقى فرق بين الاستصحاب وسائر الأمارات ، ولذلك ذهب السيّد الخوئي إلى أنّ الاستصحاب أمارة ، إلا أنّه يختلف عن سائر الأمارات في أنّ الشكّ أخذ في لسان دليله ، بينما لم يؤخذ في لسانها مع وحدة المجعول فيهما ، ولذلك تتقدّم سائر الأمارات عليه بالحكومة ، فإذا قامت الأمارة ارتفع الشكّ فيرتفع موضوع الاستصحاب.

وهذا الأصل المأخوذ فيه هذه العناية يسمّى بالأصل المحرز.

وهذه المحرزيّة قد يترتّب عليها بعض الفوائد في تقديم الأصل المحرز على غيره ، باعتباره علما وحاكما على دليل الأصل العملي البحت ، على ما يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

والثمرة هي : أنّ الأصل المحرز يتقدّم على الأصل البحت وذلك على أساس الحكومة ، وتوضيحه : أنّ الاستصحاب لمّا كان المجعول فيه تنزيله منزلة العلم ، إمّا بلحاظ الجري العملي وإمّا بلحاظ الكاشفيّة كما تقدّم ، فإذا قام الاستصحاب في مورد فهو يحقّق العلم تعبّدا وتنزيلا ، وحينئذ يرتفع الشكّ فلا يجري الأصل العملي المحض ؛ لأنّ موضوعه وهو الشكّ ارتفع بتحقّق العلم (1).

وهناك معنى آخر للأصول العمليّة المحرزة ينسجم مع طريقتنا في التمييز بين الأمارات والأصول ، وهو أنّه كلّما لوحظ في جعل الحكم الظاهري ثبوتا أهمّيّة المحتمل فهو أصل عملي ، فإن لوحظ منضمّا إليه قوّة الاحتمال أيضا فهو أصل عملي محرز ، كما في قاعدة الفراغ وإلا فلا.

والمحرزيّة بهذا المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجّة في مثبتاتها ، إلا أنّ

ص: 31


1- وهذا النحو يسمّى بالحكومة الميرزائيّة ، وإلا فلا يوجد حكومة بالدقّة ؛ لأنّها من شئون عالم الألفاظ كما سيأتي ، والحال أنّ دليل الاستصحاب كغيره من أدلّة الأصول العمليّة قد أخذ في لسانه الشكّ وعدم العلم ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

استظهارها من دليل القاعدة يترتّب عليه بعض الآثار أيضا ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الأماريّة والكشف نهائيّا ، ومن هنا يقال بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بعدم التذكّر حين العمل.

الوجه الثالث : ما اختاره السيّد الشهيد من تفسير لحقيقة الحكم الظاهري ، وتوضيحه : أنّ الشارع عند ما يجعل الحكم الظاهري في عالم التشريع والواقع عند الشكّ والاشتباه ، تارة يلاحظ أهمّيّة الاحتمال الكاشف فيجعل الحجّيّة لهذه الكاشفيّة ، كما هو الحال في الأمارات كخبر الثقة وحجّيّة الظهور.

وأخرى يلاحظ أهمّيّة المحتمل أي نوع الحكم كالتسهيل أو التنجيز فيجعل الحجّيّة للحكم الظاهري على أساس أهمّيّة المحتمل ، وهذا ما يسمّى بالأصل العملي ؛ لأنّه يحدّد الموقف والوظيفة العمليّة للشاكّ من تنجيز أو تعذير ، فإذا لم يلاحظ شيئا آخر مع أهمّيّة المحتمل سمّي بالأصل العملي البحت.

وثالثة يلاحظ أهمّيّة المحتمل منضمّا إليها شيئا آخر وهو قوّة الاحتمال الكاشف أيضا ، كما هو الحال في الاستصحاب وقاعدة الفراغ ، وهذا ما يسمّى بالأصل العملي التنزيلي أو المحرز.

فالفرق بين الأصل العملي المحض والأصل المحرز والتنزيلي هو كون الأوّل لوحظ فيه ثبوتا أهمّيّة المحتمل فقط ، بينما الثاني لوحظ فيه أهمّيّة المحتمل والاحتمال أيضا.

فقاعدة الاستصحاب لوحظ فيها نوع المحتمل أي نفس القضيّة المستصحبة المتواجد فيها الأركان الأربعة للاستصحاب ، ولوحظ فيها قوّة الاحتمال الكاشف أي غلبة أنّ ما يوجد يبقى.

وقاعدة الفراغ لوحظ فيها نوع المحتمل وهو العمل الذي تمّ الفراغ منه ، وقوّة الاحتمال الكاشف وهو غلبة التذكّر والالتفات إلى الإتيان بالعمل على وجهه الصحيح.

إلا أنّ المحرزيّة الثابتة لقاعدة الفراغ لا تجعل مثبتات القاعدة حجّة ، ولذلك إذا حكم بصحّة الوضوء الذي صلّى بعده الظهر استنادا إلى قاعدة الفراغ لا يعني ذلك أنّ الوضوء ثابت الآن ليجوز له الدخول بصلاة العصر بهذا الوضوء ؛ وذلك لأنّ

ص: 32

القاعدة غايتها التسهيل عن العمل الذي فرغ منه وهو صلاة الظهر في المثال لا أكثر ، وأمّا العصر فلم يبدأ بها فيختلّ أحد ركني القاعدة فلا تجري.

نعم ، ثبوت المحرزيّة لقاعدة الفراغ واستظهارها من أدلّتها يترتّب عليه بعض الآثار :

منها : أنّ قاعدة الفراغ لا تجري إذا انهدم ركنها الثاني ؛ لأنّه ينهدم به الكاشف الذي لوحظ عند جعل هذه القاعدة ، فإذا فرغ من العمل وشكّ في صحّته ولكنّه مع ذلك علم بأنّه لم يكن منتبها أثناء العمل ، بل كان غافلا وساهيا فهنا أماريّة الكشف تسقط فيزول الاحتمال الكاشف فلا تجري القاعدة ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من توفّر كلا الركنين في القاعدة لتجري ، فإذا انتفى أحدهما ارتفعت.

* * *

ص: 33

ص: 34

مورد جريان الأصول العمليّة

ص: 35

ص: 36

مورد جريان الأصول العمليّة

لا شكّ في جريان الأصول العمليّة الشرعيّة عند الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي لتنجيزه كما في أصالة الاحتياط ، أو للتعذير عنه كما في أصالة البراءة. ولكن قد يشكّ في التكليف الواقعي ويشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة عليه بنحو الشبهة الموضوعيّة كالشكّ في صدور الحديث ، أو بنحو الشبهة الحكميّة كالشكّ في حجّيّة الامارة المعلوم وجودها.

ذكرنا أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة أحكام ظاهريّة يجعلها الشارع عند الشكّ في التكليف الواقعي ، وهي على قسمين : أصول تنزيليّة وأصول محضة ، ويكون جعلها إمّا بداعي تنجيز الواقع على المكلّف وهذا هو الاحتياط ، وإمّا بداعي التعذير عنه كما في البراءة ونحوها.

فموضوع الأصل ومورد جريانه إذا هو الشكّ في التكليف الواقعي.

ولكن قد يفرض نحو آخر من الشكّ وهو أنّ يشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة وعدم قيامها عند الشكّ في الحكم الواقعي ، وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف إذا شكّ في التكليف الواقعي فقد يقوم عنده حجّة ظاهريّة تعالج له الموقف والوظيفة أمام هذا الواقع المشكوك ، وقد لا يقوم عنده حجّة ظاهريّة على ذلك ، وقد يشكّ في قيام مثل هذه الحجّة الظاهريّة وعدم قيامها.

والشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة يتصوّر بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الشكّ فيها بنحو الشبهة الموضوعيّة ، فهو يعلم بالحكم ولكنّه اشتبه عليه مصداقه ، فمثلا يعلم أنّ الشارع قد جعل الحجّيّة لخبر الثقة فهو يعلم بالحكم ، ولكنّه يشكّ في أنّ هذا الخبر الذي يعالج الواقعة المشكوكة هل هو خبر ثقة أو لا؟ فهذا شكّ في تحقّق المصداق ، أو كأن يشكّ في صدور الخبر من

ص: 37

الشارع في هذه الواقعة وعدم صدوره بعد العلم بأنّ هناك أخبارا قد صدرت تعالج الشكّ.

الثاني : أن يكون الشكّ فيها بنحو الشبهة الحكميّة ، أي أنّ هذه الأمارة الموجودة هل جعل الشارع الحجّيّة لها أو لا؟ فهو يعلم بأنّ الموضوع متحقّق في الخارج ، ولكنّه لا يدري ما هو حكمه هل هو حجّة أو لا؟ كالشهرة مثلا فإنّها أمارة تكوينيّة تفيد الظنّ ، وتعالج الشكّ في الواقعة المشكوكة ولكن لا يعلم هل جعل الشارع الحجّيّة لها أم لا؟

فتحصّل من ذلك أنّ هناك نحوين من الشكّ : أحدهما : الشكّ في الحكم الواقعي ، والثاني : الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة الشرعيّة في هذه الواقعة المشكوكة.

والسؤال هنا هو :

فهل يوجد في هذه الحالة موردان للأصل العملي ، فنجري البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك ، ونجري براءة أخرى عن الحجّيّة أي الحكم الظاهري المشكوك ، أو تكفي البراءة الأولى؟

وبكلمة أخرى : أنّ الأصول العمليّة هل يختصّ موردها بالشكّ في الأحكام الواقعيّة ، أو يشمل مورد الشكّ في الأحكام الظاهريّة نفسها؟

فهل يوجد موردان للأصل العملي؟

أحدهما الأصل العملي الذي مورده الشكّ في الحكم الواقعي ، فنجري البراءة مثلا للتأمين عن الواقع والآخر الأصل العملي الذي مورده الشكّ في الحكم الظاهري ، فنجري البراءة للتأمين عن هذه الحجّيّة المشكوكة والتي هي حكم ظاهري.

وبتعبير آخر : هل مورد الأصل العملي هو الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي فقط ، أو يشمل الشكّ في الحكم الظاهري أيضا؟

قد يقال بأنّنا في المثال المذكور نحتاج إلى براءتين ، إذ يوجد احتمالان صالحان للتنجيز ، فنحتاج إلى مؤمّن عن كلّ منهما :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي ولنسمّه بالاحتمال البسيط.

والآخر : احتمال قيام الحجّة عليه ، وحيث إنّ الحجّيّة معناها إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك - كما عرفنا سابقا عند البحث عن حقيقة

ص: 38

الأحكام الظاهريّة (1) - فاحتمال الحجّة على الواقع المشكوك يعني احتمال تكليف واقعي متعلّق لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسمّ هذا بالاحتمال المركّب.

وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفي ، بل لا بدّ من التأمين من ناحية الاحتمال المركّب أيضا ببراءة ثانية.

قد يجاب على ذلك : قال بأنّنا في المثال المذكور أي عند ما نشكّ في قيام الحجّيّة الشرعيّة سواء بنحو الشبهة الموضوعيّة أم بنحو الشبهة الحكميّة ، نحتاج إلى إجراء براءتين ، ولا تكفي البراءة الواحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه في المثال يوجد احتمالان يصلحان للتنجيز ، فلا بدّ من إجراء البراءة في كلّ منهما لتحقّق موضوعها فيهما :

الأوّل : احتمال التكليف الواقعي ، فإنّ هذه الواقعة المشكوكة يحتمل وجود حكم إلزامي منجّز فيها ، وهذا يسمّى بالاحتمال البسيط.

الثاني : احتمال التكليف الظاهري ، فإنّه يشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة في هذه الواقعة المشكوكة ، وهذا يعني أنّه يحتمل صدور ما يكون منجّزا ظاهرا لهذه الواقعة ، بناء على ما تقدّم في تفسير حقيقة الحكم الظاهري من أنّه يجعل من أجل الحفاظ على ما هو الأهمّ بنظر الشارع من الملاكات والأحكام الواقعيّة ، وهذا معناه أنّه مع احتمال وجود مثل هذه الحجّة الظاهريّة فيحتمل وجود المنجّز للملاك الواقعي ، فيكون هذا الاحتمال مساويا لاحتمال التكليف أيضا ، إذ لا فرق بين المنجّزيّة الواقعيّة والظاهريّة من حيث دخول التكليف في العهدة والذمّة ، وهذا الاحتمال يسمّى بالاحتمال المركّب.

وحينئذ نقول : إنّ جريان البراءة في الاحتمال البسيط يكفي للتأمين عن احتمال التكليف الواقعي الذي يحتمل كونه منجّزا ، ولكنّها لا تكفي لإثبات التأمين عن احتمال التكليف والمنجّز الظاهري الذي يحتمل قيام الحجّة الشرعيّة عليه ، ولذلك نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي هذا الاحتمال المركّب.

وقد يعترض على ذلك : بأنّ الأحكام الظاهريّة كما تقدّم في الجزء

ص: 39


1- في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

السابق (1) - متنافية بوجوداتها الواقعيّة ، فإذا جرت البراءة عن الحجّيّة المشكوكة وفرض أنّها كانت ثابتة يلزم اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين.

اعتراض على إجراء براءة ثانية عند الشكّ في الحجّة الظاهريّة ، بأنّه تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة متنافية.

فكما أنّ الوجوب والحرمة الواقعيّين متنافيان بلحاظ الملاكات والمبادئ ، كذلك الأحكام الظاهريّة فإنّه لا يمكن اجتماع البراءة مع الاحتياط ؛ وذلك لما عرفنا في حقيقة الحكم الظاهري من أنّها خطابات لتعيين ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند الشكّ والاشتباه.

وهذا يعني أنّ البراءة تكشف عن كون ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، بينما الاحتياط يكشف عن كون ملاكات الإلزام هي الأهمّ ، وحيث لا يمكن الجمع بين هذين النحوين من الملاكات لتنافيهما فيكون اجتماع البراءة والاحتياط مستحيلا ؛ لأنّه يؤدّي إلى التكاذب بلحاظ الواقع الذي يحكيان عنه.

ومن هنا يشكل على إجراء البراءة الثانية ؛ وذلك لأنّ الحجّيّة المشكوكة المحتمل كونها منجّزة للواقعة المشكوكة إذا كانت ثابتة شرعا فهذا يعني أنّ الملاكات الإلزاميّة هي الأهمّ بنظر الشارع ، بينما البراءة تحكي عن كون ملاكات الترخيص هي الأهمّ فيقع التكاذب والتنافي بينهما ، فجريان البراءة عن الحجّة المشكوكة يلزم منه اجتماع المتنافيين.

نعم ، إذا لم تكن الحجّيّة المشكوكة ثابتة فلا تثبت إلا ملاكات الترخيص ، إلا أنّنا حيث لا نقطع بعدم الحجّيّة وإنّما نحتملها فنحن نحتمل التكاذب والتنافي ، واحتمال اجتماع المتنافيين ، كالقطع باجتماعهما مستحيل.

وجواب الاعتراض : أنّ البراءة هنا نسبتها إلى الحجّيّة المشكوكة نسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ؛ لأنّها مترتّبة على الشكّ فيها ، فكما لا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريّين طوليّين من هذا القبيل.

وما تقدّم سابقا من التنافي بين الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة ينبغي أن

ص: 40


1- في مباحث التمهيد أيضا تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

يفهم في حدود الأحكام الظاهريّة العرضيّة ، أي التي يكون الموضوع فيها نحوا واحدا من الشكّ.

الجواب عن هذا الاعتراض بأنّه لا اجتماع لحكمين ظاهريّين متنافيين إذا عرفنا ما يلي :

أوّلا : أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة نسبتها إلى الحجّيّة المشكوكة كنسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ، فكما أنّ مورد جريان الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي كذلك البراءة الثانية مورد جريانها الشكّ في الحجّة المشكوكة ، وكما أنّ الحكم الظاهري مبادئه هي الحفاظ على الملاكات الواقعيّة كذلك البراءة الثانية مبادئها الحفاظ على الأحكام الظاهريّة.

وحينئذ نقول : إنّه كما لا منافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري كذلك لا منافاة بين البراءة الثانية وبين الحجّة المشكوكة على تقدير ثبوتها ؛ وذلك لأنّ البراءة الثانية موضوعها الشكّ في الحجّيّة ، بينما الحجّيّة المشكوكة على تقدير ثبوتها يكون موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، ولذلك لم يجتمع حكمان ظاهريّان على موضوع واحد ، بل الموضوع فيهما مختلف.

وعلى هذا فيمكن أن يجعل الشارع براءة ثانية عند الشكّ في الحجّيّة الظاهريّة ، وذلك إذا كانت ملاكات الترخيص هي الأهمّ.

وثانيا : أنّ ما تقدّم في الجزء السابق من أنّ الأحكام الظاهريّة متنافية بوجوداتها الواقعيّة لا بوصولها ، كان يقصد منه أنّ الشارع لا يصدر منه حكمان ظاهريّان على موضوع واحد سواء وصلا إلى المكلّف أم لا ؛ لأنّ التنافي بينهما واقعي بقطع النظر عن مرحلة الوصول ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري يكشف عن الواقع ، فإذا جعل البراءة والاحتياط على موضوع واحد حصل التكاذب والتنافي بلحاظ الواقع ؛ لأنّهما يكشفان عن كون الأهمّ بنظر الشارع الترخيص والإلزام وهما متكاذبان لا يمكن اجتماعهما ولحاظهما معا ، سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

إلا أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ في الأحكام الظاهريّة العرضيّة أي التي يكون موضوعها وموردها واحدا ، فالبراءة والاحتياط المجعولان عند الشكّ في الحكم الواقعي مستحيلان ؛ لأنّهما في عرض واحد وعلى موضوع واحد.

ص: 41

وأمّا البراءة الثانية المجعولة عند الشكّ في الحجّيّة المشكوكة فلا تنافي الحجّيّة المشكوكة على تقدير ثبوتها ؛ وذلك لعدم وحدة الموضوع بينهما ، إذ موضوع البراءة الثانية الشكّ في الحجّيّة ، بينما موضوع الحجيّة على تقدير ثبوتها الشكّ في الحكم الواقعي ، وهذا يعني أنّ البراءة الثانية في طول الحجّيّة ، فإذا ثبتت الحجّيّة ارتفع موضوع البراءة ، وإذا جرت البراءة الثانية فهذا يعني أنّ الحجّيّة غير ثابتة بحقّ المكلّف وغير واصلة إليه ، وبالتالي لا تناف بينهما لاختلاف الموضوع فيهما ، وشرط التنافي وحدة الموضوع.

وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ؛ إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعي المشكوك لا تنفع البراءة المؤمّنة عن الحجّيّة المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة إلى البراءة الثانية ؛ إذ لا يحتمل العقاب إلا من ناحية التكليف الواقعي وقد أمّن عنه.

وهنا اعتراض آخر على إجراء البراءة عن الحجّة المشكوكة مفاده أنّها لغو ؛ وذلك لأنّه إن أريد إجراء البراءة الثانية فقط من دون إجراء البراءة الأولى التي موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي فهذه البراءة لا تنفع شيئا ؛ لأنّه من دون التأمين مسبقا عن الحكم الواقعي لا يفيدنا التأمين عن الحجّة المشكوكة ، إذ مع فرض ثبوت التأمين عن الحجّة المشكوكة إلا أنّ هذا لا يؤمّن عن الحكم الواقعي المشكوك والذي من المحتمل أن يكون منجّزا ، فالتأمين المراد إثباته بالبراءة الثانية لا يكفي ما دام الشكّ في الحكم الواقعي موجودا والذي يعني أنّ احتمال المنجّزيّة لا يزال على حاله ، فجعلها يكون لغوا إذ لا أثر لها.

وإن أريد إجراء البراءة الثانية بعد إجراء البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك فهذه البراءة لا فائدة منها أيضا ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ؛ لأنّه مع إجراء البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك يثبت التأمين من ناحية الحكم المشكوك ، فالمكلّف إذا ترك الواجب أو فعل الحرام حينئذ يكون معذورا لقيام المؤمّن الشرعي عنده فلا يكون مستحقّا للعقاب ، وعليه فلا داعي لإجراء براءة ثانية عن الحجّة المشكوكة ؛ لأنّه قد ثبت لديه مسبقا التأمين وعدم استحقاق العقاب ، والمطلوب من البراءة حين إجرائها إثبات هذا الأمر لا أكثر ، فمع ثبوتهما يكون إجراؤها لغوا

ص: 42

وتحصيلا للحاصل ، ولذلك لا تجري البراءة في المكروهات والمستحبّات ؛ إذ لا إلزام ولا عقاب فيهما ليؤمّن عنهما.

وبهذا يظهر أنّه لا معنى محصّل لإجراء براءة ثانية ، بل تكفي البراءة الأولى.

والجواب على ذلك : أنّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء ، واحتمال تكليف واقعي واصل إلى مرتبة من الاهتمام المولوي التي تعبّر عنها الحجّيّة المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأوّل لا يلازم التأمين عن الثاني.

ألا ترى أنّ بإمكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما احتملت تكليفا وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعة منه ، وكلّما احتملت تكليفا واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه.

والجواب على هذا الاعتراض أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة تختلف عن البراءة الأولى التي تجري عن الحكم الواقعي المشكوك ، ووجه الاختلاف بينهما هو الاختلاف في التأمين عن الاحتمال المنجّز.

وتوضيحه : أنّ البراءة الأولى تجري لنفي التكليف المشكوك والتأمين عنه عند احتماله ، بينما البراءة الثانية تنفي المنجّز عن هذا التكليف ، فيوجد احتمالان :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي بذاته ، والآخر : احتمال قيام الحجّة والمنجّز على هذا التكليف ؛ والثاني يعني أنّه إذا ثبتت الحجّيّة وتمّت المنجّزيّة فهذا يعني الكشف عن اهتمام المولى بملاكات الإلزام ، ولذلك أصدر إلزاما ظاهريّا للحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة.

وحينئذ نقول : إنّ الاحتمال الأوّل على فرض ثبوته فهو يثبت الحكم الواقعي ابتداء ، فتكون المنجّزيّة لذات التكليف والبراءة الجارية هنا تؤمّن المكلّف من هذه الناحية.

بينما الاحتمال الثاني على فرض ثبوته فهو يثبت الحجّة والمنجّز الشرعي الظاهري ، والذي يعني أنّ ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظر المولى من غيرها ، فالمنجّزيّة هنا لأجل هذا الأمر ، والبراءة عند ما يراد إجراؤها هنا تؤمّن عن المنجّزيّة وعن التكليف بهذا المعنى ، أي أنّ المولى لا يهتمّ باحتمال التكليف ، وإنّما المهمّ بنظره ملاكات الترخيص والتسهيل.

ص: 43

ولهذا كان للبراءة الثانية فائدة سواء جرت البراءة الأولى أم لا ، وليست لغوا وتحصيلا للحاصل أو لا أثر لها ، بل تفيد شيئا جديدا لم يكن موجودا حين إجراء البراءة الأولى ، وهو التأمين لنفي الاهتمام المولوي بملاكات الإلزام ، فالتأمين الثاني ليس نفس الأوّل ، والتأمين الأوّل لا يلزم منه حصول التأمين الثاني.

ومن هنا نتعقّل أن يقول الشارع : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وعلم بعدم قيام الحجّة الظاهريّة عليه فهو في سعة منه ، بينما يقول في مجال آخر : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وشكّ أو لم يعلم بعدم الحجّة الظاهريّة عليه فاللازم عليه الاحتياط.

وحينئذ فالمراد من إجراء البراءة الثانية التأمين من جهة الاحتياط الذي من الممكن أن يكون ثابتا عند الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة ، بينما البراءة الأولى تفيد التأمين من جهة نفس الحكم الواقعي ، فهناك منجّزيّتان محتملتان إحداهما منجّزيّة الحكم الواقعي والأخرى منجّزيّة الاحتياط الظاهري والبراءة الأولى تجري للتأمين عن المنجّزيّة الأولى ، والبراءة الثانية تجري للتأمين عن المنجّزيّة الثانية ، ولا تلازم بين المنجّزيّتين وليست إحداهما نفس الأخرى كما هو واضح.

ولكنّ التحقيق مع ذلك : أنّ إجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجّيّة المشكوكة ، وذلك بتوضيح ما يلي :

أوّلا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ؛ لأنّ موضوعهما معا الشكّ في الواقع ، خلافا للبراءة عن الحجّيّة المشكوكة فإنّها ليست في درجتها كما عرفت.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ البراءة الأولى تغني عن البراءة الثانية ، فإذا جرت البراءة لنفي التكليف الواقعي المشكوك كفى ذلك في إثبات التأمين ونفي المنجّزيّة ، وبالتالي نفي الحجّيّة المشكوكة ، ولا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي الحجّيّة المشكوكة.

والدليل على ذلك يتّضح من مجموع أمور :

الأوّل : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ، فهنا دعويان :

ص: 44

أمّا أنّهما حكمان ظاهريّان فلأنّ البراءة والحجّيّة المشكوكة كلاهما يعالجان الشكّ ويحدّدان الموقف والوظيفة العمليّة للمكلّف في طرف الشكّ ، وأمّا أنّهما عرضيّان فلأنّ موضوعهما معا واحد ، وهو الشكّ في الحكم الواقعي ؛ لأنّ البراءة الأولى يراد إجراؤها عن الحكم الواقعي المشكوك للتأمين عنه ، والحجّيّة المشكوكة يراد بها على فرض ثبوتها تنجيز الحكم الواقعي المشكوك أيضا ، فهما إذا حكمان ظاهريّان عرضيّان.

وأمّا البراءة الثانية فهي حكم ظاهري ولكنّها ليست في عرض الحجّيّة المشكوكة ؛ وذلك لأنّ موضوعهما مختلف ، فالحجّيّة المشكوكة موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي كما تقدّم ، بينما البراءة الثانية موضوعها الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة على الحكم الواقعي المشكوك ، فهي إذا في طول الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّها متأخّرة رتبة عنها من حيث الموضوع.

ثانيا : أنّ الحكمين الظاهريّين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعيّين ، سواء وصلا أم لا ، كما تقدّم في محلّه.

الأمر الثاني : أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة متنافية واقعا ، ولذلك كما أنّه يستحيل وجود حكمين واقعيّين على موضوع واحد كذلك يستحيل صدور حكمين ظاهريّين على موضوع واحد ، سواء وصلا معا إلى المكلّف أم لا ؛ وذلك لأنّ الشارع الحكيم لا يصدر منه تشريعين متنافيين على واقعة واحدة.

وهذا الأمر واضح في الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّه يلزم منه اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة والمصلحة والمفسدة على شيء واحد ، وأمّا في الأحكام الظاهريّة فلأنّها كما تقدّم تكشف عن الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في نظر الشارع عند الشكّ والاشتباه ، فيستحيل أن يكون المهمّ بنظره الإلزام والترخيص معا للتكاذب والتنافي بينهما.

ثالثا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي منافية ثبوتا للحجّيّة المشكوكة على ضوء ما تقدّم.

الأمر الثالث : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة بما أنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وفي عرض واحد ، كما تقدّم في الأمرين السابقين ، فهذا يعني أنّه يستحيل اجتماعهما ، ولذلك إذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر ، وعليه فإذا جرت البراءة الأولى

ص: 45

لنفي الحكم الواقعي المشكوك كان معناه أنّه يستحيل ثبوت الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّه على فرض ثبوتها سوف يثبت حكمان ظاهريّان عرضيّان على شيء واحد ، وهو مستحيل بمقتضى الأمر الثاني وتنافيهما - كما قلنا - ثبوتي أي بلحاظ مرحلة الواقع والتشريع سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

رابعا : أنّ مقتضى المنافاة أنّها تستلزم عدم الحجّيّة واقعا ونفيها.

الأمر الرابع : أنّ المنافاة بين البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة تستلزم أنّه إذا جرت البراءة عن الحكم الواقعي المشكوك كان من المستحيل ثبوت الحجّيّة المشكوكة واقعا ، أي أنّ ثبوت البراءة يقتضي نفي الحجّيّة المشكوكة واقعا ؛ للاستحالة المتقدّمة في الأمر الثاني والثالث.

خامسا : أنّ الدليل الدالّ على البراءة عن التكليف الواقعي يدلّ بالالتزام على نفي الحجّيّة المشكوكة.

الأمر الخامس : أنّ الدليل الذي يدلّ على البراءة كحديث الرفع مثلا أو الآيات الكريمة له مدلولان :

أحدهما : المدلول المطابقي وهو البراءة والتأمين والذي معناه أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ واقعا.

والثاني : المدلول الالتزامي وهو أنّ ملاكات الإلزام ليست هي الأهمّ بنظر الشارع في هذه الواقعة ، والذي معناه أنّ الشارع لم يصدر منه ما ينجّز الواقع ، فتكون الحجّيّة المشكوكة منفية بالمدلول الالتزامي لدليل البراءة.

وهذا يعني : أنّنا بإجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل نفي الحجّيّة المشكوكة ، فلا حاجة إلى أصل البراءة عنها وإن كان لا محذور فيه أيضا.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم هي : أنّنا إذا أجرينا البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك فسوف يثبت أوّلا التأمين ، والذي يعني أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ بنظر الشارع واقعا.

وسوف يثبت ثانيا أنّ الحجّيّة المشكوكة منتفية على أساس أنّ دليل البراءة يدلّ بالالتزام على أنّ ملاكات الإلزام ليست مهمّة بنظر الشارع ؛ ولأنّها تنافي ثبوت البراءة واقعا ؛ لأنّهما حكمان ظاهريّان عرضيّان ، وحينئذ لا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية عند

ص: 46

الشكّ في الحجّيّة المشكوكة ؛ إذ لا موضوع لهذه البراءة أصلا ؛ لأنّ هذه الحجّيّة قد انتفت مسبقا ، فلا معنى للشكّ فيها مجدّدا ، فيكون إجراء براءة ثانية للتأمين عن شيء غير ثابت أصلا.

ولذلك لا معنى ولا فائدة من البراءة الثانية لمحذور اللغويّة وانتفاء الموضوع.

وما ذكره السيّد الشهيد من أنّه لا محذور في إجرائها لكن لا حاجة لذلك فيه مسامحة واضحة.

ويمكن تصوير وقوع الأحكام الظاهريّة موردا للأصول العمليّة في الاستصحاب ، إذ قد يجري استصحاب الحكم الظاهري لتماميّة أركان الاستصحاب فيه وعدم تماميّتها في الحكم الواقعي ، كما إذا علم بالحجّيّة وشكّ في نسخها فإنّ المستصحب هنا نفس الحجّيّة لا الحكم الواقعي.

بعد أن عرفنا أنّ البراءة الثانية لا تجري عند الشكّ في قيام الحجّة لعدم إمكانيّة تصوير معقول لها ، إلا أنّه يمكن إجراء الاستصحاب في الأحكام الظاهريّة فيما إذا كانت أركانه تامّة فيها.

فمثلا إذا علم بقيام الحجّة الظاهريّة على الحكم الواقعي المشكوك ثمّ شككنا في نسخها ، فهنا يمكننا إجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري دون الواقعي.

وتوضيحه : أنّ الحكم الواقعي مشكوك ابتداء فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ لعدم تماميّة أركانه فيه ، بناء على القول بأنّ الاستصحاب لا يجري عند الشكّ في الشبهة الحكميّة.

وأمّا الحكم الظاهري فأركان الاستصحاب فيه تامّة ؛ لأنّه متيقّن سابقا ومشكوك لاحقا مع وحدة القضيّة فيهما ووجود الأثر العملي التنجيزي لهذا الاستصحاب ، فيجري استصحاب بقاء الحجّيّة عند الشكّ في نسخها (1).

ص: 47


1- طبعا النسخ معناه انتهاء سعة المجعول بلحاظ عمود الزمان ؛ لأنّ النسخ بمعناه الحقيقي محال على المولى ؛ لأنّه يلزم منه الجهل تعالى اللّه عن ذلك. فإذا علمنا أنّ الشارع جعل الحجّيّة لأمارة ما ثمّ شككنا في نسخ هذه الحجّيّة وعدمه فيجري استصحاب بقاء حجّيّتها ، ومن الواضح أنّ الحجّيّة حكم ظاهري إلا أنّ أركان الاستصحاب تامّة بلحاظها ، وأمّا بالنسبة للحكم الواقعي فهو مشكوك ابتداء ولا يقين سابق فلا يجري استصحابه.

ص: 48

1 - الوظيفة العمليّة

اشارة

في حالة الشكّ

1 - الوظيفة في حالة الشكّ البدوي

2 - الوظيفة في حالة العلم الإجمالي

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

4 - الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر

الوظيفة في حالة الشكّ البدوي

1 - الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ

2 - الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

ص: 49

ص: 50

الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ

اشارة

كلّما شكّ المكلّف في تكليف شرعيّ ولم يتأتّ له إقامة الدليل عليه إثباتا أو نفيا فلا بدّ من تحديد الوظيفة العمليّة تجاهه. ويقع الكلام أوّلا في تحديد الوظيفة العمليّة تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن أي تدخّل من الشارع في تحديدها ، وهذا يعني التوجّه إلى تعيين الأصل الجاري في الواقعة بحدّ ذاتها ، وليس هو إلا الأصل العملي العقلي.

ويوجد بصدد تحديد هذا الأصل العقلي مسلكان :

ذكرنا مرارا أنّ المكلّف الذي اختلطت عليه الملاكات ولم يميّز بينها نتيجة الشكّ والاشتباه ، لا بدّ له من الاستناد إلى أصل يحدّد له الموقف العملي تجاه هذا الواقع المشكوك من أجل التنجيز أو التعذير عنه ، وذكرنا أنّ الأصول العمليّة التي يلجأ إليها المكلّف على قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة العقليّة ، وهي التي يدركها العقل ويحكم بها على أساس إدراكه لثبوت حقّ الطاعة أو عدم ثبوته.

والآخر : الأصول العمليّة الشرعيّة وهي التي يجعلها الشارع لعلاج الشكّ وتحديد موقف المكلّف.

ومن خلال ما تقدّم ظهر لدينا أنّ الأصول العقليّة متقدّمة على الأصول الشرعيّة ، لأنّها موجودة في كلّ واقعة بحدّ ذاتها ، بينما الأصول الشرعيّة ليس من الضروري وجودها في كلّ واقعة.

فالبحث ينبغي إذا أن ينصبّ حول مقامين :

الأوّل : في تحديد الوظيفة العمليّة العقليّة ، أي الأصل الذي يحكم به العقل بقطع النظر عن وجود أصل شرعي إثباتا أو نفيا ، فيبحث عن مقتضى الأصل

ص: 51

الأوّلي بلحاظ الواقعة المشكوكة بحدّ ذاتها.

الثاني : في تحديد الوظيفة العمليّة الشرعيّة ، أي الأصل الذي جعله الشارع في الواقعة المشكوكة فقد يكون مطابقا للأصل العقلي وقد يكون مخالفا له.

ومن أجل تحديد الأصل العملي العقلي يوجد مسلكان :

المسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ، والذي يؤمّن بالبراءة كأصل أوّلي.

والمسلك المختار القائل بأنّ العقل يحكم بالاحتياط على أساس حقّ الطاعة للمولى.

وحينئذ لا بدّ من استعراض المسلكين لنرى ما هو الصحيح منهما ، فنقول :

1 - مسلك قبح العقاب بلا بيان :
اشارة

إنّ مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المسلك المشهور ، وقد يستدلّ عليه بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) من أنّه لا مقتضي للتحرّك مع عدم وصول التكليف ، فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا مقتضي لإيجاده وهو قبيح.

وقد عرفت في حلقة سابقة (2) أنّ هذا الكلام مصادرة ؛ لأنّ عدم المقتضي فرع ضيق دائرة حقّ الطاعة وعدم شمولها عقلا للتكاليف المشكوكة ؛ لوضوح أنّه مع الشمول يكون المقتضي للتحرّك موجودا ، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

المسلك الأوّل : هو المسلك المشهور القائل بأنّ العقل يحكم بقبح العقاب مع عدم البيان ، والذي مفاده أنّه مع عدم بيان التكليف للمكلّف يقبح عقابه على عدم التحرّك عنه فعلا أو تركا ، فيكون العقل حاكما بالتأمين ونافيا للعقاب مع عدم علم المكلّف بالتكليف ، وهو المطلوب.

وقد استدلّوا على ذلك بوجوه منها :

ص: 52


1- فوائد الأصول 3 : 365.
2- في بحث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الأوّليّة في حالة الشكّ.

الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه من أنّ التكاليف إنّما تكون محرّكة للمكلّف فيما إذا كانت واصلة إليه ، وأمّا وجودها الواقعي من دون وصول فلا يكفي للتحرّك ، كما هو الحال في الأمور التكوينيّة ، فإنّ الإنسان إذا علم بوجود الأسد في مكان فإنّه يتحرّك عنه فلا يقترب من المكان ، وأمّا إذا لم يعلم بوجوده فلن يتحرّك عنه ، بل يقتحم ذلك المكان ، وهذا يعني أنّ الوجود الواقعي ليس هو المحرّك ، بل المحرّك هو الوصول والعلم.

وفي مقامنا إذا لم يعلم المكلّف بالتكليف فلن يكون لديه مقتضي التحرّك عنه فعلا أو تركا ؛ لأنّ مقتضي التحرّك كما تقدّم هو الوصول والعلم ، والمفروض انتفاؤه هنا ، وحينئذ فإن عوقب على ترك التحرّك عمّا يقتضيه التكليف كان العقاب ثابتا من دون مقتضي لثبوته.

ومن الواضح أنّ ثبوت العقاب مع عدم ثبوت موجبه ومقتضيه قبيح ، إذ لازمه العقاب على ترك التحرّك عن تكليف لا يعلم بوجوده ، وهو محال صدوره من الشارع الحكيم ، وأمّا إذا علم بالتكليف ومع ذلك لم يتحرّك عنه فهو مستحقّ للعقاب ؛ لأنّه قد ترك التحرّك عن التكليف الواصل إليه والمعلوم عنده ، فيكون العقاب ثابتا لثبوت مقتضيه وموجبه ، وبالتالي لا يكون قبيحا.

وهكذا يتّضح أنّ التحرّك فرع وجود موجب ومقتضي التحرّك ، وأنّ استحقاق العقاب مترتّب على ذلك نفيا وإثباتا ، وأنّ وصول التكليف والعلم به هو الذي يحقّق مقتضي التحرّك ، ومع عدم الوصول والعلم لا يكون مقتضي التحرّك واستحقاق العقاب ثابتا.

والجواب عنه : أنّه مصادرة على المطلوب ، أي أنّ الدليل عين المدّعى.

وتوضيح ذلك : أنّ العقل عند ما يواجه واقعة مشكوكة ينصبّ حكمه حول وجود حقّ الطاعة أو عدم وجوده ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى بحكم مولويّته هل يشمل كلّ انكشاف للتكليف ، أم يختصّ بالتكاليف المعلومة فقط؟

فإن قيل باختصاصه بالتكاليف المعلومة كان معناه أنّ دائرة حقّ الطاعة ضيقة ، وإن قيل بشموله كان معناه أنّ دائرة حقّ الطاعة واسعة.

وحينئذ نقول : إنّ وجود مقتضي التحرّك وعدم وجوده فرع تحديد دائرة حقّ

ص: 53

الطاعة سعة وضيقا في مرحلة سابقة ، فإن قيل بسعتها وشمولها للتكاليف المشكوكة أيضا كان مقتضي التحرّك موجودا ، وبالتالي يحكم العقل باستحقاق العقاب على ترك التحرّك ، وإن قيل بضيقها واختصاصها بالتكاليف المعلومة فمقتضى التحرّك عند الشكّ وعدم العلم غير موجود فلا استحقاق للعقاب.

وهكذا يتّضح أنّ مصبّ البحث إنّما هو في تحديد دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا ، لنرى أنّ مقتضي التحرّك موجود أم لا.

وأما الاستدلال على البراءة بأنّ مقتضي التحرّك غير موجود في التكاليف المشكوكة من دون البحث عن دائرة حقّ الطاعة أوّلا فهو مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ المطلوب وهو إثبات البراءة بعدم التحرّك مترتّب على ثبوت ضيق دائرة حقّ الطاعة والتي لم يسلّم بضيقها بعد.

الثاني : الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة ، وقد تقدّم (1) أيضا الجواب بالتمييز بين المولويّة المجعولة والمولوية الحقيقية.

الدليل الثاني : الاستدلال على البراءة وكونها الحكم الأوّلي عند الشكّ في التكليف بما هو متعارف عند العقلاء ، فإنّ سيرة العقلاء انعقدت على أنّ كلّ آمر يتعامل مع مأموريه وفق الطرق والأساليب التي من شأنها أن تنجّز التكليف على مأموره ، بحيث يستحقّ العقاب على مخالفة التكليف.

والعقلاء يرون أنّ الآمر لا يحقّ له أن يعاقب عبيده على مخالفة تكليف لم يصلهم فينجّز بشأنه ، بل يرونه قبيحا وظلما ، وهذا يعني أنّ القاعدة من المرتكزات العقلائيّة مضافا إلى كونها عقليّة أيضا.

وعلى هذا فتكون التكاليف المعلومة والواصلة هي المنجّزة والتي يستحقّ المكلّف العقاب على مخالفتها ؛ لأنّ الشارع قد أمضى هذا البناء العقلائي إذ لم يعلم بوجود طريق خاصّ للشارع في هذا الصدد.

والجواب : أنّ هذا مبني على كون المولويّة الشرعيّة كالمولويّة العرفيّة ، إلا أنّه غير تامّ ؛ وذلك :

أوّلا : أنّ نفس المولويّة مفهوم كلّي مشكّك وليست بمعنى واحد ، أي أنّها تختلف

ص: 54


1- في نفس البحث من الحلقة الثانية وتحت نفس العنوان.

سعة وضيقا من وال إلى آخر ، فيحقّ لكلّ وال أن يضع الطريق الذي يختاره حجّة ومنجّزا بينه وبين مأموريه ، ولذلك يعقل أن يتّفق مع مواليه على أنّ كلّ انكشاف واحتمال للتكليف فهو منجّز عليهم ، وبالتالي فكلّ من يخالف سوف يكون مستحقّا للعقاب بحكم العقل وإن لم يكن التكليف معلوما لديه.

وبهذا يكون حقّ المولويّة مختلفا سعة وضيقا في نفسه ، فلا بدّ أن نبحث في أنّ الشارع هل جعل حقّ مولويّته وطاعته واسعا ليشمل كلّ انكشاف ، أم جعله ضيّقا مختصّا بالتكاليف المعلومة فقط؟

وثانيا : أنّ نفس قياس المولويّة العرفيّة على المولويّة الحقيقيّة قياس مع الفارق ؛ وذلك لأنّ المولويّة العرفيّة مجعولة من الغير بينما المولويّة الحقيقيّة ذاتيّة للشارع بحكم خالقيّته لنا.

وحينئذ يمكن أن تكون المولويّة المجعولة في حدود التكاليف المعلومة فقط ، بينما تكون المولويّة الحقيقيّة الذاتيّة شاملة لكلّ انكشاف للتكليف.

والخلط بين المولويّتين هو الذي أدّى إلى قياس إحداهما على الأخرى.

الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه (1) من أنّ كلّ أحكام العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي الأوّلي بقبح الظلم وحسن العدل. ونحن نلاحظ أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبوديّة ، وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحقّ منه الذمّ والعقاب ، وأنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زىّ العبوديّة ألاّ يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلما للمولى ، وعليه فلا موجب للعقاب بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.

الدليل الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه من إرجاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى قاعدة العدل والظلم العقليّين.

وبيانه : أنّ العقل يحكم بقبح الظلم وحسن العدل ، وكلّ ما يدخل فيهما يحقّق الصغرى ، فالكذب ظلم إذا فهو قبيح ، والصدق والإحسان عدل فهما حسن ، وهكذا.

ص: 55


1- نهاية الدراية 4 : 84.

وهذه القاعدة من مدركات العقل العملي القاضي بما ينبغي أن يكون عند ما يواجه قضيّة ما.

وفي مقامنا نقول : إنّ المكلّف إذا خالف ما قامت عليه الحجّة من تكاليف المولى كان خارجا عن زيّ العبوديّة فيكون ظالما لمولاه ، حيث لم يطعه حيث تجب طاعته ، فيكون مستحقّا للذمّ والعقاب ؛ لأنّه فعل قبيحا وظلما ، وأمّا إذا خالف ما لم تقم الحجّة عليه من تكاليف كأن فعل في مورد الحرمة أو ترك في مورد الوجوب مع عدم قيام الدليل والحجّة عليهما ، فلا يكون خارجا عن زيّ العبوديّة ولا يكون ظالما لمولاه ، لأنّه ليس من رسم العبوديّة أن يطيع العبد مولاه فيما لا يعلمه من تكاليف أو يخالفه في تكاليفه الواقعيّة الثابتة في نفس الأمر واللوح المحفوظ مع جهله بها ، ولذلك لا تكون مخالفته هنا ظلما ولم يفعل قبيحا ، بل يقبح حينئذ عقابه وذمّه.

فإذا ثبت ذلك ظهر أنّه ما لم يقم البيان والعلم لدى المكلّف على التكاليف فلا يكون تركه ومخالفته الواقعيّة مع عدم وصولها إليه ظلما وقبحا ، بل الظلم والقبح أن يؤاخذ على ذلك ويعاقب.

وبهذا ظهر أنّ مرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى كونها فردا ومصداقا للقضيّة العقليّة التي يدركها العقل العملي من حسن العدل وقبح الظلم ، بحيث يدور الأمر حول تحقّق الظلم وعدم تحقّقه.

والتحقيق : أنّ ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموما ، وأنّها كلّها تطبيقات له ، وإن كان هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحقّقين إلا أنّه لا محصّل له ؛ لأنّنا إذا حلّلنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه ، وهذا يعني افتراض ثبوت حقّ في المرتبة السابقة ، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي ، فلو لا أنّ للمنعم حقّ الشكر في المرتبة السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره ، فكون شيء ظلما وبالتالي قبيحا مترتّب دائما على حقّ مدرك في المرتبة السابقة ، وهو في المقام حقّ الطاعة.

فلا بدّ أن يتّجه البحث إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف

ص: 56

الواصلة بالوصول الاحتمالي ، أو يختصّ بما كان واصلا بالوصول القطعي ، بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرّد ثبوته واقعا ولو لم يصل بوجه؟

والتحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال أن يقال : إنّ الادّعاء المذكور من أنّ الأساس للأحكام العقليّة هو قبح الظلم ، وأنّ كلّ الأحكام العقليّة التي يدركها العقل العملي ترجع في عمومها إلى كون الظلم متحقّقا أم لا ، بمعنى أنّ كلّ الأحكام العقليّة تكون تطبيقات للظلم فإذا ثبت كونها مصداقا له كانت قبيحة ، وإلا فلا ، فهذا الادّعاء على شهرته بين الأصوليّين وغيرهم إلا أنّه لا معنى محصّل له.

وبيانه : أنّ قبح الظلم الذي هو الأساس في الأحكام العقليّة من القضايا البديهيّة المسلّمة ، إلا أنّ مفهوم الظلم نفسه عبارة عن الاعتداء على حقّ الغير أو سلب الغير حقّه ، وهذا يفترض مسبقا ثبوت الحقّ للغير ليكون سلبه والاعتداء عليه ظلما وبالتالي قبيحا.

وحينئذ نقول : إنّ الحقّ الثابت للمولى يكون الاعتداء عليه ظلما وقبيحا ؛ لأنّ هذا الحقّ ثابت للمولى بحكم مولويّته وخالقيّته وإنعامه على عبيده ، بحيث لزمهم الشكر على ذلك بحكم العقل وترك الشكر يعتبر ظلما وقبحا ، وهذا كلّه واضح ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ هذا الحقّ الثابت للمولى والذي أدركه العقل العملي ما هو؟

والجواب : أنّ هذا الحقّ هو لزوم الطاعة للمولى على عبيده شكرا منهم له على خلقه وإنعامه.

وحينئذ لا بدّ أن ينصبّ البحث حول تحديد دائرة هذا الحقّ لنرى ما هو الواجب على العبيد التزامه وأداء مراسم الشكر والطاعة فيه؟

وبهذا يتّجه البحث مجدّدا إلى أنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى هل دائرته تختصّ في لزوم إطاعته بما علم المكلّف من التكاليف أي التكاليف الواصلة للمكلّف عن طريق القطع فقط ، أو أنّها تشمل كلّ ما يحتمله المكلّف من تكاليف للمولى أي التكاليف المنكشفة لديه ولو بنحو الاحتمال؟

فإن قيل بالأوّل ثبت أنّ العقاب مع عدم البيان ووصول التكليف لدى المكلّف قبيح وظلم ، وإن قيل بالثاني لم يكن عقابه على ترك ما يحتمله وجوبه أو فعل ما

ص: 57

يحتمل حرمته قبيحا وظلما وإن لم يكن عالما به ؛ لأنّ المفروض على هذا الاحتمال أنّ حقّ الطاعة يشمل كلّ انكشاف وأنّ العبد مطالب بالإطاعة في ذلك.

وهكذا يكون هذا الدليل كالدليل السابق في كونه مصادرة على المطلوب ، إذ الدليل عين المدّعى المتنازع فيه والذي لم يفرغ عنه بعد.

الرابع : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (1) أيضا تعميقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على أساس مبنىّ له في حقيقة التكليف ، حاصله : أنّ التكليف إنشائي وحقيقي ، فالإنشائي ما يوجد بالجعل والإنشاء وهذا لا يتوقّف على الوصول ، والحقيقي ما كان إنشاؤه بداعي البعث والتحريك وهذا متقوّم بالوصول ؛ إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرّد إنشائه باعثا ومحرّكا ، وإنّما يكون كذلك بوصوله ، فكما أنّ بعث العاجز غير معقول كذلك بعث الجاهل.

وكما يختصّ التكليف الحقيقي بالقادر كذلك يختصّ بمن وصل إليه ليمكنه الانبعاث عنه ، فلا معنى للعقاب والتنجّز مع عدم الوصول ؛ لأنّه يساوق عدم التكليف الحقيقي ، فيقبح العقاب بلا بيان لا لأنّ التكليف الحقيقي لا بيان عليه ، بل لأنّه لا ثبوت له مع عدم الوصول.

الدليل الرابع : ما ذكره المحقّق الأصفهاني كتعميق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، مستندا في ذلك على أساس مبنى له في تفسير حقيقة التكليف والحكم ، وحاصله أن يقال : إنّ التكليف أو الحكم الواقعي على قسمين :

الأوّل : الحكم الإنشائي ، ويراد به الحكم الذي يجعل وينشأ في عالم التشريع والواقع واللوح المحفوظ ، وهذا الحكم يشترك فيه العالم والجاهل والغافل والملتفت ، وهذا الحكم في هذه المرتبة لا يتوقّف ثبوته على وصوله لدى المكلّف كما هو واضح ، بل هو ثابت بمجرّد جعله وإنشائه.

الثاني : الحكم الحقيقي ، وهو الحكم الذي ينشأ ويجعل بداعي البعث والتحريك ، وهذا الحكم يتقوّم بالوصول إلى المكلّف ؛ لوضوح أنّ البعث والتحرّك من المكلّف لا يتحقّق إلا بأن يكون التكليف واصلا وفعليّا ، ولا يكفي مجرّد إنشائه وجعله لتحقّق التحرّك والبعث خارجا.

ص: 58


1- نهاية الدراية 4 : 83.

وحينئذ نقول : إنّ الحكم الحقيقي والتكليف مقيّد عقلا بالقدرة عليه ، ولذلك لا يعقل تكليف العاجز غير القادر على البعث والتحرّك ؛ لأنّه طلب للمحال وهو محال ، وكذلك يكون التكليف مقيّدا بمن وصل إليه التكليف ؛ لأنّ من لم يصل إليه التكليف لا يمكنه التحرّك والانبعاث ، ففعليّة الحكم الواقعي الحقيقي مقيّدة بوصول الحكم والتكليف لدى المكلّف ، فإذا لم يصل إليه فلا معنى لذمّه وعقوبته ؛ لأنّه يكون عقابا على ترك التحرّك والانبعاث مع عدم وصول التكليف إليه ، والذي هو الداعي للتحرّك والانبعاث.

وبتعبير آخر : أنّ التكليف مع عدم وصوله لا يكون منجّزا على المكلّف ، وبالتالي لا يكون فعليّا فلا تحرّك ولا انبعاث إذ لا مقتضي لهما ، وعليه فالعقاب على المخالفة في هذا المورد قبيح كما هو الحال في مخالفة العاجز وعدم تحرّكه ، فإنّ عقابه قبيح.

إلا أنّ قبح العقاب هنا لا لأجل أنّه لا بيان للتكليف ؛ إذ البيان الواقعي للتكليف ثابت في مرحلة الإنشاء كما تقدّم ؛ لأنّ الحكم محفوظ بحقّ العالم والجاهل كما قلنا ، بل لا عقاب على المخالفة ؛ لأنّه لا تكليف أصلا على من لم يصل إليه الحكم ؛ لأنّنا قلنا : إنّ الحكم الحقيقي هو المتقوّم بالوصول ، فمع عدم الوصول لا تكليف حقيقة ، بمعنى أنّ الداعي الذي من أجله كان الحكم غير متحقّق ، إذ لا بعث ولا تحريك وهما أساس الحكم الحقيقي ، فمع عدمهما ينعدم الحكم الحقيقي ويبقى الحكم الإنشائي.

غير أنّ الحكم الإنشائي لا يفيد ؛ لأنّه لم يجعل بداعي البعث والتحريك ، فعدم انبعاث وتحرّك المكلّف لأجل أنّ الحكم الموجود هو الحكم الإنشائي وهو لم يجعل بداعي التحرّك والبعث ، والحكم الذي فيه هذا الداعي هو الحكم الحقيقي ، وهذا متقوّم بالوصول ، فمع عدم وصوله لا يثبت التحرّك والبعث ، وبالتالي ينتفي ثبوت هذا الحكم الحقيقي.

والحاصل : أنّ العقل يحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلّف لا من ناحية قبح العقاب بلا بيان ، إذ البيان موجود واقعا بالحكم الإنشائي ، بل لأنّه لا تكليف حقيقة إذ لا وصول للحكم كما هو المفروض.

ص: 59

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ حقّ الطاعة إن كان شاملا للتكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي فباعثيّة التكليف ومحرّكيّته مولويّا مع الشكّ معقولة أيضا ؛ وذلك لأنّه يحقّق موضوع حقّ الطاعة.

وإن لم يكن حقّ الطاعة شاملا للتكاليف المشكوكة فمن الواضح أنّه ليس من حقّ المولى أن يعاقب على مخالفتها ؛ لأنّه ليس مولى بلحاظها ، بلا حاجة إلى هذه البيانات والتفصيلات.

وهكذا نجد مرّة أخرى أن روح البحث يجب أن يتّجه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ الوصول الذي يتقوّم به الحكم الحقيقي ما المراد منه؟ هل المراد منه الوصول القطعي أو الوصول الأعمّ منه ومن الاحتمالي الذي يجتمع مع الشكّ أيضا؟

فإن قيل : إنّ الوصول معناه مطلق الوصول الأعمّ من القطعي والاحتمالي ، فهذا يعني أنّ المحرّكيّة والباعثيّة التي يجعل التكليف من أجلها موجودة في حالة الشكّ في التكليف واحتماله ؛ لأنّه بحسب الفرض يكون الوصول موجودا باحتمال التكليف ، وحينئذ يكون المطلوب من المكلّف التحرّك والانبعاث عمّا يقتضيه الوصول الاحتمالي للتكليف ، وبالتالي يكون مستحقّا للعقوبة على مخالفته لهذا الاحتمال فلا يكون عقابه قبيحا ؛ وذلك لأنّ موضوع حقّ الطاعة ثابت ومتحقّق بالوصول الاحتمالي ، فالعقاب كان حقّا للمولى ؛ لأنّه يعقل على هذا الفرض إيجاد الباعثيّة والمحرّكيّة المولويّة في فرض الوصول الاحتمالي ما دام حقّ الطاعة شاملا للتكاليف الواصلة بمطلق الوصول الشامل للشكّ والاحتمال ، وبهذا لا يكون الاستدلال المذكور تامّا.

وأمّا إن قيل بأنّ الوصول معناه الوصول القطعي للتكليف بحيث لا يشمل الظنّ والشكّ والاحتمال ، كان معناه أنّ حقّ الطاعة موضوعه التكاليف المقطوعة فقط ولا يشمل غيرها ، أي أنّ حقّ الطاعة لا يطال هذه التكاليف المحتملة والمشكوكة ، فهي خارجة تخصّصا.

وحينئذ يكون العقاب على مخالفة التكاليف المشكوكة قبيحا ؛ لا لأنّه لا بيان ولا

ص: 60

علم أو لا ثبوت للتكليف ، بل لأنّه لا حقّ للمولى على عبده في أن يطيعه في هذه الموارد ؛ لأنّها خارجة عن موضوع حقّ الطاعة تخصّصا ، وبالتالي لا تحتاج إلى هذا الاستدلال والتفصيلات السابقة.

ومن هنا يظهر أنّ الأساس في هذا البحث هو أنّ حقّ الطاعة هل دائرته واسعة فتشمل كلّ انكشاف وكلّ وصول للتكليف ، أم أنّ دائرته ضيّقة ومختصّة بالانكشاف والوصول القطعي فقط؟

وهذا يفترض أن ينصبّ البحث حول تحديد دائرة هذا الحقّ قبل الاستدلال المذكور ؛ لأنّ تحديده يغنينا عن كلّ هذه الاستدلالات.

وثانيا : أنّ التكليف الحقيقي الذي ادّعي كونه متقوّما بالوصول ، إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب مثلا الناشئ من إرادة ملزمة للفعل ومصلحة ملزمة فيه ، فمن الواضح أنّ هذا محفوظ مع الشكّ أيضا حتّى لو قلنا بأنّه غير منجّز وأنّ المكلّف الشاكّ غير ملزم بامتثاله عقلا ؛ لأنّ شيئا من الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول.

وإن أراد به ما كان مقرونا بداعي البعث والتحريك فلنفترض أنّ هذا غير معقول بدون وصول ، إلا أنّ ذلك لا ينهى البحث ؛ لأنّ الشك في وجود جعل بمبادئه من الإرادة والمصلحة الملزمتين موجود على أي حال ، حتّى ولو لم يكن مقرونا بداعي البعث والتحريك ، ولا بدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز أو لا؟

وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاح ، ولا يغني عن بحث واقع الحال.

ويرد عليه ثانيا : أنّ التكليف الحقيقي الذي ذكر أنّه متقوّم بالوصول ما هو المراد به؟

فإن كان المقصود من التكليف الحقيقي هو ذاك الجعل الشرعي الذي ينشئه الشارع على الموضوع بعد وجود المبادئ والملاكات والإرادة ، أي الحكم الناشئ عن وجود مصلحة ملزمة في الفعل مثلا كما في الوجوب وعن وجود ملاك ملزم وعن وجود شوق مولوي له ، فهذا المعنى من الواضح عدم كونه متقوّما بالوصول ، بل هو

ص: 61

ثابت بحقّ العالم والجاهل ومن وصل إليه التكليف ومن لم يصل إليه ؛ وذلك لأنّ هذه المبادئ والمصالح والملاكات ثابتة في عالم التشريع والواقع.

فالتكليف إذا ثابت واقعا لثبوت مناشئه سواء كان منجّزا على المكلّف بأن وصل إليه أم لم يكن منجّزا عليه بأن لم يكن واصلا إليه ، بل كان جاهلا أو شاكّا فيه ؛ إذ الجعل والإرادة والملاك والمصلحة يكفي في ثبوتها واقعا لحاظها من الشارع ولا مدخليّة لوصولها إلى المكلّف في ذلك.

فعلى هذا التقدير لا يتمّ ما ذكر من انتفاء التكليف الحقيقي عند عدم وصوله ؛ لأنّ الوصول لا مدخليّة له في ثبوت هذا التكليف بالتفسير الذي ذكرناه.

وإن كان المقصود من التكليف الحقيقي ما يكون ناشئا من مصلحة وملاك وشوق ولكن مقرونا بداعي البعث والتحريك أيضا ، فهذا لو سلّم وفرض معقوليّته وكونه متوقّفا على الوصول كما ذكر المحقّق الأصفهاني في استدلاله ، ولكن لا نسلّم أنّه إذا لم يصل التكليف بهذا المعنى فلا يكون ثابتا كما أراده المستدلّ ، بل من الممكن أن يكون ثابتا حتّى مع عدم وصوله ؛ وذلك لأنّ عدم وصول التكليف إنّما يقتضي انتفاء التحريك والبعث ، فلا بعث ولا تحريك للمكلّف نحو الفعل المتعلّق لهذا الحكم ، إلا أنّ المكلّف في هذه الصورة لا يزال يحتمل ويشكّ في أنّ المصلحة والملاك والمبادئ والإرادة التي هي المنشأ للتكليف الحقيقي هل لا تزال موجودة أم لا؟

وبتعبير آخر : أنّ انتفاء البعث والتحريك لا يلزم منه انتفاء المصلحة والإرادة ، بل قد تنتفيان وقد تثبتان حتّى على تقدير عدم كون التكليف محرّكا وباعثا.

وحينئذ لا بدّ أن ينصبّ البحث مجدّدا حول إمكانيّة منجّزيّة هذا الاحتمال وعدم منجّزيّته ، فهل يكفي الاحتمال للمبادئ والإرادة في التنجيز أو لا يكفي؟ فإنّ هذا بحث آخر مستقلّ عن السابق.

فإن قيل بعدم كفايته ثبت المطلوب للمستدلّ ، وإن قيل بكفايته لم يتمّ ما ذكره حتّى وإن كان هذا التكليف الذي انتفى منه البعث والتحريك لا يطلق عليه عنوان التكليف الواقعي ، فإنّ إطلاق هذه التسمية وعدم إطلاقها مجرّد اصطلاحات وصياغات اعتباريّة ، فوجودها وانتفاؤها لا ينهى البحث الذي طرحناه والذي مرجعه في حقيقة الأمر إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة ، بمعنى أنّ الاحتمال هل يكفي لتنجيز

ص: 62

التكليف أم لا بدّ من القطع به ليتنجّز؟ فيعود البحث إلى سعة أو ضيق حقّ الطاعة.

2 - مسلك حقّ الطاعة :

وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار ، ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولويّة الذاتيّة الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا ، وهذا من مدركات العقل العملي وهي غير مبرهنة ، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعة وضيقا.

وعليه فالقاعدة العمليّة الأوّليّة هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ على ما تقدّم في مباحث القطع ، فلا بدّ من الكلام عن هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعا ، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعيّة.

المسلك الثاني : هو مسلك حقّ الطاعة.

وهذا المسلك مفاده أنّ اللّه تعالى بحكم كونه خالقا ومنعما ورازقا فله على عباده وجوب الشكر وأداء الطاعة لكلّ أوامره ونواهيه ، وهذا الحقّ يؤمن به العقل العملي القاضي بما ينبغي أن يكون.

وبناء على هذا المسلك نؤمن بأنّ حقّ الطاعة للمولى ثابت في مطلق الوصول والانكشاف للتكاليف سواء كان بنحو القطع أم الظنّ أم الشكّ أم الاحتمال ، فإنّ التكليف المحتمل يجب على المكلّف امتثاله ويكون مستحقّا للعقاب عقلا على مخالفته ، وهذا يعني أنّ القاعدة الأوّليّة عند الشكّ البدوي هي قاعدة الاحتياط العقلي وأصالة اشتغال الذمّة ما لم يحرز المكلّف الفراغ اليقيني.

وهذا الحقّ الثابت للمولى مدرك للعقل العملي من دون برهان عليه ؛ لأنّه من شئون الخالق والمنعم فلا يحتاج إلى الاستدلال والبرهنة ، بل بمجرّد الإيمان بوجود الخالق والمنعم يحكم العقل بأنّ للمولى حقّ الطاعة على عباده.

وأمّا أنّ هذا الحقّ واسع وليس ضيّقا ، بمعنى أنّه يشمل كلّ انكشاف ووصول للتكاليف ، فهذا أيضا لا برهان عليه ؛ لأنّه من شئون المولى أيضا ، بمعنى أنّه إذا ثبتت المولويّة فيثبت معها أنّ الدائرة واسعة أيضا ، هذا كلّه على أساس ما يدركه العقل ؛ إلا أنّ هذا الحكم العقلي ليس مطلقا بل هو معلّق ومقيّد على عدم صدور الترخيص الجادّ

ص: 63

من المولى ؛ لوضوح أنّ المولى إذا رخّص جادّا في ترك ما يحتمل منجّزيّته فلا يحكم العقل بالمنجّزيّة ولزوم الإطاعة ؛ لأنّ العقل إنّما حكم بالمنجّزيّة حفاظا على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، فإذا المولى نفسه أجاز وتنازل عن حقه فينتفي موضوع حكم العقل ، وحينئذ يتّجه البحث حول ما إذا صدر هذا الترخيص الشرعي الجادّ أم لا ، وهذا البحث يسمّى على مسلكنا بالبحث عن البراءة الشرعيّة ، خلافا للمشهور الذي آمن بالبراءة العقليّة والذي تقدّم عدم تماميّته.

* * *

ص: 64

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

اشارة

ص: 65

ص: 66

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

والقاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ التي ترفع موضوع القاعدة الأولى هي البراءة الشرعيّة ، ويقع الكلام عن إثباتها في مبحثين :

أحدهما في أدلّتها ، والآخر في الاعتراضات العامّة التي قد توجّه إلى تلك الأدلّة بعد افتراض دلالتها.

بعد أن عرفنا القاعدة العمليّة الأوّليّة بحكم العقل هي أصالة الاشتغال والاحتياط العقلي ، والتي قلنا : إنّها معلّقة على عدم وجود الترخيص الجادّ من الشارع ، يقع الكلام في أنّ الشارع هل صدر منه ترخيص جادّ أم لا؟

والجواب : أنّ الترخيص الشرعي صدر منه ، وبالتالي يكون موضوع حكم العقل مرتفعا من باب رفع الموضوع حقيقة ، وبذلك نلتقي في النتيجة العمليّة مع ما ذهب إليه المشهور من البراءة.

والكلام في البراءة الشرعيّة يقع في بحثين :

الأوّل : حول الأدلّة التي ذكرت للاستدلال على البراءة الشرعيّة من الكتاب والسنّة.

الثاني : حول الاعتراضات العامّة التي تواجه هذه الأدلّة بعد الفراغ عن دلالتها.

أدلّة البراءة الشرعيّة

وقد استدلّ عليها بالكتاب الكريم والسنّة :

* * *

ص: 67

ص: 68

أدلّة البراءة من الكتاب

اشارة

ص: 69

ص: 70

أدلّة البراءة من الكتاب

أمّا من الكتاب الكريم فقد استدلّ بعدّة آيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) ، بدعوى أنّ اسم الموصول يشمل التكليف بالإطلاق كما يشمل المال والفعل ، فيدلّ على أنّه لا يكلّف بتكليف إلا إذا آتاه ، وإيتاء التكليف معناه عرفا وصوله إلى المكلّف ، فتدلّ الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.

استدلّ على البراءة الشرعيّة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فآيات عديدة :

منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وتوضيح الاستدلال بها على البراءة أنّ الآية وردت بعد إيجاب الإنفاق على الزوج لزوجته ، فموردها المال ، إلا أنّ اسم الموصول عامّ وهو بعمومه وإطلاقه يكون شاملا لكلّ من المال والفعل والتكليف ، فيكون المراد منه هو الجامع لا خصوص أحدها.

وحينئذ يكون المراد هو : أنّ اللّه لا يكلّف نفسا بمال إلا بقدر ما آتاها ، أي ما رزقها وأعطاها ، ولا يكلّف نفسا بفعل إلا بقدر ما أعطاها من قدرة عليه ، ولا يكلّف بتكليف إلا بتكليف آتاها ، وإتيان التكليف للنفس هو إيصاله إليها ؛ لأنّ كلّ شيء يؤتى بحسبه.

وحينئذ فإذا أوصل التكليف للنفس فتكون مكلّفة وتستحقّ العقاب على المخالفة ، وأمّا إذا لم يوصل التكليف إليها فلا تستحقّ العقاب على المخالفة ، وهذا يعني أنّه مع عدم البيان لا يكون التكليف واصلا ، فلا يستحقّ العقاب على مخالفته بل يكون قبيحا عقابه على ذلك.

ص: 71


1- الطلاق : 7.

والتكليف الوارد في الآية هو الكلفة ، بمعنى إدخال الشيء في العهدة والذمّة واشتغالها به.

والمورد وإن كان هو المال إلا أنّه لا مبرّر لتخصيص اسم الموصول المطلق به ، إذ المورد لا يخصّص الوارد.

والإيتاء الوارد في الآية يتضمّن الإعطاء ، فبالنسبة للمال يكون الإعطاء معناه الرزق ، وبالنسبة للفعل يكون القدرة ، وبالنسبة للتكليف يكون الوصول والإيصال ؛ لأنّ معنى الإيتاء لغة هو إعطاؤه الشيء وفيضه أيضا ، وهذا يعني الوصول بالنسبة للتكليف.

وقد اعترض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1) على دعوى إطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالفعل والمفعول في معنيين ؛ لأنّ التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟

اعتراض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه على هذا الاستدلال بما حاصله : أنّ إرادة الجامع بين المال والفعل والتكليف من اسم الموصول ، بحيث يكون مطلقا وشاملا لكلّ هذه المعاني يلزم منه محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وبيانه : أنّ النسبة بين الفعل ( يكلّف ) واسم الموصول ( ما ) بناء على كون المراد المال أو الفعل هي نسبة المفعول به ، أي نسبة الفعل إلى ما تعلّق به وانصبّ عليه ، بينما النسبة بين الفعل واسم الموصول بناء على إرادة التكليف هي نسبة المفعول المطلق ، أي نسبة الفعل إلى الحالة أو النوع التي صدر فيها الفعل من دون نظر إلى المتعلّق الذي انصبّ عليه الفعل.

وحينئذ نقول : إنّ نسبة المفعول به تختلف عن نسبة المفعول المطلق ، فإنّ الأولى نسبة شيء إلى شيء آخر يغايره ، حيث إنّ الكلفة المستفادة من الفعل ( يكلّف ) تغاير المال أو الفعل ، بينما الثانية نسبة الشيء إلى بعض حالاته وأنواعه أو كيفيّته فهي من نسبة الشيء إلى نفسه ؛ لأنّ التكليف واحد في الفعل وفي اسم الموصول.

ص: 72


1- فرائد الأصول 3 : 21 - 22.

ومن الواضح أنّ الجمع بين هاتين النسبتين في استعمال واحد غير معقول ؛ لأنّه يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين في آن واحد ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ اللفظ عبارة عن آلة ومرآة للمعنى ، بحيث يفنى في المعنى ، فإن كان مرآة وفانيا في هذا المعنى فكيف يمكن إفناؤه مجدّدا أو كونه مرآة أخرى لمعنى آخر في آن واحد؟

وبهذا يظهر أنّ إرادة الجامع بين هذه المعاني يلزم منها محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى في آن واحد وهو غير معقول ، وعليه فلا بدّ أن يكون المراد من اسم الموصول أحد هذه المعاني ، وحيث إنّ المال هو مورد الآية فهو القدر المتيقّن وغيره مشكوك فيقتصر عليه ، فلا يتمّ حينئذ الاستدلال بالآية على البراءة.

وهناك جوابان على هذا الاعتراض :

الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي رحمه اللّه (1) من أخذ الجامع بين النسبتين.

ويرد عليه : أنّه إن أريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل ؛ لما تقدّم في مبحث المعاني الحرفيّة (2) من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي بين النسب ، وإن أريد بذلك افتراض نسبة ثالثة مباينة للنسبتين إلا أنّها تلائم المفعول المطلق والمفعول به معا ، فلا معيّن لإرادتها من الكلام على تقدير تصوّر نسبة من هذا القبيل.

الجواب الأوّل عن هذا الاعتراض ما ذكره المحقّق العراقي ، من كون اسم الموصول مستعملا في الجامع بين النسبتين أي المفعول به والمفعول المطلق كعنوان المفعول مثلا ، فإنّه ينطبق على كلا النسبتين ، فتكون إرادة المال والفعل والتكليف باعتبارها مصاديق وتعيّنات لهذا الجامع ، وبالتالي لا يكون اللفظ مستعملا إلا في معنى واحد لا أكثر وهو الجامع.

إلا أنّ هذا الجواب غير تامّ ؛ وذلك لأنّ هذا الجامع المراد استعمال اسم الموصول فيه ما هو المقصود منه؟

فإن أريد الجامع الحقيقي المنتزع من الأنواع المتغايرة ولكن يوجد بينها حيثيّة مشتركة ذاتيّة كما هو الحال في انتزاع الإنسان والحيوان من زيد وعمرو أو هما مع

ص: 73


1- مقالات الأصول 2 : 153.
2- من مباحث تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة.

الحصان والفرس ، فهذا الجامع لا يمكن تصويره في النسب ، وذلك لما تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة من كون كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ولا تنفكّ عنهما ، وإلا لم تتحقّق النسبة ، ولذلك لا يمكن تصوّر الجامع ؛ لأنّه يكون بعد إلغاء ما به الامتياز والإبقاء على ما به الاشتراك ، وفي عالم النسب كلّ نسبة تمتاز عن الأخرى بطرفيها وكلّ نسبة متقوّمة بطرفيها فما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك ، فإذا ألغينا الطرفين يعني إلغاء النسبة نفسها فالجامع الحقيقي غير معقول.

وكذا الحال بالنسبة للجامع العرضي فإنّه أيضا يحافظ على الحيثيّة المشتركة العرضيّة لا الذاتيّة ، كالبياض المنتزع من الثلج والحليب ونحوهما.

وإن أريد من الجامع افتراض وجود نسبة ثالثة مغايرة للنسبتين السابقتين ومباينة لهما ، ولكنّها في نفس الوقت تلائم كلا الأمرين من المفعول المطلق والمفعول به ، فهذه النسبة غير معقولة في نفسها ؛ لأنّها لمّا كانت مباينة ومغايرة للنسبتين كما هو المفروض فكيف تكون في نفس الوقت ملائمة لهما بحيث تنطبق عليهما أيضا؟!

ولو سلّم ذلك وفرض إمكان تصوّر هكذا نسبة في عالم الثبوت إلا أنّه لا دليل على إرادتها من اسم الموصول إثباتا ، إذ كما أنّ اسم الموصول يصلح للمفعول به والمفعول المطلق يصلح لهذه النسبة أيضا بحسب الفرض ، لكن ما هو الدليل والمعيّن الذي من خلاله يمكننا الجزم بأنّ اسم الموصول هنا مستعمل في هذه النسبة الثالثة ، مع أنّ المتيقّن هو استعماله في المال أي المفعول به ؛ لأنّه مورد الآية ، وهذا يجعل الآية ظاهرة فيه أو على الأقلّ ليس خارجا عن موردها ، فكيف يمكن الجمع بين إرادة هذه النسب كلّها من اسم الموصول؟

الثاني : وهو الجواب الصحيح وحاصله : أنّ مادّة الفعل في الآية هي الكلفة بمعنى الإدانة ، ولا يراد بإطلاق اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة ، فهو إذا مفعول به ، فلا إشكال.

والجواب الثاني ما هو الصحيح ، وحاصله : أنّ الاعتراض نشأ من تفسير مادّة الفعل الوارد في الآية بمعنى الحكم ، فإنّ مادّة الفعل هي التكليف حيث هو المصدر لفعل ( كلّف يكلّف ) ، والأصوليّون اعتادوا على التعبير عن الحكم الشرعي بالتكليف ، ومن هنا نشأ الاعتراض حيث فسّر اسم الموصول بما يشمل التكليف والمادّة هي

ص: 74

التكليف أيضا ، فصارت النسبة بين اسم الموصول والفعل نفسه نسبة الفعل إلى المفعول المطلق ، أي إلى طور أو نوع أو حالة أو كيفيّة من الفعل ، بينما شمول اسم الموصول للمال أو الفعل من باب المفعول به أي نسبة الفعل إلى المغاير.

وحينئذ وقع الإشكال بأنّه كيف يجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟

ولكنّ الصحيح أنّ مادّة الفعل الوارد في الآية والتي هي التكليف ليست بمعنى الحكم بل بمعنى الإدانة والتحميل ، والتكليف الوارد في اسم الموصول بمعنى الحكم ، وعليه فيكون اسم الموصول مستعملا في معنى واحد وهو نسبة المفعول به ، وبإطلاقه وعمومه يشمل المال والفعل والتكليف بمعنى الحكم.

ويكون المعنى حينئذ : أنّ اللّه لا يكلّف نفسا أي لا يدينها ولا يحمّلها إلا تكليفا أي حكما آتاها أي أوصله لها ، فليس المراد من مادّة الفعل واسم الموصول شيئا واحدا ليقال : إنّ النسبة بينهما هي المفعول المطلق ، بل المراد من أحدهما معنى يغاير المعنى المراد من الآخر ، فالنسبة هي المفعول به ؛ لأنّ المفعول المطلق نسبة الشيء إلى حالته أو نوعه ، بينما نسبة الفعل إلى المفعول به نسبة المغاير إلى المغاير.

ثمّ إنّ البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة : إن كانت بمعنى نفي الكلفة بسبب التكليف غير المأتي فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط إذا تمّ الدليل عليه ، فلا تنفع في معارضة أدلّة وجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتي فهي تنفي وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يدّعى من أدلّته. والظاهر هو الحمل على المورديّة لا السببيّة ؛ لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا ، فالاستدلال بالآية جيّد.

ثمّ بعد الفراغ عن استفادة البراءة من الآية الكريمة توجد عدّة بحوث لا بدّ من التعرّض لها :

البحث الأوّل : في النسبة بين البراءة والاحتياط.

وهنا لا بدّ من تحديد المعنى المستفاد من الآية الدالّ على البراءة ، فإنّه يوجد معنيان لاستفادة البراءة من نفي الكلفة في الآية هما :

الأوّل : أن يكون المراد من نفي الكلفة الذي هو معنى البراءة نفيها بسبب التكليف غير المأتي ، أي أنّه بسبب عدم إتيان التكليف للمكلّف فلا كلفة عليه ، بل يكون بريئا ،

ص: 75

فهذا المعنى لا يتنافى مع ثبوت الكلفة بسبب آخر كوجوب الاحتياط فيما لو تمّت أدلّته متنا وسندا ؛ لأنّه يكون سببا مستقلاّ لإثبات الكلفة غير السبب الأوّل المنتفي ، فيكون ثبوت الاحتياط غير معارض بالبراءة المستفادة من الآية ؛ لأنّها ثابتة بسبب عدم إتيان التكليف لا أكثر ، والكلفة الثابتة بالاحتياط كلفة مستقلّة ناشئة من سبب آخر غير الكلفة المنفية بالبراءة ، ولذلك لا تعارض بين البراءة والاحتياط ؛ لأنّ كلاّ منهما ينظر إلى جهة مغايرة للآخر.

الثاني : أن يكون المراد من نفي الكلفة أنّه في مورد عدم إيتاء التكليف لا كلفة ولا إدانة ، فهذا المعنى بنفسه ينفي وجوب الاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط يثبت الكلفة في مورد عدم إيتاء التكليف والبراءة تنفيها ، فكلاهما ناظران إلى موضوع واحد ، وهو أنّه في فرض عدم إيتاء التكليف ما هو الحكم؟

فالبراءة تقول : إنّه لا كلفة ولا إدانة بينما الاحتياط يقول : إنّه يوجد كلفة وإدانة ، فيقع التعارض بينهما حينئذ.

والحاصل : أنّنا إذا حملنا البراءة المستفادة من الآية على السببيّة كان الاحتياط ثابتا بلا معارض ، وإن حملناها على المورديّة كان الاحتياط والبراءة متعارضين.

والظاهر هو حمل البراءة ونفي الكلفة على المورديّة لا السببيّة.

ووجهه : أنّ الآية موردها المال والتكليف لا يكون بسبب المال وإنّما يكون في مورده ، فوجوب النفقة على الزوج ثابت في مورد المال لا بسبب المال ، أي أنّ المال ليس هو السبب في جعل التكليف على الزوج بالإنفاق وإنّما هو المورد لهذا الجعل ، وكذا الحال بالنسبة للفعل الذي يشمله اسم الموصول بإطلاقه ، فإنّ التكليف لا يكون بسبب الفعل وإنّما في مورده ، فيقال : إنّ فلانا مكلّف بالقيام بالعمل الفلاني فيما إذا كان قادرا على فعله أي في مورد قدرته لا في حال عجزه ، لا أنّ تكليفه بالقيام يكون بسبب الفعل.

وهكذا الحال بالنسبة للتكليف فإنّ الشارع لا يكلّف العبد ولا يدينه في مورد الجهل وعدم إيتاء التكليف ، وإن كان معنى السببيّة معقولا في نفسه ، إلا أنّ وحدة المراد والسياق في الجميع تقتضي الحمل على المورديّة.

وبهذا يظهر أنّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة بمعنى التأمين ونفي العقاب في

ص: 76

مورد عدم العلم بالحكم الواقعي جيّد ولا غبار عليه ، ولا يكون الاحتياط على تقدير تماميّة أدلّته رافعا للبراءة ، بل يكون معارضا لها ، وسيأتي في محلّه.

وبالنسبة إلى مدى الشمول فيها لا شكّ في شمولها للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة معا.

البحث الثاني : في كون البراءة جارية في الشبهات الوجوبيّة والتحريميّة معا.

وهنا لا شكّ في أنّ الآية تشمل كلا الموردين ؛ لأنّ المأخوذ في لسانها إنّما هو نفي الكلفة عند عدم إيتاء الحكم والحكم ينطبق على الوجوب والحرمة معا ، فلا مبرّر لتخصيصها بالوجوب أو الحرمة ؛ لأنّ لسانها عامّ ومطلق.

نعم ، بعض الأدلّة الأخرى للبراءة يختصّ بإحدى الشبهتين كما سيأتي ، حيث إنّ موردها ذلك ، وأمّا هذه الآية فهي ابتداء تثبت البراءة عند الجهل وعدم وصول التكليف ، وهذا يشمل كلا الشبهتين أي الوجوبيّة والتحريميّة.

بل للشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا ؛ لأنّ الإيتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع ليختصّ بالشبهات الحكميّة ، بل بمعنى الإيتاء التكويني ؛ لأنّه المناسب للمال والفعل.

البحث الثالث : في شمول البراءة للشبهات الموضوعيّة والحكميّة.

لمّا كانت هذه الآية تفيد جريان البراءة عند الشكّ في التكليف فقد يتصوّر اختصاصها بالشبهات الحكميّة فقط ؛ لأنّه فيها يشكّ بالتكليف ، دون الشبهات الموضوعيّة ، إلا أنّ الصحيح أنّ الشبهات الموضوعيّة أيضا يشكّ فيها بالتكليف. وبيان ذلك : تارة يشكّ المكلّف في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وعدمه ، فهنا يشكّ في الحكم والتكليف ، فيصدق عدم الإيتاء والوصول فتجري البراءة جزما.

وأخرى يشكّ في أنّ هذا المائع خمر أو لا ، فهذا شكّ في الموضوع ابتداء ولكنّه عمليّا ينتج منه الشكّ في الحكم ؛ لأنّه إن كان خمرا فهو حرام وإن كان ماء فهو حلال ، فيعود الشكّ إلى الحكم فتجري البراءة أيضا.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة في جريان البراءة فيهما عند الشكّ ، بل لا معنى للقول باختصاصها في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّ الشبهة الموضوعيّة يعود الشكّ فيها إلى الشكّ في الحكم.

ص: 77

مضافا إلى أنّ لسان الآية هنا هو أنّه مع عدم الإيتاء فلا كلفة ولا إدانة ، والإيتاء هنا ليس بمعنى الإتيان من الشارع بما هو شارع ليقال باختصاصه بالحكم ؛ لأنّه هو الذي يأتي من الشارع.

بل الإيتاء هنا هو الإيتاء التكويني ؛ لأنّ مورد الآية هو المال وإيتاء المال يعني رزقه للعبد في الخارج ، فلا يمكن أن يكون الإيتاء التكويني خارجا ؛ لأنّه القدر المتيقّن من الإيتاء في الآية.

وعليه ، فإمّا أن يكون المراد مطلق الإيتاء الشامل للتكويني والتشريعي ، وإمّا أن يكون خصوص الإيتاء التكويني ، ولا يمكن تخصيصها بالإيتاء التشريعي فقط ؛ لأنّ هذا بخلاف ظاهر الآية وموردها.

كما أنّ الظاهر عدم الإطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ؛ لأنّ إيتاء التكليف تكفي فيه عرفا مرتبة من الوصول ، وهي الوصول إلى مظانّ العثور بالفحص.

البحث الرابع : في اختصاص جريان البراءة بعد الفحص.

قد يقال : إنّ الآية مطلقة فهي تنفي الكلفة عند عدم إيتاء التكليف ، وهذا شامل لما إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم ولما إذا لم يفحص عنه.

إلا أنّ هذا الإطلاق يجب رفع اليد عنه ؛ وذلك لأنّ الإيتاء ليس معناه الإيصال المباشر للحكم ، بل معناه تشريع الحكم وإيصاله للمكلّف بنحو من أنحاء الوصول ، بأن يجعل في مظانّ العثور عليه كالكتاب والسنّة.

وهذا يعني أنّ المكلّف مطالب بالبحث عن التكليف في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فإذا وجده كان التكليف قد أتاه من الشارع ، وإن لم يجده فيتحقّق عدم الإيتاء.

وبتعبير آخر : أنّ العرف يرى أنّ الإيتاء الذي هو الوصول يكفي فيه مرتبة من مراتب الوصول والتي منها إيتاء التكليف في مصادره ومظانّه ، فتختصّ البراءة بعد الفحص.

ومنها : قوله سبحانه وتعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1).

وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة ( رسول ) على المثال للبيان.

الآية الثانية قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإنّ مفادها نفي

ص: 78


1- الإسراء : 15.

العذاب مع عدم بعث الرسول ، إلا أنّ الاستدلال بها على البراءة لا يتمّ إذا اقتصرنا على موردها وهو الرسول ؛ لأنّنا نريد أن نثبت البراءة بعد بعث الرسول لا قبله ، ولذلك يحمل الرسول فيها على مطلق البيان للتكليف ، إذ التكليف كما يأتي من الرسول كذلك يأتي من الإمام أيضا ومن الاحتياط ؛ لأنّه يصدق في مورد الاحتياط أنّه بعث وبيان التكليف.

وعليه فمع عدم بيان التكليف بأي نحو من أنحاء البيان ولو بالاحتياط ظاهرا تثبت البراءة وإلا فلا.

والبيان هنا كما يتمّ من الشرع يتمّ من العقل أيضا كما في الملازمات العقليّة ، كوجوب السورة أو حرمة الضدّ ونحو ذلك.

وقد يعترض على ذلك تارة بأنّ الآية الكريمة إنّما تنفي العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافي تنجّز التكليف المشكوك ، إذ لعلّه من باب العفو.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره من أنّ الآية إنّما يتمّ الاستدلال بها لو كان المراد من نفي العذاب قبل بعث الرسول ومطلق البيان هو نفي الاستحقاق للعذاب ، فيكون المراد أنّه من عدم بعث البيان فلا يستحقّ المكلّف العذاب.

إلا أنّ الآية يحتمل كونها ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لا نفي الاستحقاق ، بمعنى أنّه قبل بعث البيان يكون المكلّف مستحقّا للعذاب على المخالفة ، ولكنّ اللّه تعالى تفضّلا منه على عباده عفا عنهم العذاب فعلا ، وهذا يستلزم أن يكون التكليف المشكوك الذي لم يقم عليه البيان منجّزا بمنجّز سابق على أساس حكم العقل مثلا.

وحينئذ لا يتمّ الاستدلال ؛ إذ لعلّه لا يعفو عنهم بعد بعث الرسول ومطلق البيان ، وعلى الأقلّ يدور الأمر بين الاحتمالين ، فتكون مجملة وقدرها المتيقّن بعث الرسول خاصّة دون غيره ؛ لأنّه مورد الآية ، فلعلّه يعاقبهم بعد تماميّة البيان من حكم العقل أو بعد بيان الاحتياط مثلا.

وأخرى بأنّها ناظرة إلى العقاب الربّاني في الدنيا للأمم السالفة ، وهذا غير محلّ البحث.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري من أنّ الآية ناظرة إلى نفي العذاب

ص: 79

الدنيوي عن الأمم السابقة قبل بعث الرسل ، بمعنى أنّ اللّه لا يعذّب في الدنيا الناس قبل أن يبعث الرسل كما هو حال فرعون مثلا.

وهذا المعنى أجنبي عن محلّ الكلام ؛ لأنّ كلامنا في العذاب الأخروي عند مخالفة التكليف المشكوك ، وهذا لا نظر للآية فيه لا نفيا ولا إثباتا ، فلا يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّ المراد من البراءة التأمين ونفي العقاب في الآخرة لا في الدنيا.

هذا هو الظاهر من الآية بحسب سياقها ومقتضاها ، ولا أقلّ من الإجمال وهو يمنع من تماميّة الاستدلال أيضا.

والجواب على الأوّل : أنّ ظاهر النفي في الآية أنّه هو الطريقة العامّة للشارع التي لا يناسبه غيرها ، كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا معناه عدم الاستحقاق.

والجواب عن الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ ظاهر الآية نفي استحقاق العقاب لا مجرّد الفعليّة فقط ؛ وذلك لأنّ هذا التركيب : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... ) ظاهره أنّه ليس من طريقة الشارع ولا يتناسب وشأنه أن يعذّب الناس قبل إرسال الرسل إليهم ، أي أنّ التعذيب لا يتناسب وشأن الشارع ؛ لأنّه ليس من عادته وطريقته أن يعذّب قبل إرسال الرسل ، وإنّما عادته وطريقته والذي يتناسب وشأنه هو التعذيب بعد إتمام الحجّة وبعث الرسل ، وهذا يدلّ على أنّ الناس لا تستحقّ العقاب قبل البعث ؛ لأنّ استحقاقهم للعذاب والحال هذه يتنافى مع شأن ومسلكيّة الشارع.

ولو فرض أنّ الآية ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لم يكن هذا التعبير صحيحا ؛ لأنّه مع نفي الفعليّة فقط يكون الاستحقاق ثابتا أي أنّهم يستحقّون العذاب ، وهذا معناه أنّ من شأن الشارع ومن المناسب له أن يعذّبهم ولكنّه لم يفعل ذلك تفضّلا منه ورحمة ، وحينئذ ينبغي التعبير عن ذلك بنحو يدلّ على أنّهم يستحقّون وأنّ الشارع عفا عنهم ، وأمّا نفي العذاب بنحو مطلق فهو يدلّ عرفا على نفي العذاب من أساسه ، وأنّه لا يوجد ما يوجب العذاب حتّى يعذّبهم (1).

ص: 80


1- وممّا ينبّه على ذلك أنّ أمثال هذا التركيب يدلّ عرفا على نفي الشأنيّة والمناسبة كقولك : ما كنت لأعذّب عبدي على مخالفة فعل لم يصل إليه ، فهذا يدلّ على أنّه لا يستحقّ العذاب على المخالفة مع عدم وصول التكليف إليه لا أنّه يستحقّه إلا أنّ سيّده عفا عنه فقط.

ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثاني ؛ لأنّ النكتة مشتركة ، مضافا إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيويّة ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الأخروي ، إذ وردت في سياق : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (1) ، فإنّ هذا شأن عقوبات اللّه في الآخرة لا في الدنيا.

وأمّا الجواب على الاعتراض الثاني فهو أنّه لا معنى لنفي الشأنيّة والاستحقاق عن الأمم السابقة فقط ، بل هذا اللسان يشمل الأمم السابقة واللاحقة ؛ لأنّ نفي الاستحقاق والشأنيّة إنّما هو بلحاظ الناس جميعا ، ولا معنى لتخصيصه بفئة خاصّة دون أخرى ؛ لأنّ لازمه أنّ الشارع ليس من شأنه أن يعذّب الأمم السابقة ، وإنّما من شأنه أن يعذّب الأمم اللاحقة عند عدم بعث الرسل ، وهذا غير معقول على الشارع ؛ لأنّ طريقة الشارع والمناسب لشأنه إمّا العذاب وإمّا عدم العذاب ولا معنى لفرض طريقتين مختلفتين للشارع ، إحداهما بلحاظ الأمم السابقة والأخرى بلحاظ الأمم اللاحقة ، بل الشارع يعطي قانونا كلّيّا عامّا يشمل كلّ الناس في كلّ زمان ومكان وهو من السنن الإلهيّة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، فالآية تشمل جميع الناس.

والمنفي إن كان العذاب الدنيوي على فرض التسليم بذلك إلا أنّه لا معنى للوقوف عليه ؛ لأنّ عدم الشأنيّة والمناسبة كما ينفي العذاب الدنيوي ينفي العذاب الأخروي أيضا ، إذ لا فرق بينهما ، والنكتة فيهما واحدة وهي أنّ العذاب ليس من شأن المولى سواء كان في الدنيا أم في الآخرة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ ظاهر الآية وسياقها يدلّ على نفي العذاب الأخروي لا الدنيوي ؛ وذلك لأنّها وردت في سياق استعراض عدد من القوانين والسنن الإلهية من قبيل :

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) فإنّها ناظرة إلى أنّه في يوم القيامة والحساب لا تحاسب نفس عن نفس ، ولا تغني إحداهما عن الأخرى ، ولا تعاقب بدلا عنها ، وهذا السياق يتناسب مع العقوبات الأخرويّة لا الدنيويّة ، فيكون قوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) بمقتضى وحدة السياق أنّه لا يعذّب في الآخرة إلا بعد بعث الرسل.

ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله : ( وَما

ص: 81


1- فاطر : 18.

كُنَّا ) ، وهذا بنكتة إفادة الشأنية والمناسبة ، ولا يتعيّن أن يكون بلحاظ النظر إلى الزمان الماضي خاصّة.

ثمّ إنّ المنشأ لتوهّم أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي ونفيه عن الأمم السابقة هو ورود التعبير بالنفي بصيغة الماضي : ( وما كنّا ) حيث يحمل على الزمان الماضي ، ويقال : إنّه في الماضي لم نعذّب الناس إلا بعد بعث الرسل ، ولذلك حمل نفي العذاب عنهم على العذاب الدنيوي لا الأخروي ؛ لأنّه لم يأت زمانه بعد ، إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ، فإنّ هذا التعبير لا ينبغي حمله على الماضي خاصّة بل يشمل تمام الأزمنة ، وبالتالي يكون ناظرا إلى العذاب الأخروي ؛ لأنّنا قلنا : إنّ هذا التعبير كما هو شأن التعابير العرفيّة ينفي الشأنيّة والمناسبة ، وهذا يعني أنّ هذه الطريقة ليست من شأننا ولا تتناسب مع مقام الشارع ، فهي تفيد قانونا عامّا وكلّيّا يسري على تمام الناس في الماضي والحاضر والمستقبل ، فيكون العذاب المنفي ليس خصوص الدنيوي ، بل لعلّه مختصّ بالأخروي كما تقدّم.

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة (1) : من أنّ الرسول إنّما يمكن أخذه كمثال لصدور البيان من الشارع لا للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.

والتحقيق أن يقال : إنّه مع ذلك لا يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة ؛ وذلك لأنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف حالة عدم وصوله إلى المكلّف ، لا التأمين عنه عند عدم صدوره من الشارع فقط.

والآية الكريمة ناظرة إلى حالة الصدور فقط ، وتنفي استحقاق العذاب عند عدم صدور التكليف فقط ، وليس فيها نظر إلى حالة صدور التكليف من الشارع مع عدم وصوله إلى المكلّف مع توفّر الدواعي لوصوله ووجود المانع من ذلك ، ويدلّ على ذلك أنّ بعث الرسول يكون لبيان الأحكام فهو مثال لصدور الأحكام من الشارع كالكتاب ، فإذا لم يصدر الحكم من الشارع لا في الكتاب ولا في السنّة تجري البراءة ، وأمّا مع صدوره فيهما وعدم وصول الحكم إلى المكلّف لسبب ما فهذا لا تنظر إليه الآية.

ص: 82


1- في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

والذي ينفعنا في المقام نفي العذاب وإثبات البراءة والتأمين عند عدم وصول التكليف أو عند الشكّ في ذلك ؛ لأنّ كلّ الأحكام قد بيّنت من الشارع وصدرت عنه كما هو مفاد كثير من الآيات ، وهذا المفاد غير ظاهر من الآية كما تقدّم ، إذ قد يصدر الحكم ويكون البيان تامّا عليه ولكنّه لم يصل إلى المكلّف ، ففي هذه الحالة ما هو الحكم والتكليف ووظيفة المكلّف؟

ثمّ إنّ البراءة إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الدليل بمثابة الرسول أيضا.

النسبة بين البراءة والاحتياط بلحاظ هذه الآية :

ثمّ إنّه على تقدير الاستدلال بالآية على البراءة فيكون مفادها أنّه مع عدم إرسال الرسول الذي هو مطلق البيان تكون البراءة ثابتة ، وأمّا إذا ثبت البيان فالبراءة تنتفي لانتفاء موضوعها.

وحينئذ نقول : إذا تمّ الاستدلال من الأخبار على وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في التكليف فهذا يعني أنّ البيان قد تمّ من الشارع ؛ لأنّ البيان كما تقدّم أعمّ من البيان بلسان الرسول أو الإمام أو الاحتياط ، وهنا المفروض ثبوت الاحتياط فيكون موضوع البراءة منتفيا ، وهذا يعني أنّ الاحتياط مقدّم على البراءة ؛ لأنّه بيان وهي مقيّدة بعدم البيان بحسب الفرض.

والحاصل : أنّنا حتّى لو استفدنا البراءة من الآية إلا أنّها لا تقاوم ولا تعارض أدلّة الاحتياط على تقدير تماميّة هذه الأدلّة كما سيأتي في محلّه.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) ، إذ دلّ على أنّ عدم الوجدان كاف في إطلاق العنان.

الآية الثالثة : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ ... ) وهذه الآية مفادها تعليم النبيّ صلی اللّه علیه و آله كيفيّة المحاجّة مع اليهود الذين حرموا بعض المأكولات.

ص: 83


1- الأنعام : 145.

وحاصله : أن يواجههم بالاستدلال على نفي التحريم بأنّه لم يجد ما حرّموه على أنفسهم محرّما في الشريعة ، وهذا يعني أنّ عدم الوجدان للحكم يكفي للحكم بالإباحة والحلّيّة ، وأنّه لا إلزام من جهته وهذا معناه ثبوت البراءة والتأمين عن الحكم المشكوك بمجرّد عدم وجدانه في الشريعة ، وإلا لما صحّ استدلال النبي على عدم الحرمة بمجرّد عدم وجدان الحكم في الشريعة.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ عدم وجدان النبي صلی اللّه علیه و آله فيما أوحي إليه يساوق عدم الحرمة واقعا.

وهنا عدّة اعتراضات على الاستدلال بالآية ، هي :

الاعتراض الأوّل : أنّ عدم وجدان النبي للحكم مساوق لعدم صدوره من الشارع واقعا ، فإذا لم يجد النبي هذا الشيء محرّما في الشريعة فهذا يعني أنّه لم يصدر من الشارع مثل هذا التحريم ، فيكون نظرها إلى الواقع وأنّ هذا الشيء مباح أو حلال واقعا ، لا مجرّد جعل حكم ظاهري بالإباحة والحلّيّة على الشيء الذي لم يجده النبي في الشريعة.

وبتعبير آخر : أنّ عدم وجدان النبي معناه عدم صدوره وجعله ؛ لأنّه هو المبلّغ عن اللّه تعالى أحكامه ، فإذا لم يكن هذا الحكم موجودا بين يديه فهذا يعني أنّه لم يصدر من الشارع أصلا.

إذا فالآية أجنبيّة عن المطلوب ، إذ نحن نريد إجراء البراءة التي هي حكم ظاهري عند الشكّ في التكليف ، بينما الآية مفادها النفي الواقعي والإباحة والحلّيّة الواقعيّة لهذا الشيء بمجرّد عدم وجدان النبي له الكاشف عن عدم الصدور والجعل واقعا ، ومحلّ كلامنا في عدم الوصول إلى المكلّف.

وثانيا : أنّه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعا فعلى الأقلّ يساوق عدم صدور بيان من الشارع ، إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبي ، وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال اختفاء البيان؟

الاعتراض الثاني : أنّنا لو سلّمنا وتنزّلنا عن كون عدم الوجدان مساوقا لعدم الوجود الواقعي وقلنا بأنه يعني عدم الوصول ، إلا أنّه أيضا لا يتمّ الاستدلال بالآية

ص: 84

على البراءة ، وذلك للفرق بين عدم وجدان النبي وبين عدم وجداننا.

وهو أنّ عدم وجدان النبي للحكم لا مبرّر له إلا عدم صدور البيان بشأنه ؛ إذ لو صدر البيان من الشارع لوصل إلى النبي ؛ لأنّه هو المبلّغ لأحكام الشارع ، فمن البعيد أو من غير المعقول صدوره من اللّه تعالى وعدم وصوله إلى النبي فيكون عدم وجدان النبي مساوقا لعدم الصدور إن لم نقل بأنّه مساوق لعدم الوجود الواقعي.

إلا أنّ هذا المعنى لا يتحقّق بالنسبة إلينا دائما ؛ لأنّنا قد نشكّ في الحكم نتيجة عدم صدوره ، وأخرى نشكّ به نتيجة عدم وصوله بعد فرض صدوره من الشارع إجمالا ، والاحتمال الثاني هو الغالب في حقّنا ؛ لأنّ أحكام الشريعة تامّة ، فمع عدم وجداننا للحكم لا يعني هذا عدم صدوره ، بل لعلّه صدر من الشارع ولكنّه لم يصلنا لأجل ضياعه أو اختفائه علينا ، فعدم وجداننا أعمّ من عدم الصدور ؛ لأنّه يتلائم مع عدم الوصول أيضا ، بينما عدم وجدان النبي فهو على الأقلّ يتلاءم مع عدم الصدور إن لم نقل مع عدم الوجود الواقعي.

وعليه فلا يتمّ استفادة البراءة ؛ لأنّنا نريد بها التأمين عن الحكم المشكوك عند عدم وصوله أيضا ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.

وثالثا : أنّ إطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصل عملي قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا يرفع اليد عنها إلا بمخصّص واصل.

الاعتراض الثالث : أنّ الآية الكريمة من المحتمل أن تكون ناظرة إلى شيء آخر غير البراءة أو الإباحة الظاهريّة ، وذلك بأن يقال : إنّ الآية تفيد أنّ عمومات ما دلّ على الحلّيّة والإباحة الواقعيّة للمأكولات ولما أخرج من الأرض لا يرفع اليد عنها إلا مع وجود مخصّص قطعي واصل إلى المكلّف ، فيكون العامّ هو الحجّة لإفادة الحلّيّة والإباحة لا البراءة.

فمثلا قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (1) يدلّ على أنّ كلّ شيء مباح وحلال للإنسان إلا ما دلّ عليه الدليل الخاصّ القطعي ، ولا يرفع اليد عن هذا الدليل الاجتهادي لمجرّد الشكّ في المخصّص مع عدم وصوله

ص: 85


1- البقرة : 59.

القطعي ، فتكون الإباحة والحلّيّة الثابتة بهذا العموم إباحة وحلّيّة واقعيّة.

بينما المطلوب الاستدلال بالآية على الحلّيّة والإباحة والتأمين الظاهري عند عدم وجدان ما يصلح دليلا على الحكم المشكوك ، فالآية ناظرة إلى شيء آخر ولا أقلّ من احتمال ذلك فتكون مجملة ، وبالتالي لا يتمّ الاستدلال بها.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1).

وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الحلقة السابقة (2).

الآية الرابعة للاستدلال على البراءة ، قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ... ) بتقريب أنّ اللّه سبحانه وتعالى نفى الإضلال بعد الهداية حتّى يبيّن للناس.

والمعنى المتحصّل هو أنّ الإضلال والخذلان لا يكون إلا بعد البيان ، وأمّا قبل البيان فلا إضلال ولا عذاب ، وهذا يعني التأمين من العقاب مع عدم البيان.

وفي مقامنا إذا لم يبيّن التكليف لهم - وبيانه لهم يعني وصوله إليهم - فلا عقاب عليهم وهو يعني البراءة ، فالاستدلال تامّ.

يبقى الكلام في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل هي معارضة لأدلّة الاحتياط على فرض تماميّتها ، أو أنّ أدلّة الاحتياط مقدّمة وحاكمة عليها باعتبارها بيانا؟

وهذا الأمر مرتبط بتفسير قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) ، وهنا يوجد احتمالان في تفسير هذا الاتّقاء هما :

وما يتّقى إن أريد به ما يتّقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعيّة للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الآية الكريمة منوطة بعدم بيان الواقع ، وإن أريد به ما يتّقى ولو بعنوان ثانوي ظاهري كعنوان المخالفة الاحتماليّة كان دليل وجوب الاحتياط واردا على هذه البراءة ؛ لأنّه بيان لما يتّقى بهذا المعنى.

الاحتمال الأوّل : أن يكون المراد من قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) العنوان الأوّلي ، وحينئذ يكون المعنى : أنّ اللّه لا يعاقب ولا يخزي قوما إلا بعد أن يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّها هي التي يجب على الناس اتّقاؤها وعدم مخالفتها ، وذلك

ص: 86


1- التوبة : 115.
2- في بحث الأصول.

بالالتزام بها وامتثالها ، فإذا بيّن لهم هذه الأحكام ووصلت إليهم فمع مخالفتها يستحقّون العقاب ؛ لأنّهم خالفوا الأحكام الواقعيّة للمولى ومخالفتها توجب العقاب ، وأمّا إذا لم يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة التي يجب عليهم اتّقاؤها فمع المخالفة الواقعيّة لها في هذه الحالة لا يستحقّون العقاب ؛ لأنّه لا عقاب إلا على مخالفة الأحكام الواقعيّة ، فتكون البراءة المستفادة من الآية بناء على هذا التفسير سنخ براءة ثابتة في مورد عدم بيان الحكم الواقعي ، وعليه فتكون أدلّة الاحتياط على فرض تماميّتها معارضة لهذه البراءة ؛ لأنّ موضوعهما واحد وهو عدم وصول التكليف الواقعي.

وبتعبير آخر : أنّ البراءة ثابتة مع عدم البيان على الواقع والاحتياط أيضا على فرض تماميّته ثابت في هذا المورد فيتعارضان.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) ما يشمل العنوان الثانوي الظاهري أيضا ، فيكون المعنى أنّه مع عدم بيان الحكم الواقعي والحكم الثانوي المجعول في ظرف الشكّ في الواقع ، والذي هو حكم ظاهري طريقي ، تكون البراءة ثابتة ؛ إذ لا خزي ولا عقاب مع عدم بيان هذين النحوين من الحكم ، وأمّا مع بيان الحكمين الواقعي أو الظاهري فالعقاب والخزي ثابت.

أمّا العقاب على الأوّل فواضح ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب الامتثال والطاعة لتكاليف المولى الواقعيّة ، ويحكم باستحقاق العقاب على مخالفتها ؛ لكون المخالفة خروج عن زيّ العبوديّة وتعدّ على حدود المولى.

وأمّا العقاب على الثاني فلأنّه طريق كاشف عن الواقع فهو ينجّز الواقع ، وتكون المخالفة هنا احتماليّة لا قطعيّة ، إذ لعلّ هذا الحكم الظاهري مخطئ غير مصيب للواقع ؛ لما تقدّم في محلّه من أنّ الأحكام الظاهريّة قد تصيب وقد تخطئ بناء على مذهب التخطئة ، فيكون العقاب حينئذ ثابتا في مورد المخالفة القطعيّة بأن يبيّن الحكم الواقعي ويخالفه ، وثابتة أيضا في مورد المخالفة الاحتماليّة بأن يبيّن الحكم الظاهري ويخالفه.

وحينئذ تكون البراءة المستفادة من الآية على هذا التفسير سنخ براءة مورودة للاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط على فرض تماميّة أدلّته معناه وصول الحكم الظاهري الذي

ص: 87

يجب اتّقاؤه وعدم مخالفته لا لنفسه ، بل لكونه ينجّز الواقع كما تقدّم بيانه في الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري (1).

ص: 88


1- والصحيح من هذين الاحتمالين برأي السيّد الشهيد هو الأوّل ؛ لأنّه الظاهر من الآية حيث إنّ الإضلال والخزي والعقاب لا يكون إلا بمخالفة الواقع قطعا ، وأمّا مخالفة الظاهر فهي لا توجب ذلك دائما ، بل قد توجبه إذا كان الحكم الظاهري مصيبا للواقع وقد لا توجبه إذا كان مخطئا ، وحيث إنّ الآية رتّبت الإضلال على بيان ما يتّقى ، فهذا يعني أنّها ناظرة إلى أنّه بمجرّد البيان لما يجب اتّقاؤه وعدم الالتزام به يترتّب الإضلال ، وهذه الكلّيّة لا تتحقّق إلا مع مخالفة الواقع دون الظاهر. إلا أنّ السيّد الأستاذ يرى أنّ الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ البيان المأخوذ في لسان الآية مطلق وهو بذلك يشمل كلّ نوع من أنواع البيان الأعمّ من الظاهري والواقعي ؛ لأنّ كلا الحكمين يجب اتّقاؤه ومخالفته توجب العقاب.

أدلّة البراءة من السنّة

اشارة

ص: 89

ص: 90

أدلّة البراءة من السنّة

واستدلّ من السنّة بروايات :

منها : ما روي عن الصادق علیه السلام من قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (1). وفي الرواية نقطتان لا بدّ من بحثهما :

أمّا السنّة فقد استدلّ بها على البراءة بروايات عديدة منها :

الرواية الأولى : قوله علیه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ». وتقريب الاستدلال أنّ الإطلاق مساوق للسعة والتأمين فيكون المعنى أنّ التأمين ثابت في كلّ شيء ما لم يرد فيه نهي ، فإذا ورد النهي ارتفع التأمين ، وهذا هو معنى البراءة فإنّ مفادها التأمين في حالة عدم ورود النهي.

إلا أنّ هذا الاستدلال يتوقّف على تحقيق نقطتين :

الأولى : أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود أو الصدور لئلاّ يفيد في حالة احتمال صدور البيان من الشارع مع عدم وصوله؟

النقطة الأولى : في أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول أو بمعنى الصدور؟

فإن كان بمعنى الوصول تمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ إذ يكون المعنى حينئذ أنّه مع عدم وصول البيان على التكليف فهو في سعة منه سواء كان في الواقع صادرا أم لا.

فإذا وصل التكليف إلى المكلّف ثبت الورود فلا سعة ولا تأمين.

وأمّا إذا لم يصل فهو في سعة ومؤمن حتّى لو احتمل صدور التكليف في الواقع ، لكنّه لم يصل لسبب من الأسباب كالضياع أو الاختفاء ونحوهما.

ص: 91


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 317 / 937.

وإن كان بمعنى الصدور لا يتمّ الاستدلال على البراءة المطلوبة ؛ وذلك لأنّ المعنى على هذا يكون أنّه إذا صدر التكليف ثبت الورود ، وأمّا إذا لم يصدر فهو في سعة منه ، وحينئذ إذا لم يصل التكليف لكن احتمل صدوره واختفاؤه لسبب ما فلا يمكن ثبوت السعة والتأمين إذ لعلّه صدر ، فيكون الشكّ هنا من الشبهة المصداقيّة للبراءة ؛ لأنّه يشكّ في أنّ موضوعها متحقّق أم لا ، ومعه لا يمكن التمسّك بدليل البراءة ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

والحاصل : أنّ الغاية التي هي الورود إن كانت بمعنى الوصول فمع عدم الوصول تنتفي الغاية فيبقى المغيّى ، ومع الوصول تتحقّق الغاية فينتفي المغيّى ، وإن كان بمعنى الصدور فالصدور يحقّق الغاية فينتفي المغيّى ، ومع عدم الصدور تنتفي الغاية فيبقى المغيّى ثابتا.

وعلى الأوّل يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة دون الثاني ؛ لأنّ المراد بالبراءة التأمين عن التكليف المشكوك بمجرّد عدم وصوله سواء كان صادرا أم لا.

الثانية : أنّ النهي الذي جعل غاية هل يشمل النهي الظاهري المستفاد من أدلّة وجوب الاحتياط أو لا؟

فعلى الأوّل تكون البراءة المستفادة ثابتة بدرجة يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها ، وعلى الثاني تكون بنفسها نافية لوجوب الاحتياط.

النقطة الثانية : في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل تكون معارضة للاحتياط على فرض تماميّة دليله ، أو أنّها محكومة له؟

والجواب عن هذا السؤال يختلف حاله باختلاف المراد من ورود النهي الذي جعل غاية ، فإنّه يوجد فيه احتمالان :

الأوّل : أنّ يكون المراد من ورود النهي العنوان الأوّلي ، فيكون المعنى أنّ ورود النهي واقعا هو الغاية للسعة والإطلاق ، فما دام النهي الواقعي لم يرد فالسعة والإطلاق ثابتان ، وأمّا مع ورود النهي الواقعي فتتحقّق الغاية فينتفي المغيّى أي الإطلاق والسعة.

وهذا يعني أنّ البراءة تثبت ما دام النهي واقعا لم يرد على هذا الشيء المشكوك ، فتكون البراءة ثابتة في مورد الشكّ في الواقع الذي لم يرد ولم يصل إلى المكلّف ،

ص: 92

وبهذا تكون البراءة معارضة للاحتياط ؛ لأنّه يثبت النهي الظاهري لا الواقعي ، فكلاهما موضوعهما واحد وهو الواقعة المشكوكة التي لم يرد فيه نهي واقعي.

الثاني : أن يكون المراد من ورود النهي الأعمّ من الورود الواقعي الأوّلي أو الظاهري الثانوي ، فالمجعول غاية حينئذ ورود النهي مطلقا واقعا أو ظاهرا ، فمع عدم ورود ما يفيد النهي مطلقا تثبت البراءة والسعة ، وأمّا مع ورود ما يفيد النهي ولو ظاهرا فالغاية تتحقّق فينتفي المغيّى ، وعلى هذا يكون دليل الاحتياط على فرض تماميّته واردا على دليل البراءة ؛ لأنّه يثبت النهي فيحقّق الغاية فتنتفي البراءة المغيّاة به.

وعلى هذا فالاستدلال بالآية على البراءة يتوقّف على أن يكون الورود بمعنى الورود الواقعي لا الأعمّ منه ومن الظاهري ، وإلا كانت البراءة مورودة لدليل الاحتياط.

أمّا النقطة الأولى : فقد يقال بتردّد الورود بين الصدور والوصول ، وهو موجب للإجمال الكافي لإسقاط الاستدلال.

تحقيق الحال حول النقطة الأولى ، وأنّ الورود ما ذا يراد به؟

قد يقال : إنّ الآية مجملة إذ كما يحتمل أن يكون المراد من الورود الوصول كذلك يحتمل أن يكون المراد منه الصدور ، وحيث إنّه لا معيّن لأحدهما على الآخر فتكون الآية مجملة لتردّد معنى الورود بينهما.

وهذا الإجمال والتردّد يكفي للمنع من تماميّة الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّه مبني على استظهار الوصول من الورود ، وهذا غير ظاهر لعدم الدليل عليه ، ومع الإجمال لا يتمّ الاستدلال.

وقد تعيّن إرادة الوصول بأحد وجهين :

وقد يقال : إنّ الوصول هو المتعيّن من كلمة الورود لا الصدور ، ويدلّ على ذلك وجهان :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّ المغيّى حكم ظاهري فيتعيّن أن تكون الغاية هي الوصول لا الصدور ؛ لأنّ كون الصدور غاية يعني أنّ الإباحة لا تثبت إلا مع عدم الصدور واقعا ، ولا يمكن إحرازها إلا بإحراز عدم الصدور ، ومع إحرازه لا شكّ فلا مجال للحكم الظاهري.

ص: 93

الوجه الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي رحمه اللّه من تعيّن إرادة الوصول من الورود لا الصدور ؛ وذلك لأنّه إن أريد الصدور فالمغيّا وهو الإباحة والسعة إمّا أن تكون واقعيّة أو ظاهريّة.

فإن كانت واقعيّة فيكون المعنى أنّ الإباحة الواقعيّة ثابتة ومنوطة بعدم صدور النهي من الشارع ، وهذا غير معقول ؛ لأنّه من باب أخذ عدم الضدّ قيدا في الضدّ وهو محال ؛ لأنّ الإباحة ضدّ الحرمة كما هو واضح ، فتعليق الإباحة على عدم الحرمة من باب تعليق الضدّ على عدم ضدّه ، كما يقال إنّ الشيء الساكن يبقى كذلك إلى أن يتحرّك ، وهذا غير معقول للزوم الدور.

وإن كانت الإباحة ظاهريّة فيكون المعنى أنّ الإباحة الظاهريّة ثابتة عند عدم صدور النهي الواقعي من الشارع وهذا خلف ؛ لأنّ الإباحة الظاهريّة منوطة ومشروطة حينئذ بعدم الصدور ، فإذا أحرز عدم الصدور تثبت الإباحة الظاهريّة وإذا لم يحرز فلا تثبت.

وهذا لا فائدة منه ؛ لأنّه مع إحراز عدم الصدور للنهي فالإباحة الظاهريّة لا مجال لها إذ سوف يعلم حينئذ بأنّ الواقع ليس هو الحرمة ، بل الإباحة فتكون الإباحة واقعيّة لا ظاهريّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه خلف ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة منوطة بالشكّ في الواقع ولا تجري عند إحراز الواقع.

وبهذا يتّضح أنّه إذا حملنا الورود على الصدور لم يكن هناك معنى للإباحة لا الواقعيّة ولا الظاهريّة ، فيتعيّن حمله على الوصول ، وحينئذ يكون المراد من المغيّى هو الإباحة الظاهريّة ، فيكون المعنى أنّه مع عدم وصول النهي الواقعي من الشارع إلى المكلّف فيحكم بالإباحة ظاهرا ، وهذا يصدق مع الشكّ في الصدور الواقعي أيضا عند عدم الوصول.

فإن قيل : لما ذا لا يفترض كون المغيّى إباحة واقعيّة؟

كان الجواب منه : أنّ الإباحة الواقعيّة والنهي الواقعي الذي جعل غاية متضادّان ، فإن أريد تعليق الأوّلى على عدم الثاني حقيقة فهو محال ؛ لاستحالة مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر. وإن أريد مجرّد بيان أنّ هذا الضدّ ثابت حيث لا يكون ضدّه ثابتا فهذا لغو من البيان ؛ لوضوحه.

ص: 94

فإن أشكل عليه بأنّنا نلتزم بأن يكون المراد من الغاية الصدور أي صدور النهي الواقعي من الشارع ، ونلتزم أيضا بأن يكون المراد من المغيّى الإباحة الواقعيّة ، فالإباحة الواقعيّة ثابتة إلى أن يصدر النهي الواقعي.

كان جوابه : أنّ هذا غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ الإباحة الواقعيّة والنهي الواقعي ضدّان ؛ لأنّهما حكمان تكليفيّان حقيقيّان متغايران لا يجتمعان على مورد واحد.

وحينئذ نسأل : ما هو المراد من جعل النهي الواقعي غاية للإباحة الواقعيّة؟

فإن كان المراد أنّ الإباحة الواقعيّة معلّقة واقعا وحقيقة على عدم صدور النهي الواقعي من الشارع ، بحيث يكون عدم صدور النهي الواقعي مقدّمة لثبوت الإباحة الواقعيّة ، فهذا مستحيل ؛ لما تقدّم في محلّه من استحالة أخذ عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر.

فكما يستحيل أن يقال : إنّ عدم السواد مقدّمة لثبوت البياض فكذلك الحال هنا ؛ لاستلزامه الدور إذ عدم السواد لو كان مقدّمة للبياض فيكون البياض أيضا مقدّمة لعدم السواد أو عدم البياض مقدّمة للسواد.

وهنا لو كان عدم الحرمة مقدّمة لثبوت الإباحة فهذا يعني أنّ الإباحة أخذ في موضوعها عدم الحرمة ، فلكي تثبت الإباحة لا بدّ من إحراز عدم النهي ، ولكي نحرز عدم النهي لا بدّ أن تثبت الإباحة ، فصارت الإباحة متوقّفة على نفسها ، وهو غير معقول ؛ لأنّ عدم الضدّ لا يكون موضوعا ومقدّمة لثبوت الضدّ الآخر.

وإن كان المراد أنّ الإباحة الواقعيّة إنّما تثبت عند عدم ثبوت الحرام الواقعي فهذا لغو ، لأنّه تحصيل للحاصل لأنّ هذا الشيء إمّا أن يكون واقعا مباحا وإمّا أن يكون حراما ، فيكون إفادة هذا المطلب لغوا ؛ لأنّه حاصل تكوينا.

وبهذا يتّضح أنّه لا معنى لحمل الإباحة إلا على الإباحة الظاهريّة ولا معنى لحمل الورود إلا على الوصول ، وبه يتمّ الاستدلال بالحديث على البراءة والإباحة الظاهريّة ؛ لأنّها تكون مجعولة عند عدم الوصول الواقعي للحرام أي في فرض الشكّ في الصدور مع عدم الوصول.

ويرد على هذا الوجه : أنّ النهي عبارة عن الخطاب الشرعي الكاشف عن

ص: 95

التحريم وليس هو التحريم نفسه ، والتضادّ نفسه لا يقتضي تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، ولا على عدم الكاشف عن الضدّ الآخر ، ولكن لا محذور في أن توجد نكتة أحيانا تقتضي إناطة حكم بعدم الكاشف عن الحكم المضادّ له ، ومرجع ذلك في المقام إلى أن تكون فعليّة الحرمة بمبادئها منوطة بصدور الخطاب الشرعي الدالّ عليها ، نظير ما قيل : من أنّ العلم بالحكم من طريق مخصوص يؤخذ في موضوعه.

ويرد على هذا الوجه : أنّ التضادّ إنّما يكون بين الحكمين أي بين التحريم الواقعي وبين الإباحة الواقعيّة ، فنحن إذا اخترنا أنّ المراد من الغاية النهي الواقعي ومن المغيّى الإباحة الواقعيّة فلن يرد محذور التضادّ أي تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

أوّلا : أنّ النهي ليس هو نفس التحريم وإنّما هو الكاشف عنه ، أي أنّ التحريم يبرزه الشارع بخطاب النهي فيكون هذا الخطاب كاشفا عن التحريم الواقعي وليس هو نفسه.

وثانيا : أنّ التضادّ لا يكون بين الإباحة الواقعيّة وبين النهي والخطاب الكاشف عن التحريم الواقعي ؛ لأنّ هذا لا يستلزم أن تكون الإباحة الواقعيّة معلّقة على عدم التحريم الواقعي ، بل على عدم إبرازه بالخطاب فقط ، وهذا أمر معقول في نفسه إذا فرض وجود نكتة لذلك.

وثالثا : أنّ التضادّ بين الإباحة والحرمة الواقعيّتين يقتضي استحالة تعليق ثبوت إحداهما على عدم الأخرى كما تقدّم ، ولكنّه لا يقتضي استحالة تعليق إحداهما على عدم الكاشف والمبرز للأخرى.

وفي مقامنا نقول : إنّ الحلّيّة والإباحة الواقعيّة ثابتة ما لم يصدر النهي والخطاب الدالّ على التحريم ، ولازمه أنّه إذا صدر هذا النهي الكاشف عن التحريم تصبح الحرمة فعليّة واقعا ، فترتفع الإباحة الواقعيّة لاستحالة اجتماع الحكمين التكليفيّين المتغايرين على شيء واحد واقعا.

وبتعبير آخر : تكون الحرمة الواقعيّة الفعليّة منوطة بصدور النهي والخطاب الكاشف عنها ، فإذا تمّ هذا النهي صارت الإباحة فعليّة ، وإلا فالإباحة هي التي تكون فعليّة ،

ص: 96

وهذا لا مانع منه لوجود نكتة في المقام وهي أنّ الشارع قد يرى مصلحة في إناطة الحكم كالإباحة الواقعيّة بعدم صدور الكاشف عن الحكم المضادّ لها وهو الحرمة الواقعيّة ، ومرجع هذا التقييد في الحقيقة إلى أنّ الحرمة الفعليّة بمبادئها وملاكاتها معلّقة على صدور الخطاب الشرعي والنهي الدالّ عليها ، فإذا لم يصدر هذا الخطاب الشرعي فالحرمة شأنيّة فقط وتكون الإباحة الواقعيّة فعليّة.

وهذا نظير ما تقدّم سابقا من إمكان أخذ العلم بالحكم عن طريق خاصّ في موضوع الحكم ، فإنّ مرجعه إلى أنّ الحكم لا يكون فعليّا بمبادئه وملاكاته إلا إذا علم من هذا الطريق ، وأمّا إذا علم من طريق آخر فلا يكون فعليّا ، فإنّه أمر معقول ثبوتا وإن لم يتمّ إثباتا ، كما ادّعي ذلك بالنسبة للأحكام الشرعيّة حيث قال الأخباريّون بأنّ فعليّة الأحكام قد أخذ في موضوعها أن يعلم بها عن طريق الشرع لا العقل ، بمعنى أنّه إذا دلّ الخطاب الشرعي على الحكم صار فعليّا وإن دلّ عليه العقل فلا يكون فعليّا ، فهذا معقول ثبوتا ولكنّه لا دليل عليه إثباتا.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّه إذا صدر الخطاب الشرعي بالنهي صارت الحرمة الواقعيّة فعليّة فترتفع الإباحة والحلّيّة الواقعيّة ؛ لأنّهما ضدّان وإذا لم يصدر الخطاب الشرعي بالنهي لا تكون الحرمة فعليّة ، بل الإباحة تكون هي الفعليّة.

وهذا معناه أنّ الإباحة الواقعيّة منوطة ومعلّقة على عدم صدور النهي الكاشف عن التحريم لا على عدم التحريم ليقال بالاستحالة.

الثاني : أنّ الورود يستبطن دائما حيثيّة الوصول ، ولهذا لا يتصوّر بدون مورود عليه.

ولكن هذا المقدار لا يكفي أيضا ، إذ يكفي لإشباع هذه الحيثيّة ملاحظة نفس المتعلّق مورودا عليه.

الوجه الثاني لاستظهار الوصول من الورود ما يقال : من أنّ الورود يستبطن حيثيّة الوصول ؛ لأنّ الورود بمعنى الوفود فيقال : ورد علينا ضيف أي وفد علينا ووصل ، وكما يقال : وردت على الماء أي وصلت إليه.

وحينئذ يتعيّن الوصول لا الصدور ؛ لأنّه لا يفي بحيثيّة الوفود المستبطنة في الورود.

مضافا إلى أنّ الورود يحتاج إلى مورود عليه ، أي لا بدّ أن يكون هناك شيء يرد

ص: 97

عليه شيء آخر ، فعند ما يقال : وردنا ضيف يوجد وارد وهو الضيف ويوجد مورود عليه وهو المضيف ، ولا يتصوّر ورود الضيف من دون تصوّر وجود المضيف.

وهنا عند ما يرد النهي لا بدّ من مورود عليه ليرده النهي ، فهناك طرف آخر يصل إليه النهي ليتحقّق أنّه ورد النهي ، وهذا الطرف هو المكلّف فإذا وصله النهي تحقّق وروده وإلا فلا.

وجوابه : أنّنا لو سلّمنا أنّ الورود يستبطن حيثيّة الوصول ، وأنّه لا بدّ من مورود عليه إلا أنّه مع ذلك لا يتعيّن ما ذكر ؛ وذلك لأنّه يكفي في ورود النهي صدوره من الشارع ووصوله إلى الشيء ، فإنّه هو الذي يردّه النهي لا المكلّف.

وبتعبير آخر : أنّ النهي يرد على الشيء لا على المكلّف ، فيكفي أن يصل النهي إلى الشيء ووصوله إلى الشيء يعني صدور تشريع وخطاب يفيد التحريم ، فإنّه يتحقّق أنّ هذا الشيء ورد فيه النهي.

وحينئذ لا يتعيّن ما ذكر ؛ لأنّ هذا المعنى محتمل أيضا في نفسه ، ولا أقلّ من الإجمال وهو كاف لمنع الاستدلال.

فالاستدلال بالرواية إذن غير تامّ ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.

وبهذا يظهر أنّ النقطة الأولى وهي أنّ الورود بمعنى الوصول غير تامّ ، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بالحديث على البراءة ؛ لأنّ المراد بها التأمين عند عدم وصول التكليف سواء صدر أم لا ، لا التأمين عند عدم صدوره ؛ لأنّه مع العلم بعدم صدوره فلا معنى للبراءة إذ لا شكّ حينئذ.

وعليه ، فلا حاجة للبحث عن النقطة الثانية من أنّ البراءة المستفادة من الحديث هل هي معارضة للاحتياط أم مورودة له؟ ؛ لأنّ هذا فرع استفادة البراءة أوّلا وقد تبيّن عدم إمكان استفادتها.

ومنها : حديث الرفع المروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله ونصّه : « رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (1) ، والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث مراحل :

ص: 98


1- الخصال : 417. التوحيد : 353.

الرواية الثانية : الحديث المشهور بحديث الرفع ، والاستدلال به على البراءة بفقرة « وما لا يعلمون » ، والبحث يقع في عدّة مراحل كلّها ترتبط بالاستدلال وهي :

المرحلة الأولى : في فقه الحديث على وجه الإجمال ، والنقطة المهمّة في هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه ، فإنّه لا يخلو عن إشكال ؛ لوضوح أنّ كثيرا ممّا فرض رفعه في الحديث أمور تكوينيّة ثابتة وجدانا ، ومن هنا كان لا بدّ من بذل عناية في تصحيح هذا الرفع.

المرحلة الأولى في فقه الحديث عموما وإجمالا ، فإنّ هذا الحديث اشتمل على عدّة أمور أكثرها أمور تكوينيّة موجودة في الخارج وجدانا ، كالخطأ والنسيان والفعل المكره أو المضطرّ ، واشتمل على أمور ليست تكوينيّة كالنسيان وما لا يعلمون ، ونسب الرفع إلى الجميع بسياق واحد ، ومن هنا قد يستشكل في معنى الرفع المقصود هنا ، إذ كيف يمكن تصوير رفع الفعل الموجود في الخارج بالوجدان؟

ولذلك لا بدّ من توضيح المراد بالرفع بنحو يتلاءم مع جميع الفقرات الموجودة في هذا الحديث ، وهذا لا يتمّ إذا حمل الرفع على معناه الحقيقي ، إذ الشيء الموجود في الخارج لا يرتفع بمجرّد تشريع ارتفاعه ، فلا بدّ من عناية لتصحيح الرفع ، ولذلك نقول :

وذلك إمّا بالتقدير بحيث يكون المرفوع أمرا مقدّرا قابلا للرفع حقيقة كالمؤاخذة مثلا.

وإمّا بجعل الرفع منصبّا على نفس الأشياء المذكورة ، ولكن بلحاظ وجودها في عالم التشريع بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلّقه في هذا العالم ، فشرب الخمر المضطرّ إليه يرفع وجوده التشريعي بما هو متعلّق للحرمة ، وروح ذلك رفع الحكم.

وإمّا بصبّ الرفع على نفس الأشياء المذكورة بوجوداتها التكوينيّة ، ولكن يفترض أنّ الرفع تنزيلي وليس حقيقيّا ، فالشرب المذكور نزّل منزلة العدم خارجا ، فلا حرمة ولا حدّ.

وهذه العناية المصحّحة يمكن تصويرها بأحد وجوه ثلاثة :

ص: 99

الأوّل : أن يكون المرفوع أمرا مقدّرا يقبل الرفع الحقيقي كعنوان المؤاخذة والعقاب ، فيكون المراد أنّ الخطأ مثلا مرفوع حكمه والمؤاخذة عليه ، والفعل المضطرّ إليه لا عقاب عليه

ولا مؤاخذة ، وهكذا.

الثاني : أن يكون المرفوع نفس الأشياء لكن لا بوجودها التكويني الخارجي بل بوجودها التشريعي ، فالفعل المضطرّ إليه مرفوع لا بنفسه إذ هو واقع من المكلّف حقيقة ، وإنّما هذا الفعل مرفوع في عالم التشريع أي أنّه في عالم التشريع لا يكون هذا الفعل المضطرّ إليه ثابتا ، وعدم ثبوته في عالم التشريع إمّا أنّه ليس موضوعا للحكم أو ليس متعلّقا له.

وتوضيحه : أنّ شرب الخمر متعلّق للحرمة ، أي أنّ الحرمة في عالم التشريع تعلّقت بشرب الخمر ، ولكن شرب الخمر المضطرّ إليه أو المكره عليه ليس متعلّقا للحرمة شرعا ، وصدور البيع في الخارج بنحو الإكراه والاضطرار ليس موضوعا شرعا للحكم بالنقل والانتقال ، وإنّما الموضوع هو البيع الصادر اختيارا.

وهذا اللسان من رفع الموضوع أو المتعلّق للحكم يرجع في حقيقته إلى رفع الحكم أيضا ، بمعنى أنّ صدور البيع أو شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لا يوجب تحقّق الحكم الشرعي المترتّب على البيع وشرب الخمر اختيارا. نظير ما يقال : إنّه لا رهبانية في الإسلام ، أي أنّه لا يشرّع هذا الموضوع.

الثالث : أن يكون المرفوع نفس الأشياء بوجودها التكويني ، ولكنّ الرفع لا يكون حقيقيّا وإنّما تعبّدي وتنزيلي ، فشرب الخمر المضطرّ إليه وصدور البيع المكره عليه ليسا موجودين في الخارج تعبّدا وتنزيلا ، أي أنّ الشارع نزّل هذا الفعل منزلة العدم وكأنّه لم يصدر أصلا ، ولذلك فلا تترتّب عليه الآثار الشرعيّة من الحرمة أو الحدّ أو النقل والانتقال.

والحاصل : أنّ العناية يمكن تصويرها بأحد هذه الوجوه :

إمّا بتقدير محذوف يتلاءم مع هذه الأشياء كالحكم أو المؤاخذة.

وإمّا بالرفع التشريعي أي أنّ هذا الموجود ليس هو موضع أو متعلّق الحكم شرعا.

وإمّا بالرفع التنزيلي أي أنّ هذا الموجود كالمعدوم فكأنّه لم يصدر في الخارج.

ص: 100

ولا شكّ في أنّ دليل الرفع على الاحتمالات الثلاثة جميعا يعتبر حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة باعتبار نظره إليها ، وهذا النظر : إمّا أن يكون إلى جانب الموضوع من تلك الأدلّة كما هو الحال على الاحتمال الثالث ، فيكون على وزان « لا ربا بين الوالد وولده ».

أو يكون إلى جانب المحمول أي الحكم مباشرة كما هو الحال على الاحتمال الأوّل فيكون على وزان « لا ضرر ».

أو يكون إلى جانب المحمول ولكن منظورا إليه بنظر عنائي ، كما هو الحال على الاحتمال الثاني ؛ لأنّ النظر فيه إلى الثبوت التشريعي للموضوع ، وهو عين الثبوت التشريعي للحكم ، فيكون على وزان « لا رهبانيّة في الإسلام ».

في بيان حكومة حديث الرفع على الأحكام الأوّليّة :

ثمّ إنّ حديث الرفع على الاحتمالات الثلاثة المذكورة في تفسير العناية يكون حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة عند تحقّق أحد هذه العناوين المأخوذة في لسانه ، ووجه الحكومة كونه ناظرا إلى موضوعها أو إلى محمولها ، فإنّ ملاك الحكومة هو أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم إمّا إلى موضوعه وإمّا إلى محموله ، فيكون لسانه موسّعا أو مضيّقا.

وتوضيح ذلك في مقامنا أن يقال : إنّ الاحتمال الثالث في تفسير العناية كان مفاده الرفع التعبّدي والتنزيلي لهذه الأشياء فهي موجودة واقعا ، إلا أنّها شرعا وادّعاء ليست موجودة ، فشرب الخمر أو صدور البيع في الخارج ينزل منزلة العدم شرعا ، وهذا يعني أنّ حديث الرفع ناظر إلى الموضوع وينزله منزلة العدم ، فيكون حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة من باب نظره إلى عقد الوضع ؛ نظير قوله : « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّه حاكم على أدلّة حرمة الربا باعتباره أنّه ينزل الربا الموجود في الخارج بين الوالد والولد منزلة العدم ، وكأنّ الموضوع للحرمة غير موجود في الخارج ، فيكون الحكم منتفيا لانتفاء موضوعه.

وأمّا الاحتمال الأوّل في تفسير العناية والذي مفاده رفع شيء مقدّر كالمؤاخذة أو الحكم أو الآثار فهو لا ينفي الموضوع ، وإنّما ينظر إلى ما يترتّب على هذا الموضوع شرعا وينفيه ، ومن الواضح أنّ ما يترتّب على شرب الخمر هو الحرمة ، وما يترتّب على

ص: 101

صدور البيع هو تحقّق النقل والانتقال ، فيكون ناظرا إلى المحمول أو عقد الحمل ، فيكون حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة ؛ لأنّه يرفع الحكم عن الموضوع الخارجي مباشرة ، فهو نظير قوله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » الحاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة عند وجود الضرر ، بمعنى أنّه لا حكم ضرري في الإسلام ، فالمنتفي هنا هو الحكم ابتداء.

وأمّا الاحتمال الثاني الذي كانت العناية فيه أنّ الموضوع الخارجي ليس ثابتا شرعا وإن كان ثابتا تكوينا ، بمعنى أنّ شرب الخمر المضطرّ إليه أو صدور البيع المكره عليه ليس هو الموضوع شرعا لحرمة شرب الخمر أو لتحقّق النقل والانتقال ، فهنا يكون النظر إلى عقد الحمل أيضا ، ولكن بصورة غير مباشرة فالحرمة ليست ثابتة شرعا ؛ لأنّه لم يتحقّق موضوعها شرعا ؛ لأنّ الموضوع الشرعي للحرمة هو شرب الخمر اختيارا لا اضطرارا ، وعن علم لا عن الجهل وهكذا.

وهذا نظير قوله : « لا رهبانيّة في الإسلام » بمعنى أنّ هذا الموضوع الموجود في الخارج وهو الترهّب ليس ثابتا شرعا فحكمه غير ثابت أيضا.

والظاهر أنّ أبعد الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأوّل ؛ لأنّه منفي بأصالة عدم التقدير.

فإن قيل : كما أنّ التقدير عناية كذلك توجيه الرفع إلى الوجود التشريعي مثلا.

كان الجواب : أنّ هذه عناية يقتضيها نفس ظهور حال الشارع في أنّ الرفع صادر منه بما هو شارع وبما هو إنشاء لا إخبار ، بخلاف عناية التقدير فإنّها خلاف الأصل حتّى في كلام الشارع بما هو مستعمل.

التحقيق في هذه الاحتمالات : بعد أن ذكرنا الاحتمالات المتصوّرة لتفسير العناية نأتي للحديث عن العناية الصحيحة من بين هذه الاحتمالات ، فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل فالظاهر أنّه أبعد الاحتمالات الثلاثة ؛ وذلك لأنّه يستلزم تقدير محذوف وهو كلمة حكم أو المؤاخذة بخلاف العنايتين الأخريين ، فإنّهما لا تقدير فيهما ، وهنا تجري أصالة عدم الحذف والتقدير ، فإنّ المتكلّم عند ما يكون في مقام البيان والتفهيم فالظاهر من حاله أنّه يذكر في كلامه كلّ ما هو دخيل في مراده الجدّي من دون حذف أو تقدير.

ص: 102

وأمّا اعتماده على التقدير في تفهيم مراده فهو خلاف المتعارف في المحاورات العرفيّة ؛ لأنّه يحتاج إلى عناية وقرينة تدلّ عليه إمّا بأن يكون اعتمد على كلام سابق له ، أو يكون ذكر القرينة في ابتداء كلامه أو في آخره مثلا وهكذا ، ولا شيء من هذا القبيل موجود في مقامنا ، فيكون الاعتماد على التقدير هنا فيه عناية كبيرة لا يقتضيها الطبع ولا يستسيغها العرف.

فإن قيل : إنّ الاحتمال الأوّل كما توجد فيه عناية التقدير فكذلك في الاحتمالين الثاني والثالث ، فإنّ كلاّ منهما يحتاج إلى عناية ؛ لأنّ الاحتمال الثاني كان يفسّر الموضوع الخارجي بالموضوع التشريعي وهذه عناية ، والاحتمال الثالث كان ينظر إلى الوجود الخارجي وكأنّه معدوم تنزيلا وتشريعا ، وهذه عناية أيضا ، فما هو الفرق بين هذه العنايات ليقال بأنّ العناية في الاحتمال الأوّل على خلاف الأصل ؛ لأنّ الأصل عدم التقدير بينما العناية في الاحتمالين الآخرين لا تكون على خلاف الأصل ، مع أنّها مخالفة لظاهر الحديث من كون الرفع منصبّا على الموضوع الخارجي بوجوده الخارجي لا التشريعي والتنزيلي.

كان الجواب : أنّه يوجد فرق بين العناية الموجودة في الاحتمالين الثاني والثالث ، وبين العناية في الاحتمال الأوّل.

ووجه الفرق : أنّ الحديث وإن كان ظاهره النظر إلى الموضوع الخارجي بما هو موجود في الخارج ، إلا أنّ هذا الظهور يجب رفع اليد عنه ؛ لأنّه غير مراد للمتكلّم جدّا ، فإنّ بعض هذه الأمور لا يمكن رفعها حقيقة ، فإنّ شرب الخمر أو صدور البيع الذي يقع في الخارج عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ موجود حقيقة ، فكيف يرفعه الشارع حقيقة أيضا؟

وبتعبير آخر : أنّ الشارع لا يريد إخبارنا عن أنّ شرب الخمر المضطرّ إليه الواقع من الإنسان ليس موجودا ، بل مرتفع حقيقة ، إذ لو كان مراده ذلك لكان مخالفا للواقع ؛ لأنّ شرب الخمر متحقّق منه فكيف يخبر عنه بأنّه مرتفع وغير متحقّق؟ فحمل الشارع على الإخبار بعيد هنا ، ولذلك يحمل قوله على الإنشاء والتشريع وحينئذ فيكون تفسير الرفع بنحو يتلاءم مع عالم التشريع ، إمّا بارتفاع الموضوع تشريعا أو بتنزيله منزلة العدم تشريعا ممّا يساعد عليه نفس صدور الحديث من الشارع بما هو

ص: 103

شارع ومنشئ ، فالقرينة على هذه العناية موجودة ويقتضيها المراد من الحديث ، إذ لو لاها لم يكن المراد صحيحا.

بينما عناية التقدير والحذف مضافا إلى أنّها على خلاف الأصل في المحاورات العرفيّة لا يوجد قرينة تساعد عليها ، بل القرينة على خلافها ؛ وذلك لأنّنا إذا التزمنا بالتقدير وحملنا الرفع على معناه الحقيقي لم يتمّ المراد الجدّي للمتكلّم ؛ لأنّه يكون مخلاّ بتفهيم مراده الجدّي ، حيث لم يذكر هذه الكلمة مع الحاجة إليها وعدم القرينة الدالّة عليها ، فيدور الأمر بين أحد الاحتمالين الثاني أو الثالث.

كما أنّ الظاهر أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الثالث ؛ لأنّ بعض المرفوعات ممّا ليس له وجود خارجي ليتعقّل في شأنه رفعه بمعنى تنزيل وجوده الخارجي منزلة العدم ، كما في « ما لا يطيقون » ، فالمتعيّن إذن هو الاحتمال الثاني.

يبقى الكلام في تعيين أحد الاحتمالين الثاني أو الثالث ، والظاهر هو أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الاحتمال الثالث.

وذلك أنّ الاحتمال الثالث كانت العناية فيه تنزيل الموضوع الخارجي منزلة العدم ادّعاء ، أي أنّه لا وجود له في عالم التشريع فينتفي حكمه كذلك ؛ لأنّ الحكم مترتّب على الموضوع الذي لاحظه الشارع.

إلا أنّ هذه العناية لا تتمّ في جميع الفقرات المرفوعة ، وإنّما يتمّ فيما كان له وجود في الخارج فقط ، كشرب الخمر المضطرّ إليه أو المكره عليه أو عن خطأ أو نسيان أو جهل وهكذا.

ولكنّه لا يتمّ في مثل « وما لا يطيقون » ؛ لأنّ الفعل الذي لا يطاق لا وجود له في الخارج لينزّل منزلة العدم شرعا ، إذ لو كان موجودا لكان ممّا يطاق وهو خلف.

فمثلا ترك الصوم ونحوه عند عدم القدرة عليه لا يمكن تنزيل وجوده منزلة العدم ؛ لأنّ هذا الترك غير موجود أصلا ، فلا معنى لتنزيله منزلة العدم شرعا ، فكأنّه قيل عدم الصوم من العاجز ليس موجودا شرعا ، وهذا لغو من الكلام ؛ لأنّه غير موجود تكوينا.

بخلاف ما إذا أخذنا بالاحتمال الثاني والذي عنايته أنّ هذا الموضوع الخارجي ليس موضوعا للحكم أو ليس متعلّقا للحكم شرعا ، فإنّه يصحّ على أساسه تفسير كلّ الفقرات ، فيقال : إنّ شرب الخمر أو صدور البيع المكره عليه أو المضطرّ إليه أو عن

ص: 104

خطأ أو نسيان أو جهل ليس موضوعا أو متعلّقا للحكم شرعا بالحرمة أو بالنقل والانتقال. ويقال أيضا : إنّ ترك الصوم بسبب العجز عنه وعدم الطاقة عليه ليس موضوعا شرعا لحرمة الإفطار.

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثاني دون الأوّل والثالث.

وتترتّب بعض الثمرات على هذه الاحتمالات الثلاثة :

فعلى الأوّل يكون المقدّر غير معلوم ولا بدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من الآثار ، خلافا للآخرين إذ يتمسّك بناء عليهما بإطلاق الرفع لنفي تمام الآثار.

ثمّ إنّه توجد بعض الثمرات والفوارق بين الاحتمالات الثلاثة ، نذكر منها اثنتين :

الثمرة الأولى : أنّه بناء على الاحتمال الأوّل فحيث إنّ العناية فيه هي الحذف والتقدير ، فكما يمكننا تقدير انتفاء تمام الآثار المترتّبة على الموضوع المتعلّقة فيه المذكورات كذلك يمكننا تقدير خصوص المؤاخذة والعقاب ، وحيث إنّ التقدير مردّد بين تقدير المطلق أو المقيّد فقط ، فيكون مجملا من هذه الناحية إذ لا توجد قرينة تعيّن أحدهما ، وحينئذ يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو المقيّد أي خصوص المؤاخذة والعقاب فقط.

ولا يمكن هنا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات أنّ المرتفع تمام الآثار ؛ لأنّ الإطلاق إنّما ينفي القيد في الكلام عند عدم وجود ما يدلّ عليه اعتمادا على ظهور حال المتكلّم في أنّ كلّ ما يقوله يريده ، وهنا لا يتمّ هذا الظهور ؛ لأنّ المتكلّم لم يقل تمام ما يريده ، بل حذف وقدّر ولا ندري ما هو المحذوف إذ لعلّه المقيّد دون المطلق.

وأمّا على الاحتمالين الثاني والثالث فيمكننا إثبات أنّ المرتفع هو تمام الآثار لا خصوص المؤاخذة ، فإنّه إذا كان الموضوع مرتفعا شرعا أو منزّلا منزلة العدم فهذا يعني أنّ تمام ما يترتّب على هذا الموضوع مرتفع لا خصوص المؤاخذة ؛ وذلك تمسّكا بالإطلاق وقرينة الحكمة حيث لم يقيّد المرتفع بأحد الآثار ، بل لا معنى لثبوت بعض الآثار ، إذ المفروض ارتفاع موضوعها أو متعلّقها فيحتاج ثبوتها إلى قرينة أو مئونة زائدة فتنفى بالإطلاق.

كما أنّه بناء على الثالث قد يستشكل في شمول حديث الرفع لما إذا اضطرّ إلى الترك مثلا ؛ لأنّ نفي الترك خارجا عبارة عن وضع الفعل ، وحديث الرفع

ص: 105

يتكفّل الرفع لا الوضع ، وخلافا لذلك ما إذا أخذنا بالاحتمال الثاني إذ لا محذور حينئذ في تطبيق الحديث على الترك المضطرّ إليه ؛ لأنّ المرفوع ثبوته التشريعي فيما إذا كان موضوعا أو متعلّقا لحكم ، ورفع هذا النحو من ثبوته ليس عبارة عن وضع الفعل ، إذ ليس معناه إلا عدم كونه موضوعا أو متعلّقا للحكم ، وهذا لا يعني جعل الفعل موضوعا كما هو واضح.

الثمرة الثانية : تظهر بين الاحتمالين الثالث والثاني فيما إذا اضطرّ إلى الترك كما إذا اضطرّ لترك الصوم مثلا.

فعلى الاحتمال الثالث حيث إنّ الموجود الواقع من المكلّف منزّل منزلة العدم فهذا يختصّ بما إذا صدر منه فعل عن خطأ أو جهل أو نسيان أو إكراه أو اضطرار ، فيكون هذا الفعل الواقع مرفوعا أي أنّه كالمعدوم وبالتالي لا تترتّب عليه الآثار ، وأمّا إذا اضطرّ أو أكره على ترك الصوم فلم يصم ، فهنا لا يمكن الرفع بمعنى التنزيل منزلة العدم ؛ وذلك لأنّ عدم الصوم متحقّق منه فعلا فلا معنى لتنزيله منزلة العدم ، إذ هو لغو وتحصيل للحاصل ، مضافا إلى أنّ تنزيل الترك منزلة العدم يعني الوجود ؛ لأنّ عدم العدم هو الوجود فيكون المفاد أنّ من ترك الصوم صائم تعبّدا ، أي أنّ الصوم واقع منه ومتحقّق فتترتّب الآثار الشرعيّة على الصوم من حرمة الإفطار ووجوب الكفّارة عن الإفطار العمدي ، وهذا يعني وضع الأحكام لا رفعها ، وهذا مخالف لحديث الرفع المتكفّل لرفع الآثار والأحكام لا وضعها (1).

بينما على الاحتمال الثاني يمكننا تطبيق حديث الرفع على وقوع الفعل اضطرارا أو إكراها وجهلا ، وعلى ترك الفعل كذلك ؛ وذلك لأنّ مفاد حديث الرفع على هذا الاحتمال أنّ كلّ موضوع أو متعلّق للحكم كان مضطرّا لفعله أو تركه فهو مرفوع تشريعا أي أنّه شرعا ليس موضوعا أو متعلّقا لشيء من الآثار والأحكام الشرعيّة فترك الصوم اضطرارا مثلا ليس موضوعا أو متعلّقا شرعا للحرمة أو لترتّب الآثار على ترك الصوم العمدي كالكفّارة مثلا.

ص: 106


1- قد يناقش في ذلك بأنّ التنزيل هنا صحيح أيضا بلحاظ أنّ الشارع نزّل تارك الصوم إكراها أو اضطرارا منزلة فاعله ، فلا شيء عليه من المؤاخذة والعقوبة والكفّارة ؛ لأنّ تركه هذا نزل منزلة العدم فكأنّه لم يترك الصوم بل قام به.

ولا يلزم من ذلك أن يكون الرفع هنا كالرفع على الاحتمال الثالث موجبا للوضع ؛ لأنّ رفع الترك عبارة عن الوجود ، لأنّه يقال : إنّ الاحتمال الثاني إنّما يرفع الوجود التشريعي فقط ، فما وقع من الإنسان بأحد هذه المذكورات فهو ليس ثابتا شرعا موضوعا أو متعلّقا للأحكام الشرعيّة ، وهذا بإطلاقه يشمل وقوع الفعل أو الترك ، فإذا ارتفع الوجود الشرعي لترك الصوم فهذا لا يعني أنّ وجود الصوم هو المتحقّق ؛ لأنّه لا ينظر إلى الخارج ليقال : ما دام عدم الصوم منتفيا فوجوده متحقّق ؛ لأنّ الوجود والعدم نقيضان إذا ارتفع أحدهما يثبت الآخر ، وإنّما النظر إلى عالم التشريع فقط ، فهذا الترك المتحقّق في الخارج ليس موضوعا أو متعلّقا شرعا للأحكام والآثار الشرعيّة ، وهذا ليس وضعا كما هو واضح.

وعلى أي حال فحديث الرفع يدلّ على أنّ الإنسان إذا شرب المسكر اضطرارا أو أكره على ذلك فلا حرمة ولا وجوب للحدّ ، كما أنّه إذا أكره على معاملة فلا يترتّب عليها مضمونها.

نعم ، يختصّ الرفع بما إذا كان في الرفع امتنان على العباد ؛ لأنّ الحديث مسوق مساق الامتنان ، ومن أجل ذلك لا يمكن تطبيق الحديث على البيع المضطرّ إليه لإبطاله ؛ لأنّ إبطاله يعني إيقاع المضطرّ في المحذور ، وهو خلاف الامتنان ، بخلاف تطبيقه على البيع المكره عليه ، فإنّ إبطاله يعني تعجيز المكره عن التوصّل إلى غرضه بالإكراه.

والحاصل من فقه الحديث : أنّ حديث الرفع يدلّ على أنّ الإنسان إذا صدر منه فعل عن خطأ أو نسيان أو جهل أو إكراه كشرب الخمر مثلا فلا تترتّب عليه الآثار الشرعيّة من حرمة أو فسق أو وجوب الحدّ ، هذا في الأحكام التكليفيّة.

وهكذا في الأحكام الوضعيّة كالبيع والزواج والطلاق ، فحديث الرفع يمكن تطبيقه فيما إذا صدر منه البيع أو الزواج أو الطلاق خطأ أو نسيانا أو إكراها أو جهلا ، بمعنى أنّ الآثار الشرعيّة لا تترتّب على هذا الموضوع.

إلا أنّه يشترط في تطبيق حديث الرفع أن يكون فيه امتنان على الإنسان ؛ لأنّ حديث الرفع وارد في مقام الامتنان من الشارع على أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 107

وعلى هذا فلا يمكننا تطبيق حديث الرفع على البيع المضطرّ إليه بخلاف المكره عليه ؛ وذلك لأنّ تطبيق حديث الرفع على البيع المضطرّ إليه يتنافى مع الامتنان ، إذ معناه إيقاع المضطرّ في المحذور الذي يريد الفرار منه كما إذا كان محتاجا للمال فاضطرّ لبيع أرضه ، فلو قلنا ببطلان البيع لزم إيقاعه بالحاجة وهذا خلاف الامتنان.

وأمّا البيع المكره عليه فتطبيق حديث الرفع عليه فيه امتنان على المكره ؛ لأنّه إذا حكمنا ببطلان البيع فهذا يعني أنّ المكره له على البيع لن يتحقّق غرضه من الإكراه ، وبالتالي يكون المكره في منجى عن الآثار المترتّبة على البيع المكره عليه والذي لا يريده أصلا.

وبهذا نعرف أنّه يشترط في تطبيق حديث الرفع على المذكورات أن يكون في رفعها منّة على الإنسان.

المرحلة الثانية : في فقرة الاستدلال وهي : « رفع ما لا يعلمون » ، وكيفيّة الاستدلال بها.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ الرفع هنا إمّا واقعي وإمّا ظاهري ، وقد يقال : إنّ الاستدلال على المطلوب تامّ على التقديرين ؛ لأنّ المطلوب إثبات إطلاق العنان وإيجاد معارض لدليل وجوب الاحتياط لو تمّ ، وكلا الأمرين يحصل بإثبات الرفع الواقعي أيضا كما يحصل بالظاهري.

المرحلة الثانية : في فقرة الاستدلال وكيفيّته :

والاستدلال على البراءة بفقرة « رفع ما لا يعلمون » ، فإنّ كلّ ما لا يعلم من الأحكام مرفوع عن المكلّف ، أي أنّه لا يطالب ولا تشتغل ذمّته بشيء من ذلك ما دام لم يعلم.

والمراد بالرفع الواقعي أنّ الحكم غير المعلوم مرفوع واقعا أي ليس بثابت على الجاهل ، وهذا يعني أنّ الحكم مقيّد بالعلم به ، وأمّا الرفع الظاهري فالمراد به رفع وجوب الاحتياط عن المكلّف عند الشكّ والجهل بالحكم.

وقد يقال : إنّ الرفع على كلا التفسيرين يثبت لنا المطلوب من البراءة ؛ وذلك لأنّ البراءة يراد بها إثبات أمرين بحقّ المكلّف الجاهل بالحكم هما :

ص: 108

أوّلا : إثبات التأمين والمعذّريّة أمام الواقع المشكوك بحيث لا يكون المكلّف مؤاخذا على المخالفة.

وثانيا : إيجاد ما يعارض أدلّة وجوب الاحتياط على فرض تماميّتها.

وهذان الأمران يثبتان بالحديث سواء كان الرفع حقيقيّا أم ظاهريّا

أمّا الأوّل فلأنّ الحكم واقعا يكون مقيّدا بحقّ العالم فقط ، فلا يشمل الجاهل أصلا ، وهذا يعني عدم اشتغال ذمّته واقعا بشيء ، بل هو بريء الذمّة واقعا من كلّ إلزام فلا عقاب عليه ولا منجّزيّة بحقّه ؛ إذ لا حكم موجّه إليه حالة الجهل.

وأمّا الثاني فلأنّ الرفع الظاهري يثبت أنّ المكلّف الشاكّ قد جعل بحقّه حكم ظاهري ترخيصي ، وهو يعني أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، فهناك إذا تأمين وبالتالي تكون أدلّة الاحتياط معارضة بأدلّة البراءة ؛ لأنّهما ينظران إلى حالة واحدة وهي حالة الشكّ في الحكم الواقعي ، وأحدهما ينجّزه والآخر يعذّر عنه.

ولكنّ الصحيح عدم اطّراد المطلوب على تقدير حمل الرفع على الواقعي ، إذ كثيرا ما يتّفق العلم أو قيام دليل على عدم اختصاص التكليف المشكوك - على تقدير ثبوته - بالعالم ، ففي مثل ذلك يجب الالتزام بتخصيص حديث الرفع مع الحمل على الواقعيّة ، خلافا لما إذا حمل على الرفع الظاهري.

والصحيح أنّ المطلوب إثباته - أي التأمين وإطلاق العنان وإيجاد معارض للاحتياط - لا يمكن إثباته إلا بحمل الرفع على الرفع الظاهري دون الواقعي ؛ وذلك لأنّه إذا حمل الرفع على الواقعي كان مفاد الحديث أنّ الجاهل الشاكّ بالحكم لا تكليف عليه واقعا ، فثبت أنّ الحكم واقعا مرفوع عن الجاهل ، وهذا قد يتحقّق في بعض الموارد فقط ولا يتحقّق في الأكثر والغالب ؛ وذلك لأنّنا نعلم أو يقوم دليل معتبر على أنّ الحكم المشكوك ليس مختصّا بالعالم به ، وإنّما يشمل الجاهل أيضا على تقدير كون هذا الحكم المشكوك ثابتا في الواقع ، إذ مع فرض ثبوته واقعا يستحيل كونه مقيّدا بالعالم ، لما تقدّم سابقا أنّ الأحكام شاملة غالبا للعالم والجاهل لإطلاقها وعمومها.

وعلى هذا فإذا شكّ المكلّف في الحكم ولم يعلم به ، فإن أراد التمسّك بحديث الرفع يجب أوّلا إثبات أنّ هذا الحكم المشكوك على تقدير ثبوته ليس شاملا للعالم والجاهل ، وإنّما مقيّد بالعالم.

ص: 109

وهذا يعني أنّ حديث الرفع مخصّص ومقيّد بنوع من الأحكام ولا يجري في تمام موارد الشكّ في الحكم ، أي أنّه يجري إذا كان الحكم المشكوك مختصّا بالعالم واقعا على فرض ثبوته ، وأمّا إذا كان الحكم واقعا على فرض ثبوته شاملا للعالم والجاهل فلا يجري حديث الرفع.

وحيث إنّ الغالب كون الأحكام شاملة للعالم والجاهل إمّا للعلم بذلك عن طريق محذور الاستحالة العقليّة لتقييد الحكم بالعالم فقط ، كما في الأحكام الأوّليّة كوجوب الصلاة والصوم والحجّ والخمس والزكاة ، وإمّا لقيام دليل كما في الروايات المستفيضة الدالّة بإطلاقها وعمومها على الاشتراك وعدم الاختصاص ، بمعنى أنّها شاملة ومشتركة لإطلاقها وعمومها وعدم المخصّص المتّصل أو المنفصل لها.

فحينئذ تكون الموارد التي يتمّ فيها التمسّك بحديث الرفع هي تلك الأحكام التي ثبت اختصاصها بالعالم فقط ، كالجهر والإخفات والقصر والتمام ، وهذا يعني تخصيص حديث الرفع بالفرد النادر جدّا فتنتفي الفائدة منه ، مع كونه واردا من الشارع في مقام الامتنان منه على الأمّة ، والذي معناه أنّه لو لا حديث الرفع لكان موضوعا عليهم شيئا ثقيلا يشقّ عليهم تحمّله ، وهذا لا يتحقّق في الفرد النادر كما هو واضح.

وأمّا لو حملنا الرفع على الرفع الظاهري أي رفع وجوب الاحتياط عند الشكّ في التكليف فيصحّ الامتنان كما يتحقّق المطلوب ؛ لأنّه بذلك نثبت التأمين وإطلاق العنان ونوجد معارضا للاحتياط على فرض تماميّة أدلّته ، ويكون رفع الاحتياط مما يصحّ الامتنان به على الأمّة ؛ إذ لو كان الاحتياط موضوعا عند الشكّ للزم المشقّة.

وبهذا ظهر أنّ حمل الرفع على الواقعي لا ينفعنا في المقام.

نعم ، يكفي للمطلوب عدم ظهور الحديث في الرفع الواقعي ، إذ حتّى مع الإجمال يصحّ الرجوع إلى حديث الرفع في الفرض المذكور ؛ لعدم إحراز وجود المعارض أو المخصّص لحديث الرفع حينئذ.

نعم ، يكفي في الاستدلال على المطلوب أي إثبات التأمين وإطلاق العنان وإيجاد معارض للاحتياط ألاّ نستظهر الرفع الواقعي ، فإمّا أن نستظهر الرفع الظاهري وإمّا أن

ص: 110

يبقى الرفع مجملا ومردّدا بينهما ، فإنّه يمكن الاستدلال بحديث الرفع لإثبات المطلوب مع كون الرفع مجملا ومردّدا أيضا.

وذلك بأن يقال : إنّ حديث الرفع يشمل بإطلاقه كلّ موارد الشكّ في التكليف سواء كانت مشتركة على تقدير ثبوتها بين العالم والجاهل أم كانت مختصّة بالعالم فقط ، فإذا شككنا في نوعيّة الرفع وكونه واقعيّا أو ظاهريّا فهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ إطلاق حديث الرفع هل يجب رفع اليد عنه أم لا؟

والمفروض أنّنا لا نعلم بتخصيصه وتقييده ، فيتمسّك بإطلاقه ؛ لأنّ المقيّد غير ثابت ولا نعلم بوجود المعارض له أيضا.

والوجه في ذلك : أنّنا لو حملنا الرفع على الواقعي - أي أنّ الحكم المشكوك مرفوع واقعا عن الجاهل الشاكّ - فهذا يعني أنّنا في فرض العلم أو قيام الدليل المعتبر على أنّ هذا الحكم المشكوك - على تقدير ثبوته - مشترك بين العالم والجاهل لا يمكننا التمسّك بحديث الرفع ؛ لعدم شموله للمورد.

فيكون مخصّصا بما دلّ على اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، وحيث إنّ إطلاقات وعمومات الأدلّة تثبت بإطلاقها وعمومها الاشتراك فتكون مخصّصة ومقيّدة بحديث الرفع في بعض الموارد فقط ، وهي التي علم باختصاصها بالعالم فقط.

وهذا يعني أنّه إذا حمل الرفع على الواقعي لزم تخصيص وتقييد حديث الرفع ؛ لوجود المخصّص المعلوم أو لمعارضته بإطلاقات وعمومات الأدلّة.

وأمّا إذا حمل الرفع على الظاهري أي أنّه في فرض الشكّ يرتفع الاحتياط الظاهري سواء كان الحكم الواقعي مشتركا أم مقيّدا بالعالم ، فهنا سوف نتمسّك بحديث الرفع في كلّ حكم مشكوك لرفع الاحتياط ، فيبقى الحديث على إطلاقه إذ لا مخصّص ولا مقيّد ولا معارض له.

وحينئذ إذا شككنا في الرفع وأنّه ظاهري أو واقعي فهذا يعني الشكّ في أنّ إطلاق حديث الرفع هل هو مخصّص ومعارض أم لا؟ وحيث إنّه مجمل ومردّد فهذا يعني أنّنا لا نحرز وجود المخصّص والمعارض ، فيبقى الإطلاق ثابتا في هذا الفرض.

وعلى أيّة حال فقد يقال : إنّ ظاهر الرفع كونه واقعيّا ؛ لأنّ الحمل على

ص: 111

الظاهري يحتاج إلى عناية ، إمّا بجعل المرفوع وجوب الاحتياط تجاه ما لا يعلم - لا نفسه - وهو خلاف الظاهر جدّا ، وإمّا بتطعيم الظاهريّة في نفس الرفع بأن يفترض أنّ التكليف له وضعان ورفعان واقعي وظاهري ، فوجوب الاحتياط وضع ظاهري للتكليف الواقعي ، ونفي هذا الوجوب رفع ظاهري له ، وكلّ ذلك عناية فيتعيّن الحمل على الواقعي.

قد يقال : إنّ الرفع يتعيّن حمله على الرفع الواقعي ؛ لأنّ حمله على الرفع الظاهري يحتاج إلى عناية ومئونة زائدة والأصل عدمها ، وهذه العناية إمّا أن تكون من جهة المرفوع وإمّا من جهة الرفع نفسه.

وبيان ذلك :

تارة نقول : إنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط تجاه الحكم المشكوك لا نفس الحكم المشكوك كما هو مقتضى الظاهريّة ، وهذا يعني أنّ الحكم المشكوك لا يرتفع بنفسه وإنّما يرتفع وجوب الاحتياط المجعول تجاهه ، فهذه عناية في المرفوع وهذه العناية مخالفة لظاهر الحديث جدّا ؛ لأنّ الرفع بمقتضى وحدة السياق يكون بمعنى واحد.

وحيث إنّ المرفوع في سائر الفقرات نفس الحكم الواقعي تجاه ما صدر عن إكراه أو اضطرار مثلا ، فيكون المرفوع بحسب الظاهر هو نفس الحكم الواقعي عند الشكّ وعدم العلم ، فحمله على رفع الاحتياط مخالف للظاهر مع عدم القرينة عليه ، ولاستلزامه التقدير والأصل عدم التقدير كما تقدّم.

وأخرى نقول : إنّ الرفع له معنيان كما أنّ الوضع أيضا له معنيان ، وهما :

رفع الحكم الواقعي نفسه ويقابله وضع الحكم الواقعي ، ورفع وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحكم الواقعي ويقابله وضع وجوب الاحتياط كذلك ، وهنا يكون الرفع ناظرا إلى رفع وجوب الاحتياط لا رفع الحكم الواقعي نفسه ، أي الرفع ناظر إلى أحد الفردين لا إليهما معا ولا إلى الرفع الواقعي.

وهذا أيضا فيه عناية زائدة وهي تطعيم الرفع هنا بالرفع الظاهري ، وهو خلاف الظاهر والسياق ؛ لأنّ الرفع الظاهري لا معنى له في سائر الفقرات إذ المرفوع فيها الحكم الواقعي نفسه ، وعليه فيتعيّن الحمل على الرفع الواقعي.

ص: 112

والجواب على ذلك بوجهين :

الوجه الأوّل : ما عن المحقّق العراقي قدّس اللّه روحه (1) ، من أنّ الحديث لمّا كان امتنانيّا والامتنان يرتبط برفع التكليف الواقعي المشكوك ببعض مراتبه ، أي برفع وجوب الاحتياط من ناحيته ، سواء رفعت المراتب الأخرى أو لا ، فلا يكون الرفع في الحديث شاملا لتلك المراتب ، فالامتنان قرينة محدّدة للمقدار المرفوع.

الجواب الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ حديث الرفع وارد للامتنان على الأمّة ؛ لأنّه رفع عنها ما لم يرفعه عن غيرها من الأمم ، وعليه فإذا كان المرفوع الحكم واقعا فهو يعني أنّه لم يشرّع أصلا فلا يكون في مورده امتنان.

وأمّا إذا كان الحكم ثابتا في الواقع إلا أنّه في مورد الشكّ والجهل به يكون وجوب الاحتياط من جهته مرفوعا ، فهذا فيه امتنان بلحاظ تشريع التسهيل والترخيص والتأمين ظاهرا ، وحينئذ يكون الامتنان مرتبطا برفع التكليف الواقعي ببعض مراتبه وهي مرحلة التنجّز في ظرف الشكّ والجهل ، فلا يجب الاحتياط تجاه التكليف المشكوك سواء كان الحكم الواقعي مرفوعا في الواقع أم لا ، فيكون الحديث شاملا لهذه المرتبة دون سائر المراتب الأخرى.

والقرينة الدالّة على ذلك هي نفس ورود الرفع في مقام الامتنان ؛ لأنّه هو الذي يحدّد هذا المقدار المرفوع.

ويمكن الاعتراض على هذا الوجه بأنّ الامتنان وإن كان يحصل بنفي إيجاب الاحتياط ولا يتوقّف على نفي الواقع ، ولكن لمّا كان نفي إيجاب الاحتياط بنفسه قد يكون بنفي الواقع رأسا أمكن أن تكون التوسعة الممتن بها مترتّبة على نفي الواقع ولو بالواسطة ، ولا يقتضي ظهور الحديث في الامتنان سوى كون مفاده منشأ للتوسعة والامتنان ولو بالواسطة.

ويرد على هذا الوجه :

أنّنا لو سلّمنا بأنّ الامتنان لا يكون إلا في رفع وجوب الاحتياط لا في رفع الحكم الواقعي نفسه ، إلا أنّنا نقول : إنّ نفي وجوب الاحتياط له تصويران :

ص: 113


1- مقالات الأصول 2 : 162 - 163 ، نهاية الأفكار 3 : 213.

فتارة ينفى وجوب الاحتياط مباشرة فيكون الرفع ظاهريّا سواء كان الحكم الواقعي ثابتا أم لا.

وأخرى ينفى وجوب الاحتياط بواسطة نفي الحكم الواقعي ، فإنّه إذا لم يكن الحكم الواقعي ثابتا شرعا فلا موضوع للاحتياط ؛ لأنّ تشريعه - كما عرفنا سابقا - كان لأجل الحفاظ على ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، فإذا لم تكن هذه الملاكات ثابتة واقعا فالاحتياط تجاهها منتف إذ لا موضوع له.

وحينئذ نقول : لمّا كان الامتنان مرتبطا بنفي وجوب الاحتياط ، والاحتياط يمكن نفيه بأحد هذين الوجهين ، فمن الممكن أن يكون المنظور في حديث الرفع الرفع الواقعي أيضا ، من أجل التوصّل به إلى نفي وجوب الاحتياط فيكون الاحتياط مرفوعا ولكن مع الواسطة لا مباشرة.

وعليه ، فإذا حمل الرفع على الرفع الواقعي كان الامتنان ثابتا لكون الاحتياط مرفوعا أيضا ، ولا يتعيّن أن يكون الاحتياط بنفسه مرفوعا بنحو مباشر ، وحديث الرفع ليس ظاهرا بأكثر من الامتنان وهو يتحقّق مع الواسطة أيضا ، فلا معيّن لاستظهار الرفع الظاهري من الامتنان ؛ لأنّه يصدق مع الرفع الواقعي أيضا ، حيث إنّ الاحتياط منتف بلحاظه أيضا.

الوجه الثاني : أنّ الرفع إذا كان واقعيّا فهذا يعني أخذ العلم بالتكليف فيه ، فإن كان بمعنى أخذ العلم بالتكليف المجعول قيدا فيه فهو مستحيل ثبوتا ، كما تقدّم. وإن كان بمعنى أخذ العلم بالجعل قيدا في المجعول فهو ممكن ثبوتا ، ولكنّه خلاف ظاهر الدليل جدّا ؛ لأنّ لازم ذلك أن يكون المرفوع غير المعلوم لأنّ الأوّل هو المجعول والثاني هو الجعل ، مع ظهور الحديث في أنّ العلم والرفع يتبادلان على مصبّ واحد ، وهذا بنفسه كاف لجعل الحديث ظاهرا في الرفع الظاهري ، وبذلك يثبت المطلوب.

الوجه الثاني : ما ذكره السيّد الشهيد من أنّ الرفع هو الرفع الظاهري لا الواقعي ؛ وذلك لأنّه لو كان المراد الرفع الواقعي لكان المفاد أنّ الحكم إذا لم يعلم به فهو مرفوع واقعا ، وهذا معناه أنّ ثبوت الحكم الواقعي مقيّد بالعلم به ، وهذا التقييد له نحوان :

الأوّل : أن يكون العلم بالحكم في مرحلة الجعل قيدا فيه ، بمعنى أنّ الشارع لا

ص: 114

يجعل الحكم إلا إذا علم به فهو مستحيل ؛ لأنّ أخذ العلم بالتكليف المجعول من الشارع قيدا فيه يلزم منه محذور الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كما تقدّم سابقا ، وهكذا الحال لو كان العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول.

الثاني : أن يكون العلم بالحكم في مرحلة الجعل قيدا في الحكم في مرحلة المجعول ، بأن يكون الوجوب الفعلي للصلاة مقيّدا بالعلم بتشريع الصلاة ، فهذا ممكن عقلا ولا مانع منه ثبوتا.

إلا أنّ هذا النحو لا يمكن تطبيقه في مقامنا ؛ وذلك لأنّ لازمه أن يكون المرفوع مغايرا للمعلوم ؛ وذلك لأنّ المرفوع على هذا هو الحكم المجعول بينما غير المعلوم هو الحكم بمعنى الجعل ، أي إذا لم يعلم بالجعل فالمجعول مرفوع لا الجعل نفسه ، وهذا خلاف الظاهر من حديث الرفع ؛ لأنّ قوله : « رفع ما لا يعلمون » مفاده أنّ الرفع والعلم يتبادلان على مورد واحد ، أي أنّ هذا الشيء إذا علم فهو موضوع وإذا لم يعلم فهو مرفوع فمصبّهما شيء واحد وضعا ورفعا.

وبهذا ظهر أنّ كلا النحوين من أخذ العلم قيدا في الحكم غير صحيح في مقامنا ؛ لأنّ الأوّل مستحيل ، والثاني مخالف للظاهر من الحديث ، وبهذا لا يكون هناك معنى محصّل لحمل الرفع على الرفع الواقعي ، فيتعيّن الحمل على الرفع الظاهري بهذه القرينة.

وحينئذ يثبت لنا المطلوب وهو إثبات الترخيص وإطلاق العنان على المكلّف الشاك في الحكم من جهة ، وإيجاد معارض لأدلّة الاحتياط من جهة أخرى ؛ لأنّ الرفع الظاهري معناه رفع وجوب الاحتياط على الشاك والجاهل وأنّه مؤمّن عليه من هذه الناحية.

وبهذا ينتهي الكلام عن المرحلة الثانية.

المرحلة الثالثة : في شمول فقرة الاستدلال للشبهات الموضوعيّة والحكميّة ، إذ قد يتراءى أنّه لا يتأتّى ذلك ؛ لأنّ المشكوك في الشبهة الحكميّة هو التكليف ، والمشكوك في الشبهة الموضوعيّة الموضوع ، فليس المشكوك فيهما من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد.

المرحلة الثالثة : في شمول الرفع الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا.

ص: 115

قد يقال : إنّ فقرة « رفع ما لا يعلمون » التي هي مورد الاستدلال مختصّة بالشبهات الموضوعيّة فقط ، نظرا إلى وحدة السياق في اسم الموصول ، فإنّ المضطرّ إليه والمكره عليه إنّما هو الفعل والموضوع الخارجي ، فيكون المجهول أيضا الموضوع الخارجي لا الحكم حفاظا على وحدة السياق.

ولا يمكن إرادة الموضوع الخارجي الذي هو المشكوك في الشبهات الموضوعيّة ، وإرادة الحكم والتكليف الكلّي الذي هو المشكوك في الشبهات الحكميّة ؛ وذلك لأنّ الحكم والموضوع متغايران سنخا ، فالحكم موطنه التشريع وعالم اللحاظ المولوي بينما الموضوع موطنه الخارج ، ولا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ؛ لأنّه مستحيل.

والتحقيق : أنّ الشمول يتوقّف على أمرين :

أحدهما : تصوير جامع مناسب بين المشكوكين في الشبهتين ليكون مصبّا للرفع.

والآخر : عدم وجود قرينة في الحديث على الاختصاص.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ شمول حديث الرفع للشبهتين الموضوعيّة والحكميّة أي الموضوع والحكم ، يتوقّف على إمكان إثبات أمرين هما :

أوّلا : إمكانيّة تصوير الجامع بين الموضوع والحكم ، فإنّه إذا تمكّنا من تصوير الجامع فيكون اسم الموصول مستعملا في هذا الجامع وهو معنى واحد ، والمفروض صلاحيّته للانطباق على المشكوك في الشبهتين من دون محذور.

وثانيا : إثبات عدم وجود المخصّص المتّصل لحديث الرفع ، سواء في ذلك الشبهة الحكميّة والموضوعيّة معا أي ردّ دعوى وجود قرينة على أنّ المراد من اسم الموصول الشبهة الموضوعيّة ، أو الشبهة الحكميّة.

فإذا تمكّنا من إثبات هذين الأمرين فنستطيع أن نثبت عموم الموصول لكلتا الشبهتين ، ولذلك نقول :

أمّا الأمر الأوّل : فقد قدّم المحقّقون تصويرين للجامع :

التصوير الأوّل : أنّ الجامع هو الشيء باعتباره عنوانا ينطبق على التكليف المشكوك في الشبهة الحكميّة والموضوع المشكوك في الشبهة الموضوعيّة.

الأمر الأوّل بالنسبة للجامع فهناك تصويران له :

التصوير الأوّل : أنّ المراد باسم الموصول عنوان الشيء فينطبق على الحكم وعلى

ص: 116

الموضوع معا ؛ وذلك لأنّ عنوان الشيئيّة عامّ ومبهم يصدق حقيقة على التكليف وعلى الموضوع ؛ لأنّ كلاّ منهما يسمّى ب- ( الشيء ) ، وحينئذ يكون مفاد الحديث أنّه رفع الشيء الذي لا يعلمونه ، فيشمل كلّ شيء قابلا للرفع والوضع شرعا.

وقد اعترض صاحب ( الكفاية ) (1) على ذلك بأنّ إسناد الرفع إلى التكليف حقيقي وإسناده إلى الموضوع مجازي ، ولا يمكن الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي.

واعترض صاحب ( الكفاية ) على ما ذكر من تصوير الجامع بالشيء بأنّه يلزم منه استعمال الموصول في إسنادين أحدهما حقيقي والآخر مجازي ، وهو مستحيل.

وبيان ذلك : أنّ إسناد الرفع إلى الحكم في الشبهات الحكميّة يكون إسنادا حقيقيّا ؛ لأنّ الحكم بيد الشارع وضعه ورفعه في عالم التشريع الذي هو موطن الحكم حقيقة.

بينما إسناد الرفع إلى الموضوع مجازي ؛ وذلك لأنّ الموضوع متحقّق في عالم الخارج والتكوين ، فالفعل المضطرّ إليه واقع في الخارج وكذا الموضوع المشكوك فإنّه موجود في الخارج ، فرفعه كان بلحاظ الآثار المترتبة عليه من نفي الحكم التكليفي أو الوضعي وهكذا ، فكان إسناد الرفع إلى الموضوع مجازيّا.

وحينئذ فإن كان اسم الموصول مستعملا في الإسنادين معا لزم المحذور وهو استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين ، فإنّه مستحيل ؛ لأنّ اللفظ يفنى في المعنى الأوّل ولا يمكن أن يفنى في المعنى الآخر أيضا.

وحاول المحقّق الأصفهاني (2) أن يدفع هذا الاعتراض ، بأنّ من الممكن أن يجتمع وصفا الحقيقيّة والمجازيّة في إسناد واحد باعتبارين ، فبما هو إسناد للرفع إلى هذه الحصّة من الجامع حقيقي ، وبما هو إسناد له إلى الأخرى مجازي.

وأجاب المحقّق الأصفهاني على اعتراض صاحب ( الكفاية ) ، بأنّ الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي في استعمال واحد ممكن لكن باعتبارين وجهتين لا من جهة واحدة.

ص: 117


1- حاشية فرائد الأصول : 190.
2- نهاية الدراية 4 : 49.

وتوضيح ذلك : أنّ الحقيقة والمجاز متقابلان في الاعتبار والاستعمال لا في الواقع والحقيقة ، كما هو الحال بالنسبة للضدّين أو النقيضين.

وعليه ، فإذا كان الاعتبار مختلفا فلا محذور ، وهنا الأمر كذلك ، فإنّ الرفع بلحاظ هذه الحصّة الخاصّة من الجامع يكون حقيقيّا أي رفع الحكم ، وبلحاظ تلك الحصّة يكون مجازيّا أي بلحاظ الموضوع ، فاختلف الإسناد نتيجة اختلاف الحصّة المراد رفعها من حصص الجامع ، لا أنّ الجامع نفسه يلحظ فيه الإسنادين معا ، وإنّما يلحظ الإسناد بلحاظ واعتبار الحصّة.

وهذا نظير اختلاف الجهة وتعدّد اللحاظ والاعتبار في غير الموصول من المفاهيم الكلّيّة والجزئيّة ، فالإنسان عالم وجاهل أي عالم بلحاظ هذا الفرد وجاهل بلحاظ الفرد الآخر ، وهكذا.

وهذه المحاولة ليست صحيحة ؛ إذ ليس المحذور في مجرّد اجتماع هذين الوصفين في إسناد واحد ، بل يدّعى أنّ نسبة الشيء إلى ما هو له مغايرة ذاتا لنسبة الشيء إلى غير ما هو له.

فإن كان الإسناد في الكلام مستعملا لإفادة إحدى النسبتين اختصّ بما يناسبها ، وإن كان مستعملا لإفادتهما معا فهو استعمال لهيئة الإسناد في معنيين ، ولا جامع حقيقي بين النسب لتكون الهيئة مستعملة فيه.

ويرد على هذه الإجابة التي ذكرها المحقّق الأصفهاني بأنّها لا تكفي لرفع الاعتراض المذكور.

وتوضيح ذلك : أنّ الاعتراض كانت النكتة فيه أنّه لا يمكن الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي في كلام واحد.

وهذا إن كان النظر فيه إلى عالم الصدق الخارجي ، وأنّه كيف يمكن أن ينطبق استعمال واحد على إسنادين متغايرين ذاتا؟

كان جوابه ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ هذا الاستعمال الواحد باعتبار هذه الحصّة الخارجيّة يكون حقيقيّا وباعتبار تلك الحصّة يكون مجازيّا ، أي أنّه باختلاف الاعتبار صدق الاستعمال الواحد على إسنادين متغايرين.

إلا أنّ النظر ليس إلى عالم الصدق الخارجي ، وإنّما النظر فيه إلى عالم الاستعمال

ص: 118

والإسناد والذي هو عالم اللحاظ الذهني ، وهذا قبل مرحلة الصدق الخارجي ، حيث إنّ الواضع أو المستعمل أو المسند يتصوّر الصورة الذهنيّة للشيء ثمّ يضع ويستعمل ويسند اللفظ إليه. فالاستعمال والإسناد ينصبّان على عالم الصور الذهنيّة أي المفاهيم لا المصاديق.

وحينئذ نقول في بيان الاعتراض : إنّ نسبة الشيء إلى المعنى الموضوع له أي المعنى الحقيقي تختلف وتغاير ذاتا نسبة الشيء إلى المعنى الآخر الذي لم يوضع له أي المعنى المجازي.

ووجه المغايرة بينهما واضح ؛ لأنّ المعنى الحقيقي هو المدلول عليه بالدلالة الوضعيّة التصوّريّة من نفس اللفظ ، بينما المعنى المجازي هو المعنى المدلول عليه تصوّرا على أساس القرينة الموجودة مع اللفظ لا اللفظ وحده.

وعليه فإن كان مفاد الهيئة في قوله « رفع ما يعلمون » إفادة إحدى النسبتين بحيث يكون مستعملا في المعنى الحقيقي فقط أو المعنى المجازي فقط ، فيكون المستعمل والمسند قد لاحظ إحدى النسبتين فقط ، واستعمل الهيئة فيها ، وحينئذ يتحدّد مراده الجدّي وفقا لما استعمل الكلام فيه.

وإن كان مفاد الهيئة مستعملا لإفادة كلتا النسبتين والإسنادين الحقيقي والمجازي فهو غير معقول في نفسه ؛ لأنّه يتوقّف على تصوير الجامع بين النسبتين ، وقد تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة أنّ الجامع الحقيقي الذاتي والعرضي لا يمكن تصوّره في عالم النسب ؛ لأنّ كلّ نسبة متقوّمة ذاتا بطرفيها ويستحيل انفكاكها عنهما ؛ لأنّ ما به الامتياز هو نفس ما به الاشتراك ، ولذلك لا يمكن استعمال الهيئة في إفادة النسبتين معا ، فالمحذور المذكور في الاعتراض على حاله.

والصحيح أن يقال : إنّ إسناد الرفع مجازي حتّى إلى التكليف ؛ لأنّ رفعه ظاهري عنائي وليس واقعيّا.

والصحيح في الجواب عن الاعتراض أن يقال : إنّ الهيئة في قوله : « رفع ما لا يعلمون » مستعملة في الإسناد المجازي لا الحقيقي ؛ وذلك لما تقدّم من أنّ الرفع الواقعي للحكم فيه المحذور المتقدّم من مخالفة الظاهر ، حيث إنّ ظاهر الحديث إسناد الرفع إلى نفس المشكوك.

ص: 119

فإن حمل على الرفع الواقعي للتكليف لزم أخذ العلم قيدا في الحكم وفيه محذور الدور أو التقدّم والتأخّر ، وإن أخذ العلم بالحكم في مرحلة الجعل قيدا فيه في مرحلة المجعول لزم تغاير المرفوع والمعلوم ، ولذلك يحمل الرفع على الظاهري أي وجوب الاحتياط ، وهذا فيه عناية واضحة إلا أنّه لا بدّ منها ، وعليه فالرفع عنائي ومجازي.

وحينئذ يكون إرادة الحكم والموضوع على حدّ سواء ؛ لأنّهما معا على نحو المجاز لا الحقيقة ، فيكون المعنى المستعمل هو الرفع المجازي فهناك إسناد واحد في عالم التصوّر والمفهوم وله حصّتان في عالم الصدق الخارجي ؛ لأنّه إذا شكّ في الحكم فهو مرفوع عناية أي المرفوع وجوب الاحتياط تجاهه لا الحكم نفسه ، وإذا شكّ في الموضوع فهو مرفوع أيضا بمعنى أنّه ليس موضوعا أو متعلّقا للحكم الشرعي.

التصوير الثاني : أنّ الجامع هو التكليف ، وهو يشمل الجعل بوصفه تكليفا للموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، ويشمل المجعول بوصفه تكليفا للفرد المحقّق الوجود ، وفي الشبهة الحكميّة يشكّ في التكليف بمعنى الجعل ، وفي الشبهة الموضوعيّة يشكّ في التكليف بمعنى المجعول وهذا تصوير معقول أيضا بعد الإيمان بثبوت جعل ومجعول كما عرفت سابقا.

التصوير الثاني للجامع بين الشبهتين الحكميّة والموضوعيّة ، ما ذكره المحقّق العراقي قدس سره : من أنّ المراد بالموصول هو الحكم والتكليف ، أي رفع التكليف الذي لا يعلمونه ، فيكون الإسناد حقيقيّا وشاملا لكلتا الشبهتين.

وعنوان التكليف كما يشمل الحكم في مرحلة الجعل كذلك يشمل الحكم في مرحلة المجعول.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم بلحاظ الجعل هو ذاك الحكم الكلّي الذي يجعله الحاكم على الموضوع المقدّر والمفترض الوجود أي على نهج القضيّة الحقيقيّة ، فإنّ الشارع يصبّ حكمه على الصورة الذهنيّة ويكون بنحو القضيّة الحقيقيّة ، أي الحكم الكلّي على الموضوع الكلّي المقدّر والمفترض وجوده.

وأمّا الحكم بلحاظ المجعول فهو ذاك الحكم الجزئي ؛ لأنّ الحكم لا يصبح فعليّا إلا بعد تحقّق القيود والشروط المأخوذة فيه ، فإذا تحقّقت الشروط في الخارج صار الحكم فعليّا ، والحكم الفعلي هو الحكم الجزئي ؛ لأنّه تابع للخارج وللوجود الخارجي الفعلي

ص: 120

للقيود والشروط ، وكلّ ما هو موجود فعلا في الخارج فهو جزئي ؛ لأنّه متشخّص.

وحينئذ نقول : إنّه في الشبهة الحكميّة يكون الشكّ في الحكم بمعنى الجعل ، فمن يشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال معنى شكّه هذا أنّ الجعل هل صدر من الشارع أم لا؟ فهو شكّ في الجعل.

وفي الشبهة الموضوعيّة يكون الشكّ في الحكم بمعنى المجعول ؛ لأنّه من يشكّ في كون هذا السائل خمرا فهو يشكّ في ثبوت الحرمة فعلا لهذا السائل بعد علمه بجعلها في عالم التشريع ، فهو شكّ في فعليّة الحكم ؛ لأنّه يشكّ في تحقّق قيوده وشروطه.

وبهذا ظهر أنّ الشكّ في الحكم موجود في الشبهتين معا ، فيكون استعمال الهيئة في الإسناد الحقيقي متحقّقا بلحاظ كلتا الشبهتين ولا محذور.

والجواب : أنّ هذا التصوير معقول ثبوتا بناء على القول بأنّه يوجد نحوان من الحكم أحدهما الجعل والآخر المجعول ، إلا أنّ الصحيح أنّ الحكم له وجود واحد حقيقي وهو الوجود في عالم التشريع أي الحكم بلحاظ عالم الجعل فقط ، وأمّا الحكم بلحاظ مرحلة المجعول فهو وجود اعتباري ؛ إذ لا وجود حقيقي للمجعول مستقلاّ عن الجعل ، وإنّما هو تعبير آخر عن الجعل بلحاظ بعض مراتبه ومراحله ، وعليه فإرادة الحكم المجعول الاعتباري فيه عناية زائدة ؛ لأنّه منزّل منزلة الجعل الذي له وجود حقيقي وهذه عناية مجازيّة ، فيبقى الإشكال على حاله.

وأمّا الأمر الثاني : فقد يقال بوجود قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة من ناحية وحدة السياق ، كما يدّعى العكس ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في الحلقة السابقة (1) ، واتّضح أنّه لا قرينة على الاختصاص ، فالإطلاق تامّ.

الأمر الثاني بالنسبة لوجود القرينة فهناك قولان :

أوّلا : أنّه يوجد قرينة في الحديث تجعله مختصّا بالشبهة الموضوعيّة فقط ، وهذه القرينة هي وحدة السياق ، فإنّ ما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه وما أكرهوا عليه ، إنّما هو الفعل الخارجي ، فيكون المراد من اسم الموصول في « رفع ما لا يعلمون » الفعل الخارجي أيضا حفاظا على وحدة السياق.

ص: 121


1- في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

وثانيا : أنّه يوجد قرينة على اختصاص « رفع ما لا يعلمون » بالشبهة الحكميّة دون الموضوعيّة ؛ وذلك لأنّ الحكم إذا شكّ فيه فيصدق عنوان « رفع ما لا يعلمون » ؛ لأنّ المرفوع هو الحكم والمشكوك وغير المعلوم هو الحكم أيضا ، فالرفع حقيقي ، وأمّا الموضوع فلا يشكّ فيه من ناحية وجوده إذ المفروض وجود الموضوع في الخارج ، وإنّما يشكّ فيه من ناحية كونه عنوانا للجعل الكلّي ، أي هل هو موضوع أو متعلّق لذلك الجعل الكلّي أم لا؟ وإلا فهو بنفسه ممّا لا يشكّ فيه ؛ لأنّه موجود فعلا في الخارج فإسناد الرفع إليه باعتبار عنوانه لا باعتبار نفسه وذاته ، وهذا رفع عنائي.

والصحيح عدم صحّة هذين الادّعاءين.

أمّا الأوّل فلأنّ وحدة السياق لا تنثلم حتّى لو كان المراد من اسم الموصول الشبهة الحكميّة أيضا ؛ وذلك لأنّنا قلنا : إنّ اسم الموصول مستعمل في معناه العامّ والمبهم وهو عنوان الشيء مثلا ، وهذا العنوان موجود في جميع الفقرات ، غاية الأمر أنّ المراد الجدّي كان مختلفا فيها ، وهذا لا يضرّ بالاستعمال ؛ لأنّه لا ينظر إلى عالم الصدق الخارجي وإنّما ينظر إلى عالم المفاهيم والصور الذهنيّة والمفروض وحدة الموصول هناك.

وأمّا الثاني فيرد عليه أنّ الموضوع الموجود في الخارج وإن كان موجودا فعلا وغير مشكوك إلا أنّه من ناحية أخرى غير معلوم ؛ إذ العنوان التفصيلي مشكوك وهذا كاف لتحقّق عدم العلم ، فيصدق الرفع على الموضوع بهذا اللحاظ.

مضافا إلى أنّ المراد هنا كما تقدّم إمّا الشيء وإمّا التكليف وكلاهما يصدق على الحكم وعلى الموضوع.

أمّا عنوان الشيء فواضح ؛ لأنّ الحكم والموضوع يصدق عليهما عنوان الشيء ، وأمّا عنوان التكليف فلأنّ الحكم تكليف بمعنى الجعل الكلّي ، والموضوع تكليف بمعنى المجعول الجزئي كما تقدّم.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد في الحديث قرينة تخصّص إطلاق الحديث بإحدى الشبهتين ، فالحديث يشمل كلا الموردين بإطلاقه.

وبهذا ينتهي الكلام عن حديث الرفع.

ص: 122

وهناك روايات أخرى استدلّ بها للبراءة ، تقدّم الكلام عن جملة منها في الحلقة السابقة (1) وعن قصور دلالتها أو عدم شمولها للشبهات الحكميّة ، فلاحظ.

وهناك روايات أخرى استدلّ بها ، لكنّها إمّا قاصرة من حيث الدلالة عن إفادة البراءة ، وإمّا قاصرة عن الشمول للشبهات الحكميّة ، وقد تقدّم جملة منها في الحلقة الثانية نذكر منها ما يلي :

1 - حديث الحجب ، وهو تامّ الدلالة على البراءة إلا أنّه يختصّ بالشبهات الحكميّة ؛ لأنّ قوله « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » مختصّ بما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع بما هو شارع أي التكليف.

2 - حديث الحلّيّة ، وهو ليس دالاّ على البراءة أصلا ؛ لأنّ مفاد قوله « كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » إفادة مطلب وقاعدة شرعيّة فقهيّة ، وهي أصالة الحلّيّة في الأشياء.

كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك بإجراء استصحاب عدم جعل التكليف أو استصحاب عدم فعليّة التكليف المجعول ، وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأوّل بداية الشريعة ، وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلا ، بل قد يكون زمان ما بعد البلوغ أيضا ، كما إذا كان المشكوك تكليفا مشروطا وشكّ في تحقّق الشرط بعد البلوغ فبالإمكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.

قد يقال بأنّ الاستصحاب يقوم مقام البراءة في النتيجة العمليّة أي إثبات التأمين وإطلاق العنان وإيجاد المعارض لأدلّة الاحتياط لو تمّت ، وهذا الاستصحاب له ثلاث صور :

الأولى : أن نستصحب عدم جعل التكليف بلحاظ بداية الشريعة ؛ وذلك بأن يلتفت المكلّف إلى الحكم المشكوك في بداية التشريع فيقول : إنّ هذا الحكم المشكوك لم يجعل في بداية التشريع أو ما قبل التشريع ؛ لأنّ الأحكام نزلت تدريجيّا كما هو واضح ، فالحالة السابقة المتيقّنة هي عدم جعل التكليف ، والآن يشكّ في جعله فيستصحب عدمه ، وبذلك يثبت التأمين.

ص: 123


1- في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

الثانية : أن يستصحب عدم فعليّة التكليف المجعول بلحاظ زمان ما قبل البلوغ ، فإنّ المكلّف إذا شكّ في وجوب شيء أو عدمه أمكنه استصحاب عدم فعليّة التكليف ؛ لأنّ فعليّته لم تكن متحقّقة قبل البلوغ فلم يكن التكليف فعليّا بحقّه ، والآن يشكّ في فعليّته فيستصحب عدمها ، سواء كان الحكم ثابتا في عالم الجعل أم لا.

فالنظر هنا إلى عالم تحقّق فعليّة الحكم بتحقّق موضوعه المتوقّف على توفّر كلّ الشروط والقيود المأخوذة فيه.

الثالثة : أن نستصحب عدم فعليّة التكليف المجعول أيضا بلحاظ ما بعد البلوغ ، كمن يشكّ بعد بلوغه في وجوب الحجّ عليه وعدمه ، وذلك من جهة تحقّق الاستطاعة بحقّه وعدمها ، فهنا إذا التفت إلى قبل بلوغه فالشرط أي الاستطاعة لم يكن متحقّقا بحقّه فيمكن استصحاب عدمها ، وبالتالي ينتفي المشروط وهو الحجّ لانتفاء شرطه.

وفرق هذا عن السابق أنّه هنا نستصحب عدم الشرط قبل البلوغ إلى ما بعد البلوغ فينتفي المشروط ، بينما في السابق كنّا نستصحب عدم فعليّة الحكم المجعول ؛ لأنّه لم يكن فعليّا قبل البلوغ فنستصحب عدم فعليّته إلى ما بعده. وهذا الاستصحاب موضوعي بخلاف السابقين.

* * *

ص: 124

الاعتراضات العامّة

اشارة

ص: 125

ص: 126

الاعتراضات العامّة

ويعترض على أدلّة البراءة المتقدّمة باعتراضين أساسيّين :

أحدهما : أنّها معارضة بأدلّة تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل هذه الأدلّة حاكمة عليها ؛ لأنّها بيان للوجوب وتلك تتكفّل جعل البراءة في حالة عدم البيان.

بعد الفراغ عن ثبوت البراءة الشرعيّة من الآيات والروايات قد يعترض عليها باعتراضين مهمّين هما :

الاعتراض الأوّل : أنّ البراءة المستفادة من الآيات والروايات معارَضة بأدلّة تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الأدلّة حاكمة ومقدّمة على أدلّة البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ البراءة إذا كان مفادها أنّ التأمين وإطلاق العنان مجعول في مورد الشكّ في الحكم الواقعي والجهل به ، فهذا يعني أنّ موضوعها عدم العلم بالواقع فتكون معارضة بأدلّة الاحتياط التي موضوعها أيضا عدم العلم ، فيكون لدينا حكمان ظاهريّان متغايران منصبّان على موضوع واحد.

وأمّا إذا كانت البراءة والتأمين مجعولة في مورد عدم العلم والبيان الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فهذا يعني أنّه مع عدم بيان الحكم الواقعي ، ومع عدم بيان الاحتياط تكون البراءة ثابتة ، فهنا تكون أدلّة الاحتياط حاكمة ومقدّمة ؛ لأنّها تثبت البيان الظاهري ، فيرتفع موضوع البراءة.

والحاصل : أنّ كون أدلّة الاحتياط معارضة أو حاكمة مرتبط بالدليل الدالّ على البراءة ، فإن كان الدليل مثل قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) كان الاحتياط رسولا وبيانا فيكون حاكما ، وإن كان الدليل مثل قوله ( علیه السلام ) : « رفع ما لا يعلمون » كان الاحتياط معارضا ؛ لأنّ موضوعه عدم العلم الواقعي.

ص: 127

والاعتراض الآخر : أنّ أدلّة البراءة تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكميّة ليست مشكوكات بدوية ، بل هي مقرونة بالعلم بالإجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنة في مجموع تلك الشبهات.

الاعتراض الثاني : أنّ البراءة كما سيأتي مختصّة في موارد الشكّ البدوي لا الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، فمثلا إذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان شكّا بدويّا ، بينما إذا شكّ في نجاسة أحد هذين الإناءين فهذا شكّ مقرون بالعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما المردّدة بينهما ، والبراءة تجري في الأوّل دون الثاني.

إلاّ أنّه في الشبهات الحكميّة عموما يوجد علم إجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة هذه الشبهات ، وهذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجّزيّته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، فيمتثل لما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته.

ودائرة هذا العلم الإجمالي هو مجموع الشبهات المشكوكة ، فإنّنا إذا لاحظنا هذه الشبهات بمجموعها سوف يحصل لنا العلم بوجود تكاليف إلزاميّة وجوبيّة أو تحريميّة فيها ، ولكنّها ليست معلومة تفصيلا ، وهذا العلم الإجمالي ينجّز لنا كلّ الأطراف فيكون الحكم هو الاحتياط العقلي بالامتثال أو الترك لما يحتمل وجوبه أو حرمته.

أمّا الاعتراض الأوّل فنلاحظ عليه عدّة نقاط :

الأولى : أنّ ما استدلّ به على وجوب الاحتياط ليس تامّا ، كما يظهر باستعراض الروايات التي ادّعيت دلالتها على ذلك ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) استعراض عدد مهمّ منها مع مناقشة دلالتها ، نعم جملة منها تدلّ على الترغيب والحثّ عليه ، ولا كلام في ذلك.

أمّا الاعتراض الأوّل فيرد عليه عدّة نقاط :

الأولى : أنّ هذه الأدلّة التي ادّعيت دلالتها على وجوب الاحتياط ليست تامّة كما تقدّم ذلك سابقا في الحلقة الثانية ، حيث استعرضنا هناك تلك الأدلّة وقلنا : إنّ بعضها غير تامّ السند ، وبعضها غير تامّ الدلالة على الوجوب ، نعم بعض تلك الأدلّة يدلّ على

ص: 128


1- في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

حسن الاحتياط وكونه مرغوبا فيه ، وهذا المقدار لا إشكال فيه ؛ وذلك لحكم العقل بحسن الاحتياط.

الثانية : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط المدّعاة ليست حاكمة على أدلّة البراءة المتقدّمة ، لما اتّضح سابقا من أنّ جملة منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع ، فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذ بين الطائفتين من الأدلّة.

النقطة الثانية : أنّنا لو سلّمنا بتماميّة الأدلّة على وجوب الاحتياط لكنّها لا تكون حاكمة على أدلّة البراءة والترخيص.

وتوضيح ذلك : أنّ بعض أدلّة البراءة كانت تثبت البراءة في فرض عدم العلم والبيان الأعمّ من الواقعي والظاهري ، وهذه الأدلّة محكومة لأدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّها تثبت البيان الظاهري فيرتفع موضوع أدلّة البراءة.

إلا أنّ البعض الآخر من أدلّة البراءة كانت تثبت البراءة في فرض عدم العلم بالواقع فقط ، أي أنّ موضوعها الجهل والشكّ في الحكم الواقعي كحديث الرفع مثلا وكقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وهذه الأدلّة لا تكون محكومة لأدلّة وجوب الاحتياط بل تكون معارضة لها ؛ وذلك لأنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وموضوعهما واحد ، وهو الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فهما إذا في رتبة عرضيّة واحدة وليس أحدهما في طول الآخر ليكون حاكما ، وحينئذ يحكم بتعارضهما.

الثالثة : إذا حصل التعارض بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّ ما يعارضها من أدلّة البراءة القرآنيّة الآية الأولى على أساس الإطلاق في اسم الموصول فيها للتكليف ، وهذا الإطلاق يقيّد بأدلّة وجوب الاحتياط ، وما يعارضها من أدلّة البراءة في الروايات حديث الرفع وهي أخصّ منه أيضا ، لورودها في الشبهات الحكميّة وشموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة فيقيّد بها.

النقطة الثالثة : أنّه بعد وقوع المعارضة بين أدلّة البراءة وأدلّة وجوب الاحتياط ، فهل يحكم بالتساقط كما هو مقتضى الأصل الأوّلي في التعارض أو يكون بينهما جمع عرفي فيرتفع التعارض لكونه غير مستقرّ؟

ص: 129

قد يقال : إنّ التعارض بين أدلّة البراءة والاحتياط من التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّه يمكن الجمع بينهما جمعا عرفيّا وبه ينحلّ التعارض.

وتوضيحه : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط يعارضها من أدلّة البراءة نوعان : هما البراءة المستفادة من الآيات ، والبراءة المستفادة من الروايات.

أمّا البراءة المستفادة من الآيات فهي البراءة المستفادة من قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ، ) وهذه الآية يمكن الجمع بينها وبين أدلّة وجوب الاحتياط ؛ وذلك لأنّ أدلّة وجوب الاحتياط مختصّة بالتكاليف والأحكام أي الشبهات الحكميّة ، بينما الآية كانت بإطلاقها شاملة للمال والفعل والتكليف أي الحكم ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ؛ لأنّ مورد الاحتياط أخصّ ومورد الآية أعمّ منه ومن غيره.

والوجه بينهما بتخصيص وتقييد الآية في غير مورد الاحتياط فيخرج التكليف من موضوع الآية ، وبهذا يكون الاحتياط هو المقدّم ؛ لأنّ الآية بعد الجمع بينها وبين أدلّة الاحتياط سوف تشمل خصوص المال والفعل دون التكليف ، فإنّه يكون داخلا في أدلّة الاحتياط ؛ لأنّها نصّ فيه.

وهذا نظير ورود دليل مطلق ( أكرم العالم ) ودليل مقيّد ( لا تكرم الفاسق ) فإنّه يخصّص مورد الدليل المطلق بالعادل فقط.

وأمّا البراءة المستفادة من الروايات فكانت مستفادة من قوله ( علیه السلام ) : « رفع ما لا يعلمون » كما تقدّم.

وقلنا : إنّ هذا الحديث يشمل الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة معا ، بينما أدلّة الاحتياط مختصّة في الشبهات الحكميّة فتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق أيضا ، وهنا تكون النتيجة لصالح أدلّة الاحتياط ؛ لأنّ مقتضى الجمع العرفي هو حمل العامّ على الخاصّ وإخراج مورد الخاصّ من دائرة العامّ ، وبالتالي سوف يكون حديث الرفع مقيّدا بالشبهات الموضوعيّة بعد أن كان شاملا للشبهات الحكميّة أيضا.

ولكنّ التحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط والآية الكريمة هي العموم من وجه ؛ لشمول تلك الأدلّة موارد عدم الفحص واختصاص الآية بموارد الفحص

ص: 130

كما تقدّم عند الكلام عن دلالتها (1) ، فهي كما تعتبر أعمّ بلحاظ شمولها للفعل والمال كذلك تعتبر أخصّ بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجه يقدّم الدليل القرآني لكونه قطعيّا.

والتحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة البراءة القرآنيّة وبين أدلّة الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه وليس العموم والخصوص مطلقا.

وتوضيح ذلك : أنّ الآية الكريمة : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) كما أنّها تشمل المال والفعل والتكليف فتكون أعمّ من مورد أدلّة الاحتياط المختصّة بالشبهات الحكميّة ، إلا أنّها من جهة أخرى تكون أخصّ من أدلّة الاحتياط ؛ وذلك لأنّ الآية الكريمة مختصّة بما بعد الفحص ولا تشمل ما قبل الفحص كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الإيتاء للتكليف يكفي فيه أن يصدر التشريع في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فلا بدّ من البحث عنه هناك وهذا هو معنى الفحص ، بينما أدلّة الاحتياط تشمل ما قبل الفحص وما بعده فهي أعمّ من هذه الجهة.

وفي موارد التعارض بالعموم من وجه يكون كلّ دليل حجّة في مورد افتراقه عن الآخر ، فتكون أدلّة الاحتياط حجّة في الشبهات الحكميّة قبل الفحص ؛ لأنّها ليست مشمولة للآية ، وتكون الآية حجّة في المال والفعل لعدم شمولهما لأدلّة الاحتياط.

وأمّا في مورد الاجتماع وهو الشبهات الحكميّة بعد الفحص فيقع التعارض بينهما بلحاظه ، وهنا يقدّم الدليل القرآني على الدليل الروائي ، لكونه قطعيّا من حيث السند والصدور ، بخلاف الدليل الروائي الدالّ على الاحتياط فإنّه ظنّي السند ؛ إذ أدلّة الاحتياط من الأخبار لا تبلغ درجة التواتر لتكون قطعيّة.

مضافا إلى أنّ خبر الواحد يشترط في حجّيّته ألاّ يكون مخالفا للكتاب ، وهنا أدلّة الاحتياط مخالفة للكتاب فتسقط عن الحجّيّة بلحاظ مورد الاجتماع.

كما أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجه أيضا ؛ لعدم شموله موارد العلم الإجمالي وشمول تلك الأدلّة لها ، ويقدّم حديث الرفع في مادّة الاجتماع والتعارض ؛ لكونه موافقا لإطلاق الكتاب ومخالفه معارض له.

ص: 131


1- ضمن استعراض أدلّة البراءة الشرعيّة ، تحت عنوان : أدلّة البراءة من الكتاب.

وهكذا الحال بالنسبة لأدلّة البراءة من الروايات ، فإنّ النسبة بينها وبين أدلّة وجوب الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه لا العموم والخصوص المطلق.

وبيان ذلك : أنّ حديث الرفع كما أنّه يشمل الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا فيكون أعمّ من أدلّة الاحتياط المختصّة في الشبهات الحكميّة ، إلا أنّه من جهة أخرى يكون أخصّ من أدلّة الاحتياط لكونه لا يشمل الشكّ في موارد العلم الإجمالي ، وإنّما يختصّ في موارد الشكّ البدوي كما تقدّم ؛ لأنّه في موارد العلم الإجمالي يصدق العلم.

بينما أدلّة الاحتياط كما تشمل موارد الشكّ البدوي كذلك تشمل موارد العلم الإجمالي فهي أعمّ من هذه الجهة ، وحينئذ يكون التعارض بينهما من باب العموم من وجه.

وهنا نقول : إنّ أدلّة البراءة تكون حجّة في مورد افتراقها عن أدلّة الاحتياط وهي موارد الشبهة الموضوعيّة ؛ لعدم شمول أدلّة الاحتياط لها ، وتكون أدلّة الاحتياط حجّة في مورد افتراقها عن أدلّة البراءة وهي موارد الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، لعدم شمول أدلّة البراءة له.

يبقى مورد الاجتماع وهو الشبهات الحكميّة المشكوكة شكّا بدويّا ، فإنّ أدلّة البراءة تشملها كما تشملها أدلّة الاحتياط ، فيقع التعارض بينهما بلحاظها ، وهنا أيضا تقدّم أدلّة البراءة ؛ لأنّ حديث الرفع موافق للكتاب بينما أدلّة البراءة مخالفة للكتاب ، وسوف يأتي الترجيح بما يكون موافقا للكتاب على ما يكون مخالفا له ، فيقدّم حديث الرفع لوجود مرجّح فيه بخلاف أدلّة الاحتياط.

ولو تنزّلنا عمّا ذكرناه ممّا يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط أمكن الرجوع إلى البراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع إلى دليل الاستصحاب كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة (1).

ثمّ إنّنا لو سلّمنا بالتعارض بين أدلّة الاحتياط والبراءة ، وتنزّلنا عن وجود المرجّح في أدلّة البراءة ، فمع هذا يكون التعارض لصالح أدلّة البراءة ؛ وذلك لأنّنا إذا قلنا بالتعارض المستقرّ ثمّ حكمنا بالتساقط ، فلا بدّ أن نرجع إلى ما كان حجّة في موارد الشبهات الموضوعيّة والحكميّة المشكوكة شكّا بدويّا.

ص: 132


1- في نهاية ما جاء تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

وعليه فنقول : أمّا على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالمرجع عندهم هو البراءة العقليّة ؛ لأنّه في موارد الشكّ والشبهات يصدق عدم العلم والبيان وجدانا وتعبّدا.

أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّ المفروض هو الشكّ في الواقع ، وأمّا الثاني فلعدم تماميّة الأدلّة الشرعيّة على الاحتياط ؛ لمعارضتها بالأدلّة الشرعيّة على البراءة وتساقطهما معا ، فيكون حكم العقل ثابتا لتحقّق موضوعه ، والنتيجة هي البراءة.

وأمّا على مسلك حقّ الطاعة القائل بأنّه في موارد الشبهات البدويّة يحكم العقل بالاحتياط فالنتيجة لصالح البراءة أيضا ؛ وذلك لأنّنا قلنا : إنّ حكم العقل هذا معلّق وليس مطلقا ، فإذا لم يرد الترخيص والإذن من الشارع فحكم العقل ثابت ، وأمّا إذا ورد الترخيص والإذن فحكم العقل يرتفع لارتفاع موضوعه.

وهنا بعد الحكم بسقوط البراءة والاحتياط لتعارض أدلّتهما يمكننا التمسّك بالاستصحاب المتقدّم ، أي استصحاب عدم التكليف إمّا بمعنى عدم الجعل الكلّي ، وإمّا بمعنى عدم فعليّة المجعول الجزئي ، وهنا الاستصحاب دليل شرعي فيكون إذنا وترخيصا فيرفع به حكم العقل ، والنتيجة العمليّة هي الترخيص والإباحة والتأمين وهذه هو معنى البراءة (1).

ص: 133


1- وأمّا كيفيّة التمسّك بالاستصحاب وكونه حجّة في المقام وعدم دخوله في المعارضة فوجهه هو : أنّ دليل الاستصحاب عامّ يشمل كلّ ما كان متيقّنا سواء الموضوع أم الحكم وسواء الترخيص أم الإلزام ، فهو أعمّ من البراءة لعدم شمولها للإلزام ، وأعمّ من الاحتياط لعدم شموله للترخيص. وهذا الدليل العامّ يبقى حجّة في عمومه وشموله لكلّ الموارد الداخلة تحته إلى أن يحرز وجود المخصّص له ، فإن أحرز المخصّص يخرج عن عمومه مورد الخاصّ. وهنا كما يصلح دليل الاحتياط لتخصيص الاستصحاب وإخراج الشبهات الحكميّة لتنجيزها ، كذلك يصلح دليل البراءة لتخصيصه وإخراج الشبهات الحكميّة للترخيص فيها ، إلا أنّ المفروض تعارض هذين المخصّصين في أنفسهما وبعد الحكم بتساقطهما لا يبقى المخصّص حجّة ليخصّص به دليل الاستصحاب العامّ ، وبهذا يبقى عموم الاستصحاب حجّة لعدم المخصّص الحجّة ، وبهذا ينجو دليل الاستصحاب عن التخصيص ، وأمّا أنّه لا يدخل في المعارضة فلأنّه ليس في عرضهما ، وإنّما المرتبة بينه وبينهما طوليّة.
وأمّا الاعتراض الثاني بوجود العلم الإجمالي فقد أجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في دائرة أخبار الثقات ؛ وفقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ؛ لتوفّر كلا شرطي القاعدة فيها ، فإنّ أطراف العلم الصغير بعض أطراف الكبير ، ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ؛ ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم الصغير بدويّة ، فتجري البراءة في كلّ شبهة لم يقم على ثبوت التكليف فيها أمارة معتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب.

وأما الاعتراض الثاني من وجود علم إجمالي منجّز فقد أجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : دعوى الانحلال الحقيقي ، ببيان : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بعلم إجمالي أضيق دائرة منه ، وهذا يتوقّف على توفّر شرطين هما :

1 - أن تكون أطراف العلم الإجمالي الصغير داخلة في العلم الإجمالي الكبير.

2 - أن يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير أقلّ أو مساويا للمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة إناءين من عشرة إجمالا ثمّ بعد ذلك علمنا بنجاسة إناءين من خمسة إناءات ضمن العشرة ، فهنا ينحلّ العلم الإجمالي بنجاسة إناءين من العشرة إلى علم إجمالي بنجاسة إناءين من الخمسة ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ هذه الخمسة كانت ضمن العشرة ؛ ولأنّ المعلوم بالإجمال في العلمين متساو وهو الإناءان.

وفي مقامنا نطبّق هذه الفكرة لتوفّر كلا الشرطين فنقول : إنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة مجموع الشبهات منحلّ إلى علم إجمالي صغير أضيق دائرة منه ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة الشبهات التي ورد فيها خبر الثقة ، أو غيره من الأصول والأمارات المنجّزة كالاستصحاب مثلا.

والمفروض أنّ دائرة الشبهات التي قام على تنجيزها خبر معتبر داخلة ضمن دائرة الشبهات المعلومة بالعلم الإجمالي الكبير هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير وهو وجود مائة أو ألف تكليف منجّز موجود أيضا في العلم الإجمالي الصغير إمّا بنحو مساوي أو أكثر.

ص: 134

وحينئذ تبطل منجّزيّة العلم الإجمالي الكبير بالنسبة للشبهات الأخرى التي لم يقم خبر أو أمارة أو أصل على تنجيزها ، فتكون مشكوكة بدوا ، ولذلك تجري البراءة فيها ، وهذا هو المطلوب من البراءة أي التأمين بلحاظ الشبهات المشكوكة ابتداء والتي لم يثبت تنجيزها بأمارة أو أصل ، ولا يجب فيها الاحتياط عقلا لعدم العلم الإجمالي بلحاظها.

وهذا الجواب ليس تامّا ؛ إذ كما يوجد علم إجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات المعتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، كذلك يوجد علم إجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل - عادة وبحساب الاحتمالات - كذبها جميعا.

فهناك إذن علمان إجماليّان صغيران ، والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئيّا - لأنّ الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع - ولكن مع هذا يتعذّر الانحلال.

ويرد على هذا الجواب : بأنّه كما يوجد لدينا علم إجمالي صغير ضمن نطاق أخبار الثقات ، فكذلك يوجد لدينا علم إجمالي صغير ضمن نطاق أخبار غير الثقات ، فلما ذا يقال بانحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات ، ولا يقال بانحلاله ضمن أخبار غير الثقات؟!

وتوضيح ذلك : أنّنا كما ذكرنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن مجموع الشبهات ، وقلنا : إنّ هذا العلم منجّز لجميع الشبهات ، ثمّ أجيب بأنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ حقيقة ضمن دائرة الثقات للعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة فيها لا تقلّ عن التكاليف المعلومة إجمالا في العلم الإجمالي الكبير.

وهذا الكلام لا يتمّ ؛ لأنّنا أيضا نعلم بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن أخبار غير الثقات ؛ إذ ليس كلّها مقطوعا كذبها إذ هذا بعيد بحساب الاحتمال ، ولذلك نعلم إجمالا بصدق بعضها ومطابقته للواقع ، وهذا البعض الصادق يوجد فيه تكاليف إلزاميّة ، فلما ذا لا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير ضمن هذا العلم الإجمالي الصغير؟

ثمّ إنّ هذين العلمين الإجماليّين الصغيرين متداخلان جزئيّا ، بمعنى أنّ بعض الشبهات التي يوجد فيها خبر ثقة يثبت الإلزام كذلك يوجد فيها خبر غير ثقة يثبت

ص: 135

الإلزام أيضا ، وإن كانا يفترقان أيضا ، فالنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه ، فقد يكون هناك شبهة فيها خبر ثقة فقط ، أو خبر غير ثقة فقط ، أو هما معا ، فدائرتهما متداخلة جزئيّا لا كلّيّا.

وحينئذ نقول : إنّ الانحلال الحقيقي غير تامّ ؛ وذلك لاختلال أحد الشرطين المتقدّمين ، وتوضيحه :

لأنّ المعلومين بالعلمين الإجماليّين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق فهذا يعني أنّ عدد المعلوم من التكاليف في مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير المفترض في دائرة أخبار الثقات ، وبذلك يختلّ الشرط الثاني من الشرطين المتقدّمين لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير.

والوجه في عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير ضمن دائرة أخبار الثقات هو : أنّ المفروض وجود علم إجمالي صغير آخر ضمن دائرة أخبار غير الثقات ، والمعلوم بالإجمال في هذا العلم الإجمالي تارة يكون مطابقا للمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير الأوّل ضمن أخبار الثقات ، وأخرى لا يكون المعلومان بالإجمال فيهما متطابقين ، فهنا فرضيّتان :

الأولى : أن نفترض عدم التطابق بين المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي ضمن دائرة أخبار الثقات وبين المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالي ضمن دائرة أخبار غير الثقات.

فمثلا تكون التكاليف الإلزاميّة في أخبار الثقات مائة والتكاليف الإلزاميّة في أخبار غير الثقات مائة ، غير أنّ هذه المائة ليست داخلة كلّها ضمن المائة بل بعضها فقط.

وهنا لن يكون هناك انحلال حقيقي للعلم الإجمالي الكبير الذي دائرته مجموع الشبهات بالعلم الإجمالي الصغير الذي دائرته أخبار الثقات فقط ؛ وذلك لأنّ الركن الثاني مختلّ ؛ لأنّ عدد المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقلّ من عدد المعلوم في العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ المفروض أنّ الصغير يشتمل على مائة تكليف إلزامي ، وهذه المائة ليست المعلومة إجمالا في الكبير ؛ إذ يوجد بعض التكاليف في

ص: 136

العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار غير الثقات لا تزال معلومة إجمالا ، وليست كلّها داخلة في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات (1).

وإن كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفّران بالنسبة إلى كلّ من العلمين الإجماليّين الصغيرين في نفسه ، فافتراض أنّ أحدهما يوجب الانحلال دون الآخر بلا موجب.

الثانية : أن نفترض التطابق بين المعلومين بالإجمال في العلمين الإجماليّين الصغيرين.

فهنا الانحلال الحقيقي كما يتمّ في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات لكون أطرافه بعض أطراف الكبير ولكون المعلوم بالإجمال فيه لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال في الكبير ، كذلك يتمّ في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار غير الثقات لتوفّر كلا الركنين فيه ، فلما ذا يقال بانحلاله في الأوّل دون الثاني؟

فإنّ انحلاله في أحدهما المعيّن وهو أخبار الثقات ترجيح بلا مرجّح ، وانحلاله فيهما معا يوجب حجّيّة أخبار غير الثقات وهو لا يقوله أحد ، فيتعيّن القول بعدم انحلاله في شيء منهما.

وبهذا ظهر أنّ دعوى الانحلال الحقيقي غير تامّة ، فالعلم الإجمالي الكبير لا يزال منجّزا لجميع الشبهات المشكوكة.

الجواب الثاني : أنّ العلم الإجمالي الذي تضمّ أطرافه كلّ الشبهات يسقط عن المنجّزيّة باختلال الركن الثالث من الأركان الأربعة التي يتوقّف عليها تنجيزه ، وقد تقدّم شرحها في الحلقة السابقة (2).

ص: 137


1- لا يمكن القول هنا بأنّ العلم الإجمالي الكبير ينحلّ بكلا العلمين الإجماليين الصغيرين بدعوى أنّ المعلوم بالإجمال فيهما مساو أو أكثر من المعلوم بالإجمال فيه. لأنّه يجاب عن ذلك بأنّ هذين العلمين الإجماليّين الصغيرين إذا اجتمعا معا فإنّهما نفس العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ مجموع الشبهات إمّا أن يوجد فيها خبر ثقة ونحوه ، وإمّا أن يوجد فيها خبر غير ثقة ونحوه فهما تعبير آخر عنه. مضافا لاستلزامه حجّيّة أخبار غير الثقات أيضا ، وهذا لا يقوله أحد.
2- في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الأصول العمليّة تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

وذلك لأنّ جملة من أطرافه قد تنجّزت فيها التكاليف بالأمارات والحجج الشرعيّة المعتبرة من ظهور آية وخبر ثقة واستصحاب مثبت للتكليف ، وفي كلّ حالة من هذا القبيل تجري البراءة في بقيّة الأطراف ، ويسمّى ذلك بالانحلال الحكمي كما تقدّم.

الجواب الثاني : دعوى الانحلال الحكمي ، ويوجد تقريبان لبيان دعوى الانحلال هذه.

التقريب الأوّل : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا - بناء على مسلك الاقتضاء - فيما إذا توفّرت شروط أربعة هي :

1 - العلم بالجامع ، وإلا لكانت الشبهة بدويّة فتجري فيها البراءة.

2 - عدم سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، وإلا لكان الفرد المعيّن منجّزا دون غيره.

3 - أن تجري الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، أي لا يكون هناك مانع من جريانها في نفسها بلحاظ كلّ طرف.

4 - أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف موجبا للمخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

وهنا نقول : إنّ العلم الإجمالي الكبير ليس منجّزا لاختلال الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ وذلك لأنّ هذا العلم الإجمالي شامل لكلّ الشبهات ، أي أنّنا نعلم بتكاليف إلزاميّة في مجموع الشبهات ، إلا أنّ بعض هذه الشبهات قد تنجّزت.

إمّا لوجود دليل قرآني يثبت التكليف الإلزامي كحرمة لحم الكلب والخنزير مثلا ، أو وجوب الصلاة والصوم ونحوها.

وإمّا لوجود دليل روائي كقيام خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة.

وإمّا لوجود أصل عملي يثبت التنجيز كالاستصحاب المثبت للإلزام أي الوجوب والحرمة فيما إذا كانتا متيقّنتين سابقا. وإلى غير ذلك من الحجج والأمارات والأصول.

وحينئذ فإنّ هذه الشبهات التي تنجّزت سوف تخرج عن العلم الإجمالي ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري فيها ؛ لكونها منجّزة على المكلّف فلم تعد مشكوكة.

وأمّا الشبهات الأخرى فتجري فيها الأصول الترخيصيّة من دون معارض ؛ لكونها

ص: 138

مشكوكة ابتداء ، وهكذا ينحلّ العلم الإجمالي من حيث المنجّزيّة لا حقيقة ، إذ هو موجود واقعا إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة ليس بثابت ، هذا هو معنى الانحلال الحكمي.

وبتعبير آخر : إنّ بعض أطراف العلم الإجمالي قد تنجّز بالآيات والروايات والأصول المثبتة للتكليف فلا تشملها الأصول الترخيصيّة ، وهذا يعني أنّ الشرط الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف غير متحقّق ، والمفروض أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تتوقّف على تواجد الشروط الأربعة ، فمع فقد أحدها لا منجّزيّة له وإن كان موجودا واقعا.

وفي مقامنا حيث ثبتت بعض التكاليف الإلزاميّة فقد خرجت من دائرة العلم الإجمالي ، إذ لم تعد مشكوكة لتنجّزها بحسب الفرض ، وعليه فتجري الأصول الترخيصيّة في الأطراف الأخرى ، وهذا انحلال حكمي.

وقد قيل في تقريب فكرة الانحلال الحكمي في المقام - كما عن السيّد الأستاذ - بأنّ العلم الإجمالي متقوّم بالعلم بالجامع والشكّ في كلّ طرف ، ودليل حجّيّة الأمارة المثبتة للتكليف في بعض الأطراف لمّا كان مفاده جعل الطريقيّة فهو يلغي الشكّ في ذلك الطرف ويتعبّد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبّدي للعلم الإجمالي.

التقريب الثاني للانحلال الحكمي بناء على تصوّرات مدرسة الميرزا ، وحاصله : أنّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو العلم بالجامع ، وكذا الركن الثاني وهو الشكّ في الفرد كلاهما مختلّ في المقام ، وذلك بناء على مسلك الميرزا من جعل الطريقيّة والعلميّة للأمارات والأصول.

فيقال : إنّ العلم الإجمالي الكبير ضمن دائرة مجموع الشبهات لا يكون منجّزا اذا اختلّ ركناه الأوّل والثاني ، وهنا إذا قامت الأمارات والأصول على التنجيز لبعض الشبهات والتي تثبت التكليف الإلزامي فيها توجب زوال الركنين الأوّل والثاني ؛ وذلك لأنّ جعل الحجّيّة للأمارات والأصول معناه جعلها علما تعبّدا.

فإذا أخبر الثقة بالوجوب أو الحرمة أو قام الأصل لإثبات التكليف فمعنى حجّيّته أنّه علم ، وهذا يعني أنّ هذه الشبهات قد صار حكمها معلوما تعبّدا فيلغى الشكّ

ص: 139

بلحاظها تعبّدا أيضا ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي تعبّدا ؛ لأنّ العلم بالجامع سرى إلى الفرد فصار هناك علم تفصيلي بالفرد.

وأمّا الأفراد والشبهات الأخرى فهي مشكوكة بدوا ؛ لأنّ العلم زال عن الجامع فتجري فيها الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

وبتعبير آخر : كما أنّ العلم الوجداني يوجب انحلال العلم الإجمالي كذلك العلم التعبّدي ، غاية الأمر أنّ الانحلال في الأوّل حقيقي بينما في الثاني حكمي.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ علمنا بنجاسة هذا الإناء بعينه بنفس النجاسة المعلومة بالإجمال فهذا انحلال حقيقي لسريان العلم من الجامع إلى الفرد حقيقة ، وكذا في المثال المذكور إذا أخبرنا الثقة بأنّ هذا الإناء هو النجس دون ذاك ، فإنّه على مسلك العلميّة والطريقيّة يوجب العلم التعبّدي ويلغي الشكّ تعبّدا فيسري العلم من الجامع إلى الفرد تعبّدا ، ولذلك يسمّى بالانحلال التعبّدي أو الحكمي.

ومقامنا من هذا القبيل ؛ لأنّ حجّيّة الأمارات والأصول معناها جعلها علما تعبّدا فيسري العلم من الجامع إلى كلّ شبهة ثبت فيها الأصل أو الأمارة المثبتان للتكليف ، وبالتالي تكون الشبهات الأخرى مشكوكة بدوا ، إذ العلم بالجامع قد سرى إلى الفرد بحسب الفرض.

ويرد على هذا التقريب :

إنّ الملاك في وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي هو التعارض بين الأصول في أطرافه كما تقدّم (1) ، وليس هو العلم الإجمالي بعنوانه ، فلا أثر للتعبّد بإلغاء هذا العنوان وإنّما يكون تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك بإخراج موارد الأمارات المثبتة للتكليف عن كونها موردا لأصالة البراءة ؛ لأنّ الأمارة حاكمة على الأصل ، فتبقى الموارد الأخرى مجرى لأصالة البراءة بدون معارض ، وبذلك يختلّ الركن الثالث ويتحقّق الانحلال الحكمي من دون فرق بين أن نقول بمسلك جعل الطريقيّة وإلغاء الشكّ بدليل الحجّيّة أو لا.

ص: 140


1- في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

وهذا التقريب غير تامّ ؛ لأنّه لا يوجب الانحلال الحكمي ، ما لم يرجع إلى التقريب السابق.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لجميع أطرافه وموجبا للموافقة القطعيّة على أساس أنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ أطرافه سوف تؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أنّ تعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في جميع الأطراف يمنع من جريانها في بعض الأطراف ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ويمنع من جريانها في جميع الأطراف ؛ لكونه مؤدّيا للوقوع في المخالفة القطعيّة ، فيتعيّن عدم جريانها في شيء لتعارضها وتساقطها.

إذا فالملاك في وجوب الموافقة القطعيّة لكلّ الأطراف هو تعارض الأصول الترخيصيّة وعدم إمكان الأخذ بها في بعض الأطراف أو في جميعها.

وليس الملاك لذلك هو نفس العلم الإجمالي بناء على المسلك الصحيح ؛ لأنّه إنّما يتمّ ذلك لو قيل بأنّه علّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيّة ، وهذا لا يقول به الميرزا ولا مدرسته ، وإنّما هذا مسلك المحقّق العراقي كما تقدّم في الحلقة السابقة وكما سيأتي هنا.

وحينئذ ، فإن كان المقصود من الانحلال الحكمي ما تقدّم من اختلال الركن الثالث فهو صحيح سواء كان العلم الإجمالي موجودا أم لا ، إذ وجوده وعدمه لا يؤثّر في الانحلال وعدمه.

وإن كان المقصود أنّ الانحلال الحكمي يتحقّق باختلال الركن الأوّل وهو زوال العلم عن الجامع تعبّدا وسريانه إلى الفرد ، كذلك مع كون الركن الثالث لا يزال موجودا فهو غير صحيح ؛ لأنّ المنجّزيّة من آثار تعارض الأصول ، فإن كانت الأصول الترخيصيّة لا تزال متعارضة فكيف تزول المنجّزيّة مع وجود ملاكها وسببها؟!

ومجرّد القول بأنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع قد ألغي تعبّدا لا يفيد في زوال المنجّزيّة ، إذ لا تأثير له في إيجادها ليكون مؤثّرا في زوالها.

نعم ، هذا الإلغاء التعبّدي يفيد في تفسير زوال المنجّزيّة بأن يقال : إنّه مع قيام الأمارات المثبتة للتكليف يثبت العلم التعبّدي في هذه الشبهات ، وبالتالي لا تجري

ص: 141

فيها الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّ الأمارات حاكمة على الأصول لأنّها تلغي موردها تعبّدا.

وعليه تكون الأصول الترخيصيّة جارية في الشبهات الأخرى من دون معارض ، فإنّ هذا تفسير لكيفيّة اختلال الركن الثالث وهو شبيه بما تقدّم أوّلا من أنّ الشبهات التي تقوم عليها أمارة أو أصل مثبت للتكليف لا تجري فيها الأصول الترخيصيّة ؛ لكونها قد تنجّزت بمنجّز سابق ، والأصول الترخيصيّة إنّما تجري في الشبهات البدوية غير المنجّزة ، فلا تجري فيها بل تجري في الشبهات الأخرى بلا معارض ، وهذا تفسير أيضا لاختلال الركن الثالث.

والحاصل : أنّ تمام نكتة الانحلال الحكمي تنصبّ حول اختلال الركن الثالث ، من دون فرق بين المسالك في جعل الحكم الظاهري وحقيقته ومعنى الحجّيّة ، فإنّ هذه كلّها تفسيرات لكيفيّة الاختلال وعدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف.

* * *

ص: 142

تحديد مفاد البراءة

اشارة

ص: 143

ص: 144

تحديد مفاد البراءة

وبعد أن اتّضح أنّ البراءة تجري عند الشكّ لوجود الدليل عليها وعدم المانع ، يجب أن نعرف أنّ الضابط في جريانها أن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو موضوع دليل البراءة ، وأمّا إذا كان التكليف معلوما والشكّ في الامتثال فلا تجري البراءة ، وإنّما تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ضابط جريان البراءة : بعد تماميّة الكلام عن الأدلّة على البراءة حيث ثبت أنّ البراءة تستفاد من تلك الأدلّة بنحو تكون مرجّحة على أدلّة الاحتياط المدّعاة عند تعارضهما ، وبعد أن كان موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، نأتي الآن لتحديد الضابط والميزان لجريان البراءة بعد أن كان الدليل عليها تامّا وهو المقتضي والمانع مرتفعا وهو أدلّة الاحتياط.

فنقول : إنّ الضابط لجريان البراءة هو أن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو المأخوذ في لسان أدلّتها كما في قوله : « رفع ما لا يعلمون » أي الحكم والتكليف غير المعلوم مرفوع ، وكما في قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أي التكليف الذي لم يصل إلى المكلّف فهو غير داخل في العهدة.

فإذا كان الشكّ في الحكم جرت البراءة ، وأمّا إذا كان الحكم معلوما ولكن شكّ في امتثاله في الخارج فهذا النحو من الشكّ ليس مجرى للبراءة ؛ وذلك لأنّ التكليف معلوم وواصل إلى المكلّف ولا شكّ فيه ، وإنّما الشكّ تعلّق في امتثال المأمور به وعدم امتثاله ، سواء في ذلك قبل الشروع في العمل أم بعده ، كما إذا شكّ في أنّه هل صلّى الظهر أم لا؟ أو شكّ أنّه هل الصلاة التي صلاّها هي الظهر أم غيرها؟ أو شكّ في أنّ الشخص الذي تصدّق عليه فقير أم لا؟

فهذه كلّها من أنحاء الشكّ في الامتثال ، وفي مثل هذه الموارد تجري أصالة

ص: 145

الاشتغال التي مفادها أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، أي ما دام المكلّف يعلم أنّ ذمّته مشغولة بالصلاة أو التصدّق يقينا فعليه أن يعلم بفراغها من ذلك يقينا ، ولا يكفي البراءة الاحتماليّة والفراغ غير اليقيني.

وهذا يعني أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف لا في الامتثال.

والوجه في هذا الضابط هو :

وهذا واضح على مسلكنا المتقدّم (1) القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل من أسباب انتهاء فاعليّته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال شكّا في فعليّة التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.

المناط في هذا الضابط : أمّا أنّ الشكّ في الامتثال ليس من الشكّ في التكليف فلأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ليكون الشكّ فيهما شكّا في التكليف ، وإنّما هما من مسقطات فاعليّة التكليف ، بناء على ما هو الصحيح والمختار ، وعليه فموضوع البراءة وهو الشكّ في التكليف منتف ، فلا تجري البراءة لانتفاء موضوعها.

وتوضيح ذلك : أنّ التكليف ينشأ من وجود ملاك ومبادئ ، فالوجوب مثلا فيه مصلحة ملزمة أكيدة وفيه محبوبيّة وشوق مولوي ، فإذا قال المولى : ( يجب أكرم العالم ) كان الوجوب ثابتا لثبوت الملاك والمبادئ فيجب على المكلّف الامتثال تحقيقا لحقّ الطاعة الواجب عليه ، فإذا امتثله سقطت فاعليّة التكليف ومحرّكيّته إلا أنّ التكليف نفسه لا يسقط لبقاء المصلحة والمحبوبيّة والشوق في إكرام العالم ، وهكذا الحال في عصيانه.

وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إذا امتثل فقد حقّق المحبوب ، وتحقّق المحبوب لا يعني انتفاء الحبّ أصلا بل هو باق على حاله.

وعليه ، فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في تحقّق المحبوب للمولى بعد الفراغ عن وجود وبقاء هذا الحبّ والشوق المولوي اللذين هما قوام الوجوب.

ولا يمكن أن يكون الامتثال أو العصيان من مسقطات التكليف ؛ لأنّ لازم ذلك كونهما دخيلين في الملاك والمبادئ ، وهذا يعني أنّ وجوب الإكرام للعالم مقيّد بامتثال

ص: 146


1- في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

إكرامه أو بعصيانه ، وهذا اللازم واضح البطلان ؛ لأنّه على الأوّل يكون مفاده أكرم العالم إذا أكرمت العالم ، وهو لغو وتحصيل للحاصل ، وعلى الثاني يكون مفاده أكرم العالم إذا عصيت إكرامه وهو من أخذ عدم الشيء في موضوع نفسه ، أو تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، وهو محال لاستلزامه الدور.

وأمّا إذا قيل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فالشكّ فيه شكّ في التكليف لا محالة.

ومن هنا قد يتوهّم تحقّق موضوع البراءة وإطلاق أدلّتها لمثل ذلك ، ولا بدّ للتخلّص من ذلك إمّا من دعوى انصراف أدلّة البراءة إلى الشكّ الناشئ من غير ناحية الامتثال ، أو التمسّك بأصل موضوعيّ حاكم وهو الاستصحاب عدم الامتثال.

وأمّا علي المسلك القائل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في التكليف أيضا ؛ لأنّه إذا تحقّق الامتثال خارجا بهذا الفعل الذي أتى به فقد سقط التكليف وإن لم يتحقّق به فالتكليف باق على حاله ، فيعود الشكّ إلى أنّه هل لا يزال التكليف فعليّا بحقّه أم لا؟

وهنا قد يقال : إنّه ما دام الشكّ في الامتثال يعود إلى الشكّ في التكليف فموضوع البراءة متحقّق إذا فتجري لنفي التكليف في الحالة المذكورة.

إلا أنّ هذا القول مجرّد توهّم لا أساس له ، ويمكن التخلّص منه بجوابين :

الأوّل : أنّ أدلّة البراءة لا إطلاق لها للحالة المذكورة ، بمعنى أنّ الشكّ الذي هو موضوع البراءة لا إطلاق له للشكّ في التكليف الناشئ من ناحية الامتثال ، وإنّما يختصّ بالشكّ في التكليف من غير هذه الناحية ، فيرفع اليد عن إطلاق أدلّة البراءة لهذه الحالة.

والوجه في عدم الإطلاق هو أنّ مثل قوله : « رفع ما لا يعلمون » ينظر إلى أنّه مع عدم العلم بأصل التكليف أو بفعليّة التكليف تجري البراءة وفي غير هذين الموردين لا تجري.

وعليه ، فإذا علم المكلّف بالتكليف وعلم بفعليّة التكليف بأن تحقّقت تمام الشروط والقيود المأخوذة في موضوعه ، فهو عالم بالتكليف فلا تجري البراءة.

ولذلك إذا شكّ في أنّ ما فعله في الخارج هل يحقّق الامتثال المسقط للتكليف أو

ص: 147

لا؟ فهذا يعني أنّه يشكّ في دائرة الامتثال وأنّها واسعة وتشمل الفعل الذي أتى به أو أنّها ضيّقة فلا تشمل هذا الفعل ، فالشكّ هنا في الحقيقة شكّ في سعة دائرة الامتثال وعدمها ، وليس شكّا في التكليف لا بأصله ولا بفعليّته.

نعم ، الشكّ في السعة يستتبع الشكّ في التكليف بقاء وارتفاعا ، إلا أنّه مترتّب على سعة دائرة الامتثال وعدمها لا على الشكّ في نفس التكليف أو فعليّته ، والأدلّة ظاهرة في الشكّ في التكليف ابتداء كما في الشبهات الحكميّة أو بالفعليّة كما في الشبهات الموضوعيّة ؛ لأنّه يصدق فيها الشكّ في التكليف الكلّي أو الجزئي.

وأمّا في الامتثال فالشكّ في سعة دائرته وعدمها وليس شكّا في التكليف الكلّي أو الجزئي.

الثاني : أن يتمسّك باستصحاب عدم الامتثال الحاكم على أصالة البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف إذا شكّ في تحقّق الامتثال بما أتى به من فعل ، وقلنا : إنّه في مثل هذه الحالة تجري البراءة لتحقّق موضوعها وهو الشكّ في التكليف ، إلا أنّه لا بدّ من رفع اليد عن البراءة هنا لوجود أصل عملي موضوعي حاكم عليها وهو استصحاب عدم الامتثال المتيقّن سابقا ولو قبل الشروع بالامتثال ، وهذا الاستصحاب يحقّق التعبّد بعدم الامتثال خارجا فيرتفع الشكّ الذي هو موضوع البراءة ، فيكون مثل هذا الاستصحاب حاكما على البراءة ؛ لأنّه ينظر إلى موضوعها فهو من الأصل السببي الحاكم على الأصل المسبّبي ؛ لأنّ الأوّل ينظر إلى موضوع الثاني نفيا أو إثباتا ، فيتنقّح به موضوع الأصل الثاني.

ثمّ بعد الفراغ عن الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في الامتثال - أي المكلّف به - باتّخاذ الأوّل ضابطا للبراءة والثاني ضابطا لأصالة الاشتغال ، يقع الكلام في ميزان التمييز الذي به يعرف كون الشكّ في التكليف لكي تجري البراءة.

الضابط للشكّ في التكليف أو المكلّف به : ثمّ بعد أن فرغنا عن التمييز بين الشكّ في التكليف وبين الشكّ في المكلّف به أي الامتثال ، وبعد أن عرفنا أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف ، والضابط في أصالة الاشتغال هو الشكّ في المكلّف به ، لا بدّ أن نعرف الميزان لكون الشكّ تارة في التكليف وأخرى في المكلّف به.

ووجه الحاجة إلى هذا الضابط أنّه في بعض الموارد يكون التمييز بينهما دقيقا جدّا ،

ص: 148

وفي أكثرها يكون واضحا وجليّا ، فمثلا إذا شككنا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فهذا من الشكّ في التكليف ، وإذا شككنا في تحقّق الإكرام بمجرّد إلقاء السلام فهذا من الشكّ في المكلّف به ؛ لأنّنا نعلم بوجوب إكرام العالم ونشكّ في أنّ هذا السلام هل يحقّق المأمور به ويكفي لامتثال الأمر أم لا؟

إلا أنّه في بعض الموارد يكون دقيقا جدّا ، ولا بدّ من إعمال الدقّة والنظر لاكتشاف أنّ هذا الشكّ من أي النحوين هو؟ ولذلك نقول :

وهذا الميزان إنّما يراد في الشبهات الموضوعيّة التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، دون الشبهات الحكميّة التي يكون الشكّ فيها عادة شكّا في التكليف ، كما هو واضح.

وهذا الميزان المذكور نحتاج إليه في الشبهات الموضوعيّة لا الحكميّة ؛ وذلك لأنّ الشبهات الحكميّة يكون الشكّ فيها من الشكّ في التكليف بمعنى الجعل الكلّي كما في الشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو في التكليف بمعنى المجعول الجزئي كالشكّ في تحقّق قيود التكليف كالاستطاعة بالنسبة للحجّ.

إلا أنّه يمكن تحقّق الشكّ في المكلّف به في الشبهات الحكميّة أيضا لكنّه نادر وقليل كما في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ، أو التعيين والتخيير ، مثال الأوّل أن يشكّ هل أنّ الواجب هو عشرة دراهم أو تسعة أي أنّ ذمّته مشغولة بهذا أو بذاك فهو من الشكّ في الامتثال ؛ لأنّه يعود إلى أنّ دفع التسعة هل يكفي في تحقّق الامتثال أم لا؟ فهو شكّ في سعة دائرة الامتثال وعدمها.

ومثال الثاني أن يشكّ في هل أنّ الواجب خصوص العتق من أصناف الكفّارة أو هو والتصدّق والصوم بنحو التعيين أو التخيير ، فمرجعه أيضا إلى المكلّف به وسعة دائرة الامتثال.

وأمّا الشبهات الموضوعيّة فيوجد فيها من كلا النحوين فيحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، ولذلك نعقد البحث فيها :

وتوضيح الحال في المقام : أنّ الشبهة الموضوعيّة تستبطن دائما الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت كلّها معلومة فلا يتصوّر شكّ إلا من أصل حكم الشارع ، وتكون الشبهة حينئذ حكميّة.

ص: 149

وهذه الأطراف هي عبارة عن قيد التكليف ، ومتعلّقه ، ومتعلّق المتعلّق له المسمّى بالموضوع الخارجي ، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها ( البلوغ ) ، ومتعلّقها ( الشرب ) ، ومتعلّق متعلّقها ( الخمر ) ، وخطاب ( أكرم عالما إذا جاء العيد ) قيد الوجوب فيه ( مجيء العيد ) ، ومتعلّقه ( الإكرام ) ، ومتعلّق متعلّقه ( العالم ).

إنّ الشكّ في الشبهات الموضوعيّة يكون من الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت أطراف الحكم الشرعي كلّها معلومة لم يكن الشكّ حينئذ إلا من ناحية الحكم الشرعي ، وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّه سوف يدخل في الشبهات الحكميّة وكلامنا الآن في الشبهات الموضوعيّة.

والمقصود من أطراف الحكم التي يكون الشكّ في أحدها من الشبهة الموضوعيّة أمور ثلاثة :

1 - قيود التكليف كالبلوغ والعقل ، والاستطاعة للحجّ ، والزوال للصلاة ، ونحو ذلك.

2 - متعلّق التكليف كالكذب في قولنا : ( لا تكذب ) ، والإكرام في قولنا : ( أكرم العالم ).

3 - متعلّق المتعلّق للتكليف كالخمر في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) ، والعالم في قولنا : ( أكرم العالم ) ، ويسمّى بالموضوع.

فالتكليف إذا فيه أطراف ثلاثة : قيوده ومتعلّقه ومتعلّق متعلقه ، سواء في ذلك الجملة الحمليّة أم الشرطيّة.

ففي قولنا : ( لا تشرب الخمر ) تكون قيود التكليف البلوغ والعقل ، ومتعلّقه الشرب ؛ لأنّ الحرمة تعلّقت بالشرب ، ومتعلّق متعلّقه الخمر ؛ لأنّ الشرب تعلّق بالخمر لا بغيره.

وفي قولنا : ( إذا جاء العيد فأكرم عالما ) كانت قيود التكليف مجيء العيد ؛ لأنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجيء العيد لا مطلقا ، ومتعلّق التكليف الإكرام ؛ لأنّه هو الذي تعلّق به الوجوب ، ومتعلّق المتعلّق ( العالم ) ؛ لأنّه هو الذي تعلّق به وجوب الإكرام.

فإذا كانت الشبهة موضوعيّة فهذا يعني الشكّ في أحد هذه الأطراف الثلاثة بعد

ص: 150

الفراغ عن كون الحكم في مرحلة الجعل معلوما ، إذ لو لم يكن الشكّ في أحد الثلاثة فهو إذا شكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل ، وهو من الشبهة الحكميّة لا محالة.

ولتوضيح صور الشكّ نقول :

فإن كان الشكّ في صدور المتعلّق مع إحراز القيود والموضوع الخارجي فهذا شكّ في الامتثال بلا إشكال ، وتجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ التكليف معلوم ولا شكّ فيه لبداهة أنّ فعليّة التكليف غير منوطة بوجود متعلّقه خارجا ، وإنّما الشكّ في الخروج عن عهدته ، فلا مجال للبراءة.

الصورة الأولى : أن يكون كلّ من الحكم والقيود والموضوع محرزا ، وإنّما الشكّ في صدور المتعلّق.

كما إذا قيل : ( أكرم العالم إذا جاء العيد ) فهذا الحكم معلوم في مرحلة الجعل ، والمفروض أنّ العيد قد جاء وحلّ برؤية الهلال فقيد الوجوب وهو مجيء العيد محرز أيضا ، وهذا يعني أنّ الحكم صار فعليّا بحقّ المكلّف لفعليّة قيود الحكم ، والمفروض أيضا أنّ العالم موجود في الخارج والمكلّف أحرزه كذلك.

يبقى المتعلّق وهو ( الإكرام ) فإنّه يشكّ في صدوره وتحقّقه ؛ وذلك بسبب الشكّ في أنّ ما أتى به في الخارج هل ينطبق عليه عنوان الإكرام أم لا؟

فلو فرض أنّه ألقى السلام على هذا العالم أو قبّل يديه يوم العيد فشكّ في أنّ هذا الفعل هل هو مصداق للمأمور به والمتعلّق للوجوب أو لا؟ فالشك هنا في صدور المتعلّق.

وحينئذ نقول : لمّا كان الحكم معلوما وفعليّا لفعليّة القيود فلا يمكن الشكّ فيه لا بلحاظ عالم الجعل ولا بلحاظ الفعليّة أي عالم المجعول ؛ لأنّ فعليّته منوطة بتحقّق قيوده في الخارج ، والمفروض تحقّقها.

وإنّما يشكّ فيه بلحاظ الشكّ في سعة دائرة الامتثال وعدم سعتها ، أي أنّ الإكرام الذي هو المتعلّق للوجوب والمأمور به هل يكفي فيه هذا الفعل الذي صدر منه خارجا أو لا يكفي فيه ذلك؟ فهو شكّ في براءة الذمّة وخروجها عن العهدة وعدم ذلك ، وفي هذه الحالة تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته يقينا ويشكّ في براءتها كذلك ، فهنا يقال : الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ص: 151

والشكّ في صدور المتعلّق وعدم صدوره الذي هو شكّ في الامتثال وعدمه قلنا : إنّه ليس من الشكّ في التكليف ؛ لأنّ الامتثال وعدمه ليس من مسقطات التكليف كما تقدّم ، وإنّما من أسباب سقوط فاعليّته ومحرّكيّته فقط.

وأمّا إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا لم يحرز كون فرد ما مصداقا للموضوع الخارجي.

الصورة الثانية : أن يكون الشكّ في الموضوع الخارجي ، وذلك بأن يحرز الحكم ويحرز قيوده الدخيلة في فعليّته ، ولكن يشكّ في أنّ هذا الفرد هل هو مصداق للموضوع المأخوذ طرفا في التكليف أو ليس مصداقا لهذا الموضوع؟ فإذا قيل : ( أكرم العالم إذا جاء العيد ) وعلم بالحكم وأحرز قيده بأن حلّ العيد ، غايته الشكّ في أنّ زيدا هل هو عالم أو لا؟ أي هل هو مصداق للموضوع الذي هو العالم أو ليس مصداقا له؟

وفي هذه الصورة يوجد نحوان من أنحاء الشكّ في الموضوع بالمعنى المذكور هما :

فإن كان إطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليّا جرت البراءة ؛ لأنّ الشكّ حينئذ يستبطن الشكّ في التكليف الزائد ، كما إذا قيل : ( لا تشرب الخمر ) و ( أكرم الفقراء ) وشكّ في أنّ هذا خمر وفي أنّ ذاك فقير.

النحو الأوّل : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع شموليّا.

ففي هذه الحالة سوف ينحلّ الحكم إلى أحكام بعدد مصاديق هذا الموضوع في الخارج بحيث يكون لكلّ منها امتثال خاصّ وعصيان خاصّ ، فكلّما وجد مصداق ثبت له الحكم ، فإذا شكّ في كون فرد ما مصداقا للموضوع فهذا يعني الشكّ في ثبوت تكليف زائد ، فتجري البراءة لتحقّق موضوعها.

ومثاله أن يقال : ( لا تشرب الخمر ) أو ( أكرم العالم ) أو ( تصدّق على الفقراء ) ، ففي المثال الأوّل يكون النهي عن الشرب شاملا لكلّ فرد من أفراد الموضوع في الخارج ، أي كلّ ما صدق عليه عنوان الخمريّة في الخارج فيحرم شربه. وعليه ، فإذا شكّ في أنّ هذا السائل خمر أو لا ، فهذا يعني الشكّ في أنّه يجب الاجتناب عن شربه أو لا ، فهو شكّ في تكليف زائد فتجري البراءة.

ص: 152

وفي المثال الثاني والثالث يقال كذلك ؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد العالم أو من أفراد الفقراء له وجوب مستقلّ عن الفرد الآخر ، فإذا شكّ في فرد أنّه عالم أو فقير فهو شكّ في وجوب زائد فتجري عنه البراءة.

والحاصل : أنّ الشكّ في الفرد يستبطن الشكّ في التكليف ؛ لأنّه على تقدير كونه فردا ومصداقا للموضوع فهو حكم آخر مستقلّ عن غيره من الأفراد ، وهذا يتحقّق في الإطلاق الشمولي والعموم الاستغراقي.

وإن كان إطلاق التكليف بالنسبة إليه بدليّا لم تجر البراءة ، كما إذا ورد ( أكرم فقيرا ) وشكّ في أنّ زيدا فقير ، فلا يجوز الاكتفاء بإكرامه ؛ لأنّ الشكّ المذكور لا يستبطن الشكّ في تكليف زائد ، بل في سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها.

النحو الثاني : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع بدليّا.

وفي هذه الحالة يكون لدينا حكم واحد فقط ، ولا ينحلّ إلى الأفراد والمصاديق ؛ لأنّ المطلوب هنا إيجاد الموضوع وهو يتحقّق بفرد من أفراده على سبيل البدل ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق الحكم على أي فرد أراده.

وحينئذ إذا شكّ في أنّ هذا فرد ومصداق للموضوع أو لا ، فلا يمكن الاكتفاء بامتثال المأمور به فيه ؛ لأنّه على تقدير ثبوته فهو ليس وجوبا زائدا ، وإنّما هو على تقدير ثبوت مصداقيّته للموضوع يكون محقّقا للامتثال ، فالشكّ يعود إلى أنّ الامتثال متحقّق أو لا ، فهو شكّ في المكلّف به ؛ لأنّ مرجعه إلى الشكّ في سعة دائرة الامتثال وكونها شاملة لهذا الفرد المشكوك وعدم سعتها كذلك.

ومثاله ما إذا قيل : ( أكرم فقيرا ) أو ( اغتسل بالماء ) ، فإنّ الحكم ثابت لموضوعه هنا بنحو الإطلاق البدلي ، أي أنّ المكلّف يجب عليه إكرام فقير واحد على سبيل البدل ، أو يجب عليه الاغتسال بالماء على سبيل البدل والتخيير بين هذا الفرد أو ذاك ، فهناك امتثال واحد وهو الإتيان بالغسل بالماء أو إكرام فقير واحد ، وأمّا سائر الأفراد فهي ليست واجبة ، بل هي محقّقة للامتثال فقط على تقدير كونها مصداقا للموضوع.

وعليه ، فإذا شكّ في أنّ زيدا من الناس فقير أو لا يكون الشكّ في الحقيقة إلى أنّه هل

ص: 153

يتحقّق الامتثال بإكرامه هو أو لا يتحقّق كذلك؟ فيكون من الشكّ في المكلّف به.

ولا يعقل هنا الشموليّة ؛ لأنّه من الواضح أنّ المكلّف لا يجب عليه الاغتسال بكلّ ماء في الوجود ، بل بصرف الوجود ومطلقه ، وفي الفقير لا يجب إلا إكرام فقير واحد ؛ لأنّ حيثيّة التنكير تدلّ على ذلك.

وعلى هذا الضوء يعرف أنّ لجريان البراءة إذن ميزانين :

أحدهما : أن يكون المشكوك من قيود التكليف الدخيلة في فعليّته.

والآخر : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليّا لا بدليّا.

وبهذا ظهر أنّ الميزان لمعرفة كون الشكّ في التكليف وبالتالي موردا لجريان البراءة ، أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون الشكّ في قيود التكليف ، بمعنى أنّ المشكوك قيد دخيل في فعليّة التكليف ، فإذا شكّ في وجوده وعدمه فسوف يشكّ في فعليّة التكليف وعدمها فتجري البراءة.

كما إذا قيل : ( إذا حصل الخسوف فتجب صلاة الآيات ) وشكّ في حصول الخسوف ، فهنا الخسوف قيد دخيل في فعليّة وجوب صلاة الآيات ، بمعنى أنّ تحقّقه في الخارج يوجب فعليّة الصلاة على المكلّف ، وإذا لم يتحقّق فلا تجب الصلاة فعلا على المكلّف وإن كانت ثابتة في عالم الجعل والتشريع ، فالشكّ في هذا القيد شكّ في التكليف المجعول الجزئي ، وهو مجرى للبراءة.

الثاني : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للمشكوك شموليّا لا بدليّا ، كما تقدّم بيانه آنفا.

والنكتة فيه هي أنّ الشموليّة تعني انحلال الحكم إلى أحكام عديدة ، بحيث يكون لكلّ فرد ومصداق على تقدير كونه مصداقا وفردا حكما مستقلاّ عن الفرد الآخر ، فله امتثال خاصّ به وعصيان كذلك ، فإنّه على هذا يكون الشكّ فيه شكّا في تكليف زائد فتجري البراءة.

فإن قيل : إنّ مردّ الشكّ في الموضوع الخارجي إلى الشكّ في قيد التكليف ؛ لأنّ الموضوع قيد فيه ، فحرمة شرب الخمر مقيّدة بوجود الخمر خارجا ، فمع الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في فعليّة التكليف المقيّد ، وتجري البراءة.

ص: 154

وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأوّل فقط ، كما يظهر من كلمات المحقّق النائيني قدّس اللّه روحه (1).

الإشكال على ما تقدّم : ثمّ إنّ المحقّق النائيني اقتصر على الميزان الأوّل فقط ، وهو أن يكون الشكّ في قيود التكليف ، وجعلها تعمّ كلاّ من القيود المأخوذة شروطا كالبلوغ والعقل أو الاستطاعة والزوال ، والقيود المأخوذة في متعلّق الحكم كالشرب في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) ، والقيود المأخوذة في متعلّق المتعلّق أي الموضوع كالخمر في المثال المذكور.

أما الشكّ في قيود التكليف بالنحو الأوّل أي الشروط فهذا من الواضح كونه شكّا في فعليّة التكليف فتجري البراءة ؛ لأنّ الشكّ فيها شكّ في التكليف.

وأما الشكّ في القيود بالنحو الثاني أي المتعلّق فهو شكّ في فعليّة التكليف أيضا ، فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه إذا شكّ في فعل ما أنّه شرب للخمر أو لا فهو شكّ في فعليّة الحرمة وعدمها ، فيكون شكّا في التكليف.

وأمّا الشكّ في القيود بالنحو الثالث أي الموضوع ، فمرجعه أيضا إلى الشكّ في التكليف ؛ لأنّ كون هذا المائع خمرا في الخارج قيدا في فعليّة الحرمة ؛ لأنّ الحرمة مقيّدة بالشرب لما هو خمر في الخارج ، فمع الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في فعليّة الحرمة وعدمها فتجري البراءة.

وهكذا ظهر أنّه يمكن أن يقال : إنّ الضابط لجريان البراءة هو أن يكون الشكّ في قيود التكليف بالنحو المذكور ، ولا نحتاج إلى الميزان الثاني.

كان الجواب : أنّه ليس من الضروري دائما أن يكون متعلّق المتعلّق مأخوذا قيدا في التكليف سواء كان إيجابا أو تحريما ، وإنّما قد تتّفق ضرورة ذلك فيما إذا كان أمرا غير اختياري كالقبلة مثلا.

وعليه فإذا افترضنا أنّ حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجا قيدا فيها على نحو كانت الحرمة فعليّة حتّى قبل وجود الخمر خارجا صحّ مع ذلك إجراء البراءة عند الشكّ في الموضوع الخارجي ؛ لأنّ إطلاق التكليف بالنسبة إلى المشكوك شمولي.

ص: 155


1- فوائد الأصول 3 : 391 - 394.

إلا أنّه يمكن الجواب عمّا ذكره الميرزا بأنّ الميزان الثاني لا يمكن الاستغناء عنه مطلقا ؛ إذ لا يمكننا إرجاع سائر القيود إلى قيود التكليف ليكون الشكّ فيها شكّا في فعليّة التكليف.

وتوضيح ذلك : أنّ متعلّق المتعلق أي الموضوع تارة يكون مأخوذا قيدا في التكليف وأخرى لا يكون كذلك ، فإذا كان الموضوع من الأمور الخارجة عن اختيار المكلّف تعيّن أخذه قيدا في التكليف.

كما في مثل قولنا : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) و ( صلّ للقبلة ) فهنا زوال الشمس خارج عن اختيار المكلّف ، فلا بدّ أن يكون من قيود التكليف كما تقدّم في محلّه ، حتّى وإن كان موضوعا.

فهنا يكون الشكّ في الزوال شكّا في فعليّة التكليف كما ذكر الميرزا ، ومثله ( صلّ للقبلة ) ؛ لأنّ القبلة وإن كانت موضوعا لكنّها ليست تحت اختيار المكلّف ، فيكون المعنى أنّ الصلاة واجبة للجهة التي توجد فيها القبلة أي إذا كانت هذه الجهة قبلة فصلّ فيها.

وأمّا إذا كان الموضوع من الأمور الاختياريّة للمكلّف فهنا ليس من الضروري أخذها قيدا في التكليف ، بل قد تؤخذ قيدا في التكليف كما في الاستطاعة بالنسبة للحجّ ، فإنّها من الأمور الاختياريّة لكنّها مأخوذة قيدا لوجوب الحجّ ، والغاية أنّ الحجّ ليس فعليّا ليكون مطالبا بتحصيل الاستطاعة ، وإنّما يكون الحجّ فعليّا على تقدير حصولها فإن حصلت تحقّقت الفعليّة وإن لم تحصل لم تتحقّق.

وقد لا تكون مأخوذة قيدا في التكليف كما في ( لا تشرب الخمر ) فإنّ الخمر يمكن ألاّ يكون مأخوذا من قيود التكليف ، والغاية من ذلك أن تكون الحرمة فعليّة على تقدير تحقّق الخمريّة سواء تحقّق الخمر في الخارج أم لا ، فالحرمة فعليّة ، وتكون فائدته في النهي عن إيجاده وصنعه أيضا إذا كان ذلك مستلزما لشربه ؛ لأنّه يكون مقدّمة للوقوع في الحرمة الفعليّة.

وحينئذ فالشكّ في كون المائع الموجود في الخارج خمرا أو لا ، لا يعني الشكّ في فعليّة التكليف ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس دخيلا في قيود التكليف ، بل التكليف فعلي حتّى قبل وجود الخمر في الخارج ، إلا أنّه مع ذلك يكون الشكّ المذكور موردا للبراءة

ص: 156

وليس ذلك إلا من باب كون الإطلاق بالنسبة للموضوع شموليّا لا بدليّا ؛ لأنّه على تقدير الخمريّة فالحرمة ثابتة وفعليّة وهي محرّكة نحو الاجتناب عن كلّ خمر أو ما يوجد الخمر ، وهذا المائع إن كان خمرا يجب الاجتناب عنه وإلا فلا ، فهنا شكّ في التكليف من باب أنّ التكليف شمولي يشمل كلّ خمر في الخارج ، لا من باب الشكّ في فعليّة التكليف.

ولكن بتدقيق أعمق نستطيع أن نردّ الشكّ في خمريّة المائع إلى الشكّ في قيد التكليف ، لا عن طريق افتراض تقيّد الحرمة بوجود الخمر خارجا ، بل بتقريب : أنّ خطاب ( لا تشرب الخمر ) مرجعه إلى قضيّة شرطيّة مفادها ( كلّما كان مائع ما خمرا فلا تشربه ) ، فحرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا سواء وجد خارجا أم لا ، فإذا شكّ في أنّ الفقّاع خمر أو لا مثلا جرت البراءة عن الحرمة فيه.

والتحقيق أنّه يمكن الاستغناء عن الميزان الثاني كما ذكر الميرزا ، لكن لا على أساس إرجاع الشكّ في الموضوع أو المتعلّق أو الشروط إلى الشكّ في فعليّة التكليف ، بل على أساس آخر وهو : أنّ الضابط لجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة كون الشكّ فيما يستتبع الحكم الفعلي الشامل للقيد والموضوع والمتعلّق والشروط.

وتوضيح ذلك : أنّ خطاب ( لا تشرب الخمر ) مفاده جعل الحرمة على نهج القضيّة الحقيقيّة التي جوهرها وروحها القضيّة الشرطيّة كما تقدّم في محلّه ، فيكون المقصود ( أنّه كلّما كان المائع خمرا فلا تشربه ) ، وحينئذ تكون الحرمة مقيّدة بكون المائع خمرا على تقدير وجوده ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة يكون الموضوع فيها مقدّر ومفترض الوجود ، والحكم ينصبّ على الصورة الذهنيّة للموضوع بقصد كونها حاكية ومرآة للخارج.

وعليه ، فالحرمة ثابتة على تقدير كون المائع متّصفا بالخمريّة سواء وجد الخمر في الخارج أم لا ، وهذا يعني أنّ قيد الحرمة هو اتّصاف المائع بالخمر ، وهذا ثابت في مرحلة جعل الحكم.

وأمّا وجود الخمر في الخارج فهو ليس قيدا في الحرمة ، لا في مرحلة الجعل ؛ لاستحالة إناطة جعل الحرمة في عالم التشريع والجعل بقيد خارجي لاختلاف السنخيّة بينهما ؛ لأنّ الحرمة تنصبّ على الموضوع الذهني وهو غير الموضوع الخارجي

ص: 157

بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، ولا في مرحلة المجعول الفعلي للحكم ؛ لأنّ الحكم مقيّد بغير الوجود الخارجي للخمر بحسب الفرض.

وحينئذ إذا شكّ في مائع أنّه خمر أو لا ، فهذا يعني الشكّ في كونه متّصفا بالخمريّة أو لا ، فيكون الشكّ في قيود التكليف ؛ لأنّ اتّصاف المائع بالخمريّة قيد في التكليف كما قلنا ، وهنا تجري البراءة ؛ لأنّه حينما يشكّ في تحقّق قيد التكليف سوف يشكّ بالتبع بالتكليف الفعلي ؛ لأنّه تابع لقيوده ، وبهذا نستغني عن كون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع شموليّا ؛ لأنّ الميزان الأوّل متحقّق حيث إنّ الشكّ في الموضوع شكّ في قيود التكليف بالمعنى الذي ذكرناه.

وبهذا صحّ القول بأنّ البراءة تجري كلّما كان الشكّ في قيود التكليف ، وأنّ قيود التكليف تارة تكون على وزان مفاد كان التامّة بمعنى إناطته بوجود شيء خارجا ، فيكون الوجود الخارجي قيدا.

وأخرى تكون على وزان مفاد ( كان ) الناقصة بمعنى إناطته باتّصاف شيء بعنوان ، فيكون الاتّصاف قيدا.

فإذا شكّ في الوجود الخارجي على الأوّل أو في الاتّصاف على الثاني جرت البراءة وإلا فلا.

وبهذا يصحّ لنا إطلاق القول بأنّه كلّما كان الشكّ في قيود التكليف كان مجرى للبراءة.

وقيود التكليف التي يشكّ فيها على قسمين :

الأوّل : أن يشكّ في أصل تحقّق القيد أو الشرط كالشكّ في تحقّق الاستطاعة أو الزوال ، فإنّ الشكّ هنا في أصل تحقّق هذا القيد في الخارج ، فإنّ وجوده في الخارج يعني فعليّة الحجّ وفعليّة الصلاة ، والشكّ فيه شكّ في الوجوب الفعلي للصلاة أو الحجّ ، فهو شكّ في التكليف فتجري البراءة عنه ، ويسمّى هذا النحو من الشكّ في القيود بمفاد ( كان ) التامّة ؛ لأنّ المراد من كان التامّة هو أصل وجود وثبوت الشيء كما يقال : كان زيد ، أي وجد زيد فالشكّ في أصل وجود القيد وعدم وجوده شكّ في تحقّق مفاد كان التامّة وعدم تحقّقه كذلك.

الثاني : أن يشكّ في اتّصاف الموضوع في الخارج بوصف بحيث يكون اتصافه

ص: 158

بهذا الوصف هو القيد للتكليف ، كما إذا شكّ في أنّ المائع الموجود في الخارج خمر ، فهنا الشكّ في اتّصافه بهذا العنوان ، والمفروض أنّ الاتّصاف هو المأخوذ قيدا في التكليف ، لا نفس الموضوع الخارجي.

والشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في تحقّق التكليف الفعلي وعدمه فتجري البراءة ، وهذا النحو يسمّى بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ ( كان ) الناقصة مفادها إثبات شيء لشيء كقولنا : كان زيد عالما ، أي أنّه متّصف بالعلم ، ولذلك سمّيت قيود الاتّصاف بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ القيد ليس بلحاظ أصل الوجود الخارجي ، بل بلحاظ الوجود الخارجي المتّصف بهذا العنوان الخاصّ ، أي كون السائل متّصفا بعنوان الخمريّة لا وجود الخمر في الخارج.

فإذا كان الشكّ في القيود بأحد هذين النحوين جرت البراءة لنفي التكليف الفعلي المشكوك.

والنحو الأوّل يكون في القيود المأخوذة شرطا في التكليف ، بينما النحو الثاني يكون في القيود المأخوذة موضوعا للتكليف.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نعمّم فكرة قيود التكليف التي هي على وزان مفاد ( كان ) الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلّق معا ، فكما أنّ حرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا كذلك الحال في حرمة الكذب ، فإنّ ثبوتها لكلام مقيّد بأن يكون الكلام كذبا ، فإذا شكّ في كون كلام كذبا كان ذلك شكّا في قيد التكليف.

ومن خلال هذا الضابط يمكننا تعميم فكرة قيود التكليف التي تكون من القسم الثاني أي التي على وزان مفاد ( كان ) الناقصة إلى الموضوع وإلى المتعلّق أيضا ، وتكون قيود التكليف من القسم الأوّل أي التي على وزان مفاد ( كان ) التامّة شاملة للقيود والشروط فقط.

وتوضيح ذلك : أنّ المراد من قيود التكليف التي على وزان ( كان ) الناقصة اتّصاف الشيء بعنوان ما ، وهذا المعنى كما يتحقّق بالنسبة للموضوع في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) حيث يكون اتّصاف المائع بكونه خمرا قيدا في التكليف ، كذلك يتحقّق بالنسبة للمتعلّق كما في قولنا : ( لا تكذب ) فإنّ القيد ليس هو الكذب الموجود في

ص: 159

الخارج ، وإلا كانت حرمة الكذب مقيّدة بوجود الكذب في الخارج ، فيكون المفاد إذا تحقّق الكذب فلا تكذب وهو واضح البطلان.

وإنّما القيد اتّصاف الكلام بكونه كذبا أي الكلام الصادر من المتكلّم في الخارج إن اتصف بكونه كذبا فهو حرام ، فتكون الحرمة مقيّدة باتّصاف الكلام بالكذب سواء وجد في الخارج أم لا ، وعليه فإذا شكّ في كلام أنّه كذب أو لا جرت البراءة عنه لنفي حرمته ؛ لعدم إحراز اتّصافه بالكذب.

نعم ، المتعلّق إن كان متعلّقا للوجوب جرت أصالة الاشتغال عند الشكّ في اتّصاف الفعل به كما في قولنا : ( صلّ ) ، فإنّه إذا شكّ في كون فعل ما صلاة جرت أصالة الاشتغال ؛ لأنّه شكّ في المكلّف به حيث إنّ إطلاق الحكم بالنسبة للصلاة بدلي.

وهكذا نستخلص أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة هو الشكّ في قيود التكليف ، وهي تارة على وزان مفاد ( كان ) التامّة كالشكّ في موضوع الزلزلة الخارجي التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، وأخرى على وزان مفاد ( كان ) الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع كالشكّ في خمريّة المائع ، وثالثة على وزان كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان المتعلّق كالشكّ في كون الكلام الفلاني كذبا.

والحاصل : أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة كون الشكّ في قيود التكليف ، والقيود على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن تكون القيود على وزان كان التامّة أي أصل وجود وتحقّق القيد ، كما في الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، فإنّ الشكّ في أصل تحقّق الزلزلة شكّ في تحقّق القيد للتكليف فتجري البراءة عنه.

الثاني : أن تكون القيود على وزان كان الناقصة بالنسبة للموضوع كما تقدّم بالنسبة لاتّصاف المائع بكونه خمرا ، فإنّه عند الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في تحقّق قيد التكليف الذي هو اتّصاف المائع بالخمر فتجري البراءة.

الثالث : أن تكون على وزان ( كان ) الناقصة بالنسبة للمتعلّق كما في قولنا : ( لا تكذب ) ؛ لأنّ القيد هو اتّصاف الكلام بكونه كذبا ، فمع الشكّ في كون الكلام الفلاني كذبا تجري البراءة ؛ لأنّه لا يحرز اتّصافه بالكذب.

* * *

ص: 160

استحباب الاحتياط

اشارة

ص: 161

ص: 162

استحباب الاحتياط

عرفنا سابقا (1) عدم وجوب الاحتياط ، ولكنّ ذلك لا يحول دون القول بمطلوبيته شرعا واستحبابه ؛ لما ورد في الروايات (2) من الترغيب فيه ، والكلام في ذلك يقع في نقطتين :

بعد أن عرفنا عدم وجوب الاحتياط شرعا في الشبهات البدوية ؛ لعدم تماميّة أدلّته سندا أو دلالة أو لمعارضتها بأدلّة البراءة التي كانت أقوى منها وأرجح كما تقدّم ، نبحث حول حسن الاحتياط عقلا واستحبابه شرعا.

فنقول : لا إشكال في أنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط في الشبهات البدويّة ، كما أنّ الصحيح استحباب الاحتياط شرعا ؛ لأنّ ما دلّ على وجوب الاحتياط من الآيات والروايات تدلّ بالالتزام على كونه مطلوبا وراجحا ، وحيث إنّ المدلول المطابقي لهذه الأدلّة قد سقط فيبقى المدلول الالتزامي ، بل بعض الروايات كما قلنا ظاهرة في الترغيب والحثّ على الاحتياط ، وهو يفيد الرجحان وأصل المطلوبيّة ، ولأجل استيعاب البحث يقع الكلام في نقطتين :

الأولى : في إمكان جعل الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتا ، إذ قد يقال بعدم إمكانه فيتعيّن حمل الأمر بالاحتياط على الإرشاد إلى حسنه عقلا ؛ وذلك لوجهين :

النقطة الأولى : في إمكانيّة جعل الاستحباب الشرعي المولوي للاحتياط ثبوتا ، أي في أصل معقوليّة جعل مثل هذا الاستحباب النفسي للاحتياط في عالم الجعل والتشريع ، إذ يقال - كما عن مدرسة الميرزا - : إنّ جعل الاستحباب الشرعي له

ص: 163


1- ضمن أدلّة البراءة من الكتاب والسنّة.
2- وسائل الشيعة 27 : 154 ، أبواب صفات القاضي ، ب 12.

مستحيل ، فلا بدّ أن تكون هذه الأدلّة الشرعيّة إرشاديّة إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ، ولا يمكن أن يحمل على ما هو الظاهر منها من كونها أحكاما تأسيسيّة ومولويّة ، والوجه في الاستحالة أمران :

الأوّل : أنّه لغو ؛ لأنّه إن أريد باستحباب الاحتياط الإلزام به فهو غير معقول ، وإن أريد إيجاد محرّك غير إلزاميّ نحوه فهذا حاصل بدون جعل الاستحباب ؛ إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي المشكوك بضمّ استقلال العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه ، فإنّه محرّك بمرتبة غير إلزاميّة.

الوجه الأوّل : أنّ جعل الاستحباب الشرعي للاحتياط لغو ؛ وذلك لأنّه إن أريد من جعل الاستحباب له كون الاحتياط لازما وواجبا فهو غير معقول في نفسه ، إذ المفروض كونه مستحبّا فكيف يلزم المكلّف به؟!

وإن أريد باستحبابه كونه محرّكا للمكلّف نحو الفعل لا على وجه اللزوم فهذا وإن كان معقولا في نفسه ولكنّه لغو أيضا ؛ لأنّ المحرّك نحو الفعل ثابت بحكم العقل القاضي بحسنه ، فيكون جعل المحرّك مع وجوده تحصيلا للحاصل ، بل المحرّكيّة ثابتة بنفس احتمال التكليف الواقعي المشكوك حفاظا على مصلحة الواقع على تقدير ثبوتها ، وفرارا من الوقوع في المفسدة أو فوات المصلحة على تقدير ثبوت التكليف واقعا.

فإنّ العقل هنا يحكم بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب على ذلك عقلا ، ولو من باب الانقياد. فالمحرّك غير الإلزامي إذا موجود بحكم العقل فلا معنى لإيجاده ، فتكون الأدلّة محمولة على الإرشاد لما حكم به العقل.

الثاني : أنّ حسن الاحتياط كحسن الطاعة وقبح المعصية واقع في مرحلة متأخّرة عن الحكم الشرعي ، وقد تقدّم المسلك القائل بأنّ الحسن والقبح الواقعيّين في هذه المرحلة لا يستتبعان حكما شرعيّا.

الوجه الثاني : ما أفاده الميرزا بناء على مسلكه في مسألة الحسن والقبح العقليّين والملازمة بينهما وبين حكم الشارع ، حيث قال : إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع إنّما تكون فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد ، لا فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام.

ص: 164

وتوضيح ذلك : أنّ حكم العقل بحسن الصدق والعدل وقبح الظلم والكذب ممّا يستقلّ العقل به ؛ لأنّه يدرك المصلحة الموجودة في الصدق والعدل والأمانة من جميع الجهات ويحكم بحسنها ، ويدرك المفسدة في الظلم والكذب والخيانة ويحكم بقبحها.

وهذا يعني أنّ المصلحة والمفسدة ثابتتان ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بالوجوب في موارد المصلحة وبالحرمة في موارد المفسدة ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، والمفروض أنّها ثابتة لإدراك العقل لها ، فمثل هذا الحكم العقلي يستلزم الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة علل الأحكام أي أنّه ينقّح العلّة للحكم بالوجوب ، وهي المصلحة وينقّح العلّة للحكم بالحرمة وهي المفسدة.

وأمّا الحكم العقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بحسن الطاعة بعد فرض ثبوت حكم شرعي بالوجوب في مرحلة سابقة ، وهكذا لحكمه بقبح المعصية فإنّه مرتبط بثبوت حكم شرعي بالحرمة أوّلا.

فإذا كان هناك وجوب للصلاة حكم العقل بحسن الطاعة والامتثال ، وإذا كان هناك حرمة لشرب الخمر حكم العقل بقبح المخالفة والعصيان ، إلا أنّ حكم العقل هذا لا يلزم منه وجود حكم شرعي آخر بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي بدوره سوف يحكم العقل بحسن إطاعته وقبح معصيته فيلزم ثبوت حكم شرعي على وفقهما وهكذا ، فيلزم التسلسل المستحيل.

وبهذا ظهر أنّ الحكم العقلي إذا كان واقعا في سلسلة علل الأحكام فهناك ملازمة بينه وبين حكم الشارع على طبقه ، وإن كان واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لاستلزامه التسلسل الباطل.

ومقامنا من قبيل الثاني ؛ لأنّ حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، إذ حكم العقل بالاحتياط فرع ثبوت حكم شرعي في مرحلة سابقة واقعا ، فهذا الحكم العقلي معلول لوجود الحكم الشرعي ، وليس علّة له ، وحينئذ يستحيل أن يحكم الشارع باستحباب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الحكم سوف يستتبعه حكم عقلي آخر وهو يستلزم حكم شرعي وهكذا يتسلسل.

ص: 165

وكلا الوجهين غير صحيح.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط إمّا أن يكون نفسيّا لملاك وراء ملاكات الأحكام المحتاط بلحاظها ، وإمّا أن يكون طريقيّا بملاك التحفّظ على تلك الأحكام ، وعلى كلا التقديرين لا لغويّة.

أمّا على النفسيّة فلأنّ محرّكيّته مغايرة سنخا لمحرّكيّة الواقع المشكوك فتتأكّد إحداهما بالأخرى ، وأمّا على الطريقيّة فلأنّ مرجعه حينئذ إلى إبراز مرتبة من اهتمام المولى بالتحفّظ على الملاكات الواقعيّة في مقابل إبراز نفي هذه المرتبة من الاهتمام أيضا ، ومن الواضح أنّ درجة محرّكيّة الواقع المشكوك تابعة لما يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.

أمّا الوجه الأوّل فجوابه : أنّنا نختار الشقّ الثاني وهو كون المراد بجعل الاستحباب للاحتياط إيجاد محرّك غير لزومي ، ولا محذور فيه وليس تحصيلا للحاصل.

وذلك لأنّ هذا الاستحباب المولوي إمّا أن يكون بملاك نفسي ، أي ناشئ من مصلحة وملاك في نفس الاحتياط هي التي دعت الشارع للحكم باستحبابه زائدا على الملاكات الواقعيّة للأحكام الإلزاميّة المشكوكة ، فهنا لن يكون هناك لغويّة وتحصيل الحاصل ؛ وذلك لأنّ الاحتياط الثابت بحكم العقل إنّما هو الاحتياط بملاك نفس الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة ، أي نفس الحكم الواقعي الإلزامي المشكوك كان هو المحرّك للمكلّف نحو الإتيان به من أجل عدم الوقوع في المفسدة الواقعيّة ، أو لإدراك المصلحة الواقعيّة الموجودتين في الحكم المشكوك على تقدير ثبوته.

وأمّا الاحتياط الثابت بحكم الشارع فهو ناشئ من ملاكات خاصّة بالاحتياط ، أي أنّها ناشئة من وجود مصلحة في نفس العمل بالاحتياط.

كما في مثل قوله : « من ترك الشبهات كان لما استبان أترك » أي أنّ المصلحة في الاحتياط هي تدريب المكلّف على ترك المحرّمات المعلومة ؛ لأنّه إذا ترك الشبهات الإلزاميّة مع كونها مشكوكة سوف يترك المحرّمات المعلومة أيضا ؛ لصيرورة الترك من عادته وسجيّته ، فالمحرّكيّة الموجودة غير المحرّكيّة الثابتة شرعا من حيث الملاك ، فتكون الثانية مؤكّدة للأولى فلا لغويّة.

ص: 166

وإمّا أن يكون بملاك طريقي أي يكون ناشئا من مصلحة الواقع ، فمبادؤه نفس مبادئ الحكم الواقعي المشكوك وليس زائدا عليه ، فهو حكم ظاهري طريقي يجعله الشارع في مقام الشكّ وعدم التمييز للملاكات الواقعيّة عند اشتباه المكلّف وعدم قدرته على التمييز.

وهنا لا يكون جعل الاحتياط لغوا ؛ لأنّه لا يراد به إيجاد محرّكيّة ثابتة زائدا عن المحرّكيّة الثابتة بحكم العقل ، إذ لا محرّكيّة إلا للملاكات الواقعيّة للأحكام المشكوكة ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وإنّما يراد بهذا الحكم الطريقي إبراز الاهتمام المولوي في التحفّظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة ، كما تقدّم مفصّلا في الحديث عن حقيقة الحكم الظاهري ؛ لأنّ المولى عند شكّ المكلّف إمّا أن تكون ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظره ، وإمّا أن تكون ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، فإن كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ فسوف يصدر حكما ظاهريّا طريقيّا يبرز فيه ذلك وهذا يكون بالاحتياط ، وإن كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ أصدر ترخيصا ظاهريّا طريقيّا.

فإذا كان ثبوت مثل هذا الاحتياط الظاهري الطريقي شرعا من أجل إبراز أنّ المولى يهتمّ بالملاكات الإلزاميّة في مقابل نفي اهتمامه بالملاكات الترخيصيّة.

وحينئذ سوف يكون مثل هذا الاحتياط الطريقي فيه مزيد من التأكيد على حسن الاحتياط ، ومزيد من التحريك أيضا ؛ لأنّ المكلّف صار يعلم بأنّ المولى يهتمّ بالحفاظ على الملاكات الواقعيّة للإلزام أيضا ، مضافا إلى اهتمام العقل بها.

وهكذا ظهر أنّه لا لغويّة في جعل الاحتياط المولوي سواء الطريقي أم النفسي.

وأمّا الوجه الثاني : فلو سلّم المسلك المشار إليه فيه لا ينفع في المقام ، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة واستتباع الحسن العقلي للطلب الشرعي ليردّ ما قيل ، بل هو ثابت بدليله ، وإنّما الكلام عن المحذور المانع من ثبوته. ولهذا فإنّ متعلّق الاستحباب عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصد قربي ، والعقل إنّما يستقلّ بحسن التجنّب الانقيادي والقربي خاصّة.

وأمّا الوجه الثاني فجوابه :

أوّلا : إنكار المسلك الذي يدّعيه الميرزا ، مضافا إلى إنكار كبرى الملازمة بين ما

ص: 167

حكم به العقل وبين حكم الشارع على طبقه ، بل قد يحكم وقد لا يحكم.

وثانيا : لو سلّم المبنى الذي ذكره الميرزا فلا يتمّ ما ذكره فيه بالنسبة للاحتياط ؛ لأنّنا لو قلنا : إنّه توجد ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فيما إذا كان حكم العقل واقعا في سلسلة العلل لا المعلولات ، فهذا تطبيقه على محلّ بحثنا غير صحيح ؛ لأنّنا لا نريد أن نثبت استحباب الاحتياط شرعا اعتمادا على الملازمة المذكورة ، أي بين حسن الشيء عقلا واستحبابه شرعا ليشكل الميرزا بما ذكره. وإنّما الاحتياط الشرعي ثابت استحبابه لقيام الدليل الخاصّ عليه.

وإنّما نريد أن نتساءل أنّه هل يوجد محذور ومانع عقلي من ثبوت الاستحباب الشرعي للاحتياط أو لا؟ أي أنّنا بعد الفراغ من ثبوت استحبابه شرعا لقيام الدليل عليه نريد أن نبحث في وجود المانع وعدمه ، فما ذكره الميرزا خارج عن محلّ بحثنا.

ويدلّ على ذلك : أنّنا لو كنّا نريد اثبات استحباب الاحتياط الشرعي على أساس الملازمة بين العقل والشرع لكان اللازم كون الاحتياط ثابتا فيما إذا أتي به بداعي التقرّب لله عزّ وجلّ فقط ؛ لأنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط والتجنّب عن مخالفة الواقع المشكوك من باب الانقياد لله تعالى.

والمفروض أنّ الاحتياط الثابت شرعا بأدلّته الخاصّة ثابت مطلقا سواء أتى المكلّف به من باب الانقياد والتقرّب أم لا ؛ لأنّ أدلّته مطلقة تشمل كلا الأمرين ؛ لأنّها تجعل الاستحباب إمّا لنفس الاحتياط بملاكات خاصّة ، وإمّا للاحتياط بملاك المحافظة على الواقع المشكوك مطلقا من دون تقييد ذلك بداعي التقرّب وغيره.

النقطة الثانية : أنّ الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحبّ كما عرفت ، ولكن قد ويقع البحث في إمكانه في بعض الموارد.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا احتمل كون فعل ما واجبا عباديّا ، فإن كانت أصل مطلوبيّته معلومة أمكن الاحتياط بالإتيان به بقصد الأمر المعلوم تعلّقه به ، وإن لم يعلم كونه وجوبا أو استحبابا فإنّ هذا يكفي في وقوع الفعل عباديّا وقربيّا.

النقطة الثانية : بعد أن ثبت كون الاحتياط مستحبّا شرعا وحسنا عقلا ، يقع البحث في أنّ استحباب الاحتياط لا إشكال في وقوعه في الواجبات التوصّليّة ، وأمّا الواجبات العباديّة فيشكل الاحتياط فيها ، فهنا مطلبان :

ص: 168

الأوّل : أنّ الاحتياط في التوصّليّات ممكن كما لو شكّ في أنّه مدين بعشرة أو تسعة ، فيمكنه الاحتياط وأداء الدين بالعشرة مع جواز اقتصاره على التسعة فقط ؛ لجريان البراءة عن الزائد ؛ لأنّه شكّ في التكليف.

الثاني : قد يقال : إنّ الاحتياط في العبادات مستحيل وممتنع ؛ وذلك لأنّه يشترط فيها نيّة التقرّب لله عزّ وجلّ بالعمل أو الترك ، وهذا لا يتمّ إلا إذا كان الفعل أو الترك معلوما وجهه من كونه واجبا أو مستحبّا أو حراما أو مكروها.

وتفصيل الحال أن يقال : إنّ مورد الاحتياط والذي هو أمر عبادي إن علم أصل مطلوبيّته وشكّ في وجه المطلوبيّة فيمكن الإتيان به بنيّة الأمر المعلوم وهو أصل المطلوبيّة من دون قصد للوجه ؛ إذ لا يلزم ذكر الوجه في نيّة القربة وعلى تقدير لزومها فهي واجبة عند القدرة عليها.

وهنا لا يعلم بالوجه فلا يكلّف بها وإلا لكان تكليف بغير المقدور ، وعلى هذا فإذا شكّ في وجوب صلاة الجمعة واستحبابها أو وجوب غسل الجمعة واستحبابه أمكنه الاحتياط بالإتيان بالفعل بقصد المطلوبيّة ؛ لأنّها معلومة وهي تكفي في نيّة التقرّب حيث لا يتمكّن من نيّة الوجه للجهل بها ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا إذا جهل بالمطلوبيّة فقد يقال بالمنع من الاحتياط ، ولذلك قال :

وأمّا إذا كانت أصل مطلوبيّته غير معلومة فقد يستشكل في إمكان الاحتياط حينئذ ؛ لأنّه إن أتى به بلا قصد قربيّ فهو لغو جزما ، وإن أتى به بقصد امتثال الأمر فهذا يستبطن افتراض الأمر والبناء على وجوده ، مع أنّ المكلّف شاكّ فيه ، وهو تشريع محرّم ، فلا يقع الفعل عبادة لتحصل به موافقة التكليف الواقعي المشكوك.

وأمّا إذا كانت المطلوبيّة مجهولة بأن دار الأمر بين الوجوب والإباحة أو الاستحباب والإباحة ، فهنا لا يعلم بأصل المطلوبيّة ؛ لأنّها ثابتة على أحد التقديرين فقط ، بخلاف الفرض السابق فإنّ المطلوبيّة معلومة سواء كان واجبا أم مستحبّا ، فهنا قد يستشكل بالاحتياط في مثل هذا المورد ، بل يمنع من الاحتياط فيه ؛ وذلك لأنّه إن أراد الإتيان بالعمل من دون قصد القربي أصلا فلا يتحقّق الفعل العبادي ؛ لأنّ نيّة القربة شرط فيه فيكون الأمر بالاحتياط بهذا القصد لغوا ؛ إذ لن يحصل به المطلوب

ص: 169

وهو الحفاظ على مصلحة الواقع ؛ لأنّ الواقع على تقدير ثبوته فهو ممّا لا يتأتّى إلا بقصد القربة لا مطلقا.

وإن أراد الإتيان بالعمل بقصد امتثال الأمر العبادي الذي هو معنى نيّة القربة فهذا فرع ثبوت الأمر في مرتبة سابقة ليقصد امتثاله ، فإنّ الامتثال متأخّر عن الأمر ، والمفروض أنّ الأمر غير معلوم بل مشكوك فيلزم الخلف ؛ لأنّ امتثال الأمر متوقّف على ثبوت الأمر أوّلا ، والمفروض أنّه مجهول ، هذا أوّلا.

وثانيا أنّ الإتيان بالفعل المشكوك أصل مطلوبيّته بنيّة القربى وامتثال الأمر يكون تشريعا محرّما ؛ لأنّه من إسناد شيء إلى الشارع من دون علم.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن الاحتياط في مثل هذا المورد ؛ لأنّ الفعل لا يمكن أن يقع عبادة مع أنّ المطلوب أن يقع عبادة لتحصل به الموافقة للتكليف الواقعي المشكوك بالاحتياط.

وبتعبير آخر : إنّ المطلوب لا يحصل بالاحتياط وما يحصل به ليس هو المطلوب ، فيكون جعل الاحتياط حينئذ لغوا باطلا أو تشريعا محرّما.

وقد يجاب على ذلك بوجود أمر معلوم وهو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، فيقصد المكلّف امتثال هذا الأمر.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ نيّة القربة يمكن الإتيان بها ؛ وذلك لثبوت الأمر الشرعي في مرحلة سابقة فيمكن للمكلّف أن يتقرّب بالعمل المحتاط فيه بقصد امتثال هذا الأمر المعلوم ثبوته.

وهذا الأمر المعلوم الثبوت ليس هو الأمر بهذا الفعل المحتاط فيه ؛ إذ المفروض الشكّ في ذلك ، وإنّما هذا الأمر هو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، كما تقدّم في النقطة الأولى حيث أثبتنا فيها أنّ الاستحباب الشرعي ممكن جعله للاحتياط ، وهو إمّا استحباب نفسي أو طريقي.

وحيث إنّ الاحتياط مطلوب شرعا فيمكن المكلّف الإتيان بالفعل قاصدا بذلك امتثال الأمر الشرعي ، والمطلوبيّة الثابتة شرعا للاحتياط لا لنفس الفعل المحتاط فيه ، وبهذا تتحقّق نيّة القربة ؛ إذ يكفي فيه قصد امتثال الأمر الشرعي حين الإتيان بالعمل ؛ لأنّ المقصود هو قصد مطلق الأمر المنطبق على هذا المورد أيضا.

ص: 170

وكون الأمر بالاحتياط توصّليّا ( لا تتوقّف موافقته على قصد امتثاله ) لا ينافي ذلك ؛ لأنّ ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من ناحية عباديّة نفس الأمر بالاحتياط ، بل من عباديّة ما يحتاط فيه.

فإن قيل : إنّ الأمر بالاحتياط من الأمور التوصّليّة التي لا يشترط فيها الإتيان بالمأمور به بقصد امتثال الأمر ، وحينئذ كيف يقال بأنّه يكفي في تحقّق قصد القربة أن يقصد امتثال الأمر الاستحبابي ، فإنّه ليس أمرا عباديّا بل هو أمر توصّلي ، فتحقّق العبادة فيه خلف المفروض من كونه توصّليّا ، إذ كيف ينشأ من الأمر التوصّلي أمر عبادي؟

كان الجواب : أنّه لا منافاة بين كون الأمر بالاحتياط من الأمور التوصّليّة وبين تحقّق قصد القربة حين الإتيان بالعمل بقصد امتثال هذا الأمر الاستحبابي المجعول للاحتياط ؛ وذلك لأنّنا لا نريد أن نقول : إنّ العباديّة نشأت من نفس الأمر الاستحبابي ليلزم الإشكال المحذور من أنّه توصّلي ، فكيف يصير عباديّا؟

بل نريد أن نقول : إنّ العباديّة تنشأ من الفعل المحتاط فيه حين قصد الأمر الاستحبابي للاحتياط بحيث يكون هذا الفعل مع ضمّ قصد امتثال الأمر بالاستحباب للاحتياط من الأمور العباديّة ؛ لأنّه يكفي في تحقّق القصد الإتيان بالفعل مع مطلق قصد امتثال الأمر حتّى لو كان الأمر توصّليّا لا عباديّا.

والحاصل : أنّ قصد الأمر بالاحتياط يصيّر العمل المحتاط فيه عباديّا مع كون نفس الأمر بالاحتياط توصّليّا ولم يتغيّر بلحاظ نفسه.

ولكنّ التحقيق عدم الحاجة إلى هذا الجواب ؛ لأنّ التحرّك عن احتمال الأمر بنفسه قربي كالتحرّك عن الأمر المعلوم ، فلا يتوقّف وقوع الفعل عبادة على افتراض أمر معلوم ، بل يكفي الإتيان به رجاء.

والتحقيق في المسألة : أنّ أصل المبنى في عباديّة الواجبات غير ما ذكر هنا على ما هو المحقّق سابقا ؛ وذلك لأنّ المراد من قصد القربة ليس هو قصد امتثال الأمر المعلوم ، بل الأعمّ منه ومن قصد امتثال الأمر المحتمل أيضا ؛ لأنّ صحّة العبادة يكفي فيها مطلق الداعي القربي سواء كان معلوما أم محتملا ، فكما أنّ الإخلاص يتحقّق بالانبعاث والتحرّك نحو الأمر المعلوم كذلك يتحقّق الإخلاص والانبعاث نحو الأمر

ص: 171

المحتمل ثبوته ، بأن يقصد هذا الأمر على افتراض ثبوته ورجاء كونه مطلوبا شرعا.

وهنا يمكننا الإتيان بالفعل المشكوك بقصد الأمر المحتمل ثبوته فيه رجاء أن يكون ثابتا ومطلوبا ، فإنّ هذا المقدار يكفي لتحقّق الإخلاص والانبعاث بداع قربي.

وبهذا ينحلّ أصل الإشكال ولا نحتاج إلى الجواب المذكور هنا ولا إلى غيره أيضا.

* * *

ص: 172

2 - الوظيفة في حالة العلم الإجمالي

اشارة

1 - قاعدة منجزية العلم الإجمالي 2 - أركان منجزية العلم الإجمالي 3 - تطبيقات منجزية العلم الإجمالي كلّ ما تقدّم كان في تحديد الوظيفة العمليّة في حالات الشكّ البدوي.

والآن نتكلّم عن الشكّ في حالات العلم الإجمالي.

والبحث حول ذلك يقع في ثلاثة فصول :

الأوّل : في أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

الثاني : في أركان هذه القاعدة.

الثالث : في بعض تطبيقاتها كما يأتي تباعا إن شاء اللّه تعالى.

ص: 173

ص: 174

قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي

اشارة

ص: 175

ص: 176

1 - قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي

والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومقدار هذه المنجّزيّة بقطع النظر عن الأصول الشرعيّة المؤمّنة.

الأمر الثاني : في جريان الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي وعدمه ثبوتا أو إثباتا.

الأمر الثالث : في جريانها في بعض الأطراف.

أمّا البحث عن أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي ، فيقع في ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : في أنّ العلم الإجمالي منجّز أو لا ، وما هو الوجه في هذه المنجّزيّة؟ وما هو المقدار الذي يتنجّز بالعلم الإجمالي هل هو خصوص الجامع أو كلّ الأطراف أو بعض الأطراف؟

وهذا البحث مرتبط بنفس العلم الإجمالي بقطع النظر عن جريان الأصول الترخيصيّة في أطرافه كلاّ أو بعضا أو عدم جريانه فيها كذلك ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته كيف ينجّز وما هو المقدار الذي ينجّزه؟

الأمر الثاني : في أنّ الأصول الترخيصيّة هل يمكن أن تجري في جميع أطراف العلم الإجمالي ، أو لا يمكن؟

وهذا البحث تارة يبحث فيه ثبوتا وأخرى إثباتا ، أي هل هناك مانع عقلي من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف أو ليس هناك مانع عقلي؟ وبعد الفراغ عن عدم وجود المانع العقلي يبحث في أنّه هل هناك مانع إثباتي من جريانها أو ليس هناك مانع؟

الأمر الثالث : إذا أثبتنا وجود المانع من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ أطراف

ص: 177

العلم الإجمالي إمّا في مقام الثبوت أو في مقام الإثبات ، نبحث في إمكانيّة جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف فقط وعدمها ، بمعنى أنّه هل يوجد مانع من جريانها في بعض الأطراف أو ليس هناك مانع؟

ومرجع البحث في الأمرين الأخيرين إلى مدى مانعيّة العلم الإجمالي بذاته ، أو بتنجيزه عن جريان الأصول بإيجاد محذور ثبوتيّ أو إثباتيّ يحول دون جريانها في الأطراف كلاّ أو بعضا ، وسنبحث هذه الأمور الثلاثة تباعا.

أمّا الأمر الأوّل فهو بحث حول كيفيّة كون العلم الإجمالي منجّزا للواقعة المشكوكة ، وأنّه هل يكون علّة للتنجيز بذاته أو يكون مقتضيا لذلك ، وبالتالي يكون موقوفا على عدم المانع من هذه المنجّزيّة؟

وأمّا الأمران الثاني والثالث فهما مرتبطان بمدى مانعيّة العلم الإجمالي عن جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف أو في بعض الأطراف ، فهل العلم الإجمالي بذاته بناء على مسلك العلّيّة يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ثبوتا أو إثباتا؟ وكذلك هل المنجّزيّة الثابتة للعلم الإجمالي بناء على مسلك الاقتضاء تقتضي المنع من جريان الأصول الترخيصيّة كذلك أم لا؟

وبتعبير آخر : هل العلم الإجمالي بذاته أو بتنجيزه - على اختلاف المسلكين - يوجب محذورا ثبوتيّا ، أو إثباتيّا يحول دون جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، أو في بعضها ، أو لا يوجب ذلك؟

* * *

ص: 178

منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمنة الشرعية

اشارة

ص: 179

ص: 180

1 - منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر

عن الأصول المؤمّنة الشرعيّة

والبحث في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي إنّما يتّجه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إنّ كلّ شبهة من أطراف العلم مؤمّن عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجّز التكليف فيها إلى منجّز ، ولا بدّ من البحث حينئذ عن حدود منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومدى إخراجه لأطرافه عن موضوع القاعدة.

وأمّا بناء على مسلك حقّ الطاعة فكلّ شبهة منجّزة في نفسها بقطع النظر عن الأصول الشرعيّة المؤمّنة ، وينحصر البحث على هذا المسلك في الأمرين الأخيرين.

الأمر الأوّل : البحث في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن جريان الأصول الترخيصيّة وعدم جريانها ، فهو يتّجه على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك سوف تكون كلّ شبهة في نفسها مؤمّن عنها.

أي أنّنا إذا لاحظنا أطراف العلم الإجمالي كلّ طرف لوحده فهو مشكوك في نفسه ، وعليه فيكون مشمولا للبراءة العقليّة ، فكيف يصبح منجّزا إذن؟ فيحتاج تنجّز كلّ طرف إلى وجود منجّز ، وهذا المنجّز هو العلم الإجمالي عندهم ، ولذلك لا بدّ أن يبحث عن حدود منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهل هذه المنجّزيّة تكفي لإخراج الأطراف من دائرة البراءة العقليّة أو لا؟

وبتعبير آخر : هل العلم الإجمالي يعتبر بيانا كالعلم التفصيلي لتكون الأطراف منجّزة أو لا؟

وأمّا على مسلك حقّ الطاعة فهذا البحث غير متّجه ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك

ص: 181

تكون كلّ شبهة منجّزة بنفسها على أساس منجّزيّة مطلق الانكشاف ولو احتمالا ، وهذه الأطراف يحتمل فيها التكليف فتكون منجّزة لمنجّزيّة احتمال التكليف عقلا.

نعم ، هنا يتّجه البحث حول الأمرين الثاني والثالث ، بمعنى أنّه هل يوجد محذور ثبوتي أو إثباتي في جريان الأصول الترخيصيّة الشرعيّة في كلّ الأطراف أو في بعضها ، أو لا يوجد محذور في ذلك؟

وعلى أيّ حال فنحن نتكلّم في الأمر الأوّل على أساس افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعليه فلا شكّ في تنجيز العلم الإجمالي لمقدار الجامع بين التكليفين ؛ لأنّه معلوم وقد تمّ عليه البيان ، سواء قلنا بأنّ مردّ العلم الإجمالي إلى العلم بالجامع أو العلم بالواقع.

بعد أن عرفنا أنّ البحث في الأمر الأوّل أي أصل منجّزيّة العلم الإجمالي يتّجه على مسلك المشهور القائل بالبراءة العقليّة على أساس قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، نقول : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الأولى : في حرمة المخالفة القطعيّة بالإتيان بكلّ الأطراف ، أو بترك كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة أو الوجوبيّة.

الثانية : في وجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك بالإتيان بكلّ الأطراف في الشبهات الوجوبيّة ، أو بترك كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة.

أمّا المرحلة الأولى فلا شكّ في أنّ العلم الإجمالي ينجّز مقدار الجامع المعلوم بين الأطراف ، فإذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة فالجامع بينهما معلوم وهو وجوب صلاة ما فيتنجّز.

وكذا إذا شكّ في نجاسة أحد الإناءين فإنّ الجامع وهو وجود نجاسة معلوم فيتنجّز ، فيخرج الجامع عن دائرة القاعدة ؛ لأنّه قد تمّ البيان عليه وصار معلوما ، وهذا المقدار ثابت على جميع المسالك في تفسير حقيقة العلم الإجمالي من أنّه العلم بالجامع والشكّ في الأطراف ، أو أنّه العلم بالواقع ، أو أنّه العلم بالفرد المردّد ، كما سيأتي شرحها بالتفصيل ، لأنّه على جميع هذه المسالك يكون الجامع معلوما فيتنجّز ، ومنجّزيّته تعني حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه إذا ترك كلا الصلاتين أو ارتكب كلا

ص: 182

الإناءين يكون قد خالف الجامع المعلوم قطعا ، فيكون مستحقّا للعقاب لتماميّة البيان على الجامع.

والوجه في ذلك :

أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ الجامع معلوم ضمنا حتما ، وعليه يحكم العقل بتنجّز الجامع ، ومخالفة الجامع إنّما تتحقّق بمخالفة كلا الطرفين ؛ لأنّ ترك الجامع لا يكون إلا بترك كلا فرديه ، وهذا يعنى حرمة المخالفة القطعيّة عقلا للتكليف المعلوم بالإجمال.

وأمّا الوجه في كون العلم الإجمالي منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة على القول بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد فواضح ؛ لأنّ الجامع معلوم تفصيلا حيث تمّ البيان القطعي عليه ، ومعه فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة لهذا الجامع وحرمة المخالفة والمعصية من حيث إنّه تكليف معلوم فيدخل في العهدة والذمّة.

فإن كانت المخالفة القطعيّة جائزة لزم التنافي والتهافت ؛ لأنّ معنى المخالفة القطعيّة جواز ارتكاب كلا الإناءين أو جواز ترك كلتا الصلاتين ، وهذا يعني مخالفة الجامع ؛ لأنّ الجامع موجود ضمن الطرفين ، فمع مخالفتهما تتحقّق مخالفة الجامع ، والمفروض أنّ الجامع يجب امتثاله وإطاعته.

وأمّا الوجه في ذلك بناء على القول بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع أو بالفرد المردد ، فالجامع نفسه غير منجّز ؛ لعدم تماميّة البيان عليه مباشرة ، إلا أنّه لمّا كان الجامع موجودا ضمن أفراده في الخارج ، فحيث إنّ الفرد الواقعي هو المنجّز فيكون الجامع الموجود ضمنه منجّزا أيضا ، فيحكم العقل بلزوم امتثاله وحرمة مخالفته ، ومخالفة الجامع هنا تكون بترك كلا الطرفين أو بارتكاب كلا الطرفين ؛ لأنّ الجامع موجود ضمنا في أحدهما الواقعي غير المعلوم تفصيلا ، وبالتالي سوف يقع في التنافي والتهافت بين الجامع المعلوم ضمنا وبين ترك كلا الطرفين أو ارتكابهما معا.

وهذا المقدار يسمّى منجّزيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، وهو ممّا لا إشكال فيه عند أحد.

وإنّما المهمّ البحث في تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة عقلا ، فقد وقع الخلاف في ذلك :

ص: 183

فذهب جماعة كالمحقّق النائيني (1) والسيّد الأستاذ (2) إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بحدّ ذاته الموافقة القطعيّة ، وتنجيز كلّ أطرافه مباشرة.

وذهب المحقّق العراقي (3) وغيره (4) إلى أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ، كما يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة.

ويظهر من بعض هؤلاء المحقّقين أنّ المسألة مبنيّة على تحقيق هويّة العلم الإجمالي ، وهل هو علم بالجامع أو بالواقع؟

وعلى هذا الأساس سوف نمهّد للبحث بالكلام عن هويّة العلم الإجمالي والمباني المختلفة في ذلك ، ثمّ نتكلّم في مقدار التنجيز على تلك المباني.

وأمّا المرحلة الثانية : وهي وجوب الموافقة القطعيّة فهي الأساس في هذا البحث.

والسؤال المطروح هنا هو : هل العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة عقلا أو لا؟

والجواب على ذلك مختلف ، فذهب الميرزا والسيّد الخوئي إلى أنّ العلم الإجمالي بنفسه لا يستلزم وجوب الموافقة القطعيّة عقلا ، أي أنّ العلم الإجمالي بنفسه وبحدّ ذاته لا يستلزم أكثر من حرمة المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ؛ لتماميّة البيان عليه كما تقدّم ، إمّا مستقلاّ وإمّا ضمنا.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة فهذا لا يستلزمه نفس العلم الإجمالي. نعم ، هذا المقدار يتنجّز لجهة أخرى وهي جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف وتعارضها وتساقطها كما سيأتي ، وهذا المسلك يسمّى بمسلك الاقتضاء.

بينما ذهب المحقّق العراقي وغيره إلى أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته كما يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة كذلك يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة بنحو يمنع حتّى عن المخالفة الاحتماليّة ، فكلّ الأطراف يجب امتثالها في الشبهات الوجوبيّة أو يجب

ص: 184


1- أجود التقريرات 2 : 242.
2- مصباح الأصول 2 : 348 - 350.
3- مقالات الأصول 2 : 232 - 233.
4- كالمحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 408.

تركها في الشبهات التحريميّة ، والمنجّز لذلك هو نفس العلم الإجمالي ، ولا مدخليّة للأصول الترخيصيّة في ذلك ، وهذا المسلك يسمّى بمسلك العلّيّة.

وذهب آخرون إلى أنّ وجوب الموافقة القطعيّة أو عدم وجوبها مبني على تحقيق الحال في هويّة العلم الإجمالي ، فإن قيل بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد كان معناه أنّه يستلزم حرمة المخالفة القطعيّة فقط دون وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المنجّز هو الجامع فقط ، فيحرم تركه بترك الطرفين ، وأمّا امتثاله فهو يتحقّق بالامتثال لأحدهما ؛ لأنّ الجامع موجود في كلا الطرفين فيمكنه أن يحقّقه ضمن أي الفردين شاء.

وإن قيل بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع كان الواقع منجّزا عليه وداخلا في العهدة ، وامتثاله لا يتحقّق بالإتيان بأحد الطرفين ؛ إذ قد لا يكون هو الواقع المنجّز فتبقى الذمّة مشغولة ؛ ولذلك يجب الامتثال بالإتيان بكلا الطرفين لكي يتحقّق الامتثال والفراغ اليقيني من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبة ؛ لأنّها مقدّمة علميّة لتحقّق الامتثال والفراغ اليقيني.

وبهذا يكون الكلام عن الموافقة القطعيّة مرتبطا بالمباني الموجودة في حقيقة العلم الإجمالي ، ولذلك يجب أوّلا استعراض هذه المباني لنرى أنّه هل يمكن على أساسها تخريج وجوب الموافقة القطعيّة أو لا يمكن ذلك؟

وهنا توجد ثلاثة اتّجاهات لتفسير حقيقة العلم الإجمالي لا بدّ من ذكرها مع أدلّتها :

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي :

ويمكن تلخيص الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي في ثلاثة مبان :

الأوّل : المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي علم تفصيلي بالجامع مقترن بشكوك تفصيليّة بعدد أطراف ذلك العلم ، وهذا ما اختاره المحقّقان النائيني (1) والأصفهاني (2).

ص: 185


1- فوائد الأصول 4 : 10 - 12.
2- نهاية الدراية 4 : 237.

وهذا المبنى يشتمل على جانب إيجابي وهو اشتمال العلم الإجمالي على العلم بالجامع وهذا واضح بداهة ، وعلى جانب سلبيّ وهو عدم تعدّي العلم من الجامع.

الاتّجاه الأوّل : ما اختاره المحقّقان النائيني والأصفهاني ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي عبارة عن علم تفصيلي بالجامع وشكّ في الأطراف ، أي شكّ بدوي في كلّ فرد فرد من الأفراد التي وقعت ضمن دائرة العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : يمكننا تحليل العلم الإجمالي إلى جانبين : أحدهما إيجابي والآخر سلبي.

أمّا الجانب الإيجابي فهو العلم بالجامع بنحو تفصيلي ؛ لأنّ من يعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يعلم تفصيلا بوجوب صلاة ما.

وأمّا الجانب السلبي فهو أنّ هذا العلم الإجمالي لا يتعدّى ولا يسري إلى الأطراف ، بل هذه الأطراف مشكوكة في نفسها ، فالظهر في نفسه مشكوك والجمعة في نفسها مشكوكة أيضا ، إذ لا يعلم بوجوب إحداهما بنحو تفصيلي ؛ وإلا لصار العلم تفصيليّا.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني برهن على صحّة هذا الاتّجاه بقوله :

وبرهانه : أنّه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فهو : إمّا أن يكون بلا متعلّق ، أو يكون متعلّقا بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن ، أو بالفرد بحدّ شخصيّ مردّد بين الحدّين أو الحدود ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ العلم صفة ذات الإضافة ، فلا يعقل فرض انكشاف بلا منكشف.

وأمّا الثاني فلبداهة أنّ العالم بالإجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ولا بذاك بعينه.

وأمّا الثالث فلأنّ المردّد إن أريد به مفهوم المردّد فهذا جامع انتزاعي ، والعلم به لا يعني تعدّي العلم عن الجامع ، وإن أريد به واقع المردّد فهو ممّا لا يعقل ثبوته فكيف يعقل العلم به؟ لأنّ كلّ ما له ثبوت فهو متعيّن بحدّ ذاته في أفق ثبوته.

والبرهان على صحّة هذا الاتّجاه ، وأنّه لا يوجد إلا علم تفصيلي واحد وهو العلم

ص: 186

بالجامع فقط أن يقال : إنّه لو فرض وجود علم آخر غير العلم بالجامع ، فهذا العلم لا يخلو من أحد أمور أربعة ، وهي :

1 - أن يكون هذا العلم لا متعلّق له أي علم بلا معلوم.

2 - أن يكون لهذا العلم متعلّق ومتعلّقه الفرد الشخصي المتعيّن في الخارج بحدّه الشخصي ، أي هذا الفرد بعينه.

3 - أن يكون متعلّقه الفرد المردّد بين الفردين أو بين الأفراد ، أي أحدهما.

4 - أن يكون متعلّقه كلا الفردين معا بحدّهما الشخصي أي كلاهما.

وكلّ هذه الاحتمالات باطلة :

أمّا الأوّل : فهو خلف حقيقة العلم ؛ لأنّ العلم صفة من صفات ذات الإضافة ، فهو يحتاج دائما إلى متعلّق وموصوف ، ولا يمكن تعقّله من دون ذلك ، ففرض عدم وجود متعلّق للعلم يعني أنّه لا علم إذ لا معلوم.

وبتعبير آخر : أنّ حقيقة العلم هي كونه كاشفا فلا بدّ أن يكون هناك منكشف ؛ إذ لا يعقل الكاشف من دون فرض الانكشاف والمنكشف ، نظير العلّة والمعلول فكون شيء علّة يعني وجود معلول له.

وأمّا الثاني : فهو يوجب الانقلاب ؛ لأنّ المفروض أنّه يوجد لدينا علم إجمالي بوجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة ، ففرض أنّ هذا العلم له متعلّق ومتعلّقه أحد الطرفين بحدّه الشخصي المتعيّن في الخارج ، معناه أنّ العلم سرى إلى الفرد المعيّن فصار وجوب الظهر معلوما بالتفصيل أو وجوب الجمعة كذلك ، وهذا معناه أنّنا نعلم تفصيلا بالفرد والطرف ، وهذا خلاف المفروض من أنّنا نعلم إجمالا.

وأمّا الثالث : فلأنّ كون متعلّق العلم هو الفرد المردّد يحتمل أحد أمرين :

الأول : أن يكون المراد مفهوم الفرد المردّد أي عنوان ( أحدهما ) بما هو صورة ذهنيّة تعلّق بها العلم ، فهذا العنوان أي ( أحدهما ) عنوان انتزاعي من الفردين جامع بينهما ؛ لأنّه يصدق في الخارج على هذا وعلى ذاك ، فإذا فرض أنّه متعلّق للعلم كان معناه أنّ العلم متعلّق بالجامع ؛ لأنّ هذا العنوان لم يتعدّ إلى الفرد ، فهو نفس العلم السابق المتعلّق بالجامع ، وليس شيئا زائدا عليه وإنّما هو تعبير آخر عنه فقط.

الثاني : أن يكون المراد واقع الفرد المردّد أي عنوان ( أحدهما ) الموجود في

ص: 187

الخارج والواقع ، فهذا مستحيل ؛ لأنّ عنوان أحدهما أو الفرد المردّد لا وجود له في الخارج ؛ إذ الموجود في الخارج الفرد المشخّص بحدّه الشخصي لا المردّد ، والعنوان والمفهوم لا يمكن وجوده في الخارج إلا ضمن المصداق الجزئي ؛ لأنّ كلّ ما هو ثابت في الواقع والخارج إنّما يكون ثابتا بشخصه وحده الذي يميّزه عن غيره ، فهذا العنوان إن ادّعي ثبوته بهذا الفرد بعينه وشخصه عاد إلى الاحتمال الثاني وفيه ما تقدّم ، وإن كان ثابتا لوحده فهذا غير معقول ؛ إذ لا ثبوت للمفهوم أي ضمن الحدّ الشخصي.

وأمّا الرابع : وهو أن يكون العلم متعلّقا بالفردين فهو واضح البطلان ؛ ولذلك لم يذكره هنا ، ووجهه أنّ المفروض أنّنا نعلم بوجوب صلاة من الصلاتين لا أنّنا نعلم بوجوب كلتا الصلاتين ، فهذا خلاف ما هو المفروض.

وبهذا ظهر أنّ كلّ الاحتمالات المذكورة باطلة ، فيتعيّن ألاّ يكون هناك علم آخر سوى العلم التفصيلي بالجامع ، وأمّا الأفراد فلا يمكن تعلّق العلم بها بأي نحو من الأنحاء ، فتكون مشكوكة بالشكّ المقترن بالعلم السابق.

الثاني : المبنى القائل بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي يسري من الجامع إلى الحدّ الشخصي ، ولكنّه ليس حدّا شخصيّا معيّنا ؛ لوضوح أنّ كلاّ من الطرفين بحدّه الشخصي المعيّن ليس معلوما ، بل حدّا مردّدا في ذاته بين الحدّين.

وهذا ما يظهر من صاحب ( الكفاية ) اختياره ، حيث ذكر في بحث الواجب التخييري من ( الكفاية ) (1) : ( أنّ أحد الأقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردّد ) وأشار في تعليقته على ( الكفاية ) إلى الاعتراض على ذلك : بأنّ الوجوب صفة ، وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد مع أنّ الموصوف لا بدّ أن يكون معيّنا في الواقع؟

وأجاب على الاعتراض : بأنّ الواحد المردّد قد يتعلّق به وصف حقيقي ذو الإضافة كالعلم الإجمالي ، فضلا عن الوصف الاعتباري كالوجوب.

الاتّجاه الثاني : ما اختاره صاحب ( الكفاية ) في حاشية ( الكفاية ) على الواجب التخييري ، حيث قال : إنّ أحد الأقوال في الواجب التخييري كونه الواحد المردّد ،

ص: 188


1- كفاية الأصول : 175.

كما هو الحال في خصال كفّارة الإفطار العمدي ، فإنّ الواجب منها الفرد المردّد لا أحدها المعيّن ولا الجامع.

وهنا اختار نفس ما اختاره هناك ، فالعلم الإجمالي عنده متعلّق بالفرد المردّد ، ويدلّ على اختياره لذلك أنّه عند ما اعترض على كون الواجب التخييري هو الواجب الواحد المردّد بقوله : ( إنّ الوجوب صفة وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد ، من حيث إنّ الموصوف لا بدّ أن يكون معيّنا في الواقع لكي يتّصف بصفة ، فإنّ الصفة عبارة عن الحكم والحكم لا يكون على المجهول أو المردّد ، بل على المشخّص والمتعيّن؟ ).

فأجاب عن ذلك بأنّ الواحد المردّد لا مانع من تعلّق الوجوب به ؛ لأنّه يتعلّق به العلم الإجمالي ، والمفروض أنّ الوجوب صفة اعتباريّة وليست حقيقيّة ، بينما العلم الإجمالي صفة حقيقيّة ذات الإضافة ، فيما أنّ العلم الإجمالي يمكن تعلّقه بالفرد المردّد مع كونه صفة حقيقيّة ، فمن الأولى أن يتعلّق الوجوب الذي هو صفة اعتباريّة بالفرد المردّد ؛ لأنّ الاعتبار سهل المئونة.

والحاصل : أنّ صاحب ( الكفاية ) اختار في العلم الإجمالي كونه متعلّقا في الفرد المردّد ، فإذا علمنا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، فهذا معناه أنّنا نعلم بالفرد المردّد بين هذين الفردين ، فليس العلم الإجمالي مقتصرا على الجامع ، بل يسري منه إلى الفرد لكن لا إلى الفرد المعيّن الشخصي بحدّه المتميّز به عن الآخر ؛ لوضوح أنّ الظهر بحدّها الذي يميّزها عن الجمعة ليست معلومة ، وكذا الكلام في الجمعة ، وإلا لكان لدينا علم تفصيلي بالفرد المتعيّن والمتشخّص بحدّه.

فالعلم إذا يسري من الجامع إلى الفرد من دون أن يكون لهذا الفرد تشخّص في حدّ معيّن ، وإنّما هذا الفرد حدّه مردّد بين الحدّين ، فلا هو ذاك بعينه ولا هذا بعينه ، وإنّما هو أحد الفردين والحدّين.

ويمكن الاعتراض عليه بأنّ المشكلة ليست هي مجرّد أنّ المردّد كيف يكون لوصف من الأوصاف نسبة وإضافة إليه؟ بل هي استحالة ثبوت المردّد ووجوده بما هو مردّد ؛ وذلك لأنّ العلم له متعلّق بالذات وله متعلّق بالعرض ، ومتعلّقه بالذات هو الصورة الذهنيّة المقوّمة له في أفق الانكشاف ، ومتعلّقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج.

ص: 189

والفرق بين المتعلّقين : أنّ الأوّل لا يعقل انفكاكه عن العلم حتّى في موارد الخطأ بخلاف الثاني.

وهذا المسلك يمكن الاعتراض عليه بغير ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وأجاب عنه ، فنقول : إنّ المشكلة التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) من أنّ الوجوب صفة والفرد المردّد موصوف ، فلا بدّ أن يكون الموصوف متعيّنا ومتشخّصا لكي تتعلّق به الصفة ، ليست هي المشكلة بالدقّة ؛ لأنّ هذا الاعتراض يمكن الجواب عنه بما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ الوجوب صفة اعتباريّة لا مانع من تعلّقها بالفرد المردّد.

وإنّما المشكلة في أنّ الفرد المردّد لا ثبوت له لكي يتعلّق به ما هو صفة اعتباريّة ، أو ما هو صفة حقيقيّة ذات الإضافة كالعلم الإجمالي.

فمحلّ الكلام ينبغي أن ينصبّ حول هذه النقطة وهي : أنّ الفرد المردّد هل له ثبوت أو لا؟ فإن كان له ثبوت فكما يمكن أن يتّصف بصفة اعتباريّة يمكن أن يتّصف بصفة حقيقيّة ، وإن لم يكن له ثبوت فكما يستحيل اتّصافه بصفة حقيقيّة يستحيل أيضا اتّصافه بصفة اعتباريّة ؛ إذ لا ثبوت له لكي يقبل حمل الصفة عليه سواء الوجوديّة الاعتباريّة أو الحقيقيّة.

وللجواب عن هذا السؤال نذكر مقدّمة حاصلها : أنّ الوجود على قسمين : ذهني وخارجي ، ولكلّ من الوجودين حدّ يميّزه عن غيره.

فمثلا الإنسان العالم الموجود في الخارج والإنسان الجاهل الموجود كذلك ، لكلّ منهما حدّ يميّزه عن الآخر وهو وجود صفة العلم في هذا ، وعدم وجودها في ذاك.

والصورة الذهنيّة للعالم حدّها المميّز لها ثبوت صفة العلم في الذهن بمعنى لحاظ صفة العلم ، بخلاف الصورة الذهنيّة للجاهل فهي لحاظ عدم صفة العلم ، والجامع بين الإنسان العالم والجاهل لا وجود له في الخارج بنحو مستقلّ ، وإنّما هو موجود بحدّ الفرد الخارجي أي ضمن هذا أو ذاك.

إلا أنّ له ثبوتا في الذهن ؛ لوجود الصورة الذهنيّة المتشخّصة في نفسها وذاتها ، وهي صورة الإنسان الذي حدّه الحيوان الناطق الذي يميّزه عن غيره من الصور الذهنيّة ، ولذلك يمكن تعلّق العلم به.

ص: 190

وكذا الحال لو أخذنا صفة العلم فإنّ العلم له متعلّق ؛ لأنّه من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، ومتعلّقه على قسمين :

متعلّق بالذات وهو الصورة الذهنيّة للمعلوم ، وهذه الصورة هي المقوّمة للعلم في أفق النفس والانكشاف ؛ إذ لو لا ثبوت المعلوم بصورته الذهنيّة لما تحقّق العلم.

ومتعلّق بالعرض وهو الوجود الخارجي المطابق لهذه الصورة ، أو الوجود الخارجي الذي يمكن أن تنطبق عليه الصورة الذهنيّة بنحو تكون حاكية وكاشفة عنه ؛ لأنّ المطلوب أن تكون الصورة الذهنيّة حاكية عن الخارج ، إلا أنّ حكايتها قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة.

ولأجل ذلك قد يكون المعلوم بالعرض ثابتا في الخارج فتكون الصورة الذهنيّة مطابقة للواقع الخارجي ومصيبة له ، وقد يكون المعلوم بالعرض غير ثابت في الخارج فتكون الصورة الذهنيّة مخطئة وغير مصيبة للواقع الخارجي ، إلا أنّه في كلتا الحالتين تبقى الصورة الذهنيّة ثابتة ومتحقّقة في أفق انكشافها وهو الذهن أو النفس ؛ لأنّ العلم تعلّق أوّلا وبالذات بها ، فهي حاضرة لديه وهو مصيب بمعنى كون العلم منصبّا عليها لا على شيء آخر.

والحاصل : أنّ العلم هو نفس حضور الصورة الذهنيّة وتعلّقه بها ، سواء كان المعلوم بالعرض ثابتا أم لا ، ولذلك كان العلم يمكن فيه الخطأ والإصابة بلحاظ المعلوم بالعرض ، وأمّا بلحاظ المعلوم بالذات فهو مصيب دائما ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة حاضرة عنده وتعلّق بها.

وبعد ذلك نعود للكلام عن العلم الإجمالي وإمكان تعلّقه بالفرد المردّد أو عدم إمكان ذلك ، فنقول :

وعليه فنحن نتساءل : ما هو المتعلّق بالذات للعلم في حالات العلم الإجمالي؟

فإن كان صورة حاكية عن الجامع لا عن الحدود الشخصيّة رجعنا إلى المبنى السابق.

وإن كان صورة للحدّ الشخصي ولكنّها مردّدة بحدّ ذاتها بين صورتين لحدّين شخصيّين فهذا مستحيل ؛ لأنّ الصورة وجود ذهني وكلّ وجود متعيّن في صقع ثبوته ، وتتعيّن الماهيّة تبعا لتعيّن الوجود لأنّها حدّ له.

وهنا نطرح السؤال التالي وهو : أنّ تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ما ذا يراد به؟

ص: 191

فإن كان المراد به مفهوم الفرد المردّد والذي هو عنوان وجامع انتزاعي ، فهذا يعني أنّ العلم تعلّق بهذا الجامع أي بالصورة الذهنيّة التي هي عبارة عن مفهوم أحد الفردين أو أحدهما ، وهذا في نفسه جامع غير أنّه جامع انتزاعي ، فيرجع هذا المبنى إلى المبنى السابق من تعلّق العلم الإجمالي بالجامع الحقيقي وهو وجوب صلاة ما.

وإن كان المراد به واقع الفرد المردّد أي الفرد المردّد الموجود والثابت ، فتارة يراد به الوجود الخارجي وأخرى الوجود الذهني.

فإن كان المراد الوجود الخارجي ، فمن الواضح أنّه في الخارج لا يوجد فرد زائد عن الظهر أو الجمعة يسمّى بالفرد المردّد ؛ لأنّ الموجود الخارجي إمّا الظهر أو الجمعة ، ولا وجود في الخارج للصلاة المردّدة بينهما.

وإن كان المراد الوجود الذهني أي صورة الفرد المردّد بحدّها الشخصي المتعيّن من بين الصورة الذهنيّة لصلاة الظهر بحدّها الشخصي والصورة الذهنيّة لصلاة الجمعة بحدّها الشخصي ، فهذا مستحيل وغير معقول ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة عبارة عن الوجود الذهني للفرد المردّد.

وقد ذكرنا أنّ كلّ وجود سواء الخارجي أو الذهني لا بدّ أن يكون متعيّنا بحدّه الشخصي الذي به يتميّز عن غيره من الصور الذهنيّة ، وهذا يفرض ثبوت الماهيّة للفرد المردّد ؛ لأنّ تعيّن الوجود يستتبع تعيّن الماهيّة وتشخّصها.

وبما أنّ المفروض تعيّن الفرد المردّد في الوجود الذهني فلا بدّ من فرض تعيّن وتشخّص لماهيّته في صقع ثبوته أي عالم الذهن.

وهذا يفرض أن يكون الفرد المردّد متعيّنا ، إمّا في الصورة الذهنيّة لصلاة الظهر بحدّها ، وإمّا في الصورة الذهنيّة لصلاة الجمعة بحدّها ، وإمّا بالصورتين معا بحدّهما ، وإمّا بصورة ذهنيّة رابعة وكلّ ذلك غير معقول ؛ لأنّ الأوّل والثاني يعني سريان العلم من الفرد المردّد إلى العلم بالفرد المعيّن تفصيلا وهو خلف المفروض ؛ ولأنّ الثالث يعني أنّنا نعلم بوجوب كلتا الصلاتين وهو خلف المفروض في العلم الإجمالي من العلم بوجوب صلاة واحدة فقط ؛ ولأنّ الرابع يعني ثبوت صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة وهذه لا وجود لها في الواقع.

فيتعيّن كون العلم الإجمالي غير متعلّق بالفرد المردّد لعدم ثبوت هذا الفرد لا في

ص: 192

الخارج ولا في الذهن ؛ لأنّ العلم صفة وهي تستلزم ثبوت الموصوف وتعيّنه ، سواء كان الصفة حقيقة كالعلم أو اعتباريّة كالوجوب.

الثالث : ما ذهب إليه المحقّق العراقي (1) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ، بمعنى أنّ الصورة الذهنيّة المقوّمة للعلم والمتعلّقة له بالذات لا تحكي عن مقدار الجامع من الخارج فقط ، بل تحكي عن الفرد الواقعي بحده الشخصي ، فالصورة شخصيّة ومطابقها شخصي ولكنّ الحكاية إجماليّة.

فهي من قبيل رؤيتك لشبح زيد من بعيد دون أن تتبيّن هويّته ، فإنّ الرؤية هنا ليست رؤية للجامع بل للفرد ، ولكنّها رؤية غامضة.

الاتّجاه الثالث : ما اختاره المحقّق العراقي من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع.

وتوضيحه : أنّ العلم كما تقدّم له متعلّق بالذات وهو الصورة الذهنيّة المنكشفة للنفس ، وله متعلّق بالعرض وهو المطابق الخارجي لهذه الصورة الذهنيّة.

والعلم يتعلّق بالصورة الذهنيّة للواقع أي صورة الواقع لا الواقع نفسه ، سواء كان العلم تفصيليّا أم إجماليّا ، بمعنى أنّ المعلوم بالذات هو الصورة الذهنيّة والمعلوم بالعرض هو الواقع الخارجي.

فكما أنّ العلم التفصيلي يتعلّق بصورة الواقع الحاكية عن الواقع ، كذلك العلم الإجمالي يتعلّق بصورة الواقع الحاكية عن الواقع ، غاية الأمر الفرق بينهما في كيفيّة هذه الصورة ، بمعنى أنّه في العلم التفصيلي تكون صورة الواقع واضحة وجليّة بينما في العلم الإجمالي تكون غامضة ومشوبة ، مع كونهما معا متعلّقين بصورة الواقع ، فلا فرق بينهما في المعلوم وإنّما الفرق في كيفيّة العلم فقط.

وعلى هذا نقول : إنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الواقع أي أنّ الصورة الذهنيّة للواقع هي المقوّمة للعلم الإجمالي ، وهي المتعلّق له أوّلا وبالذات ، وهذه الصورة لا تحكي عن الجامع ، وإنّما تحكي عن الفرد الواقعي بحدّه الشخصي المتعيّن به في الواقع والذي يتميّز به عن غيره من الأفراد.

فهما نظير المرآة الصافية التي ترى الصورة واضحة وجليّة ، والمرآة المشوبة التي ترى الصورة بشيء من الغموض.

ص: 193


1- مقالات الأصول 2 : 230.

وهذا من قبيل رؤية الشخص فإن كانت الرؤية من قرب فهي رؤية واضحة وجليّة كالعلم التفصيلي ، وإن كانت الرؤية من بعد فهي رؤية لشبح الشخص أي للشخص ولكن بغموض وتشويش ، إلا أنّه في الحالتين تكون الرؤية للشخص الموجود المتعيّن في الواقع بحدّه الشخصي ، وليست الرؤية للجامع كما هو واضح.

وبهذا ظهر أنّ الاختلاف بين العلمين التفصيلي والإجمالي في نفس الصورة الذهنيّة من حيث الوضوح والغموض ، وأمّا المحكي في الصورتين فهو شيء واحد وهو الواقع الخارجي.

ويمكن أن يبرهن على ذلك بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي لا يمكن أن يقف على الجامع بحدّه ؛ لأنّ العالم يقطع بأنّ الجامع لا يوجد بحدّه في الخارج ، وإنّما يوجد ضمن حدّ شخصي ، فلا بدّ من إضافة شيء إلى دائرة المعلوم ، فإن كان هذا الشيء جامعا كلّيّا عاد نفس الكلام حتّى ننتهي إلى العلم بحدّ شخصي.

ولمّا كان التردّد في الصورة مستحيلا كما تقدّم تعيّن أن يكون العلم متقوّما بصورة شخصيّة معيّنة مطابقة للفرد الواقعي بحدّه ، ولكنّ حكايتها عنه إجماليّة.

ثمّ إنّه يمكننا أن نذكر برهانا لهذا الاتّجاه وحاصله أن يقال : إنّه في موارد العلم الإجمالي كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، لا يمكن أن يكون متعلّق علمنا هو الجامع بحدّه الجامعي ، أي المفهوم الكلّي المنتزع من الأفراد بعد تجريدها عن الخصوصيّات وإلغاء المميّزات والمشخّصات ؛ وذلك لأنّ مثل هذا الجامع لا وجود له في الخارج بنحو مستقلّ كما هو واضح ؛ لأنّ الوجود مساوق للتشخّص وهو ملاك الفرديّة والجزئيّة.

وحينئذ لا بدّ أن يكون هناك شيء آخر منضمّا إلى هذا الجامع ليعقل تعلّق العلم الإجمالي به ، وهذه الخصوصيّة إمّا أن تكون كلّيّة وإمّا أن تكون شخصيّة.

فإن كانت كلّيّة عاد المحذور السابق ؛ لأنّ الكلّي لا يوجد في الخارج بحدّه الكلّي فلا بدّ من ضمّ شيء معه ، وهكذا لا بدّ أن ننتهي إلى كون تلك الخصوصيّة ليست كلّيّة بل شخصيّة.

وهذه الخصوصيّة الشخصيّة إمّا أن تكون مردّدة وإمّا أن تكون متعيّنة بحدّ شخصي.

ص: 194

فإن كانت مردّدة لزم المحذور المتقدّم سابقا على المسلك القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ، من أنّ واقع الفرد المردّد لا ثبوت له في الخارج ولا في الذهن ؛ لأنّ كلّ ما هو ثابت فهو متعيّن ومتشخّص بحدّه ، ولا حدّ للفرد المردّد زائدا عن الحديث الشخصيّين للظهر أو الجمعة ، ومن أنّ مفهوم الفرد المردّد عبارة عن الجامع فيعود الكلام السابق.

وبهذا يتعيّن أن تكون تلك الخصوصيّة التي تعلّق بها العلم والتي ينضمّ إليها الجامع هي خصوصيّة الفرد المعيّن المتشخّص بحدّه الذاتي والشخصي أي الفرد الواقعي.

غاية الأمر أنّ هذا الفرد الواقعي تعلّق به العلم بنحو غامض ومشوب أي صورته ليست واضحة وجليّة كما هو الحال في موارد العلم التفصيلي ، إلا أنّ هذا لا يمنع من تعلّق العلم به كذلك كنظائره المتقدّمة.

وينبغي التنبيه هنا على شيء وهو : أنّ المقصود من تعلّق العلم الإجمالي بالواقع هو الصورة الذهنيّة للفرد الواقعي والتي هي متعلّق العلم بالذات ، وليس المقصود من الواقع نفس الفرد الموجود في الخارج فإنّه متعلّق للعلم بالعرض.

* * *

ص: 195

ص: 196

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة

اشارة

ص: 197

ص: 198

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة

إذا اتّضحت لديك هذه المباني المختلفة فاعلم : أنّه قد ربط استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة إثباتا ونفيا بهذه المباني ، بدعوى : أنّه إذا قيل بالمبنى الأوّل مثلا فالعلم الإجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان المزعومة سوى الجامع ؛ لأنّه المعلوم فقط. والجامع بحدّه لا يقتضي الجمع بين الأطراف ، بل يكفي في موافقته تطبيقه على أحد أفراده.

وإذا قيل بالمبنى الثالث مثلا فالعلم الإجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع البراءة العقليّة ويكون منجّزا بالعلم ، وحيث إنّه محتمل في كلّ طرف فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة للخروج عن عهدة التكليف المنجّز.

بعد أن عرفنا الاتّجاهات المختلفة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي نأتي للكلام عن كون العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة أو لا؟

فقد قيل في الجواب عن هذا السؤال بأنّه مرتبط بتفسير العلم الإجمالي بدعوى أنّنا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد كما هو المسلك الأوّل ، فحيث إنّه يوجد علم تفصيلي بمقدار الجامع ، فيكون هذا المقدار خارجا عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ الجامع قد تمّ عليه البيان فيتنجّز ، ومعنى منجّزيّته وجوب امتثاله وحرمة مخالفته.

أمّا حرمة مخالفته فقد تقدّمت وأنّه لا يجوز ترك كلا الطرفين مثلا كما في مثال الظهر والجمعة.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة فحيث إنّ الجامع هو المعلوم بحدّه الجامعي فهذا يعني أنّ المطلوب هو إيجاد الجامع ، ومن الواضح أنّ الجامع يكفي في إيجاده إيجاد فرد واحد وذلك بالإتيان بإحدى الصلاتين فقط ؛ لأنّه بالإتيان بالظهر فقط أو بالجمعة

ص: 199

فقط سوف يتحقّق الإتيان بالجامع ، وأمّا الإتيان بكلتا الصلاتين فهذا لا يقتضيه نفس تنجّز الجامع ، بل يحتاج إلى دليل من خارج العلم الإجمالي.

وأمّا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع أي بالفرد الواقعي بحدّه الشخصي ، فهذا يعني أنّ المعلوم وهو الفرد قد خرج من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه صار معلوما وقد تمّ عليه البيان ، فتحرم مخالفته القطعيّة بترك كلتا الصلاتين.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة فلأنّ هذا الفرد قد اشتغلت به الذمّة يقينا ودخل في العهدة ، فإذا أتى المكلّف بإحدى الصلاتين فقط فيحتمل ألاّ يكون الفرد الواقعي منطبقا عليها فتبقى الذمّة مشغولة ، فلكي يتحقّق الفراغ اليقيني والخروج عن العهدة يقينا لا بدّ من الإتيان بكلتا الصلاتين من باب أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني عقلا ، وبهذا تجب الموافقة القطعيّة على هذا المبنى (1).

ولكنّ الصحيح هو : أنّ المبنى الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في المقام عن المبنى الأوّل ؛ لأنّ الصورة العلميّة الإجماليّة على الثالث وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه ولكنّ المفروض على هذا المبنى اندماج عنصري الوضوح والإجمال في تلك الصورة معا ، وبذلك تميّزت عن الصورة التفصيلية ، وما ينكشف ويتّضح للعالم إنّما هو المقدار الموازي لعنصر الوضوح في الصورة ، وهذا لا يزيد على الجامع.

ومن الواضح أنّ البراءة العقليّة إنّما يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح لا الإجمال ؛ لأنّ الإجمال ليس بيانا.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ المبنى الثالث لا يختلف من حيث النتيجة عن المبنى الأوّل فلا يتنجّز به أكثر من الجامع.

وتوضيح ذلك : أنّ المبنى الثالث كان يفترض أنّ العلم الإجمالي فيه جانبان :

ص: 200


1- وأمّا إذا قلنا بالمسلك الثاني من كون العلم الإجمالي متعلّقا بالفرد المردّد ، فهو على فرض إمكانه سوف يعود إلى المبنى الأوّل ؛ لأنّ الاحتمال المعقول له هو كونه متعلّقا بمفهوم الفرد المردّد والذي هو جامع انتزاعي. فعلى هذا التصوّر سوف لا يتنجّز إلا الجامع وهو إحدى الصلاتين فقط ، فيكفي الإتيان بصلاة واحدة ؛ لأنّه يصدّق عليها هذا العنوان.

أحدهما : أنّه علم بالجامع ، والآخر : أنّه علم بالواقع بنحو الحكاية الإجماليّة.

فبناء عليه تكون الصورة العلميّة التي تعلّق بها العلم الإجمالي مركّبة من جزءين : أحدهما واضح وجلي وهو الجامع ، والآخر غامض ومشوب وهو الفرد الواقعي ، فيكون عنصر الوضوح مندمجا مع عنصر الغموض ولذلك تكون الصورة العلميّة إجماليّة ، بخلاف العلم التفصيلي فإنّ الصورة العلميّة فيه واضحة تماما فهي صورة جليّة وتفصيليّة تماما.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الصورة الإجماليّة وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه الشخصي إلا أنّها مطابقة غير واضحة بل غامضة في جانب ، وواضحة وجليّة في جانب آخر ، والمقدار الذي يتنجّز هنا هو المقدار المطابق لجانب الوضوح ؛ لأنّه بهذا المقدار يكون قد تمّ البيان والكشف ، دون المقدار المطابق لجانب الخفاء والغموض ؛ لأنّه يكون عندئذ مظلما غير بيّن ولا منكشف.

والدليل على ذلك : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تخرج من دائرتها إلا المقدار الذي تمّ عليه البيان والعلم ، أي المقدار المنكشف والواضح دون المقدار الغامض والمبهم والمشوب ، فإنّه لا انكشاف ولا إرادة بلحاظه.

والمقدار الواضح والمبيّن هنا هو الجامع فقط دون الفرد ؛ لأنّه لا بيان ولا وضوح في تعلّق العلم بالفرد بحدّه الشخصي وإلا لصار العلم تفصيليّا.

وبتعبير آخر : أنّه يوجد في الصورة العمليّة المعلومة بالعلم الإجمالي جانبان :

أحدهما مبيّن وهو الجامع ، والآخر مجمل وهو الفرد ، أمّا الجانب المبيّن فيخرج عن دائرة القاعدة ؛ لأنّه قد تمّ عليه البيان ، وأمّا الجانب المجمل فيبقى داخلا في القاعدة ؛ لأنّه لم يتمّ عليه البيان وإلا لكان هناك علم تفصيلي بالفرد الواقعي وهو خلف.

فتحصّل أنّ المقدار المنجّز هو الجامع ؛ لأنّه المطابق لجانب الوضوح والبيان ، فلا يجب إلا تحقيق الجامع وهذا يتمّ بالإتيان بأحد الفردين ، فهو كالمبنى الأوّل في النتيجة العمليّة.

وعليه ، فالمنجّز مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني المتقدّمة ، وعليه فالعلم الإجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة.

وبهذا ظهر أنّه على جميع المسالك في تفسير حقيقة العلم الإجمالي يكون المنجّز مقدار الجامع فقط ، والجامع يتحقّق بالإتيان بفرد من أفراده.

ص: 201

وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته لا يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة ، سواء كان علما بالجامع أو بالواقع أو بالفرد المردّد ، وإنّما لم يذكر الفرد المردّد هنا فلأنّه غير معقول في نفسه إلا أن يرجع إلى الجامع الانتزاعي فيكون كالمبنى الأوّل.

هذا تمام الكلام في كون العلم الإجمالي منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة دون الموافقة القطعيّة في نفسه وبقطع النظر عن الأصول الترخيصيّة.

إلا أنّه يمكن أن يقال بأنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة لا لنفسه وإنّما لدليل من الخارج ؛ ولذلك قال :

ويوجد تقريبان لإثبات أنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة :

الأوّل : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الأصفهاني (1) ، وحاصله مركّب من مقدّمتين :

الأولى : أنّ ترك الموافقة القطعيّة بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتماليّة للجامع ؛ لأنّ الجامع إن كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف وإلا فلا.

والثانية : أنّ المخالفة الاحتماليّة للتكليف المنجّز غير جائزة عقلا ؛ لأنّها مساوقة لاحتمال المعصية ، وحيث إنّ الجامع منجّز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتماليّة.

التقريب الأوّل : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الأصفهاني ، بمعنى أنّه لم يصرّح بذلك وإنّما ظاهر بعض عباراته تدلّ على ذلك ، وهذا التقريب مركّب من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : إذا قلنا : إنّ الموافقة القطعيّة غير واجبة فمعناه أنّه يجوز الإتيان بأحد الفردين دون الآخر ، وحينئذ يمكن أن يكون الجامع قد امتثل ضمن الفرد الذي أتى به بأن كان الوجوب متعلّقا به في الواقع فتتحقّق الموافقة ، إلا أنّه يمكن أيضا أن يكون الطرف الآخر هو الواجب واقعا فلا يكون الجامع قد امتثل.

وهذا يعني أنّ ترك الموافقة القطعيّة لازمه المخالفة الاحتماليّة للتكليف المعلوم أي الجامع.

المقدّمة الثانية : أنّ المخالفة الاحتماليّة للتكليف المعلوم أي الجامع غير جائزة ؛ وذلك

ص: 202


1- راجع : نهاية الدراية 3 : 91 - 95.

لأنّ مخالفة التكليف المعلوم ولو احتمالا تساوق احتمال الوقوع في المعصية ، وهي قبيحة عقلا.

والنتيجة : هي أنّ الجامع ما دام قد تنجّز وقد علم اشتغال الذمّة به ، وما دامت المخالفة الاحتماليّة تساوق الوقوع في المعصية القبيحة عقلا ، فاللازم الإتيان بكلا الفردين لكي يتحقّق إبراء الذمّة يقينا ممّا اشتغلت به ، ولكي لا يقع في المعصية القبيحة عقلا ، فيكون العلم الإجمالي منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة حينئذ.

ويندفع هذا التقريب بمنع المقدّمة الأولى ، فإنّ الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة احتماليّة له ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين ، والمفروض أنّ العلم واقف على الجامع بحدّه ، وأن التنجّز تابع لمقدار العلم ، فلا مخالفة احتماليّة للمقدار المنجّز أصلا.

ويرد على هذا التقريب : أنّ المقدّمة الأولى غير تامّة ، بمعنى أنّه لا يوجد مخالفة احتماليّة للجامع فيما إذا امتثل أحد الفردين وترك الآخر.

وتوضيح ذلك : أنّ المقدار المنجّز هنا المفروض أنّه الجامع ، وحينئذ يطرح السؤال التالي وهو أن الجامع المنجّز ما المراد به؟

فإن كان المقصود به الجامع الموجود ضمن الفرد فهذا معناه أنّ المنجّز هو الفرد لا الجامع ، وهو مسلك المحقّق العراقي كما تقدّم ، وهذا لا يقول به المحقّق الأصفهاني.

وإن كان المقصود به الجامع بحدّه الجامعي - كما هو مقصود المحقّق الأصفهاني - على أساس المبنى الأوّل ، فحينئذ نقول : إنّ الجامع بحدّه الجامعي من دون نظر إلى الفرد مطلقا لا الفرد الواقعي ولا الفرد المردّد ، إذا تنجّز فهو لا يقتضي أكثر من الإتيان بالجامع ، وامتثال الجامع لا يكون إلا بامتثال أحد أفراده ؛ لأنّه يتحقّق في الخارج ضمن الفرد.

وعليه فإذا امتثل أحد الفردين وترك الآخر يكون قد حقّق موافقة الجامع قطعا لا احتمالا ؛ لأنّ الجامع صار موجودا وممتثلا ضمن الفرد الذي أتى به ، فلا يكون تركه للفرد الآخر مخالفة أصلا ولو احتمالا.

ص: 203

والوجه في ذلك : أنّ التنجّز يتحدّد بالمقدار الذي تمّ عليه العلم والبيان كما تقدّم ، وهو هنا الجامع بحدّه الجامعي فقط ، فيكون الواجب على المكلّف موافقة هذا الجامع فقط ، وهذا يتحقّق بامتثال فرد من أفراده ، وبالتالي تحصل الموافقة القطعيّة بالإتيان بفرد واحد ، ولا تحصل المخالفة أصلا ولو الاحتماليّة.

وبكلمة أخرى : أنّ الإتيان بفرد وترك الفرد الآخر يحتمل أن يكون فيه موافقة للواقع ويحتمل أن يكون فيه مخالفة للواقع ، إلا أنّ المفروض هنا أنّ الواقع ليس هو المنجّز ؛ لأنّ المحقّق الأصفهاني لا يقول بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد لا الواقعي ولا المردّد وإنّما يقول بتعلّقه بالجامع فقط ، والجامع كما قلنا يتحقّق وجوده وامتثاله في الخارج بالإتيان بفرد من أفراده ، والمفروض أنّه قد أتى به فلا مخالفة أصلا.

ففرق بين مخالفة الواقع وبين مخالفة الجامع ، فإنّ مخالفة الواقع القطعيّة تكون بترك الطرفين والاحتماليّة تكون بترك فرد والإتيان بفرد.

وأمّا مخالفة الجامع فهي لا تكون إلا بعدم الإتيان بالفردين فقط ، وأمّا الإتيان بفرد وترك الآخر أو الإتيان بالفردين معا فهذه تعتبر موافقة قطعيّة للجامع ؛ لأنّه يتحقّق ضمن الفرد الأوّل في الخارج ولا حاجة للفرد الثاني سواء وجد أم لا.

الثاني : ما ذهبت إليه مدرسة المحقّق النائيني (1) ( قدس اللّه روحه ) ، فإنّها مع اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة بصورة مباشرة ؛ لأنّه لا ينجّز أزيد من الجامع ، قامت بمحاولة لإثبات استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :

التقريب الثاني : ما أفادته مدرسة الميرزا ، فهي بعد اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه إنّما ينجّز مقدار الجامع فقط ، والجامع يكفي في إيجاده وتحقّقه أي فرد من أفراده ، إلا أنّها مع ذلك قامت بالاستدلال على وجوب الموافقة القطعيّة لأطراف العلم الإجمالي بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة تقع في نقاط أربع :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة.

ص: 204


1- راجع : أجود التقريرات 2 : 242 - 243.

ثانيا : يترتّب على ذلك عدم إمكان جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف ؛ لأنّه يستوجب الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ثالثا : يترتّب على ذلك أنّ الأصول المذكورة تتعارض فلا تجري في أي طرف ؛ لأنّ جريانها في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، وجريانها في الكلّ غير ممكن.

رابعا : ينتج من كلّ ذلك أنّ احتمال التكليف في كلّ طرف يبقى بدون أصل مؤمّن ، وكلّ احتمال للتكليف بدون مؤمّن يكون منجّزا للتكليف ، فتجب عقلا موافقة التكليف المحتمل في كلّ طرف باعتبار تنجّزه ، لا باعتبار وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي بعنوانها.

حاصل التقريب أن يقال :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة كما تقدّم سابقا ؛ لأنّه ينجّز مقدار الجامع فصار الجامع داخلا في الذمّة والعهدة ، فيحكم العقل بقبح معصيته ، ومعصية الجامع تتحقّق ضمن ترك كلّ الأطراف ؛ لأنّه إذا ترك كلّ الأطراف فسوف يترك الجامع المنجّز عليه قطعا فيكون عاصيا فيستحق العقاب ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وثانيا : أنّنا إذا قلنا بحرمة ترك كلّ الأطراف فلازمه أنّ الأصول الترخيصيّة لا يمكن جريانها في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة وارتكاب المعصية قطعا ، وهذا قبيح بحكم العقل. فلا تجري الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف ؛ لأنّها تؤدّي إلى الترخيص في المعصية القبيحة عقلا.

وثالثا : أنّنا اذا قلنا بعدم إمكان جريان الأصول في تمام الأطراف فلازم ذلك أن تتعارض الأصول فيما بينها ، وبالتالي تساقطها ؛ وذلك لأنّ كلّ طرف في نفسه مشمول للأصل المؤمّن ، باعتباره مشكوكا ، وحيث إنّ الأصول لا يمكن جريانها في تمام الأطراف ؛ لأنّها تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وحيث إنّ جريانها في بعض الأطراف دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيلزم من ذلك القول بتعارضها ، ومقتضى التعارض التساقط ؛ لأنّه الأصل الأوّلي عند التعارض كما سيأتي في محلّه.

ورابعا : والنتيجة على ضوء ما ذكرنا هي : أنّ كلّ طرف من أطراف العلم

ص: 205

الإجمالي لا مؤمّن عليه فعلا ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة قد سقطت عن الحجّيّة فعلا بلحاظ هذه الأطراف.

وفي هذه الحالة يحكم العقل بالتنجيز على أساس وجوب دفع العقاب والضرر المحتمل عن النفس ، فإنّنا في كلّ طرف نحتمل التكليف ولا يوجد مؤمّن لنا بلحاظه فنحن نحتمل الضرر والعقاب إذا تركناه ، واحتمال الضرر والعقاب ينجّز التكليف المحتمل ؛ لأنّ العقل يستقلّ بذلك.

والنتيجة العمليّة هي : أنّ كلّ طرف يكون منجّزا بمنجّز عقلي فتجب موافقته وتحرم مخالفته ، وهذه هي الموافقة القطعيّة إلا أنّها ليست ناشئة من نفس العلم الإجمالي ، وإنّما هي ناشئة من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

والتحقيق : أنّ المقصود بتعارض الأصول المؤمّنة في الفقرة الثالثة إن كان تعارض الأصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، على أساس أنّ جريانها في كلّ من الطرفين غير ممكن وفي أحدهما خاصّة ترجيح بلا مرجّح ، فهذا غير صحيح ؛ لأنّ هذه القاعدة نجريها ابتداء فيما زاد على الجامع.

والتحقيق أن يقال : ما هو المقصود من تعارض الأصول؟

والجواب على ذلك فيه احتمالان :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المقصود أنّ الأصول العقليّة الترخيصيّة الشاملة للبراءة العقليّة تتعارض فيما بينها بلحاظ جريانها في تمام الأطراف ، فهذا غير صحيح ؛ وذلك لأنّنا نجري البراءة العقليّة ابتداء ومباشرة في تمام الأطراف بوصفها مشكوكة ؛ لأنّ هذا المقدار زائد عن الجامع المعلوم والذي تمّ عليه البيان.

فكلّ طرف من الأطراف تجري فيه البراءة ؛ لأنّه مشكوك ، أي هذا الطرف في نفسه وبقطع النظر عن الجامع المعلوم يكون موردا للبراءة ؛ لأنّ موضوعها متحقّق بلحاظه ، وأمّا الجامع فبما أنّه معلوم وقد تمّ البيان عليه فلا تجري فيه البراءة لخروجه عن دائرتها.

فإذا نظرنا إلى كلّ طرف طرف كانت البراءة جارية فيه ولا تعارض بين الأطراف في ذلك ، وأمّا مقدار الجامع فلا تجري فيه البراءة أصلا ، ولتوضيح المطلب أكثر نقول :

وبعبارة أخرى : أنّنا عند ما نعلم إجمالا بوجوب الظهر أو وجوب الجمعة ، يكون

ص: 206

كلّ من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص موردا للبراءة العقليّة ، وبما هو وجوب مضاف إلى الجامع خارجا عن مورد البراءة فيتنجّز الوجوب بمقدار إضافته إلى الجامع ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي تمّ عليه البيان ، ويؤمّن عنه بما هو مضاف إلى الفرد.

وبعبارة أخرى أوضح : أنّنا في المثال المذكور أي العلم بوجوب صلاة الظهر أو وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ، يكون لدينا خصوصيّتان بلحاظ كلّ طرف على هذا النحو.

فوجوب صلاة الجمعة تارة ينظر إليه في نفسه فهو وجوب مشكوك ، وأخرى ينظر إليه بما هو مضاف إلى الجامع أي بما هو فرد للجامع الذي تنجّز ، وهكذا الحال بالنسبة لصلاة الظهر توجد فيها هاتان الخصوصيّتان.

وحينئذ نقول : إنّ كلّ واحد من الوجوبين بحده الشخصي وبما هو في نفسه إذا نظرنا إليه كذلك فلا يخرج عن كونه وجوبا مشكوكا بهذه الخصوصيّة ، إذ لا علم لنا بوجوب الظهر بحدّه وخصوصيّاته ولا بوجوب الجمعة كذلك ، وهنا تجري البراءة العقليّة للتأمين عن كلّ فرد من الفردين بلحاظ نفسه ؛ لأنّه مشكوك والبراءة موردها الشكّ وعدم البيان.

وأمّا إذا نظرنا إلى كلّ واحد من الوجوبين بما هو فرد من أفراد الجامع المنجّز فهنا لا تجري البراءة عن كلّ واحد من الوجوبين ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يمكن أن يكون هو المحكي عنه بالجامع فيكون منجّزا ، فإذا جرت البراءة في كلّ منهما كان لازم ذلك ترك امتثال الجامع ؛ لأنّه إنّما يمتثل في الخارج ضمن أحد الوجوبين ، فيكون تركهما معا تركا لمقدار الجامع أي ( وجوب صلاة ما ).

والحاصل : أنّنا نجري البراءة في الخصوصيّة المشكوكة لا في الخصوصيّة المعلومة ، وهنا كل فرد بلحاظ نفسه فهو مشكوك فيكون مجرى للبراءة ، وبلحاظ إضافته للجامع فهو معلوم ؛ لأنّ وجوب الظهر يعتبر مصداقا لوجوب صلاة ما وكذا وجوب الجمعة ، أي كلّ وجوب بعنوانه الخاصّ ( الظهر والجمعة ) مشكوك ولكن بعنوانه العامّ الجامعي ( صلاة ما ) فهو معلوم وليس مشكوكا ، فتجري البراءة عن الفرد بلحاظه الأوّل دون لحاظه الثاني ، وهذا نتيجته التبعيض في جريان البراءة حتّى بلحاظ الفرد

ص: 207

الواحد إذا كان مشتملا على خصوصيّتين إحداهما مشكوكة والأخرى معلومة ، ولذلك نقول :

وهذا التبعيض في تطبيق البراءة العقليّة معقول وصحيح ، بينما لا يطّرد في البراءة الشرعيّة ؛ لأنّها مفاد دليل لفظيّ وتابعة لمقدار ظهوره العرفي ، وظهوره العرفي لا يساعد على ذلك.

فإن قيل : إنّ لازم هذا القول التبعيض في جريان البراءة حتّى بلحاظ الفرد الواحد ، وهو غير معقول في نفسه.

كان الجواب : أنّ التبعيض في البراءة العقليّة معقول وصحيح ؛ وذلك لأنّ موضوعها مبني على الدقّة العقليّة لا على المسامحة العرفيّة ، بمعنى أنّ العقل إذا أدرك البيان في شيء فإنّه يحكم باستحقاق العقاب على مخالفته ؛ لأنّه يكون منجّزا ، وإذا أدرك أنّه لا بيان في هذا المورد فيحكم بالبراءة والتأمين.

فحكم العقل تابع لإدراك الموضوع وهو ناشئ من ثبوت حقّ الطاعة وعدم ثبوته المترتّب على وجود البيان وعدمه.

ولذلك تكون الموضوعات بالنسبة للأحكام العقليّة بمثابة العلل ، وحيث إنّه في هذا الفرد يوجد خصوصيّتان إحداهما مشكوكة إذا نظرنا إليه بنفسه والأخرى معلومة إذا نظرنا إليه بما هو فرد للجامع المعلوم والمنجّز ، فلا محالة يستتبع ذلك حكم العقل بالبراءة بلحاظ الجهة المشكوكة ، وبالتنجيز أو عدم التأمين بلحاظ الجهة المعلومة.

فالتبعيض هو المتعيّن والصحيح.

وأمّا البراءة الشرعيّة فلا يعقل فيها التبعيض هنا ، بل هي إمّا أن تجري بلحاظ كلتا الخصوصيّتين وإمّا أن لا تجري كذلك ، والوجه هو أنّ البراءة الشرعيّة مجعولة بدليل شرعي لفظي كالآيات والروايات فيكون مفادها ودائرتها محدّدة بحدود ما لهذا الدليل من ظهور عرفي ، وعليه فلا بدّ أن نعرف ما هو هذا الظهور العرفي؟ وهل هو مبني على الدقّة في ملاحظة الخصوصيّات أو على المسامحة؟

والجواب : أنّ الظهور العرفي مبني على المسامحة وعدم الدقّة والتحليل ، بمعنى أنّ العرف إذا نظر إلى الفرد في مثالنا إمّا أن يحكم بجريان البراءة والتأمين وإمّا ألاّ يحكم بذلك ، من دون التفصيل بين كون هذا الفرد فيه خصوصيّتان إحداهما مشكوكة

ص: 208

والأخرى معلومة ؛ لأنّ هذا التفصيل مبني على الدقّة العقليّة البالغة والتي يتغافل عنها العرف ولا يدركها.

والحاصل : أنّ العرف عند ما ينظر إلى الفرد بما هو كذلك من دون نظر إلى خصوصيّاته ، إمّا أن يحكم بأنّه مورد للبراءة أو مورد للتنجيز ولا يفصّل بين الأمرين.

وإن كان المقصود التعارض بين الأصول المؤمّنة الشرعيّة خاصّة فهو صحيح ، ولكن كيف يرتّب على ذلك تنجّز التكليف بالاحتمال مع أنّ الاحتمال مؤمّن عنه بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من تعارض الأصول تعارض الأصول الترخيصيّة الشرعيّة فقط ، كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الحلّ أو أصالة الطهارة أو الاستصحاب النافي للتكليف.

وهذا صحيح لما ذكرناه من أنّ هذه الأصول الشرعيّة تابعة لمقدار الظهور العرفي من دليلها ، والظهور العرفي لا ينظر إلى الطرف بما هو مركّب من خصوصيّتين إحداهما معلومة والأخرى مشكوكة ، وإنّما ينظر إلى الطرف بما هو طرف ، وحينئذ تجري الأصول الترخيصيّة الشرعيّة بلحاظ كلّ طرف وتتعارض ، ومقتضى التعارض التساقط.

إلا أنّه بعد التساقط لا ينتهي الأمر إلى التنجيز العقلي كما هو المدّعى في هذا التقريب ، وإنّما تجري هنا البراءة العقليّة ؛ لأنّ هذا التقريب مبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعندئذ يجري الكلام المتقدّم من التبعيض.

وصفوة القول : أنّه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في البراءة العقليّة ، بل لا معنى لذلك ؛ إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليّين ، فإن كان ملاك حكم العقل وهو عدم البيان تامّا في كلّ من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلا لم تجر البراءة ؛ لعدم المقتضي لا للتعارض.

وصفوة القول : أنّه يمكننا القول كاعتراض على المقدّمة الثالثة بأنّ الأصول الترخيصيّة المتعارضة إن كان المقصود بها الأصول الترخيصيّة العقليّة بما فيها البراءة العقليّة أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن تصوّر التعارض ؛ وذلك لأنّ الأحكام العقليّة معلولة لموضوعاتها ، فإن أدرك العقل ثبوت الموضوع حكم بالبراءة والترخيص.

ص: 209

وإن لم يدرك الموضوع لم يحكم بالبراءة أصلا.

وهنا موضوع البراءة - وهو عدم البيان - والذي هو الملاك للحكم العقلي بالبراءة إن كان تامّا وثابتا في كلّ الأطراف فسوف يحكم العقل بالبراءة في كلّ الأطراف ، من دون تعارض أو تصادم.

وإن لم يكن الموضوع تامّا وثابتا فالعقل لن يحكم بالبراءة أصلا ، لا أنّه يحكم بها ولكنّها تسقط بسبب المعارضة ، أي أنّ سقوطها حينئذ يكون من باب عدم المقتضي لثبوتها لا من باب وجود المانع بعد الفراغ عن وجود المقتضي.

وفي مقامنا حيث إنّ كلّ طرف فيه خصوصيّتان : إحداهما مشكوكة وهي وجوب كلّ واحد من الفردين بخصوصيّاته وحدوده ، والأخرى معلومة وهي كونه فردا للجامع أي مصداقا لوجوب صلاة ما ، وحينئذ تجري البراءة للتأمين عن كلّ فرد بخصوصيّته ؛ لأنّها مشكوكة ولكنّها لا تجري للتأمين أيضا عن كلّ فرد بما هو منسوب ومضاف ومصداق للجامع ؛ لأنّه بهذا اللحاظ يكون معلوما.

والنتيجة النهائيّة هي : أنّ المنجّزيّة ثابتة للجامع بمعنى أنّه لا يجوز تركه بترك كلا الفردين ، والتأمين ثابت بلحاظ كلّ فرد بخصوصيّته ، فيجوز ترك كلّ الأفراد بلحاظ خصوصيّاتها ، ولكن لا يجوز تركها جميعا بلحاظ الجامع ، فيكون الجامع المنجّز مانعا من ترك الجميع فعلا بعد أن كان المقتضي للترك فيها جميعا ثابتا.

وبتعبير آخر : يجوز الترك بلحاظ كلّ فرد فرد إلا أنّه لا يجوز الجمع بين هذه التروك ، أما الأوّل فلجريان البراءة ؛ لأنّ كلّ فرد مشكوك ، وأمّا الثاني فلأنّ منجّزيّة الجامع تقتضي حرمة ترك الجميع ، فينتج أنّه يجوز ترك البعض ويجوز فعل البعض ، لا أنّه يجب فعل الجميع كما هو المدّعى في هذا التقريب.

وهكذا يتّضح أنّه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ، وهذا بنفسه من المنبّهات إلى بطلان القاعدة المذكورة.

وهكذا يتّضح لنا أنّه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكنا تخريج وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ، لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، بخلافه على مسلك حقّ الطاعة فإنّ الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي واجبة ؛ لأنّه بعد تعارض

ص: 210

الأصول الترخيصيّة الشرعيّة وتساقطها يحكم العقل بالتنجيز ؛ لأنّ كلّ طرف في نفسه مشكوك ومحتمل التكليف ، واحتمال التكليف بنفسه منجّز ما لم يصدر الترخيص ، والمفروض أنّ الترخيص لم يثبت بسبب التعارض والتساقط.

ويمكننا أن نجعل هذا المورد من الشواهد والقرائن المنبّهة على بطلان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يوجد اتّفاق عرفي ومتشرّعي على أنّه في موارد العلم الإجمالي تجب الموافقة القطعيّة.

نعم ، إذا نشأ العلم الإجمالي من شبهة موضوعيّة تردّد فيها مصداق قيد من القيود المأخوذة في الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعيّة حتّى على المسلك المذكور ، كما إذا وجب إكرام العالم وتردّد العالم بين زيد وخالد ، فإنّ كون الإكرام إكراما للعالم قيد للواجب فيكون تحت الأمر وداخلا في العهدة ، ويشكّ في تحقّقه خارجا بالاقتصار على إكرام أحد الفردين ، ومقتضى قاعدة أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وجوب الاحتياط حينئذ.

هذا كلّه فيما يتعلّق بالأمر الأوّل.

يبقى مطلب : وهو أنّ وجوب الموافقة القطعيّة لا يمكن تخريجها على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إلا أنّ هذا لا يشمل جميع الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، بل يختصّ في الشبهات الحكميّة وبعض الشبهات الموضوعيّة ؛ إذ يوجد بعض الشبهات الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي تجب فيها الموافقة القطعيّة حتّى على مسلك المشهور ، وذلك فيما إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعيّة دائرا بين فردين أو أكثر وكان الحكم المعلوم بالإجمال مقيّدا بقيد قد اشتغلت به الذمّة يقينا ، بحيث يكون الشكّ في كون أحد الفردين هو المحقّق لمصداق هذا القيد خارجا.

ومثاله : ما إذا علمنا بوجوب إكرام العالم فهنا الحكم المعلوم هو وجوب الإكرام المقيّد بقيد ، وهذا القيد هو كون الإنسان الذي يجب إكرامه عالما ، فإذا شككنا في مصداق هذا القيد بين فردين في الخارج فهل زيد هو العالم ليجب إكرامه ويكون إكرامه محقّقا للأمر ومفرّغا للذمّة بما اشتغلت به أو هو خالد؟

فهنا يجب الموافقة القطعيّة بإكرام كلا الفردين ؛ وذلك لأنّ الخصوصيّة وهي ( كون الإنسان عالما ) قد اشتغلت بها الذمّة يقينا ، فلكي يتحقّق الفراغ اليقيني لا بدّ من

ص: 211

إكرامهما معا ؛ لأنّه إذا اقتصر على إكرام أحدهما فلا يعلم بأنّه قد حقّق الوجوب المقيّد بقيد العالم ، إذ لعلّه موجود في الفرد الآخر.

وبهذا يتّضح أنّه إذا شكّ في الشبهات الموضوعيّة تجب الموافقة من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فيجب الاحتياط بامتثال كلا الفردين ، والميزان لذلك أنّ الذمّة قد اشتغلت بالحكم المقيّد بحيث إنّ القيد صار تحت الأمر ودخيلا في العهدة.

وأمّا إذا لم يكن الحكم مقيّدا بقيد ولم يكن القيد دخيلا في العهدة فلا يجب الاحتياط والموافقة القطعيّة.

وهذا مثاله واضح في الشبهات الحكميّة بشكل عامّ ، كما إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة ؛ لأنّ قيد الجمعة أو الظهر ليس دخيلا في العهدة وليس تحت الأمر ، وإنّما الداخل في العهدة هو الحكم المطلوب أي وجوب الصلاة ، وهذا يتحقّق بامتثال أحد الفردين.

وهكذا الحال في الشبهات الموضوعيّة التي لم يقيّد فيها الحكم بقيد ، كما إذا دار الأمر بين وجوب التصدّق عند مجيء زيد أو وجوب الإكرام عند مجيء خالد ، وعلمنا إجمالا بمجيء أحدهما ، فهنا لا تجب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا يعلم الحكم بخصوصيّته وإنّما الذي يعلم هو ( وجوب ما ) أي أحد الوجوبين ، وهذا العنوان يتحقّق بامتثال أحدهما في الخارج ؛ لأنّه يكون مصداقا لوجوب ما أو لأحدهما ، وليس ذلك إلا لأنّه لا يعلم بالخصوصيّة الواجبة هل هي الإكرام أو هي التصدّق؟

وبهذا ينتهي الكلام حول الأمر الأوّل أي حول منجّزيّة العلم الإجمالي بنفسه وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعيّة.

* * *

ص: 212

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه

ص: 213

ص: 214

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثاني وهو جريان الأصول الشرعيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي ، فقد تقدّم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الإثبات معا في مباحث القطع (1) ، واتّضح أنّ المشهور بين الأصوليّين استحالة جريان الأصول في جميع الأطراف ؛ لأدائه إلى الترخيص في المعصية للمقدار المعلوم أي في المخالفة القطعيّة ، وأنّ الصحيح هو إمكان جريانها في جميع الأطراف عقلا غير أنّ ذلك ليس عقلائيّا.

ومن هنا كان الارتكاز العقلائي موجبا لانصراف أدلّة الأصول عن الشمول لجميع الأطراف.

وينبغي أن يعلم أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الأصول الشرعيّة المؤمّنة.

وأمّا الأمر الثاني : فهو البحث حول جريان الأصول الشرعيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي وعدم جريانها.

وهذا البحث تارة يقع في مرحلة الثبوت أي الإمكان في مقابل الامتناع والاستحالة ، وأخرى يبحث فيه في مرحلة الإثبات أي بعد التسليم بأنّه ممكن عقلا فهل هو واقع في الخارج أم لا؟

والكلام عن ذلك تقدّم سابقا عند الحديث عن منجّزيّة القطع الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، وهناك قلنا : إنّه يوجد قولان في المسألة :

القول الأوّل : ما هو المشهور من أنّه يستحيل عقلا وثبوتا جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ، ووجهه هو أنّ الترخيص لتمام الأطراف يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو الجامع الذي تمّ عليه البيان

ص: 215


1- في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

والعلم والذي صار منجّزا على المكلّف وداخلا في العهدة ، فتكون مخالفته القطعيّة قبيحة عقلا ويستحقّ عليها العقاب ؛ لأنّه قد خالف ما تمّ عليه البيان ، مضافا إلى التضادّ بين الترخيص والتنجيز.

وحينئذ لا داعي للبحث الإثباتي ما دام العقل يحكم باستحالة جريانها كذلك.

والقول الثاني : ما هو الصحيح من أنّه لا مانع عقلا في جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ حكم العقل بقبح المخالفة وكونها معصية إنّما هو لأجل الحفاظ على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، وهذا الحقّ كما تقدّم في محلّه ثابت له في كلّ مورد وانكشاف ما لم يأذن هو نفسه بالترخيص ؛ لوضوح أنّه إذا أذن بالترخيص فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله وقبح معصيته ؛ لأنّ إذنه كذلك يعتبر إسقاطا لحقّه في هذا الصدد.

وتقدّم أنّ الشارع يمكنه الترخيص في موارد الانكشاف غير القطعي أي كلّ ما ليس قطعا ، وقلنا : إنّ القطع الإجمالي يمكن الترخيص فيه ؛ لأنّه ليس علما تفصيليّا ، أي أنّ العالم بالإجمال يحتمل ألاّ يكون معلومه في هذا الطرف بخصوصه أو في ذاك بخصوصه ، ولذلك يعقل في حقّه الترخيص من أجل الحفاظ على ملاكات الإباحة الاقتضائيّة في مقابل الإلزام والاحتياط من أجل الحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة الاقتضائيّة.

فلا مانع منه ثبوتا وعقلا إلا أنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ؛ لأنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص تكون بدرجة من الأهمّيّة تفوق أو تساوي ملاكات الإلزام ، بل هي دائما أقلّ أهمّيّة منها ، وهذا معناه أنّهم لا يتعقّلون الترخيص في تمام الأطراف ؛ لأنّ ملاكاته بنظرهم ليست هي الأهمّ ، بل إمّا مساوية على أحسن تقدير ، وإمّا أقلّ أهمّيّة عادة وغالبا.

ومن هنا كان الارتكاز العقلائي والذي يعتبر قرينة لبّيّة متّصلة بخطابات الترخيص مقيّدا متّصلا لإطلاق هذه الأدلّة ، وصارفا لظهورها إلى غير موارد العلم الإجمالي أيضا.

هذا كلّه تقدّم في الجزء السابق ، إلا أنّ هذا كان بالنسبة للأصول الشرعيّة الترخيصيّة والمؤمّنة فقط.

ص: 216

وأمّا الأصول الشرعيّة المنجّزة للتكليف فلا محذور ثبوتا ولا إثباتا في جريانها في كلّ أطراف العلم الإجمالي بالتكليف إذا كان كلّ طرف موردا لها في نفسه ، حتّى ولو كان المكلّف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليف واحد ، كما إذا علم بوجود نجس واحد فقط في الإناءات المعلومة نجاستها سابقا فيجري استصحاب النجاسة في كلّ واحد منها.

وأمّا الأصول الشرعيّة المنجّزة : فلا إشكال في جريانها في أطراف العلم الإجمالي بتمامها ، ولا محذور في ذلك لا في عالم الثبوت ولا في عالم الإثبات.

أمّا المحذور الثبوتي فكان إشكال التضادّ بين الإلزام الواقعي والترخيص الظاهري ، وهنا لا يوجد ترخيص ظاهري ، بل إلزام ظاهري فلم يجتمع الضدّان ، وكان أيضا إشكال الترخيص في المخالفة القطعيّة القبيحة عقلا ، وهنا نريد إثبات الموافقة القطعيّة بتنجّز كلّ الأطراف وهي حسنة عقلا وليست قبيحة.

وأمّا المحذور الإثباتي فكان الارتكاز العقلائي القاضي بأنّ الأغراض الترخيصيّة ليست أهمّ من الأغراض الإلزاميّة ، فكيف تقدّم على الإلزام؟

وهنا نريد إثبات أهمّيّة الأغراض الإلزاميّة بإجراء الأصول التنجيزيّة في تمام الأطراف فهو موافق للارتكاز العقلائي.

وحينئذ نقول : إذا دار الأمر بين نجاسة هذا الإناء أو ذاك بالنجاسة البوليّة ، ونفرض أنّهما كانا معا سابقا نجسين بالدم مثلا وشككنا في بقائهما على نجاستهما السابقة ، فيمكننا هنا إجراء استصحاب بقاء النجاسة السابقة في كلّ واحد من الطرفين ؛ لأنّه في نفسه مشمول لمورد الأصل ؛ لأنّ أركان الاستصحاب تامّة في كلّ منهما والنتيجة هي تنجّز كلا الطرفين.

ولا منافاة بين تنجّز جميع الأطراف بالأصول الشرعيّة المنجّزة وبين العلم بوجود نجاسة واحدة فقط ضمن دائرة الأطراف جميعا ، إذ قد يتوهّم أنّه ما دام لنا علم بنجاسة واحدة فقط فتنجيز تمام الأطراف بالأصول المنجّزة يتنافى مع العلم بطهارة ما عدا الواحد المعلوم نجاسته إجمالا.

وجوابه : أنّ تنجيز تمام الأطراف كان لأجل جريان الأصول المنجّزة والتي هي أحكام ظاهريّة المقصود منها إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، بينما طهارة غير الإناء

ص: 217

النجس طهارة واقعيّة غير معلومة بالتفصيل ، ولا تضادّ بين الحكمين الواقعي والظاهري كما تقدّم في محلّه.

ومنه يعلم : أنّه لو لم تكن النجاسة الفعليّة معلومة أصلا أمكن أيضا إجراء استصحاب النجاسة في كلّ إناء ما دامت أركانه تامّة فيه ، ولا ينافي ذلك العلم إجمالا بطهارة بعض الأواني وارتفاع النجاسة عنها واقعا ؛ لأنّ المنافاة : إمّا أن تكون بلحاظ محذور ثبوتي بدعوى المنافاة بين الأصول المنجّزة للتكليف والحكم الترخيصي المعلوم بالإجمال ، أو بلحاظ محذور إثباتي وقصور في إطلاق دليل الأصل.

ذكرنا أنّه إذا كان لدينا إناءان حالتهما السابقة النجاسة ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة أحدهما ، فإنّ الأصول المنجّزة كالاستصحاب تجري فيهما معا ولا محذور في ذلك لا ثبوتا ولا إثباتا.

وهنا صورة أخرى وهي أن يكون لدينا إناءان حالتهما السابقة النجاسة أيضا ثمّ نعلم إجمالا بطهارة أحدهما ، فهنا أيضا تجري الأصول المنجّزة كالاستصحاب ولا محذور في ذلك لا ثبوتا ولا إثباتا.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بطهارة أحد الإناءين إجمالا لا يمنع من جريان الاستصحاب المنجّز في كلا الطرفين ما دامت أركانه تامّة فيهما.

وقد يقال : إنّ العلم بطهارة أحد الإناءين إجمالا يتنافى مع استصحاب النجاسة فيهما ؛ لأنّنا نقطع بارتفاعها عن أحدهما فكيف يحكم بنجاستهما معا؟

وهذه المنافاة تارة يقال بوجودها بلحاظ عالم الثبوت وأخرى يقال بوجودها بلحاظ عالم الإثبات ، بمعنى أنّه يوجد تضادّ بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وهو طهارة أحد الإناءين ، وبين الحكم بنجاسة كلا الإناءين ؛ لأنّه سوف يجتمع وصفا الطهارة والنجاسة على الإناء الطاهر واقعا ، وهما حكمان وضعيّان متضادّان يستحيل اجتماعهما على موضوع واحد ، وهذا محذور بلحاظ عالم الثبوت.

أو يقال : إنّ أدلّة الأصول المنجّزة كالاستصحاب مثلا قاصرة عن الإطلاق والشمول للفرد الطاهر واقعا ؛ لأنّه ما دام معلوم الطهارة فلا يرفع اليد عنه إلا بالعلم بنجاسته ، وهنا لا علم لنا بنجاسته فلا تشمله أدلّة الاستصحاب ، وبالتالي لا تجري إلا

ص: 218

في الطرف الآخر ، أي أنّها تجري في أحد الطرفين لا فيهما معا ، وإلا كان ذلك من باب نقض اليقين بما ليس يقينا.

والصحيح أنّ شيئا من هذين المحذورين غير تامّ ، وتوضيحه :

أمّا الأوّل : فقد يقرّب بوقوع المنافاة بين الإلزامات الظاهريّة والترخيص الواقعي الثابت في مورد بعضها على سبيل الإجمال جزما.

أمّا المحذور الثبوتي فتقريبه دعوى المنافاة والتضادّ بين الإلزام الظاهري لكلّ الأطراف وبين الطاهر الواقعي في أحد هذه الأطراف ؛ لأنّهما سوف يجتمعان في الطرف الطاهر واقعا فيكون نجسا وطاهرا ، وهذا يعني اجتماع حكمين متضادّين على مورد واحد وهو مستحيل.

فيلزم ألاّ تكون الأصول الشرعيّة المنجّزة جارية في تمام الأطراف لئلاّ نقع في محذور الاستحالة ، بمعنى أنّها تجري فيما عدا الطاهر الواقعي.

وحيث إنّ كلّ واحد من الأطراف يحتمل كونه الطاهر الواقعي فتتعارض وتتساقط فيما بينها ؛ لأنّ جريانها في الجميع يؤدّي إلى التضادّ وجريانها في البعض دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن تساقطها ، وبالتالي لا يتنجّز إلا مقدار الجامع فقط والذي لا يستدعي الموافقة القطعيّة.

والجواب : أنّ المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي إن كانت بملاك التضادّ بين الحكمين فيندفع بعدم التضادّ ما دام أحدهما ظاهريّا والآخر واقعيّا ، وإن كانت بملاك ما يستتبعان من تحرّك أو إطلاق عنان ، فمن الواضح أنّ الترخيص المعلوم إجمالا لا يستتبع إطلاق العنان الفعلي ؛ لعدم تعيّن مورده ، فلا ينافي الأصول المنجّزة في مقام العمل.

والجواب عنه : أنّ التضادّ تارة يكون بلحاظ المبادئ والملاكات ، وأخرى يكون بلحاظ مقام العمل والامتثال.

فإن كان المقصود من التضادّ والتنافي عالم الملاكات والمبادئ ، فقد تقدّم في الجزء السابق أنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة زائدة عن ملاكات الحكم الواقعي ، أي أنّه لم ينشأ من ملاكات خاصّة في متعلّقه.

ولذلك لا تضادّ ولا تنافي بين الطاهر الواقعي وبين النجس الظاهري ؛ لأنّ المراد

ص: 219

بالنجس الظاهري إبراز أنّ ملاكات النجاسة الواقعيّة هي الأهمّ ، ولكي يحافظ عليها يصدر إلزاما ظاهريّا بالتجنّب عن جميع الأطراف المشكوكة النجاسة من أجل إحراز أنّه قد تجنّب فعلا عن النجس الواقعي ، وهذا لا يعني أنّ الطرف الطاهر واقعا صار نجسا وفيه ملاكات النجاسة ، بل هو باق على طهارته واقعا ، وليس فيه سوى هذه الملاكات لا أكثر فلا منافاة.

وإن كان المقصود من ذلك أنّه في عالم الامتثال والتحرّك يكون بينهما تناف ، حيث إنّ النجاسة تستدعي التحرّك بنحو يختلف عن التحرّك المستتبع في الطهارة ، فهذه تطلق العنان وتلك تمنع منه ، فهذا غير تامّ أيضا ؛ إذ لا منافاة عمليّا بين الحكم بطهارة أحد الإناءات واقعا وبين الحكم بنجاستها ظاهرا ؛ لأنّ هذا الطرف الطاهر حتّى لو كان معلوما بالتفصيل ومشخّصا فهذا لا يستتبع وجوب ارتكابه ، بل يجوز الشرب والوضوء منه.

بمعنى أنّ المكلّف إن شاء فعل ذلك وإن لم يشأ لم يفعل ، فهو لا يستتبع وجوب التحرّك الفعلي ، وعليه فلا مانع من كون التحرّك عنه تركا يصبح واجبا بدليل آخر وهو استصحاب النجاسة السابقة في مفروض كلامنا ؛ لأنّه لو كان معيّنا لما وجب التحرّك عنه فضلا عمّا إذا لم يكن مشخّصا في طرف معيّن كما هو محلّ البحث.

وهكذا يتّضح أنّه لا وجه للمنافاة والتضادّ لا في عالم الملاكات ولا في عالم الامتثال.

وأمّا الثاني : فقد يقرّب بقصور في دليل الاستصحاب ، بدعوى أنّه كما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأوّل يستدعي إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف ، والثاني يستدعي نفي جريانها جميعا في وقت واحد ؛ لأنّ رفع اليد عن الحالة السابقة في بعض الإناءات نقض لليقين باليقين.

وأمّا المحذور الإثباتي فتقريبه دعوى أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول لهذه الصورة.

وبيان ذلك : أنّ ألسنة الاستصحاب مفادها عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ووجوب نقضه بيقين آخر ، كما في قوله ( علیه السلام ) : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ولكن انقضه بيقين آخر » ، فإنّ هذا اللسان فيه أمران :

ص: 220

الأوّل : النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وهذا يستلزم إجراء الاستصحاب في كلّ الأطراف ؛ لأنّ كلّ طرف في نفسه مشكوك مع كونه متيقّنا في السابق ، ففي موردنا نعلم بأنّ هذه الإناءات جميعا كانت نجسة ونشكّ في طهارة كلّ واحد منها ، فنستصحب بقاء النجاسة المتيقّنة ؛ لأنّ رفع اليد عنها معناه نقض اليقين بالشكّ وهو غير جائز.

الثاني : الأمر بنقض اليقين باليقين وهذا يستلزم عدم إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف ، بل لا بدّ من رفع اليد عنه في بعضها إجمالا ؛ لأنّه في المثال المذكور كما نعلم بنجاسة الإناءات سابقا ، كذلك نعلم إجمالا بوجود طاهر بينها ؛ لأنّنا نعلم بطروّ الطهارة على أحدها غير المعيّن ، وحينئذ يجب أن نرفع اليد عن نجاسة أحدهما ؛ لأنّ هذا ليس من نقض اليقين بالشك المنهي عنه ، بل هو من نقض اليقين باليقين.

وعليه فبلحاظ الطاهر الواقعي يلزم المحذور ؛ لأنّه من جهة يجري فيه استصحاب النجاسة لجريانه في كلّ طرف مشكوك ، ومن جهة أخرى يجب رفع اليد عن النجاسة بلحاظه ؛ لأنّه طاهر يقينا ، وهذا معناه جريان الاستصحاب فيه وعدم جريانه أيضا ومقتضى التعارض التساقط ، فلا يجري فيه الأصل المنجّز.

والجواب أوّلا : أنّ هذا إنّما يوجب الإجمال في ما اشتمل من روايات الاستصحاب على الأمر والنهي معا ، لا فيما اختصّ مفاده بالنهي فقط.

الجواب الأوّل : أنّ هذا الإشكال لو سلّم فغاية ما يلزم كون هذه الألسنة من الروايات التي جمعت بين النهي والأمر معا ساقطة عن الحجّيّة في موردنا ؛ لأنّه لا يمكن أن يجتمع الأمر بنقض اليقين باليقين والنهي عن نقض اليقين بالشكّ في مورد واحد ؛ لاستلزامه التهافت.

إلا أنّه توجد روايات أخرى جاء في مفادها التعبير بالنهي أي لا تنقض اليقين بالشكّ من دون الأمر أي بنقض اليقين باليقين ، وهذا يعني أنّه لا تهافت فيها ؛ إذ لا تجمع بين الأمرين معا.

وهذا كما في قوله ( علیه السلام ) : « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » ، فهذا النحو من الروايات ناظر إلى جانب إجراء الاستصحاب ، وأنّه ما دام اليقين السابق موجودا فلا يجوز نقضه بالشكّ ، فيجري استصحاب النجاسة في تمام

ص: 221

الإناءات في موردنا ، ولا يعارضه العلم الإجمالي بطهارة أحدها واقعا ؛ لما تقدّم من الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري.

والحاصل : أنّ التعارض والتساقط الموجود في تلك الرواية التي جمعت بين النهي والأمر لا يعني أنّه يوجد تعارض في كلّ روايات الاستصحاب حتّى التي لم تجمع بين الأمر والنهي ، بل تكون سالمة عن المعارضة والتهافت.

وثانيا : أنّ ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين المنقوض ، وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ اليقين المدّعى كونه ناقضا هو العلم الإجمالي بالحكم الترخيصي ، ومصبّه ليس متّحدا مع مصبّ أي واحد من العلوم التفصيليّة المتعلّقة بالحالات السابقة للإناءات.

الجواب الثاني : أنّ محذور التهافت غير صحيح في نفسه ؛ وذلك لأنّ الرواية ناظرة إلى موضوع واحد ، فتارة يتعلّق به اليقين ويطرأ عليه الشكّ ، فنقول : إنّ هذا اليقين لا تنقضه بالشكّ بل يبقى على حاله وهو معنى الاستصحاب ، وأخرى يطرأ على هذا اليقين يقين آخر مخالف له ، فهنا يكون اليقين الثاني المخالف له ناقضا له ؛ كما إذا كنّا على علم من نجاسة هذا الثوب ثمّ علمنا بطهارته بعد ذلك ، فهذا اليقين بالطهارة لا إشكال في كونه ناقضا ورافعا لليقين بالنجاسة ، وهنا يجب العمل على اليقين الثاني لارتفاع اليقين الأوّل ، ولا يمكن أن يجتمع كلا الأمرين بأن يكون الثوب مشكوكا ومتيقّنا بأنّه طاهر ؛ للزوم التهافت.

وفي موردنا لا يوجد تهافت ، وذلك بأن نقول : إنّ كلّ واحد من الإناءات كان متيقّن النجاسة في نفسه ، أي معلوم تفصيلا بأنّه نجس ثمّ طرأت عليه حالة الشكّ ، أي كلّ واحد صار مشكوك النجاسة فيما بعد ، حيث يشكّ في أنّه طهّر أم لا ، فهنا نجري استصحاب بقاء النجاسة على أساس الفقرة الأولى أي لا تنقض اليقين بالشكّ.

ثمّ بعد ذلك علمنا إجمالا بوجود إناء طاهر بين هذه الإناءات ، وهذا العلم بالطهارة لو كان علما تفصيليّا بأن علمنا بأنّ هذا الإناء هو الطاهر ، لكان يجب علينا أن ننقض اليقين بالنجاسة سابقا باليقين بالطهارة لاحقا في خصوص هذا الإناء تطبيقا للفقرة الثانية.

ص: 222

إلا أنّنا هنا لا نعلم تفصيلا بالإناء الطاهر وإنّما نعلم بوجود إناء طاهر على سبيل الإجمال ، أي جامع الطهارة موجود بين الإناءات ، وحينئذ نقول :

إنّ الفقرة الثانية لا يمكن تطبيقها في المقام لاختلاف الموضوع بين اليقين السابق واليقين اللاحق ، ومع اختلاف الموضوع لا يكون أحدهما ناقضا للآخر ؛ لأنّ معنى كونه ناقضا له كونه ناظرا إلى نفس متعلّقه ، وهذا لا يتمّ إلا في موارد العلم التفصيلي لا في موارد العلم الإجمالي ؛ لأنّ المتعلّق في موارد العلم التفصيلي في اليقينين واحد وهو هذا الثوب المعيّن ، بينما المتعلّق في العلم الإجمالي عنوان أحد الإناءات أي جامع الطهارة ، والمتعلّق في اليقين السابق هو كلّ واحد من الإناءات بخصوصه.

وعليه فلا يكون اليقين اللاحق الإجمالي ناقضا لليقين السابق التفصيلي.

وهذا يعني أنّه يمكن العمل بكلا اليقينين والالتزام بكلّ منهما ؛ إذ لا محذور عقلي لعدم لزوم التهافت ؛ لأنّ المتعلّق في كلّ منهما يختلف عنه في الآخر ، ولا محذور عملي لأنّه يمكن الجمع بينهما بأن نلتزم بوجود طهارة إجماليّة ونجاسة تفصيليّة ؛ لأنّ العلم بالطهارة سواء الإجماليّة أم التفصيليّة لا يستدعي وجوب التحرّك بل جوازه ، وهذا لا يمنع من أن يطرأ عنوان آخر يمنع من التحرّك ، إذ يمكن أن يكون شيء ما في نفسه وبذاته جائزا ولكن بسبب عروض عنوان آخر طارئ يصيّره متّصفا بالوجوب أو الحرمة مثلا.

ومقامنا كذلك فإنّ كلّ إناء يحتمل اتّصافه بالجواز بأن يكون هو الطاهر الواقعي إلا أنّه يوجد مانع من العمل به ؛ لأنّه عرض عليه عنوان آخر وهو استصحاب النجاسة.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد محذور ثبوتي ولا إثباتي في جريان الأصول الشرعيّة المنجّزة كالاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي.

وعليه فالأصول المنجّزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتّى مع العلم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع.

وهذا معنى قولهم : ( إنّ الأصول العمليّة تجري في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة لتكليف معلوم بالإجمال ).

وحاصل الكلام : أنّ الأصول الشرعيّة المنجّزة والمثبتة للتكليف الإلزامي تجري في

ص: 223

تمام أطراف العلم الإجمالي سواء كان لدينا علم آخر بوجود الترخيص إجمالا أم لا ، أمّا مع عدم وجود علم آخر فلا إشكال أصلا لا ثبوتا ولا إثباتا.

وأما مع عدم وجود مثل هذا العلم الآخر فأيضا لا إشكال ؛ لأنّه يمكن الجمع بين جريان الاستصحاب المنجّز في تمام الأطراف وبين هذا العلم الإجمالي الترخيصي ، إذ لا منافاة بينهما لا في الملاكات ؛ لأنّ أحدهما ظاهري والآخر واقعي ، ولا في الامتثال والعمل ؛ لأنّ الترخيص لا يستدعي وجوب التحرك على طبقه بل الجواز فقط ، وهذا لا يمنع من طروّ عنوان آخر مفاده الإلزام.

ومن هنا نفهم معنى قولهم : ( إنّ الأصول العمليّة إذا لم يلزم من جريانها المخالفة العمليّة للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها في جميع أطراف العلم الإجمالي ).

فإنّ مقصودهم من الأصول العمليّة هنا الأصول الشرعيّة المنجّزة لا العقليّة ولا الترخيصيّة مطلقا ؛ لأنّ جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي والذي يكون منجّزا للتكليف الإلزامي لا يلزم منه مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي بوجود نجاسة ، بل العكس يلزم منه الموافقة القطعيّة ، ولا يلزم منه مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي بوجود طهارة أيضا ضمن الإناءات المعلومة نجاستها سابقا ؛ لأنّ العلم بالطهارة لا يوجب التحرّك الفعلي وإطلاق العنان فعلا ، بل العلم بالطهارة معناه أنّه هنا يوجد مقتض لإطلاق العنان والترخيص ، وهذا المقتضي يكون مؤثّرا مع عدم وجود المانع والمفروض هنا أنّ الاستصحاب مانع من ذلك ، فيرفع اليد عنه لوجود المانع ، وبهذا ينتهي الكلام عن الأمر الثاني.

* * *

ص: 224

3 - جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه

اشارة

ص: 225

ص: 226

3 - جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثالث فهو جريان الأصول الشرعيّة المؤمّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي.

والكلام عن ذلك يقع في مقامين : ثبوتي وإثباتي.

الأمر الثالث : وهو جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف وعدم جريانها ، وهذا الأمر تارة يبحث فيه ثبوتا أي أنّه هل من المعقول أن تجري الأصول في بعض الأطراف أو لا يعقل ذلك؟ وأخرى يبحث إثباتا وأنّه هل أدلّة الأصول تشمل موارد العلم الإجمالي أو لا؟

ولذلك نبحث هذا الأمر في كلا المقامين ، فنقول :

أمّا الثبوتي فنبحث فيه عن إمكان جريان الأصول المؤمّنة في بعض الأطراف ثبوتا وعدمه.

ومن الواضح أنّه على مسلكنا القائل بإمكان جريان الأصول في جميع الأطراف لا مجال لهذا البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتيّ في جريانها في بعض الأطراف.

أمّا مقام الثبوت بمعنى معقوليّة جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف أو عدم معقوليّة ذلك ، فهذا البحث لا موضوع له بناء على مسلك السيّد الشهيد رحمه اللّه ، حيث تقدّم سابقا أنّ الأصول الترخيصيّة يمكن ويعقل جريانها في كلّ الأطراف فمن الأولى جريانها في بعضها ، إذ لا يعقل ألاّ يكون هناك محذور عقلي في جريانها في جميع الأطراف ، ويكون هناك محذور كذلك في جريانها في بعض الأطراف ، إذ لو فرض وجود محذور في البعض فمن الأولى أن يكون المحذور موجودا في الكلّ أيضا ، وحيث إنّه لا يوجد محذور في الكلّ فمن الأولى ألاّ يكون هناك محذور في البعض.

ص: 227

والوجه في ذلك ما تقدّم سابقا من أنّ حكم العقل بلزوم الامتثال وحرمة المعصية إنّما كان لأجل الحفاظ على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، إلا أنّ هذا الحكم العقلي معلّق على عدم الإذن والترخيص من الشارع ، وإلا كان هذا الإذن إسقاطا لحقّه وبالتالي ينتفي موضوع حكم العقل.

وهذا الإذن يمكن صدوره في موارد الظنّ والشكّ والاحتمال ، وأمّا موارد القطع التفصيلي فلا يمكن ذلك للزوم التنافي والتضادّ ولعدم المحرّكيّة والجدّيّة.

وأمّا موارد العلم الإجمالي فقلنا : إنّه لا يوجد محذور عقلي في الترخيص في كلّ الأطراف ؛ لأنّ هذا الترخيص حكم ظاهري غايته إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة بنظر الشارع عند التزاحم الحفظي بين الملاكات.

وهنا كما يتعقّل أن تكون ملاكات الإلزام هي الأهمّ كذلك يمكن أن تكون ملاكات الإباحة والترخيص هي الأهمّ ، فلا فرق بينهما عند العقل ، إلا أنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص تكون أهمّ من ملاكات الإلزام ، فيكون المحذور عقلائيا لا عقليا ، وهذا كما يتمّ في تمام الأطراف يتمّ في بعض الأطراف بطريق أولى وأوضح.

وأمّا على مسلك القائلين باستحالة جريان الأصول في جميع الأطراف ، فكذلك ينبغي أن نستثني من هذا البحث القائلين بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة مباشرة ، فإنّه على قولهم هذا لا ينبغي أن يتوهّم امتناع جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف إذ يكون من الواضح عدم منافاته للعلم الإجمالي.

وأمّا على مسلك المشهور القائل باستحالة جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ، فلا بدّ أن نفرق بين نحوين وتقريبين لهذه الاستحالة :

أحدهما : أنّ العلم الإجمالي بنفسه لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا ينجّز إلا مقدار الجامع ، وهذا بنفسه لا يستدعي التنجّز في تمام الأطراف ؛ لأنّ الجامع يتحقّق بفرد من أفراده فقط ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبة بنحو غير مباشر ، من باب أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة المعلوم بالإجمال.

فعلى هذا المسلك لا محذور ثبوتي في جريان الأصول الترخيصيّة في بعض

ص: 228

الأطراف ؛ لأنّ المحذور العقلي كان بلحاظ الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وهذا إنّما يتمّ فيما لو جرت الأصول في تمام الأطراف ، وأمّا جريانها في بعضها فلن تتحقّق به المخالفة القطعيّة إذ يحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال موجودا في الأطراف الأخرى التي لا تزال منجّزة.

وعليه ، فلا منافاة بين جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف وبين منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأمّا القائلون بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة فيصحّ البحث على أساس قولهم ؛ لأنّ جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف يرخّص في ترك الموافقة القطعيّة ، فلا بدّ من النظر في إمكان ذلك وامتناعه.

وأمّا المسلك الآخر القائل بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة ، فهنا يكون لهذا البحث الثبوتي أثر وفائدة ، والوجه في ذلك :

أنّ الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي معناه الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، وهذا يساوق المخالفة الاحتماليّة والموافقة الاحتماليّة أيضا ، فهنا يبحث أنّه هل هناك محذور عقلي يمنع من ترك الموافقة القطعيّة ، أو لا يوجد مثل هذا المحذور؟

فهنا يوجد احتمالان :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي وإن كان يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة إلا أنّه لا محذور عقلا في الاكتفاء في الموافقة الاحتماليّة ، فيجري الأصل في بعض الأطراف.

الثاني : أنّ العلم الإجمالي كما يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة كذلك يستدعي عدم جريان الترخيص في بعض الأطراف ، فيستحيل جريان الأصل في بعض الأطراف.

وأمّا النكتة والملاك لهذين الاحتمالين فهو :

ومردّ البحث في ذلك إلى النزاع في أنّ العلم الإجمالي هل يستدعي عقلا وجوب الموافقة القطعيّة استدعاء منجّزا على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، أو استدعاء معلّقا على عدم ورود الترخيص الشرعي على نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه ، فإنّ فعليّته منوطة بعدم وجود المانع.

ص: 229

فعلى الأوّل يستحيل إجراء الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ؛ لأنّه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعيّة ، وعلى الثاني يمكن إجراؤه إذ يكون الأصل مانعا عن فعليّة حكم العقل ورافعا لموضوعه.

ومرجع البحث على هذا المسلك القائل بأنّ العلم الإجمالي بنفسه يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ، إلى النزاع في تفسير هذا الاستدعاء ، فإنّه يوجد تفسيران له :

الأوّل : أنّ استدعاء العلم الإجمالي بذاته لوجوب الموافقة القطعيّة على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، فإنّه متى ما ثبتت العلّة ثبت معلولها ، بحيث يستحيل أن تثبت العلّة ولا يثبت معلولها ، فعلى هذا التفسير يكون استدعاء العلم الإجمالي استدعاء منجّزا أي غير معلّق على شيء ، فمتى وجد العلم الإجمالي كانت الموافقة القطعيّة واجبة.

وهذا يعني أنّه يستحيل ترك الموافقة القطعيّة عقلا ؛ لأنّ تركها مع وجود العلّة لها يكون من قبيل تحقّق العلّة وانتفاء المعلول ، وهذا ممتنع عقلا ؛ لأنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته.

وحينئذ نقول : إنّ ترك الموافقة القطعيّة كما يكون بترك كلّ الأطراف كذلك يكون بترك بعض الأطراف ؛ لأنّه في كلتا الحالتين يصدق أنّه لا موافقة قطعيّة ، فالمحذور فيهما على حدّ سواء.

ولذلك كما يمتنع جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّه يستلزم ترك وجوب الموافقة القطعيّة كذلك يمتنع جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف ؛ لأنّه يستلزم أيضا الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، والمفروض أنّ الموافقة القطعيّة معلولة للعلم الإجمالي ويستحيل تخلّفها عنه ما دام موجودا ، والحال أنّ العلم الإجمالي موجود وليس منحلاّ.

الثاني : أنّ استدعاء العلم الإجمالي بذاته لوجوب الموافقة القطعيّة على نحو استدعاء المقتضي للمقتضى ، فإنّ هذا الاستدعاء موقوف على انتفاء المانع من تأثير المقتضي في الاقتضاء ، بمعنى أنّه إذا وجد المانع كان التأثير منتفيا ، وإذا لم يوجد كان التأثير فعليّا.

ص: 230

وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي يكون مستدعيا لوجوب الموافقة القطعيّة بنحو معلّق على عدم المانع ، فتجب الموافقة القطعيّة ؛ لوجود المقتضي وهو نفس العلم الإجمالي ؛ ولعدم المانع أي عدم الترخيص الشرعي ، فإذا ورد الترخيص الشرعي في بعض الأطراف كان معناه تحقّق المانع من تأثير العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فلا تجب لا من باب عدم المقتضي بل من باب وجود المانع ، وعلى هذا فلا يستحيل صدور مثل هذا الترخيص الشرعي ؛ لأنّه يكون من باب الحيلولة من تأثير العلم الإجمالي لا من باب رفع هذا التأثر بعد فعليّته ، فإنّه لا يتمّ إلا بإسقاط العلم الإجمالي عن الحجّيّة وهذا لا يكون إلا بدعوى انحلاله مثلا ونحو ذلك كما سيأتي.

وعلى هذا الأساس وجد اتّجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة :

أحدهما : القول بالاستدعاء على نحو العلّيّة ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق العراقي. (1)

والآخر : القول بالاستدعاء على نحو الاقتضاء ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق النائيني على ما هو المنقول عنه في فوائد الأصول (2).

فتحصّل من ذلك : أنّه بناء على المسلك القائل بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة يوجد اتّجاهان ومسلكان :

الأوّل : أنّ استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة من باب استدعاء العلّة لمعلولها استدعاء منجّزا غير متوقّف على شيء ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي وجماعة.

الثاني : أنّ استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة من باب الاقتضاء ، أي استدعاء معلّقا على عدم وجود المانع ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني كما نسب إليه في تقرير بحثه.

وقد ذكر المحقّق العراقي رحمه اللّه في تقريب العلّيّة : أنّه لا شكّ في كون العلم منجّزا لمعلومه على نحو العلّيّة ، فإذا ضممنا إلى ذلك أنّ المعلوم بالعلم

ص: 231


1- مقالات الأصول 2 : 234.
2- فوائد الأصول 4 : 25.

الإجمالي هو الواقع لا مجرّد الجامع ، ثبت أنّ الواقع منجّز على نحو العلّيّة ، ومعه يستحيل الترخيص في أي واحد من الطرفين ؛ لاحتمال كونه هو الواقع.

وبكلمة أخرى : أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي إن كان هو الجامع فلا مقتضي لوجوب الموافقة القطعيّة أصلا ، وإن كان هو الواقع فلا بدّ من افتراض تنجّزه على نحو العلّيّة ؛ لأنّ هذا شأن كلّ معلوم مع العلم.

استدلّ المحقّق العراقي على القول بعلّيّة العلم الإجمالي بنفسه لوجوب الموافقة القطعيّة بما يلي :

أوّلا : أنّ العلم التفصيلي ينجّز معلومه على نحو العلّيّة ، فإذا علمنا بأنّ هذا المائع خمر كان هذا العلم منجّزا بنفسه لوجوب الاجتناب عن معلومه ، وتنجيزه له على نحو تنجّز العلّة لمعلولها ، أي أنّه ليس معلّقا على شيء ؛ إذ ما دمنا نعلم بأنّه خمر فيحرم شربه ، ولا يمكن التفكيك بينهما.

وثانيا : أنّ العلم الإجمالي قلنا : إنّه علّة لحرمة المخالفة القطعيّة على جميع المباني ، بمعنى أنّه إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فيحكم العقل بحرمة المخالفة ووجوب الامتثال لهذا المعلوم ، سواء كان المعلوم هو الجامع أو الواقع أو الفرد المردّد ؛ لأنّه على كلّ التقادير يكون ارتكاب كلا الإناءين ارتكابا للنجس المعلوم والذي حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه وحرمة مخالفته.

فيكون الارتكاب للجميع مخالفا للتكليف الداخل يقينا في الذمّة والعهدة ، ولذلك فحكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة ليس معلّقا على شيء ، بل هو منجّز وهذا معنى العلّيّة.

وثالثا : أنّ العلم الإجمالي بناء على ما هو الصحيح عنده متعلّق بالواقع المحكي بالجامع المعلوم كما تقدّم ، فيكون الواقع دخيلا في العهدة ومشتغلة به الذمّة ، فيحكم العقل بلزوم امتثاله وحرمة مخالفته ؛ وامتثاله لا يكون بفعل أحد الطرفين وترك الآخر ؛ لأنّه لا يقطع معه بفراغ الذمّة وبراءتها من التكليف الداخل في عهدتها ، إذ قد يكون الواقع المنجّز هو الطرف الآخر الذي لم يمتثله ، وعليه يكون الواجب الإتيان بكلا الطرفين أو ترك الطرفين معا لكي يتحقّق عنوان الامتثال فتبرأ الذمّة يقينا.

وهذا معناه أنّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّه

ص: 232

الواقع ، والواقع لا يمتثل إلا بالطرفين لا أحدهما ، فكان العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة من باب تحصيل الفراغ اليقيني ، ومن باب دفع الضرر والعقاب المحتمل فيما إذا فعل أحدهما وترك الآخر.

وما دام العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة فكما يستحيل فعل أحد الطرفين وترك الآخر لما ذكرنا ، كذلك يستحيل صدور الترخيص في بعض الأطراف دون الآخر ؛ إذ من المحتمل أن يكون الواقع هو ذاك الطرف الذي تركه فيكون ترخيصا في المخالفة ووقوعا في الضرر والعقاب ، ولا تكون الذمّة بريئة وخارجة عن العهدة.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي إن كان متعلّقا بالجامع من دون أن يسري إلى الحدّ الشخصي فلا يوجد مقتضي أصلا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع يكفي في تحقّقه الإتيان بفرد واحد وتبرأ الذمّة به.

وإن كان متعلّقا بالواقع كما هو مختار المحقّق العراقي فيكون العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة كما كان علّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، على أساس أنّ شأن العلم مع معلومه هو شأن العلّة مع معلولها ، بحيث يكون العلم هو العلّة لتنجّز المعلوم ، وحيث إنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّقا بالواقع ولا فرق بينهما من هذه الناحية فيكون حالهما واحد ، والمفروض أنّ العلم التفصيلي علّة لتنجّز معلومه فالعلم الإجمالي مثله.

ومجرّد كون الصورة الذهنيّة للعلم الإجمالي فيها غموض وتشويش وعدم وضوح لا يعني أنّ الواقع كذلك ، بل الواقع ليس فيه غموض وتشويش في نفسه وإنّما صورته كذلك ، إلا أنّ العلم تعلّق بالواقع المحكي بالصورة لا بنفس الصورة كما هو واضح.

واعترض عليه المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) بأنّ العلم الإجمالي ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي ، والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتماليّة لمعلومه ، كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وهذا يعني عدم كونه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، فكذلك العلم الإجمالي.

ص: 233


1- فوائد الأصول 4 : 34.

اعترض المحقّق النائيني على هذا الاستدلال بمنع علّيّة العلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فيكون المنع عن علّيّة العلم الإجمالي فيها أوضح ؛ لأنّه ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي.

وأمّا كيف لا يكون العلم التفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة؟ فلأنّه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتماليّة بلحاظه في بعض الموارد كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، ومع إمكان الترخيص في المخالفة الاحتماليّة فيه لا يكون علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ إذ لا يمكن اجتماعهما معا.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا بوجوب الصلاة فهذا علم تفصيلي ، فإذا شككنا أثناء الصلاة في الإتيان بالقراءة بعد تجاوز محلّها لا تجب إعادتها ، وكذا لو شككنا في أنّ الصلاة كانت صحيحة أم لا بعد الفراغ منها لا تجب إعادتها ، فلو كان العلم التفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة لكان اللازم الإعادة من جديد تحصيلا للموافقة القطعيّة ، فالاكتفاء بما أتى به معناه أنّه يكتفي في الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة أيضا ؛ إذ قد لا يكون قد أتى بالقراءة أو قد يكون قد صلّى صلاة فاسدة ، فلا تكون ذمّته بريئة حينئذ.

وبتعبير آخر : أنّ العلم التفصيلي لو كان علّة لوجوب الموافقة كان اللازم الإتيان بصلاة واجدة لجميع الشرائط والأجزاء يقينا ؛ لكي تحصل البراءة اليقينيّة وتفرغ الذمّة يقينا ممّا اشتغلت به ، والحال أنّنا نجد أنّهم يتّفقون على الاكتفاء بالصلاة التي صلاّها إعمالا لقاعدتي الفراغ أو التجاوز ، مع أنّه يحتمل المخالفة معهما.

فحيث إنّ العلم التفصيلي حاله كذلك فالعلم الإجمالي يكون مثله ؛ إذ لا يعقل كونه أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي في التنجيز.

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ العلم الإجمالي ليس علّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ، ولذلك كما يعقل الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، كذلك يعقل ورود الترخيص الشرعي في بعض الأطراف ؛ لأنّ نتيجته هي الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة أيضا ، من دون فرق بين الموردين.

وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة إلا أنّه معلّق على عدم ورود الترخيص من الشارع.

ص: 234

وأجاب المحقّق العراقي (1) على هذا الاعتراض : بأنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعيّة لتكون منافية لافتراض علّيّة العلم لوجوبها ، بل هي إحراز تعبّدي للموافقة أي موافقة قطعيّة تعبّديّة ، وافتراض العلّيّة يعني علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وجدانا أو تعبّدا.

وأجاب المحقّق العراقي عن هذا النقض بما حاصله : أنّ مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز الجاريتين لتصحيح ما أتى به من عمل ليستا من قبيل ورود أصل عملي ترخيصي ناف للتكليف عن بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ قاعدة الفراغ مثلا بعد جريانها يثبت بها أنّه المكلّف قد امتثل للصلاة ، وأنّه أدّى المأمور به وفرغت ذمّته وخرجت عن عهدة التكليف.

وهذا يعني أنّه قد حقّق الموافقة القطعيّة للمأمور به ، غاية الأمر أنّ هذه الموافقة القطعيّة ثابتة بالتعبّد لا بالوجدان ، ونحن حينما نوجب الموافقة القطعيّة لا نحصرها في الموافقة القطعيّة الوجدانيّة ، بل الأعمّ منها ومن الموافقة القطعيّة التعبّديّة ، فيكون دليل الفراغ والتجاوز موسّعا لدائرة الموافقة القطعيّة لتشمل كلا النحوين من الموافقة القطعيّة.

وعليه ، فالمكلّف لا يحتمل عدم الموافقة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، بل هو تعبّدا قد حقّق الموافقة القطعيّة.

وهذا خلافا للأصول الترخيصيّة الجارية في بعض الأطراف ، فإنّها تنفي التكليف عنها أي أنّها تفكّك بين العلّة ومعلولها وهو ممتنع.

فمثل البراءة ، أو أصالة الطهارة ، أو أصالة الحلّ ؛ إذا أريد إجراؤها في بعض الأطراف كان لازمها أنّ هذه الأطراف لا تكليف فيها مع وجود العلّة المقتضية للتكليف أي العلم الإجمالي ، فيلزم محذور المخالفة الاحتماليّة ومحذور عدم براءة الذمّة يقينا عمّا اشتغلت به يقينا.

فحال العلم الإجمالي حال العلم التفصيلي في ذلك ، فكما أنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز تجريان مع العلم التفصيلي ، مع أنّه لا شكّ عندهم في كونه منجّزا لمعلومه على نحو العلّيّة فكذلك الحال في العلم الإجمالي أيضا ، بمعنى أنّه لا مانع من جريان

ص: 235


1- مقالات الأصول 2 : 238.

الأمارات في بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّها بمدلولها الالتزامي تثبت أنّ اشتغال الذمّة في الأطراف الأخرى.

وبهذا يظهر الفرق بين إجراء قاعدة الفراغ وإجراء أصالة البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فإنّ الأوّل لا ينافي العلّيّة بخلاف الثاني.

وأمّا الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز من جهة وبين أصالة البراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من جهة أخرى ، فهو أن يقال : إنّ مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز حيث إنّهما من الأمارات فيكون المجعول فيهما العلميّة.

وعليه ، فالعمل الذي فرغ منه أو المحلّ الذي تجاوز عنه قد عمله على وجهه الصحيح تعبّدا ، أي أنّه معلوم الصحة تعبّدا ، وبذلك يكون دليل القاعدتين حكما على الأدلّة التي توجب الموافقة القطعيّة ، سواء في ذلك العلم التفصيلي أو العلم الإجمالي ، حيث إنّها تنظر إلى الموافقة القطعيّة وتفترض وجود فرد آخر لها وهو الموافقة التعبّديّة لا خصوص الموافقة القطعيّة الوجدانيّة.

فتكون الموافقة القطعيّة متحقّقة في القاعدتين ، وبالتالي لا منافاة بينهما وبين القول بعلّيّة العلم التفصيلي والإجمالي ؛ لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل بينهما انسجام تام ؛ لأنّهما يحقّقان هذه الموافقة المطلوبة.

بينما مثل البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة فهي ليست علما تعبّدا لتكون حاكمة وموسّعة لموضوع الموافقة القطعيّة ، وإنّما هي تنفي التكليف ابتداء عن الطرف الذي تجري فيه.

وهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعيّة والاكتفاء بالمخالفة والموافقة الاحتماليّة ، وحينئذ يأتي المحذور من أنّها تستلزم الترخيص في الموافقة القطعيّة المعلولة للعلم الإجمالي ، وهو من باب التفكيك بين العلّة ومعلولها ، ومن أنّها تستلزم نفي التكليف عن الطرف بينما منجّزيّة العلم تقتضي منجّزيّة التكليف في الطرف.

ولا يمكن الأخذ باللازم من جريان البراءة في الطرف ليقال إنّ التكليف يكون في الطرف الآخر ، وما اشتغلت به الذمّة ليس في هذا وإنّما في ذاك ؛ لأنّ هذا اللازم ليس حجّة كما تقدّم في محلّه من عدم حجّيّة لوازم الأصول ، بخلاف لوازم الأمارة فإنّها حجّة يمكن الأخذ بها.

ص: 236

فإذا قامت الأمارة على نفي التكليف في هذا الطرف كان لازمها أنّه في الطرف الآخر وهذا اللازم حجّة ، ونتيجتها أنّ المعلوم بالإجمال في تلك الأطراف وما اشتغلت به الذمّة هناك وليس هنا ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة في تلك الأطراف فقط ؛ لأنّ الطرف الذي قامت عليه الأمارة قد خرج عن دائرة المعلوم بالإجمال تعبّدا.

والتحقيق : أنّ قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما ، إلا أنّ هذا مجرّد اختلاف في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ؛ لأنّ كلاّ منهما نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزوميّة عند الاختلاط في مقام الحفظ ، غير أنّ هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص ، وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة وافتراضها موافقة كاملة.

فلا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون الآخر.

والتحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز وبين الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من حيث المنشأ والملاك ، وإن كانت مختلفة في اللسان والصياغة.

وتوضيح ذلك : إنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع لعلاج حالة الشكّ والاشتباه واختلاط الملاكات الواقعيّة وعدم تمييزها ، وقلنا هناك : إنّ هذه الأحكام في عالم الجعل والثبوت لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة ؛ لأنّ الشارع تارة يلحظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة أهميّتهما معا.

فالأوّل هو الأصول المحضة كالبراءة والاحتياط ، والثاني هو الأمارات كالبيّنة وحجّيّة الظهور وخبر الثقة ، والثالث كالاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز.

إلا أنّه مع ذلك يتّفق الجميع في كونها أحكاما ظاهريّة مجعولة لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، سواء كان هذا الإبراز بلسان إبراز أهمّيّة المحتمل أو بلحاظ أهمّيّة الاحتمال أو بلحاظهما معا ، فإنّ اللحاظ مختلف إلا أنّ الملحوظ واحد ، إذ النتيجة العمليّة هي إمّا الترخيص وإطلاق العنان فيما إذا كانت ملاكات الترخيص والإباحة الواقعيّة هي الأهمّ ، وإمّا الإلزام والتجنّب والاحتياط إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ.

وحينئذ نقول : إنّ اللسان وإن كان مختلفا بين البراءة والفراغ حيث إنّ الأولى

ص: 237

أخذ في موضوعها الشكّ فقط ، بينما الثانية أخذ الشكّ مع الكشف ، إلا أنّهما معا نشئا من أهمّيّة ملاكات الترخيص الواقعيّة.

فالبراءة تفيد الترخيص ولكن بلسان نفي التكليف ابتداء ، والفراغ تفيد الترخيص لكن بلسان تحقّق المأمور به ووقوعه تعبّدا ، فإنّ هذا لازمه نفي التكليف عن وجوب الإعادة مثلا والاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، ولكن بعد فرض أنّ هذه الموافقة الاحتماليّة تكفي في المقام كالموافقة القطعيّة ، وإلا فبالدقّة لا يوجد موافقة قطعيّة حقيقيّة ؛ إذ يحتمل ألاّ يكون قد قرأ أو يحتمل أن تكون صلاته باطلة لنقصان ركوع أو وضوء مثلا.

فإذا اتّضح لنا ذلك لم يكن هناك معنى للقول بأنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز تجريان في بعض أطراف العلم الإجمالي كما تجريان في العلم التفصيلي ، بينما مثل أصالة البراءة والطهارة ونحوهما لا يجريان في بعض الأطراف.

بل التحقيق هو إمّا أن يلتزم بعدم جريان الجميع أو يلتزم بجريان الجميع.

والصحيح : هو عدم علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف له نفس الحيثيّات المصحّحة لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

والصحيح : عدم علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.

وبيان ذلك : أنّنا إذا قلنا بمقالة المشهور في حقيقة الحكم الظاهري ، وفي الحكم العقلي الأوّلي ، كان الصحيح ما ذهب إليه المحقّق العراقي من علّيّة العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة كحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا إذا قلنا بالمبنى المختار والصحيح في حقيقة الحكم الظاهري وفي حكم العقل بحقّ الطاعة ، كان الصحيح ما ذهب إليه المحقّق النائيني من اقتضاء العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك لأنّنا قلنا : إنّ حكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال وحرمة المخالفة والمعصية معلّق على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وهذا الترخيص قلنا : إنّه يستحيل في موارد العلم التفصيلي ؛ للتنافي ولعدم الجدّيّة ، وقلنا : إنّه ممكن عقلا في موارد العلم الإجمالي إلا أنّه غير ممكن عقلائيّا.

ص: 238

إلا أنّ الحاصل من الجميع أنّ العلم بذاته ونفسه ليس علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل هو مقتض لذلك ومعلّق على عدم المانع ، وهذا المانع مفقود في موارد العلم التفصيلي عقلا وفي موارد العلم الإجمالي عقلائيّا ، ولكنّه موجود في موارد سائر الشبهات الأخرى ؛ لأنّ الترخيص قد صدر فيها جزما.

وبهذا يظهر أنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف ممكن عقلا كما يمكن الترخيص في كلّ الأطراف أيضا ، كما تقدّم سابقا ، وورود الترخيص ومعقوليّته وإمكانه يتنافى مع القول بالعلّيّة ؛ لأنّ إمكان الترخيص على مسلك العلّيّة معناه إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول وهو ممتنع في نفسه ، فيكون إمكان الترخيص بنفسه دليلا على عدم صحّة مسلك العلّيّة.

وبهذا ينتهي الكلام في مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد يقال : إنّ أدلّة الأصول قاصرة عن إثبات جريان الأصل في بعض الأطراف ؛ لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في كلّ الأطراف باطل ؛ لأنّنا فرغنا من عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وجريانه في البعض المعيّن دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة دليل الأصل إلى كلّ من الطرفين على نحو واحد ، وجريانه في البعض المردّد غير معقول ؛ إذ لا معنى للمردّد.

وأمّا مقام الإثبات : فقد يقال : إنّ أدلّة الأصول الترخيصيّة كحديث الرفع مثلا الدالّ على البراءة ، لا تشمل موارد العلم الإجمالي ، بل هي مقيّدة بموارد الشكّ البدوي ، فلسانها قاصر عن الشمول لموارد الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّنا إذا أردنا إجراء الأصل الترخيصي كالبراءة والطهارة والحلّيّة والإباحة مثلا في بعض أطراف العلم الإجمالي ، فهذا البعض ما ذا يراد به؟

فإن أريد بالبعض الموجود ضمن الكلّ أي أنّنا نجري الأصل الترخيصي في البعض ضمن جريانه أيضا في البعض الآخر فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ النتيجة هي جريان الأصل الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي وهو مستحيل عقلا ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال كما تقدّم.

وإن أريد بالبعض البعض المعيّن أي هذا الطرف بحدّه الشخصي المعيّن دون ذاك

ص: 239

فهو باطل أيضا ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، حيث إنّ نسبة الأصل الترخيصي إلى الطرفين على حدّ واحد ؛ لأنّ كلاّ منهما مورد لجريان الأصل في نفسه.

وإن أريد بالبعض البعض المردّد أي أحد الطرفين فهذا البعض المردّد إن أريد به مفهوم البعض المردّد فهو مفهوم كلّي انتزاعي منتزع من الطرفين وعبارة أخرى عن الجامع ، وإن أريد به واقع المردّد ففي الخارج لا يوجد فرد بهذا العنوان ؛ لأنّ الفرد في الخارج موجود بحدّه الشخصي.

وبهذا ظهر أنّ أدلّة الأصول في مقام الإثبات لا تشمل بعض الأطراف.

وبكلمة أخرى : أنّه بعد العلم بعدم جريان الأصل في كلّ الأطراف في وقت واحد ، يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكلّ طرف وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.

وبتعبير آخر : أنّنا بعد أن فرغنا عن عدم إمكان جريان الأصل الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي على مسلك المشهور ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة.

فإذا أردنا إجراء الأصل في بعض الأطراف دون البعض الآخر سوف يقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل الترخيصي لهذا الطرف مع إطلاق دليل الأصل للطرف الآخر ؛ لأنّ المفروض أنّ دليل الأصل يشمل بإطلاقه كلّ الأطراف ، فالأخذ بإطلاقه في هذا الطرف دون ذاك معناه تقديم وترجيح إطلاقه في هذا على ذاك.

أو بعد حصول التعارض فالقاعدة هي التساقط ، إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر ؛ لكونهما معا مشمولين لإطلاق دليل الأصل ، وبهذا يكون المحذور إثباتيّا فقط ؛ لأنّ جريان الأصل ممكن عقلا إلا أنّ دليله قاصر عن إجرائه في بعض أطراف العلم الإجمالي.

وهناك اعتراض مشهور يوجّه إلى هذا البرهان وحاصله : أنّ المحذور الناجم عن جريان الأصول في كلّ الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وهذا المحذور إنّما ينشأ من إجراء الأصل في كلّ من الطرفين مطلقا ، أي سواء ارتكب المكلّف الطرف الآخر أو اجتنبه.

فإذا ألغينا إطلاق الأصل في كلّ منهما لحالة ارتكاب الآخر انتج إثبات ترخيصين مشروطين ، وكلّ منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ص: 240

ويعني ذلك أنّ المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كلّ طرف ، ولا يتوقّف دفعه على إلغاء الأصل رأسا. ولا شكّ في أنّ رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز إلا لضرورة ، والضرورة تقدّر بقدرها ، فلما ذا لا نجري الأصل في كلّ من الطرفين ولكن مقيّدا بترك الآخر؟

ثمّ إنّ هناك اعتراضا مشهورا وجّهه المحقّق العراقي إلى هذا البرهان ، وحاصله أن يقال : إنّنا إذا قلنا بمسلك الاقتضاء كانت منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة معلّقة على جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها يستلزم الوقوع في المخالفة القطعيّة المحرّمة قطعا ، فلا بدّ من رفع اليد عنها لئلاّ يلزم المحذور ، فيجوز رفع اليد عن إجراء الأصول في تمام الأطراف.

ثمّ بعد ذلك يقال : إنّ جريان الأصول في البعض دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، أو يقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل لهذا الطرف مع إطلاقه لسائر الأطراف ، فيؤول الأمر إلى التساقط ، وينتج عدم جريان الأصول في بعض الأطراف.

إلا أنّ هذا غير صحيح ؛ وذلك لأنّ دليل الأصل الترخيصي كحديث الرفع مثلا له نحوان من الإطلاق :

الأوّل : الإطلاق الإفرادي ، أي شموله لكلّ فرد فرد ، ولكلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي في نفسه.

الثاني : الإطلاق الأحوالي ، أي شموله لهذا الفرد والطرف في كلّ الحالات سواء شمل الطرف والفرد الآخر أم لا ، وسواء ارتكب الطرف الآخر أم لا.

وعليه ، فالمحذور إنّما يلزم فيما إذا كان الأصل شاملا لكلّ فرد في جميع حالاته أي سواء ارتكب الآخر أم لا ؛ لأنّه إذا كان شاملا للفرد مطلقا كان لازمه أنّ كلّ فرد فيه أصل مؤمّن في نفسه ، وثابت حتّى مع جريانه في الفرد الآخر فيلزم منه المحذور المذكور.

وبتعبير آخر : أنّ محذور الوقوع في المخالفة نشأ من الأخذ بالإطلاق الأحوالي لدليل الأصل ، والذي يعني أنّه مطلق وفي جميع الحالات ؛ والتي منها حالة الترخيص وارتكاب الآخر.

وأمّا إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأحوالي ، وقلنا : إنّ دليل الأصل وإن كان يشمل

ص: 241

كلّ طرف وفرد في نفسه أي بلحاظ الإطلاق الأفرادي تامّ ، إلا أنّ شموله لهذا الفرد مقيّد بأن لا يرتكب الفرد الآخر وكذا العكس.

فيكون هناك ترخيصان مشروطان ، كلّ واحد منهما مشروط بعدم ارتكاب الآخر ، فيجري الأصل في كلّ فرد في نفسه لكن لا مطلقا وفي جميع الحالات وإنّما في حالة عدم ارتكاب الفرد الآخر ، أي أنّه إذا لم يجر الأصل في هذا فله إجراؤه في ذاك والعكس ، وهذا الترخيص لا يؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه لن يتحقّق الأخذ بالأصل في كلا الطرفين حيث إنّ المفروض كون كلّ منهما مشروطا بعدم الآخر ، فإذا ارتكب أحدهما ارتفع موضوع الآخر فلا يجري الأصل فيه ؛ لعدم تحقّق شرطه وقيده الموجب لانتفاء الموضوع.

بعد ذلك نعود ونقول : إنّ محذور الوقوع في الترخيص في المخالفة القطعيّة ما دام يرتفع برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل كما تقدّم ، فلما ذا يقال بوجوب رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي أيضا أي عدم شمول دليل الأصل لكلّ فرد فرد بنفسه؟

مع أنّ المحذور كما يندفع برفع اليد عن دليل الأصل رأسا ( أي رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي فيه ) ، كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي ، فيكون كلّ واحد من الطرفين مشمولا لدليل الأصل في بعض الحالات لا في جميع الحالات كما ذكرنا.

وحيث إنّ الإطلاق الأفرادي أشدّ مئونة من الإطلاق الأحوالي فيكون رفع اليد عنه بحاجة إلى عناية زائدة ، وهي غير موجودة في المقام ، فإذا دار الأمر بينهما كان رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن وذلك تطبيقا للقاعدة القائلة ب- ( أنّ الضرورات تقدّر بقدرها ).

وحيث إنّ الضرورة في المقام وهي الترخيص في المخالفة القطعيّة تندفع بالإطلاق الأحوالي الأخفّ مئونة فيقتصر في دفعها عليه ؛ لأنّ الأكثر من ذلك فيه مئونة زائدة وعناية أشدّ تحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود.

وبهذا يظهر أنّ هذا البرهان المدّعي لقصور أدلّة الأصول الترخيصيّة عن الشمول لبعض الأطراف غير تامّ ؛ لأنّه بالإمكان تصحيح شمولها لبعض الأطراف دون الوقوع في المخالفة القطعيّة أو الترجيح بلا مرجّح.

ص: 242

ومنه يتّضح أنّه بناء على مسلك الاقتضاء لا يكون العلم الإجمالي موجبا لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ما دامت منجّزيّته لذلك معلّقة على تعارض الأصول وتساقطها في جميع الأطراف ، وعلى كون الأخذ بالبعض ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّه يعقل الشمول لبعض الأطراف من دون محذور.

وهذا يعتبر نقضا ومنبّها أيضا على بطلان الاقتضاء وعلى صحّة مسلك العلّيّة ؛ لأنّه على الأوّل لا تجب الموافقة القطعيّة بينما على الثاني تكون واجبة ، والمفروض أنّ الوجدان والعرف يقضيان بوجوبها كما هو مسلّم حتّى عند القائلين بالاقتضاء أيضا.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ (1) من أنّ الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وإن كان لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، ولكنّه يؤدّي إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معا ، وهو مستحيل.

الجواب الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي في الدراسات ، وحاصله : أنّ المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال على نحوين :

الأوّل : المخالفة القطعيّة العمليّة ، من قبيل ارتكاب كلا الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما ، فإن ارتكابهما معا مخالفة قطعيّة عمليّة ، ولذلك لا تجري الأصول الترخيصيّة فيهما معا ؛ لأنّها تؤدّي إلى المخالفة العمليّة.

الثاني : المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، وهي الترخيص القطعي في ارتكاب كلا الإناءين ، وذلك بأن يرخّص الشارع في ارتكابهما سواء ارتكبهما المكلّف أم لا ، فإنّ نفس صدور مثل هذا الترخيص مستحيل ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة والاعتقاد بذلك مستحيل كالسابق ؛ لأنّ الترخيص في نفسه غير معقول سواء أدّى إلى المخالفة أم لا.

بعد أن اتّضح ذلك نقول : إنّ ما ذكره المحقّق العراقي من شمول الأصول الترخيصيّة لبعض الأطراف بنحو يكون شمولها لكلّ طرف في نفسه مشروطا ومقيّدا بترك الآخر وعدم ارتكابه ، إنّما يرفع المخالفة القطعيّة العمليّة فقط ؛ وذلك لأنّه

ص: 243


1- مصباح الأصول 2 : 355.

إذا كان كلّ طرف مشروطا بترك ارتكاب الآخر فإذا ارتكب أحدهما ارتفع موضوع الأصل في الطرف الآخر ؛ لأنّ شرطه منتف ، فلا يجري الأصل في الطرف الآخر ، ولذلك لا تحصل المخالفة في مقام العمل ؛ لأنّ النتيجة هي ارتكاب أحدهما فقط لا كليهما.

إلا أنّه لا يرفع المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، لأنّنا يمكننا أن نفترض أنّ المكلّف قد ترك كلا الإناءين ولم يرتكب شيئا منهما ، ففي هذه الحالة يتحقّق كلا الشرطين في الطرفين.

أمّا الطرف الأوّل فتجري فيه البراءة ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم ارتكاب الآخر.

وأمّا الطرف الثاني فتجري فيه أيضا ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم ارتكاب الأوّل ، وهذا نتيجته أن يعتقد المكلّف بالترخيص في كلا الطرفين ويلتزم بالترخيص فيهما ، وهذا غير معقول في نفسه ؛ لأنّ صدور الترخيص في كلا الطرفين محال في نفسه وإن لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة ، إذ يستحيل صدور مثل هذا الترخيص من الشارع ؛ لأنّه يتنافى مع الاعتقاد بنجاسة أحدهما.

وبهذا ظهر أنّ المحذور لا يزال على حاله ، ولا ينفع الجواب المذكور من المحقّق العراقي لدفعه كلّيّا وإن دفعه جزئيّا.

ويرد عليه : أنّ الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا ، وإنّما يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعي ، والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه ، فلم يبق إلا التنافي بلحاظ عالم الامتثال.

وقد فرضنا هنا أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه ، فلم يبق هناك تناف بين الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة والتكليف المعلوم بالإجمال في أي مرحلة من المراحل.

وهذا الجواب غير تامّ ؛ إذ لا معنى لكون الترخيص القطعي في المخالفة في نفسه مستحيلا ، وإنّما يكون الترخيص القطعي في المخالفة مستحيلا إذا أدّى إلى التنافي بينه وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، وهذا التنافي غير موجود في المقام.

وتوضيح ذلك : أنّ التنافي بين الحكم الظاهري وهو هنا ( إجراء أصالة البراءة في

ص: 244

كلّ من الطرفين بنحو مشروط ) وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وهو هنا ( نجاسة أحد الإناءين مثلا ) إنّما يتصوّر في ثلاث مراحل :

الأولى : أن يكون التنافي بلحاظ نفس جعل الحكمين الترخيصي الظاهري والإلزامي الواقعي على مورد واحد ، فإنّ الترخيص والإلزام من الأحكام التكليفيّة المتضادّة في نفسها ، فيستحيل اجتماعهما معا على مورد واحد.

الثانية : أن يكون التنافي بلحاظ المبادئ والملاكات التي ينشأ منها الحكمين الترخيصي والإلزامي ، فإنّ الترخيص ينشأ من ملاكات واقعيّة في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، أو من خلوّ الفعل من مصلحة ملزمة أو من مفسدة ملزمة.

بينما الإلزام ينشأ من ملاكات واقعيّة في وجود مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة ، ولا يمكن أن يجتمع في شيء واحد مبادئ وملاكات الترخيص والإلزام ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع المصلحة أو المفسدة مع التسهيل وإطلاق العنان في وقت واحد ، وهو مستحيل.

الثالثة : أن يكون التنافي بين الترخيص والإلزام بلحاظ عالم المتطلّبات والامتثال ، فإنّ فعليّة الترخيص معناها أن يكون المكلّف مطلق العنان إن شاء فعل وإن شاء ترك ، بينما فعليّة الإلزام معناها لزوم الإتيان بالفعل أو لزوم تركه ، ولذلك لا يمكن اجتماعهما معا للتنافي بين الإلزام في الفعل أو الترك وبين الترخيص في الفعل والترك ؛ إذ لا يمكن أن يكون شيء واحد يجوز فعله وتركه ويجب فعله أو تركه في آن واحد.

وفي مقامنا لا يوجد تناف بين الحكمين الظاهري والواقعي في شيء من هذه المراحل الثلاث.

أمّا المرحلة الأولى : فلا تناف بين نفس جعل الحكم الظاهري وبين نفس جعل الحكم الواقعي ؛ لأنّ الجعل على رأي السيّد الخوئي عبارة عن الاعتبار وهو سهل المئونة ، إذ لا تناف بين الترخيص والإلزام ما داما لفظيّين اعتباريّين خاليين عن أي معنى ومضمون.

وأمّا المرحلة الثانية : فلا تناف في المبادئ والملاكات بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي ؛ لأنّ المتعلّق لهذه المبادئ والملاكات مختلف بينهما كما هو

ص: 245

مسلك السيّد الخوئي ؛ لأنّ مبادئ الحكم الواقعي في المتعلّق بينما مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله وتشريعه ، فالجهة مختلفة فلم تتّحد المبادئ المتنافية في مصبّ واحد.

وأما المرحلة الثالثة : فالتنافي بين الحكم الظاهري الترخيصي والحكم الواقعي الإلزامي في عالم الامتثال والمتطلّبات في الخارج ، إنّما يكون فيما لو كان الحكم الظاهري الترخيصي جاريا في كلّ طرف من الأطراف بنحو مطلق غير مشروط.

فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فهنا علم إجمالي بوجود نجاسة واقعيّة في أحدهما.

فإذا قلنا : إنّ أصالة البراءة تجري في كلّ من الإناءين مطلقا فهذا يتنافى مع وجود النجاسة الواقعيّة في مقام العمل ؛ لأنّ الترخيص في الطرفين معا لازمه جواز الارتكاب لأي الإناءين أراد ، بينما وجود النجاسة لازمها الامتناع عن أحدهما على الأقلّ.

وأمّا إذا قلنا : إنّ جريان الحكم الظاهري كالبراءة في الطرفين مشروط بأنّه إذا أجراها في هذا ألاّ يجريها في ذاك ، فإذا ارتكب أحدهما يشترط ألاّ يرتكب الآخر ، فهنا لن يحصل التنافي في مقام الامتثال ؛ لأنّه إذا أجرى البراءة في هذا الطرف وارتكبه سوف يرتفع موضوعها بلحاظ الطرف الآخر ؛ لارتفاع شرطه وهو ألاّ يرتكب الأوّل والحال أنّه ارتكبه.

والحاصل : أنّه لن يرتكب إلا طرفا واحدا وهذا لا يتنافى مع النجاسة الواقعيّة ؛ لأنّها موجودة في أحدهما لا فيهما معا ، أي أنّها تمنع عن أحدهما فقط لا عنهما معا ، وهذا حاصل.

هذا كلّه بناء على أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة من باب الاقتضاء لا العلّيّة ، أي أنّه حكم معلّق على عدم ورود الترخيص ، فإذا ورد الترخيص ارتفع موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ، وفي موردنا يكون إجراء البراءة في الطرفين كلّ منهما مشروط بترك الآخر من قبيل ورود الترخيص الرافع لحكم العقل بوجوب الموافقة.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد تناف بين الحكم الظاهري المفروض في مقامنا وهو

ص: 246

الترخيص في الطرفين كلّ منهما مشروط بعدم الآخر وبين الإلزام الواقعي في جميع مراحل الحكم : الجعل والمبادئ والامتثال (1).

هذا على أنّ بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا يمكن أن تصبح كلّها فعليّة في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ، وذلك بأن تفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثيّة ، ويفترض أنّ الترخيص في كلّ طرف مقيّد بترك أحد بديليه وارتكاب الآخر.

ثمّ إنّنا لو سلّمنا بأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة مستحيلة في نفسها سواء حصل منها مخالفة عمليّة واقعيّة أم لا ، فهذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الترخيص المشروط بها على هذا النحو.

فإذا كان لدينا علم إجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر وكان تصوير البراءة على أنّه يجوز ترك الظهر إذا لم يترك الجمعة والعكس ، فإنّه إذا صلّى الصلاتين فيكون شرط جريان البراءة في كلّ منهما محقّق ؛ إذ شرط جريان البراءة في صلاة الظهر ألاّ يترك الجمعة ، والمفروض أنّه لم يتركها ؛ لأنّه صلاّها فيكون مرخّصا في الظهر ، وشرط جريان البراءة في الجمعة ألاّ يترك الظهر والمفروض أنّه صلاّها فيكون مرخّصا في الجمعة.

وهذا يعني أنّه إذا صلاّهما معا يكون مرخّصا في تركهما وغير واجبين عليه ، وهذا تناقض بلحاظ الاعتقاد لا العمل.

ص: 247


1- فلا يبقى وجه لما ذكره السيّد الخوئي إلا القول بأن نفس الترخيص القطعي في المخالفة مستحيل صدوره ، سواء أدّى إلى المخالفة الواقعيّة العمليّة أم لا ، وهذا الوجه لا محصّل له إذ لا معنى لافتراض الاستحالة في الحكم الترخيصي في نفسه ، وإن لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة الواقعيّة. بل إنّ هذا الفرض ممنوع في نفسه ؛ لأنّ المكلّف إذا علم بصدور الترخيص القطعي في المخالفة كان مستحيلا ، وأمّا إذا لم يعلم به فلا يكون صدوره مستحيلا ، إذ مع عدم علمه به لن يقطع بالترخيص القطعي ، فهذا من تعليق الاستحالة على فرض العلم مع أنّ الاستحالة من الأمور الواقعيّة. فإنّ النقيضين مثلا لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما سواء علم المكلّف بذلك أم لا ، ولا مدخليّة لعلمه أو جهله في ثبوتها أو ارتفاعها.

وأمّا إذا كان تصوير الترخيص المشروط بنحو آخر فلا يلزم منه لا المخالفة العمليّة ولا الترخيص القطعي في المخالفة.

وهذا يتمّ فيما لو كانت أطراف العلم الإجمالي أكثر من اثنين ، فلو فرضنا العلم إجمالا بنجاسة أحد هذه الإناءات الثلاثة أمكن إجراء البراءة في كلّ طرف ، ولكن مشروط بترك الثاني وفعل الثالث لا ترك الثاني والثالث معا ، وحينئذ لن تتحقّق لا المخالفة العمليّة ولا المخالفة القطعيّة الاعتقاديّة.

أمّا أنّه لا تتحقّق المخالفة العمليّة فلأنّه إذا ارتكب اثنين فإنّه يبطل جريان الأصل في الثالث ؛ لأنّ شرطه وهو ترك الثاني وفعل الأوّل غير محقّق ، ولذلك لن تتحقّق المخالفة العمليّة بارتكاب الثلاثة ، بل إمّا أن يرتكب اثنين أو واحدا فقط ؛ لأنّ البراءة تجري في الأوّل مع تركه للثاني وفعله للثالث ، وتجري في الثاني ؛ لأنّه فعل الثالث وترك الأوّل ، ولكنّها لا تجري في الثالث ؛ لأنّه قد فعل الأوّل والثاني ولم يترك شيئا منهما.

وأمّا أنّه لا تتحقّق المخالفة في الالتزام والاعتقاد فلأنّه لو ترك الجميع فلن يتحقّق شرط جريان البراءة في كلّ من الأطراف ؛ لأنّ الشرط مركّب من فعل وترك ، وكذا لو ارتكب كلّ الأطراف فلا تجري البراءة في شيء منها لعدم تحقّق الشرط ، وهذا يعني أنّ القطع والترخيص في كلّ الأطراف لن يتحقّق أبدا فلا محذور إذن.

الثاني : ما ذكره السيّد الأستاذ أيضا ، من أنّه إذا أريد إجراء الأصل مقيّدا في كلّ طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كلّ طرف مقيّدا بترك الآخر ، أو بأن يكون قبل الآخر أو بأن يكون بعد الآخر ، فأي مرجّح لتقييد على تقييد؟

الجواب الثاني : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا من أنّ التقييد الذي ذكره المحقّق العراقي لا موجب له ، إذ كما يمكننا رفع اليد عن المخالفة القطعيّة العمليّة بما ذكره من تقييد ، أي تقييد جريان البراءة في أحد الطرفين مشروطا بترك الطرف الآخر ، كذلك يمكننا ذلك بنحوين آخرين :

أحدهما : أن يقال : إنّ دليل البراءة مقيّد بأن يكون جريانها في كلّ طرف قبل ارتكاب الطرف الآخر ، فهنا إذا جرت البراءة في الطرف الأوّل لا تجري في الطرف

ص: 248

الثاني ؛ لأنّ جريانها في الطرف الأوّل كان الشرط فيه متحقّقا ؛ لأنّه قبل ارتكاب الطرف الثاني.

بينما جريانها في الطرف الثاني لا يكون الشرط فيه متحقّقا ؛ لأنّه لم يكن قبل الأوّل بل بعده ، ولذلك لن تحصل المخالفة القطعيّة العمليّة ، وهذا يفرض فيما إذا ارتكبهما معا فيكون الأوّل جائزا والثاني محرّما.

والثاني : أن يكون دليل البراءة مقيّدا بأن يكون جريانها في هذا الطرف بعد ارتكاب الآخر ، فهنا لا تجري في الأوّل بينما تجري في الثاني عكس الصورة السابقة.

أمّا عدم جريانها في الأوّل ؛ لأنّه ارتكبه قبل الثاني لا بعده ، والشرط أن يكون ارتكابه بعد الآخر لا قبله ، وأمّا الثاني فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه ارتكبه بعد الأوّل فشرطها فيه متحقّق ، وهذا يكون فيما لو ارتكب كلا الإناءين فيكون الأوّل منهما محرّما دون الثاني ، فلا مخالفة قطعيّة عمليّة.

وحينئذ نقول : إنّه ما دام يمكن رفع اليد عن المحذور وهو الترخيص في المخالفة القطعيّة ممكنا بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، فلما ذا يعيّن الوجه الذي ذكره المحقّق العراقي دون هذين الوجهين؟

وليس هذا إلا ترجيحا له من دون مرجّح وهو باطل ، وحيث لا ترجيح لإحدى هذه الحالات على الأخرى يحكم بتعارض الأحوال وتساقطها ، وبالتالي لا يبقى إلا رفع اليد عن أصل جريان البراءة في الطرفين مطلقا.

ويرد عليه : أنّ التقييد إنّما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل ، وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر ، وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه.

وهذا الجواب غير صحيح ؛ لأنّ التقييد الذي ذكره المحقّق العراقي له مرجّح على التقييدين اللذين ذكرهما السيّد الخوئي ، وهذا المرجّح هو أنّ التقييد بترك ارتكاب الآخر لا معارض له ، بينما التقييد بأن يكون قبل الآخر أو بعد الآخر له معارض.

والوجه في ذلك : أنّ دليل البراءة في كلّ طرف له إطلاقات أحواليّة ثلاثة :

1 - أنّ دليل البراءة يجري في هذا الطرف سواء ارتكب الطرف الآخر أم لا.

ص: 249

2 - أنّ دليل البراءة يجري في الطرف سواء كان ارتكابه قبل الآخر أم لا.

3 - أنّ دليل البراءة يجري في الطرف سواء كان ارتكابه بعد الآخر أم لا.

وحينئذ نقول : إنّ الإطلاق الأحوالي الأوّل إذا رفعنا اليد عنه وقلنا : إنّ جريان الأصل في هذا الطرف مقيّد بعدم ارتكاب الآخر ، فلن يكون لهذا التقييد معارض ؛ لأنّ الطرف الآخر مقيّد أيضا بعدم ارتكاب الطرف الأوّل ؛ لأنّه لو كان الطرف الثاني مطلقا لحالة ارتكاب الطرف الأوّل أيضا لزم منه الترخيص في الطرفين معا ، وهو ممتنع لاستلزامه الوقوع في المخالفة القطعيّة العمليّة للمعلوم بالإجمال.

وهذا يعني أنّ دليل البراءة لا إطلاق له أصلا لحالة ارتكاب كلا الطرفين للمحذور العقلي المذكور المانع من انعقاد الأصل.

وبهذا يتّضح أنّ جريان الأصل في كلّ من الطرفين مقيّد بترك ارتكاب الآخر تقييد بلا مانع عقلا وبلا معارض ؛ لأنّه يمكن الأخذ بالتقييد المذكور في كلا الطرفين من دون معارض ؛ لأنّه إذا جرى في أحدها لا يجري في الآخر لارتفاع موضوعه ، وهذا من الجمع بين الدليلين كما سيأتي في باب التعارض.

وأمّا الإطلاق الأحوالي الثاني وهو شمول دليل البراءة لحالة ارتكاب الطرف قبل الآخر أم لا ، فرفع اليد عنه معناه تقييد جريان البراءة في الطرف حالة كون ارتكابه قبل الآخر ، إلا أنّ هذا التقييد يتعارض مع الإطلاق الأحوالي الثالث ، وهو شمول دليل البراءة للطرف سواء كان بعد ارتكاب الطرف الأوّل أم لا.

وهكذا الكلام بالنسبة للإطلاق الأحوالي الثالث فإنّه يتعارض مع الإطلاق الأحوالي الثاني.

وبهذا يظهر أنّ التقييد بما ذكر له معارض.

وعليه ، فإذا دار الأمر بين التقييد الذي لا معارض له وبين التقييد الذي له معارض تعيّن الأوّل دون الثاني ؛ لأنّ التقييد الثاني سوف يسقط بالمعارضة فلا فائدة منه ، بخلاف التقييد الأوّل فيكون تقديمه ترجيحا مع وجود المرجّح.

الثالث : ما ذكره أيضا من أنّ لدليل الأصل إطلاقا أفراديّا لهذا الطرف ولذاك ، وإطلاقا أحواليّا في كلّ من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين معا كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق

ص: 250

الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصّة ، فأي مرجّح لأحد الدفعين على الآخر؟

الجواب الثالث : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا : من أنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي في كلّ من الطرفين كما هو مدّعى المحقّق العراقي ليس بأولى من رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحدهما فقط ، فإنّ المحذور كما يندفع بما ذكره كذلك يندفع بهذا المقدار ، فيكون دليل البراءة مثلا جاريا في أحد الطرفين في جميع حالاته ، بينما لا يجري في الطرف كذلك ، والنتيجة جواز ارتكاب أحدهما فقط ؛ لأنّ الآخر لا يشمله إطلاق دليل الأصل.

وتوضيحه : إنّ لدليل الأصل إطلاقين أحدهما إطلاق أفرادي والآخر إطلاق أحوالي.

والإطلاق الأفرادي معناه الشمول لكلّ فرد بخصوصه ، والأحوالي معناه الشمول لكلّ فرد في كل حالاته.

ومحذور المخالفة القطعيّة كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأفراديّين ، وكما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين ، كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين فقط ، بأن يقال : إنّ دليل الأصل لا يشمل أحد الطرفين في جميع حالاته أي لا يجري فيه مطلقا سواء ترك الآخر أم لا وسواء كان قبله أم بعده ، فأي مرجّح لأحدهما على الآخر؟

وما دام لا مرجّح فيلزم تعارض هذه الإطلاقات ؛ وبالتالي تساقطها ، والنتيجة عدم جريان الأصل رأسا وهو المطلوب.

ويرد عليه : أنّ المرجّح هو أنّ ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب الدفع الأوّل للمحذور ليس له معارض أصلا ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الآخر الذي يقترحه له معارض.

والجواب : إنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي في كلّ من الطرفين كما ذكره المحقّق العراقي معناه أن يكون دليل الأصل شاملا لكلّ فرد بشرط ترك ارتكاب الآخر ، وهذا المقدار لا يوجد له معارض ؛ لأنّ الأصل لن يجري في الطرف الثاني حين جريانه في الطرف الأوّل الذي ارتكبه ؛ لعدم تحقّق شرط جريانها ، فيجري الأصل في أحدهما من دون معارض.

ص: 251

وأمّا رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين فإن كان المراد به أحدهما المعيّن لزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة الأصل إلى الطرفين على حدّ واحد ، وكذلك نسبة إطلاق دليل الأصل إليهما فإنّها على حدّ واحد أيضا.

وإن كان المراد به أحدهما على نحو التخيير فيكون إبقاء الإطلاقين الأفرادي والأحوالي في هذا الطرف معارضا بإبقائهما في ذاك الطرف ، أي أنّ ما يبقى بعد التقييد له معارض.

وحينئذ يأتي الكلام السابق من أنّ التقييد الذي ليس له معارض أولى من التقييد الذي له معارض ، فيكون ترجيحه بموجب وبمرجح (1).

الرابع : أنّ الحكم الظاهري يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي ، والترخيص المشروط ليس كذلك ؛ لأنّ ما هو ثابت في الواقع : إمّا الحرمة المطلقة وإمّا الترخيص المطلق.

الجواب الرابع : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا : من أنّ الترخيص المشروط يستحيل صدوره من الشارع ؛ وذلك لأنّ الترخيص المفروض هنا حكم ظاهري لا واقعي.

والحكم الظاهري يشترط في صدوره من الشارع أن يكون من المحتمل موافقته للواقع ، إذ لو كان محرز المخالفة للواقع فلا معنى لجعله وتشريعه ؛ لأنّه يكون من باب تشريع المخالفة للواقع وهو محال صدوره من الشارع الحكيم.

ص: 252


1- وثانيا : أنّ التقييد يجب أن يتحدّد بمقدار الضرورة والمحذور ، والمحذور نشأ من الإطلاق الأحوالي في الطرفين لا من الإطلاق الأفرادي ، ولذلك لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لا فيهما ولا في أحدهما ؛ لأنّه بلا مبرّر. وثالثا : أن الإطلاق الأحوالي ساقط على كلّ حال ، أي سواء رفعنا اليد عن الإطلاق الأفرادي أم لا ؛ لأنّه إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأفرادي فيهما أو في أحدهما فالإطلاق الأحوالي ساقط لا محالة ؛ لانتفاء موضوعه. وإذا أبقينا الإطلاق الأفرادي في كلّ منهما فالإطلاق الأحوالي ساقط أيضا ؛ لأنّ بقاءه يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة والترخيص في الطرفين الممنوع عقلا على مسلك المشهور ، فلا معنى لفرض سقوط الإطلاق الأفرادي أيضا لا فيهما ولا في أحدهما. أمّا الأوّل فلأنّه عناية زائدة عن مقدار الضرورة كما تقدّم سابقا ، وأمّا الثاني فلأنّه ترجيح لسقوطه في أحدهما دون الآخر من دون مرجّح كما تقدّم آنفا.

وعليه ، فإذا كان هذا الشرط موجودا كان الترخيص المشروط معقولا في نفسه وإلا فهو محال.

وفي مقامنا إذا قلنا بأنّ البراءة تجري في كلّ من الطرفين بشرط ترك ارتكاب الآخر ، فهذا يعني صدور حكم ظاهري ترخيصي مشروط وليس مطلقا ، فلا بدّ أن يكون هذا الترخيص المشروط محتمل المطابقة للواقع لكي يكون صدوره ممكنا ، والحال أنّ الواقع لا يخلو من أمرين لا ثالث لهما وهما :

إمّا أن يكون الإناء الأوّل طاهرا مطلقا والآخر نجسا مطلقا.

وإمّا أن يكون الأوّل نجسا مطلقا والثاني طاهرا مطلقا.

والوجه في ذلك : أنّنا نعلم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر ، فالنجس نجس مطلقا سواء ارتكبه مع الآخر أو قبله أو بعده ، أم لم يرتكب الآخر أصلا ، والطاهر طاهر مطلقا كذلك.

ولا يوجد لدينا طاهر مشروط ونجس مشروط في الواقع ، وهذا معناه أنّ الترخيص المشروط يحرز مخالفته للواقع ولا يحتمل موافقته أصلا ، فيكون تشريعه ممتنعا.

ويرد عليه : أنّه لا برهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط فيه أمران : أحدهما أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا ، والآخر أن يكون الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه.

وجوابه : أنّه لا دليل على هذا الشرط في جعل الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط في الحكم الظاهري أمران :

الأوّل : أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا غير معلوم ، أي أنّ مورد جريان الحكم الظاهري هو الشكّ في الواقع ، وهذا الشرط محقّق في مقامنا ، فإنّنا لا نعلم النجس الواقعي في هذا الطرف أو في ذاك بخصوصيّتهما ، وإنّما نعلم إجمالا بوجود النجس فيهما من دون تعيين ، فيكون كلّ طرف في نفسه موردا للحكم الظاهري ؛ لأنّه مشكوك ولا يعلم حكمه الواقعي من الطهارة أو النجاسة.

الثاني : أن يكون الحكم الظاهري صالحا للتنجيز أو التعذير ، بمعنى أنّ الحكم الظاهري لا بدّ أن يكون إمّا منجّزا وإمّا معذّرا ؛ لأنّ هذا هو مقتضى جعل الحجّيّة له ؛ لأنّه إمّا أن يبرز الترخيص أو الإلزام ، وهذا الشرط محفوظ ؛ لأنّنا إذا قلنا بأنّ البراءة

ص: 253

تشمل الطرفين ، كلّ منهما مشروط بترك ارتكاب الآخر ، فسوف يكون إجراء البراءة في أحدهما معذّرا وعدم جريانها في الآخر منجّزا له على أساس حكم العقل بذلك عند عدم وجود المؤمّن ، ولا دليل على اشتراط شيء آخر زائدا عمّا ذكر.

نعم ، إذا أحرز أنّ الحكم الظاهري مخالف للواقع فلا يؤخذ به من باب مخالفته للعلم المذكور لا من باب أنّه يشترط فيه الموافقة الاحتماليّة للواقع ، إذ مع مخالفته للعلم لا يكون منجّزا ولا معذّرا كما هو واضح.

الخامس : وهو التحقيق في الجواب ، وحاصله : أنّ مفاد دليل الترخيص الظاهري ومدلوله التصديقي هو إبراز عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي ، ومعنى افتراض ترخيصين مشروطين كذلك أنّ عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي في كلّ طرف منوط بترك الآخر ، وأنّه في حالة تركهما معا لا اهتمام له بالتحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا.

وكلّ هذا لا محصّل له ؛ لأنّ المعقول إنّما هو ثبوت مرتبة ناقصة من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ الاحتمالي على الواقع المعلوم بالإجمال.

واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما بإطلاق دليل الأصل لا يمكن إلا بالتأويل وإرجاعهما إلى الترخيص في الجامع أي في أحدهما.

وهذه العناية لا يفي بها إطلاق دليل الأصل.

الجواب الخامس : ما هو التحقيق والصحيح في الجواب عن اعتراض المحقّق العراقي ، وهذا الجواب يمكن تحليله وبيانه ضمن النقاط التالية :

الأولى : تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة مجعولة في مقام الشكّ والاشتباه وعدم تمييز الملاكات الواقعيّة ، فيكون الحكم الظاهري مبرّزا لما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة بمدلوله المطابقي ، وبمدلوله الالتزامي ينفي اهتمام المولى بغير هذه الملاكات.

فالترخيص الظاهري معناه أنّ المولى يهتمّ بملاكات الترخيص الواقعيّة ، ولا يهتمّ بملاكات الإلزام ، ثمّ إنّ درجة اهتمامه بالترخيص تختلف شدّة وضعفا أي أنّه يوجد مرتبتان من الترخيص :

1 - إحداهما المرتبة العليا من الترخيص وهي تقتضي الترخيص في كلّ الأطراف ،

ص: 254

وهذا الذي لازمه عدم التحفّظ على شيء من احتمالات الإلزام في كلّ طرف. وعليه ، فلا مانع عقلا من صدور الترخيص في كلّ الأطراف كما تقدّم سابقا.

2 - الثانية المرتبة الناقصة من الترخيص وهي الترخيص في بعض الأطراف دون البعض الآخر ، وهذا يعني الحفاظ على شيء من محتملات الإلزام في بعض الأطراف. وعليه ، فتكفي الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة دون وجوب الموافقة القطعيّة التي تعني أهمّيّة ملاكات الإلزام ، ودون جواز المخالفة القطعيّة التي تعني أهمّيّة ملاكات الترخيص بالمرتبة العليا لا الناقصة كما هو المفروض.

فإن كانت الدرجة العليا هي الأهمّ رخّص في المخالفة القطعيّة ولم يوجب الموافقة القطعيّة ، وإن كان الدرجة الناقصة هي الأهمّ رخّص في بعض الأطراف فقط ، فيحرّم المخالفة القطعيّة ولكنّه لا يوجب الموافقة القطعيّة بل يكتفي بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، وهذا يقتضي الترخيص بالجامع أي عنوان بعض الأطراف أو أحدها.

الثانية : أنّ افتراض ترخيصين مشروطين - كما هو مفاد اعتراض المحقّق العراقي - معناه أنّ المولى يهتمّ بملاكات الترخيص وأنّه لا يهتمّ بملاكات الإلزام ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ مرتبة الترخيص التي يهتمّ بها المولى هي تلك المرتبة التي لا تتحقّق إلا بترك الآخر ، فالمولى إنّما يكون له اهتمام بالترخيص وعدم اهتمام بالإلزام فيما إذا ارتكب المكلّف أحدهما وترك الآخر.

ولازم ذلك : أنّه في حالة تركهما معا لا يكون للمولى اهتمام في التحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا ؛ لأنّه سوف يتحقّق كلا الشرطين للترخيصين المشروطين.

الثالثة : أنّ الترخيصين المشروطين لا يحقّقان المرتبة الناقصة من الترخيص ، بل المرتبة العليا من الترخيص ؛ لأنّه في حالة تركهما يتحقّق شرطهما فيكون مرخّصا في كلا الإناءين ، مع أنّ المطلوب هو ثبوت المرتبة الناقصة من الترخيص ومن الاهتمام المولوي التي تجتمع مع الحفاظ على الغرض اللزومي ولو احتمالا ؛ لأنّ المرتبة الناقصة كما قلنا معناها الموافقة الاحتماليّة والمخالفة الاحتماليّة ، والتي تقتضي عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع حرمة المخالفة القطعيّة للواقع المعلوم بالإجمال.

ص: 255

والحاصل إنّه في مقام التصوّر وعالم الإنشاء والجعل والتشريع يمكن تصوّر الاهتمام المولوي بأحد نحوين :

أحدهما : المرتبة العليا من الترخيص والتي تستدعي جواز المخالفة القطعيّة وهذه قلنا : إنّها معقولة ثبوتا إلا أنّها مخالفة للمرتكز العقلائي القاضي بعدم وصول الأغراض الترخيصيّة إلى هذه المرتبة من الأهمّيّة في موارد العلم الإجمالي.

والثاني : هو المرتبة الناقصة من الترخيص التي تستدعي عدم وجوب الموافقة القطعيّة والتي لازمها المحافظة الاحتماليّة على الأغراض الواقعيّة ، وهذه معقولة ثبوتا وإثباتا.

الرابعة : أنّ الدليل على استفادة المرتبة الناقصة من الترخيص لا يكون إلا بإصدار التخيير من الشارع ، وهذا التخيير لا يكون متعلّقا إلا بالجامع لا بالترخيص المشروط ؛ وذلك لأنّ الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما من خلال إطلاق دليل البراءة مثلا لا يفيان بهذه المرتبة كما تقدّم في النقطة الثالثة.

مضافا إلى أنّ الاهتمام المولوي في الواقع إمّا أن يكون بلحاظ ملاكات الإلزام بتمامها فيوجب الموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يكون بلحاظ ملاكات الترخيص بتمامها فيجوّز المخالفة القطعيّة ، وإمّا أن يكون بلحاظهما معا فيحرّم المخالفة القطعيّة ولا يوجب الموافقة القطعيّة ، بل يكتفي بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، والتي هي المرتبة الناقصة من الترخيص ، وهذه إنّما يمكن إبرازها بالتخيير المتعلّق بالجامع لا بالترخيص المشروط ، إذ لا وجود له في عالم الاهتمام المولوي بنفسه.

نعم ، يمكن استفادة المرتبة الناقصة من الترخيص على أساس الترخيصين المشروطين بعد إعمال التأويل وإرجاعهما إلى الجامع أي عنوان أحدهما ، فيقال : معنى الترخيصين المشروطين ارتكاب أحدهما وترك الآخر.

الخامسة : أنّ دليل الأصل قاصر عن إفادة هذه العناية ؛ وذلك لأنّ مثل قوله : « رفع ما لا يعلمون » ناظر إلى كلّ فرد مشكوك في نفسه ، وكذا قوله : « كلّ شيء لك طاهر » أو « حلال » ناظر إلى الفرد الخارجي لا إلى الجامع.

وبهذا يتّضح أنّه ثبوتا وإن كان من الممكن تصوّر الترخيص المشروط إلا أنّه ليس موجودا بنفسه في عالم الاهتمام المولوي ، وإنّما المتصوّر وجوده هناك هو التخيير المتعلّق بالجامع أي عنوان أحدهما.

ص: 256

والقول بإرجاع الترخيص المشروط إلى الجامع لا يمكن إلا بعناية وتأويل ؛ لأنّ أدلّة الأصول الترخيصيّة ناظرة إلى الأفراد الخارجيّة لا إلى الجامع ولا إلى الترخيص المشروط ، فلا يمكن استفادة تعلّق الترخيص بالجامع من أدلّة الأصول فضلا عن استفادة الترخيص المشروط منها ؛ لأنّ أدلّة الأصول مطلقة وليست مشروطة ؛ ولأنّها متعلّقة بالفرد لا بالجامع.

فتحصّل أنّ هذا التقييد ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وبالتالي لا يمكن جريان الأصول في بعض الأطراف على مسلك المشهور ، بل تتعارض وتتساقط ، وبالتالي يحكم العقل بمنجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المانع مفقود.

وفي ضوء ما تقدّم قد يقال : إنّه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء ، إذ على كلّ حال لا يجري الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، ولكن سيظهر فيما يأتي تحقّق الثمرة في بعض الحالات.

قد يقال : إنّه لا فرق بين المسلكين ؛ لأنّه على كلّ تقدير يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ، إمّا من باب العلّيّة وإمّا من باب تعارض الأصول وتساقطها ، ولا يجري الأصل المؤمّن في بعض الأطراف على المسلكين ، أمّا على العلّيّة فواضح لعدم إمكان التفكيك بين العلّة أي العلم الإجمالي وبين المعلول أي وجوب الموافقة القطعيّة ، وأمّا على الاقتضاء فلأنّ إجراء الأصل في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجّح ؛ ولأنّه لا يمكن الترخيص المشروط ولا التخيير المتعلّق بالجامع.

إلا أنّ الصحيح وجود بعض الثمرات والفوارق بين المسلكين ، وستأتي الإشارة إليها في تنبيهات العلم الإجمالي (1).

ص: 257


1- وعلى سبيل المثال : إذا دلّ دليل قطعي السند والدلالة على عدم وجوب الموافقة القطعيّة في مورد من موارد العلم الإجمالي كما ادّعي ذلك في جوائز السلطان مثلا ، فعلى القول بالاقتضاء يكون المورد من باب وجود المانع من تأثير المقتضي فيؤخذ بالدليل بلا إشكال ، فإنّ المنع من جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف كان لأجل محذور الترجيح بلا مرجّح. وأمّا على القول بالعلّيّة لا بدّ من تأويل هذا الدليل وتخريجه بنحو يتناسب مع عدم إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول ؛ لأنّ هذا الدليل بظاهره يفكّك بين العلّة أي العلم الإجمالي وبين المعلول أي الموافقة القطعيّة ، والمفروض أنّ التفكيك بينهما ممتنع.

ص: 258

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

ص: 259

ص: 260

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

اتّضح ممّا سبق أنّ دليل الأصل لا يفي لإثبات جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، وذلك بسبب المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدّة حالات :

اتّضح من البحث السابق أنّه على القول بمسلك الاقتضاء لا يجري الأصل المؤمّن في بعض أطراف العلم الإجمالي للمعارضة وللترجيح بلا مرجّح ؛ ولأنّ أدلّة الأصول لا تثبت ذلك ؛ لأنّ لسانها مطلق من جهة وناظر إلى الفرد الخارجي من جهة أخرى ، فلا يستفاد منها تعلّقها بالجامع أو بالترخيص المشروط.

إلا أنّه توجد بعض الحالات يجري فيها الأصل المؤمّن بلا معارض ، فتكون مستثناة وخارجة من المحذور تخصّصا ؛ لأنّ المنع كان نتيجة المعارضة والترجيح بلا مرجّح ، وهنا يفترض أنّه لا معارض له لكي يكون الأخذ به ترجيحا على غيره ، وهذه الحالات هي :

منها : ما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل واحد مؤمّن وفي الطرف الآخر أصلان طوليّان ؛ ونقصد بالأصلين الطوليّين أن يكون أحدهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه تعبّدا.

ومثال ذلك : أن يعلم إجمالا بنجاسة إناء مردّد بين إناءين أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط ، والآخر مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معا ؛ بناء على أنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة.

الحالة الأولى : أن يكون في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل ترخيصي واحد ، وفي الطرف الآخر يوجد أصلان ترخيصيّان طوليّان ، والمقصود من الطوليّة هنا أن أحدهما حاكم على الآخر ، أي أنّه ينظر إلى موضوع الآخر ويرفعه تعبّدا ، ولذلك فهو مقدّم عليه.

ص: 261

ومثال ذلك : أن نعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ويكون أحدهما طاهرا سابقا ، فهنا يكون في مورد الإناء المعلوم طهارته سابقا أصلان ترخيصيّان طوليّان هما : أصالة الطهارة واستصحاب الطهارة ، بينما في مورد الإناء الآخر لا يوجد إلا أصالة الطهارة.

وهنا يكون استصحاب الطهارة حاكما على أصالة الطهارة ؛ وذلك لأنّ مورد جريان أصالة الطهارة هو الشكّ في الطهارة ، والاستصحاب إذا جرى في مورده يثبت العلم تعبّدا ويزيل الشكّ ، فيرتفع موضوع أصالة الطهارة تعبّدا ، ولذلك فهما طوليّان بمعنى أنّ جريان أصالة الطهارة يشترط فيها ألاّ يكون الاستصحاب جاريا وإلا ارتفع موضوعها.

فقد يقال في مثل ذلك : إنّ أصالة الطهارة في الطرف الأوّل تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ولا تدخل أصالة الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض ؛ لأنّها متأخّرة عن الاستصحاب ومتوقّفة على عدمه فكيف تقع طرفا للمعارضة في مرتبته؟

وحينئذ يقال : إنّ أصالة الطهارة الجارية في أحد الإناءين فقط تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الآخر ومقتضى تعارضهما التساقط.

والوجه في ذلك : أنّ الأصول الترخيصيّة في موارد العلم الإجمالي تجري وتتعارض ويحكم بتساقطها كما تقدّم سابقا ، إلا أنّ ذلك يختصّ في الأصول الترخيصيّة التي تكون في عرض واحد ، وفي مقامنا تجري أصالة الطهارة في الإناء الأوّل في عرض جريان الاستصحاب للطهارة فقط في الإناء الثاني.

ولا تدخل أصالة الطهارة في الطرف الثاني في هذه المعارضة ؛ لأنّه بناء على حكومة الاستصحاب عليها تكون متأخّرة عن الاستصحاب ، أي أنّ فرض جريانها بعد فرض عدم وجود الاستصحاب ، أو بعد فرض سقوطه لو كان موجودا ، ولذلك لا يعقل جريانها في عرض جريان الاستصحاب ، بل هي متأخّرة عنه رتبة حيث أخذ عدمه شرطا في موضوعها فيستحيل دخولها في المعارضة كذلك للزوم الخلف والتقدّم والتأخّر.

والنتيجة هي : أنّه بعد سقوط أصالة الطهارة في الإناء الأوّل وسقوط استصحاب الطهارة في الإناء الثاني تجري أصالة الطهارة في الطرف الثاني من دون معارض.

ص: 262

وحينئذ إن قيل بمسلك الاقتضاء كان جريان أصالة الطهارة في أحد الطرفين جائزا ولا مانع منه ؛ لأنّ العلم الإجمالي على هذا المسلك إنّما يكون منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة بعد فرض تعارض الأصول الترخيصيّة في الأطراف ، وهنا لا معارض لها ، فيكون جريانها مانعا من منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.

بينما على مسلك العلّيّة لا يمكن جريان أصالة الطهارة في الطرف الثاني ؛ لأنّ العلم الإجمالي بنفسه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة وعلّيّته كذلك معناها المنع من جريان الأصل الترخيصي في الطرف الواحد ؛ لأنّه يكون من باب التفكيك بين العلّة ومعلولها وهو مستحيل.

وبكلمة أخرى : إنّ المقتضي لها إثباتا لا يتمّ إلا بعد سقوط الأصل الحاكم وهو الاستصحاب ، والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة في الطرف الأوّل ، وإذا كان الأصل متفرّعا في اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفا فيها؟

وإذا استحال أن يكون طرفا في تلك المعارضة سقط المتعارضان أوّلا وجرى الأصل الطولي بلا معارض.

وبتعبير آخر أدقّ : إنّ المقتضي لجريان أصالة الطهارة في مقام الإثبات متوقّف على عدم أو على سقوط الأصل الحاكم عليها والذي هو استصحاب الطهارة في المقام. نعم ، فرض ثبوتها هو صدور الجعل والتشريع بها في موارد الشكّ في الطهارة.

والحاصل : أنّ مورد إجراء الطهارة في الشيء المشكوك طهارته متوقّف على ألاّ يكون هناك أصل حاكم عليها ، وإلا كان هو الجاري دونها تطبيقا لقانون تقدّم الدليل الحاكم على المحكوم ، وهذا يعني أنّ المقتضي لها في مقام الإثبات هو سقوط الاستصحاب ؛ لأنّه الأصل الحاكم على أصالة الطهارة.

وسقوط الاستصحاب إنّما يكون بعد إيقاع المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر ، فلا بدّ أوّلا أن تحصل المعارضة ؛ لأنّها سبب سقوط الاستصحاب ثمّ بعد ذلك تجري أصالة الطهارة في الإناء الذي هو مورد للاستصحاب أيضا ، ولذلك لا تدخل أصالة الطهارة في المعارضة ؛ لأنّها متفرّعة عنها ، أي أنّها قبل المعارضة لا مقتضي لثبوتها.

ص: 263

وإنّما يتحقّق المقتضي لثبوتها بعد المعارضة أي أنّها من متفرّعات المعارضة ، فكيف يمكن تصوّر دخولها في المعارضة حينئذ؟ إذ لازم دخولها في المعارضة أنّها ليست متوقّفة على المعارضة وليست متوقّفة على سقوط الاستصحاب أيضا وهو خلف حكومة الاستصحاب عليها.

وبهذا ظهر الوجه في هذه الحالة وأنّ أصالة الطهارة تبقى بلا معارض ؛ لأنّها أصل طولي (1).

ومنها : ما إذا كان دليل الأصل شاملا لكلا طرفي العلم الإجمالي بذاته ، وتوفّر دليل أصل آخر لا يشمل إلا أحد الطرفين.

ومثال ذلك : أن يكون كلّ من الطرفين موردا للاستصحاب المؤمّن ، وكان أحدهما خاصّة موردا لأصالة الطهارة.

الحالة الثانية : أن يكون هناك أصلان ترخيصيّان أحدهما شامل لكلا الطرفين والآخر مختصّ بأحدهما فقط.

مثاله : ما إذا كان لدينا إناءان حالتهما السابقة الطهارة فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وذلك لتماميّة أركان الاستصحاب في كل منهما.

ولكن يفرض أنّه في أحد الإناءين تجري أصالة الطهارة دون الآخر ، وهذا يكون بناء على أنّ أصالة الطهارة لا تجري إلا في مورد النجاسة العرضيّة لا الذاتيّة.

فلو كان لدينا إناءان يعلم بسقوط قطرة دم في أحدهما وكان أحدهما ماء والآخر يشكّ في كون المائع الذي فيه من الخمر أو من العصير العنبي ، وفرض أنّ الحالة السابقة لكلا الإناءين هي الطهارة.

فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما لتوفّر أركانه فيهما ، إلا أنّ أصالة

ص: 264


1- هذا كلّه على حكومة الاستصحاب على أصالة الطهارة ، وأمّا على إنكار حكومته عليها فيمكن تصوير المسألة بنحو آخر ، وذلك بأن يقال : إنّ أصالة الطهارة في كلّ من الإناءين تتعارضان وتتساقطان فيبقى استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض. والوجه في ذلك : أنّ أصالة الطهارة في هذا مسانخة لأصالة الطهارة في ذاك ، بينما استصحاب الطهارة ليس من سنخهما فيتعارض الأصلان المتسانخان فقط ، ويبقى الآخر.

الطهارة لا تجري إلا في الإناء المعلوم كونه ماء دون الإناء المشكوك كونه خمرا أو عصيرا ، بناء على عدم جريانها عند الشكّ في النجاسة الذاتيّة ؛ لأنّ الإناء الآخر لو كان خمرا فهو نجس ذاتا بخلاف ما لو كان عصيرا فإنّه بنفسه طاهر ، والنجاسة تكون عارضة عليه ، بينما الإناء الأوّل فهو طاهر ذاتا ؛ لأنّه ماء وهو معلوم الطهارة الذاتيّة والشكّ في نجاسته يكون منشؤه الشكّ في عروض النجاسة عليه.

والحاصل : أنّ الإناء الموجود فيه الماء يكون مجرى لاستصحاب الطهارة ومجرى لأصالة الطهارة أيضا. بينما الإناء الموجود فيه المائع المشكوك كونه خمرا أو عصيرا لا يكون مجرى إلا لاستصحاب الطهارة دون أصالة الطهارة ، وحينئذ نقول :

ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، وتجري أصالة الطهارة بدون معارض سواء قلنا بالطوليّة بين الاستصحاب وأصالة الطهارة أو بالعرضيّة.

ففي هذه الحالة سوف يتعارض استصحاب الطهارة في هذا الإناء مع استصحاب الطهارة في الإناء الآخر ، ومقتضى التعارض الحكم بالتساقط ، فتكون أصالة الطهارة في الإناء الموجود فيه الماء ثابتة من دون معارض.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة وعدم ذلك ؛ لأنّنا نريد إجراء أصالة الطهارة بعد سقوط الاستصحاب لا قبله ، فعلى الطوليّة بينهما لا تدخل في المعارضة ؛ لأنّها فرع سقوط الاستصحاب أوّلا بالمعارضة فلا تدخل فيها كما تقدّم.

وأمّا على القول بالعرضيّة أي أنّها تجري في عرض واحد مع الاستصحاب فلا تدخل في المعارضة أيضا ؛ لأنّها من غير سنخ الاستصحابين.

وبتعبير آخر نقول :

وذلك لأنّ أصالة الطهارة في طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها لا من دليل أصالة الطهارة نفسها ولا من دليل الاستصحاب.

أمّا الأوّل فلأنّ دليل أصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر بحسب الفرض ليتعارض الأصلان.

وأمّا الثاني فلأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض في داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلي في الدليل يوجب إجماله ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.

ص: 265

والوجه في عدم سقوط أصالة الطهارة وعدم دخولها في المعارضة هو أنّ المعارض لأصالة الطهارة أحد أمرين :

1 - أن تكون معارضة بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، وهذا فرع جريان أصالة الطهارة في كلا الطرفين.

2 - أن تكون معارضة باستصحاب الطهارة في الطرف الآخر ، وهذا فرع عدم الطوليّة بينهما وإلا لم تدخل في المعارضة ؛ لأنّها إنّما تثبت بعد المعارضة لا قبلها.

وكلا هذين الأمرين منتفيان في المقام وذلك :

أمّا كونها معارضة بأصالة الطهارة في الطرف الآخر فالمفروض في مقامنا أن الطرف الآخر يشكّ في كونه خمرا أو عصيرا ، فهو مشكوك الطهارة والنجاسة ذاتا ، وفي مثل ذلك لا تجري أصالة الطهارة كما هو المفروض هنا.

وأمّا كونها معارضة باستصحاب الطهارة في الطرف الآخر فهذا وإن كان معقولا في نفسه بناء على العرضيّة ، إلا أنّه إنّما يتمّ فيما لو كان دليل الاستصحاب في الطرف الآخر ثابتا في نفسه ، وهذا غير متحقّق في مقامنا ؛ لأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض الداخلي ؛ لأنّه شامل لكلا طرفي العلم الإجمالي وشموله لهما كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة المستحيلة.

وهذا معناه أنّه شامل لأحد الطرفين فقط ، وحينئذ فقد يكون شاملا للطرف الذي تجري فيه أصالة الطهارة دون الآخر فلا تعارض ، وقد يكون شاملا للطرف الآخر فيقع التعارض بينهما.

ولكن حيث لا يمكن تشخيص أحد الطرفين وتعيينه ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح فيتعيّن سقوط دليل الاستصحاب في كلا الطرفين أو على الأقلّ يكون مجملا ، وعلى كلا التقديرين لا يصلح لمعارضة أصالة الطهارة ؛ لأنّه إذا كان ساقطا فمن الواضح عدم معارضته لها ، وإذا كان مجملا في نفسه ولا يعلم الإناء الذي يشمله من الآخر فالدليل المجمل لا يصلح لأن يعارض غيره.

وهكذا تكون أصالة الطهارة جارية في الطرف الواحد دون معارض ، ويأتي الخلاف هنا على القولين الاقتضاء والعلّيّة ، فعلى الأوّل يؤخذ بها بلا إشكال وعلى الثاني لا يؤخذ بها.

ص: 266

ونفس هذه الحالة يمكن فرضها بنحو آخر فيقال : أن يكون لدينا طرفان كلاهما مشمول في نفسه لدليل البراءة ، بينما أحدهما خاصّة فيه استصحاب الطهارة ، فهنا تتعارض البراءة في كلّ منهما ويحكم بسقوطهما ، ويبقى استصحاب الطهارة بلا معارض ، والوجه فيه نفس ما تقدّم آنفا.

ومنها : أن يكون الأصل المؤمّن في أحد الطرفين مبتلى في نفس مورده بأصل معارض منجّز دون الأصل في الطرف الآخر ، ومثاله أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد إناءين وكلّ منهما مجرى لاستصحاب الطهارة في نفسه ، غير أنّ أحدهما مجرى لاستصحاب النجاسة أيضا لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما.

الحالة الثالثة : أن يكون هناك أصل ترخيصي شامل لكلا الطرفين ويكون في أحدهما أصل إلزامي.

ومثاله : ما إذا كان لدينا إناءان فيهما ماء وعلمنا إجمالا الآن بنجاسة أحدهما للعلم بسقوط قطرة دم في أحدهما ، ويفرض أنّنا نعلم بطهارتهما سابقا.

غير أنّ أحدهما المعيّن كان نجسا سابقا وطهّر أيضا ولكنّنا لا نعلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما ، أي أنّنا نعلم بتوارد حالتي الطهارة والنجاسة عليه ولكنّنا لا نعلم أيهما المتقدّم وأيهما المتأخّر.

فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما ؛ لأنّها معلومة سابقا فيهما ، ولكن في الإناء الآخر حيث يعلم بطروّ النجاسة عليه ويشكّ في زمانهما يجري أيضا استصحاب النجاسة المعلومة فيه سابقا.

وهذا يعني أنّه يوجد في أحد الإناءين استصحاب الطهارة ، بينما في الإناء الآخر يوجد استصحابان أحدهما استصحاب الطهارة والآخر استصحاب النجاسة.

فقد يقال حينئذ بجريان استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض ؛ لأنّ استصحاب الطهارة في الآخر ساقط بالمعارضة في نفس مورده باستصحاب النجاسة.

ففي هذه الحالة يوجد قولان :

أحدهما : أنّ استصحاب الطهارة في الطرف المعلوم طهارته سابقا يجري بلا

ص: 267

معارض ؛ وذلك لأنّ معارضه وهو استصحاب الطهارة في الطرف المعلوم طهارته ونجاسته ساقط عن الحجّيّة بسبب تعارضه مع استصحاب النجاسة في نفس مورده ، أي أنّه مبتلى بالمعارضة الداخليّة بسبب توارد الحالتين على هذا الطرف.

وإذا كان للأصل معارض داخلي فلا يمكن أن يكون معارضا للأصل الخارجي ؛ لأنّ المعارضة الداخليّة تسقطه عن الحجّيّة فلا يكون معارضا للأصل في الطرف الآخر ، فيكون استصحاب الطهارة في ذاك الطرف جاريا بلا معارض.

وقد يقال في مقابل ذلك بأنّ التعارض يكون ثلاثيّا ، فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين في وقت واحد. وتحقيق الحال متروك إلى مستوى أعمق من البحث.

والقول الآخر : أنّ المعارضة توقع ابتداء بين الاستصحابات الثلاثة ، أي أنّ استصحاب الطهارة في الإناء الذي تواردت عليه الحالتان ( الطهارة والنجاسة ) يكون له معارضان ، أحدهما معارض داخلي في نفس مورده وهو استصحاب نجاسة الإناء ، والآخر معارض خارجي وهو استصحاب طهارة الإناء الآخر.

والوجه في ذلك : أنّ هذه الأصول كلّها في عرض واحد ؛ إذ لا طوليّة بينها وكلّها من سنخ واحد ؛ لأنّ دليلها واحد أيضا.

والتحقيق في المسألة متروك إلى البحث الخارج.

وإذا صحّ جريان الأصل بلا معارض في هذه الحالات كان ذلك تعبيرا عمليّا عن الثمرة بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء.

والحاصل أنّه في هذه الحالات الثلاث إذا كان جريان الأصل الترخيصي في الطرف الواحد تامّا ، فيكون هذا عبارة عن الثمرة بين المسلكين الاقتضاء والعلّيّة ؛ لأنّه على الاقتضاء سوف يؤخذ بهذا الأصل الترخيصي ويرفع اليد عن وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّها كانت فرع جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف وتعارضها وتساقطها ، وهنا لا معارض لهذا الأصل.

وأمّا على مسلك العلّيّة فلا يمكن الأخذ بهذا الأصل الترخيصي حتّى لو لم يكن له معارض ؛ لأنّ وجوب الموافقة القطعيّة كان وليد علية العلم الإجمالي لها ، وهذا لا يتوقّف على جريان الأصول وعدم جريانها ، أو على تعارضها وعدم

ص: 268

تعارضها ، بل لا يجري الأصل الترخيصي مطلقا ؛ لأنّه تفكيك بين العلّة ومعلولها وهو محال عقلا.

وقد تلخّص ممّا تقدّم أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة ، وأنّه كلّما تعارضت الأصول الشرعيّة المؤمّنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لتنجّز الاحتمال في كلّ شبهة بعد بقائها بلا مؤمّن شرعيّ وفقا لمسلك حقّ الطاعة.

وحيث إنّ تعارض الأصول يستند إلى العلم الإجمالي فيعتبر تنجّز جميع الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.

والصحيح في كيفيّة تصوير منجّزيّة العلم الإجمالي أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بنفسه يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع معلوم على جميع المسالك والاتّجاهات ، والعلم ينجّز معلومه بنحو معلّق على عدم صدور الإذن والترخيص ، إلا أنّ صدوره في موارد العلم الإجمالي ممّا لا يمكن إثباته ؛ لأنّه على خلاف المرتكزات العقلائيّة كما تقدّم ، هذا بالنسبة لحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا بالنسبة لوجوب الموافقة القطعيّة فنقول : إنّ العلم الإجمالي ليس علّة بنفسه لذلك خلافا لما ذكره المحقّق العراقي ، بل العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة في حالة تعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في تمام أطرافه وتساقطها.

فالمنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعيّة ليست ناشئة من نفس العلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس علّة وليس مقتضيا لها ، وإنّما لأجل تعارض الأصول وتساقطها.

فإنّه بعد تساقطها سوف يكون التكليف في كلّ طرف محتملا ، واحتمال التكليف منجّز على ما هو الصحيح من منجّزيّة كلّ انكشاف على أساس سعة دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى.

نعم ، احتمال التكليف منجّز بنحو معلّق على عدم صدور الترخيص ، والمفروض هنا أنّ الترخيص غير تامّ فتكون منجّزيّته ثابتة لعدم ثبوت المانع منها.

وبهذا يمكننا أن نقول : إنّ العلم الإجمالي يستدعي الموافقة القطعيّة بنحو من المسامحة ؛ لأنّ المنجّز في الحقيقة هو ما ذكرنا ، إلا أنّ دور العلم الإجمالي هنا هو إيجاد التعارض بين الأصول الترخيصيّة ، حيث إنّ هذه الأصول تجري في كلّ طرف ؛

ص: 269

لأنّه مشمول لها في نفسه ، ولكن لا يمكن الأخذ بها جميعا بسبب العلم الإجمالي المذكور ، ولا يمكن الأخذ ببعضها دون الآخر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فلذلك تتعارض وتتساقط.

فكان دور العلم الإجمالي في الحقيقة دور المنشأ لحصول التعارض الذي يسبّب سقوط الأصول الترخيصيّة ، والذي يعني أنّ كلّ طرف لا مؤمّن شرعي فيه ، والذي يؤدّي إلى أن يكون حكم العقل لمنجّزيّة الاحتمال تامّا ، وعليه فإذا أسندت المنجّزيّة للموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي كان ذلك على أساس أنّه المنشأ لثبوتها على أساس هذه السلسلة.

ولا فرق في منجّزيّة العلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد ، أو تكليفا من نوعين كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة الآخر.

ثمّ إنّه يوجد صورتان للمعلوم إجمالا :

إحداهما : أن يكون المعلوم إجمالا نوعا واحدا من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة كالحرمة والوجوب والنجاسة ونحو ذلك ، كما إذا علم بحرمة إحدى هاتين السمكتين ، وكما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، وكما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، فهنا يكون منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة بسبب العلم بالجامع ، ويكون سببا للموافقة القطعيّة لتعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها.

والأخرى : أن يكون المعلوم إجمالا نوعين من التكليف ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة هذا الإناء أو بحرمة هذه السمكة ، فهنا النجاسة والحرمة نوعان مختلفان من الأحكام ، ولكن مع ذلك يكون العلم الإجمالي المذكور منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ جامع الإلزام بينهما معلوم ، ويكون سببا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة فيهما متعارضة فيحكم بتساقطهما ، فأصالة الطهارة في الإناء تتعارض مع أصالة الحلّ في السمك ، وبعد سقوطهما يكون احتمال التكليف في كلّ منهما بلا مؤمّن شرعي فيكون منجزا لهما بحكم العقل بناء على مسلك حقّ الطاعة.

كما لا فرق أيضا بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضوع التكليف ؛ لأنّ العلم بموضوع التكليف إجمالا يساوق العلم الإجمالي بالتكليف ، ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للتكليف الشرعي.

ص: 270

ثمّ إنّه لا فرق بين كون المعلوم بالإجمال تكليفا أو موضوعا للتكليف ، فهنا صورتان :

الأولى : أن يكون المعلوم بالإجمال تكليفا كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، فإنّه علم إجمالي بجامع الوجوب فالمعلوم هو الوجوب ، وهكذا. وهذا ما كان الكلام عنه فعلا فيما تقدّم.

الثانية : أن يكون المعلوم بالإجمال موضوعا للحكم الشرعي ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو ذاك ، أو علم بنجاسة هذا الثوب أو نجاسة ذاك الإناء ، فهنا نجاسة الثوب ونجاسة الماء ليست حكما شرعيّا ، وإنّما نجاسة الثوب يترتّب عليها حكم شرعي كعدم جواز الصلاة فيه مثلا ، ونجاسة الماء كذلك فإنّه يترتّب عليها عدم جواز شربه وعدم صحّة الوضوء به.

فالعلم الإجمالي بالموضوع يساوق عمليّا العلم الإجمالي بالتكليف.

إلا أنّه يشترط في منجّزيّة هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، ووجوب الموافقة القطعيّة ، أن يكون الموضوع المعلوم إجمالا تمام الموضوع للتكليف الشرعي كالمثالين المذكورين ، فإنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لعدم جواز الشرب ولعدم صحّة الوضوء ، ونجاسة الثوب تمام الموضوع لبطلان الصلاة فيه.

وأمّا إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كلّ تقدير أو على بعض التقادير فلا يكون العلم منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق حينئذ العلم الإجمالي بالتكليف.

ذكرنا أنّه يشترط في منجّزيّة العلم الإجمالي المتعلّق بموضوع التكليف أن يكون المعلوم إجمالا تمام الموضوع للتكليف ؛ لأنّ العلم به يكون مساوقا للعلم بالتكليف.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للتكليف فلا يكون العلم الإجمالي به علما إجماليّا بالتكليف ؛ لأنّ التكليف ليس مترتّبا على هذا الجزء بل على تمام الموضوع ، فلا بدّ من العلم بالجزءين معا ليكون التكليف معلوما ، ولا فرق في كونه جزءا لموضوع التكليف بين أن يكون جزءا كذلك على كلّ تقدير أو على بعض التقادير.

ومثال الأوّل ما إذا علم بنجاسة إحدى هاتين القطعتين من الحديد ، فإنّ المعلوم بالإجمال وهو نجاسة قطعة حديد ليس تمام الموضوع لأي حكم شرعي تكليفي أو وضعي. نعم ، هي جزء الموضوع لحرمة شرب الماء.

ص: 271

والجزء الآخر لموضوع هذه الحرمة هو أن يكون الماء ملاقيا لهذه القطعة الحديديّة النجسة ، فسواء كانت هذه القطعة هي النجسة أم تلك فعلى كلّ تقدير هي جزء الموضوع.

ومثال الثاني ، ما إذا علم بنجاسة قطعة الحديد ، أو نجاسة هذا الثوب ، فهنا يعلم إجمالا بجامع النجاسة إلا أنّ النجاسة إذا كانت في قطعة الحديد فهي جزء الموضوع ، وإذا كانت في الثوب فهي تمام الموضوع ، فالمعلوم بالإجمال جزء الموضوع على بعض التقادير أي على تقدير كونه قطعة الحديد لا الثوب.

وعلى كلا التقديرين لا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق العلم بالتكليف.

أمّا على الأوّل بأن يكون المعلوم جزء الموضوع على كلّ تقدير فواضح ؛ لأنّ ثبوت جزء الموضوع لا يثبت التكليف فلا علم بشيء من التكاليف.

وأمّا الثاني أي أن يكون المعلوم جزء الموضوع على بعض التقادير وتمامه على البعض الآخر فلا يكون منجّزا أيضا ؛ لأنّه لا يساوق العلم بالتكليف على كلّ تقدير أيضا بل على بعض التقادير ، ولذلك لا يعلم بالجامع بل يشكّ بالفرد ابتداء ، فتجري فيه البراءة أو الطهارة ونحوهما.

ومن هنا لا يكون العلم الإجمالي بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجّزا ، خلافا للعلم الإجمالي بنجاسة أحد ماءين أو ثوبين.

أمّا الأوّل فلأنّ نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليف شرعي ، بل هي جزء موضوع لحرمة الاجتناب عن الماء مثلا ، والجزء الآخر ملاقاة الماء للقطعة الحديديّة ، والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر ، وأمّا الثاني فلأنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه.

وعلى أساس ما ذكرناه من اشتراط كون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لا جزءه ، نعرف أنّ العلم الإجمالي بنجاسة إحدى هاتين القطعتين من الحديد لا يكون منجّزا ، بينما العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين أو أحد الثوبين يكون منجّزا.

والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي الأوّل يساوق العلم بالتكليف ، بينما العلم الإجمالي الثاني يساوق العلم الإجمالي بالتكليف.

ص: 272

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي الأوّل على فرض ثبوته فالقطعة الحديديّة النجسة ليست هي تمام الموضوع لحكم شرعي ، بل هي جزء الموضوع والجزء الآخر الملاقاة معه ، فمثلا حرمة شرب الماء موضوعها مركّب من جزءين :

الأوّل : أن تكون القطعة الحديديّة نجسة ، والثاني : أن تتحقّق الملاقاة بأن يلاقي الماء هذه القطعة ، وهنا لا يعلم إلا بنجاسة الحديدة ، وأمّا الملاقاة فلا يعلم بها ، ولذلك لا يتحقّق التكليف ، ولا يكون العلم بها مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف.

وأمّا العلم الإجمالي الثاني فعلى فرض ثبوت المعلوم فيه فالماء النجس أو الثوب النجس تمام الموضوع لحرمة الشرب ولبطلان الصلاة ، فكان العلم الإجمالي هنا مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف.

ومثل الأوّل العلم الإجمالي بنجاسة قطعة حديديّة أو نجاسة الماء ؛ لأنّ المعلوم هنا جزء الموضوع على أحد التقديرين.

ذكرنا أنّ جزء الموضوع تارة يكون جزؤه على كلّ تقدير كالمثال السابق أي العلم بنجاسة إحدى الحديدتين ، فسواء كانت الحديدة الأولى نجسة أم الثانية فلا يتحقّق إلا جزء الموضوع فقط.

وأخرى يكون جزء الموضوع على بعض التقادير دون البعض الآخر ، كما إذا علم بنجاسة قطعة حديد أو نجاسة الماء ، فإنّه إن كان النجس قطعة الحديد فالمتحقّق جزء الموضوع ، وإن كان النجس الماء فالمتحقّق تمام الموضوع.

وهذا أيضا لا يكون منجّزا ؛ لأنّ جامع التكليف غير معلوم على كلّ حال ، بل على بعض التقادير فقط ، فلا علم بالجامع وإنّما هناك شكّ في الفرد ابتداء أي أنّه يشكّ في كون الماء نجسا أم لا ، فتجري أصالة الطهارة فيه.

والضابط العامّ للتنجيز : أن يكون العلم الإجمالي مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي.

وكلّما لم يكن العلم الإجمالي كذلك فلا ينجّز ، وتجري الأصول المؤمّنة في مورده بقدر الحاجة.

ففي مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجري أصالة الطهارة في الماء ، ولا تعارضها أصالة الطهارة في الحديد ؛ إذ لا أثر عملي لنجاسته فعلا.

ص: 273

والضابط العامّ لمنجّزيّة العلم الإجمالي المتعلّق بالموضوعات هو أن يكون العلم الإجمالي بالموضوع مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، وأمّا إذا لم يكن مساوقا لذلك فلا يكون منجّزا لمعلومه وبالتالي تجري الأصول الترخيصيّة في مورده بلا معارض.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين أو الثوبين كان العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم الإجمالي هنا يساوق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ؛ لأنّ نجاسة الماء أو الثوب يترتّب عليها بالفعل حرمة الشرب وبطلان الصلاة.

وأمّا إذا علمنا بنجاسة إحدى القطعتين من الحديد أو علمنا إجمالا بنجاسة قطعة حديد أو بنجاسة الماء ، فهنا لا يكون منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق التكليف الفعلي ، أمّا المثال الأوّل فواضح إذ لا تكليف أصلا.

وأمّا المثال الثاني فلأنّ جامع التكليف غير معلوم على كلّ حال ، وعليه فتجري أصالة الطهارة في الماء ولا يعارضها أصالة الطهارة في الحديدة ؛ إذ لا فائدة ولا معنى لجريان أصالة الطهارة فيها ؛ لأنّها حتّى لو بقيت نجسة فعلا فلا أثر شرعي لها ما دامت الملاقاة غير متحقّقة ؛ لأنّه لا تكليف يترتّب بالفعل على نجاسة الحديدة لينفى بأصالة الطهارة كما هو واضح.

* * *

ص: 274

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي

اشارة

ص: 275

ص: 276

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي

نستطيع أن نستخلص ممّا تقدّم : أنّ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي لها عدّة أركان :

الركن الأوّل : وجود العلم بالجامع ، إذ لو لا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كلّ طرف بدوية وتجري فيها البراءة الشرعيّة.

الركن الأوّل : من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي هو العلم بالجامع ، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، فإنّ جامع النجاسة معلوم ، ولو لا هذا العلم بالجامع لكان لدينا إمّا علم تفصيلي بالطرف وإمّا شبهة بدويّة بكلا الطرفين.

ففي العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء بعينه تجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر إن توفّرت فيه شروطها.

وفي الشبهة البدويّة تجري الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، أمّا على مسلك المشهور فيكون كلّ منهما مجرى للبراءة العقليّة على أساس مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا على المسلك المختار فتجري البراءة الشرعيّة.

ولا مانع من جريان الأصل المؤمّن في كلا الطرفين ؛ لأنّ دليل الأصل المؤمّن مطلق لكلّ فرد ، ولا يوجد مانع من الأخذ بهذا الإطلاق بحسب الفرض ، وهذا ما لا إشكال فيه.

ولا شكّ في وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علما وجدانيّا ، وأمّا إذا كان ما يعبّر عنه بالعلم التعبّدي فلا بدّ من بحث فيه ، ومثاله أن تقوم البيّنة مثلا على نجاسة أحد الإناءين ، فهل يطبّق على ذلك قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي أيضا؟ وجهان :

ثمّ إنّ العلم بالجامع إنّما يكون منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة

ص: 277

بالنحو المتقدّم ، فيما إذا كان العلم وجدانيّا ، وذلك بأن يقطع وجدانا بالنجاسة كما إذا رأى بعينه قطرة دم تقع في الإناء ثمّ اشتبه الإناء النجس مع غيره ، وهذا العلم الوجداني ممّا لا إشكال في وفائه بالمنجّزيّة المذكورة.

وإنّما الكلام فيما إذا حصل لنا العلم التعبّدي بنجاسة أحد الإناءين ، كما لو قامت البيّنة على أنّ أحد الإناءين نجس ، فإنّ البيّنة لا تفيد القطع الوجداني وإنّما تفيد الظنّ فقط ، ولكن بناء على جعل الحجّيّة لها وأنّها كالعلم الوجداني في المنجّزيّة والمعذّريّة يقع البحث في أنّ هذه الأمارات هل تفي في منجّزيّة العلم الإجمالي أو لا؟

وهنا احتمالان بل قولان :

فقد يقال بالتطبيق على أساس أنّ دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما ، فيترتّب عليه آثار العلم الطريقي التي منها منجّزيّة العلم الإجمالي.

القول الأوّل : أنّ قيام الأمارة على ثبوت التكليف إجمالا يكون منجّزا كقيام القطع على ذلك ؛ لأنّ أدلّة الحجّيّة للأمارة مفادها جعل الأمارة علما ، فترتّب على الأمارة كلّ الآثار المترتّبة على القطع الطريقي والتي من جملتها منجّزيّة العلم الإجمالي ، فإنّ هذه المنجّزيّة ثابتة للعلم ؛ لأنّه طريق وكاشف عن الواقع ولو إجمالا ، والأمارة تقوم مقام القطع في الكاشفيّة والتنجيز والتعذير كما تقدّم في محلّه ، بناء على مسلك الميرزا من تصوير كيفيّة جعل الحكم الظاهري والجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

وقال غيره كالمحقّق العراقي مثلا بأنّ دليل حجّيّة الأمارة حاكم على أدلّة الأصول العمليّة ، ففي مثالنا يجري في كلا الطرفين الأصل الترخيصي المؤمّن ؛ لأنّه مورده.

إلا أنّه بقيام البيّنة على النجاسة يرتفع موضوع أحد الأصلين تعبّدا ، وحيث إنّه لا يعلم بعينه وحيث إنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي متعلّق بالواقع فيجب الاجتناب عن كلا الفردين على أساس أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وقد يقال بعدمه على أساس أنّ الأصول إنّما تتعارض إذا أدّى جريانها في كلّ الأطراف إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف الواقعي ، ولا يلزم ذلك في مورد البحث لعدم العلم بمصادفة البيّنة للتكليف الواقعي.

القول الثاني : أنّ العلم التعبّدي أو قيام البيّنة ونحوها من الأمارات على ثبوت

ص: 278

التكليف إجمالا لا يكون منجّزا ، بمعنى أنّه لا تطبّق قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي على المورد ، وذلك أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة كانت فرع تعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها ، من حيث إنّ جريانها في كلّ الأطراف فيه مخالفة قطعيّة للمعلوم بالإجمال وجريانها في البعض ترجيح بلا مرجّح ، وكلا هذين النحوين لا يتمّان في البيّنة ؛ لأنّها من الأحكام الظاهريّة والتي لا تفيد إلا الظنّ بالواقع.

وهذا يعني أنّه لا قطع بالنجاسة وإنّما هناك ظنّ بها ، والشارع وإن تعبّدنا بحجّيّة الأمارة إلا أنّ ذلك لا يعني صيرورة الواقع معلوما ، وتسميتها بالعلم التعبّدي مسامحة في التعبير ؛ لوجود المناسبة بينها وبين العلم الحقيقي.

وحينئذ نقول : إنّ الأصول الترخيصيّة تجري في كلا الطرفين ، ولا يلزم من جريانها فيهما المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، إذ النجاسة المعلومة إجمالا بالبيّنة قد لا تكون ثابتة في الواقع ؛ لاحتمال عدم مطابقة البيّنة للواقع كما هو مقتضى الأحكام الظاهريّة ومقتضى القول بالتخطئة واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وما دام يحتمل ألاّ يكون هناك نجاسة في الواقع فلا يقطع بالمخالفة وإنّما المخالفة احتماليّة فقط.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

أمّا القول الأوّل فلأنّنا ننكر أن المجعول في باب الأمارات العمليّة والطريقيّة والكاشفيّة ؛ إذ المجعول فيها كما هو الصحيح أهميّة الاحتمال الكاشف عن الملاكات الواقعيّة وإبراز ما هو الأهمّ بنظر الشارع.

وأمّا القول الثاني فلأنّ جريان الأصول الترخيصيّة مع قيام الأمارة على النجاسة إجمالا معناه اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين على واقعة واحدة وهو محال ، إذ الأصلين مفادهما أنّه لا نجاسة بينما الأمارة مدلولها ثبوت النجاسة في أحدهما.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ البيّنة تارة يفترض قيامها ابتداء على الجامع ، وأخرى يفترض قيامها على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ لقيام الأمارة حالتين :

إحداهما : أن تقوم الأمارة ابتداء على الجامع بأن تشهد البيّنة على وجود النجاسة

ص: 279

في أحد الإناءين ، وذلك بأن كان الشاهدان قد شاهدا قطرة الدم تقع في أحدهما ولم يشخّصا الإناء الذي وقعت فيه القطرة.

الثانية : أن تقوم الأمارة على الفرد بأن تشهد البيّنة على رؤية الدم في الإناء المشخّص ، إلا أنّه اختلط هذا الإناء بغيره بحيث لم يمكن التمييز بينهما ، وحينئذ نقول :

أمّا في الحالة الأولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجّيّة الأمارة الذي ينجّز مؤدّاها ، والآخر دليل الأصل الجاري في كلّ من الطرفين في نفسه ، وهما دليلان متعارضان لعدم إمكان العمل بهما معا.

والوجه الأوّل يفترض تماميّة الدليل الأوّل ويرتّب على ذلك عدم إمكان إجراء الأصول.

والوجه الثاني لا يفترض الفراغ عن ذلك ، فيقول : لا محذور في جريانها.

والاتّجاه الصحيح هو حلّ التعارض القائم بين الدليلين.

أمّا الحالة الأولى : أي فيما إذا قامت البيّنة ابتداء على الجامع بأن شهدت بوقوع النجاسة في أحد هذين الإناءين فهنا يوجد لدينا دليلان جاريان.

أحدهما : دليل حجّيّة الأمارة الذي يتعبّدنا بالنجاسة بنحو يكون منجّزا لهذه النجاسة.

والآخر : دليل حجّيّة الأصل المؤمّن أي دليل الطهارة فإنّ أصالة الطهارة تشمل كلا الفردين.

إلا أنّنا لا يمكننا الجمع بين هذين الدليلين ؛ لأنّهما متنافيان عمليّا ، فإنّ دليل الأمارة ينجّز التكليف بينما دليل الأصل يؤمّن عن كلا الفردين ، فيقع التعارض بينهما من ناحية المدلول الالتزامي للأمارة والدليل المطابقي للأصل.

فإنّ دليل الأمارة مدلولها المطابقي تنجيز الجامع للنجاسة ومدلولها الالتزامي أنّه لا يمكن إجراء الأصل الترخيصي لا في هذا الإناء ولا في ذاك ، إذ جريان الأصل في الطرفين معا معناه رفع اليد عن النجاسة التي هي مدلول مطابقي للأمارة ، وجريانه في أحدهما ترجيح بلا مرجح ، فلا بدّ من طرحه فيهما معا.

بينما دليل الأصل مفاده ومدلوله المطابقي إمكان جريان الأصل الترخيصي في كلّ من الفردين من دون محذور.

ص: 280

وهذا التعارض لا بدّ من حلّه وفقا لقوانين التعارض التي سوف تأتي.

والصحيح في حلّ التعارض هو تقديم دليل الأمارة وطرح دليل الأصل ، لا للحكومة ولا لكونها علما ، وإنّما لأجل أنّ دليل الأمارة نصّ في مورده بينما دليل الأصل يشمل المورد المذكور بإطلاقه ، فيكون دليل الأمارة أخصّ نصّا بينما دليل الأصل عامّ ومطلق ، وفي مثل ذلك يحكم العرف بتقديم الدليل الأخصّ والذي يكون نصّا في مورده ويرفع اليد عن إطلاق دليل الأصل في هذا المورد.

فتكون النتيجة تقديم الأمارة وبالتالي تكون منجّزة للجامع والذي بدوره يتطلّب الاجتناب عن كلا الإناءين.

فإن قيل : أليس دليل حجّيّة الأمارة حاكما على دليل الأصل؟

كان الجواب : أنّ هذه الحكومة إنّما هي فيما إذا اتّحد موردهما ، لا في مثل المقام ، إذ تلغي الأمارة تعبّدا الشكّ بلحاظ الجامع ، وموضوع الأصل في كلّ من الطرفين الشكّ فيه بالخصوص فلا حكومة ، بل لا بدّ من الاستناد إلى ميزان آخر لتقديم دليل الحجّيّة على دليل الأصل من قبيل الأخصّيّة أو نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتّب عليه آثار العلم الإجمالي.

وهنا قد يقال : إنّ التعارض بين دليل حجّيّة الأمارة ودليل الأصل من التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة حيث إنّ مفاد الحجّيّة جعل العمليّة فهو يرفع موضوع الأصل والذي هو الشكّ فيكون حاكما عليه ، ومن الواضح أنّ الدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم.

إلا أنّ الصحيح : أنّه لا حكومة بين دليل حجّيّة الأمارة وبين دليل الأصل ؛ لأنّه يشترط في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ، والنظر لا يتحقّق إلا إذا كان موضوعهما واحدا ، كما في قوله ، ( لا ربا بين الوالد والولد ) ، فإنّه حاكم على أدلّة حرمة الربا ؛ لأنّه شامل بعمومه وإطلاقه للربا بين الوالد والولد ، فيكون الدليل الأوّل حاكما ؛ لأنّه ناظر إلى موضوع الآخر على أساس وحدة الموضوع بينهما.

وهنا الموضوع مختلف ، فإنّ موضوع الأمارة هو الجامع ، أي أنّها تفيد التعبّد بإلغاء الشكّ عن الجامع فقط ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي قامت عليه الأمارة لا أكثر ، فيخرج

ص: 281

الجامع عن كونه مشكوكا ، فلا تجري الأصول الترخيصيّة بلحاظ الجامع ، بينما موضوع الأصل هو كلّ طرف بخصوصه ؛ لأنّ كلّ واحد من الإناءين في نفسه مشكوك ، إذ لا يعلم بأنّه النجس فيكون مشمولا للأصل بلحاظ كونه مشكوكا لا بلحاظ كونه مصداقا للجامع الذي ارتفع الشكّ بلحاظ.

وحيث إنّه لم يتّحد الموضوع فيهما فلا يكون أحدهما حاكما على الآخر ، إذ لا يحرز النظر حينئذ ، بل يمكن الأخذ بكلا الدليلين لو لا وجود مرجّح آخر.

فلو قطعنا النظر عن وجود المرجّح كانت البيّنة منجّزة للجامع ، وهذا يستلزم حرمة المخالفة القطعيّة بارتكاب كلا الإناءين ، ولكنّه لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع يتحقّق بفرد واحد فقط ، ويكون دليل الأصل شاملا لكلّ من الفردين في نفسه ولكن لا يشمله بلحاظ كونه مصداقا للجامع ، أي أنّه يوجد مانع عرضي لا ذاتي.

إلا أنّه هنا يوجد ميزان آخر للترجيح وهو الأخصّيّة والأنصّيّة للأمارة في موردها فتقدّم على دليل الأصل المطلق أو العامّ ؛ لأنّه يشمل المورد بإطلاقه وعمومه ، وهنا يلغى دليل الأصل في هذا المورد لتقديم النصّ والأخصّ عليه.

كما هو الحال في كلّ دليلين أحدهما عامّ أو مطلق والآخر خاصّ أو مقيّد ، كقولنا : ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ).

وبعد تقديم دليل حجّيّة الأمارة سوف تترتّب آثار العلم الإجمالي من حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة بالتقريب الصحيح المتقدّم سابقا.

وأمّا في الحالة الثانية : فالأصل ساقط في مورد الأمارة ؛ للتنافي بينهما وحكومة الأمارة عليه.

ولمّا كان موردها غير معيّن ومرددا بين طرفين فلا يمكن إجراء الأصل في كل من الطرفين ؛ للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل في أحدهما ، ولا مسوّغ لإجرائه في أحدهما خاصّة ، وبهذا يتنجّز الطرفان معا.

وأمّا الحالة الثانية فهي أن تقوم البيّنة على نجاسة أحد الإناءين بعينه ثمّ يشتبه حاله ويتردّد أمره بين إناءين ، فهنا حينما قامت البيّنة على نجاسة الفرد بعينه فقد نجّزته وأخرجته عن دائرة الشكّ وعن مورد جريان أصالة الطهارة ونحوها من الأصول

ص: 282

الترخيصيّة ؛ لأنّها في هذا الفرض تكون حاكمة على الأصل المفترض جريانه في هذا الإناء المعيّن ؛ لأنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وموضوعهما واحد فتكون الأمارة حاكمة ؛ لأنّها ناظرة إلى موضوع دليل الأصل وتنفي جريانه في هذا المورد بمدلولها الالتزامي ، وهذا واضح.

ثمّ إنّ هذا الإناء الذي سقط فيه الأصل المؤمّن وثبتت فيه الأمارة المنجّزة قد تردّد أمره بين إناءين ، وهنا لا يمكننا إجراء الأصل المؤمّن لا في كلا الطرفين ولا في أحدهما فقط.

أمّا الأوّل فلأنّنا نعلم أنّ الأصل ساقط عن الحجّيّة في أحد الإناءين ؛ لكونه محكوما للأمارة فيكون جريانه فيهما معا تقديما للمحكوم على الحاكم ، وهو غير معقول.

وأمّا الثاني فلأنّ شموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطه ، ولذلك يكون كلا الطرفين متنجّزا من باب أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وبهذا نصل إلى نفس النتيجة التي تقال بناء على مسلك جعل العمليّة ولكن التقريب مختلف.

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوما ضمن فرد معيّن لكان علما تفصيليّا لا إجماليّا ، ولما كان منجّزا إلا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص ، وحيثما يحصل علم بالجامع ثمّ يسري العلم إلى الفرد يسمّى ذلك بانحلال العلم الإجمالي بالعلم بالفرد.

الركن الثاني : أن يكون العلم الإجمالي واقفا على الجامع ولا يسري منه إلى الفرد ؛ إذ لو سرى العلم من الجامع إلى الفرد سوف ينقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالفرد وشكّ بدوي بسائر الأفراد الأخرى.

وبذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لسائر الأطراف بسبب انحلاله وصيرورته علما تفصيليّا بهذا ، وشكّا بدويّا بسائر الأفراد والتي تكون مجرى للبراءة ، وهذا ما يسمّى بالانحلال.

فالانحلال معناه أنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع والمنجّز للفردين ينحلّ إلى

ص: 283

جزءين ، أحدهما علم تفصيلي بهذا الفرد وشكّ بدوي في الفرد الآخر ، فينجّز ما تعلّق به العلم فقط ، وتجري الأصول الترخيصيّة في الفرد المشكوك بدوا.

وهذا المقدار واضح ؛ لأنّ تنجيز العلم الإجمالي لكلا الفردين إنّما كان لأجل أنّ نسبة العلم بالجامع إلى كلّ من الفردين على حدّ واحد ، فتطبيقه على أحدهما فقط بخصوصه ترجيح بلا مرجّح ، وتركه فيهما مخالفة قطعيّة فيجب فعلهما معا أو تركهما معا.

وتعلّق العلم بالفرد له عدّة أنحاء :

أحدها : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد معيّنا لنفس المعلوم بالإجمال ، بمعنى العلم بأنّ هذا الفرد هو نفس المعلوم الإجمالي المردّد ، ولا شكّ حينئذ في سراية العلم من الجامع إلى الفرد وفي حصول الانحلال.

ثمّ إنّ حالات تعلّق العلم بالفرد تختلف في تحقيق الانحلال وعدمه ، ولذلك نذكر أنحاء تعلّق العلم بالفرد :

النحو الأوّل : أن يكون العلم بالفرد معيّنا ومشخّصا لمتعلّق المعلوم بالإجمال ، كما إذا علمنا إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ هذا الإناء بعينه فيه قطرة دم ، وكانت هذه القطرة هي تلك القطرة المعلومة سابقا بحيث لا يوجد لدينا علمان مستقلاّن عن بعضهما ، ولم نحتمل أنّها غير تلك ، بل كانت القطرة المعلومة تفصيلا هي نفس المعلومة إجمالا.

وكما إذا علمنا بوجود زيد أو عمرو في المسجد ثمّ علمنا بوجود زيد في المسجد تفصيلا ، وكان زيد هذا هو نفس زيد المعلوم إجمالا وليس شخصا آخر ، فهنا يكون العلم الإجمالي منحلا بهذا العلم التفصيلي المعيّن لمورده ومتعلّقه.

وهذا من أوضح مصاديق الانحلال الحقيقي ، فيسري العلم من الجامع إلى الفرد وبالتالي تبطل منجّزيّة العلم الإجمالي لسائر الأفراد.

ثانيها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا على تعيين المعلوم الإجمالي مباشرة ، غير أنّ المعلوم الإجمالي ليس له أي علامة أو خصوصيّة يحتمل أن تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ثمّ علم بوجود زيد.

ص: 284

والصحيح هنا : سراية العلم من الجامع إلى الفرد وحصول الانحلال أيضا ، إذ يعود العلمان معا إلى علم تفصيلي بزيد وشكّ بدويّ في إنسان آخر.

النحو الثاني : ألاّ يكون العلم التفصيلي بالفرد ناظرا إلى نفس ما تعلّق به العلم الإجمالي ، غير أنّه لا توجد أيّة خصوصيّة أو ميزة في المعلوم بالعلم الإجمالي عن المعلوم تفصيلا ، بحيث إنّه يمكن تطبيقه على المعلوم تفصيلا بلا أي إشكال.

مثاله : ما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ، فهنا العلم الإجمالي متعلّق بالجامع ابتداء لا أنّه علم مردّد بين فردين كالعلم بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، ثمّ علمنا تفصيلا بوجود زيد في المسجد ، والمفروض أنّ الإنسان المعلوم إجمالا ليس فيه أيّة ميزة معلومة ، فحينئذ لن يكون هناك مانع من انطباق هذا المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ، فإذا انطبق عليه سوف يكون الشكّ في بقاء الإنسان في المسجد لأجل الشكّ في وجود فرد آخر له هناك وحيث إنّه مشكوك ابتداء فتجري فيه البراءة.

وبهذا يتحقّق الانحلال الحقيقي ؛ لأنّنا إذا جمعنا هذين العلمين العلم الإجمالي بوجود الإنسان في المسجد والعلم التفصيلي بوجود زيد فيه سوف ينتج علم تفصيلي بوجود زيد في المسجد وشكّ بدوي في وجود فرد آخر من أفراد الإنسان في المسجد ؛ لأنّ المعلوم من أفراد الإنسان هو زيد فقط وغيره مشكوك ابتداء ، فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

ومثاله أيضا : ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين الموجودين لدى الكافر ، وكان منشأ العلم بنجاسة أحدهما هو مساورته له ثمّ علمنا تفصيلا بأنّه ساور هذا الإناء بخصوصه ، فهذا الإناء نجس على كلّ تقدير ، بينما الآخر لا يعلم بنجاسته كذلك فتجري فيه الأصول الترخيصيّة وينحلّ العلم الإجمالي.

ثالثها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ، ويكون للمعلوم الإجمالي علامة في نظر العالم غير محرزة التواجد في ذلك الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان طويل في المسجد ثمّ علم بوجود زيد وهو لا يعلم أنّه طويل أو لا.

والصحيح هنا عدم الانحلال لعدم إحراز كون المعلوم بالعلم الثاني مصداقا للمعلوم بالعلم الأوّل ، بحيث يصحّ أن ينطبق عليه ، فلا يسري العلم من الجامع إلى تحصّصه ضمن الفرد.

ص: 285

النحو الثالث : أن لا يكون المعلوم بالتفصيل ناظرا إلى تعيين وتشخيص متعلّق العلم الإجمالي ، وأن يكون في متعلّق العلم الإجمالي ميزة وخصوصيّة يحتمل أنّها غير موجودة في متعلّق العلم التفصيلي بالفرد.

كما إذا علم بوجود إنسان طويل في المسجد ، فهذا علم إجمالي متعلّقه الإنسان الذي يوجد فيه ميزة وخصوصيّة معيّنة وهي كونه طويلا ، ثمّ علم بوجود زيد في المسجد إلا أنّه لا يعلم هل هو طويل أم لا؟ بحيث إنّه لو كان طويلا لأمكن تطبيق المعلوم بالإجمال عليه إذ لن يكون هناك مانع من ذلك ، ولو لم يكن طويلا فلن يمكن تطبيق المعلوم بالإجمال عليه ؛ لأنّه يعلم أنّه ليس هو بل هو فرد آخر غير الفرد الموجود فيه الجامع.

فهنا المتعلّق في كلّ منهما مختلف ؛ لأنّ أحدهما متعلّقه الجامع والآخر الفرد ، ويوجد في أحد المتعلّقين ميزة لا يعلم بوجودها في الآخر ، بل يحتمل ذلك.

والصحيح هنا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ بالعلم التفصيلي بالفرد المذكور ؛ لأنّه ليس ناظرا إلى تعيين معلومه ؛ ولأنّه يحتمل عدم انطباقه عليه بحيث يمكن ألاّ يكون مصداقا له ، فيكون العلم الإجمالي واقفا على الجامع ولا يسري من الجامع إلى الفرد والحصّة ؛ لأنّها غير معلومة كونها حصّة لهذا الجامع.

وبتعبير آخر : أنّ زيدا المعلوم وجوده في المسجد تفصيلا من المحتمل أن يكون هو الإنسان الطويل المعلوم إجمالا ، ومن المحتمل أن يكون مصداقا لإنسان آخر غير الطويل ، فتعيينه مصداقا للطويل دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعذّر الانحلال.

رابعها : أن يكون العلم الساري إلى الفرد تعبّديّا ، بأن قامت أمارة على ذلك بنحو لو كانت علما وجدانيّا لحصل الانحلال.

النحو الرابع : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد علما تعبّديّا ، ويكون ناظرا إلى نفس متعلّق العلم الإجمالي كما هو الحال في الصورة الأولى أو الثانية ، أي أنّ نفس الفرضيّتين اللتين تستوجبان الانحلال الحقيقي ، يفترض وجودهما هنا لكن مع العلم التعبّدي بالفرد.

مثاله : أن يعلم إجمالا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، ثمّ تقوم البيّنة على دخول زيد إلى المسجد ويكون زيد هذا هو نفس زيد المعلوم بالإجمال وليس شخصا

ص: 286

آخر. ومثاله أيضا : أن يعلم بدخول الإنسان إلى المسجد ثمّ تقوم البيّنة على دخول زيد ولكن لا يحتمل وجود ميزة في الجامع ، بمعنى أنّ هذا الفرد يصلح لأن يكون مصداقا له.

وقد يتوهّم في مثل ذلك الانحلال التعبّدي بدعوى أنّ دليل الحجّيّة يرتّب كلّ آثار العلم على الأمارة تعبّدا ، ومن جملتها الانحلال.

قد يقال هنا : إنّ الأمارة المذكورة توجب الانحلال الحقيقي تعبّدا لا وجدانا ، فكما أنّ العلم الوجداني كان يوجب الانحلال الحقيقي في الصورتين المذكورتين ، فكذلك الأمارة توجب الانحلال الحقيقي ، غايته أنّ الانحلال الحقيقي على الأوّل وجداني بينما على الثاني تعبّدي.

وهذا الانحلال الحقيقي التعبّدي يستفاد من دليل حجّيّة الأمارة ، فإنّه يرتّب كلّ آثار العلم الوجداني على الأمارة تعبّدا ، ومن جملة آثار العلم الوجداني هو الانحلال الحقيقي ، فيكون هذا الأثر مترتّبا على الأمارة أيضا.

والوجه في ذلك : إمّا دعوى تنزيل الأمارة منزلة العلم كما هي مقالة الشيخ الأنصاري ، وإمّا دعوى حكومة الأمارات ؛ لأنّ دليل حجّيّتها مفاده اعتبار الأمارة علما كما هي مقالة المحقّق النائيني ، وإمّا دعوى الورود على أساس المجاز العقلي كما هي مقالة السكّاكي في مثل هذا المورد.

ولكنّه توهّم باطل ؛ لأنّ مفاد دليل الحجّيّة إن كان هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ، فمن الواضح أنّ التنزيل لا يمكن أن يكون ناظرا إلى الانحلال ؛ لأنّه أثر تكويني للعلم ، وليس بيد المولى توسيعه.

إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ؛ لأنّ ترتّب آثار العلم على الأمارة إن كان بنحو تنزيل الأمارة منزلة العلم - كما هو الحال في تنزيل الطواف منزلة الصلاة - فهذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت الآثار التي يراد التنزيل بلحاظها بيد المنزّل ، ففي المثال المذكور يراد ترتيب الطهارة والستر ونحوهما من الآثار الشرعيّة على المنزّل أي الطواف ، وهذا أمر ممكن ؛ لأنّ الطهارة والستر من الآثار الشرعيّة التي بيد الشرع إيجابها وعدم إيجابها.

وأمّا في مقامنا فإنّ الأمارة المنزّلة منزلة العلم إنّما تكون بلحاظ الآثار الشرعيّة للعلم أو الآثار المطلوبة شرعا من العلم. ومن الواضح هنا أنّه لا يوجد سوى المنجّزيّة

ص: 287

والمعذّريّة فإنّهما ليسا من الأحكام الشرعيّة فلا يمكن التنزيل بلحاظهما ، فضلا من سائر خصوصيّات العلم فإنّها تكوينيّة أو عقليّة.

والانحلال من اللوازم التكوينيّة للعلم بالفرد ، فلا يمكن أن يكون دليل التنزيل ناظرا إليه أيضا ؛ لأنّه ينظر إلى الآثار الشرعيّة فقط.

وبتعبير آخر : أنّ عمليّة التنزيل يشترط فيها أن يكون المنزّل ناظرا إلى الآثار التي يراد تنزيلها ، وفي مقامنا حيث إنّ المنزّل هو الشارع فيشترط أن تكون الآثار المنزّلة شرعيّة دون غيرها ؛ لأنّ الآثار العقليّة أو التكوينيّة لا تطالها يد الشارع رفعا ووضعا بما هو شارع ، ولذلك لا يعقل التنزيل الشرعي بلحاظها.

وإن كان مفاد دليل الحجّيّة اعتبار الأمارة علما على طريقة المجاز العقلي ، فمن المعلوم أنّ هذا الاعتبار لا يترتّب عليه آثار العلم الحقيقي التي منها الانحلال ، وإنّما يترتّب عليه آثار العلم الاعتباري.

وأمّا إذا كان ترتّب آثار العلم على الأمارة على أساس الورود واعتبار ما ليس بعلم علما ، كما هو الحال في المجاز العقلي السكّاكي ، فالانحلال لا يمكن إثباته بالأمارة أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ الادّعاء العقلي أو الورود لا يثبت إلا الآثار المطلوبة من الادّعاء المذكور ، فمثلا إذا قيل : زيد أسد ، أي أنّه فرد من أفراد الأسد على أساس أنّه مصداق للشجاع الذي يدّعي العقل أنّه من أنواع الأسد ، كان معناه أنّ الآثار المطلوبة من الأسد تترتّب على زيد ، من قبيل الشجاعة والقوّة والهيبة والعزّة.

وأمّا الآثار التكوينيّة الخاصّة بالأسد أي الحيوان المفترس من قبيل رائحة الفم الكريهة أو من قبيل أكل الحيوانات الأخرى بالافتراس ، فهذا ممّا لا يترتّب ولا يثبت حتّى بالورود ، لأنّ الادّعاء العقلي ليس مطلقا وبلحاظ تمام الآثار ، وإنّما يتحدّد بحدود الآثار التي يمكن الادّعاء فيها والتي تتحقّق فيها المشابهة والمناسبة ، ولذلك يستهجن العرف والعقل لو قيل : بأنّ زيدا أسد ، وكان المقصود من ذلك أنّ رائحة فمه كريهة.

وفي مقامنا إذا كانت الأمارة علما على نحو الادّعاء العقلي بمعنى أنّها فرد من أفراد العلم ادّعاء ، فهذا لا يعني أنّ تمام الآثار المترتّبة على العلم تترتّب على الأمارة ، فإنّ الاستقرار النفسي والاطمئنان والإذعان والاعتقاد لا توجد إلا في العلم الحقيقي

ص: 288

دون الأمارة ، حتّى لو كانت علما ، فهي إذا علم بلحاظ الطريقيّة والمنجّزيّة والمحركيّة فقط.

وهذا يعني أنّ الآثار المترتّبة تكوينا على العلم الحقيقي كالانحلال مثلا لا يمكن ترتيبها على الامارة ، بل يترتّب عليها الآثار التي نشأ الادّعاء منها فقط ، والتي هي الطريقيّة والمنجّزيّة والمحرّكيّة فقط.

وأمّا سائر الآثار حتّى التي تختصّ بالعلم الحقيقي الوجداني قهرا بحيث لا توجد إلا معه ؛ لأنّها من لوازمه التي لا تنفكّ فهذه لم ينظر إليها في الادّعاء العقلي.

وبتعبير دقيق : إنّ دليل الأمارة على أساس المجاز العقلي يترتّب عليه آثار العلم التعبّدي من كاشفيّة ومحرّكيّة ومنجّزيّة ، وأمّا آثار العلم الحقيقي الوجداني من استقرار نفس مثلا وتصديق راسخ وقاطع وانحلال ، فهذا لا يترتّب على دليل الأمارة ؛ لأنّ الادّعاء لم يكن بلحاظها ؛ إذ المناسبة والمشابهة لا تتمّ بين الأمارة والعلم بلحاظها ، وإنّما المناسبة المصحّحة لهذا الادّعاء هي ترتيب الآثار الشرعيّة فقط.

فإن قيل : نحن لا نريد بدليل الحجّيّة أن نثبت الانحلال الحقيقي بالتعبّد لكي يقال بأنّه أثر تكويني تابع لعلّته ، ولا يحصل بالتعبّد تنزيلا أو اعتبارا ، بل نريد استفادة التعبّد بالانحلال من دليل الحجّيّة ؛ لأنّ مفاده التعبّد بإلغاء الشكّ والعلم بمؤدّى الأمارة ، وهذا بنفسه تعبّد بالانحلال ، فهو انحلال تعبّدي.

قد يقال هنا : إنّنا لو سلّمنا بأنّ التنزيل أو الاعتبار لا يحقّقان الانحلال الحقيقي ؛ لما ذكر من كون الانحلال أثرا ولازما تكوينيّا للعلم الحقيقي ، أي هو معلول للعلم الحقيقي فلا يتحقّق إلا مع وجود علّته حقيقة وتكوينا ، والتنزيل والاعتبار قاصران عن إثبات العلّة الحقيقيّة ؛ لأنّهما يتحدّدان بالمقدار المنزّل أو المدّعى وهو الآثار الشرعيّة فقط دون غيرها ، فالتعبّد بحجّيّة الأمارة تنزيلا أو اعتبارا لا يفيد التعبّد بحصول الانحلال الحقيقي ؛ لأنّه تابع لعلّته الواقعيّة الحقيقيّة التكوينيّة وهي العلم الوجداني.

وبتعبير آخر : أنّ الملازمة بين العلم الحقيقي والانحلال تكوينيّة وواقعيّة ، وليست اعتباريّة أو تنزيليّة أو شرعيّة ليكون التعبّد بوجودها مفيدا في ترتيب الأثر واللازم.

ص: 289

إلا أنّنا نقول شيئا آخر وهو : إنّ دليل حجّيّة الأمارة معناه جعل العلميّة وإلغاء الشكّ ، ولذلك يكون دليل حجّيّة الأمارة حاكما على الأدلّة التي أخذ فيها العلم وجودا وعدما ؛ لأنّه يثبت العلم ويلغي الشك.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على شيء فهي تلغي الشكّ فيه وتثبت العلم ، وإذا ثبت العلم فإنّ آثاره ولوازمه تثبت ؛ والتي من جملتها الانحلال ، غاية الأمر أنّ ثبوت العلم كان تعبّدا ، إلا أنّه بعد فرض ثبوته فجميع الآثار تترتّب عليه.

وبكلمة أخرى : إنّ دليل الأمارة بعد ثبوت حجّيّته يثبت لنا العلم ، وهذا معناه أنّه يوجد طريقان لثبوت العلم أحدهما الطريق الوجداني وهو القطع ، والآخر الطريق التعبّدي وهو قيام الأمارة ، والثابت بهذين الطريقين واحد وهو العلم ، فتترتّب جميع آثار العلم ، والتي منها الملازمة المذكورة بين العلم وبين الانحلال.

ففرق بين القول السابق بأنّه يوجد انحلال حقيقي بالتعبّد ، وبين قولنا هذا وهو وجود تعبّد بالانحلال الحقيقي ، فإنّ الأوّل لازمه وجود المعلول وهو الانحلال الحقيقي من دون وجود علّته وهي العلم الحقيقي.

بينما الثاني معناه أنّه يوجد انحلال حقيقي لوجود علّته الحقيقيّة وهي العلم ، غاية الأمر أنّ ثبوت هذا العلم لم يكن عن طريق القطع الوجداني ، وإنّما كان عن طريق التعبّد الشرعي ، فهناك تعبّد بالانحلال على أساس الملازمة بين إلغاء الشكّ وثبوت العلم من دليل حجّيّة الأمارة ، وبين زوال العلم الإجمالي على أساس اختلال ركنيه الأوّل والثاني ؛ إذ لا علم بالجامع ولا شكّ في الفرد وإنّما هناك علم بالفرد ولكنّه علم تعبّدي.

كان الجواب على ذلك : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّدا بالانحلال ، بل بما هو علّة للانحلال ، والتعبّد بالعلّة لا يساوق التعبّد بالمعلول.

والجواب على ذلك :

أوّلا : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّدا بالانحلال الحقيقي ؛ لأنّ دليل الحجّيّة ليس مفاده ومدلوله المطابقي الانحلال ، وإنّما العلم وإلغاء الشكّ ، وهذا يعني أنّ مفاد دليل الحجّيّة التعبّد بوجود علّة الانحلال أي العلم الذي هو علّة للانحلال لا التعبّد بالانحلال مباشرة.

ص: 290

وعليه ، فلا ملازمة بين التعبّد بالعلّة وبين التعبّد بالمعلول ، بل يمكن التعبّد بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّ التعبّد يتحدّد بالمقدار المدلول عليه بالدليل لا أزيد.

وفي مقامنا الدليل يعبّدنا بثبوت العلّة أي العلم ، وأمّا المعلول فلا يعبّدنا بوجوده ، فلا يوجد دليل على وجوده لا حقيقة - كما هو واضح إذ لا علم وجداني - ولا تعبّدا ؛ لأنّه غير مأخوذ في الدليل.

وأمّا الملازمة بين العلّة والمعلول فهي ملازمة تكوينيّة واقعيّة حقيقيّة ، فيحكم العقل بها عند وجود العلّة تكوينا واقعا ، وأمّا إذا لم توجد العلّة واقعا وتكوينا فالعقل لا يحكم بها.

مضافا إلى إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول في باب التعبّد في غير الآثار الشرعيّة كما في الآثار التكوينيّة أو العقليّة ، فثبوت حياة زيد تعبّدا لازمها التكويني نبات لحيته إلا أنّه لا يثبت ، بينما يثبت لازمها الشرعي من قبيل عدم بينونة زوجته وعدم جواز تقسيم تركته ، وكذا الحكم بصحّة الوضوء على أساس الفراغ فإنّه تصحيح للصلاة التي أتمّها ، وأمّا الصلاة الآتية فلا يكفي فيها هذا الوضوء بل لا بدّ من تجديده.

أضف إلى ذلك : أنّ التعبّد بالانحلال لا معنى له ولا أثر ؛ لأنّه إن أريد به التأمين بالنسبة إلى الفرد الآخر بلا حاجة إلى إجراء أصل مؤمّن فيه فهذا غير صحيح ؛ لأنّ التأمين عن كلّ شبهة بحاجة إلى أصل مؤمّن حتّى ولو كانت بدوية.

ويرد عليه ثانيا : أنّ التعبّد بالانحلال في مقامنا لغو لا فائدة ولا أثر له ؛ وذلك لأنّه : إن أريد بالتعبّد بالانحلال ثبوت التأمين بالنسبة للفرد الآخر من دون إجراء أصل مؤمّن فيه ، اكتفاء بقيام الأمارة على ثبوت التكليف في الطرف الأوّل ، على أساس الملازمة بين ثبوت التكليف في هذا الطرف وارتفاعه عن ذاك ؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بثبوت تكليف بين هذين الطرفين لا أكثر ، فهذه الملازمة عقليّة فيكون المورد من الأصل المثبت وهو ليس حجّة.

مضافا إلى أنّ إثبات التأمين لا يكون بالملازمة لو سلّم جريانها هنا ؛ لأنّه يشترط في كلّ شبهة حتّى لو كانت الشبهة بدوية أن يكون هناك أصل مؤمّن ثابت في مورد الشبهة بالمطابقة ، وإلا لكانت منجّزة باحتمال التكليف فيها.

وحينئذ تقع المعارضة بين حكم العقل بتنجّز التكليف بالاحتمال وبين حكم العقل

ص: 291

بالتأمين على أساس الملازمة ، والأحكام العقليّة لا يعقل التعارض بينها ؛ لأنّ لكلّ منها موضوعا يختلف عن الآخر ، وحيث إنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز هو الشبهة التي لا مؤمّن فيها فيكون التنجيز هو الثابت دون الملازمة.

نعم ، لو قام الأصل المؤمّن على مورد الشبهة فهنا لا تصادم بل يرتفع موضوع حكم العقل ؛ لأنّه معلّق على عدم ورود الترخيص وقد ورد فعلا.

وإن أريد بذلك التمكين من إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر ، فهذا يحصل بدون حاجة إلى التعبّد بالانحلال.

وإن أريد بالتعبّد بالانحلال أنّ المكلّف يمكنه إجراء الأصل في الفرد الآخر ، فإذا جرى الأصل فيه انحلّ العلم الإجمالي ، فهذا الأمر حاصل سواء كان هناك تعبّد بالانحلال أم لا ، فلا أثر للتعبّد بالانحلال في جريان الأصل في الطرف الآخر ؛ لأنّ الأصل يجري في الطرف الآخر لعلّة أخرى وملاك آخر غير الانحلال وهو :

وملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن كونه موردا للأصل المؤمّن ، سواء أنشئ التعبّد بعنوان الانحلال أم لا.

وأمّا الملاك والعلّة لجريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر من دون حاجة إلى الانحلال فهو زوال المعارضة ؛ لأنّنا قلنا : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة على أساس أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مخالفة قطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وجريانها في البعض فقط ترجيح بلا مرجّح لتعارض هذا البعض مع البعض الآخر.

وأمّا إذا لم يكن لهذا البعض معارض فلا مانع من جريان الأصل المؤمّن فيه ، وذلك بأن يكون هناك منجّز شرعي أو عقلي في الطرف الآخر ، وموردنا من هذا القبيل فإنّه يوجد في أحد الطرفين منجّز شرعي وهو الأمارة المثبتة للتكليف فلا يجري فيه الأصل الترخيصي ؛ لأنّ الأمارة حاكمة عليه ، وأمّا الطرف الآخر فيجري فيه الأصل الترخيصي بلا محذور إذ لا معارض له.

فسواء كان هناك تعبّد بالانحلال أم لا فالأصل سوف يجري في الطرف الآخر ؛ لأنّه لا معارض له. وبهذا ظهر أنّه لا معنى للتعبّد بالانحلال فيكون لغوا.

نعم هناك انحلال حكمي في المقام وليس انحلالا حقيقيّا كما سيأتي في محلّه.

ص: 292

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين مشمولا في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي لدليل الأصل المؤمّن ، إذ لو كان أحدهما مثلا غير مشمول لدليل الأصل المؤمّن لسبب آخر لجرى الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بدون محذور.

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين أو الأطراف مشمولا للأصل المؤمّن في نفسه وبقطع النظر عن التعارض المسبّب عن العلم الإجمالي ، بمعنى أنّ كلّ طرف يكون موردا لجريان الأصل بأن تكون أركان الأصل فيه تامّة ، أو موضوع الأصل فيه متحقّق ، هذا بحسب نفس الدليل وبقطع النظر عن العلم الإجمالي الذي يسبّب وقوع التعارض في دليل الأصل في الطرفين.

وأمّا إذا لم يكن أحد الطرفين مشمولا للأصل الترخيصي بأن كان مشمولا لأصل منجّز مثلا ، وكان الطرف الآخر مشمولا للأصل الترخيصي ، فهنا لا محذور في جريان الأصل الترخيصي في أحدهما إذ لا معارض له في الآخر.

وهذه الصياغة إنّما تلائم إنكار القول بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، إذ بناء على هذا الإنكار يتوقّف تنجّز وجوب الموافقة على التعارض بين الأصول المؤمّنة.

وصياغة هذا الركن بهذا النحو إنّما يتلاءم مع إنكار القول بالعلّيّة - كما هو الصحيح - لأنّه على غير هذا المسلك لا يكون العلم الإجمالي مستدعيا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا ينجّز إلا مقدار الجامع المعلوم ، وهو لا يستدعي إلا الإتيان بأحدهما في نفسه.

وأمّا الإتيان بكلا الطرفين معا فكان بسبب تعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها في كلا الطرفين ، وعليه فلا بدّ أن يكون كلّ منهما مشمولا في نفسه للأصل الترخيصي ليعقل المعارضة مع الطرف الآخر المشمول للأصل الترخيصي في نفسه أيضا.

وأمّا على القول بالعلّيّة كما هو مذهب المحقّق العراقي (1) فلا تصحّ الصياغة المذكورة ؛ لأنّ مجرّد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه ؛

ص: 293


1- وقد مضى تحت عنوان : جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه.

لأنّه ينافي علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فلا بدّ من افتراض نكتة في الرتبة السابقة تعطّل العلم الإجمالي عن التنجيز ليتاح للأصل المؤمّن أن يجري.

ومن هنا صاغ المحقّق المذكور الركن الثالث صياغة أخرى ، وحاصلها :

وأمّا على مسلك العلّيّة الذي ذهب إليه المحقّق العراقي ، فلا تكون هذه الصياغة صحيحة ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك يكون العلم الإجمالي بنفسه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

ومعنى العلّيّة أنّه إذا ثبتت العلّة ثبت المعلول ولا يمكن أن يتخلّف عنها.

ولذلك يكون كلّ من الطرفين منجّزا في نفسه ؛ لأنّه مصداق لوجوب الموافقة القطعيّة المعلولة للعلم الإجمالي ، ولا فرق في منجّزيّة كلّ الطرف بين أن يكون الطرف الآخر مشمولا للأصل الترخيصي أو للأصل المنجّز ؛ لأنّ التعارض بين الأصلين الترخيصيّين ليس هو السبب في وجوب الموافقة القطعيّة ، بل هي واجبة وثابتة سواء كان هناك تعارض أم لا ، ولذلك يكون جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين دون الآخر - على مسلك العلّيّة - مخالفا لعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه يفكّك بين العلّة ومعلولها وهو محال.

وحينئذ نقول : إنّه إذا ثبت الأصل الترخيصي في مورد من دون معارض بأن كان الطرف الآخر مشمولا لأصل منجّز ، فلا بدّ من إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وتعطيله على أساس وجود نكتة تقتضي إبطال علّيّته في مثل هذا الفرض ، لا أنّنا نبقي العلم الإجمالي على حاله وتنجيزه ونقول : إنّه لا تجب الموافقة القطعيّة ، إذ لازمه التفكيك بين العلّة ومعلولها وهو محال.

وعلى هذا الأساس لا بدّ من صياغة الركن الثالث صياغة جديدة تبرز مثل هذه النكتة التي من شأنها تعطيل العلم الإجمالي وإسقاطه ، وحاصل هذه الصياغة أن يقال :

أنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقّف على صلاحيّته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره ، فإذا لم يكن صالحا لذلك فلا يكون منجّزا ، وعلى هذا فكلّما كان المعلوم الإجمالي على أحد التقديرين غير صالح للتنجّز بالعلم الإجمالي لم يكن العلم

ص: 294

الإجمالي منجّزا ؛ لأنّه لا يصلح للتنجيز إلا على بعض تقادير معلومه ، وهذا التقدير غير معلوم ، فلا أثر عقلا لمثل هذا العلم الإجمالي.

ذكر المحقّق العراقي أنّه يشترط في العلم الإجمالي أن يكون منجّزا لمعلومه على جميع التقادير ، وهذا الشرط يعتبر بديلا عن الركن الثالث ؛ لأنّه يصل إلى نفس النتيجة.

بتوضيح : أنّنا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ، فهذا العلم الإجمالي ينجّز معلومه على جميع التقادير ، إذ كلّ طرف في نفسه يحتمل أن يكون هو النجس فيكون منجّزا.

وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي قد نجّز معلومه وهو النجاسة على جميع تقادير وجودها سواء في هذا أم في ذاك ، وأمّا إذا كان أحدهما منجّزا بمنجّز آخر كقيام الأمارة على نجاسة هذا الإناء بعينه أو استصحاب النجاسة السابقة في هذا الإناء ، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على جميع التقادير بل على بعض التقادير فقط.

بمعنى أنّه لو لا العلم الإجمالي لم يكن منجّزا ، وأمّا إذا كان منجّزا بقطع النظر عن العلم الإجمالي فلا يؤثّر فيه العلم الإجمالي شيئا.

وبهذا يختلّ شرط منجّزيّة العلم الإجمالي لمعلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ الثابت هو منجّزيّته على بعض التقادير فقط.

وهذا التقدير غير معلوم بل مشكوك فتنتفي مؤثّريّة العلم الإجمالي في التنجيز واشتغال الذمّة بكلا الطرفين ، ويعود الشكّ بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

وبتعبير آخر : يجب أن يكون كلّ طرف قابلا لأن يكون منجّزا بالعلم الإجمالي ، وإلا فلا يكون العلم الإجمالي مؤثّرا في المنجّزيّة.

فالعلم الإجمالي إنّما يكون علّة لوجوب الموافقة القطعيّة للطرفين فيما إذا كان كلّ منهما منجّزا بالعلم الإجمالي ، وهذا لا يكون إلا إذا كان كلّ من الطرفين مشكوكا في نفسه وقابلا لانطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فمع خروج أحد الطرفين عن ذلك بقيام المنجّز عليه سوف يخرج عن قابليّة التنجيز بالعلم الإجمالي.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزا إذا كان أحد طرفيه منجّزا بمنجّز آخر غير العلم الإجمالي من أمارة أو أصل منجّز ؛ وذلك لأنّ العلم

ص: 295

الإجمالي في هذه الحالة لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه على مورد الأمارة أو الأصل ؛ لأنّ هذا المورد منجّز في نفسه ، والمنجّز يستحيل أن يتنجّز بمنجّز آخر ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على أثر واحد ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي غير صالح لتنجيز معلومه على كلّ حال ، فلا يكون له أثر.

وعلى أساس هذا الشرط سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا فيما إذا كان أحد طرفيه منجّزا بمنجّز آخر من أمارة مثبتة للتكليف أو استصحاب مثبت للتكليف أيضا.

فإنّه في هذه الحالة سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير ؛ وذلك لأنّ الطرف الذي فيه أمارة أو أصل منجّز لن يكون صالحا للتنجيز بالعلم الإجمالي ؛ لأنّه على تقدير انطباق مورد العلم الإجمالي على مورد الأمارة أو الأصل لن يكون هذا العلم منجّزا له ؛ لأنّه منجّز في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي.

فيكون تنجيز العلم الإجمالي له من باب اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد وهو مستحيل ، إذ في هذا الطرف الذي فيه الأمارة أو الأصل سوف يكون الأمارة أو الأصل علّة لتنجيزه ، وسيكون العلم الإجمالي علّة لتنجيزه أيضا ، واجتماع علّتين على معلول واحد جائز بمعنى صيرورة كلّ منهما جزء العلّة ، وأمّا كون كلّ منهما علّة مستقلّة فهذا مستحيل.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي هنا معطّل عن التنجز لاختلال شرطه المذكور ، فلا يكون مؤثّرا في وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه في هذا الطرف لا ينجّز لأنّه منجّز ، وفي ذلك الطرف سوف يشكّ في كونه المعلوم بالإجمال ابتداء ، فيجري فيه الأصل المؤمّن لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وصيرورة الشكّ فيه بدويّا.

وبهذا نعرف أنّه يشترط أن يكون كلا الطرفين يقبلان التنجيز بالعلم الإجمالي ، وهذا يفترض أنّهما معا غير منجّزين بمنجّز آخر أو أحدهما أيضا.

والفرق العملي بين هاتين الصياغتين يظهر في حالة عدم تواجد أصل مؤمّن في أحد الطرفين ، وعدم ثبوت منجّز فيه أيضا سوى العلم الإجمالي ، فإنّ الركن الثالث حسب الصياغة الأولى لا يكون ثابتا ، ولكنّه حسب الصياغة الثانية ثابت ، والصحيح هو الصياغة الأولى.

ص: 296

والفارق العملي بين الصياغتين يظهر فيما إذا فرضنا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ولم تكن حالتهما السابقة معلومة ، ولم يكن هناك أصل منجّز لا فيهما ولا في أحدهما ، إلا أنّه يوجد أصل مؤمّن في أحدهما فقط.

مثاله : ما إذا علمنا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، وكان السائل في أحدهما ماء والسائل في الآخر مشكوكا ومردّدا بين الخلّ والخمر ، فهنا لا توجد حالة سابقة معلومة لتستصحب ، ولا يوجد أصل منجّز فيهما أو في أحدهما ، إلا أنّ السائل الذي فيه ماء تجري فيه أصالة الطهارة بخلاف السائل الآخر ، فإنّ أصالة الطهارة لا تجري في النجاسة الذاتيّة المشكوكة على أحد القولين.

فعلى صياغة المشهور سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تتعارض إذ لا يوجد إلا أصل ترخيصي واحد فيجري بلا معارض.

بينما على صياغة المحقّق العراقي يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم الإجمالي صالح للتنجيز على كلّ تقدير ، إذ كلّ واحد من الطرفين قابل للتنجيز بالعلم الإجمالي ، وليس أحدهما منجّز بمنجّز آخر.

والصحيح هو الصياغة الأولى دون الثانية ؛ لأنّ صياغة المحقّق العراقي يرد عليها أنّ المنجّز بمنجّز آخر يقبل التنجيز مجدّدا بالعلم الإجمالي أيضا ولا استحالة في ذلك ، وإنّما الاستحالة تكون فيما إذا اجتمعت علّتان مستقلّتان على معلول واحد ، وهذا مختص في العلل الحقيقية الواقعيّة دون العلل الاعتباريّة ، ومقامنا من العلل الاعتباريّة ؛ لأنّ التنجيز وثبوت التكليف علّته اعتباريّة أي تابعة لما يجعله الشارع من أسباب وعلل (1).

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة في كلّ من الطرفين مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وإمكان وقوعها خارجا على وجه مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعيّة ممتنعة على المكلّف حتّى مع الإذن والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة في كلّ من الطرفين.

ص: 297


1- مضافا إلى وقوع ذلك عمليّا كما إذا نذر أن يصلّي الصبح فتكون منجّزة بمنجّزين معا ، الأوّل الوجوب الثابت لها على فرض تحقّق شرطه وهو طلوع الفجر ، والآخر النذر ، وعليه فإذا لم يصلّ الصبح يكون مخالفا لشيئين للوجوب وللنذر أيضا.

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، ومؤدّيا إلى إمكان وقوع هذه المخالفة من المكلّف ، بحيث يكون مأذونا في المخالفة ، وتكون المخالفة ممكنة الوقوع منه خارجا.

ففي مثل هذه الحالة يكون العلم الإجمالي منجّزا ، كما إذا علم بنجاسة أحد هذين الإناءين ، وكان كلّ منهما مجرى لأصالة الطهارة في نفسه باعتبار الشكّ في النجاسة العرضيّة الطارئة عليه ، وكان كلّ من الطرفين تحت اختيار وقدرة المكلّف بحيث يمكنه ارتكابهما معا ، فهنا يكون جريان أصالة الطهارة فيهما معا ترخيصا في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو محال ، ولذلك يقع التعارض بين الأصلين الترخيصيّين ويحكم بتساقطهما معا ؛ لاستحالة ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح.

وأمّا إذا لم يكن جريان الأصل الترخيصي في كلّ منهما مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة عمليّا ، فلا محذور في جريانها فيهما حتّى لو كان هناك التزام بالترخيص والإذن في المخالفة ؛ لأنّ المهمّ هو حصول المخالفة فعلا ، وعدم أداء الأصل إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة إمّا لأجل قصور في قدرة المكلّف على ارتكابهما معا.

كما لو علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما عنده والآخر عند السلطان بحيث كان ممتنعا عرفا الوصول إليه ، وإمّا لأجل محذور عقلي بأن كان أحد الإناءين ممّا لا يمكن الوصول إليه أصلا.

فهنا تجري أصالة البراءة في كلا الطرفين ولا محذور في ذلك ؛ لأنّ ملاك العلم الإجمالي لمنجّزيّة الموافقة القطعيّة كان محذور تعارض الأصول المؤدّية إلى الترخيص في المخالفة ، وهذا مستند إلى المحذور العقلائي ، وهو مختصّ فيما إذا كان بإمكان المكلّف المخالفة القطعيّة.

وأمّا إذا لم يمكنه ذلك فالعقلاء لا يرون محذورا في الترخيص في الطرفين ما دام لن يحصل منه مخالفة عمليّة.

وركنيّة هذا الركن مبنيّة على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، وأمّا بناء على العلّيّة فلا دخل لذلك في التنجيز ، إذ يكفي في امتناع جريان الأصول حينئذ كونها مؤدّية للترخيص ولو في بعض الأطراف.

وهذا الركن واضح بناء على مسلك المشهور من اقتضاء العلم الإجمالي لمنجّزيّة

ص: 298

الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ منجّزيّته لذلك كانت فرع جريان الأصول وتعارضها وتساقطها ؛ لأنّ جريانها في الطرفين يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة ، وأمّا إذا لم تجر في الطرفين أو جرت فيهما ولم تؤدّ إلى المخالفة القطعيّة فلا محذور في جريانها عندهم.

وهكذا الحال بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة مستندة إلى منجّزيّة الاحتمال في كلّ طرف بعد سقوط الأصل المؤمّن فيه بسبب التعارض.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة فلا وجه لهذا الركن ؛ لأنّ العلم الإجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعيّة سواء جرت الأصول الترخيصيّة أم لا ، وسواء جرت في الطرفين أم في أحدهما ، فإنّ كلّ ذلك لا مدخليّة له في التنجيز كما تقدّم ، فما دام العلم الإجمالي ثابتا فهو علّة لتنجيز كلّ واحد من الطرفين سواء كانا عنده وتحت قدرته أم لا ؛ لأنّ جريان الأصول ولو في بعض الأطراف لازمه التفكيك بين العلّة والمعلول على هذا المسلك وهو ممتنع عقلا ، فيجب الاجتناب عن الطرف الواحد أيضا كما يجب الاجتناب عن الطرفين معا.

وهناك صياغة أخرى لهذا الركن تبنّاها السيّد الأستاذ ، وهي أن يكون جريان الأصول مؤدّيا إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وقد تقدّم الحديث عن ذلك بالقدر المناسب (1) ، كما أنّ الصياغة المطروحة فعلا لهذا الركن سيأتي مزيد تحقيق وتعديل بالنسبة إليها في مبحث الشبهة غير المحصورة ، إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه اللّه قد صاغ هذا الركن بنحو آخر فقال :

يشترط أن لا يكون جريان الأصول الترخيصيّة مؤدّيا إلى الالتزام والاعتقاد في الترخيص القطعي في المخالفة ، سواء حصل من ذلك مخالفة عمليّة أم لا ، أي أنّ المحذور عنده ليس هو المخالفة العمليّة فحسب ، بل الأعمّ منها ومن المخالفة القطعيّة العمليّة والالتزاميّة.

ص: 299


1- ضمن الردّ على شبهة جريان الترخيصات المشروطة في أطراف العلم الإجمالي ، تحت عنوان : جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه.

فإذا كان هناك علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وكانا تحت قدرته ، فالترخيص فيهما معا مخالفة قطعيّة عمليّة ومخالفة قطعيّة علميّة والتزاميّة ؛ لأنّه سوف يعتقد بصدور الترخيص في المخالفة وهو قبيح ؛ لأنّه ترخيص في المعصية القبيحة.

وهكذا الحال لو كان هناك علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وكان أحدهما خارجا عن قدرته عقلا أو عادة وعرفا ، بأن كان لدى السلطان مثلا ، فهنا وإن لم يلزم المخالفة العمليّة للمعلوم بالإجمال إلا أنّه سوف يلزم الاعتقاد بصدور ترخيص قطعي في المخالفة وهو مستحيل أيضا.

وهذه الصياغة تقدّم بعض الحديث عنها ، وأنّه لا معنى لاستحالة الترخيص القطعي لا من حيث الجعل والاعتبار ولا من حيث المبادئ والملاكات ، ولا من حيث الامتثال.

إلا أنّ هذا الركن الرابع بصياغته المشهورة سوف يأتي مزيد تحقيق وتعديل له عند الحديث عن الشبهة المحصورة.

* * *

ص: 300

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي

اشارة

ص: 301

ص: 302

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي

عرفنا في ضوء ما تقدّم الأركان الأربعة لتنجيز العلم الإجمالي ، فكلّما انهدم واحد منها بطلت منجّزيّته ، وكلّ الحالات التي قد يدّعى سقوط العلم الإجمالي فيها عن المنجّزيّة لا بدّ من افتراض انهدام أحد الأركان فيها ، وإلا فلا مبرّر للسقوط.

وفيما يلي نستعرض عددا مهمّا من هذه الحالات لدراستها من خلال ذلك :

بعد أن عرفنا أركان العلم الإجمالي الأربعة ، نقول : إنّه لكي يكون العلم الإجمالي منجّزا فلا بدّ من توفّر هذه الأركان معا ، فإذا اختلّ ركن منها سقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وهذا يعني أنّ كلّ الحالات التي يقال فيها بسقوط العلم الإجمالي مرجعها في الحقيقة إلى ادّعاء اختلال أحد أركان هذه القاعدة ، وإلا فلا معنى للسقوط مع توفّر الأركان الأربعة.

وهنا سوف نستعرض أهمّ هذه الحالات التي يدّعى فيها سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وسوف ندرسها لنرى ما هو الصحيح منها.

1 - زوال العلم بالجامع :

الحالة الأولى : أن يزول العلم بالجامع رأسا ولذلك صور :

الصورة الأولى : أن يظهر للعالم خطؤه في علمه ، وأنّ الإناءين اللذين اعتقد بنجاسة أحدهما مثلا طاهران ، ولا شكّ هنا في السقوط عن المنجّزيّة ؛ لانعدام الركن الأوّل من الأركان المتقدّمة.

الحالة الأولى : أن يزول العلم بالجامع رأسا فيختلّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهو العلم بالجامع واختلال هذا الركن له ثلاثة صور :

ص: 303

الصورة الأولى : أن يكتشف من كان عالما بالإجمال الخطأ في علمه ، بمعنى أنّ من علم بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ظهر له الخطأ في هذا العلم الإجمالي ، وتبيّن له واقع الحال وأنّ الإناءين معا طاهران ، ولا يوجد نجاسة في أحدهما أصلا ، أو يعلم بالنجاسة ضمن أحد الإناءين فاعتقد أنّ هذين الإناءين هما اللذان يوجد فيهما نجاسة ، ثمّ تبيّن له أنّ هذين الإناءين طاهران وأنّ النجاسة المعلومة بالإجمال موجودة ضمن إناءين آخرين غيرهما.

وبتعبير آخر : يكون قد أخطأ في التشخيص والتطبيق.

وهنا لا شكّ في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّه لا يوجد علم بالجامع بل هناك علم تفصيلي بطهارة كلا الإناءين.

الصورة الثانية : أن يتشكّك العالم فيما كان قد علم به ، فيتحوّل علمه بالجامع إلى الشكّ البدوي والأمر فيه كذلك أيضا.

الصورة الثانية : أن يحصل لمن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين تشكيك في علمه الإجمالي هذا ، بمعنى أنّه بعد أن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين يشكّ في أنّ علمه هذا صحيح أم لا ، فيكون الشكّ هنا في أصل حدوث العلم الإجمالي ، وهذا ما يسمّى بالشكّ الساري الذي سوف يأتي الحديث عنه في الاستصحاب.

مثاله : أن يشكّ في أنّ القطرة الحمراء التي وقعت في أحد الإناءين هل هي قطرة دم أم قطرة من صبغ أحمر؟ وفي هذه الصورة لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أيضا لزوال العلم الإجمالي بالجامع ، فإنّ هذا الشكّ سوف يسري إلى العلم الإجمالي ويزيله ؛ إذ ما دام مصبّهما واحدا فيستحيل اجتماعهما معا ، بل يكون هذا الشكّ هادما للعلم بالجامع ؛ لأنّ مورد الشكّ هو نفس مورد العلم الإجمالي.

فيتحوّل الأمر بعد الجمع بينهما إلى الشكّ البدوي في الطرفين معا ، فتجري فيهما الأصول الترخيصيّة بلا محذور ، إذ المحذور من جريانها ليس إلا العلم بالجامع ، والمفروض أنّ العلم بالجامع غير ثابت بل مشكوك فصار يشكّ الآن في وجود هذا الجامع وعدم وجوده ، وما دام أصل الجامع مشكوكا فهذا معناه أنّه لا يعلم بالمخالفة القطعيّة في حال جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين.

ولكن قد يتوهّم بقاء الأطراف على منجّزيّتها ؛ لأنّ الأصول المؤمّنة تعارضت

ص: 304

فيها في حال وجود العلم الإجمالي ، وهو وإن زال ولكنّها بعد تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها ، فتظلّ الشبهة في كلّ طرف بلا أصل مؤمّن فتتنجّز.

قد يقال هنا : إنّ الأطراف لا تزال منجّزة حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة باختلال ركنه الأوّل بدعوى : أنّ العلم الإجمالي قبل طروء التشكيك فيه كان منجّزا لكلا الطرفين ، ومنجّزيّته كانت تمنع الأصول الترخيصيّة من الجريان في كلا الطرفين ؛ لأنّ جريانها كذلك يوجب المخالفة القطعيّة ، ولا يمكن أيضا جريانها في أحدهما ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وعليه فيحكم بسقوط الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين.

ثمّ بعد زوال العلم الإجمالي بطروء التشكيك فيه والذي يزيل العلم بالجامع ، تصبح الشبهة في كلا الطرفين بدويّة ، إلا أنّ حكم هذه الشبهة البدويّة هو التنجيز ؛ لأنّ كلّ شبهة لا يوجد فيها أصل مؤمّن فتكون منجّزة على أساس حكم العقل بلزوم دفع الضرر أو العقاب المحتمل ، والمفروض أنّه بعد سقوط الأصول الترخيصيّة في الطرفين لم يبق أصل مؤمّن في الطرفين ؛ لأنّها قد سقطت بالمعارضة فلا يمكن أن تعود مجدّدا.

وقد يجاب على هذا التوهّم بأنّ الشكّ الذي سقط أصله بالمعارضة هو الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال ، وهذا الشكّ زال بزوال العلم الإجمالي ، ووجد بدلا عنه الشكّ البدوي ، وهو فرد جديد من موضوع دليل الأصل ، ولم يقع الأصل المؤمّن عنه طرفا للمعارضة ، فيجري بدون إشكال.

وفي كلّ من هاتين الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأسا.

ويجاب عن ذلك : أنّه يوجد لدينا شكّان متغايران :

أحدهما : الشكّ في كون كلّ واحد من الطرفين هو المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يحتمل فيه أن ينطبق عليه المعلوم بالإجمال فيكون هو النجس ، فإنّ هذا الشكّ موجود في كلا الطرفين على حدّ واحد ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الطهارة ونحوهما ، إلا أنّ هذه الأصول قد سقطت بسبب التعارض الناشئ من وجود العلم الإجمالي.

والآخر : الشكّ في كلّ واحد من الطرفين في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي ، وهو المسمّى بالشكّ البدوي ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة بلحاظ كلّ أطرافه من دون أي محذور.

ص: 305

بعد ذلك نقول : إنّ الأصول الترخيصيّة التي سقطت بسبب التعارض هي الأصول الترخيصيّة التي موضوعها الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، أي الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من الطرفين.

وأمّا الأصول الترخيصيّة الأخرى التي موضوعها الشكّ البدوي فهذه ثابتة ؛ لأنّ موضوعها وهو الشكّ البدوي موجود في كلّ طرف في نفسه بقطع النظر عن العلم الإجمالي.

فبعد زوال العلم الإجمالي سوف يزول معه الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، وبالتالي سوف تزول الأصول الترخيصيّة بلحاظ هذا الموضوع والمورد ، وأمّا المورد الآخر وهو الشكّ البدوي فهو ثابت حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي ؛ لأنّ هذا الشكّ ثابت في نفس الطرف سواء كان هناك علم إجمالي أم لا.

وأدلّة الأصول الترخيصيّة من قبيل ( رفع ما لا يعلمون ) تشمل كلّ شكّ سواء الشكّ البدوي أو الشكّ في التطبيق ، فإذا زال أحد هذين الموضوعين لا يعني سقوط الأصول الترخيصيّة رأسا ، بل تبقى ثابتة في الموضوع الآخر.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الأصول الترخيصيّة التي سقطت هي الأصول التي كانت جارية بسبب الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، وحيث إنّ هذا الشكّ قد سقط وزال بسبب زوال العلم الإجمالي ، فتسقط الأصول من هذه الناحية لا مطلقا ، أي أنّها تبقى ثابتة مع موضوعها الآخر ، وهو الشكّ البدوي الثابت في كلّ طرف في نفسه بعد زوال العلم الإجمالي (1).

ص: 306


1- ولعلّ السيّد الشهيد لا يرتضي مثل هذا الجواب ، إذ أصل الإشكال كان توهّما ؛ لأنّ الصحيح هو أنّ الأصول الترخيصيّة لم تسقط ، بل كان هناك مانع من جريانها وهو وجود العلم الإجمالي ، فإذا زال هذا المانع وسقط العلم الإجمالي جرت الأصول بلا محذور ، لا أنّها لم تكن ثابتة أصلا عند وجود العلم الإجمالي ويراد إثباتها من جديد ، ليقال بوجود موضوع آخر لها وهو الشكّ البدوي ، بل موضوعها ثابت حتّى مع وجود العلم الإجمالي ؛ لأنّ كلّ طرف مشكوك في نفسه ، غاية الأمر كان هذا الشكّ مقترنا بالعلم الإجمالي ، وهذا الاقتران من شأنه المنع من جريان الأصول بالفعل ، فبعد زواله تجري فعلا ، فالذي سقط بالدقّة ليس نفس الأصل ، بل فعليّة الأصل ، وأمّا المقتضي لجريانه فهو ثابت على كلّ حال ولم يسقط.

الصورة الثالثة : أن يزول العلم بالجامع بقاء وإن كان العلم بحدوثه لا يزال مستمرّا ، وهذه الصورة تتحقّق على أنحاء :

الصورة الثالثة : أن يفرض أنّ العلم بالجامع موجود حدوثا ولكنّه ساقط بقاء ، أي أنّ أصل حدوث العلم الإجمالي ثابت ولا شكّ فيه ، غير أنّ العلم الإجمالي في مرحلة البقاء والاستمرار ساقط ؛ لأنّ الجامع قد زال ، وهذه الصورة لها أنحاء أربعة :

النحو الأوّل : أن يكون للجامع المعلوم أمد محدّد بحيث يرتفع متى ما استوفاه ، فإذا استوفى أمده لم يعد هناك علم بالجامع بقاء ، بل يعلم بارتفاعه وإن كان العلم بحدوثه ثابتا.

النحو الأوّل : أن يفرض أنّ للجامع المعلوم إجمالا أمدا ينتهي إليه بحيث يقطع بزواله وارتفاعه بعد أن يستوفي هذا الأمد ، فهنا إذا استوفى الجامع الأمد فهو معلوم الارتفاع بقاء ، ولكنّه معلوم الثبوت حدوثا ، وحيث إنّه معلوم الارتفاع بقاء فيزول العلم الإجمالي بزوال العلم بالجامع.

ومثاله ما إذا علم إجمالا بخروج بول أم مني منه ثمّ اغتسل غسل الجمعة ، فإنّه على كلّ تقدير سوف يعلم بارتفاع الجامع ؛ لأنّ الغسل كما يرفع الحدث بالبول كذلك يرفع الحدث بالمني ، هذا على القول بذلك.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بوجوب أحد أمرين كلاهما إلى الظهر ، فهنا إذا زالت الشمس سوف يزول علمه بالجامع بلا شكّ ، وبزواله ينحلّ العلم الإجمالي فلا يكون منجّزا.

النحو الثاني : أن يكون الجامع على كلّ تقدير متيقّنا إلى فترة ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وفي مثل ذلك يزول أيضا العلم بالجامع بقاء ، ولكن يجري استصحاب الجامع المعلوم ، ويكون الاستصحاب حينئذ بمثابة العلم الإجمالي.

النحو الثاني : أن يفرض أنّ الجامع معلوم إلى فترة معيّنة ولكنّه مشكوك البقاء بعد هذه الفترة ، فهنا إذا انتهت الفترة المعلومة وحلّت الفترة المشكوكة سوف يزول العلم الإجمالي بالجامع ، إذ سوف يكون مشكوك البقاء ، فلا يكون منجّزا ، نعم يمكن التعويض عنه بالاستصحاب فإنّ المورد سوف يكون من استصحاب الكلّي.

ومثال ذلك : ما إذا علم إجمالا بخروج البول أو المني منه ثمّ اغتسل غسل الجمعة ،

ص: 307

وفرضنا الشكّ في كون غسل الجمعة يجزي عن الوضوء وعن الغسل ، فهنا قبل الاغتسال يعلم ببقاء الجامع وهو الحدث إمّا الأصغر وإمّا الأكبر ، ولكن بعد الاغتسال سوف يشكّ في بقاء الحدث وزواله باعتبار الشكّ في إجزاء غسل الجمعة عنهما أو عدم إجزائه ، فهنا يزول العلم بالجامع ويحلّ مكانه الشكّ ، وبالتالي تزول منجّزيّة العلم الإجمالي لاختلال أحد الأركان.

إلا أنّه في هذا المورد حيث يكون للجامع على تقدير التعبّد ببقائه أثر شرعي فيمكن جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الجامع وهو الحدث كان معلوما قبل الاغتسال ثمّ بعد الاغتسال يشكّ في ارتفاعه وببقائه فيجري استصحاب بقائه ، وهذا من القسم الثاني من استصحاب الكلّي والذي يجري بلا إشكال.

ويترتّب عليه نفس ما كان يترتّب على العلم الإجمالي ، لأنّه ما دام كلّي وطبيعي الحدث ثابتا بقاء بالتعبّد ، فكلّ الأعمال التي يشترط فيها الطهارة لا يمكن الإتيان بها إلا بالإتيان بالوضوء والغسل معا ، إذ الأمر دائر بينهما والاكتفاء بأحدهما لا يعني فراغ الذمّة يقينا من ذاك العمل المشروط بالطهارة ، وبهذا نصل إلى نفس النتيجة مع منجّزيّة العلم الإجمالي.

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّدا بين تكليفين ، غير أنّ أحدهما على تقدير تحقّقه يكون أطول مكثا في عمود الزمان من الآخر ، كما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى الغروب ، فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الإناءين فعلا ، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئذ لزوال العلم الإجمالي؟

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّدا بين أمرين أحدهما أطول من الآخر في عمود الزمان ، فهنا إذا حلّ زمان أحدهما وانتهى سوف يشكّ في بقاء الجامع ؛ لأنّه إذا كان قد حدث من أول الأمر مع الفرد القصير فهو قد زال حتما ، وإن كان قد حدث مع الفرد الطويل فهو ثابت بقاء قطعا ، فيكون الجامع مردّدا أيضا في مرحلة البقاء غير معلوم الارتفاع وغير معلوم البقاء.

ومثاله : أن يعلم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءين ، ولكن أحدهما يعلم بحرمة شربه إلى الظهر والآخر إلى المغرب ، فهنا إذا حلّ وقت الظهر سوف يكون الإناء

ص: 308

المقيّدة حرمته بالظهر حلالا بخلاف الآخر ، ولكن حيث لا يدري من هو المحرّم شربه من أوّل الأمر فسوف يشكّ في مرحلة البقاء بأنّ الشرب هل لا يزال حراما أم لا؟ إلا أنّه لا علم له بالفعل بحرمة أحد الإناءين بعد الظهر.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بخروج البول أو المني منه ، وقلنا : إنّ غسل الجمعة لا يجزي عن الغسل ويشكّ في إجزائه عن الوضوء ، فهنا إذا اغتسل فسوف يحتمل ارتفاع الحدث من البول على تقدير كونه هو المعلوم بالإجمال ، وأمّا الحدث بالمني فهو باق على تقدير حدوثه ، إلا أنّه بعد الاغتسال لا يعلم ببقاء جامع الحدث ؛ لأنّه يعلم بارتفاعه ضمن الفرد القصير ويعلم ببقائه ضمن الفرد الطويل ، ولكنّه لا يدري بأي الفردين كان قد حدث ووجد؟

فهنا هل يبطل العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أم لا؟

والجواب بالنفي ؛ وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفا له ، فإنّ الجامع المردّد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوما حتّى الآن كما كان ، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلّ ما يضمّ من تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى المغرب طرف للعلم الإجمالي.

ونسمّي مثل ذلك بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير والطويل ، وحكمه أنّه ينجّز الطويل على امتداده.

قد يقال في الجواب : إنّه تجري الأصول الترخيصيّة عن الفرد الطويل بعد انتهاء أمد الفرد القصير ، إذ لا معارض لهذه الأصول ، فإنّه بعد حلول الظهر سوف نعلم بعدم حرمة الشرب من الإناء الأوّل ؛ لأنّ حرمته مقيّدة إلى الظهر فترتفع عند حلول الغاية والقيد.

وأمّا حرمة الإناء الآخر المقيّد بالمغرب فتصبح مشكوكة ابتداء ، والأصول الترخيصيّة التي تجري فيه لا معارض لها ؛ لأنّ الطرف الآخر قد ارتفع بارتفاع موضوعه ، وبالتالي سقطت معه الأصول الترخيصيّة.

والصحيح في الجواب أن يقال بعدم زوال العلم الإجمالي وعدم سقوطه عن المنجّزيّة وعدم جريان الأصول الترخيصيّة فيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي بين الفردين الطويل والقصير متعلّق بالجامع كما

ص: 309

هو واضح ، وهذا الجامع يدور أمره بين هذا الفرد القصير في كلّ الآنات وبين الفرد الطويل بكلّ الآنات أيضا ، بمعنى أنّ الفرد القصير ينحلّ إلى تكاليف ضمنيّة بحرمة الشرب من الإناء في كلّ الأوقات الواقعة إلى فترة الظهر ، فإنّ هذه الفترة يوجد فيها أفراد عديدة للشرب بعدد الآنات التي يقع فيها الشرب فتكون كلّ هذه الآنات داخلة مع الطرف في العلم الإجمالي.

وهكذا الحال في الفرد الطويل فإنّه يضمّ تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى حين الغروب بعدد الآنات التي يقع فيها الشرب ، وتكون كلّ هذه الآنات داخلة في العلم الإجمالي ، وحينئذ يكون العلم الإجمالي ابتداء ومن أوّل الأمر أي من حين حدوثه دائرا بين حرمة الشرب المنحلّة إلى آنات عديدة إلى حين الظهر أو حرمة الشرب المنحلّة إلى آنات عديدة إلى حين المغرب ، وهذا معناه أنّ كلّ الآنات الواقعة بين فترة ما بعد الظهر إلى المغرب داخلة في العلم الإجمالي وقد تنجّزت بهذا العلم.

ومجرّد حلول الظهر لا يعني زوال العلم الإجمالي بحرمة الشرب بعدد الآنات الواقعة بين الظهر والمغرب ، وإنّما يعني أنّ الطرف الأوّل وهو الفرد القصير قد تحقّق ؛ لأنّ آناته قد انتهت ، وأمّا الطرف الآخر فلم تنته آناته بعد مع كونه طرفا للعلم الإجمالي بكلّ ما يحتويه من آنات.

ومن الواضح أنّ تحقّق أحد طرفي العلم الإجمالي لا يعني أنّه يجوز جريان الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر الذي لم يتحقّق بعد ، وإلا لم يكن هناك علم إجمالي منجّز أصلا.

فمثلا إذا علمنا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فالعلم ينجّز كلتا الصلاتين ، فإذا شرع في صلاة الظهر وأتمّها فهل تجري الأصول الترخيصيّة في الجمعة؟

والجواب بالنفي قطعا ؛ لأنّ صلاة الجمعة قد تنجّزت من أوّل الأمر والأصول الترخيصيّة قد سقطت من أوّل الأمر قبل الشروع بإحداهما.

ومقامنا من هذا القبيل فإنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في الفرد الطويل بكلّ آناته قد سقطت من أوّل الأمر وقبل انتهاء أمد الفرد القصير لمعارضتها بالأصول الترخيصيّة في الفرد القصير بكلّ آناته.

ص: 310

وهكذا يتّضح أنّ العلم الإجمالي في هذا النحو يكون منجزا ولا يزول عن المنجّزيّة بانتهاء أمد أحد الطرفين.

ويسمّى هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي المردّد بين الفردين الطويل والقصير ، وحكمه هو المنجّزيّة لكلا الطرفين القصير إلى الظهر والطويل إلى المغرب ؛ لأنّ كلاّ منهما يدخل طرفا مع كلّ تكاليفه الانحلاليّة بعدد الآنات المتصوّرة.

النحو الرابع : أن يكون التكليف في أحد طرفي العلم الإجمالي مشكوك البقاء على تقدير حدوثه.

النحو الرابع : أن يكون الجامع المعلوم إجمالا مردّدا بين طرفين : أحدهما مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، والآخر مقطوع الارتفاع على تقدير حدوثه ، بأن علم إجمالا بخروج المني أو البول منه ويعلم بأنّ غسل الجمعة يجزي عن الوضوء ويشكّ في إجزائه عن الغسل ، فهنا على تقدير ثبوت الحدث بالبول فهو معلوم الارتفاع بعد الاغتسال ، وأمّا على تقدير ثبوت الحدث بالمني فهو مشكوك البقاء بسبب الشكّ في إجزاء غسل الجمعة عنه وعدم إجزائه.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو حرمة الشرب من ذاك الإناء إمّا إلى الظهر أو إلى المغرب ، فهنا بعد حلول الظهر سوف يقطع بارتفاع حرمة الشرب عن ذاك الإناء ، ولكنّه سوف يشكّ في بقاء الحرمة في الإناء الآخر بسبب الشكّ في أنّه محرّم للظهر فقط أو للمغرب أيضا.

وقد يقال في مثل ذلك بسقوط المنجّزيّة ؛ لأنّ فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجّزها بالعلم الإجمالي ؛ لأنّها ليست طرفا للعلم الإجمالي ، ولا بالاستصحاب إذ لا يقين بالحدوث ليجري الاستصحاب.

قد يقال هنا بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بعد ارتفاع الطرف الأوّل وهو الفرد القصير بحلول الظهر في مثال الإناءين أو بالغسل في مثال الحدث المردّد.

والوجه في السقوط أنّه لا يوجد مبرّر لتنجيز الطرف الآخر المشكوك بقاء التكليف فيه على تقدير حدوثه ، وهو الإناء الآخر المشكوك الحرمة إلى الظهر أو المغرب أو الحدث الأكبر المشكوك ارتفاعه بالغسل ؛ وذلك لأنّ المنجّز له أحد أمرين وكلاهما منتف وهما :

ص: 311

الأمر الأوّل : العلم الإجمالي ، وهو إنّما ينجّز الفرد الطويل فيما إذا كان طرفا للعلم الإجمالي ، والمفروض أنّه بعد حلول الظهر أو بعد الاغتسال حيث يعلم بارتفاع الفرد القصير لا يوجد علم إجمالي مردّد بين فردين ، وإنّما يوجد شكّ في بقاء التكليف في الفرد الطويل فقط ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا معارض.

والأمر الثاني : هو الاستصحاب ، حيث إنّ الفرد الطويل قبل حلول الظهر أو قبل الاغتسال كان منجّزا ، وبعد حلول الظهر أو الاغتسال يشكّ في بقاء تنجيزه وارتفاعه فيستصحب ، إلا أنّ هذا الاستصحاب غير جار ؛ لعدم تماميّة أركانه ، إذ لا علم بثبوت التكليف في الفرد الطويل بذاته ، لأنّه بذاته مشكوك من أوّل الأمر ، وحيث لا يقين بالحدوث فلا يستصحب بقاؤه عند الشكّ ، فظهر أنّه لا يوجد ما ينجّز التكليف في الفرد الطويل بقاء فتجري فيه الأصول المؤمّنة.

وقد يجاب على ذلك بأنّ الاستصحاب يجري على تقدير الحدوث بناء على أنّه متقوّم بالحالة السابقة لا باليقين بها ، ومعه يحصل العلم الإجمالي إمّا بثبوت الاستصحاب في هذا الطرف ، أو ثبوت التكليف الواقعي في الطرف الآخر ، وهو كاف للتنجيز.

وقد يجاب على ذلك بأنّنا لو سلّمنا بأنّ الفرد الطويل لا يقع طرفا للعلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس موجودا بعد ارتفاع الفرد القصير ، إلا أنّ استصحاب الفرد الطويل يجري وذلك بتقريب آخر ، وحاصله : أنّه لا يشترط في الاستصحاب أكثر من الحدوث لا اليقين بالحدوث ، وهذا يعني أنّ الشكّ في البقاء على تقدير الحدوث يكفي لجريان الاستصحاب إذا كان هناك أثر شرعي ؛ لأنّ الشكّ متعلّق بنفس ما تعلّق به الحدوث.

وفي مقامنا نقول : إنّ الفرد الطويل على تقدير حدوثه وثبوته فهو مشكوك البقاء إلى ما بعد الظهر أو الاغتسال ، وعليه فيجري استصحابه لترتّب الأثر الشرعي عليه وهو حرمة الشرب من الإناء إلى المغرب ، أو بقاء الحدث الأكبر الذي لا يرتفع إلا بغسل الجنابة.

وحينئذ سوف يتشكّل لدينا علم إجمالي آخر مردّد بين طرفين أحدهما الفرد القصير إلى الظهر والآخر الفرد الطويل إلى المغرب بالاستصحاب ، وهذا العلم الإجمالي موجود من أوّل الأمر إلى جانب العلم الإجمالي السابق وهو العلم الإجمالي بثبوت أحد الأمرين.

ص: 312

وبتعبير آخر : إنّه يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأوّل : العلم الإجمالي الدائر بين الفردين القصير والطويل ، أي أنّه يعلم بثبوت أحدهما على سبيل الإجمال ، أحدهما على تقدير ثبوته فأمده إلى الظهر أو إلى الاغتسال بغسل الجمعة ، والآخر أمده إلى المغرب أو إلى الاغتسال بغسل الجنابة.

الثاني : العلم الإجمالي الدائر بين تكليفين أحدهما واقعي وهو حرمة الشرب إلى الظهر ، فإنّها متيقّنة من أوّل الأمر سواء كانت ضمن الفرد القصير أو الفرد الطويل ، والآخر ظاهري وهو حرمة الشرب ما بعد الظهر الثابتة باستصحاب الفرد الطويل على تقدير حدوثه إلى المغرب. والعلم الإجمالي الأوّل هو الذي يسقط عن المنجّزيّة بعد حلول الظهر ؛ لأنّ الفرد الطويل لا علم بثبوت التكليف فيه والفرد القصير قد علم بارتفاع التكليف عنه.

وأمّا العلم الإجمالي الثاني فهو باق على منجّزيّته حتّى بعد حلول الظهر ؛ لأنّ فترة ما بعد الظهر داخلة في أحد الطرفين بالاستصحاب ، والحال أنّها قد تنجّزت من أوّل الأمر بالعلم الإجمالي وهو لا يزول بارتفاع أحد الطرفين كما هو واضح (1).

ص: 313


1- لعلّ السيّد الشهيد لا يرتضي مثل هذا الجواب ؛ وذلك لأنّه من أوّل الأمر يجري استصحاب الجامع ، فإنّه معلوم الحدوث ما قبل الظهر ومشكوك البقاء بعد الظهر ، فيجري استصحابه حتّى على القول بأنّ اليقين بالحدوث شرط في الاستصحاب لا خصوص الحدوث. ومع جريان استصحاب الجامع وهو كلّي الحدث أو كلّي حرمة الشرب يترتّب الأثر المطلوب ترتّبه على الفرد الطويل ؛ لأنّ الفرد القصير قد علم ارتفاعه فيرتفع الأثر المترتّب عليه ، وأمّا الفرد الطويل فلم يرتفع فيبقى الأثر مترتّبا عليه ؛ لأنّه هو الذي يمثّل المصداق للجامع المستصحب. وهذا يسمّى باستصحاب الكلّي من القسم الثاني كما سيأتي توضيحه في أقسام استصحاب الكلّي. نعم لا يجري استصحاب الفرد بخصوصه ، أي في الفرد الطويل بعنوانه الخاص لا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّه غير متيقّن الحدوث ، هذا على اشتراط اليقين بالحدوث. وحينئذ لا حاجة لافتراض علم إجمالي آخر متعلّق بالتكليف الواقعي في أحد الطرفين أو بالتكليف الظاهري في الطرف الآخر.
2 - الاضطرار إلى بعض الأطراف

الحالة الثانية : أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرّا فعلا إلى تناول أحدهما ، ولا شكّ في أنّ المكلّف يسمح له بتناول ما يضطرّ إليه ، وإنّما نريد أن نعرف أنّ العلم الإجمالي هل يكون منجّزا لوجوب الاجتناب عن الطعام الآخر أو لا؟

الحالة الثانية : أن يكون مضطرّا إلى ارتكاب أو ترك بعض أطراف العلم الإجمالي ، كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين وكان مضطرّا للشرب من أحدهما لانحصار الماء فيهما مثلا.

وهنا لا إشكال في أنّ المكلّف يجوز له الشرب من الإناء المضطرّ إلى الشرب منه ؛ لأنّ حرمة الشرب ترتفع عند الاضطرار استنادا إلى مثل قوله : « رفع ما اضطروا إليه » ، ولقوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1).

وإنّما الكلام في أنّ العلم الإجمالي هل لا يزال منجّزا لوجوب الاجتناب عن الإناء الآخر ، أو أنّ منجّزيّته في هذه الحالة تسقط؟

وللجواب عن ذلك نقول :

وهذه الحالة لها صورتان : إحداهما أن يكون الاضطرار متعلّقا بطعام معيّن ، والأخرى أن يكون بالإمكان دفعه بأي واحد من الطعامين.

والتحقيق في المسألة أنّ حالة الاضطرار لها صورتان :

الأولى : أن يكون مضطرّا إلى تناول أحد الإناءين بعينه أي الإناء المعيّن ، كما إذا أكرهه شخص على الشرب من هذا الإناء الذي تحت يده مع علمه بأنّه أو الإناء الآخر نجس ، أو كان شفاؤه من المرض متوقّفا على الشرب من هذا الإناء المعيّن دون الآخر.

الثانية : أن يكون الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن بحيث كان دفع الاضطرار يتحقّق بهذا الإناء وبذاك أيضا ، بأن أكره على الشرب من أحدهما غير المعيّن أو كانا معا ممّا يمكن المعالجة فيه.

ص: 314


1- البقرة : 173.

أمّا الصورة الأولى : فالعلم الإجمالي فيها يسقط عن المنجّزيّة لزوال الركن الأوّل ، حيث لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف.

والسبب في ذلك أنّ نجاسة الطعام المعلومة إجمالا جزء الموضوع للحرمة والجزء الآخر عدم الاضطرار ، وحيث إنّ المكلّف يحتمل أنّ النجس المعلوم هو الطعام المضطرّ إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي ، فتجري البراءة عن حرمة الطعام غير المضطرّ إليه وغيرها من الأصول المؤمّنة بدون معارض ؛ لأنّ حرمة الطعام المضطرّ إليه غير محتملة ليحتاج إلى الأصل بشأنها ، ولكن هذا على شرط ألاّ يكون الاضطرار متأخّرا عن العلم الإجمالي.

أمّا الصورة الأولى : وهي فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد الإناءين بعينه فهذه على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين ثابتا قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وذلك بأن كان مضطرّا للشرب من أحد الإناءين ، ثمّ بعد ذلك علم إجمالا بنجاسة أحدهما ، فهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ وذلك لاختلال الركن الأوّل من أركانه وهو العلم بجامع التكليف ؛ لأنّه قبل العلم بنجاسة أحدهما كان أحد الإناءين مباحا للشرب بسبب طروّ الاضطرار الرافع للحرمة ، فهو جائز الشرب إمّا لأنّه طاهر واقعا وإمّا لأنّه مضطرّ إليه ، ولذلك فلا يوجد تكليف فيه حتّى على تقدير كونه هو المعلوم بالإجمال.

وهذا يعني أنّ العلم بنجاسة أحد الإناءين دائر بين طرفين أحدهما لا تكليف فيه على تقدير كونه المعلوم بالإجمال ، والآخر فيه تكليف على تقدير كونه المعلوم بالإجمال. فهو علم بالتكليف على أحد التقديرين لا على كلا التقديرين.

وقد قلنا فيما سبق : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لمعلوم فيما إذا كان منجّزا له على جميع التقادير لا على بعض التقادير ؛ لأنّه في هذه الحالة سوف لا يكون هذا البعض معلوما ، وبالتالي تجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة لصيرورة المورد من الشبهة البدويّة.

ومرجع ذلك إلى أنّ النجاسة المعلومة إجمالا جزء الموضوع لحرمة الشرب وليست تمام الموضوع ؛ لأنّ الحرمة مقيّدة من أوّل الأمر بعدم الاضطرار إليها ،

ص: 315

فالجزء الآخر ألاّ يكون هناك اضطرار.

وحينئذ فالإناء المضطرّ إلى شربه ارتفع أحد جزئي موضوع حرمة الشرب فيه فكونه نجسا لا يؤثّر في ثبوت الحرمة ؛ لأنّه من الواضح أنّ ما يكون مضطرّا إليه فهو مباح واقعا ، ولا يحتاج إلى إجراء الأصول الترخيصيّة فيه إذ لا موضوع لها مع العلم بالحكم الواقعي ، ولذلك تجري الأصول الترخيصيّة في الإناء الآخر من دون معارض ، إذ لا يوجد أصول ترخيصيّة في الإناء المضطرّ إليه ؛ لأنّه مباح واقعا بسبب الاضطرار الذي هو عنوان ثانوي.

فظهر بذلك أنّ العلم الإجمالي المتأخّر عن الاضطرار لا يكون منجّزا لا للطرف المضطرّ إليه ؛ إذ لا إشكال في إباحته ، ولا للطرف الآخر ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري فيه من دون معارض.

وإلا بقي على المنجّزيّة ؛ لأنّه يكون من حالات العلم الإجمالي المردّد بين الطويل والقصير ، إذ يعلم المكلّف بتكليف فعلي في هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار ، أو في الطرف الآخر حتّى الآن.

النحو الثاني : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد هذين الإناءين ثمّ اضطرّ للشرب من أحدهما المعيّن ، فهنا يبقى العلم الإجمالي على منجّزيّته بالنسبة للإناء الآخر ؛ وذلك لأنّ المورد يكون من موارد الدوران المردّد بين الفردين الطويل والقصير.

وتوضيحه : أنّ المكلّف يعلم من أوّل الأمر بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى حين الاضطرار لشربه ، أو بحرمة الشرب من ذاك الإناء إلى الآن ، فهو يعلم بحرمة الشرب فعلا من أول الأمر ، فهو علم بجامع التكليف على كلا التقديرين.

غايته أنّ أحد الطرفين قصير والآخر طويل ، إلا أنّه يكون منجّزا لكلا الطرفين أحدهما إلى حين الاضطرار فعلا إلى شربه والآخر إلى الآن ، فبعد الاضطرار إلى شرب أحدهما المعيّن يكون الفرد القصير قد انتهى وارتفع ، إلا أنّ الفرد الطويل لا يزال ثابتا وهو منجّز بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ الفرد الطويل بكلّ آناته يكون فيه تكاليف انحلاليّة ، وكلّها تدخل طرفا في العلم الإجمالي ، والأصول الترخيصيّة الجارية فيها

ص: 316

معارضة بالأصول الترخيصيّة الجارية في الفرد القصير بكلّ آناته إلى حين الاضطرار (1).

وقد يفترض الاضطرار قبل العلم ولكنّه متأخّر عن زمان النجاسة المعلومة ، كما إذا اضطرّ ظهرا إلى تناول أحد الطعامين ثمّ علم - قبل أن يتناول - أنّ أحدهما تنجّس صباحا ، وهنا العلم بجامع التكليف الفعلي موجود فالركن الأوّل محفوظ ، ولكنّ الركن الثالث غير محفوظ ؛ لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلا ، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

النحو الثالث : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين حادثا قبل طروّ العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، إلا أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي متقدّم على الاضطرار ، فيكون الاضطرار قبل العلم إلا أنّ المعلوم قبل الاضطرار لا بعده.

مثاله : ما إذا اضطرّ إلى شرب أحد الإناءين بعينه ثمّ علم بعد الاضطرار إلى الشرب وقبل الشرب أنّ أحدهما نجس قبل أن يحدث الاضطرار ، بأن كان زمان الاضطرار الظهر وزمان العلم بعد الظهر إلا أنّ زمان المعلوم منذ الصباح.

وهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لاختلال الركن الثالث وهو شمول الأصول الترخيصيّة لكلا الطرفين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي هنا نشأ بعد الاضطرار إلى أحدهما المعيّن ، وهذا يعني أنّه دائر بين طرفين أحدهما لا تكليف فيه أصلا حتّى على تقدير كونه نجسا ؛ لأنّ الاضطرار يرفع التكليف واقعا ، والآخر على تقدير كونه نجسا فهو حرام ، إلا أنّه لا يحرز انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي عليه.

وأمّا إذا لاحظنا كون المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحدهما ثابتا قبل الاضطرار ، فيكون العلم الإجمالي دائرا بين الفردين الطويل والقصير فيكون العلم بجامع الحرمة موجودا.

ص: 317


1- إلا أنّ الشيخ الأنصاري ذهب هنا إلى انحلال العلم الإجمالي لزوال العلم بالجامع ؛ لأنّ الطرف المضطرّ إليه لا تكليف فيه فعلا ، فلا يبقى العلم بجامع التكليف معلوما على كلّ تقدير ، وفيه : إنّ سقوط التكليف عن المنجّزيّة الفعليّة لا يزيل العلم الإجمالي ولا يوجب انحلاله.

وحيث إنّ العلم الإجمالي نشأ متأخّرا عن الاضطرار ، فالعلم بجامع التكليف وإن كان ثابتا التفاتا إلى أنّ المعلوم بالإجمال موجود قبل الاضطرار إلا أنّه لا يكفي للمنجّزيّة ؛ لأنّ الركن الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين غير موجود ؛ لأنّ الإناء المضطرّ إليه فعلا لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّه مباح الشرب واقعا بسبب الاضطرار.

فعلى تقدير انطباق المعلوم بالإجمال على الإناء المضطرّ إليه فلا حرمة فعلا ؛ لأنّها قد انتهت بالأمد المحدّد لها واقعا وهو حدوث الاضطرار في موردها ، فالحرمة مرتفعة عنه واقعا لارتفاع موضوعها ولا معنى لجريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة فيه ، إذ لا أثر لها ولارتفاع الشكّ فلا موضوع لها أيضا ، وأمّا الإناء الآخر فموضوع الأصول الترخيصيّة فيه ثابت فتجري فيه بلا معارض ، وبالتالي ينحلّ العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : إنّ هذا النحو بلحاظ حدوث العلم الإجمالي يكون العلم بالجامع مختلاّ ؛ لأنّ العلم متأخّر عن الاضطرار كما هو في النحو الأوّل ، وبلحاظ المعلوم بالإجمال يكون العلم بالجامع ثابتا ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال وهو النجاسة متقدّم على الاضطرار كما هو في النحو الثاني.

ولذلك فمن ذهب إلى التنجيز التفت إلى ثبوت العلم بالجامع ، ومن ذهب إلى عدم التنجيز التفت إلى عدم العلم بالجامع ، إلا أنّ الصحيح أنّ العلم بالجامع وإن كان ثابتا لكنّه لا يفيد ؛ لأنّه إنّما كان ثابتا في فترة لا يوجد علم إجمالي فيها فلم يكن الجامع منجّزا من أوّل الأمر ، وفي الفترة التي وجد فيها العلم الإجمالي كان العلم بالجامع مفقودا بسبب حدوث الاضطرار قبل العلم ، والذي يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في الإناء المضطرّ إليه والذي ينبغي وجود التكليف فعلا في الإناء المضطرّ إليه.

ويطّرد ما ذكرناه في غير الاضطرار أيضا من مسقطات التكليف ، كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين ثمّ تلف أحدهما أو غسّل بالماء ، فإنّ العلم الإجمالي لا يسقط عن المنجّزيّة بطروّ المسقطات المذكورة بعده ، ويسقط عن المنجّزيّة بطروّها مقارنة للعلم الإجمالي أو قبله.

وهذا الكلام يجري أيضا في غير الاضطرار من مسقطات التكليف ، فإذا تلف

ص: 318

أحد الإناءين وأريق الماء أو طهّر الماء باتصاله بالجاري مثلا ، فهنا تأتي الانحاء الثلاثة المتقدّمة.

فإذا كان التلف أو التطهير قبل طروّ العلم الإجمالي فهنا يزول العلم بالجامع فيختلّ الركن الأوّل ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وإذا كان التلف أو التطهير بعد طروّ العلم الإجمالي فيبقى العلم الإجمالي على منجّزيّته ؛ لأنّه من الدوران المردّد بين الطويل والقصير.

وإذا كان التلف أو التطهير متقدّما على العلم الإجمالي ؛ ولكنّ المعلوم بالإجمال كان متقدّما على التلف أو التطهير ، فهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أيضا لا لاختلال العلم بالجامع بل لاختلال الركن الثالث ، فإنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء التالف أو الطاهر إذ لا أثر ولا موضوع لها ، فتجري في الإناء الموجود بلا معارض.

هذا كلّه في الصورة الأولى أي الاضطرار إلى أحدهما المعيّن.

وأمّا الصورة الثانية : فلا شكّ في سقوط وجوب الموافقة القطعيّة بسبب الاضطرار المفروض ، وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعيّة ، فقد يقال بجوازها كما هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه اللّه ، وبرهان ذلك يتكوّن ممّا يلي :

وأمّا الصورة الثانية وهي فيما إذا كان مضطرّا لارتكاب أحد الطرفين لا بعينه ، فهنا تارة يبحث عن وجوب الموافقة القطعيّة وأخرى يبحث عن حرمة المخالفة القطعيّة.

أمّا الموافقة القطعيّة فلا إشكال في سقوطها ؛ لأنّ الاضطرار رافع للتكليف التفصيلي فضلا عن الإجمالي ، بمعنى أنّه حتّى في صورة القطع بالتكليف فإنّ هذا التكليف يرتفع بطروّ الاضطرار عليه ؛ لأنّه عنوان واقعي ثانوي رافع للأحكام الواقعيّة الثانويّة ؛ لأنّها مقيّدة من أوّل الأمر بعدم الاضطرار كما أنّها مقيّدة بالقدرة وعدم العجز ، وهذا المقدار واضح ولا كلام فيه.

والنتيجة إلى الآن الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، وأمّا المخالفة القطعيّة فهل لا تزال على حرمتها ، أو أنّ العلم الإجمالي يسقط بلحاظها أيضا؟

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى جواز المخالفة القطعيّة وسقوط حرمتها ، واستدلّ على

ص: 319

ذلك بدعوى أنّ الترخيص في ارتكاب أحدهما بلحاظ الاضطرار يوجب الترخيص التخييري ، أي أنّ المكلّف مخيّر بارتكاب أحدهما وهذا يتنافى مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ؛ لأنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تقتضي المنع عن الطرفين بينما الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه يقتضي تجويز ارتكاب أي الطرفين أراد.

وتوضيح هذا البرهان أن يقال :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

ثانيا : أنّ المعلول هنا ساقط.

ثالثا : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلّة.

فينتج : أنّه لا بدّ من الالتزام بسقوط العلم الإجمالي بالتكليف ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وإن كان التكليف محتملا في الطرف الآخر ولكنّه حينئذ احتمال بدويّ مؤمّن عنه بالأصل.

وهذا البرهان يتكوّن من ثلاث مقدّمات ونتيجة :

المقدّمة الأولى : أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة وحرمة المخالفة ، فلا بدّ من الاجتناب عن كلا الإناءين عند العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

المقدّمة الثانية : أنّ وجوب الموافقة القطعيّة ساقطة في المقام بسبب طروّ الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن المجوّز لارتكاب أحد الإناءين ، وهذا معناه رفع اليد عن الموافقة القطعيّة.

المقدّمة الثالثة : أنّ سقوط الموافقة القطعيّة يعني سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّها معلولة له ، وإذا سقط المعلول فيكشف ذلك عن سقوط علّته ؛ إذ يستحيل ثبوت المعلول من دون العلّة ، فسقوطه يكشف عن سقوطها.

والنتيجة : أنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة في مورد الاضطرار ، فلا تكليف معلوم في أحدهما بسبب الاضطرار إليه ، ولا تكليف في الآخر بعد ارتكاب الأوّل ؛ لأنّ التكليف فيه مشكوك ، وحيث لا منجّز لهذا الشكّ بسبب ارتفاع العلم الإجمالي وسقوطه ، فيكون شكّا بدويّا في التكليف وهو مجرى للأصول الترخيصيّة المؤمّنة عن احتمال التكليف في الطرف الآخر.

ص: 320

والجواب عن ذلك :

أوّلا بمنع علّيّة العلم الإجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة.

والجواب عن هذا الاستدلال :

أوّلا : أن ننكر كون العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، كما تقدّم سابقا ، حيث قلنا هناك : إنّ العلم الإجمالي يسبّب تعارض الأصول الترخيصيّة في الأطراف ، وحينئذ يكون احتمال التكليف في كلّ طرف منجّزا بناء على مسلك حقّ الطاعة ، أو يقال باقتضاء العلم الإجمالي للمنجّزيّة وهذا يتوقّف على عدم المانع ، فمع وجود المانع لا يؤثّر العلم الإجمالي في المنجزيّة.

وثانيا بأنّ ارتفاع وجوب الموافقة القطعيّة الناشئ من العجز والاضطرار لا ينافي العلّيّة المذكورة ؛ لأنّ المقصود منها عدم إمكان جعل الشكّ مؤمّنا ؛ لأنّ الوصول بالعلم تامّ ، ولا ينافي ذلك وجود مؤمّن آخر وهو العجز كما هو المفروض في حالة الاضطرار.

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة فمع ذلك نقول : إنّ معنى العلّيّة هي كون وصول التكليف بالعلم تامّا ، فكما أنّ وصول التكليف بالعلم التفصيلي يحقّق تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة والعصيان ، فكذلك العلم الإجمالي يعتبر وصول التكليف بهذا المقدار محقّقا لموضوع حكم العقل المذكور ، والشكّ المفترض وجوده في الأطراف لا يكون مؤمّنا عن التكليف في هذه الحالة ، فمعنى العلّيّة إذا أنّ الشكّ الموجود ليس مؤمّنا عن التكليف.

وهذا المعنى لا يتنافى مع ثبوت التأمين عن التكليف لجهة أخرى ، كالعجز وعدم القدرة ، أو كالاضطرار كما هو مقامنا ، فإن انتفاء التكليف في الطرف المضطرّ إليه لا يتنافى مع علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل على القول بالعلّيّة فعليّته متحقّقة ، إلا أنّ سقوط وجوب الموافقة القطعيّة كان لجهة أخرى مانعة منها وهي الاضطرار ؛ نظير علّيّة النار للاحتراق ، فإنّ عدم الاحتراق بسبب وجود المانع منه لا يعني رفع اليد عن العلّيّة للنار.

وبتعبير آخر : إنّ العقلاء لا يرون المأمور مطالبا بالامتثال لتكليف لا يقدر عليه أو

ص: 321

يضطرّ إلى فعله أو تركه ، بل لا يرون للمولى حقّا في ذلك ، والشارع أيضا لا يطالب بحقّ في موارد عدم القدرة والاضطرار حتّى في العلم التفصيلي فضلا عن العلم الإجمالي.

وهذا يعني أنّ المكلّف مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة وغير قادر على امتثالها ، لا أنّ العلم الإجمالي ليس علّة أو سقط عن العلّيّة بلحاظها.

وبهذا ظهر أنّه يمكن رفع اليد عن المعلول وسقوطه حتّى مع بقاء علّته ، ولا تنافي في ذلك ، إذ ليس بابه باب التفكيك بين العلّة ومعلولها ، بل بابه باب إيجاد المانع من تحقّق المعلول مع ثبوت علّته.

وهذا ما يسمّى بالتوسّط في التنجيز أي أنّه ترتفع مرتبة من الامتثال ، وهي المرتبة العليا وتبقى سائر المراتب.

وثالثا : لو سلّمنا فقرات البرهان الثلاث فهي إنّما تنتج لزوم التصرّف في التكليف المعلوم على نحو لا يكون الترخيص في تناول أحد الطعامين لدفع الاضطرار إذنا في ترك الموافقة القطعيّة له ، وذلك يحصل برفع اليد عن إطلاق التكليف لحالة واحدة وهي حالة تناول الطعام المحرّم وحده من قبل المكلّف المضطرّ مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معا ، فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلّف المضطرّ العالم إجمالا أحد الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتماليّة على الإطلاق ، وإذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعيّة للتكليف المعلوم فلا يجوز.

وثالثا : أنّنا لو سلّمنا بفقرات الاستدلال فلا ينتج سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة رأسا كما أفاده المحقّق الخراساني ؛ ليلزم عن ذلك جواز المخالفة القطعيّة ، بل ينتج شيئا آخر وهو أنّ التكليف المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد الطعامين لا بدّ من التصرّف فيه بنحو يتناسب مع جواز ارتكاب أحدهما بسبب الاضطرار.

فلا نرفع اليد عن العلم الإجمالي رأسا ونقول : إنّه لا تكليف ، ولا نأخذ بدليل الاضطرار ونقول : إنّه يجوز ارتكاب كلا الإناءين ، بل نجمع بين الأمرين بنحو يتناسب مع ارتكاب أحد الطرفين بسبب الاضطرار ويتناسب مع بقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته ؛ لحرمة المخالفة القطعيّة وعدم جواز تركها ، بل مع بقائه أيضا لوجوب

ص: 322

الموافقة القطعيّة ، وذلك بأن نقول : إنّ مقتضى الجمع بين الأمرين ينتج لنا التوسّط في التنجيز.

وتوضيحه : أنّ التنجيز إمّا أن يكون ثابتا بمرتبته العليا أو بمرتبته الدنيّة أو بمرتبة وسطيّة بين المرتبتين.

ففي موارد العلم الإجمالي مع فرض الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه نقول :

إمّا أن يبقى المعلوم بالإجمال منجّزا على مرتبته العليا أي وجوب ترك كلا الطرفين حتّى الطرف المضطرّ إليه.

وإمّا أن يزول التنجيز رأسا فيجوز ارتكاب الطعام المضطرّ إليه وغيره أيضا.

وإمّا أن يبقى التنجيز في بعض الأطراف ويزول عن البعض الآخر أي جواز ارتكاب ما يضطرّ إليه دون الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ الجمع بين العلم الاجمالي ودليل الاضطرار يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من كلّ منهما ، فلا يحرم كلا الإناءين ولا يجوز ارتكابهما معا ، فنرفع اليد عن إطلاق التنجيز في العلم الإجمالي للطرفين ، وعن إطلاق الجواز ونفي التكليف في دليل الاضطرار ، وتكون النتيجة هي أنّه يجوز ارتكاب أحد الطرفين ويجب ترك الآخر.

فإذا تناول المكلّف أحد الطعامين وترك الآخر فيكون قد حقّق الموافقة القطعيّة لكلا الدليلين ؛ لأنّه بتناوله لأحد الطعامين يكون قد امتثل لدليل الاضطرار ، وبتركه للآخر قد امتثل للعلم الإجمالي المنجّز بالمرحلة الوسطيّة ، ولا يتصوّر هنا المخالفة القطعيّة أصلا.

وأمّا إذا تناول كلا الطعامين فهنا تكون مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي ؛ لأنّ أحدهما موافق لدليل الاضطرار ، وأمّا الآخر فهو مخالف للعلم الإجمالي المنجّز لهذه المرحلة من التنجيز ، ولذلك يحرم تناول كلا الطعامين (1).

ص: 323


1- ثمّ إنّ التوسط المذكور تارة يبرز بنحو مشروط كما أفاده الميرزا بأن يقال : إنّ المكلّف مخاطب بأن لا يختار الحرام الواقعي دفعا للاضطرار بل يختار الآخر ، فإذا ارتكبهما معا يكون قد اختار الحرام الواقعي. وأخرى يبرز بأنّ الحرمة تنقلب عن التعيين إلى التخيير كما أفاده المحقّق العراقي ، بأن يقال : إنّه يجب الاجتناب عن الحرام مخيّرا في هذا الاجتناب بين أحد الفردين ، فإذا لم يجتنب عن أحدهما بل فعلهما معا يكون قد ارتكب الحرام. إلا أنّ هذين التصوّرين مع أصل المبنى أي التوسّط في التكليف لا وجه له ، والصحيح ما ذكرناه من التوسّط في التنجيز.
3 - انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي :

لكل علم إجمالي سبب ، والسبب تارة يكون مختصّا في الواقع بطرف معيّن من أطراف العلم الإجمالي ، وأخرى تكون نسبته إلى الطرفين أو الأطراف على نحو واحد.

ومثال الأوّل : أن ترى قطرة دم تقع في أحد الإناءين ولا تميّز الإناء بالضبط ، فتعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، والسبب هو قطرة الدم وهي في الواقع مختصّة بأحد الطرفين.

ويمكن أن تؤخذ قيدا في المعلوم بأن تقول : ( إنّي أعلم إجمالا بنجاسة ناشئة من قطرة الدم التي رأيتها لا بنجاسة كيفما اتّفقت ).

الحالة الثالثة : انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.

إنّ لكلّ علم سببا ، والعلم الإجمالي له سبب ومنشأ ، وهذا السبب يتصوّر على نحوين :

النحو الأوّل : أن يكون السبب والمنشأ للعلم الإجمالي مختصّا بأحد الطرفين المعيّن في الواقع ، لكنّه مجمل ومردّد لدى المكلّف ، فنسبته إلى الأطراف ليست على حدّ واحد ؛ لأنّه لا ينتسب إلا إلى الطرف الواقعي المعيّن.

النحو الثاني : أن يكون السبب والمنشأ للعلم الإجمالي نسبته إلى تمام الأطراف على حدّ واحد ، بأن لا يكون معيّنا في أحد الأطراف واقعا بخصوصه ، بل كان من الممكن تعيّنه في الطرفين معا.

أمّا النحو الأوّل ، فمثاله ما إذا علم بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ولكن المكلّف لم يلتفت إلى أي الإناءين الذي وقعت فيه النجاسة ، فهنا يحصل له علم إجمالي بنجاسة أحدهما وسببه ومنشؤه وقوع قطرة الدم في أحدهما ، وعدم تعيينه للإناء

ص: 324

النجس ، إلا أنّ قطرة الدم هذه قد وقعت في أحد الإناءين فقط ، فهي تنتسب إلى أحدهما فقط لا إلى الإناءين معا.

ومن أجل ذلك يمكنه أن يقيّد النجاسة المعلومة إجمالا بسببها فيقول : إنّه يوجد لديه علم إجمالي بنجاسة مسبّبة وناشئة عن قطرة الدم لا عن شيء آخر ، ولذلك ينفي نجاسة أحد الإناءين بالبول أو المسكر ونحوهما.

ويترتّب على ذلك : أنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناء معيّن من الإناءين ، فإن كان هذا العلم التفصيلي بنفس سبب العلم الإجمالي ، بأن علمت تفصيلا بأنّ القطرة قد سقطت هنا انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني ، إذ يكون من النحو الأوّل من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن ذلك الركن.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي المذكور إذا حصل بعده علم تفصيلي ، فهنا ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يحصل للعالم بالإجمال علم تفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه ، ويكون سبب هذا العلم التفصيلي هو نفس سبب العلم الإجمالي بحيث لا يحتمل المكلّف شيئا آخر.

وذلك بأنّ يكون علمه التفصيلي ناشئا من وقوع قطرة الدم التي علم إجمالا بوقوعها في أحد الإناءين في هذا الإناء المعيّن ، بحيث كانت هذه القطرة هي نفس تلك القطرة وليست قطرة أخرى ، ففي هذه الحالة سوف ينحلّ العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي المذكور ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو سريان العلم من الجامع إلى الفرد بعينه ؛ لأنّ هذا العلم التفصيلي يعيّن ويشخّص المعلوم بالإجمال في هذا الإناء ، فيعود الشكّ في الإناء الآخر بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

وهذا هو النحو الأوّل من الأنحاء الأربعة لتعلّق العلم التفصيلي بالفرد كما تقدّم سابقا.

وهذا ممّا لا إشكال فيه على جميع المسالك والمباني في المقام.

وإن كان هذا العلم التفصيلي بسبب آخر ، كما إذا رأيت قطرة أخرى من الدم

ص: 325

تسقط في الإناء المعيّن ، لم ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ؛ لأنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الإجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من الجامع إلى الفرد بخصوصه.

الاحتمال الثاني : أن يكون العلم التفصيلي ناشئا ومسبّبا عن سبب آخر غير السبب الذي نشأ منه العلم الإجمالي ، كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، ثمّ علم تفصيلا بوقوع قطرة خمرة في أحدهما المعيّن أو علم تفصيلا بوقوع قطرة دم في الإناء المعيّن ، وكانت هذه القطرة غير تلك القطرة التي علم إجمالا بوقوعها في أحدهما ، بأن أحرز أنّها قطرة ثانية ، فهنا لا إشكال في بقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته وعدم انحلاله بالعلم التفصيلي المذكور ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال لا ينطبق على المعلوم بالتفصيل للعلم بتغايرهما ، ولذلك لا يسري العلم بالجامع إلى الفرد ، فالأركان الأربعة لا تزال موجودة فالعلم الإجمالي على منجّزيّته.

وهذا ممّا لا إشكال فيه أيضا على جميع المباني والمسالك.

وكذلك الأمر إذا شكّ في أنّ سبب العلم التفصيلي هو نفس تلك القطرة أو غيرها ، حيث لا يحرز حينئذ كون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي ، ويدخل في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

الاحتمال الثالث : أن يشكّ في أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي وهو نجاسة هذا الإناء بعينه هل سببه هو نفس سبب العلم الإجمالي أو هو سبب آخر؟

مثاله : أن يعلم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ثمّ يعلم تفصيلا بنجاسة هذا الإناء بعينه ، ولكنّه لا يدري هل هو نجس بسبب تلك القطرة من الدم ، أو بسبب آخر كقطرة أخرى من الدم وقعت مرّة أخرى فيه ، أو قطرة من الخمر؟ فهاهنا لا انحلال أيضا ؛ وذلك لأنّه لا يحرز اختلال الركن الثاني إذ لا يعلم بسريان العلم من الجامع إلى الفرد.

فقد يكون العلم بالجامع متشخّصا في الفرد وقد لا يكون ذلك ، وهذا يعني الشكّ في انحلال العلم الإجمالي للشكّ في زوال ركنه الثاني ، فيدخل المورد في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

ص: 326

وهناك قلنا بأنّ مثل هذا الشكّ لا يرفع منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّه يوجد احتمالان متكافئان :

أحدهما أن يكون السبب في العلم التفصيلي هو نفس السبب في العلم الإجمالي.

والآخر أن يكون سببه غير سبب العلم الإجمالي.

وحيث لا معيّن لأحد الاحتمالين على الآخر فيكون من الشكّ في تحقّق مصداق الانحلال والسريان من الجامع إلى الفرد ، فلا يمكن التمسّك بالانحلال ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ.

وهذا لا إشكال فيه أيضا.

ومثال الثاني : - أي ما كانت نسبة سبب العلم الإجمالي فيه إلى الأطراف متساوية - أن يحصل علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءات التي هي في معرض استعمال الكافر أو الكلب ، لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فإنّ هذا الاستبعاد نسبته إلى الأطراف على نحو واحد.

ويترتّب على ذلك أنّه لا يصلح أن يكون قيدا مخصّصا للمعلوم الإجمالي.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان السبب في نشوء العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حدّ واحد ، فمثاله :

ما إذا علم بنجاسة أحد إناءي الكافر لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل من دون أن يستعمل أحدهما على الأقلّ ، أو علم بنجاسة أحد الإناءين الموضوعين أمام الكلب للشرب منهما لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل ولا يشرب من أحدهما على الأقلّ ، أو علم بكذب أحد مدعي النبوّة لقيام البرهان على عدم اجتماع نبيّين معا في وقت واحد في مكان واحد لأمّة واحدة.

فهذا النحو من العلم الإجمالي كان منشؤه مجرّد الاستبعاد بالنسبة للأواني ، وهذا الاستبعاد نسبته إلى كلا الإناءين على حدّ واحد ، بمعنى كما أنّ الاستبعاد موجود في هذا الإناء فهو موجود في ذاك أيضا ، بحيث يكون إثبات النجاسة في أحدهما ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّ السبب فيهما متساو.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ هذا السبب لا يمكن أن يخصّص أو يقيّد النجاسة

ص: 327

المعلومة إجمالا ، فلا يمكن أن يقال بأنّه يعلم بنجاسة في أحد هذين الإناءين ناشئة من الاستبعاد ، إذ الاستبعاد نفسه ليس سببا للنجاسة وليس من النجاسات أصلا.

وهذا فارق بين هذا النحو والنحو السابق ، حيث هناك كان السبب يقيّد ويخصّص المعلوم بالإجمال.

وعليه ، فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة إناء معيّن انحلّ العلم الإجمالي حتما لانهدام الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي جزما حيث لم يتحصّص المعلوم الإجمالي بقيد زائد ، ومعه يسري العلم من الجامع إلى الفرد ، ويدخل في النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

وحينئذ نقول : إنّه إذا حصل لنا علم تفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه بسبب رؤية الكافر أو الكلب وهو يشرب منه ، فهل ينحلّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين الناشئ من استبعاد مساورة الكافر أو الكلب لأحدهما؟

والجواب : أنّه ينحلّ لانهدام الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ لأنّ العلم بالجامع يسري إلى الفرد ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي وهو نجاسة أحدهما منطبق جزما على المعلوم بالعلم التفصيلي ، وهو نجاسة هذا بعينه لأنّ الفرد مصداق حتما للجامع ، أي أنّ نجاسة هذا بعينه مصداق لنجاسة أحدهما.

ولا يوجد في الجامع المعلوم بالإجمال أيّة خصوصيّة أو ميزة أو قيد كما هو المفروض ، فيكون هذا الفرد صالحا لانطباق الجامع عليه وانحلاله به ، فيكون نظير النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدّمة لسريان العلم بالجامع إلى الفرد.

كما إذا علمنا بوجود إنسان في المسجد ثمّ علمنا بوجود زيد في المسجد ، فينحلّ العلم الإجمالي لسريان العلم بالجامع إلى الفرد ؛ إذ لا خصوصيّة ولا قيد زائد يمنع من هذا السريان ، وبالتالي يكون الشكّ في وجود فرد آخر في المسجد بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

وبتعبير آخر : إنّه قبل العلم التفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه كان العلم الإجمالي متساوي النسبة إلى الإناءين ؛ لأنّ الاستبعاد فيهما على نحو واحد ، فيكون تعيينه في أحدهما ترجيحا بلا مرجّح ، إلا أنّه بعد العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما

ص: 328

المعيّن يكون تعيين المعلوم بالعلم الإجمالي فيه ترجيحا مع وجود المرجّح ؛ لأنّ هذا الإناء نجس على كلّ حال ، وحيث لا يوجد ما يميّز نجاسته عن النجاسة المعلومة إجمالا لعدم تقييده بشيء زائد فيكون صالحا للانطباق والسريان.

وأمّا الإناء الآخر فتعيين كونه النجس فيه ترجيح على الآخر من دون مرجّح ؛ لأنّ النسبة بينهما واحدة ولا يمتاز على الآخر بشيء يجعله أرجح منه في انطباق المعلوم عليه.

والحاصل : أنّه بعد العلم التفصيلي يصبح العلمان معا علما واحدا بنجاسة هذا الإناء المعيّن وشكّا بدويّا في نجاسة الإناء الآخر ، فتجري فيه الأصول المؤمّنة بلا معارض.

وفي كلّ حالة يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الإجمالي متّحدين في الزمان ، وأمّا إذا كان المعلوم التفصيلي متأخّرا زمانا فلا انحلال للعلم الإجمالي حقيقة ؛ لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذ مصداقا للمعلوم الاجمالي.

شرط الانحلال : ثمّ إنّه يشترط في تحقّق الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي أن يكون المعلوم تفصيلا والمعلوم إجمالا متّحدين في الزمان ، كأن يعلم بوقوع نجاسة في أحد الإناءين صباحا ، ثمّ يعلم تفصيلا بوقوع النجاسة في هذا الإناء بعينه صباحا أيضا ، فهنا يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي أي معيّنا ومشخّصا له ، أو يصلح لأن يكون هو نفس المعلوم إجمالا لكونه مصداقا له ولا ميزة بينهما.

وأمّا إذا كان المعلوم تفصيلا متأخّرا في الزمان عن المعلوم إجمالا فلا انحلال حقيقة ؛ إذ في هذه الحالة لن يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي لوجود الميزة بينهما.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين في الصباح ثمّ علم تفصيلا بنجاسة هذا الإناء بعينه عند الظهر ، أي أنّه تنجّس ظهرا لا صباحا ، فهنا لن يحصل الانحلال ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال فيه ميزة وهو حدوث النجاسة صباحا ، وهذه الميزة يحرز عدم تحقّقها في المعلوم التفصيلي ؛ لأنّ النجاسة فيه حدثت ظهرا ، فهي نجاسة أخرى غير النجاسة

ص: 329

السابقة. وعليه ، فلا يكون مصداقا وصالحا لانطباق المعلوم الإجمالي عليه ، فالعلم بالجامع لم يسر إلى الفرد.

ولا يشترط في الانحلال الحقيقي وانهدام الركن الثاني التعاصر بين نفس العلمين ، فإنّ العلم التفصيلي المتأخّر زمانا يوجب الانحلال أيضا إذا أحرز كون معلومه مصداقا للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مجرّد تأخّر العلم التفصيلي مع إحراز المصداقيّة لا يمنع عن سراية العلم قهرا من الجامع إلى الخصوصيّة ، وهو معنى الانحلال.

نعم ، لا يشترط في الانحلال الحقيقي وسريان العلم من الجامع إلى الفرد أن يكون العلمان الإجمالي والتفصيلي متعاصرين حدوثا ، بل يكفي ما ذكرناه من تعاصر المعلومين فيهما حتّى ولو كان العلم التفصيلي متأخّرا في الحدوث عن العلم الإجمالي ، بشرط أن يحرز أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي المتأخّر زمانا عن العلم الإجمالي مصداق للمعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم ، وهذا يحصل فيما إذا لم يكن في المعلوم بالإجمال ميزة وخصوصيّة زائدة عن المعلوم بالتفصيل.

ومثاله : ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين لوقوع قطرة دم فيه ثمّ علم تفصيلا بنجاسة أحد الإناءين بعينه بالدم أيضا ، وكان وقوع القطرة في العلم الإجمالي صباحا ، ووقوعها في العلم التفصيلي صباحا أيضا ، وكانت هذه القطرة هي نفس تلك أو يحتمل أنّها نفسها على الأقلّ ، فهنا يحصل الانحلال الحقيقي ويسري العلم من الجامع إلى الفرد ، إذ المعلوم تفصيلا يصلح مصداقا للمعلوم إجمالا وزمانهما واحد.

وأمّا مجرّد كون نفس العلم التفصيلي متأخّرا عن العلم الإجمالي فهو لا يمنع من الانحلال الحقيقي والسريان القهري للعلم من الجامع إلى الفرد ، فإنّ الغالب هو تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي ، فلو كان مانعا للزم عدم تحقّق الانحلال الحقيقي إلا نادرا جدّا ، وهو فرض حدوث العلمين الإجمالي والتفصيلي معا وفي آن واحد.

وبهذا ينتهي الكلام عن الانحلال الحقيقي.

4 - الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول :

إذا جرت في حقّ المكلّف أمارات أو أصول شرعيّة منجّزة للتكليف في بعض

ص: 330

أطراف العلم الإجمالي فلا انحلال حقيقي ولا تعبّدي كما تقدّم ، ولكن ينهدم الركن الثالث بإحدى صيغتيه المتقدّمتين إذا توفّرت شروط :

الحالة الرابعة : الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول.

فإذا كان لدى المكلّف علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، وفرض أنّ الأمارات أو الأصول قامت على تنجيز التكليف في أحد الإناءين ، فهنا هل يحصل الانحلال التعبّدي أو الانحلال الحكمي؟

والجواب : أمّا الانحلال الحقيقي فمن الواضح عدم تحقّقه في المقام ؛ لأنّه ناتج عن سريان العلم من الجامع إلى الفرد أي زوال الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهنا الركن الثاني محفوظ وغير منحلّ إذ لا علم وجداني بالفرد ، فالعلم باق حقيقة.

وأمّا الانحلال التعبّدي أو التعبّد بالانحلال بناء على مسلك جعل الطريقيّة والعلميّة أو التنزيل أو المجاز السكّاكي أي الورود ، فقد تقدّم الحديث عنه سابقا ، وقلنا :

إنّ هذه المباني لو سلّمت فهي لا تنتج الانحلال الحقيقي تعبّدا.

يبقى الانحلال الحكمي وهو عبارة عن انهدام الركن الثالث من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف بناء على الصيغة المشهورة والصحيحة ، أو كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف في الطرفين أو الأطراف على كلّ تقدير.

فإنّه إذا كان أحد الأطراف منجّزا بالأمارة أو بالأصل فسوف لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة ، أو لن يكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف على كلّ تقدير ، ولذلك تبطل منجّزيّته مع كون العلم الإجمالي موجودا حقيقة إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة ساقط ، إلا أنّ هذا الانحلال الحكمي يشترط فيه أمور :

أحدها : ألاّ يقلّ البعض المنجّز بالأمارة أو الأصل الشرعي عن عدد المعلوم بالإجمال من التكاليف.

ثانيها : ألاّ يكون المنجّز الشرعي من أمارة أو أصل ناظرا إلى تكليف مغاير لما هو المعلوم إجمالا ، كما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت البيّنة على حرمة أحدهما المعيّن بسبب الغصب.

ص: 331

ثالثها : ألاّ يكون وجود المنجّز الشرعي متأخّرا عن حدوث العلم الإجمالي.

الشرط الأوّل : ألاّ يقلّ المتنجّز بالأمارة أو بالأصل عن المعلوم بالعلم الإجمالي ، بل يكون إمّا زائدا أو مساويا ، فإذا علمنا بنجاسة إناءين من عشرة وقامت الأمارة أو الأصل على نجاسة اثنين معيّنين منها تمّ الانحلال الحكمي.

وأمّا إذا قامت الأمارة أو الأصل على نجاسة واحد فقط ، فهنا يخرج الطرف عن العلم الإجمالي إلا أنّ الأطراف الأخرى لا تزال على طرفيّتها ؛ إذ العلم الإجمالي بلحاظها غير منحلّ لا حقيقة ولا حكما.

فكما اشترط في انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير أن يكون المعلوم إجمالا في الصغير أزيد أو مساويا للكبير فكذلك هنا ؛ لأنّ الانحلال نفسه يفترض مساواة الشيء المنحلّ مع المنحلّ فيه ، أو كونه أقلّ منه لا أزيد.

والشرط الثاني : أن يكون التكليف المعلوم إجمالا هو نفسه التكليف المنجّز بالأمارة أو بالأصل ، إذ لو كان التكليف فيهما متغايرا لما حصل الانحلال.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا فلا بدّ أن تكون الأمارة أو الأصل المنجّزين لأحد الإناءين بعينه دالّة على نفس التكليف المعلوم إجمالا بأن تشهد البيّنة بنجاسة هذا الإناء ، أو يجري استصحاب نجاسة هذا الإناء. وأمّا إذا كانت الأمارة أو الأصل منجّزة للإناء بتكليف آخر غير النجاسة بأن قامت على كونه مغصوبا فهنا لا يتحقّق الانحلال.

وبتعبير آخر : يشترط في الأمارة أو الأصل أن يكون التكليف المتنجّز بهما في أحد الأطراف متّحدا في سببه مع التكليف المتنجّز في العلم الإجمالي ، أي أنّ سبب العلم الإجمالي هو نفسه ما قامت عليه الأمارة أو الأصل.

وأمّا لو كان السبب فيهما متغايرا فلا يتحقّق الانحلال إذ يوجد سببان مستقلاّن للتنجيز ، وموضوعهما مختلف.

والشرط الثالث : ألاّ يكون قيام الأمارة أو الأصل متأخّرا عن العلم الإجمالي ، بل إمّا أن يكونا قبله أو مقارنين له ، فإذا كان لدينا إناءان وكان أحدهما نجسا سابقا ، فهنا يجري استصحاب نجاسته فيكون منجّزا ، أو أخبرت البيّنة بنجاسته فيتنجّز بالأمارة.

فإذا علمنا إجمالا بعد ذلك بنجاسة أحدهما سوف لا يكون هذا العلم الإجمالي

ص: 332

منجّزا لاختلال ركنه الثالث ، إذ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الطرف الذي استصحبت نجاسته ، أو قامت الأمارة عليها ، فتجري الأصول الترخيصيّة في الإناء الآخر بلا معارض.

وهكذا لو كان قيام الأمارة أو الأصل مقارنا لحدوث العلم الإجمالي بأن حدثا معا ، فالانحلال الحكمي موجود.

وأمّا لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ بعد ذلك قامت الأمارة أو الأصل على نجاسة أحدها المعيّن ، فهنا لا يتحقّق الانحلال الحكمي كما سيأتي توضيحه.

فكلّما توفّرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث لجريان الأصل المؤمّن في غير مورد المنجّز الشرعي بلا معارض وفقا للصيغة الأولى ، ولعدم صلاحيّة العلم الإجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كلّ تقدير وفقا للصيغة الثانية ، ويسمّى السقوط عن المنجّزيّة في هذه الحالة بالانحلال الحكمي تمييزا له عن الانحلال الحقيقي والانحلال التعبّدي.

وهذه الشروط الثلاثة إذا توفّرت في مورد حصل الانهدام للركن الثالث وسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، ولا فرق في ذلك بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلّيّة. وتوضيحه : أنّه على مسلك الاقتضاء كان الركن الثالث عبارة عن جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ، فمع قيام المنجّز الشرعي من أمارة أو أصل سوف لا تجري الأصول الترخيصيّة في هذا الطرف الذي قامت فيه الأمارة أو الأصل ، فتجري الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر بلا معارض ، فيختلّ بذلك الركن الثالث ، ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وعلى مسلك العلّيّة كان الركن الثالث عبارة عن أن يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على جميع التقادير لا على بعضها ، فمع تنجّز أحد الطرفين بعينه بالأمارة أو بالأصل سوف لن يكون قابلا للتنجيز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على جميع التقادير ؛ لأنّه على تقدير كون النجاسة المعلومة إجمالا في الإناء المنجّز بالأمارة أو بالأصل فلن يكون منجّزا بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ المنجّز لا يتنجّز من جديد ، إذ لا تجتمع علّتان مستقلّتان على معلول

ص: 333

واحد ، وبعد اختلال الركن الثالث بهذه الصياغة يحصل الانحلال الحكمي (1).

وأمّا إذا اختلّ الشرط الأوّل فالعلم الإجمالي منجّز للعدد الزائد ، والأصول بلحاظه متعارضة.

ذكرنا أنّ الانحلال الحكمي فيه ثلاثة شروط فإذا اختلّ واحد منها فالعلم الإجمالي لا ينحلّ.

وعليه فنقول : إذا اختلّ الشرط الأوّل بأن كان العدد المعلوم بالإجمال أزيد من العدد الذي تنجّز بالأمارة أو بالأصل ، فمورد الأمارة يخرج عن دائرة العلم الإجمالي وكذا مورد الأصل ، وأمّا المقدار الزائد فهو لا يزال مرددا بين الأطراف الأخرى ، والعلم الإجمالي لا يزال منجّزا بلحاظه ؛ لعدم اختلال ركنه الثالث ، إذ الأصول الترخيصيّة في تلك الأطراف سوف تجري فيها جميعا ، وبالتالي تتعارض وتتساقط.

فإذا علمنا إجمالا بنجاسة إناءين من العشرة وقامت الأمارة أو الأصل على نجاسة أحد العشرة بعينه فهنا يخرج هذا الطرف عن دائرة العلم الإجمالي ، وأمّا سائر الأطراف فلا يزال العلم منجّزا لها للعلم بنجاسة أحدها ؛ ولأنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ طرف متعارضة فيما بينها.

وإذا اختلّ الشرط الثاني فالأمر كذلك ؛ لأنّ ما ينجّزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجّزه الأمارة نفسها.

وإذا اختلّ الشرط الثاني بأن كان التكليف المنجّز بالأمارة أو بالأصل مغايرا للتكليف المنجّز بالعلم الإجمالي فلا يتحقّق الانحلال أيضا ؛ لأنّ ما يتنجّز بالأمارة غير ما يتنجّز بالعلم ، أي أنّ السبب في كلّ منهما مغاير للسبب في الآخر ، فيكون

ص: 334


1- وإنّما سمّيت هذه الموارد بالانحلال الحكمي من أجل تمييزها عن موارد الانحلال الحقيقي أو الانحلال التعبّدي على فرض وقوعه ، ووجه التسمية أنّ العلم الإجمالي رغم وجوده حقيقة إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة لكلا الطرفين ساقط ، فمن أجل سقوط حكمه سمّي بالانحلال الحكمي. ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الانحلال الحكمي إنّما يحتاج فيه إلى هذه الشروط فيما إذا كان المنجّز أصلا عمليّا مطلقا ، أو أمارة غير معيّنة للمعلوم الإجمالي ، وأمّا إذا كان لدينا أمارة معيّنة ومشخّصة للمعلوم الإجمالي فهي توجب الانحلال الحكمي مطلقا سواء كانت قبل العلم الإجمالي أو بعده.

مورد الأمارة منجّز من جهتين : الأولى بلحاظ الأمارة ، والثانية بلحاظ العلم الإجمالي ، وأمّا سائر الأطراف فهي منجّزة بالعلم الإجمالي فقط.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وقامت الأمارة أو الأصل على غصبيّة أحدهما بعينه ، فهنا يكون مورد الأمارة منجّز من ناحيتين : من ناحية الغصبيّة ، ومن ناحية النجاسة ، وسائر الأطراف الأخرى منجّزة من ناحية النجاسة المعلومة إجمالا.

وكون مورد الأمارة متنجّزا لا يعني سقوط الأصول الترخيصيّة فيه رأسا ، بل تسقط الأصول الترخيصيّة فيه بلحاظ التكليف المنجّز بالأمارة ، وأمّا الأصول الترخيصيّة من ناحية العلم الإجمالي فهي لا تزال جارية فيه ، وهي معارضة بالأصول الترخيصيّة من ناحية العلم الإجمالي في الأطراف الأخرى ، فهي ساقطة من جهة ولكنّها ثابتة من جهة أخرى.

وإذا اختلّ الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجّزا والركن الثالث محفوظا ؛ لأنّ الأصول المؤمّنة في غير مورد الأمارة والأصل الشرعي المنجّز معارضة بالأصول الترخيصيّة المؤمّنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما.

وبكلمة أخرى : إذا أخذنا من مورد المنجّز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجّز ومن غيره الفترة الزمنيّة على امتدادها حصلنا على علم إجماليّ تامّ الأركان فينجّز.

وإذا اختلّ الركن الثالث بأن كان لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ قامت الأمارة أو الأصل الشرعي على نجاسة أحدهما المعيّن ، بنحو يمكن أن يكون ما تنجّز بالأمارة أو بالأصل مصداقا للمعلوم بالإجمال ، بأن كان المعلوم الإجمالي نجاسة ما ، وكان المتنجّز نجاسته بالدم أو كان المعلوم الإجمالي النجاسة بالدم وكان التنجّز النجاسة بالدم أيضا ، ولكن يحتمل أن تكون غير النجاسة الأولى ويحتمل أن يكون نفسها ، فلم يكن مورد الأمارة المتنجّز مشخّصا ومعيّنا للمعلوم بالإجمال بل يكون محتملا لذلك ولعدمه ، فهنا لا ينحلّ العلم الإجمالي لتماميّة أركانه.

أمّا الانحلال الحقيقي فلعدم سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، إذ لا علم وجداني ، وأمّا الانحلال التعبّدي أو التعبّد بالانحلال فلا واقع له بل هو مجرّد فرض فقط ، وأمّا الانحلال الحكمي فلأنّ الركن الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين لا يزال على حاله.

ص: 335

وتوضيحه : أنّ أحد الإناءين منجّز بالأمارة والآخر منجّز بالأمارة والعلم الإجمالي ، والأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المنجّز بالعلم الإجمالي تتعارض مع الأصول الترخيصيّة في الإناء المنجّز بالعلم الإجمالي وبالأمارة أو بالأصل قبل ثبوت الأمارة والأصل.

وهذه المعارضة تظلّ ثابتة حتّى بعد قيام الأمارة أو الأصل ، فيكون هناك منجّزان لأحد الإناءين ، وثبوت منجّزين على شيء واحد لا مانع فيه عقلا ؛ لأنّه ليس بابه باب العلل والأسباب الحقيقيّة ، بل بابه باب الاعتبار ، وبهذا اللحاظ يحقّ للشارع أن يعتبر ما يشاء منجّزا لأحكامه ، وحينئذ تكون مخالفة الإناء المنجّز بمنجّزين أشدّ وأقبح من مخالفة الإناء المنجّز بمنجّز واحد فقط.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي من أوّل الأمر - بعد قيام الأمارة أو الأصل - يكون دائرا بين طرفين أحدهما قصير والآخر طويل.

أمّا الفرد القصير فهو نجاسة هذا الإناء إلى حين قيام الأمارة أو الأصل على تنجيزه ، وأمّا الفرد الطويل فهو نجاسة الإناء الآخر إلى ما شاء اللّه.

والأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ آنات الفرد القصير تتعارض مع الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ آنات الفرد الطويل ، فيكون الفرد الطويل متنجّزا بالعلم الإجمالي من أوّل الأمر على امتداد آناته الزمنيّة.

وأمّا الفرد القصير فلا يكون منجّزا بالعلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أو الأصل على تنجيزه لانتهاء أمده ، وهذا لا يضر بمنجّزيّة العلم الإجمالي كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ مجرّد تحقّق أحد الطرفين لا يعني جواز ارتكاب الآخر. نعم ، الإناء الذي تنجّز بالأمارة أو بالأصل يبقى منجّزا أيضا كالفرد الطويل إلا أنّه منجّز بالأمارة أو بالأصل لا بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ طرفيّته للعلم الإجمالي ترتفع وتنتهي بعد قيام الأمارة أو الأصل ، نظير الاضطرار أو التلف أو التطهير.

ومن هنا يعرف أنّ انهدام الركن الثالث بالمنجّز الشرعي مرهون بعدم تأخّر نفس المنجّز عن العلم ، ولا يكفي عدم تأخّر مؤدّى الأمارة مثلا مع تأخّر قيامها ؛ وذلك لأنّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجز الشرعي في بعض أطرافه إنّما هو بسبب المنجّزيّة الشرعيّة بإحدى الصيغتين السابقتين ، والمنجّزيّة

ص: 336

لا تبدأ إلا من حين قيام الأمارة أو جريان الأصل ، سواء كان المؤدّى مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك.

قلنا : إنّ الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالأمارة أو الأصل المنجّزين لأحد الأطراف المعيّن فرع انهدام الركن الثالث ، وهذا إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأمارة أو الأصل متقدّمين على العلم الإجمالي لا متأخّرين عنه ، فلا بدّ أن يكون نفس المنجّز الشرعي متقدّما زمانا على العلم الإجمالي.

وأمّا إذا كان المنجّز الشرعي متأخّرا في الحدوث عن العلم الإجمالي فلا يتحقّق الانحلال ، سواء كان مؤدّى هذا المنجّز متأخّرا أيضا أم متقدّما أم مقارنا ، فلا عبرة بتقدّم المؤدّى أو تأخّره بل العبرة بتقدّم نفس المنجّز.

والوجه في ذلك هو : أنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة هنا فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، فعند ما يكون أحد الأطراف منجّزا بمنجّز آخر فإنّه لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة فينحلّ. ومن الواضح أنّ كون أحد الطرفين لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة إنّما يكون فيما إذا كان منجّزا فينهدم الركن الثالث بكلتا صيغتيه.

أمّا الصيغة المشهورة فلأنّ الأصول الترخيصيّة لم تجر في هذا الطرف المنجّز فلا تعارض.

وأمّا الصيغة على مسلك المحقّق العراقي فلأنّ المنجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي فهو غير منجّز لمعلومه على كلّ تقدير.

ثمّ إنّ هذه المنجّزيّة إنّما تثبت في أحد الطرفين بعد قيام الأمارة أو الأصل لا قبل ذلك ، فإذا كانت الأمارة أو الأصل متقدّمين على العلم الإجمالي كانت المنجّزيّة في أحد الطرفين ثابتة قبل طروّ العلم الإجمالي فلا يؤثّر في المنجّزيّة ، إمّا لأنّه لا ينجّز المنجّز ، وإمّا لأنّه لا تجر فيه الأصول الترخيصيّة.

وأمّا إذا كانت المنجّزيّة بعد طروّ العلم الإجمالي فالعلم الإجمالي منجّز لطرفيه قبل ثبوت الأمارة ؛ لجريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين معا قبل قيام المنجّز أو لكونه منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، فبعد ثبوت الأمارة لا يزول العلم الإجمالي ولا تبطل منجّزيّته ، بل تتأكّد في أحدهما المعيّن.

ص: 337

وأمّا تأخّر الأمارة أو الأصل مع كون مؤدّاهما متقدّما على العلم الإجمالي فلا يكفي للانحلال ، فلو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا الإناء كان نجسا قبل طروّ العلم الإجمالي فهذا لا يكفي ؛ لأنّ الإناء قبل طروّ العلم الإجمالي لم يكن منجّزا على المكلّف ؛ وذلك لعدم وصول المنجّزيّة إليه إذ لا يوجد في تلك الفترة منجّز فعلي ، فكان العلم الإجمالي منجّزا له لتماميّة أركانه فيه.

وهذا واضح بناء على أنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول سواء كانت للعلم أم للظنّ المعتبر ، فإنّ مجرّد ثبوت التكليف في الواقع لا يكفي لكونه منجّزا على المكلّف حتّى لو لم يعلم به أو لم يقم عليه دليل معتبر شرعا ، بل يكون منجّزا من حين قيام العلم أو الدليل المعتبر ، فالمنجّزيّة فرع الوصول وهي تبدأ من حين ثبوتها وهو لا يكون إلا بوصولها.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي كما شرحناه هنا والانحلال الحقيقي كما شرحناه آنفا (1) ، يظهر أنّهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما العبرة في الانحلال الحكمي بعدم تأخّر نفس المنجّز الشرعي عن العلم الإجمالي ، نلاحظ أنّ العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن زمان المعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع إلى الفرد ، وهي لازم قهري لانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقيّة هذا لذاك ، ولا دخل لتاريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.

الفرق بين الانحلالين : يمكننا بيان الفرق بين الانحلالين الحقيقي والحكمي ضمن الأمور التالية :

أوّلا : أنّ الانحلال الحقيقي فرع سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، بينما الانحلال الحكمي فهو فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأفراد.

وثانيا : أنّ الانحلال الحقيقي معناه زوال العلم الإجمالي حقيقة وتبدّله إلى العلم التفصيلي بالفرد والشكّ البدوي في الآخر ، بينما الانحلال الحكمي معناه أنّ العلم الإجمالي لا يزال موجودا ، غاية الأمر أنّ حكمه أي المنجّزيّة قد سقطت.

ص: 338


1- تحت عنوان انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.

وثالثا : أنّ الانحلال الحقيقي والذي هو سريان العلم من الجامع إلى الفرد قهرا إنّما يتحقّق فيما إذا كان المعلومان بالإجمال والتفصيل متّحدين في الزمان ولا يشترط اتّحاد نفس العلمين ، بينما الانحلال الحكمي والذي هو سقوط المنجّزيّة المسبّبة عن عدم جريان الأصول الترخيصيّة في أحد الطرفين مع جريانها في الطرف الآخر إنّما يتحقّق فيما إذا كان نفس المنجّز من أمارة أو أصل متقدّما على العلم الإجمالي ، ولا يشترط تقدّم مؤدّى الأمارة أو الأصل أو تأخّره أو مقارنته للمعلوم الإجمالي ؛ لأنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول وهو لا يتمّ إلى بقيام الأمارة أو الأصل لدى المكلّف ولا عبرة بمؤدّاهما والواقع المحكي بها.

والسرّ في ذلك : ما ذكرناه من كون السراية القهريّة من الجامع إلى الفرد فرع الانطباق والمصداقيّة للفرد مع الجامع ، وهذا فرع اتّحادهما أي الفرد والجامع ، وهذا هو اتّحاد المعلوم الإجمالي أي الجامع مع المعلوم التفصيلي أي الفرد.

وأمّا المنجزيّة وعدم جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف فهي فرع كون هذا البعض متنجّزا بمنجّز سابق على العلم الإجمالي ، وهذا المنجّز لا يثبت إلا مع قيام الأمارة أو الأصل ؛ لأنّها فرع الوصول كما ذكرناه ، ولهذا تكون الأمارة أو الأصل متقدّمة على العلم الإجمالي.

ولذلك لا يشترط اتّحاد العلمين في الانحلال الحقيقي ؛ لأنّ الانحلال وعدمه ليس مرتبطا بنفس العلمين ، وكذا لا يشترط تقدّم مؤدّى الأمارة أو الأصل على العلم الإجمالي ؛ لأنّ ملاك الانحلال ليس مرتبطا بالمؤدّى بل بنفس المنجّز.

ويترتّب على ذلك : أنّه لو فرض اجتماع العلمين الإجمالي والتفصيلي في مرحلة البقاء حصل الانحلال فيما إذا كانت المصداقيّة والمطابقة بين المعلومين متحقّقة ، بينما لو فرض تقدّم مؤدّى الأمارة مع تأخّر نفس الأمارة فلا يحصل الانحلال الحكمي ، بخلاف ما لو تقدّمت نفس الأمارة أو الأصل سواء كان مؤدّاهما متقدّما أم مقارنا فإنّه يحصل الانحلال.

5 - اشتراك علمين إجماليّين في طرف :

قد يفترض أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي طرف في علم إجمالي آخر ، فإن كان العلمان متعاصرين فلا شكّ في تنجيزهما معا وتلقّي الطرف المشترك التنجيز

ص: 339

منهما معا ؛ لأنّ مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين.

الحالة الخامسة : اشتراك علمين إجماليّين في طرف ، وهذه الحالة على قسمين :

الأوّل : أن يفترض حدوث العلمين الإجماليّين معا بنحو التقارن والتعاصر ، كما إذا علمنا إجمالا في الساعة الثانية عشر بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود ، وعلمنا أيضا في نفس الساعة بنجاسة أحد الإناءين الأسود أو الأحمر.

فهنا الإناء الأسود طرف مشترك للعلمين الإجماليّين بحيث يكون قابلا للتنجّز من كلا العلمين ، ولا شكّ في كونه منجّزا بهما معا ؛ إذ تنجّزه بأحدهما فقط ترجيح بلا مرجّح ، وعدم تنجّزه بشيء منهما مخالف لقانون منجّزيّة العلم الإجمالي التامّ الأركان فيلزم كونه منجّزا بهما معا.

ويمكننا إرجاع العلمين الإجماليّين إلى علم إجمالي واحد دائر بين ثبوت تكليف في الإناء المشترك أي الأسود ، أو ثبوت تكليفين أحدهما في الإناء الأبيض والآخر في الإناء الأحمر ؛ وذلك لأنّ العلمين الإجماليّين إن كان المعلوم فيهما معا في الإناء الأسود المشترك فلا يوجد إلا تكليف واحد وهو نجاسته فقط ، وإمّا إن كان المعلوم فيهما ثابتا في الطرف الآخر فهذا يعني ثبوت تكليفين أحدهما نجاسة الأبيض والآخر نجاسة الأحمر.

وأمّا إذا كان أحدهما سابقا على الآخر فقد يقال : إنّ العلم المتأخّر يسقط عن المنجّزيّة لاختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الأولى وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد سقط عنه الأصل المؤمّن سابقا بتعارض الأصول الناشئ من العلم الإجمالي السابق ، فالأصل في الطرف المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر يجري بلا معارض.

وإمّا بصيغته الثانية وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد تنجّز بالعلم السابق ، فلا يكون العلم المتأخّر صالحا لمنجّزيّته ، فهو إذن لا يصلح لمنجّزيّة معلومه على كلّ تقدير.

الثاني : أن يفترض حدوث أحد العلمين الإجماليّين قبل الآخر ، أي أحدهما متقدّم والآخر متأخّر.

ص: 340

وهنا ذهب الميرزا ومدرسته إلى سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي في الفرض المذكور ، وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان منجّزيّته ؛ وذلك لأنّ هذا الركن كانت صياغته على مسلك المشهور هي جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، وهنا لا تجري الأصول الترخيصيّة في الطرف المشترك.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة الأسود أو الأحمر ، فهنا على أساس العلم الإجمالي المتقدّم قد جرت الأصول الترخيصيّة في كلا الإناءين الأبيض والأسود وتساقطت بسبب المعارضة فيما بينها.

فإذا علمنا إجمالا بنجاسة إمّا الأسود وإمّا الأحمر ، فهنا الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء الأحمر لا معارض لها ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة في الإناء الأسود قد سقطت سابقا لمعارضتها بالأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض ، وبهذا تكون الأصول المؤمّنة في الطرف الأحمر المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر جارية بلا معارض ، فينحلّ العلم الإجمالي بلحاظها ويسقط عن المنجّزيّة فيها ، ويمكن تصوير اختلال الركن الثالث على صياغة المحقّق العراقي أيضا.

فنقول : إنّ العلم الإجمالي المتقدّم قد نجّز معلومه على كلّ تقدير ، أي سواء كانت ضمن الأبيض أو الأسود لصلاحيّة وقابليّة كلّ منهما لذلك ، وأمّا العلم الإجمالي المتأخّر فلا يمكنه تنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّه على تقدير كونه في الإناء الأسود المشترك فهو قد تنجّز سابقا بالعلم الإجمالي السابق ، والمنجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة أخرى ، فيكون العلم الإجمالي الثاني ساقطا عن المنجّزيّة ؛ لأنّه غير صالح لتنجيز معلومه على جميع التقادير وإنّما على بعض التقادير فقط ، وهذا البعض غير معلوم ، بل هو مشكوك فتجري فيه الأصول المؤمّنة بلا محذور.

ولكنّ الصحيح عدم السقوط عن المنجّزيّة ، وبطلان التقريبين السابقين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأوّل لا يوجب التنجيز في كلّ زمان ، وتعارض الأصول في الأطراف كذلك إلا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان لا بمجرّد حدوثه ولو في زمان سابق.

وعليه ، فتنجّز الطرف المشترك بالعلم الإجمالي السابق في زمان حدوث العلم

ص: 341

المتأخّر ، إنّما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق إلى ذلك الحين ، لا بمجرّد حدوثه ، وهذا يعني أنّ تنجّز الطرف المشترك فعلا له سببان :

أحدهما : بقاء العلم السابق.

والآخر : حدوث العلم المتأخّر ، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فينجّزان معا ، وبذلك يبطل التقريب الثاني.

والصحيح عدم سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ لعدم اختلال الركن الثالث بصيغتيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي إذا توفّرت فيه الأركان الأربعة كان منجّزا للطرفين ، وكان موجبا لتعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في الطرفين أيضا ، إلا أنّ منجّزيّته لهما وإيجابه لتعارض الأصول فيهما ليست بمعنى أنّه بمجرّد أن يحدث علم إجمالي فيكون منجّزا للطرفين على امتداد الزمان ولو زال بقاء ، فإنّ هذا واضح البطلان ، وإنّما منجّزيّته فرع أن يكون موجودا فعلا في كلّ زمان وفي كلّ آن.

وبتعبير آخر : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي ليست مطلقة ؛ ليقال : إنّه بمجرّد أن يحدث فهو منجّز ولو لم يكن موجودا بقاء ، بل منجّزيّة العلم الإجمالي مشروطة ومقيّدة بوجوده الفعلي في كلّ آن من آنات الزمان.

وعلى هذا نقول : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي بناء على صياغة المحقّق العراقي فرع كونه منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، وهذا الركن موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين الإناءين الأبيض والأسود ، إنّما يوجد التنجيز لو كان هذا العلم في كلّ آن صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ، وهذا فرع وجوده الفعلي في كلّ آن ولا يكفي حدوثه سابقا فقط.

وعليه ، ففي الآن الذي يحدث فيه العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الإناءين الأسود والأحمر يكون كلّ منهما صالحا لتنجيز الإناء المختصّ بلا إشكال ، وكذلك يكونان صالحين لتنجيز الإناء المشترك أي الأسود ؛ لأنّه في هذا الآن من الزمان لم يكن منجّزا بمنجّز آخر غير هذين العلمين ، وإنّما يتنجّز في هذا الآن فعلا بسبب وجود هذين العلمين ؛ لأنّهما بلحاظ هذا الآن ليس أحدهما أسبق عن الآخر ، وإنّما هما موجودان معا.

ص: 342

ولذلك لا يمكن القول بأنّ الإناء المشترك في هذا الآن منجّز بالعلم الإجمالي السابق دون المتأخّر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وكذلك العكس ، ولا يمكن القول بأنّه لا منجّز له في هذا الآن ؛ لأنّه خلف العلم الإجمالي ، فلا بدّ من القول بأنّه منجّز بهما معا ، وهذا يعني أنّه في هذا الآن من الزمان يكون اجتمع على الطرف المشترك منجّزان فعليّان في عرض واحد ، فيؤخذ بمنجّزيّتهما معا.

وبتعبير آخر : إنّه بلحاظ الآن الذي حدث فيه العلم المتأخّر كان العلم الإجمالي السابق موجودا أيضا ، فهما موجودان معا في عرض واحد وليس أحدهما متقدّما والآخر متأخّرا ، فيتنجّز الطرف المشترك بهما معا.

وأمّا مجرّد كون العلم الأوّل موجودا في السابق فهذا لا يكفي لكونه أسبق من العلم المتأخّر ؛ لأنّ الأسبقيّة لا بدّ أن تلحظ بنفس الزمان ؛ ولأنّ العلم الإجمالي لا يكفي فيه الحدوث كما قلنا بل لا بدّ من وجوده الفعلي ، فإذا لاحظنا الوجود الفعلي للعلم الإجمالي في عمود الزمان وجدنا أنّه بلحاظ هذا الآن الزماني يوجد فيه فعلا علمان إجماليّان وهما في عرض واحد ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر في التنجيز ليؤخذ به دون الآخر ، وبهذا يبطل التقريب الثاني.

كما أنّ الأصل المؤمّن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كلّ آن ، وهذا الاقتضاء يؤثّر مع عدم التعارض ، ومن الواضح أنّ جريان الأصل المؤمّن في الطرف المشترك في الفترة الزمنيّة السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخّر كان معارضا بأصل واحد - وهو الأصل في الطرف المختصّ بالعلم السابق - غير أنّ جريانه في الفترة الزمنيّة اللاحقة يوجد له معارضان وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصّين معا ، وبذلك يبطل التقريب الأوّل ، فالعلمان الإجماليّان منجّزان معا.

وأمّا التقريب المشهور لصياغة الركن الثالث فكان جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، وهذا محفوظ في مقامنا ؛ وذلك لأنّه يراد بجريان الأصول الترخيصيّة أن تكون جارية فعلا في كلّ آن من آنات الزمان على امتدادها ، ولا يكفي أن تكون جارية في الآن السابق لبقاء المنجّزيّة مع زوال جريانها في الآن اللاحق.

وهذا يعني أنّ جريان الأصول وتعارضها لا بدّ أن يكون بلحاظ كلّ زمان بالفعل.

وحينئذ نقول : إنّه في الزمان السابق على العلم الإجمالي الثاني لم يكن لدينا إلا

ص: 343

طرفان فقط وهما الإناءان الأبيض والأسود ، ولذلك كانت الأصول الترخيصيّة في الإناء الأسود معارضة بالأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض.

وهذه المعارضة تبقى على حالها في كلّ زمان وفي كلّ آن ما دامت الأصول الترخيصيّة جارية في الطرفين ، فإذا وصلنا إلى الزمان الذي حدث فيه العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الإناءين الأحمر والأسود ، وجدنا أنّ الأصول الترخيصيّة الجارية فعلا في الإناء الأسود المشترك بين العلمين لها معارضان :

الأوّل : الأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض المختصّ بالعلم السابق. والثاني : الأصول الترخيصيّة في الإناء الأحمر المختصّ بالعلم اللاحق ؛ لأنّه في هذا الآن المعيّن من الزمان كان لدينا تعاصر بين العلمين ؛ لأنّهما موجودان في عرض واحد.

وهذا يعني أنّهما بالتحليل يرجعان إلى علم إجمالي واحد دائر بين الإناء الأسود من جهة وبين الإناءين الأبيض والأحمر من جهة أخرى ، فإنّنا نعلم إجمالا بثبوت تكليف واحد في الإناء المشترك أو بثبوت تكليفين مختصّين في الإناءين الآخرين ، والأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المشترك معارضة بالأصول الترخيصيّة الجارية في الإناءين المختصّين معا ، ولا معنى لتوهّم معارضة الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المشترك بالأصول الترخيصيّة في أحد الإناءين المختصّين ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

إذ المفروض أنّه في هذا الآن الزماني يوجد موضوعان للأصول الترخيصيّة : أحدهما الإناء الأبيض ، والآخر الإناء الأحمر ، فتخصيص المعارضة بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن كون المعارضة من جهة بين الأصول الجارية في الإناء الأسود المشترك ، ومن جهة أخرى بين الأصول الترخيصيّة في الإناءين المختصّين الأبيض والأحمر ، وهذا يعني أنّ الركن الثالث لا يزال محفوظا ولم ينهدم ليقال ببطلان المنجّزيّة (1).

ص: 344


1- بقي شيء ، وهو أنّ الميرزا ادّعى هنا الانحلال الحقيقي ، وأنّ العلم الإجمالي المتأخّر ليس علما في التكليف ليكون منجّزا. ببيان : أنّه إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود فهذا علم إجمالي بالتكليف منجّز لتماميّة أركانه ، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأسود أو الأحمر فهذا ليس علما إجماليّا بالتكليف ، فلا يكون منجّزا وإن كانت أركانه تامّة ؛ لأنّ العلم الإجمالي المنجّز هو العلم بالتكليف كما تقدّم. وهنا إن فرض أنّ النجاسة المعلومة إجمالا بالعلم اللاحق كانت في الأسود وكانت النجاسة المعلومة سابقا بالأسود أيضا فلا تكليف جديد ، وإن كانت في الطرف المختصّ في كلّ منهما فهنا يوجد تكليف ، وكذا لو كانت في الإناء المشترك في أحدهما والمختصّ في الآخر ، وهذا يعني أنّه لا يعلم بالتكليف على جميع التقادير وإنّما على بعض التقادير يوجد علم إجمالي دونه على البعض الآخر ، حيث إنّ هذا البعض غير معلوم فلا يكون العلم الإجمالي اللاحق منجّزا. وفيه : إنّه لا يشترط في العلم الإجمالي أكثر من كونه علما بما يساوق التكليف لا علما بالتكليف مباشرة ، وهذا محفوظ في مقامنا ؛ لأنّه يلزم من وقوع القطرة في الإناء المختصّ التكليف كما هو الحال فيما إذا كان لدينا علم إجمالي دائر بين طرفين : أحدهما مشكوك النجاسة ، فإنّه منجّز لهما مع أنّه قد تكون النجاسة في الإناء المشكوك نجاسته فلا تكليف جديد ، مضافا إلى أنّه في العلم اللاحق نعلم إجمالا بثبوت أصل التكليف أي الجامع ، وهذا المقدار كاف في المنجّزيّة.
6 - حكم ملاقي أحد الأطراف :

إذا علم المكلّف إجمالا بنجاسة أحد المائعين ولاقى الثوب أحدهما المعيّن حصل علم إجمالي آخر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر ، وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة.

وفي مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الإجمالي الآخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب الاجتناب عن المائعين ، وذلك لأحد تقريبين :

الحالة السادسة : فيما هو حكم ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.

فإذا علم المكلّف بنجاسة أحد المائعين حصل له علم إجمالي بنجاسة أحدهما ، فإذا لاقى الثوب ونحوه أحد هذين الطرفين سوف يحصل لنا علم إجمالي آخر وهو نجاسة الثوب أو الإناء الآخر ؛ وذلك لأنّ النجاسة إن كانت في الإناء الملاقي للثوب فالثوب نجس ، وإن كانت في الآخر فالثوب طاهر ، فبعد الملاقاة لا يعلم هل الثوب نجس أم الإناء الآخر؟ وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة.

وفي هذه الحالة قد يقال : إنّ العلم الإجمالي الثاني ليس منجّزا لنجاسة الثوب ، وإنّما المنجّز هو العلم الإجمالي السابق ، فيجب الاجتناب عن كلا الإناءين ؛ للعلم بنجاسة أحدهما ، ولكن لا يجب الاجتناب عن الثوب ؛ لأنّ العلم الإجمالي فيه ليس منجّزا.

ص: 345

والوجه في عدم منجّزيّته أحد تقريبين :

الأوّل : تطبيق فرضيّة العلمين الإجماليين المتقدّم والمتأخّر في المقام ، بأن يقال : إنّه يوجد لدى المكلّف علمان إجماليّان بينهما طرف مشترك وهو المائع الآخر ، فينجّز السابق منهما دون المتأخّر.

وهذا التقريب إذا تمّ يختصّ بفرض تأخّر الملاقاة أو العلم بها على الأقلّ عن العلم بنجاسة أحد المائعين ، ولكنّه غير تامّ كما تقدّم.

التقريب الأوّل : أن يقال : إنّ العلمين الإجماليّين هنا من العلمين المشتركين في طرف واحد وأحدهما متقدّم على الآخر ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بنجاسة أحد المائعين ثمّ حصل علم إجمالي آخر متأخّر دائر بين نجاسة الثوب أو نجاسة الإناء الآخر الموجود في العلم الإجمالي السابق.

فالإناء الآخر مشترك بين العلمين الإجماليّين المتقدّم والمتأخّر ، وفي هذه الحالة لا يكون العلم الإجمالي المتأخّر منجّزا لطرفيه ؛ لاختلال الركن الثالث بصيغتيه كما تقدّم ، فإنّ الطرف المشترك منجّز بالعلم الإجمالي السابق فلا يتنجّز بالعلم الإجمالي اللاحق ، أو لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في أحدهما دون الآخر ، فإنّها لا تجري في الطرف المشترك لسقوطها فيه. وفيه :

أوّلا : ما تقدّم من منجّزيّة العلمين الإجماليّين المشتركين في أحد الأطراف ، وعدم انهدام الركن الثالث.

وثانيا : لو سلّم عدم منجّزيّة العلم المتأخّر فهذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت نفس الملاقاة بين الثوب وأحد المائعين متأخّرة عن العلم الإجمالي السابق ، أو على الأقلّ كان العلم بالملاقاة متأخّرا عن العلم الإجمالي السابق وإن كانت نفس الملاقاة حاصلة قبله أو مقارنة له ، ولا يتمّ فيما إذا كانت الملاقاة والعلم بها متقدّما على العلم الإجمالي الأوّل ؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون متعلّقا بثلاثة أطراف من أوّل الأمر فيتنجّز الثوب أيضا.

الثاني : أنّ الركن الثالث منهدم ؛ لأنّ أصل الطهارة يجري في الثوب بدون معارض ؛ وذلك لأنّه أصل طولي بالنسبة إلى أصل الطهارة في المائع الذي لاقاه الثوب - ولنسمّه المائع الأوّل - فأصالة الطهارة في المائع الأوّل تعارض أصالة

ص: 346

الطهارة في المائع الآخر ، ولا تدخل أصالة الطهارة للثوب في هذا التعارض لطوليّتها ، وبعد ذلك تصل النوبة إليها بدون معارض وفقا لما تقدّم في الحالة الأولى من حالات الاستثناء من تعارض الأصول وتساقطها.

التقريب الثاني : أن يقال : إنّ الركن الثالث منهدم على أساس أنّه يوجد لدينا علم إجمالي له طرفان : أحدهما يجري فيه أصل ترخيصي واحد ، والآخر يجري فيه أصلان ترخيصيان طوليّان ، أي أحدهما مقدّم على الآخر ، إمّا لنكتة الحكومة وإمّا لنكتة عرفيّة كما سيأتي التعرّض له في بحث التعارض ، فيدخل المقام في الحالة الأولى من الحالات الثلاث المتقدّمة في جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي الدائر بين الإناءين يوجب التعارض والتساقط بالنسبة للأصول الترخيصيّة الجارية في الإناءين وهي أصالة الطهارة ، وأمّا الثوب الملاقي لأحدهما المعيّن فالأصول الترخيصيّة فيه لا تدخل في المعارضة ولا تسقط ، فيؤخذ بها إذ لا معارض لها ؛ لأنّها في طول الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المعيّن الذي لاقاه الثوب ، وما يكون في طول غيره لا يكون معه في رتبته ، بل يكون متأخّرا عنه في الوجود ، بمعنى أنّ عدمه يكون قيدا أو شرطا لثبوته.

فالإناء الأوّل الملاقي مع الثوب تجري فيه أصالة الطهارة وهي مقدّمة على أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها بالنسبة إلى الثوب من قبيل الأصل السببي والمسبّبي.

فإنّنا لو أجرينا أصالة الطهارة في الإناء لكانت طهارة الثوب محرزة تعبّدا ، ولا تحتاج إلى إجراء أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّ التعبّد بطهارة الماء معناه التعبّد بطهارة المغسول به أيضا. نعم ، إذا لم تجر أصالة الطهارة في الإناء كانت أصالة الطهارة في الثوب جارية.

وبهذا تكون أصالة الطهارة في الثوب في طول أصالة الطهارة في الإناء الملاقي للثوب وفرع عدم وجودها ، ولذلك تكون أصالة الطهارة في الإناء الآخر معارضة لأصالة الطهارة في الإناء الأوّل فقط ، ولا تدخل في المعارضة أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها فرع عدم وجود أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وعدم وجوده فرع سقوطه بالمعارضة ، فلا تدخل في المعارضة لذلك ، وبعد المعارضة وسقوط الأصول الترخيصيّة في الإناءين تجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض.

ص: 347

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي الثاني ليس منجّزا لنجاسة الثوب.

وهذا التقريب إذا تمّ يجري سواء اقترن العلم بالملاقاة مع العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخّر عنه ، فالتقريب الثاني إذن أوسع جريانا من التقريب الأوّل.

وهذا التقريب يتمّ سواء كان العلم بالملاقاة أو كانت الملاقاة نفسها متقدّمة أم متأخّرة عن العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين ؛ وذلك لأنّ فرض الطوليّة وتوقّف أحد الأصلين على عدم جريان الآخر تتصوّر في كلّ التقادير المفترضة للمسألة. فما دام الأصل الجاري في الثوب لا يدخل في المعارضة ؛ لأنّه في طول الأصل الجاري في الإناء الملاقي معه ، فلا فرق في ذلك بين كون الملاقاة حاصلة قبل العلم أو بعده أو معه ؛ إذ لا يؤثّر هذا شيئا في الطوليّة وعدمها.

وقد يقال : إنّ هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الأوّل ، ثمّ علم بأنّ الثوب كان قد لاقى المائع الأوّل ، ففي هذه الحالة لا يجري التقريب الأوّل ؛ لأنّ العلم الإجمالي المتقدّم ليس منجّزا لاختلال الركن الثالث فيه كما تقدّم ، فلا يمكن أن يحول دون تنجيز العلم الإجمالي المتأخّر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر الموجود فعلا.

ولا يجري التقريب الثاني ؛ لأنّ الأصل المؤمّن في المائع الأوّل لا معنى له بعد تلفه ، وهذا يعني أنّ الأصل في المائع الآخر له معارض واحد وهو الأصل المؤمّن في الثوب ، فيسقطان بالتعارض.

ثمّ إنّهم ذكروا بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، فيكون الملاقي لأحد الطرفين منجّزا.

منها : ما إذا كان لدينا إناءان وكان الثوب قد لاقى أحدهما المعيّن في الواقع ، ثمّ تلف هذا الإناء الذي لاقى مع الثوب ، وبعد ذلك علمنا إجمالا بنجاسة أحد المائعين هذا الإناء أو الإناء التالف فعلا الملاقي مع الثوب ، وعلمنا أيضا بالملاقاة ، ففي هذه الحالة لا يتمّ كلا التقريبين المتقدّمين :

أمّا التقريب الأوّل : فكان تطبيق فرضيّة العلمين الإجماليّين المشتركين في طرف واحد ، والتي كانت تقتضي بطلان منجّزيّة العلم المتأخّر استنادا إلى كون الطرف

ص: 348

المشترك متنجّزا بالعلم المتقدّم ، فهذا غير تامّ في المقام ؛ لأنّ العلم المتقدّم ليس منجّزا لطرفيه ؛ وذلك بسبب اختلال الركن الثالث.

أي أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا ينجّزهما ؛ وذلك بسبب تلف أحدهما قبل حدوث هذا العلم.

وقد تقدّم سابقا أنّ التلف كالاضطرار إذا حصل قبل العلم الإجمالي فهو يوجب سقوطه عن المنجّزيّة ؛ لاختلال الركن الثالث ، فإنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء التالف ؛ إذ لا موضوع لجريانها فيه ؛ ولأنّه لا أثر فعلا لجريانها فيه ، ولذلك يكون العلم الإجمالي المتأخّر الدائر بين نجاسة الإناء الموجود وبين الثوب الملاقي مع الإناء التالف منجّزا لكلا طرفيه ، ولا مانع من هذه المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في كلا الطرفين ويؤدّي جريانها كذلك إلى التعارض فتتساقط.

وأمّا التقريب الثاني : فكان تطبيق الطوليّة بين الأصلين الجاريين في الإناء والثوب ، وهذا لا يتمّ هنا ؛ لأنّ المفروض أنّ الإناء التالف لا تجري الأصول الترخيصيّة فيه ؛ إذ لا موضوع ولا أثر لجريانها ، وهذا يعني أنّها ساقطة فتجري الأصول الترخيصيّة في الثوب ، وتكون معارضة للأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء الموجود ، ومقتضى التعارض التساقط.

وبكلمة ثانية : إنّ الطوليّة تقتضي عدم جريان المتأخّر مع جريان المتقدّم ، وهنا الأصل المتقدّم ساقط ؛ لأنّه لا موضوع ولا أثر له ، ومع سقوطه لن يكون هناك محذور في جريان الأصل المتأخّر ، ومع جريانه يتعارض مع الأصل في الإناء الآخر فيتساقطان.

ولكنّ الصحيح : أنّ التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضا ؛ لأنّ تلف المائع الأوّل لا يمنع عن استحقاقه لجريان أصل الطهارة فيه ما دام لطهارته أثر فعلا ، وهو طهارة الثوب ، فأصل الطهارة في المائع الأوّل ثابت في نفسه ويتولّى المعارضة مع الأصل في المائع الآخر في المرتبة السابقة ، ويجري الأصل في الثوب بعد ذلك بلا معارض.

والصحيح في هذه الحالة أن يقال : إنّ التقريب الثاني وهو الطوليّة بين الأصلين يجري.

ص: 349

وتوضيحه : أنّ الإناء الأوّل الملاقي للثوب والذي تلف سابقا تجري فيه أصالة الطهارة ؛ لأنّه يوجد لجريانها فيه أثر عملي فعلي حتّى مع تلفه ، وإنّما يمنع من جريانها فيه فيما إذا لم يكن لجريانها فائدة ولا أثر لا مطلقا.

وهنا نقول : لو جرت أصالة الطهارة في الإناء الأوّل الملاقي مع الثوب فسوف نحصل على طهارة تعبّديّة للمغسول بالمائع الموجود في هذا الإناء ، ومع هذه الطهارة سوف لا نحتاج إلى إجراء أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ، فهناك فائدة إذن وهي الحكم بطهارة المغسول أو الملاقي مع هذا الإناء.

وحينئذ فيكون الأصل الترخيصي في الإناء التالف موجودا ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصل الترخيصي في الثوب ؛ لأنّه في طول الأوّل ومتأخّر عنه وفرع عدم وجوده ، وهذا يعني أنّه لا يوجد لدينا إلا أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وهذه معارضة بأصالة الطهارة في الإناء الآخر فيتساقطان ، وبعد سقوطهما تجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض لتماميّة موضوعها فعلا ، ولعدم المعارض إذ المعارض ساقط في الرتبة السابقة.

7 - الشبهة غير المحصورة :

إذا كثرت أطراف العلم الإجمالي بدرجة كبيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

والمشهور بين الأصوليّين سقوطه عن المنجّزية لوجوب الموافقة القطعيّة ، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعيّة.

الحالة السابعة : الشبهة غير المحصورة.

وذلك يكون فيما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة جدّا كالعلم مثلا بنجاسة إناء من ألف إناء.

فهنا ذهب مشهور الأصوليّين إلى سقوط العلم الإجمالي عن وجوب الموافقة القطعيّة.

وأمّا حرمة المخالفة القطعيّة ، فهناك قولان :

أحدهما : سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، فيجوز ارتكاب تمام أطراف العلم الإجمالي.

والآخر : عدم سقوطه عن ذلك فيحرم ارتكاب الجميع.

ص: 350

أمّا عدم وجوب الموافقة القطعيّة فللإجماع على ذلك ، ولعدم اعتناء العقلاء بمثل هذا الاحتمال ؛ لضعفه بسبب كثرة الأطراف.

ولكن يجب الالتفات هنا إلى أمر وهو :

ويجب أن نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثير في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، دون أن ندخل في الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من أمور أخرى ، كخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

وهنا نكتة وهي أنّنا نتحدّث عن الشبهة غير المحصورة بنفسها ، أي بما تحتمل من الكثرة العدديّة فقط ، فنقول : إنّ هذه الكثرة العدديّة هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أو لا؟ بقطع النظر عن وجود قرائن خارجيّة وأمور أخرى قد توجد مع الكثرة العدديّة من خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ؛ بأن كان بعض هذه الأطراف في بلد آخر أو تحت يد السلطان ، ومن الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، ومن العسر والحرج من ترك الجميع ونحو ذلك.

فمحلّ الكلام إذا هو الكثرة العدديّة فقط ، وهل تكون مؤثّرة في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أو لا؟

وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرّب عدم وجوب الموافقة القطعيّة وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين :

وهنا يوجد تقريبان لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بلحاظ الموافقة القطعيّة ، ويكفي أن نستدلّ على عدم حرمة المخالفة في بعض الأطراف فإنّ لازمها عدم وجوب الموافقة أيضا ، ولذلك نقول :

التقريب الأوّل : أنّ هذا الاقتحام مستند إلى المؤمّن وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف المقتحم ، إذ كلّما زادت أطراف العلم الإجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق على كلّ طرف ، حتّى تصل إلى درجة يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.

التقريب الأوّل : دعوى وجود مؤمّن بلحاظ كلّ طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة ، وهذا المؤمّن هو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف يراد ارتكابه ، ومنشأ هذا الاطمئنان هو حساب الاحتمالات.

ص: 351

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا بنجاسة إناء من ضمن آلاف الأواني كعشرة آلاف مثلا ، فهنا رقم اليقين يرمز إليه بواحد ، وهذا الرقم ينقسم بالتساوي على كلّ الأطراف ، فكلّ طرف قيمته الاحتماليّة تساوي 1 / 10000 من حيث انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وفي المقابل يكون هناك 9999 / 10000 من حيث عدم الانطباق ، وهذا الرقم يوجب الاطمئنان العرفي في كونه طاهرا.

وهذا الاطمئنان العرفي حجّة ؛ لأنّ العقلاء قد انعقدت سيرتهم على العمل بالاطمئنان ، والشارع قد أمضى هذه السيرة العقلائيّة بسكوته وعدم الردع عنها ، فيكون الاطمئنان العقلائي العرفي حجّة شرعا يجوز التعويل عليه.

وإذا فرضنا الأطراف بنحو من الكثرة تبلغ مئات الآلاف ، كانت القيمة الاحتماليّة للانطباق على كلّ طرف ضئيلة جدّا ممّا يقطع بخلافها ، أو على الأقلّ يوجد هناك اطمئنان فعلي بعدم الانطباق ، وهكذا الحال في كلّ طرف طرف ، فتكون النتيجة جواز ارتكاب جميع الأطراف ؛ لأنّه يطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف طرف يلحظ وحده دون أن يكون منضمّا إلى غيره ، وبالتالي سوف يخالف المعلوم بالإجمال قطعا فيما لو ارتكب جميع الأطراف ، إلا أنّ هذه المخالفة جائزة شرعا بسبب الاطمئنان الموجود فعلا بلحاظ كلّ طرف طرف.

والحاصل : أنّه يطمأنّ بعدم التكليف في كلّ طرف طرف بناء على حساب الاحتمالات ، وهذا لازمه أنّه لا عقاب بلحاظ كلّ طرف طرف ، فمخالفة المعلوم بالإجمال لا عقاب عليها ؛ لأنّه لا تكليف بلحاظ الأطراف نفسها.

وقد استشكل المحقّق العراقي (1) وغيره باستشكالين على هذا التقريب :

أحدهما : محاولة البرهنة على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو ؛ لأنّ الأطراف كلّها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلّية بهذا النحو في كلّ الأطراف لكان مناقضا للعلم الإجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها ؛ لأنّ السالبة الكلّيّة التي تتحصّل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئيّة التي يكشفها العلم الإجمالي.

ذكر المحقّق العراقي وغيره إشكالين على هذا التقريب هما :

ص: 352


1- مقالات الأصول 2 : 242.

الإشكال الأوّل : بالمنع عن وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف عن أطراف الشبهة غير المحصورة.

وبيانه : أنّ كل طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة يوجد فيه هذا الاطمئنان الفعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه ؛ إذ وجوده في بعض الأطراف فقط ترجيح بلا مرجّح ، وعدم وجوده في شيء منها يعني زوال هذا الاطمئنان ، ولازمه منجّزيّة العلم الإجمالي لكلّ الأطراف ، وهو خلف المفروض ، ولذلك سوف يجري هذا الاطمئنان بكلّ الأطراف ، ونتيجة ذلك عدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ هذه الأطراف ؛ لأنّ ضمّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف إلى سائر الأطراف ينتج الاطمئنان الفعلي بعدم ثبوت المعلوم بالإجمال في شيء من هذه الأطراف بنحو السالبة الكلّيّة ، ومن المعلوم أنّ السالبة الكلّيّة نقيضها الموجبة الجزئيّة ولا يمكن اجتماعهما.

وفي مقامنا حيث ثبت من مجموع الاطمئنانات الفعليّة قضيّة سالبة كلّيّة مفادها :

أنّه لا شيء من هذه الأطراف بنجس ، فسوف يحصل التناقض مع الموجبة الجزئيّة التي مفادها : وجود طرف نجس من بين هذه الأطراف.

وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن إحدى هاتين القضيّتين ، ولمّا كانت الموجبة الجزئيّة معلومة يقينا ، فنرفع اليد عن السالبة الكلّيّة ، فيتحصّل عدم ثبوت الاطمئنانات الفعليّة في كلّ الأطراف ، وثبوت الاطمئنان في بعضها فقط ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطه عنها جميعا.

والجواب على ذلك : أنّ الاطمئنانات المذكورة إذا أدّت بمجموعها إلى الاطمئنان الفعلي بالسالبة الكلّيّة فالمناقضة واضحة ، ولكنّ الصحيح أنّها لا تؤدّي إلى ذلك ، فلا مناقضة.

والجواب عن هذا الإشكال أن نقول : إنّ هذا الإشكال يتمّ فيما لو كان مجموع الاطمئنانات الفعليّة يؤدّي في نهاية الأمر إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة ، وأنّه لا شيء من الإناءات بنجس ، وأمّا لو فرض أنّ هذه الاطمئنانات بمجموعها لا تؤدّي إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة فلا تناقض حينئذ.

وبتعبير آخر : إنّه يوجد نحوان :

ص: 353

الأوّل : أن يكون الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف وذاك وهكذا سائر الأطراف مؤدّيا إلى الاطمئنان بعدم الانطباق مطلقا ، وأنّه لا شيء من الأواني بنجس.

الثاني : ألاّ يكون الاطمئنان المذكور بمجموعه يؤدّي إلى الاطمئنانات بنحو السالبة الكلّيّة.

وعليه ، فإشكال المحقّق العراقي إنّما يتمّ في النحو الأوّل لا الثاني ، ومقامنا من النحو الثاني لا الأوّل.

إذا فلا تناقض ؛ لأنّنا نفرض الاطمئنان الفعلي بنحو ينسجم مع العلم الإجمالي بوجود نجس في الأطراف كما سيأتي توضيحه.

وقد تقول : كيف لا تؤدّي إلى ذلك؟ أليس الاطمئنان ب- ( ألف ) والاطمئنان ب- ( باء ) يؤدّيان حتما إلى الاطمئنان بمجموع ( الألف والباء )؟ وكقاعدة عامّة أنّ كلّ مجموعة من الإحرازات تؤدّي إلى إحراز مجموعة المتعلّقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الإحراز.

وقد يعترض على ما ذكرناه من وجود نحوين أحدهما يؤدّي إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة ، والآخر لا يؤدّي إلى ذلك ، بأنّه لا يوجد إلا نحو واحد فقط ، وهو أنّ الاطمئنان بعدم وجود النجس في هذا الطرف زائد الاطمئنان بعدم وجود النجس في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف يؤدّي حتما إلى الاطمئنان بعدم وجود النجس في كلّ الأطراف ، أي إلى السالبة الكليّة فتحصل المناقضة حينئذ.

وبشكل عامّ فإنّ كلّ الإحرازات أي الاطمئنانات إذا ضمّت إلى بعضها البعض سوف نحصل على إحراز نهائي مستفاد من مجموع هذه الإحرازات والاطمئنانات ، ومفاده أنّ النتيجة النهائيّة هي حاصل مجموع المقدّمات ، أي يكون الحاصل النهائي نفس مجموع المقدّمات التي أدّت إليه.

فمثلا إنّ 1+ 1 = 2 أي الحاصل عبارة عن مجموع الشيئين المنضمّين.

وهنا الاطمئنان في هذا الطرف وفي ذاك وهكذا في سائر الأطراف ينتج أنّه كلّ الأطراف يطمأنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، فتحصل المناقضة بين هذه

ص: 354

السالبة الكلّيّة وبين الموجبة الجزئيّة المعلومة وجدانا بالعلم الإجمالي وهي نجاسة أحد الأطراف.

ونجيب على ذلك :

أوّلا : بالنقض ، وتوضيحه : أنّ من الواضح وجود احتمالات لعدم انطباق المعلوم الإجمالي بعدد أطراف العلم الإجمالي ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعليّة بالوجدان ، ولكنّها مع هذا لا تؤدّي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فإذا صحّ أنّ ( ألف ) محتمل فعلا و ( باء ) محتمل فعلا ، ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع ( ألف ) و ( باء ) ، فيصحّ أن يكون كلّ منهما مطمئنّا به ولا يكون المجموع مطمئنّا به.

الجواب الأوّل : نقضي ، ومفاده أنّنا إذا قلنا بعدم وجود اطمئنان فعلي ، كما هو مقتضى الاستشكال الأوّل على أساس أنّ ضمّ الاطمئنان في كلّ طرف إلى الاطمئنان في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف ، سوف ينتج لنا الاطمئنان فعلا بالمجموع ، وأنّه لا شيء من الأطراف ينطبق عليه المعلوم بالإجمال ، وهذا مناقض للعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما.

فهذا الكلام يجري أيضا في الشكّ والاحتمال والذي هو مجرى للأصل المؤمّن على أساس أنّ كلّ طرف يحتمل ألاّ يكون هو المعلوم بالإجمال ، فهو مشكوك النجاسة فنجري فيه البراءة ونحوه من الأصول الترخيصيّة.

فإذا ضمّ هذا الاحتمال والشكّ إلى الاحتمال والشكّ في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف ، سوف ينتج لنا أنّ مجموع هذه الأطراف مشكوكة ، ومن المحتمل عدم انطباق التكليف عليها فنجري البراءة عن الجميع ، وهذا مناقض للعلم الإجمالي.

مع أنّهم يقبلون جريان الأصل المؤمّن بلحاظ كلّ طرف طرف للاحتمال والشكّ الموجودين فعلا بالوجدان ، ولكنّهم مع ذلك لا يقولون بأنّ مجموع الأطراف مشكوك ومحتمل عدم الانطباق ، ولذلك لا يجرون البراءة ونحوها في المجموع من حيث هو مجموع.

وهذا التفصيل بين كلّ طرف طرف وبين المجموع مرجعه بالدقّة إلى أنّ الاحتمال

ص: 355

الفعلي الموجود في هذا الطرف إذا ضمّ إلى الاحتمال الفعلي في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف لا ينتج لنا الاحتمال الفعلي في المجموع.

ولذلك نقول : إنّ هذا التفصيل إذا تمّ وصحّ هنا فيتمّ ويصحّ أيضا في مقامنا ، بحيث يكون كلّ طرف بنفسه يطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه إلا أنّ المجموع لا يطمأن فيه كذلك ، وإذا لم يتمّ التفصيل في مقامنا فلا يتمّ هناك أيضا ، مع أنّهم يقبلونه هناك ، والحال أنّه لا فرق بين المقامين من حيث كون كلّ واحد منهما إحرازا لوجود متعلّقه ، غاية الأمر الفرق بينهما في درجة هذا الإحراز فقط ، وهذا غير مانع.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّ القاعدة المذكورة إنّما تصدق فيما إذا كان كلّ من الإحرازين يستبطن - إضافة إلى إحراز وجود متعلّقه فعلا - إحراز وجوده على تقدير وجود متعلّق الإحراز الآخر على نهج القضيّة الشرطيّة ، فمن يطمئنّ بأنّ ( ألف ) موجود حتّى على تقدير وجود ( باء ) أيضا ، وأنّ ( باء ) موجود أيضا حتّى على تقدير وجود ( ألف ) ، فهو مطمئنّ حتما بوجود المجموع.

الجواب الثاني : حلّي ، ومفاده أنّه يوجد لدينا نحوان من الإحراز :

الأوّل : الإحراز الذي يستبطن وجود متعلّقه على جميع التقادير.

والثاني : الإحراز الذي لا يستبطن ذلك ، وإنّما يحرز متعلّقه فعلا على بعض التقادير لا مطلقا.

أمّا الإحراز الأوّل فالمقصود به أن يحرز وجود المتعلّق على نهج القضيّة الشرطيّة ، بمعنى أنّه متى ما تحقّق الإحراز فيتحقّق وجود المتعلّق فعلا على جميع التقادير ، فمثلا إذا أحرز وجود زيد في المسجد وكان إحراز وجوده مستبطنا لوجوده فعلا في المسجد على جميع التقادير سواء كان هناك فرد آخر معه أم لا ، فمثل هذه الإحراز يسمّى بالإحراز المطلق.

وأمّا الإحراز الثاني فالمقصود به أن يحرز وجود المتعلّق على بعض التقادير ، بمعنى أنّه إذا تحقّق أحد التقادير فيكون وجود المتعلّق محرزا ، وأمّا إذا لم يتحقّق فلا يكون وجوده محرزا ، فمثلا إذا أحرز وجود زيد في المسجد على تقدير عدم دخول عمرو إليه للعلم بدخول أحدهما فقط لم يكن وجود زيد في المسجد محرزا حتّى على تقدير دخول عمرو إليه ، ومثل هذا الإحراز يسمّى بالإحراز المشروط.

ص: 356

وعليه ، فنقول : إنّ قاعدة ضمّ إحراز إلى إحراز آخر يساوي إحراز المجموع ، إنّما تصدق فيما إذا كان الإحراز مطلقا لا مشروطا.

وتوضيحه : أنّنا إذا أحرزنا وجود زيد في المسجد مطلقا وأحرزنا وجود عمرو في المسجد مطلقا أيضا وهكذا سوف نحصل على إحراز بوجود مجموع هذه الأفراد في المسجد ؛ لأنّ كلّ إحراز فيها كان مطلقا ، بمعنى أنّه يثبت وجود متعلّقه على جميع التقادير سواء وجد مع غيره أم لا ، فتكون النتيجة المذكورة واضحة وصحيحة ؛ لأنّ كلّ إحراز كان مستقلاّ عن الإحراز الآخر وغير مرتبط به وجودا أو عدما ، نظير العلم بوجود ألف درهم مع زيد ، والعلم بوجود ألف درهم مع عمرو وهكذا ، فإنّ النتيجة تكون العلم بوجود آلاف الدراهم مع المجموع.

وأمّا إذا أحرزنا وجود زيد في المسجد على تقدير عدم وجود عمرو فيه أو العكس وهكذا في سائر الأطراف ، فهنا سوف لن نحصل على إحراز بوجود المجموع ؛ لأنّ الإحراز في كلّ فرد لم يكن مطلقا ، بل كان مشروطا ومقيّدا بعدم الآخر ، فإحراز المجموع معا يعني عدم تحقّق الشرط في شيء من الأفراد ، فمثلا إذا علمنا إجمالا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا إحراز كون الداخل إلى المسجد هو زيد مشروطا بأن لا يكون الداخل عمرو وهكذا العكس.

ولذلك فيكون إحراز وجود زيد وإحراز وجود عمرو كلّ منهما مشروطا بعدم الآخر ، فهو ثابت على بعض التقادير لا مطلقا ، وليس أحدهما ثابتا بنحو الاستقلال وبقطع النظر عن الآخر ، بل يرتبط صدق كلّ واحد منهما بعدم الآخر. وعليه ، فلا يمكننا إحراز دخول زيد وعمرو إلى المسجد معا بنفس الإحراز الموجود في كلّ منهما أو أزيد منه ، بل إمّا أن يكون إحراز المجموع مساويا لإحراز أحدهما فقط أو أقلّ منه ، ولا يمكن أن يكون إحراز المجموع مساويا لمجموع الإحرازين.

ولتوضيحه أكثر نقول : إنّنا إذا علمنا بدخول أحد الفردين زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا رقم اليقين عبارة عن واحد وهذا يوزّع بالتساوي على الاحتمالات الموجودة ، وهي أربعة :

إمّا أن يكون الداخل إلى المسجد زيد فهذا قيمته الاحتمالية أو الإحرازيّة عبارة عن 1 / 4.

ص: 357

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد عمرو ، وهذا قيمته الإحرازيّة 1 / 4 أيضا.

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد كلاهما ، وهذا قيمته الإحرازيّة 1 / 4 أيضا.

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد لا زيد لا عمرو ، وهذا قيمته الإحرازيّة 1 / 4 أيضا.

إلا أنّ الاحتمال الأخير ساقط للعلم إجمالا بدخول أحدهما ، فهذه القيمة الإحرازيّة أي ( 1 / 4 ) سوف توزّع بالتساوي على الاحتمالات الثلاثة الأولى فتكون القيمة في كلّ منها ( 1 / 3 ).

وهنا القيمة الإحرازيّة لدخول زيد هي ( 1 / 3 ) إذا ضمّت إليها القيمة الإحرازيّة لدخول عمرو وهي ( 1 / 3 ) لا ينتج لنا أنّ القيمة الاحتماليّة لدخولهما إلى المسجد هي ( 2 / 3 ) بل هي ( 1 / 3 ) أيضا.

والوجه في ذلك أنّ القيمة الإحرازيّة في كلّ من الفردين لم تكن ثابتة مطلقا وعلى جميع التقادير ، بل على تقدير عدم دخول الآخر.

إذا اتّضح ذلك نقول في مقامنا :

وفي المقام : الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أيّ طرف وإن كان موجودا فعلا ، ولكنّه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتّى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر.

والسبب في ذلك : أنّ هذا الاطمئنان إنّما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف ، فتلك الاحتمالات إذن هي الأساس في تكوّن الاطمئنان ، فلا مبرّر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ؛ لأنّ هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في تكوّن الاطمئنان بعدم الانطباق.

توضيح الجواب الحلّي : أنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ليس من الاطمئنان المطلق ، بل من الاطمئنان المشروط ؛ وذلك لأنّنا إنّما نطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال في الأطراف الأخرى كمجموع ، إذ لو كنّا نطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال

ص: 358

على سائر الأطراف لم يحصل لنا اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف.

فالاطمئنان الفعلي في هذا الطرف مشروط بأن لا يطمأنّ فعلا بعدم الانطباق في مجموع الأطراف الأخرى. وليس هذا الاطمئنان الفعلي مطلقا سواء حصل اطمئنان بعدم الانطباق في سائر الأطراف أم لم يحصل.

والوجه في كون الاطمئنان هنا مشروطا لا مطلقا هو : أنّ هذا الاطمئنان منشؤه وسببه هو حساب الاحتمالات ؛ لأنّنا لو فرضنا وجود مئات الآلاف من الأطراف فسوف تكون النسبة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف بالذات نسبة ضئيلة جدّا لا يعتنى بها عرفا ، بل تزول بنظر العرف وإن كانت لا تزال موجودة بالدقّة ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى سوف نحصل على شبه إجماع أو إجماع على نفي احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ؛ لأنّ القيمة الاحتماليّة لوجوده فيه ضئيلة بينما القيمة الاحتماليّة لعدم وجوده فيه ، وبالتالي لوجوده في سائر الأطراف قيمة عالية جدا قريبة من القطع.

والحاصل : أنّ القيم الاحتماليّة ضآلة أو كثرة هي الملاك ؛ لكون المعلوم بالإجمال منطبقا على سائر الأطراف كمجموع ، وغير منطبق على كلّ طرف بلحاظ ذاته.

وعلى هذا نقول : إنّنا إذا أخذنا كلّ طرف لوحده فيحصل لنا اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، إلا أنّ هذا الاطمئنان ليس ثابتا مطلقا ، بل بتقدير انطباق المعلوم بالإجمال على سائر الأطراف.

ولو فرض أنّ هذا الاطمئنان ثابت فعلا ومطلق على جميع التقادير سواء كان المعلوم بالإجمال منطبقا على سائر الأطراف أم لا لكانت النتيجة كما ذكر في الإشكال ، إلا أنّ هذا يفترض أنّ الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق في هذا الطرف ليس منشؤه بحساب الاحتمالات وإجماع القيم الاحتماليّة في سائر الأطراف على نفي الانطباق على هذا الطرف ، وهو خلف المفروض.

وبتعبير آخر : لو كان عدم الانطباق في هذا الطرف يجتمع مع عدم الانطباق في كلّ طرف من الأطراف الأخرى لكان معناه أنّنا نعلم بأنّ بعض هذه الأطراف كاذبة

ص: 359

وغير صحيحة ؛ لأنّه يوجد فيها طرف ينطبق عليه المعلوم بالإجمال وحيث نعلم ببطلان أحدها ، وحيث إنّه غير مشخّص بحيث يحتمل كلّ طرف أن يكون هو الكاذب ، فهذا يعني أنّ القيم الاحتماليّة في كلّ الأطراف والتي هي الأساس والملاك لحصول الاطمئنان الفعلي يعلم ببطلان بعضها ، وهذا الاحتمال يصلح للانطباق على كلّ فرد منها فيحصل التعارض بين احتمال كذبه وخطأه وبين احتمال عدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن أن يجتمع الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف بعدم الانطباق عليه مع الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق بلحاظ كلّ طرف طرف من مجموع الأطراف ، فلا يكون ثابتا على جميع التقادير ، بل على تقدير كون المعلوم بالإجمال موجودا في مجموع الأطراف الأخرى ، وهذا يعني الاطمئنان المشروط والذي لا ينتج الاطمئنان الفعلي بالمجموع كما تقدّم.

وأمّا الاستشكال الآخر :

فيتّجه - بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور - إلى أنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لمّا كان موجودا في كلّ طرف فالاطمئنانات معارضة في الحجّيّة والمعذّريّة للعلم الإجمالي بأنّ بعضها كاذب ، والتعارض يؤدّي إلى سقوط الحجّيّة عن جميع الاطمئنانات.

الإشكال الثاني : أنّنا لو سلّمنا وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف طرف ، وأنّ هذا لا يوجب الاطمئنان الفعلي بالمجموع ؛ لأنّ كلّ اطمئنان مشروط وليس مطلقا كما تقدّم تفصيله ، إلا أنّنا نقول : إنّ مثل هذا الاطمئنان ليس حجّة فلا يكون معذّرا في مقامنا ولا يكون مجوّزا للاقتحام والمخالفة ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بانطباق المعلوم بالإجمال على أحد هذه الأطراف.

وحيث إنّ الاطمئنان بعدم الانطباق يجري فعلا في كلّ طرف ، فهذا يعني أنّ بعض هذه الاطمئنانات غير صحيح ، وهذا البعض يحتمل انطباقه على كلّ طرف طرف ؛ إذ لا ترجيح لأحدها على الآخر ولا يمكن إلغاؤه أبدا للعلم به. فيتعيّن سقوط الاطمئنانات الفعليّة جميعا عن الحجّيّة والمعذّريّة بسبب هذا العلم الإجمالي ، إذ تطبيق المعلوم بالإجمال على هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجّح ، وعدم تطبيقه على

ص: 360

شيء من الأطراف مخالف للعلم الإجمالي بوجود النجس فيها ، فيتعيّن إسقاطها جميعا.

والحاصل : أنّ هذه الاطمئنانات لو سلّمنا وجودها الفعلي إلا أنّها ساقطة عن الحجّيّة ؛ للتعارض فيما بينها الحاصل من العلم الإجمالي المذكور ، ولا يمكن الجمع بين حجّيّة الاطمئنانات جميعا وبين العلم الإجمالي ؛ لأنّه من باب اجتماع السالبة الكلّيّة والموجبة الجزئيّة ، وهما نقيضان فاجتماعهما مستحيل.

والجواب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي بكذب بعض الأمارات إنّما يؤدّي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجّيّة لأحد سببين :

الأوّل : أن يحصل بسبب ذلك تكاذب بين نفس الأمارات ، فيدلّ كلّ واحدة منها بالالتزام على وجود الكذب في الباقي ، ولا يمكن التعبّد بحجّيّة المتكاذبين.

الثاني : أن تؤدّي حجّيّة تلك الأمارات - والحالة هذه - إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال.

والجواب : أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءات وبالتالي العلم بكذب إحدى الأمارات والإحرازات ، إنّما يؤدّي إلى حصول التكاذب والتعارض والتساقط بين هذه الإحرازات والأمارات فيما إذا تحقّق أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون هناك تناف وتكاذب بين نفس الإحرازين والأمارتين ، بأن كان كلّ واحد منهما يدلّ بالمطابقة على مؤدّاه وبالالتزام على نفي مؤدّى الآخر ، فإنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا ترجيح أحدهما على الآخر فيتعيّن سقوطهما.

كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فهنا الدليل الدالّ على وجوب الظهر يدلّ بالمطابقة على وجوبها وبالالتزام على عدم وجوب الجمعة ، وكذا الكلام في الجمعة ، فهنا لا يمكننا الأخذ بكلا الدليلين ؛ لأنّ أحدهما يكذّب الآخر ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ؛ لأنّه بلا مرجّح فيتعارضان ويتساقطان.

الثاني : أن يكون التعبّد بحجّيّة هذه الأمارات أو الإحرازات مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنّ مثل هذا اللازم لا يمكن الالتزام به للتنافي بين الترخيص القطعي في المخالفة القطعيّة وبين المعلوم بالإجمال.

كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين وكان في كلّ منهما أصل أو أمارة يثبت

ص: 361

الطهارة ، فهنا الالتزام بكلتا الأمارتين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة المعلومة إجمالا ، والالتزام بأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطهما للتعارض بينهما.

وكلا السببين غير متوفّر في المقام.

وفي مقامنا حيث يجري في كلّ طرف اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال موجودا في سائر الأطراف الأخرى ، سوف لن يتحقّق شيء من هذين السببين ، وبيانه :

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة الالتزاميّة ، لأنّنا إذا أخذنا أي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل أن يكونا معا صادقين ، فلما ذا يتكاذبان؟

وإذا أخذنا مجموعة الاطمئنانات الأخرى لم نجد تكاذبا أيضا ؛ لأنّ هذه المجموعة لا تؤدّي إلى الاطمئنان بمجموع متعلّقاتها ، أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ؛ وذلك لما برهنا عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان الاطمئنان بالقضيّة الشرطيّة لا يؤدّي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع. والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل كما عرفت.

أمّا السبب الأوّل - وهو التكاذب بين الإحرازين في المدلول الالتزامي - فهذا غير موجود في مقامنا ؛ وذلك : لأنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف مدلوله المطابقي هذا المقدار ، وأمّا مدلوله الالتزامي فهو أحد أمرين :

الأوّل : أن يقال : إنّ المدلول الالتزامي للاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هو انطباقه على الطرف الآخر وهو الإناء الثاني الذي نضمّه إلى الإناء الأوّل ، فكلّ منهما يكذّب الآخر بمدلوله الالتزامي فلا يمكن اجتماعهما ولا يمكن ترجيح أحدهما فيحكم بتساقط الاطمئنانين معا.

وهذا غير تامّ ؛ لأنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في الإناء الأوّل يمكن اجتماعه مع الاطمئنان بعدم الانطباق في الإناء الثاني ؛ إذ المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد الإناءات قد يكون في الإناء الثالث أو غيره لا في خصوص الأوّلين ، ولذلك لا مانع من صدق الاطمئنانين الأوّل والثاني ، وعليه فلا تكاذب بينهما بمعنى أنّ أحدهما

ص: 362

يثبت النجاسة في الآخر بخصوصه ليحصل التنافي والتكاذب في المدلول الالتزامي فيهما.

الثاني : أن يقال إنّ المدلول الالتزامي للاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هو كون المعلوم بالإجمال في مجموع الأطراف الأخرى ككلّ لا خصوص كلّ طرف طرف منها ، بمعنى أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف لازمه وجود الانطباق في مجموع الأطراف ، وحيث إنّ مجموع الأطراف ينتج لنا الاطمئنان بعدم الانطباق فيها ؛ لأنّنا لو ضممنا الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف منه حصل لنا الاطمئنان الفعلي بالمجموع وهذا لازمه أنّ المعلوم بالإجمال موجود في الطرف الأوّل ، وعندئذ يحصل التكاذب بين هذا الطرف من جهة مدلوله الالتزامي وبين مجموع الأطراف من جهة مدلولها الالتزامي ، ولا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر ، فيحكم بتساقط الاطمئنانات في الجميع.

وهذا أيضا غير تامّ ؛ لأنّه مبني على أن يكون ضمّ الاطمئنان في كلّ طرف إلى الاطمئنان في الطرف منتجا للاطمئنان بالمجموع ، وهذا إنّما يكون فيما لو كان كلّ اطمئنان ثابتا ومحرزا لمتعلّقه بنحو القضيّة الشرطيّة ، أي يثبت ويحرز متعلّقه على جميع التقادير وعلى مختلف الاحتمالات والتقديرات.

إلا أنّ الصحيح كما تقدّم أنّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف ليس مطلقا ، بل هو مشروط ولذلك لا ينتج من ضمّ اطمئنان إلى آخر الاطمئنان في المجموع ، وعليه فمجموع الاطمئنانات في سائر الأطراف لا ينتج لنا الاطمئنان الفعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الجميع ، أي أنّه لا يوجد لها مدلول التزامي يكذّب المدلول الالتزامي في الطرف الأوّل ، ولذلك لا يحصل التكاذب والتنافي والتساقط.

والوجه في ذلك ما تقدّم البرهان عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان ولا يستبطنان الاطمئنانين بالقضيّة الشرطيّة ، أي الاطمئنان المطلق. وعلى جميع التقادير لا يكون اجتماعهما مؤدّيا إلى الاطمئنان الفعلي بالمجموع ، ومقامنا من هذا القبيل ، أي اطمئنان لا يستبطن القضيّة الشرطيّة ؛ لأنّه مبني على حساب الاحتمالات كما تقدّم ، وهو لا ينتج إلا الاطمئنان المشروط فقط لا المطلق.

وحينئذ يمكن اجتماع الاطمئنانين الفعلي بعدم الانطباق على هذا الطرف مع

ص: 363

مجموع الاطمئنانات الفعليّة في سائر الأطراف ؛ لأنّ مجموعها لن يؤدّي إلى الاطمئنانين بالمجموع ، فلن يحصل المدلول الالتزامي فيها وبالتالي لا تكاذب.

وبهذا ظهر أنّ سبب التكاذب الناشئ من المدلول الالتزامي للاحرازين أو للأمارتين غير موجود في مقامنا ، فلا تكاذب ولا تعارض من هذه الجهة.

وأما الثاني : فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة إنّما يلزم لو كان دليل حجّيّة هذه الاطمئنانات يقتضي الحجّيّة التعيينيّة لكلّ واحد منها ، غير أنّ الصحيح إنّ مفاده هو الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّ دليل الحجّيّة هنا هو السيرة العقلائيّة وهي منعقدة على الحجّيّة بهذا المقدار.

وأمّا السبب الثاني - وهو أن يكون التعبّد بحجّيّة الإحرازات مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة - فهذا غير موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ حجّيّة الإحراز في مقامنا - وهو الاطمئنان - إنّما هو السيرة العقلائيّة ، وهي تفيد حجّيّة الاطمئنان تخييرا لا تعيينا.

بمعنى أنّ العقلاء يرون أن تطبيق الاطمئنان بعدم الانطباق على هذا الطرف جائز وعلى ذاك جائز ، إلا أنّ

تطبيق الاطمئنان على المجموع غير جائز ، فيلزم أن تكون الاطمئنانات جميعا حجّة بنحو التخيير ، إذ لو كانت الحجّيّة تعيينيّة للزم أن يكون كلّ اطمئنان حجّة بنفسه ويؤخذ به.

وبالتالي تكون جميع الأطراف الاطمئنان فيها حجّة تعيينا ، فيقع التكاذب بين هذه الاطمئنانات للعلم بكذب بعضها ، وحيث إنّه غير معلوم فيكون كذب هذا البعض بخصوصه دون الآخر ترجيحا بلا مرجّح ، وعدم كذب شيء منها يؤدّي إلى التعارض بين حجّيّتها التعيينيّة وبين العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فيتعيّن رفع اليد عن بعضها غير المعيّن وهو معنى الحجّيّة التخييريّة ، أي يجوز له الأخذ بأي طرف شاء ولكن لا يجوز الأخذ بجميع الأطراف.

والوجه في هذا هو حساب الاحتمالات ؛ لأنّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف كان مستندا إلى حساب الاحتمالات كما تقدّم ، بناء على ضآلة القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال في هذا الطرف ، فلو كان لدينا مائة ألف إناء كانت القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال عليه 1 / 100000 وتزداد ضآلة كلّما ازدادت الأطراف كثرة.

ص: 364

وأمّا لو أردنا أن نأخذ القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال ضمن الإناءين معا ، فهنا سوف تزداد القيمة الاحتماليّة للانطباق من 1 / 100000 ، إلى 1 / 50000 ، فإذا كانت ثلاثة صارت 1 / 33333 ، فاذا كانت أربعة صارت 1 / 25000 ، فإذا كانت عشرة صارت 1 / 10000 وهكذا ، أي أنّنا كلّما ضممنا طرفا إلى طرف ازدادت القيمة الاحتماليّة بحيث تصبح معتدّا بها عقلائيّا.

وبهذا ظهر أنّ ضمّ طرف إلى طرف لا ينتج الاطمئنان بالمجموع ، وحينئذ لن يحصل التعارض بين الاطمئنان الفعلي في هذا الطرف مع مجموع الأطراف ؛ لأنّ المجموع لا يوجد اطمئنان فعلي بعدم الانطباق عليه.

التقريب الثاني : أنّ الركن الرابع من أركان التنجيز المتقدّمة مختلّ ؛ وذلك لأنّ جريان الأصول في كلّ أطراف العلم الإجمالي لا يؤدّي إلى فسح المجال للمخالفة القطعيّة عمليّا والإذن فيها ؛ لأنّنا نفترض كثرة الأطراف بدرجة لا تتيح للمكلّف اقتحامها جميعا ، وفي مثل ذلك تجري الأصول جميعا بدون معارضة.

التقريب الثاني لعدم وجوب الموافقة القطعيّة أن يقال : إنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي - وهو كون جريان الأصول الترخيصيّة في جميع الأطراف مؤدّيا إلى الترخيص القطعي في المخالفة العمليّة - غير تامّ ؛ وذلك لأنّنا نفترض أطراف الشبهة غير المحصورة كثيرة جدّا ، بحيث لا يتمكّن المكلّف بحسب العادة من ارتكابها جميعا ، كما لو علمنا إجمالا بنجاسة إناء من مليون إناء فإنّه لن يتمكّن بحسب العادة من ارتكاب الجميع ، وهذا يعني أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ طرف طرف لن يؤدّي فعلا إلى المخالفة القطعيّة عمليّا للمعلوم الإجمالي ؛ لأنّ المكلّف سوف يترك بعض الأطراف لا محالة ، وفي مثل هذه الحالة لا مانع من جريان الأصول ، وبالتالي لا منجّزيّة للعلم الإجمالي لكافّة أطرافه.

وهذا نظير العلم إجمالا إمّا بحرمة الشرب من هذا الإناء وإمّا بوجوب الشرب منه ، أي الدوران بين المحذورين كما سيأتي ، فإنّه لا محذور في جريان الأصول الترخيصيّة عن الوجوب والحرمة معا ؛ لأنّه لن يلزم من ذلك المخالفة العمليّة ؛ لأنّه في الواقع إمّا أن يشرب أو لا يشرب ، فهو يمتثل أحدهما ويخالف آخر ولا يمكنه مخالفتهما معا عمليّا.

ص: 365

والحاصل : أنّه مع اختلال الركن الرابع لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ، وفي الشبهة غير المحصورة حيث إنّ الأطراف بالغة من الكثرة حدّا لا يمكن للمكلّف اقتحامها جميعا عمليّا فلن يكون هناك محذور في جريان الأصول الترخيصيّة فيها جميعا ، فإذا جرت فعلا في الجميع كان العلم الإجمالي ساقطا عن المنجّزيّة.

وهذا التقريب متّجه على أساس الصيغة الأصليّة التي وضعناها للركن الرابع فيما تقدّم.

وأمّا على أساس صياغة السيّد الأستاذ له السالفة الذكر فلا يتمّ ؛ لأنّ المحذور في صياغته الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ، وهو حاصل من جريان الأصول في كلّ الأطراف ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة لعدم القدرة عليها.

ومن هنا يظهر أنّ الثمرة بين الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر في تقييم التقريب المذكور إثباتا ونفيا.

وهذا التقريب أي اختلال الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، بسبب جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف المؤدّي إلى فسح المجال للوقوع في المخالفة القطعيّة ، إنّما يتّجه ويكون صحيحا بناء على صياغة المشهور للركن الرابع من أركان المنجّزيّة ، حيث تقدّم أنّه توجد صياغتان لهذا الركن :

إحداهما عن المشهور ، ومفادها : أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مؤدّيا إلى المخالفة القطعيّة ، أو على الأقلّ يتيح للمكلّف ارتكاب الجميع على شرط أن يكون ارتكاب الجميع ممكنا وقوعه من المكلّف ، ولذلك فإذا كان عاجزا عن ارتكاب الجميع ، إمّا لعدم قدرته على ذلك بأن كانت الأطراف كثيرة جدّا ، أو خروج بعضها عن مورد الابتلاء ، أو تلف بعضها فلا محذور في جريان الأصول الترخيصيّة في جميع الأطراف ، فهذا الركن بهذه الصياغة ينهدم في موردنا ؛ لأنّ الشبهة غير المحصورة أطرافها كثيرة جدّا بحيث لا يتمكّن المكلّف من ارتكابها جميعا ، فتجري الأصول الترخيصيّة بلا محذور ؛ لأنّ جريانها لن يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة في الخارج.

وأمّا بناء على صياغة السيّد الخوئي لهذا الركن ، والتي كانت تتّجه إلى أنّ المحذور من جريان الأصول الترخيصيّة هو الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة سواء خالف عمليّا أم لا ، وسواء تمكّن من المخالفة أم كان عاجزا عنها.

ص: 366

فهنا وإن لم يكن المكلّف قادرا على ارتكاب جميع الأطراف لكثرتها ، إلا أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف يؤدّي إلى القطع بصدور الترخيص في أطراف الشبهة جميعا ، وهذا محال صدوره ؛ لأنّه لا يجتمع مع العلم الإجمالي بالتكليف ضمن هذه الأطراف ، فلا يمكن القطع بالترخيص ؛ لأنّه قطع باجتماع النقيضين ، والقطع باجتماع المتناقضين كاجتماعهما مستحيل ، والقطع بالمستحيل محال.

ومن هنا قد يقال : إنّ الثمرة العمليّة بين الصياغتين تظهر في هذا التقريب الثاني.

فعلى صياغة المشهور يكون هذا التقريب تامّا ؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة لانهدام ركنه الرابع.

وعلى صياغة السيّد الخوئي يكون هذا التقريب غير تامّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي باق على منجّزيّته ؛ إذ الركن الرابع غير منهدم هنا.

غير أنّ السيّد الأستاذ (1) حاول أن ينقض على من يستدلّ بهذا التقريب ، وحاصل النقض : أنّ الاحتياط إذا كان غير واجب في الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعيّة يلزم عدم وجوب الاحتياط في كلّ حالة تتعذّر فيها المخالفة القطعيّة ولو كان العلم الإجمالي ذا طرفين أو أطراف قليلة ، حيث تجري الأصول جميعا ولا يلزم منها الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة.

ومثاله : أن يعلم إجمالا بحرمة المكث في آن معيّن في أحد مكانين ، مع أنّ القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك في نظائر هذا المثال.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه اللّه قد نقض على هذا التقريب على فرض التسليم بصياغة المشهور.

وحاصل النقض : أنّنا لو سلّمنا بأنّ الركن الرابع هو أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مؤدّيا إلى إمكان المخالفة القطعيّة ووقوعها من المكلّف في الخارج ، فهذا الركن كما ينهدم في موارد الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلّف على ارتكاب جميع الأطراف ؛ لأنّها بالغة من الكثرة حدّا لا يمكن معه

ص: 367


1- مصباح الأصول 2 : 374.

ارتكابها جميعا ؛ لعدم القدرة أو لخروج بعضها عن محلّ الابتلاء فعلا ، فكذلك ينهدم في موارد الشبهة المحصورة الدائرة بين طرفين أو أطراف قليلة جدّا لو فرض عدم قدرة المكلّف وعجزه عن ارتكاب جميع الأطراف ، فإنّه ما دام الملاك لانهدام الركن الرابع هو عدم التمكّن من المخالفة القطعيّة أو عدم القدرة عليها ، فهذا الملاك موجود في الصورتين معا ، فهل يلتزم بسقوط العلم الإجمالي فيهما أم لا؟!

فمثلا : إذا علم إجمالا بلزوم المكث في أحد مكانين في الساعة الواحدة ، فهذه شبهة محصورة بلا إشكال إلا أنّ المكلّف غير قادر على المكث في المكانين في الوقت الواحد ، فهل ينهدم الركن الرابع وتجري الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين؟

والجواب : أنّه لا يمكن الالتزام بذلك ، بل يقولون : إنّ هذا العلم الإجمالي منجّز ، مع أنّ المكلّف غير قادر على المخالفة القطعيّة ، فليكن هناك أي في الشبهة غير المحصورة العلم الإجمالي منجّزا أيضا.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الشبهتين المحصورة وغير المحصورة في ذلك ما دام الركن الرابع منهدم فيهما معا.

فإن قيل بالتفصيل بين الشبهتين كان الركن الرابع بالصياغة المذكورة عند المشهور غير صحيح ، بل الصحيح هو صياغته بما ذكرنا من لزوم القطع بالمخالفة وإن لم يخالف واقعا ، فإنّ هذا الركن موجود في الشبهتين معا ولذلك يتنجّزان ، ولا مجال للتفصيل بينهما إذ لا مبرّر له لا على صياغتنا ولا على صياغة المشهور ، بمعنى إمّا أن يلتزم بالتنجيز في الشبهتين أو يلتزم بعدم التنجيز فيهما معا ، فعلى صياغة المشهور يجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة في الحالتين ولا معنى للتفصيل بالتنجيز في الشبهة المحصورة وعدم التنجيز في الشبهة غير المحصورة ؛ لأنّ الملاك موجود فيهما معا.

وعلى صياغتنا يلتزم بالمنجّزيّة في الشبهتين معا ؛ لأنّ القطع بالمخالفة هو الملاك للركن الرابع ، ولذلك يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في الشبهتين لأدائها إلى الترخيص القطعي في المخالفة وهو مستحيل.

والتحقيق : أنّ الصيغة الأصليّة للركن الرابع يمكن أن توضّح بأحد بيانين :

البيان الأوّل : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعيّة يجعل جريان الأصول في

ص: 368

جميع الأطراف ممكنا ؛ لأنّه لا يؤدّي - والحالة هذه - إلى الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها غير ممكنة حتّى يتصوّر الترخيص فيها.

وهذا البيان ينطبق على كلّ حالات العجز عن المخالفة القطعيّة ، ولذلك يعتبر النقض واردا عليه.

والتحقيق أن يقال : إنّ الركن الرابع يمكن أن يبيّن بأحد بيانين :

البيان الأوّل علیهم السلام أن يكون المراد من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف وأدائها إلى الترخيص في المخالفة وإلى إمكان وقوعها من المكلّف في الخارج ، أنّه مع عدم القدرة على المخالفة القطعيّة يصبح جريان الأصول الترخيصيّة ممكنا ولا مانع منه ، حيث لا يؤدّي جريانها في جميع الأطراف إلى محذور الترخيص العملي للتكليف المعلوم بالإجمال ، إذ في فرضنا تكون المخالفة العمليّة غير ممكنة للمكلّف ؛ لأنّه غير قادر عليها ، فلا يتصوّر الترخيص في المخالفة ليقال باستحالته.

وبتعبير آخر : إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة في أطراف الشبهة ، لو كان هو الوقوع في المخالفة القطعيّة والترخيص العملي للتكليف المعلوم بالإجمال ، فهذا المانع سوف يرتفع في حالات العجز وعدم القدرة على ارتكاب جميع الأطراف كما هو الحال في الشبهة غير المحصورة ، ومع ارتفاع هذا المانع سوف تجري الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف فعلا ؛ لأنّ المقتضي لجريانها موجود ؛ إذ المورد مشكوك والمانع مفقود ، وهذا مبني على تصوّرات المشهور من أنّ الترخيص مستحيل فعلا لاستلزامه الترخيص في المخالفة والمعصية القبيحة عقلا ، لأنّ الترخيص في القبيح قبيح عقلا.

وحينئذ سوف يكون نقض السيّد الخوئي واردا ؛ لأنّ الملاك وهو عدم القدرة موجود في كلتا الشبهتين ، والمانع من جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين وهو الترخيص العملي مفقود ، لعدم قدرته في الشبهتين على المخالفة القطعيّة عمليّا. فيكون هذا البيان عامّا وشاملا لكلّ مورد لا يتمكّن فيه المكلّف من ارتكاب جميع الأطراف لسبب من الأسباب ، وحينئذ ينبغي الالتزام بعدم المنجّزيّة حتّى في الشبهة المحصورة أيضا ، وهذا ممّا لا يقوله أحد.

إلا أنّ البيان المذكور غير صحيح ؛ لأنّ المحذور في جريان الأصول في جميع

ص: 369

أطراف العلم الإجمالي هو أنّ تقديم المولى لأغراضه الترخيصيّة على أغراضه اللزوميّة الواصلة بالعلم الإجمالي على خلاف المرتكز العقلائي كما تقدّم توضيحه سابقا (1). ومن الواضح أنّ شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف يعني ذلك ، ومجرّد اقترانه صدفة بعجز المكلّف عن المخالفة القطعيّة لا يغيّر من مفاد الدليل ، فالارتكاز العقلائي إذا حاكم بعدم الشمول كذلك.

وهذا البيان غير صحيح : وذلك لأنّه يفترض أنّ المحذور في جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف هو أداؤه إلى المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، ولذلك فمع عدم المخالفة لا محذور في جريانها ، إلا أنّ الصحيح في عدم إمكان جريان الأصول الترخيصيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي هو ما تقدّم منّا سابقا من أنّ جريان الأصول في جميع الأطراف معناه تقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزومية ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة كلّها تنشأ من الغرض الأهمّ بنظر الشارع ، إلا أنّ تقديم الأغراض الترخيصيّة في موارد العلم الإجمالي على خلاف المرتكزات العقلائيّة الحاكمة بأنّ الأغراض الترخيصيّة لا تصل إلى مستوى المساواة مع الأغراض اللزوميّة فضلا عن أهمّيّتها عليها ، ولذلك يكون هذا المرتكز العقلائي حاكما على أدلّة الأصول الترخيصيّة وقرينة متّصلة لبّيّة على تقييد إطلاقها ، ولذلك يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ممنوعا عقلائيّا ، إذ لا أهمّيّة لها بنظر العقلاء لكي تتقدّم على الأغراض اللزوميّة المعلومة ولو إجمالا.

نعم ، هذا الترخيص مقبول عقلا ؛ لأنّ العقل لا يرى فرقا بين تقديم ملاكات اللزوم والتي ستفوت ملاكات الترخيص وبين تقديم ملاكات الترخيص المفوتة لملاكات الإلزام ؛ لأنّ الأهمّيّة تستدعي ذلك.

وعليه ، ففي موارد الشبهة غير المحصورة حيث لا قدرة على ارتكاب جميع الأطراف ، أيضا نمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها يعني تقديم الغرض الترخيصي على الغرض اللزومي ، وهو مخالف للارتكاز العقلائي.

ص: 370


1- في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ضمن مباحث حجّيّة القطع ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

فظهر أنّ الملاك في جريان الأصول الترخيصيّة وعدم جريانها هو كونها أهمّ من الغرض اللزومي.

نعم ، في موارد الشبهة المحصورة لا تكون الأطراف الترخيصيّة هي الأهمّ ، ولذلك لا تجري الأصول الترخيصيّة فيها.

البيان الثاني : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعيّة إذا نشأ من كثرة الأطراف أدّى إلى إمكان جريان الأصول فيها جميعا ، إذ في غرض لزومي واصل كذلك - بوصول مردّد بين أطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة - لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الأغراض الترخيصيّة عليه ؛ لأنّ التحفّظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراض ترخيصيّة كثيرة ، ومعه لا يبقى مانع عن شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف.

وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع ، وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ولا يرد عليه النقض.

البيان الثاني : أن يقال : إن المقصود من الركن الرابع هو أنّ الأصول الترخيصيّة يمنع من جريانها إذا أدّت إلى المخالفة القطعيّة الواقعيّة ، ولا يمنع من جريانها إذا لم تؤدّ إلى ذلك ، وعدم إمكان المخالفة القطعيّة لجميع الأطراف تارة ينشأ من عجز المكلّف نفسه وعدم قدرته على إيقاع هذه المخالفة ؛ لعدم تمكّنه من الوصول إلى بعضها أو لخروج بعضها عن محلّ ابتلائه أو لتلف بعضها ونحو ذلك ، وأخرى ينشأ من مجرّد كثرة الأطراف فقط مع أنّ المكلّف قادر على ارتكابها جميعا لو أتيح له ذلك.

فهنا لا يوجد عجز تكويني ولا استحالة عقليّة في عدم إمكان المخالفة القطعيّة ، بل هي مقدور عليها وليست مستحيلة ، غاية الأمر العادة تقتضي أنّه لا يمكن المخالفة مع هذه الأطراف البالغة من الكثرة حدّا كبيرا.

وحينئذ نقول : إنّ عدم القدرة والعجز إذا نشأ من كثرة الأطراف فهنا تجري الأصول الترخيصيّة بلا محذور ، بخلاف ما لو نشأ العجز من خروج أحدهما عن محلّ الابتلاء أو تلفه أو عدم تمكن المكلّف من ارتكابه لخروجه عن قدرته فعلا.

ص: 371

والوجه في ذلك أنّ المانع الثاني عارض وليس أصليّا ولذلك كان الغرض اللزومي باقيا على أهمّيّته عقلائيّا ، ولا يتقدّم عليه الغرض الترخيصي عندهم حتّى لو طرأ هذا العارض والمانع.

وأمّا المانع الأوّل أي كثرة الأطراف فهو دخيل في تركيب الشبهة ، أي أنّ العلم الإجمالي انصبّ على هذه الشبهة ، أو أنّ هذه الشبهة حصلت بعد العلم ، لكن أصل الشبهة هي الأطراف الكثيرة ، فالكثرة دخيل في الذات والماهيّة.

وعليه ، فالعقلاء إذا لاحظوا هذه الشبهة مع كثرة أفرادها وجدوا أنّه يدور الأمر بين رفع اليد عن كلّ هذه الأطراف والاحتياط وعدم ارتكاب شيء منها مقابل الحفاظ على غرض لزومي واحد ، وبين رفع اليد عن هذا الغرض اللزومي الواحد وتقديم الأغراض الترخيصيّة الكثيرة جدّا بعدد الأطراف ، ولا إشكال عندهم في تقديم الأغراض الترخيصيّة البالغة هذا الحدّ من الكثرة على الغرض اللزومي الواحد ، ولا يرون أهمّيّة لهذا الغرض ؛ لأنّ الحفاظ عليه يعني ترك الحفاظ على أغراض ترخيصيّة كثيرة جدّا ، فالبناء العقلائي والسيرة العقلائيّة جارية فعلا على أنّه إذا دار الأمر في وجود قاطع الطريق في أحد الطرق الألف ، أو وجود أسد في أحد هذه المائة ألف طريق ، فإنّهم لا يمتنعون عن الجميع ، بل لا يرون من يفعل ذلك عاقلا وحكيما ، وهذا البناء العقلائي يشهد له قوله ( علیه السلام ) : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين » (1).

وحيث إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة كان هو المرتكز العقلائي الحاكم بأنّ الأغراض اللزوميّة أهمّ من الأغراض الترخيصيّة ، فهنا يوجد مرتكز عقلائي آخر وهو أنّ الأغراض الترخيصيّة هي الأهمّ من الأغراض اللزوميّة.

ومن الواضح أنّ المرتكزات العقلائيّة لا تبتني على التعبّد المحض ، وإنّما من أجل الحيثيّة الكاشفة في كلّ أصل وقاعدة ، وهذا يفرض علينا الجمع بين هذين الارتكازين ، بأن نقول : إنّ تقديم الأغراض اللزوميّة عندهم إنّما يكون في الشبهات المحصورة ، وأمّا تقديم الأغراض الترخيصيّة فيكون في الشبهة غير المحصورة ، فيكون هناك ارتكازان عقلائيّان لكلّ واحد منهما مورده وحيثيّة كشفه الخاصّة به.

ص: 372


1- وسائل الشيعة 25 : 119 ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب 61 ، ح 5.

وهذا البيان هو الوجه الفنّي لصياغة الركن الرابع على مسلك المشهور ، وبه يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات غير المحصورة.

ولا يرد عليه نقض السيّد الخوئي للفرق بين الشبهتين في الملاك وفي الحيثيّة الكاشفة.

ففي الشبهة غير المحصورة الملاك هو كثرة الأطراف ، وهذا يقتضي تقديم الأغراض الترخيصيّة عقلائيّا.

بينما في الشبهة المحصورة لا يتمّ هذا الملاك ؛ لأنّ الأطراف قليلة ، وهذا يقتضي تقديم الأغراض اللزوميّة عقلائيّا.

وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غير أنّهما يختلفان في بعض الجهات.

فالتقريب الأوّل مثلا يتمّ حتّى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل مؤمّن ؛ لأنّ التأمين فيه مستند إلى الاطمئنان لا إلى الأصل ، بخلاف التقريب الثاني كما هو واضح.

والحاصل : أنّه يوجد تقريبان لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة :

أحدهما : ما تقدّم من وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف طرف.

والثاني : ما ذكرناه من سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي لانهدام الركن الرابع.

إلا أنّ هذين التقريبين يختلفان من جهات أخرى منها :

أنّ التقريب الأوّل أي حجّيّة الاطمئنان الموجود في كلّ طرف ، يجري سواء كان هناك أصل ترخيصي جار في الأطراف أم لم يكن هناك أصل كذلك ؛ لأنّ التأمين بناء على هذا التقريب يستند إلى حجّيّة الاطمئنان لا إلى الأصل ليكون وجوده وعدمه مؤثّرا سلبا أو إيجابا.

فلو افترضنا أنّ أطراف الشبهة يجري فيها أصالة الطهارة مثلا ، كالعلم إجمالا بنجاسة إناء من إناءات كثيرة جدّا ، جرى التقريب الأوّل ، وكذلك يجري لو افترضنا الأطراف لا يجري فيها الأصل رأسا أو جرى وسقط بالمعارضة ، كما إذا كان كلّ طرف مجرى لاستصحاب النجاسة ، وكما إذا كانت الأطراف مشكوكة النجاسة الذاتيّة وعلم إجمالا بنجاسة أحدها بالدم ، فهنا لا تجري أصالة الطهارة فيها ؛ لأنّ

ص: 373

دليلها قاصر عن ذلك ؛ لأنّه مختصّ بالشكّ في الطهارة العرضيّة بعد إحراز الطهارة الذاتيّة ، وكما إذا علم بوجود إكرام العالم وشكّ في مصداقه في الخارج ، وكانت أطراف الشكّ كثيرة جدّا ، فهنا لا يجري الأصل المؤمّن أي البراءة في أطراف الشكّ ؛ لأنّ البراءة لا تجري في الشكّ في المكلّف به.

وأمّا على التقريب الثاني أي سقوط الركن الرابع فهو يفترض مسبقا جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّه مبني على أنّ جريانها كذلك لا يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة ، وهذا يقتضي أن يكون كلّ طرف مجرى للأصل الترخيصي وإلا لم يتمّ هذا التقريب أصلا (1).

8 - إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور :

قد يفرض أنّ ارتكاب الواقعة غير مقدور ويعلم إجمالا بحرمتها أو حرمة واقعة أخرى مقدورة ، وفي مثل ذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزا. وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ القدرة تارة تنتفي عقلا ، كما إذا كان المكلّف عاجزا عن الارتكاب حقيقة ، وأخرى تنتفي عرفا بمعنى أنّ الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع والمتضمّنة للمشقّة ما يضمن انصراف المكلّف عنه ، ويجعله بحكم العاجز عنه عرفا وإن لم يكن عاجزا حقيقة ، كاستعمال كأس من حليب في بلد لا يصل إليه عادة ، ويسمّى هذا العجز العرفي بالخروج عن محلّ الابتلاء.

الحالة الثامنة : أن يكون أحد الطرفين غير مقدور على ارتكابه :

تارة يعلم المكلّف بحرمة الشرب من أحد هذين الإناءين الموجودين فعلا أمامه ، وهذا يعني أنّه قادر على شربهما معا وعلى تركهما كذلك ، فهنا لا إشكال في منجّزيّة العلم الإجمالي لترك كلا الإناءين.

ص: 374


1- ومنها : أنّه بناء على التقريب الأوّل أي حجّيّة الاطمئنان قلنا : إنّ حجّيّته تخييريّة لا تعيينيّة ، وهذا يعني أنّه يجوز ارتكاب مقدار من الأطراف يوجد معها الاطمئنان ، أمّا المقدار الذي لا يكون فيه اطمئنان فلا يجوز ارتكابه ؛ لأنّ مقتضي الحجّيّة لا يكون موجودا فيه حينئذ.

وأخرى يعلم بحرمة الشرب من أحد إناءين أحدهما مقدور على ارتكابه والآخر غير مقدور على ارتكابه ، فهنا هل يكون العلم الإجمالي منجّزا أم لا؟

والجواب : أنّه لا يكون منجّزا ، هذا بشكل عامّ ، وأمّا تفصيل الكلام في المسألة فهو يستدعي التفصيل في عدم القدرة ، ولذلك نقول : إنّ عدم القدرة على الارتكاب له سببان أو منشآن :

الأوّل : عدم القدرة بمعنى العجز التكويني ، بأن لا يكون المكلّف قادرا على الارتكاب بحكم العقل ، فهنا القدرة منتفية حقيقة لعجزه تكوينا عن ارتكابه ، كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر في مكان مجهول فعلا ، أو في مكان معلوم لكن لا يمكن الوصول إليه أصلا.

الثاني : عدم القدرة بمعنى العجز العرفي ، بأن كان المكلّف قادرا بحكم العقل على الارتكاب بأن كان يقدر على الوصول إليه ، إلا أنّ الوصول إليه يحتاج إلى بذل جهد ومشقّة وعناية زائدة ينزّل معها هذا الإناء منزلة الإناء غير المقدور حقيقة ، بحيث تكون هناك عنايات مخالفة للطبع العرفي وليست مألوفة عند العقلاء ، فإنّه وإن كان من الممكن حصولها لكنّه يعتبر شيئا مستهجنا وغريبا وغير مألوف ، وهذا ما يسمّى بخروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين إمّا الإناء الذي أمامه أو الإناء الذي في البلد الآخر ، بحيث لم يكن الوصول إلى البلد الآخر متعذّرا وغير مقدور عليه عقلا ، بل كان الوصول إليه يحتاج إلى مشقّة وعناية خارجة عن المألوف والعرف ، أو كان هذا الإناء الآخر تحت يد السلطان في بلده فإنّه يقدر عقلا على ارتكابه لعدم العجز الحقيقي ، إلا أنّ الوصول إليه يحتاج إلى طرق وعنايات ليست مألوفة عرفا.

وعلى كلّ حال سوف نتحدّث عن كلّ واحدة من الحالتين بنحو مستقلّ فنقول :

فإن حصل علم إجمالي بنجاسة أحد مائعين مثلا ، وكان أحدهما ممّا لا يقدر المكلّف عقلا على الوصول إليه ، فالعلم الإجمالي غير منجّز ، ويقال في تقريب ذلك عادة ، إنّ الركن الأوّل منتف لعدم وجود العلم بجامع التكليف ؛ لأنّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلّف على ارتكابه فليس موضوعا للتكليف الفعلي ؛ لأنّ التكليف الفعلي مشروط بالقدرة ، فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي إذن.

ص: 375

الصورة الأولى : أن يكون أحد الطرفين غير مقدور على ارتكابه عقلا :

كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر لا يمكن الوصول إليه ؛ للجهل بمكانه مثلا أو لكونه في مكان بعيد جدّا لا يمكن الوصول إليه عقلا ، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ولذلك يجوز ارتكاب الإناء الذي أمامه.

وأمّا توجيه عدم المنجّزيّة فقد قال المشهور في ذلك إنّ الركن الأوّل من أركان العلم الإجمالي مختلّ ، بمعنى أنّه لا يوجد علم بجامع التكليف على كلّ تقدير.

وتوضيحه : أنّ النجس المعلوم إجمالا إن كان هو الإناء الموجود فعلا عند المكلّف العالم بالإجمال فالتكليف ثابت وفعلي ، إلا أنّه إن كان في الإناء الآخر غير المقدور عليه فالتكليف وإن كان ثابتا فيه لكنّه ليس فعليّا ؛ لأنه يشترط في فعليّة التكليف أن يكون مقدورا عليه ، إذ التكليف بغير المقدور مستحيل عقلا.

فمع انتفاء القدرة ينتفي التكليف الفعلي ، وحينئذ يدور الأمر بين ثبوت التكليف الفعلي وبين عدم ثبوته ، أي إنّه ثابت على بعض التقادير لا على جميع التقادير ، ومن الواضح أنّ العلم الدائر بين ثبوت التكليف وعدم ثبوته لا يعتبر علما بجامع التكليف على كلّ حال وعلى جميع التقادير ، بل إمّا أن يوجد التكليف أو لا يوجد فهناك شبهة بدوية إذن ، فتجري فيها الأصول الترخيصيّة بلا مانع.

ومن هنا قالوا بأنّ التكليف الدائر بين المقدور وغير المقدور غير مقدور.

وكأنّ أصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما لا ينجّز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن منه - على ما مرّ في الحالة الثانية - كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ؛ لأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتا على كلّ تقدير.

ولعلّ الداعي الذي من أجله ذهب المشهور إلى هذا القول هو ما تقدّم سابقا في الحالة الثانية ، من أنّ أحد الطرفين إذا كان المكلّف مضطرّا إلى ارتكابه قبل العلم الإجمالي ثمّ علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة الإناء الآخر غير المضطرّ إليه ، فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا لاختلال ركنه الأوّل ؛ لأنّه دائر بين ثبوت التكليف الفعلي إذا كان النجس في الإناء غير المضطرّ إليه ، وبين عدم ثبوته إذا كان في الإناء المضطرّ

ص: 376

إليه ؛ لأنّ التكليف الفعلي يشترط فيه عدم الاضطرار ؛ لأنّه مع الاضطرار لا يكون قادرا على تركه.

فجعلوا مقامنا كالمقام السابق ، أي جعلوا الاضطرار إلى الترك وعدم القدرة على الارتكاب - كما هنا - كالاضطرار إلى الفعل والارتكاب - كما هناك - لأنّ كلاّ منهما يسلب قدرة المكلّف ، غاية الأمر أنّه هنا يكون مسلوب القدرة على الفعل بينما هناك يكون مسلوب القدرة على الترك ، إلا أنّهما معا يحقّقان مصداقا لعدم القدرة ، وحيث إنّ التكليف الفعلي شرطه القدرة فمع انتفائها ينتفي ، فيدور الأمر في الموردين بين ثبوت التكليف على أحد التقديرين وعدم ثبوته على التقدير الآخر ، ولذلك لا يكون علما بجامع التكليف على كلّ تقدير وفي جميع الحالات ، بل على بعض التقادير ، وحيث إنّ هذا البعض غير معلوم فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

والتحقيق : أنّ الاضطرارين يتّفقان في نقطة ويختلفان في أخرى :

فهما يتّفقان في عدم صحّة توجّه النهي والزجر معهما ، فكما لا يصحّ أن يزجر المضطرّ إلى شرب المائع عن شربه ، كذلك لا يصحّ أن يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني أنّه لا علم إجمالي بالنهي في كلتا الحالتين.

والصحيح أنّ هذا التقريب غير تامّ للفارق بين مقامنا وبين المقام السابق من جهة رغم اتّفاقهما من جهة أخرى.

فالاضطرار إلى الارتكاب يشترك مع الاضطرار إلى الترك في جهة ويختلف معه من جهة أخرى.

أمّا الجهة التي يشتركان فيها فهي عدم صحّة توجّه النهي إلى كلا المضطرّين.

فالمضطرّ إلى شرب الإناء النجس المعيّن لا يصحّ توجيه النهي إليه وخطابه بالزجر عنه ؛ لأنّ المضطرّ لا تكليف بحقّه أي أنّ التكليف مرتفع عنه وساقط لا يصحّ توجّهه إليه ؛ لأنّه سوف يفعل لا محالة ، فزجره عنه لا فائدة منه لأنّه لن ينزجر تكوينا ، فلا يكون لخطاب النهي محرّكيّة أصلا.

وكذلك الحال في المضطرّ إلى ترك النجس ، فإنّه لا يصحّ زجره عن ارتكابه وخطابه بحرمة الارتكاب ؛ لأنّه سوف يتركه ويجتنبه تكوينا ؛ لأنّه غير قادر على

ص: 377

ارتكابه وشربه ، فلا يكون للخطاب محرّكيّة أصلا ، بل يكون لغوا ؛ لأنّه خطاب بشيء حاصل ، وطلب تحصيل الحاصل لغو.

وهذا يعني أنّه لا يوجد للمكلّف المضطر إلى الفعل أو المضطرّ إلى الترك علم إجمالي بتوجّه النهي وخطاب الزجر إليه على جميع التقادير ، فيكون الخطاب ساقطا لا محالة ، ومع سقوطه لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف من جهة الخطاب والنهي.

فإذا لاحظنا هذه الجهة صحّ تقريب المشهور باختلال الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي في مقامنا ، إلا أنّه توجد جهة أخرى يمتاز فيها مقامنا عن المقام السابق ، وهذه الجهة تجعل العلم الإجمالي بجامع التكليف محفوظا حتّى مع سقوط الخطاب ، وهذه الجهة هي :

ولكنّهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة ، فإنّ الاضطرار إلى الفعل يشكّل حصّة من وجود الفعل مغايرة للحصّة التي تصدر من المكلّف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض أن الحصّة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضيّة فيها ، وإنّما المفسدة والمبغوضيّة في الحصّة الأخرى.

وأمّا الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكّل حصّة خاصّة من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض أنّ الفعل غير المقدور للمكلّف ليس واجدا لمبادئ الحرمة وأنّه لا مفسدة فيه ولا مبغوضيّة ؛ إذ من الواضح أنّ فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقّق المبغوض.

وأمّا الجهة التي يفترقان فيها فهي بلحاظ المبادئ.

وتوضيحه : أنّ الاضطرار إلى الفعل والارتكاب كما لا علم إجمالي بجامع التكليف فيه ، كذلك لا علم إجمالي بجامع الملاك والمبادئ فيه أيضا ؛ لأنّ كلّ خطاب فيه تكليف بالمدلول المطابقي وفيه مبادئ بالمدلول الالتزامي ، فالخطاب بالنهي يدلّ بالمطابقة على الحرمة والزجر ، ويدلّ بالالتزام على المفسدة والمبغوضيّة للفعل.

وعليه ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى تناول النجس فهنا كما ينتفي الخطاب من جهة مدلول المطابقي أي النهي والحرمة ، كذلك ينتفي الخطاب من جهة مدلوله الالتزامي أي المبغوضيّة والمفسدة.

ص: 378

فكما لا يصحّ أن يكون المضطرّ إلى الفعل مخاطبا بالنهي والحرمة ، كذلك لا يصحّ أن تكون مبادئ النهي والحرمة من المفسدة والمبغوضيّة ثابتة في المورد المضطرّ إليه ؛ وذلك لأنّ الاضطرار إلى الفعل يجعل الفعل ذا حصّتين إحداهما الحصّة المقدور على فعلها وتركها وهي الحصّة غير المضطرّ إليها ، والأخرى الحصّة غير المقدور على تركها وهي الحصّة المضطرّ إلى فعلها وارتكابها.

والخطاب كما يسقط عن الحصّة المضطرّ إليها بلحاظ مدلوله المطابقي أي النهي والحرمة ، فكذلك يحتمل ثبوتا أن يكون ساقطا عنها بلحاظ مبادئه من مفسدة ومبغوضيّة ، بأن لا يكون هناك مفسدة ومبغوضيّة أصلا في شرب النجس عند الاضطرار إليه ، فإنّ هذا الاحتمال ممكن ثبوتا.

وكما لا يسقط عن الحصّة الأخرى غير المضطرّ إليها بلحاظ النهي والحرمة ، فكذلك لا يسقط عنها بلحاظ مبادئ النهي والحرمة.

وحينئذ يدور الأمر بلحاظ عالم المبادئ والملاكات بين ثبوت الملاكات والمبادئ فيما إذا كان الخطاب ثابتا في الحصّة الأخرى غير المضطرّ إليها ، وبين احتمال عدم ثبوت الملاكات والمبادئ فيما إذا كان الخطاب ساقطا في الحصّة المضطرّ إليها.

وهذا يعني أنّه يدور الأمر بين ثبوت المبادئ وبين احتمال عدم ثبوتها ، وحيث إنّ احتمال عدم ثبوت المبادئ مساوق للجزم والقطع بعدمها ، فيكون الأمر دائرا بين الوجود للمبادئ وبين عدم وجودها ، ومثل هذا لا يسمّى علما إجماليّا بجامع المبادئ ؛ لأنّ المبادئ ليست محفوظة على جميع التقادير ، بل يحتمل أن يقطع بعدمها على بعض التقادير.

ولذلك يكون الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ساقطا.

وأمّا الاضطرار إلى الترك وعدم الفعل والعجز عن الارتكاب فهو وإن كان يشترك مع السابق في عدم توجّه النهي والحرمة أي سقوط المدلول المطابقي ، إلا أنّ المدلول الالتزامي أي المفسدة والمبغوضيّة ليست ساقطة جزما ولا يحتمل سقوطها أصلا.

والوجه في ذلك أنّ الاضطرار إلى الترك لا يجعل الفعل ذا حصّتين ، حصّة مضطرّ إلى تركها وحصة غير مضطرّ إلى تركها ، بل هناك حصّة واحدة من الفعل على كلا التقديرين ، وهي أنّ هذا الإناء لو كان تحت تصرّفه لكان قادرا ومختارا وغير مضطرّ

ص: 379

إلى شيء من الترك أو الفعل فيه ، ولذلك فالإناء الموجود أمامه فيه مبادئ النهي والحرمة من مفسدة ومبغوضيّة فيما لو فعل وارتكب ، وكذلك الإناء الآخر البعيد عنه والذي لا يتمكّن من الوصول إليه ، فإنّه واجد لمبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة ، ولذلك لو قدّر له الوصول إليه - ولو محالا - فهو مبغوض وفي ارتكابه مفسدة.

ولذلك كما يعلم المكلّف بوجود مبادئ المفسدة والمبغوضيّة في الإناء الموجود أمامه ، فكذلك يعلم بوجودها في الإناء الآخر ، وهذا يعني العلم بجامع المبادئ والملاكات ، فالركن الأوّل محفوظ وليس مختلاّ.

فكم فرق بين من هو مضطرّ إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ، ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكان بعيد عنه؟!

فأكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه مبادئ النهي أصلا فيقع من المضطرّ بدون مفسدة ولا مبغوضيّة ، وأمّا أكل لحم الخنزير البعيد عن المكلّف فهو واجد للمفسدة والمبغوضيّة لا محالة ، وعدم النهي عنه ليس لأنّ وقوعه لا يساوق الفساد ، بل لأنّه لا يمكن أن يقع.

وعلى أساس الجهة التي يفترقان فيها يمكننا أن نصل إلى النتيجة التالية وهي :

أنّ لحم الخنزير مثلا إذا اضطر لأكله يختلف عن لحم الخنزير المضطرّ إلى عدم أكله لبعده ؛ وذلك لأنّ الأوّل قد لا يكون فيه شيء من مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة لما ذكرناه من أنّ الاضطرار إلى الفعل يحصّص الفعل إلى حصّتين حصّة واجدة للمبادئ وللنهي ، وحصّة فاقدة للنهي ويحتمل أن تكون فاقدة للمبادئ أيضا.

بينما الثاني لا تزال فيه مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة محفوظة وإن سقط الخطاب بالنهي والزجر فيه ؛ لأنّ ترك أكل لحم الخنزير بسبب بعده لا يعني أنّه قد زالت عنه مبادئ الحرمة وصار فيه مصلحة ، أو أنّه صار مباحا للمكلّف ، بل هو على مبادئ المفسدة والمبغوضيّة ، ولذلك لو قدّر له الوصول إليه - ولو محالا - فهو مبغوض.

وأمّا سقوط الخطاب بالنهي والزجر عنه فهو ليس لأجل أنّه صار حلالا أو مباحا ، بل لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يأكله ، أي أنّ سقوط النهي كان من أجل أنّ المفسدة لا تقع من المكلّف ؛ لأنّه غير قادر على أكله ، لا لأنّ المفسدة زالت عنه وأنّه لا بغض ولا فساد فيه.

ص: 380

ونستخلص من ذلك : أنّ مبادئ النهي يمكن أن تكون منوطة بعدم الاضطرار إلى الفعل ، ولكن لا يمكن أن تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل.

وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي - كما في الحالة الثانية المتقدّمة - يمكن القول بأنّه لا علم إجمالي بالتكليف ، لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه.

وأمّا في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي - كما في المقام - فالنهي وإن لم يكن ثابتا على كلّ تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالا على كلّ حال ، فالركن الأوّل ثابت ؛ لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي بمبادئه.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة يمكن أن تكون مقيّدة وجودا وعدما بالاضطرار إلى الفعل وعدمه ، فمع الاضطرار إلى الفعل لا مبادئ ، ومع عدم الاضطرار توجد المبادئ.

بينما هذه المبادئ لا يمكن أن تكون مقيّدة بعدم العجز عن الفعل أو بالاضطرار إلى الترك ، إذ لا يمكن أن يقال إنّه مع الاضطرار إلى الترك لا مبادئ وإنّما المبادئ في صورة إمكان الترك فقط.

والوجه فيه ما ذكرناه من احتمال سقوط المبادئ عند الاضطرار إلى الفعل ، ومن بقاء المبادئ جزما عند الاضطرار إلى الترك ؛ لأنّ المفسدة والمبغوضيّة محفوظة حتّى في الطرف البعيد.

وعلى هذا اتّضح بطلان تقريب المشهور وقياس مقامنا على المقام السابق ، ببيان أنّه في المقام السابق أي الاضطرار إلى الفعل كما لا يتشكّل العلم الإجمالي بالتكليف ، كذلك لا يتشكّل العلم الإجمالي بالمبادئ ، فكما أنّه لا يعلم بالتكليف على كلّ تقدير فكذلك لا يعلم بالمبادئ على كلّ تقدير ؛ لأنّ التكليف ساقط على بعض التقادير ، والمبادئ يحتمل سقوطها على بعض التقادير أيضا ، واحتمال سقوطها كالقطع بذلك.

بينما في مقامنا هذا أي الاضطرار إلى الترك وإن كان لا يتشكّل علم إجمالي بجامع التكليف ؛ لأنّه ساقط على بعض التقادير ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي يتشكّل بجامع المبادئ ؛ لأنّها محفوظة على جميع التقادير.

ص: 381

والعلم الإجمالي كما يكون منجّزا بلحاظ العلم بالتكليف ، كذلك يكون منجّزا بلحاظ العلم بالمبادئ وإن كان التكليف ساقطا ؛ لأنّ الأساس هو المبادئ لا مجرّد الخطاب والنهي والزجر ، إذ هذه ليست إلا مجرّد كاشف عن المبادئ ، فالمنجّزيّة تابعة لوصول المبادئ ، غاية الأمر أنّ هذه المبادئ تارة تصل بنفسها بأن اطّلع المكلّف على ما في نفس المولى ، وأخرى تصل عن طريق إبراز خطاب يكشف عنها كما هو الغالب ، إلا أنّ غالبيّة هذا القسم لا يعني انتفاء القسم الآخر وعدم منجّزيّته.

وبهذا نصل إلى أنّ الركن الأوّل محفوظ في مقامنا.

ويجب أن يفسّر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الأولى حيث إنّ الأصل المؤمّن في الطرف المقدور يجري بلا معارض ، إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور ؛ لأنّ إطلاق العنان تشريعا في مورد تقيّد العنان تكوينا لا محصّل له. وإمّا بصيغته الثانية حيث إنّ العلم الإجمالي ليس صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ التنجيز هو الدخول في العهدة عقلا ، والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله في العهدة.

والتقريب الصحيح لعدم منجّزيّة العلم الإجمالي في المقام أن يقال : إنّ الركن الثالث من أركان المنجّزيّة سواء بصياغة المشهور أم بصياغة المحقّق العراقي ساقط ومنهدم.

أمّا بناء على صياغة المشهور للركن الثالث من لزوم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ، فهذا الركن غير تامّ ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء الخارج عن قدرة المكلّف لبعده ، وعدم تمكّنه من الوصول إليه ؛ إذ لا فائدة من جريان الأصل فيه ولا أثر له ؛ لأنّ الأصل الترخيصي عبارة عن إطلاق العنان وجعل المكلّف طليقا غير مقيّد ، وهذا المعنى حاصل بلا حاجة إلى الأصل ؛ لأنّ المكلّف لمّا لم يتمكّن من الوصول إليه فهو طليق من ناحيته ، فيكون جريان الأصل لغوا وتحصيلا للحاصل.

وبتعبير آخر أدقّ : أنّ المكلّف أمام الإناء غير المقدور مقيّد تكوينا ، بمعنى أنّه غير متمكّن من ارتكابه فعلا ، فلا معنى لتوجيه الخطاب إليه شرعا بأنّه ( يجوز لك تركه ) ، فتجري البراءة في الإناء الموجود بلا محذور.

وأمّا بناء على صياغة المحقّق العراقي لهذا الركن من كون الأطراف غير منجّزة

ص: 382

بمنجّز سابق على العلم الإجمالي ، فهذا الركن أيضا منهدم ؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس صالحا لتنجيز الإناء غير المقدور على ارتكابه ، إذ معنى المنجّزيّة إدخال الشيء في عهدة المكلّف واشتغال ذمّته به وكونه مسئولا ومطالبا به ، وهذا المعنى لا يمكن تحقّقه هنا ؛ لأنّه لا يمكن دخول الإناء غير المقدور على ارتكابه في الذمّة والعهدة ؛ لأنّه لا يمكن توجيه خطاب شرعي للمكلّف به كما تقدّم ، ومع عدم الخطاب الشرعي لا تكون الذمّة مشتغلة.

وعليه ، فلا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على جميع التقادير ، لأنّه على تقدير ثبوته في الإناء غير المقدور على ارتكابه لا تكليف. نعم ، على تقدير ثبوته في الإناء الموجود أمامه يوجد تكليف ، وحيث إنّه لا يعلم بثبوته فيكون المورد مشكوكا بدوا فتجري فيه البراءة بلا محذور.

بل يمكن القول هنا بناء على مسلك العلّيّة أنّ الركن الأوّل منهدم أيضا ؛ لأنّ العلم بجامع التكليف هو العلم بما يكون دخيلا في العهدة والذمّة ، وحيث إنّ الإناء غير المقدور عليه لا يمكن دخوله في الذمّة والعهدة ، فلا تكليف فيه ، إذن فلا يكون هنالك علم بجامع التكليف ، فيختلّ الركن الأوّل ويبطل العلم الإجمالي من أساسه ، أي أنّه ينحلّ حقيقة لا حكما فقط.

هذا كلّه فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور.

وأمّا إذا كان خارجا عن محلّ الابتلاء ، فقد ذهب المشهور إلى عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الحالة ، واستندوا إلى أنّ الدخول في محلّ الابتلاء شرط في التكليف ، فلا علم إجمالي بالتكليف في الحالة المذكورة ، فالعجز العقلي عن ارتكاب الطرف وخروجه عن محلّ الابتلاء يمنعان معا عن تنجيز العلم الإجمالي بملاك واحد عندهم.

الصورة الثانية : الخروج عن محلّ الابتلاء ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر عند السلطان ، فهنا أيضا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، وأمّا الوجه في ذلك : فقد ذهب المشهور إلى أنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة كالصورة السابقة بسبب اختلال الركن الأوّل ، أي أنّه لا يعلم بجامع التكليف على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّهم يجعلون الدخول في محلّ الابتلاء شرطا في

ص: 383

التكليف ، فالتكليف مقيّد بكون متعلّقه داخلا في محلّ الابتلاء ، فمع خروجه عن محلّ الابتلاء يسقط التكليف ، فإذا سقط التكليف بلحاظ هذا الطرف يكون التكليف في الطرف الآخر مشكوك الحدوث ، فتجري فيه الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّه شكّ بدوي في التكليف.

فكما يقال في الحالة السابقة بأنّ الاضطرار إلى الفعل والاضطرار إلى الترك وعدم الارتكاب شرطان في التكليف ؛ لاشتراكهما بعنوان غير المقدور والعجز العقلي ، فكذلك يقال في الخروج عن محلّ الابتلاء فإنّه عجز عرفي وغير مقدور عقلائيّا.

فظهر بهذا أنّ هذه العناوين كلّها تمنع من تحقّق أصل العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا علم بالتكليف على كلّ تقدير فيها ، بسبب أنّها مسقطة للتكليف في متعلّقها.

وقد عرفت أنّ التقريب المذكور غير صحيح في العجز العقلي ، فبطلانه في الخروج عن محلّ الابتلاء أوضح.

بل الصحيح أنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف بمعنى الزجر ، فضلا عن المبادئ ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار فالزجر عنه معقول.

والصحيح : أنّ ما ذكره المشهور غير تامّ ؛ لما تقدّم آنفا من أنّ العجز العقلي عن ارتكاب أحد الطرفين لا يوجب سقوط العلم بجامع التكليف بمعنى المبادئ ، وإن كان يوجب سقوط التكليف خطابا ، فعدم سقوط العلم بجامع التكليف بمعنى المبادئ هنا أوضح ؛ لأنّ العجز هنا ليس عقليّا ، بل هو عجز عرفي ، أي أنّ الوصول غير مألوف فقط ، وإلا فالمكلّف قادر على الوصول إلى الطرف عقلا وتكوينا.

بل العلم بجامع التكليف بمعنى الخطاب بالزجر والنهي ممكن هنا أيضا ؛ لأنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف ، إذ الشرط هو القدرة على صدور الفعل من المكلّف القادر عقلا والمختار غير المضطرّ ، وفي مقامنا هذا المكلّف قادر عقلا ومختار على صدور الفعل منه فيكون مخاطبا بالتكليف خطابا وملاكا ، فالركن الأوّل محفوظ.

فإن قيل : ما فائدة هذا الزجر مع أنّ عدم صدوره مضمون لبعده وصعوبته؟

كان الجواب : أنّه يكفي فائدة للزجر تمكين المكلّف من التعبّد بتركه.

ص: 384

قد يشكل على ما ذكرناه من صحّة توجيه الخطاب بالزجر والنهي فضلا عن ثبوت المبادئ من مفسدة ومبغوضيّة ، بأنّ مثل هذا الخطاب لغو وتحصيل للحاصل ؛ لأنّ المقصود من النهي والزجر إبعاد المكلّف عن الارتكاب وهذا واقع منه لا محالة ؛ لأنّه خارج عن محلّ ابتلائه ولن يتمكّن من الوصول إليه عرفا ، فيكون الخطاب مستهجنا عرفا.

والجواب على ذلك : أنّ فائدة النهي والزجر ليست محصورة في إبعاد المكلّف عن الارتكاب والفعل مطلقا ولو بأي داع ، بل إبعاده عن ذلك بقصد التوصّل إلى الطاعة والقرب من اللّه عزّ وجلّ ؛ لأنّ الغاية النهائيّة من أفعال وتروك المكلّفين هي كونها موصلة لهم لله عزّ وجلّ ، وهذا يشترط فيه قصد القربة والإطاعة وامتثال الأمر والنهي.

وهنا يمكن للمكلّف بعد صدور خطاب النهي أنّه ينوي القربة لله عزّ وجلّ بالترك وعدم الارتكاب ، سواء كان في مقدوره عرفا الوصول إليه وارتكابه أم كان بعيدا عنه ولا يتمكّن عرفا من ارتكابه.

وبتعبير آخر : يكون الخروج عن محلّ الابتلاء محقّقا لأحد جزأي الفائدة والمقصود والغاية من الخطاب ، وليس محقّقا لتمام المقصود ، أي أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يحقّق الترك ، وأمّا الجزء الآخر وهو قصد القربة فلم يكن محقّقا به ، وإنّما يتحقّق بعد صدور الخطاب بالنهي عن الفعل والارتكاب ؛ لأنّه بهذا الخطاب سوف يعلم بأنّ الترك وعدم الارتكاب مطلوب للمولى عزّ وجلّ.

فالأفضل أن يفسّر عدم تنجيز العلم الإجمالي مع خروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء باختلال الركن الثالث ؛ لأنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه ؛ لأنّ الأصل العملي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة ، والعقلاء لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل يرون الغرض اللزومي المحتمل مضمونا بحكم الخروج عن محلّ الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي ، فالأصل المؤمّن في الطرف الآخر يجري بلا معارض.

والصحيح في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أن يقال : إنّ الركن الثالث

ص: 385

منهدم ؛ وذلك لأنّ الأصول الترخيصيّة في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء تجري بلا معارض ؛ لأنّها لا تجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، والوجه في ذلك هو : أنّ الأصل الترخيصي كالبراءة ونحوها حكم ظاهري مجعول في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات اللزوميّة والترخيصيّة ، وهذا يعني أنّه إذا لم يكن هناك تزاحم حفظي بين الملاكات فلا مورد للأصل.

وعليه ، فالطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ليس مشمولا لدليل الأصل رأسا ؛ لأنّه لن يحصل هناك تزاحم حفظي بين الطرف الداخل في محلّ الابتلاء والطرف الخارج عن محلّ الابتلاء.

وأمّا كيف لا يحصل التزاحم الحفظي بينهما؟ فهذا مرجعه إلى نظر العرف والعقلاء ، أي أنّ تشخيص المورد راجع إلى العرف ، فالعقلاء إذا رأوا وجود تزاحم حفظي أجروا الأصل وإذا لم يروا هذا التزاحم موجودا فلا يجرون الأصل.

وفي مقامنا لا يرى العقلاء أنّ هناك تزاحما حفظيّا بين ملاكات اللزوم والترخيص فيما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ خروجه كذلك يعني ضمان الحفاظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا فيه ، فلا يبقى إلا الغرض الترخيصي المعلوم وجوده ، وهذا ما يضمنه الطرف الداخل في محلّ الابتلاء ، ولذلك يجمع بين الغرضين اللزومي والترخيصي.

أمّا اللزومي ففي الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، وأمّا الترخيصي ففي الطرف الداخل في محلّ الابتلاء ، وهذا يعني جريان الأصل الترخيصي في الطرف الموجود أمامه وعدم جريانه في الطرف الآخر الخارج عن محلّ ابتلائه.

وبتعبير آخر : إنّ جريان الأصول الترخيصيّة مشروطة بدخول الطرف في محلّ الابتلاء ؛ لأنّ خروجه عن محلّ الابتلاء يعني أنّ الملاكات المحتمل وجودها فيه لن تزاحم الملاكات المحتمل وجودها في الطرف الموجود في محلّ الابتلاء.

وأمّا تقديم ملاكات الإلزام على ملاكات الترخيص في موارد العلم الإجمالي ، فهذا فيما إذا كان التزاحم الحفظي بين النحوين من الملاكات يقتضي الحفاظ عليه تفويت الآخر والوقوع في مخالفة الواقع قطعا ، ففي هذه الحالة قلنا : إنّ العقل لا يرى فرقا بين تقديم ملاكات الإلزام أو تقديم ملاكات الترخيص ؛ لأنّ تقديم أي منهما

ص: 386

سوف يفوّت الآخر حتما ، إلا أنّ العقلاء لا يرون وصول أهمّيّة ملاكات الترخيص إلى هذا المستوى.

بينما يرى العرف أنّه إذا لم يكن هناك تزاحم حفظي بهذه المرتبة ، بل كان من الممكن الجمع بين النحوين من الملاكات من دون محذور ، فإنّه حينئذ لن يرى مانعا من الجمع بينهما وعدم تقديم أحدهما على الآخر ؛ لأنّ تقديم أحدهما على الآخر فيه تفويت للآخر ومخالفته القطعيّة ، بينما الجمع بينهما فيه احتمال المخالفة فقط.

ولذلك إذا كان أحدهما خارجا عن محلّ الابتلاء فلا يرى العرف محذورا في جريان الأصول الترخيصيّة في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء حفاظا على ملاكات الترخيص احتمالا ، حيث إنّ ملاكات الإلزام سوف يكون محافظا عليها احتمالا أيضا ، وذلك في الطرف الآخر الخارج ؛ لأنّه متروك ، فيكون المكلّف قد ضمن الحفاظ على النحوين من الملاكات ، إمّا قطعا وإمّا احتمالا ولكنّه لم يفوّت أحدهما قطعا ، ولم يرتكب المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ التزاحم لم يكن بهذه المرتبة.

9 - العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي تكليفا فعليّا والطرف الآخر تكليفا منوطا بزمان متأخّر سمّي هذا العلم بالعلم الإجمالي بالتدريجيّات.

ومثاله : علم المرأة إجمالا - إذا ضاعت عليها أيّام العادة - بحرمة المكث في المسجد في بعض الأيّام من الشهر.

وقد استشكل بعض (1) الأصوليّين في تنجيز هذا العلم الإجمالي ، ويستفاد من كلماتهم إمكان تقريب الاستشكال بوجهين :

الحالة التاسعة : العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

والمقصود بالبحث هنا أن يكون أحد الطرفين فعليّا من حيث الزمان ، والطرف الآخر استقبالي من حيث الزمان بلحاظ نفس الخطاب وبلحاظ المبادئ أيضا ، بمعنى أنّه يدور الأمر بين تكليف في الآن الفعلي أو تكليف سوف يحدث في الآن الاستقبالي أي بعد انقضاء الآن الفعلي ، وهذا يعني عدم إمكان اجتماع الطرفين.

ص: 387


1- منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 2 : 248 - 249.

مثاله : المرأة التي ضاعت عليها أيّام عادتها ، فإنّها تعلم إجمالا بحرمة المكث في المسجد في بعض أيّام الشهر إجمالا ، إلا أنّ هذه الأيّام يمكن أن تكون هذه الأيّام الآن أو الأيّام الآتية ، فهي تعلم بتكليف إمّا الآن فعلا وإمّا في المستقبل.

أي أنّه على تقدير كون الأيّام هي هذه الأيام فالحرمة فعليّة ، وأمّا على تقدير كونها الأيّام الآتية فالحرمة ليست فعليّة الآن ، ولكنّها سوف تكون فعليّة في المستقبل الآتي ، هذا مع فرض كون الدم يسيل منها أثناء الشهر ، وكون عادتها بالعدد.

والسؤال هنا : هل مثل هذا العلم الإجمالي منجّز أم لا؟

أمّا المشهور فقد استشكل في منجّزيّة مثل هذا العلم الإجمالي بإشكالين :

الأوّل : أنّ الركن الأوّل مختلّ ؛ لأنّ المرأة في بداية الشهر لا علم إجمالي لها بالتكليف الفعلي ؛ لأنّها إمّا حائض فعلا فالتكليف فعلي ، وإمّا ستكون حائضا في منتصف الشهر مثلا فلا تكليف فعلا ، فلا علم بالتكليف فعلا على كلّ تقدير ، وبذلك يختلّ الركن الأوّل.

الإشكال الأوّل : أنّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو العلم بجامع التكليف ، أو العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير غير موجود في مثل المقام ؛ وذلك لأنّ المرأة المذكورة في المثال إذا التفتت إلى حالها في أوّل الشهر فهي لا تعلم إجمالا بجامع التكليف الفعلي على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّها إن كانت حائضا الآن فالتكليف فعلي بشأنها ، ويحرم عليها المكث في المسجد من الآن ، وإن لم تكن حائضا الآن فلا تكليف عليها ولا حرمة ، بل الحرمة سوف تحدث فيما بعد أي في الأيّام اللاحقة ، وحيث إنّه في كلّ يوم من أيّام الشهر سوف يجري هذا الكلام في حقّها فهي لن تعلم بالحرمة وبالتكليف إلا بعد انتهاء الشهر ، ومثل هذا العلم غير منجّز.

والحاصل : أنّه في بداية الشهر لن يتكوّن لها علم إجمالي بجامع التكليف الفعلي على كلّ تقدير ، وإنّما على بعض التقادير ، وحيث إنّ هذا البعض غير معلوم فتجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

الثاني : أنّ الركن الثالث مختلّ ، أمّا اختلاله بصيغته الأولى فتقريبه : أنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل حرمة المكث فعلا ، وتحتمل حرمة المكث في منتصف الشهر

ص: 388

مثلا ، ولمّا كانت الحرمة الأولى محتملة فعلا ومشكوكة فهي مورد للأصل المؤمّن ، وأمّا الحرمة الثانية فهي وإن كانت مشكوكة ولكنّها ليست موردا للأصل المؤمّن فعلا في بداية الشهر ، إذ لا يحتمل وجود الحرمة الثانية في أوّل الشهر ، وإنّما يحتمل وجودها في منتصفه فلا تقع موردا للأصل المؤمّن إلا في منتصف الشهر ، وهذا يعني أنّ المرأة في بداية الشهر تجد الأصل المؤمّن عن حرمة المكث فعلا جاريا بلا معارض ، وهو معنى عدم التنجيز.

وأمّا اختلاله بصيغته الثانية فلأنّ الحرمة المتأخّرة لا تصلح أن تكون منجّزة في بداية الشهر ؛ لأنّ تنجيز كلّ تكليف فرع ثبوته وفعليّته ، ففي بداية الشهر لا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير.

الإشكال الثاني : أنّ الركن الثالث من أركان المنجّزيّة منهدم بكلتا صيغتيه :

أمّا انهدامه بحسب صياغة المشهور فلأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في الطرف الآتي دون الطرف الاستقبالي ؛ وذلك لأنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل ثبوت التكليف الآن إذا كانت حائض ، ولكنّها لا تعلم بثبوته فعلا بل هو مشكوك ، ولذلك تجري فيه الأصول الترخيصيّة ، وهذه الأصول لا معارض لها ؛ لأنّ ما يتصوّر كونه معارضا لها هو الأصول الترخيصيّة في الطرف الاستقبالي أي في الأيّام القادمة ، إلا أنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري من الآن في ذلك الطرف ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة غايتها والمقصود منها إثبات التأمين والسعة ، والآن لا يوجد شكّ في الحرمة الآتية بل هي مقطوعة العدم الآن ، فلا مورد لجريان الأصول من الآن إذ لا موضوع لها ولا أثر لجريانها ؛ لأنّها تثبت شيئا حاصلا.

نعم ، عند حلول الطرف الآخر سوف تحتمل المرأة ثبوت الحرمة فعلا ، فتجري فيها الأصول الترخيصيّة ، ولا معارض لهذه الأصول في طرف جريانها ؛ لأنّ الطرف الذي قبلها قد انتهى وسقطت معه الأصول الترخيصيّة ، والطرف الآخر لم يأت زمانه بعد فلا حرمة فيه الآن لتجري الأصول الترخيصيّة فيها من الآن وإنّما موردها منوط في ظرف ثبوت التكليف.

والحاصل : أنّ هذه المرأة في بداية الشهر يمكن في حقّها جريان الأصول الترخيصيّة بلحاظ الطرف الأوّل ، أي احتمال الحرمة في هذا اليوم فعلا ، وأمّا بلحاظ الطرف

ص: 389

الآخر أي الحرمة في الأيّام اللاحقة فلا يمكن جريان الأصول الترخيصيّة فيها ؛ لأنّه لا مورد ولا موضوع للأصل بلحاظها ؛ لأنّ الأصل إنّما يجري بلحاظ التأمين عن حرمة محتملة الثبوت ، والآن فعلا لا يحتمل ثبوت الحرمة اللاحقة وإنّما يحتمل ثبوتها فيما بعد ، ولذلك تجري الأصول في هذا الطرف بلا معارض ، وهكذا تفعل في كلّ يوم من أيّام الشهر ، فتكون النتيجة عدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي.

وأمّا انهدامه بحسب صياغة المحقّق العراقي ، فلأنّ العلم الإجمالي لا يصلح لتنجيز معلومه فعلا على كلّ تقدير.

والوجه في ذلك : أنّه في بداية الشهر يحتمل ثبوت الحرمة والتكليف فهذا طرف ، وفي غيره من الأيّام يحتمل ثبوت الحرمة والتكليف وهذا طرف آخر ، وعليه فالمرأة من أوّل الشهر تعلم إمّا بثبوت التكليف في هذا الطرف أي في بداية الشهر ، وإمّا بثبوته في الطرف الآخر أي في آخر الشهر أو وسطه مثلا.

ولكن إذا كان المعلوم في الطرف الأوّل فهو منجّز فعلا فيكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على هذا التقدير ، وأمّا إذا كان المعلوم في الطرف الآخر فهو غير منجّز فعلا فلا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على هذا التقدير.

وعليه ، فيكون العلم الإجمالي دائرا بين تكليفين أحدهما ثابت فعلا والآخر غير ثابت فعلا ، ولذلك لا يكون منجّزا لمعلومه فعلا على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير ، أي على تقدير كون المعلوم في بداية الشهر لا في وسطه أو آخره ؛ لأنّه في هذه الحالة لا يكون صالحا لتنجيزه فعلا ؛ لأنّ ثبوت التكليف فرع فعليّته ، والتكليف ليس فعليّا الآن لو كان المعلوم ثابتا في آخر الشهر أو وسطه ؛ لأنّ الفعليّة فرع تحقّق القيود والشروط ومنها مجيء الزمان فإنّه قيد.

ولذلك سوف تجري الأصول في بداية الشهر بلا محذور ، وهكذا في كلّ يوم من أيّام الشهر.

والصحيح : أنّ الركن الأوّل والثالث كلاهما محفوظان في المقام.

أمّا الركن الأوّل فلأنّ المقصود بالفعليّة في قولنا : ( العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ) ليس وجود التكليف في هذا الآن ، بل وجوده فعلا في عمود الزمان ؛ احترازا عمّا إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر ، فإنّه في مثل

ص: 390

ذلك لا علم بتكليف فعليّ ولو في عمود الزمان ، فالجامع بين تكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليّا في آن متأخّر لا يقصر - عقلا - وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن ؛ لأنّ مولويّة المولى لا تختصّ بهذا الآن كما هو واضح.

والصحيح أنّ هذا العلم الإجمالي منجّز لتماميّة أركانه وعدم اختلال شيء منها لا الأوّل ولا الثالث.

أمّا الركن الأوّل فهو موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ المقصود من الركن الأوّل أي العلم بجامع التكليف الفعلي هو أن يكون هناك تكليف معلوم إجمالا في عمود الزمان ، لا في خصوص هذا الآن من الزمان ليشكل بأنّه في هذا الآن لا علم بالتكليف على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير.

بل المقصود أن يكون هناك تكليف معلوم أو موضوع بتمامه معلوم كذلك ، في مقابل ما إذا لم يكن التكليف معلوما ، وفي مقابل ما إذا كان المعلوم جزء الموضوع لا تمامه ، فإنّه في هذه الحالة لن يكون هناك علم إجمالي بالتكليف الفعلي ؛ لأنّ العلم بجزء الموضوع لا يكفي لثبوت التكليف ما دام الجزء الآخر من موضوعه مجهولا وغير معلوم.

فإذا علم بنجاسة الثوب أو قطعة الحديد فلا علم تكليفي فعلي على كلّ تقدير ؛ لأنّه على تقدير نجاسة الحديدة فلا تكليف فعلا ؛ لأنّها جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو ملاقاة اليد الرطبة لهذه الحديدة.

وأمّا في مقامنا فالتكليف فعلي ، بمعنى أنّ المعلوم إجمالا هو تمام الموضوع للتكليف لا جزؤه فقط ، فالمرأة التي يسيل منها الدم هي نفسها الموجودة في بداية الشهر وفي وسطه وفي آخره ، وهذا الدم هو نفسه مستمرّ من بداية الشهر إلى آخره ، غاية الأمر أنّها تعلم بكون بعض هذا الدم حيضا لا كلّه ، إلا أنّ هذه الأيّام غير مشخّصة فقط ، ولذلك فالتكليف بحرمة المكث في المسجد واحدة في جميع أيّام الشهر ، بمعنى أنّ كلّ يوم يحتمل فيه ثبوت التكليف والحرمة فعلا لكون المعلوم تمام الموضوع لا جزأه ، فالفعليّة بهذا المعنى متحقّقة في مقامنا ، وهي المقصودة من الركن الأوّل لا أكثر.

وعليه ، فكما أنّ العلم الإجمالي بجامع التكليف الفعلي في الآن الواحد من الزمان

ص: 391

منجّز ، فكذلك العلم الإجمالي بجامع التكليف الفعلي في هذا الآن أو في الآن اللاحق منجّز أيضا ، ولا فرق بينهما عقلا في المنجّزيّة ؛ لأنّ العلم فيهما على حدّ واحد ، ووصوله فيهما على نسق واحد أيضا.

إذن الملاك الذي من أجله كان العلم الإجمالي منجّزا موجود فيهما أيضا وهو حقّ الطاعة ، فإنّ حقّ الطاعة يشمل كلّ تكليف وكلّ انكشاف للتكليف سواء كان في هذا الآن أم في الآن الآخر ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة ومولويّة المولى لا تختصّ بالتكليف في هذا الآن ، بل تشمل التكليف الثابت في الآن الآتي أيضا ، إذ لا دليل على هذا الاختصاص بعد أن كان حقّ الطاعة عامّا وشاملا لكلّ احتمال وانكشاف للتكليف.

وبهذا يظهر أنّ الركن الأوّل تامّ ؛ لأنّ هذه المرأة تعلم بجامع التكليف الفعلي الدائر بين هذا الآن أو الآن اللاحق ، فهو فعلي على كلّ التقديرين ؛ لأنّ تمام القيود والشروط وأجزاء الموضوع تامة في التقديرين ، غاية الأمر الفرق بينهما من جهة الزمان فقط ، فأحدهما متقدّم والآخر متأخّر ، وهذا لا يؤثّر في الفعليّة بلحاظ عمود الزمان ككلّ واحد.

وأمّا الركن الثالث بصيغته الأولى فلأنّ الأصل المؤمّن الذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي معارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخّر في ظرفه ؛ إذ ليس التعارض بين أصلين من قبيل التضادّ بين لونين يشترط في حصوله وحدة الزمان ، بل مردّه إلى العلم بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلّ من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زمانا ، وحيث لا مرجّح للأخذ بدليل الأصل في طرف دون طرف فيتعارض الأصلان.

وأمّا الصيغة الثانية للركن الثالث فلأنّ المقصود من كون العلم الإجمالي صالحا لمنجّزيّة معلومه على كلّ تقدير ، كونه صالحا لذلك ولو على امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن.

وأمّا الركن الثالث فهو محفوظ أيضا بكلتا صيغتيه :

أمّا بناء على صياغة المشهور ، فلأنّ الأصل الترخيصي يجري في كلّ الأطراف الآنيّة والاستقباليّة على حدّ واحد ، وجريانه كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة

ص: 392

القطعيّة للمعلوم إجمالا ، ولذلك يقع التعارض بين الأصول لعدم إمكان الأخذ بها جميعا ، ولعدم إمكان ترجيح بعضها على بعض من دون مرجّح.

وما قيل من أنّ الأصل الترخيصي الجاري في الطرف الفعلي لا يعارض الأصل الترخيصي في الطرف الآخر - لأنّه ليس فعليّا الآن في ظرف جريان الأصل الأوّل - غير تامّ ؛ لأنّه مبني على ملاحظة التعارض بين الأصلين بلحاظ نفس الآن الزماني ، مع أنّ التعارض بين الأصلين لا يقصد به ذلك.

بل المراد من التعارض بين الأصلين أنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، وهذا مصطلح للتعارض في باب الأصول يختلف عن مصطلح التعارض في باب المنطق والفلسفة ، فهناك يراد بالتعارض أنّه لا يمكن اجتماع شيئين على موضوع واحد من جهة واحدة في زمان واحد كالسواد والبياض ، والعلم والجهل ، والموت والحياة ، ولذلك يشترط ملاحظة الآن الزماني وكونه واحدا ليحصل التعارض.

وأمّا هنا فالمراد من التعارض بين الأصلين العمليّين الترخيصيّين أنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ، ولا يمكن للدليل أن يشمل كلا الموردين معا ، سواء كانا في زمان واحد أم كان أحدهما متقدّما والآخر متأخّرا ؛ لأنّ عدم الإمكان واستحالة شمول الدليل لهما لا يفرّق فيها بين أنحاء وجودهما وزمانهما.

فإذا كان دليل البراءة مثلا غير شامل للطرف الآني والطرف الاستقبالي لاستلزامه المخالفة القطعيّة ، فلا يضرّ في ذلك كون أحدهما فعليّا والآخر منوطا بزمان مستقبل ؛ لأنّ الملاك موجود على كلّ تقدير.

وحينئذ لا يشترط وحدة الآن الزماني في الأصلين ، بل المناط على أنّه هل يشملهما الدليل أم لا؟ والمفروض أنّ شموله لهما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، فلا يشملهما إذن.

وعليه ، فيجري الأصل في هذا الطرف الآني الفعلي ، ويتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الاستقبالي والذي يكون فعليّا بمجيء زمانه ، ومقتضى التعارض التساقط ، فيكون العلم منجّزا للطرفين.

وأمّا بناء على صياغة المحقّق العراقي فلأنّ المقصود من الركن الثالث عنده - والذي

ص: 393

مفاده أن يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير - هو أن يكون العلم قادرا على تنجيز المعلوم في الطرفين بلحاظ عمود الزمان ، ولا يشترط أن يكون منجّزا لمعلومه في الطرفين بلحاظ نفس الآن الزماني.

وعليه ، ففي مقامنا يكون العلم الإجمالي بوجود أيّام حيض ضمن أيّام الشهر صالحا لتنجيز الأيّام في بداية الشهر وفي وسطه وفي آخره ، كلّ طرف منها بحسب خصوصيّاته الزمانيّة ، فهو ينجّز الجميع من الآن ، غاية الأمر أنّ هذا الطرف زمانه الآن وذاك زمانه وسط الشهر والآخر زمانه آخر الشهر ، فالزمان ليس قيدا لمنجّزيّة العلم بل هو شرط لفعليّة المنجّز ، وهذا يفترض كون الشيء منجّزا قبل مجيء زمانه ، ومنجّزه هنا ليس إلا العلم الإجمالي.

والحاصل : أنّه على تقدير كون الأيّام الأولى هي الحيض فالحرمة ثابتة ، وعلى تقدير كون الأيّام في الوسط أو في الآخر هي الحيض فالتكليف ثابت ، فالعلم الإجمالي بوجود أيّام حيض صالح لتنجيز معلومه على جميع التقادير فيجب الاجتناب عن الجميع.

وهكذا يتّضح أنّ الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات موهونة جدّا ، غير أنّ جماعة من الأصوليّين وقعوا تحت تأثيرها ، فذهب بعضهم (1) إلى عدم التنجيز ورخّص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام الطرف الآخر متأخّرا.

وبهذا ظهر أنّ الإشكالين المذكورين لمنع منجّزيّة العلم الإجمالي وسقوطه رأسا أو عن المنجّزيّة لا يتمّ شيء منهما ، فالصحيح أنّ العلم الإجمالي في التدريجيّات منجّز للطرف الآني الفعلي وللاستقبالي المتأخّر زمانا.

إلا أنّ بعض الأصوليين تأثّروا بهذه الشبهات والإشكالات ، ممّا أدّى بهم الأمر إلى إنكار وجود علم إجمالي أصلا أو إلى سقوطه عن المنجّزيّة ، وبالتالي جوّزوا ارتكاب الطرفين الفعلي الآني والطرف الآخر حين حلول زمانه ، وهذا ما حصل للشيخ الأنصاري مثلا في خصوص المقام ، وكذلك صاحب ( الكفاية ) الذي ذهب إلى عدم المنجّزيّة مطلقا لا في خصوص المرأة الحائض.

ص: 394


1- منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 2 : 248 - 249.

وذهب البعض الآخر إلى عدم الترخيص بإبراز علم إجمالي بالجامع بين طرفين فعليّين ، كالمحقّق العراقي (1) ، إذ أجاب على شبهات عدم التنجيز بوجود علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف.

وتوضيحه : أنّ التكليف إذا كان في القطعة الزمانيّة المعاصرة فهو تكليف فعلي ، وإذا كان في قطعة زمانيّة متأخّرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلي ؛ لما يعرف من مسألة وجوب المقدّمات المفوّتة من عدم جواز تضييع الإنسان لقدرته قبل مجيء ظرف الواجب ، وهكذا يعلم إجمالا بالجامع بين تكليفين فعليّين فيكون منجّزا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي ذهب إلى التنجيز في المقام من باب آخر ، أي أنّه اعترف بأنّ نفس هذا العلم الإجمالي الدائر بين طرفين أحدهما فعلي والآخر استقبالي لا يكون منجّزا ؛ لما تقدّم من الإشكالين.

إلا أنّه أبرز هنا وجود علم إجمالي آخر دائر بين طرفين يكون التكليف فيهما فعليّا ، ويكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه فيه على كلا التقديرين.

وحاصله أن يقال : إنّ المرأة المذكورة في المثال في بداية الشهر تعلم إمّا بثبوت التكليف فعلا ؛ بأن كانت هذه الأيّام هي أيّام العادة ، وإمّا بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الثابت في الأيّام الأخرى على تقدير كون أيّام العادة في تلك الأيّام لا هذه ، ووجوب حفظ القدرة وجوب نفسي فعلي ، فيكون العلم دائرا بين تكليفين فعليّين أحدهما حرمة المكث في المسجد فعلا على تقدير كون هذه الأيّام هي أيّام الحيض ، والآخر وجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي على تقدير كون الأيّام الآتية هي أيّام العادة ، وهذا العلم منجّز إذ العلم بجامع التكليف موجود ، وهذا العلم قادر على تنجيز معلومه على كلّ تقدير.

وهذا مبني على المبنى القائل بوجوب المقدّمة المفوّتة ولزوم حفظ القدرة وعدم التعجيز إلى حين مجيء زمان الواجب ، كالسفر للوقوف في عرفة ، وكالاغتسال من الجنابة قبل الفجر لصحّة الصوم.

ص: 395


1- نهاية الأفكار 3 : 324 - 325.
ونلاحظ على هذا :

أوّلا : أنّ التنجيز ليس بحاجة إلى إبراز هذا العلم الإجمالي ؛ لما عرفت من تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات.

ويلاحظ على هذا التقريب ثلاثة أمور :

الأوّل : أنّ هذا العلم الإجمالي لا حاجة له مع كون العلم الإجمالي السابق الدائر بين التكليفين الفعلي والاستقبالي منجّزا للطرفين لتماميّة أركانه الأربعة ، وعدم صحّة شيء من الإشكالات الواردة عليه كما تقدّم سابقا ، فيكون هذا العلم منجّزا لما هو منجّز وتحصيلا للحاصل.

هذا على فرض التسليم بوجود مثل هذا العلم الإجمالي وعلى فرض كونه منجّزا لأطرافه.

وثانيا : أنّ وجوب حفظ القدرة إنّما هو بحكم العقل كما تقدّم في مباحث المقدّمة المفوّتة ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف فرع تنجّز ذلك التكليف ، فلا بدّ في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجّز للتكليف الآخر ، ولا منجّز له كذلك إلا العلم الإجمالي في التدريجيّات.

الإيراد الثاني : أنّ وجوب حفظ القدرة من أجل امتثال التكليف حكم عقلي لا شرعي ، بمعنى أنّ العقل يحكم بذلك فيما إذا كان هناك تكليف واجب الامتثال والإطاعة ، وأمّا إذا لم يكن لدينا تكليف ثابت وواجب الإطاعة فلا يحكم العقل بوجوب حفظ القدرة له.

فمثلا وجوب السفر إلى مكّة والذي هو مقدّمة لحفظ القدرة الواجبة من أجل الوقوف في عرفة في زمانه المعيّن ، إنّما يحكم به العقل بعد اشتغال ذمّة المكلّف بالحجّ ، وكونه مستطيعا لذلك ، وأمّا إذا لم تشتغل ذمّته بذلك فلا معنى لحكم العقل المذكور.

ووجوب الاغتسال قبل الفجر إنّما يجب من باب وجوب حفظ القدرة لأجل اشتغال الذمّة بالصوم ، وأمّا إذا لم تشتغل الذمّة بالصوم كالمسافر والمريض فلا يجب عليهما الاغتسال.

وعلى هذا ففي مقامنا وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الذي سوف

ص: 396

يحدث فيما بعد فرع كون هذا التكليف ثابتا وفعليّا ومنجّزا على المكلّف ، إذ لو لم يكن منجّزا فلا معنى لحكم العقل بوجوب حفظ القدرة على امتثاله.

وهذا يعني أنّه في المرتبة السابقة على حكم العقل المذكور لا بدّ أن يكون التكليف الاستقبالي منجّزا ، وحينئذ نسأل عن المنجّز لهذا التكليف.

والجواب واضح : وهو أنّه لا يوجد منجّز لهذا التكليف إلا العلم الإجمالي السابق الدائر بين التكليفين الفعلي والاستقبالي ، فإن كان هو المنجّز كفى ذلك عن العلم الإجمالي الجديد ، إذ لا فائدة له ؛ لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو لغو ، وإن لم يكن هو المنجّز كان التكليف الاستقبالي غير منجّز على المكلّف ، إذن فما هو الداعي لوجوب حفظ القدرة على امثاله ما دام غير منجّز؟!

والحاصل : أنّه إن كان هناك تكليف منجّز كان وجوب حفظ القدرة ثابتا ، وإن لم يكن التكليف منجّزا لم يكن وجوب حفظ القدرة ثابتا ، فعلى الأوّل يكفي المنجّز السابق وهو العلم الإجمالي بين التكليفين الفعلي والاستقبالي ، وعلى الثاني لا داعي للعلم الإجمالي اللاحق إذ لا أثر له.

وثالثا : أنّ المنجّز إذا كان هو العلم الإجمالي بالجامع بين التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال التكليف المتأخّر ، فهو لا يفرض سوى عدم تفويت القدرة ، وأمّا تفويت ما يكلّف به في ظرفه المتأخّر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي ، وإنّما يتعيّن تنجّز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيّات ، وهو إن كان منجّزا لذلك ثبت تنجيزه لكلا طرفيه.

الإيراد الثالث : أنّ العلم الإجمالي المذكور لو سلّم فهو إنّما ينجّز طرفيه فقط ، وهما وجوب التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة ، بينما المطلوب لنا تنجيز التكليف الفعلي والتكليف الاستقبالي أيضا ، ولذلك لم يكن هذا العلم الإجمالي مفيدا ؛ لأنّه لا يحقّق الغرض المطلوب.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي المذكور ينجّز لنا حرمة المكث في المسجد فعلا ووجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي ، وأمّا نفس التكليف الاستقبالي فهو ليس منجّزا بنفس هذا العلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس طرفا له ؛ لأنّ طرفه هو وجوب حفظ القدرة ، ولذلك إمّا أن يكون منجّزا أو ليس منجّزا ، فإن لم يكن منجّزا فلا يفيدنا

ص: 397

وجوب حفظ القدرة حتّى على القول بوجوبها في هذا الفرض ؛ لأنّه يجوز للمكلّف عدم امتثاله ؛ إذ ذمّته بحسب الفرض ليست مشتغلة به ، وإن كان منجّزا فنسأل عمّا هو المنجّز له؟

والجواب : أنّه لا منجّز له إلا العلم الإجمالي بالتدريجيّات ؛ إذ لا يوجد غيره بعد عدم كون العلم الإجمالي الجديد منجّزا له.

وحينئذ لا داعي لهذا العلم الجديد ما دام التكليف الاستقبالي قد تنجّز بنفس العلم الإجمالي السابق ؛ لأنّه لن يكون له فائدة ولا أثر.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي بالتدريجيّات منجّز لطرفيه (1).

10 - الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي :

قد يكون الطرفان للعلم الإجمالي طوليّين ، بأن كان أحد التكليفين مترتّبا على عدم الآخر ، من قبيل أن نفرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب وفاء الدين ، وعلم إجمالا بأحد الأمرين. وهذا له صورتان :

الأولى : أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب وفاء الدين ولو بالأصل.

الثانية : أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا.

الحالة العاشرة : الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي.

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي في طول الآخر ، أي مترتّب على عدم الآخر ، فهذا العلم الإجمالي يكون دائرا بين تكليفين طوليّين لا عرضيّين.

فمثلا إذا علم بنجاسة أحد الإناءين كان كلّ منهما في عرض الآخر وثابتا على

ص: 398


1- إلا أنّ هذا الردّ يمكن الإجابة عنه ؛ وذلك لأنّ وجوب حفظ القدرة معناه عدم جواز الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تفويت الامتثال ، وهذا لازمه أنّ المرأة ممنوعة عن إيجاد أي عمل من هذا القبيل ، فحين مجيء زمان التكليف ويصبح فعليّا في وقته تكون ممنوعة لا عن مخالفته ابتداء ليقال : ما هو المنجّز لذلك؟ بل تكون ممنوعة عن إيجاد سائر المقدّمات المؤدّية إلى ذلك بحكم وجوب حفظ القدرة. فالصحيح في الإشكال هو ما تقدّم ثانيا ؛ لأنّ الأوّل مبني على عدم تماميّة شيء من الإشكالات ، وفرض الكلام هنا بعد التسليم بتماميّتها.

فرض ثبوت الآخر ، وعلى فرض عدمه ، وهذا هو العلم الإجمالي الدائر بين تكليفين عرضيّين.

وأمّا إذا علم إمّا بوجوب الحجّ وإمّا بوجوب الوفاء بالدين ، فمثل هذا العلم الإجمالي دائر بين تكليفين طوليّين ؛ وذلك لأنّ وجوب الحجّ مختصّ بالمستطيع ومن شروط الاستطاعة ألاّ يكون مدينا بدين حالّ ومستحقّ المطالبة به ، فإذا حصل له مال يفي بالاستطاعة فسوف يكون وجوب الحجّ فعليّا عليه ، ولكن نفرض هنا أنّ عليه دينا بهذا المقدار من المال وهو حالّ ويستحق المطالبة به ، وحيث إنّه لا يعلم بثبوت الدين قطعا ولا بعدمه فهو سوف يحتمل وجوب الحجّ وعدمه أيضا ، ولذلك يتكوّن لديه علم إجمالي إمّا بوجوب الوفاء بالدين فعلا لو كان مدينا ، وإمّا بوجوب الحجّ فعلا لو لم يكن مدينا والمفروض أنّ وجوب الحجّ في طول الوفاء بالدين ثبوتا ونفيا.

فهل مثل هذا العلم الإجمالي منجّز أيضا أم لا؟

والجواب : أنّه يوجد لدينا صورتان لطوليّة وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالدين :

الصورة الأولى : أن يكون وجوب الحجّ في طول التأمين عن وجوب وفاء الدين ، أي أنّه إذا ثبت عدم وجوب الوفاء بالدين بأي نحو من الأنحاء سواء بالأصل العملي أم بالأمارة أم بالقطع ، فسوف يثبت وجوب الحجّ ، فيكون وجوب الحجّ مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب الوفاء بالدين الأعمّ من التأمين الواقعي أو التأمين الظاهري الثابت بالأمارة أو الأصل.

الصورة الثانية : أن يكون وجوب الحجّ في طول انتفاء وجوب الوفاء بالدين واقعا ، أي أنّه في طول القطع بعدم وجوب الوفاء بالدين ، فلا تكفي الأمارة أو الأصل ومطلق التأمين ، بل لا بدّ من التأمين الواقعي الملازم للقطع بعدم وجوب الوفاء بالدين.

أمّا الصورة الأولى : فليس العلم الإجمالي منجّزا فيها بلا ريب ؛ لانهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل المؤمّن عن وجوب وفاء الدين يجري ولا يعارضه الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ وجوب الحجّ يصبح معلوما بمجرّد إجراء البراءة عن وجوب الوفاء ، فلا موضوع للأصل فيه.

أمّا الصورة الأولى : وهي أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا وفي طول التأمين عن وجوب وفاء الدين بأي نحو من أنحاء التأمين الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فهنا لا

ص: 399

يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ وذلك لانهدام الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة الجارية عن وجوب وفاء الدين لن تتعارض مع الأصول الترخيصيّة عن وجوب الحجّ ؛ لأنّها لا مورد لجريانها للتأمين عن وجوب الحجّ أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا جرى الأصل الترخيصي عن وجوب وفاء الدين سوف يثبت لنا التأمين الظاهري من ناحية وجوب الوفاء بالدين ، وحينئذ سوف يتنقّح موضوع وجوب الحجّ ؛ لأنّه مركّب من الاستطاعة وهي حاصلة وجدانا ، ومن عدم وجوب الدين وهو حاصل تعبّدا ، فإذا ثبت الموضوع صار وجوب الحجّ معلوما ومقطوعا به ، ولا شكّ فيه لكي يجري الأصل الترخيصي للتأمين عنه ؛ إذ لا مورد ولا موضوع للأصل ؛ لأنّ المورد مورد العلم لا الشكّ.

وبهذا يتّضح أنّ الأصول تجري بلا معارض للتأمين عن وجوب وفاء الدين فلا يجب الوفاء به ، وإنّما يجب الحجّ فعلا ، وهذا معناه الانحلال الحقيقي وسريان العلم من الجامع إلى الفرد ؛ لأنّ الأصل يحقّق الموضوع وجدانا.

ولا يقال : لما ذا لا تجري الأصل الترخيصي عن وجوب الحجّ أوّلا؟ فإنّ جريانه يتعارض مع جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بالدين ، ومقتضى التعارض التساقط وبقاء المنجّزيّة.

لأنّه يقال : إنّ الأصل الترخيصي عن وجوب الحجّ لا أثر شرعي له ؛ لأنّ الأصل إنّما يجري للتأمين عن التكليف الثابت والمنجّز ، والمفروض أنّ وجوب الحجّ ليس ثابتا إلا بعد انتفاء وجوب الوفاء بالدين ، وهذا الوجوب لا يمكن نفيه بالأصل الجاري في وجوب الحجّ ؛ لأنّه متقدّم على وجوب الحجّ ومطلق من ناحيته ، ولذلك لا يكون للأصل مورد بلحاظه.

فإن قيل : هذا يتمّ بناء على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، واستناد عدم جريان الأصل في بعض الأطراف إلى التعارض. فما هو الموقف بناء على علّيّة العلم الإجمالي واستحالة جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ولو لم يكن له معارض؟

قد يقال : إنّ عدم منجّزيّة العلم الإجمالي وانهدام الركن الثالث إنّما يتمّ بناء على مسلك المشهور القائل باقتضاء العلم الإجمالي لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ، فإنّه

ص: 400

على هذا المسلك يكون التنجيز فرع تعارض الأصول الترخيصيّة ، وأمّا إذا لم تتعارض فلا منجّزيّة ، ولذلك يكون جريانها في بعض الأطراف دون البعض الآخر مانعا من منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة القائل بأنّ العلم الإجمالي نفسه علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ، ولا علاقة لذلك بتعارض الأصول وعدم تعارضها ، فهنا حتّى لو جرت الأصول في بعض الأطراف من دون تعارض ، فهذا لن يؤثّر على علّيّة العلم الإجمالي ، بل إنّ علّيّته تمنع حتّى من جريان الأصل في الطرف الواحد. فعلى هذا المبنى لا مبرّر لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعيّة حتّى لو لم تتعارض الأصول ، فهل يلتزم ببقاء المنجّزيّة على هذا المسلك أو يقال بسقوطها؟ وما هو ملاك السقوط حينئذ؟

والجواب : أنّ هذه الاستحالة إنّما هي باعتبار العلم الإجمالي ، ويستحيل في المقام أن يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الاصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ؛ لأنّه متوقّف على عدم جريانه ، إذ بجريانه يحصل العلم التفصيلي بوجوب الحجّ ، وينحلّ العلم الإجمالي ، وما يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه ، فالأصل يجري إذن حتّى على القول بالعلّيّة.

والجواب عن ذلك : أنّ استحالة جريان الأصل الترخيصي حتّى في الطرف الواحد بناء على مسلك العلّيّة إنّما هي لأجل وجود العلم الإجمالي ، أي أنّه إذا ثبت العلم الإجمالي كان علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، فيستحيل جريان الأصل سواء في الطرفين أم في أحدهما.

والوجه في ذلك : أنّه يلزم التناقض والتفكيك بين العلّة والمعلول ، أو يلزم رفع اليد عن حكم العقل مع وجود موضوعه ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ الأحكام العقليّة لا تخصّص ولا تقيّد ، بل هي تابعة وجودا وعدما لثبوت موضوعها وعدمه.

وفي مقامنا نقول : إنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقّف على عدم جريان الأصل الترخيصي للتأمين عن وجوب وفاء الدين ، أي أنّ الأصل إذا جرى فسوف يتنقّح موضوع وجوب الحجّ ، ويحصل الانحلال الحقيقي إلى علم تفصيلي قطعي بوجوب الحجّ وشكّ بدوي في وجوب الوفاء بالدين ، وإذا لم يجر الأصل الترخيصي كذلك

ص: 401

كان كلّ واحد من التكليفين محتملا ، فيكون العلم الإجمالي ثابتا وعلّة لوجوب الموافقة القطعيّة لكلا التكليفين.

ولذلك يستحيل أن يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الأصل الترخيصي للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين ؛ لأنّ المفروض أنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقّف على عدم جريانه ؛ لأنّه إذا جرى الأصل انحلّ العلم الإجمالي كما ذكرنا.

وهنا نطبّق القاعدة القائلة بأنّ ما يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه ؛ لأنّ مانعيّته عنه فرع ثبوته أوّلا ، والمفروض أنّ ثبوته متوقّف على عدم ذلك الشيء.

فهناك طوليّة بين ثبوت العلم الإجمالي ، وبين عدم جريان الأصل للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين ، فالأوّل في طول الثاني ، فإذا كان كذلك فلا يثبت العلم الإجمالي مع جريان الأصل ، بل يثبت بعد فرض سقوط الأصل ، إلا أنّ العلم الإجمالي نفسه لا يمكنه إسقاط الأصل ؛ لأنّ ثبوت هذا العلم موقوف على عدم الأصل في رتبة سابقة ، ومانعيّته عنه تقتضي ثبوته أوّلا ثمّ إسقاطه للأصل والذي يعني أنّ الأصل كان موجودا ، وهذا لازمه اجتماع العلم الإجمالي والأصل ، وهذا خلف الطوليّة بينهما وخلف توقّف العلم الإجمالي على عدم الأصل.

وأمّا الصورة الثانية : فيجري فيها أيضا الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ، ولا يعارض بالأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ ذلك ينقّح بالتعبّد موضوع وجوب الحجّ فيعتبر أصلا سببيّا بالنسبة إلى الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي.

وأمّا الصورة الثانية : أي أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، فهو في طول انتفائه الواقعي لا الظاهري فقط ، فهنا أيضا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لاختلال ركنه الثالث.

وتوضيحه : أنّ الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين يجري بلا معارض ؛ لأنّ الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الحجّ لا يجري.

والوجه في ذلك : أنّ الأوّل حاكم على الثاني ؛ لأنّ الأصل الأوّل سببي والأصل الثاني مسبّبي ، وقد تقدّم سابقا وسيأتي في باب التعارض ، أنّ الأصل السببي يتقدّم

ص: 402

على الأصل المسبّبي إمّا للحكومة كما هي مقالة المشهور ، وإمّا للقرينيّة العرفيّة كما هو المختار.

وأمّا كون الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين سببيّا ومقدّما على الأصل الجاري عن وجوب الحجّ ؛ فلأنّه إذا جرى هذا الأصل سوف يتنقح به موضوع وجوب الحجّ تعبّدا لا وجدانا ؛ لأنّ موضوع وجوب الحجّ أخذ فيه عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، فإذا جرى الأصل لنفي وجوبه ثبت بالملازمة عدم وجوبه واقعا ، إلا أنّ هذا الثبوت تعبّدي كما هو واضح لا وجداني وحقيقي ، ولذلك يكون حاكما ومقدّما ؛ لأنّه ينظر إلى موضوع الأصل الثاني ويثبته بالملازمة ، ومع ثبوته كذلك يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصل السببي يجري فقط دون أن يجري الأصل المسبّبي كما تقدّم في مبحث جريان الأصل في الطرف الواحد بلا معارض.

هذا إذا كان الأصل أصلا تنزيليّا أو محرزا كالاستصحاب ، لا أصلا عمليّا بحتا كالبراءة ؛ إذ لو كان أصلا عمليّا بحتا لكان التعارض ثابتا بين الأصلين ولكان العلم منجّزا.

وهكذا نعرف أنّ حكم الصورتين عمليّا واحد ، ولكنّهما يختلفان في أنّ الأصل في الصورة الأولى بجريانه في وجوب الوفاء يحقّق موضوع وجوب الحجّ وجدانا ويوجب انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.

ومن هنا كان وجود العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريانه كما عرفت.

وهكذا يتّضح لنا أنّ العلم الإجمالي الدائر بين طرفين طوليّين ساقط عن المنجّزيّة في كلتا الصورتين ، أي سواء كان الترتّب والطوليّة بينهما بلحاظ الواقع أم بلحاظ الأعمّ من الواقع والظاهر ، فالنتيجة العمليّة فيهما واحدة وهي عدم التنجيز.

إلا أنّ الصورتين تختلفان عن بعضهما في تصوير سقوط هذا العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، فالصورة الأولى لا منجّزيّة ؛ لأنّ العلم الإجمالي منحلّ حقيقة بالعلم التفصيلي ، بينما في الصورة الثانية لا منجّزيّة من أجل انهدام الركن الثالث ، وتوضيح ذلك أن يقال :

أمّا في الصورة الأولى حيث كان أحدهما مترتّبا على عدم الآخر ولو ظاهرا ، فكان جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء بالدين محقّقا وجدانا وحقيقة لموضوع

ص: 403

وجوب الحجّ المأخوذ فيه عدم وجوب الوفاء بالدين ولو ظاهرا ، أي أنّ هذا الأصل يوجد الموضوع حقيقة فيكون واردا ، والورود ينظر إلى الفرد الواقعي ، ومع ثبوت الموضوع يثبت لنا وجوب الحجّ قطعا ، فيعلم تفصيلا بوجوب الحجّ ، وحينئذ يتحقّق الانحلال الحقيقي للعلم التفصيلي بوجوب الحجّ والشكّ البدوي في وجوب الوفاء بالدين والذي كان مجرى للأصل المؤمّن.

ولهذا قلنا : إنّ العلم الإجمالي هنا لا يمكنه المنع عن جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء بالدين حتّى على مسلك العلّيّة ؛ لأنّ مانعيّته كذلك فرع ثبوته وثبوته فرع سقوط الأصل في مرتبة سابقة بمسقط آخر ، هذا في الصورة الأولى.

وأمّا في الصورة الثانية فلا يحقّق ذلك ؛ لأنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب الوفاء واقعا ، وهو غير محرز وجدانا ، وإنّما يثبت تعبّدا بالأصل دون أن ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحجّ ، ولهذا لا يكون جريان الأصل في الصورة الثانية موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون وجود العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريانه.

ومن أجل ذلك قد يقال هنا بعدم جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء على القول بالعلّيّة ؛ لأنّ مانعيّة العلم الإجمالي عن جريانه ممكنة ؛ لعدم توقّف العلم الإجمالي على عدم جريانه.

وأمّا في الصورة الثانية حيث كان وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب الوفاء بالدين واقعا ، فلا يكون جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء محقّقا لموضوع وجوب الحجّ وجدانا وحقيقة ؛ لأنّ موضوع وجوب الحجّ هو عدم وجوب الوفاء واقعا وهذا غير محرز ؛ لأنّ الأصل يثبت لنا الظاهر فقط.

ولذلك لن يحصل لنا علم تفصيلي بوجوب الحجّ ، بل يحصل لنا علم تعبّدي بوجوبه ، والعلم التعبّدي لا يوجب الانحلال الحقيقي كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الانحلال أمر واقعي تابع لعلّته وسببه الواقعي ، ومجرّد التعبّد بالمعلول لا يثبت ولا يستلزم التعبّد بالعلّة ؛ لأنّ دليل التعبّد يتحدّد بالمقدار المدلول عليه بالدليل والخطاب ، وهو لا يثبت أكثر من التعبّد بوجود المعلول.

وعليه لا يكون هناك انحلال حقيقي ولا انحلال تعبّدي أو تعبّد بالانحلال ؛ إذ لا

ص: 404

محصّل لذلك كما تقدّم ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريان الأصل ، أي أنّ العلم الإجمالي ثابت سواء جرى الأصل أم لا ، فإنّ جريان الأصل لا يوجب زوال العلم الإجمالي وانحلاله.

وهذا فارق بين الصورتين ، ويترتّب على هذا الفارق أمر آخر ، وهو : أنّه بناء على مسلك الاقتضاء سوف يكون سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بسبب اختلال ركنه الثالث ؛ لأنّ الأصل في أحدهما يجري بلا معارض لأنّه سببي والآخر مسبّبي ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي ؛ لأنّه ينقّح الموضوع للآخر ، فيكون داخلا في القاعدة الكلّيّة المتقدّمة سابقا من جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة فإنّ جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض لا تأثير له ما دام العلم الإجمالي موجودا وثابتا ؛ لأنّ وجود العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة فيمنع من جريان الأصول الترخيصيّة سواء في الطرفين أم في الطرف الواحد أيضا.

ولذلك يكون العلم الإجمالي هنا مانعا من جريان هذا الأصل فتبقى المنجّزيّة على حالها ، والنكتة في ذلك هي أنّ العلم الإجمالي في هذا الفرض ليس متوقّفا على عدم جريان الأصل ليقال : إنّه مع جريان الأصل يسقط العلم الإجمالي ، بل يجتمع العلم الإجمالي مع الأصل ويكون مانعا من جريانه لعلّيّته المذكورة.

وهذا فارق آخر بين الصورتين ، فإنّ الصورة الأولى كان سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة تامّا على المسلكين أي الاقتضاء والعلّيّة ، بينما في الصورة الثانية يسقط بناء على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلّيّة.

وهناك فارق آخر بين الصورتين ، وهو : أنّه في الصورة الأولى يجري الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء سواء كان تنزيليّا أم لا ، ويحقّق على أي حال موضوع وجوب الحجّ وجدانا.

وأمّا في الصورة الثانية فإنّما يجري إذا كان تنزيليّا ، بمعنى أنّ مفاده التعبّد بعدم التكليف المشكوك واقعا ؛ وذلك لأنّ الأصل التنزيلي هو الذي يحرز لنا تعبّدا موضوع وجوب الحجّ ، فيكون بمثابة الأصل السببي بالنسبة إلى الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، وأمّا الأصل العملي البحت فلا يثبت به تعبّدا العدم الواقعي

ص: 405

لوجوب الوفاء ، فلا يكون حاكما على الأصل الجاري في الطرف الآخر بل معارضا.

وهناك فارق آخر بين الصورتين وهو : أنّه في الصورة الأولى حيث كان وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب الوفاء ولو ظاهرا ، فالأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء لا يشترط فيه أن يكون أصلا تنزيليّا ، بل يجري فيه أيضا الأصل العملي البحت كالبراءة ؛ لأنّ مفاد كلا الأصلين هو النفي الظاهري لوجوب الوفاء ، وهذا هو موضوع وجوب الحجّ ، فكلاهما يحقّقان الموضوع وجدانا وحقيقة ، وبالتالي يثبت الانحلال الحقيقي ؛ لأنّه سوف يعلم بوجوب الحجّ تفصيلا.

وأمّا في الصورة الثانية حيث كان وجوب الحجّ متوقّفا على عدم وجوب الوفاء واقعا ، فالأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء - بناء على مسلك الاقتضاء - إنّما يكون حاكما ومقدّما وأصلا سببيّا بالنسبة للأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، فيما إذا كان هذا الأصل تنزيليّا كالاستصحاب ، لا أصلا عمليّا بحتا كالبراءة ونحوها ؛ وذلك لأنّ كونه حاكما وسببيّا يعني أنّه يعبّدنا بثبوت الموضوع الواقعي ظاهرا ، لا أنّه ينفي وجوب الوفاء ظاهرا فقط ، بل لا بدّ أن يكون ناظرا إلى الواقع أيضا ، وهذا النظر إلى الواقع لا يكون إلا في الأصل التنزيلي ؛ لأنّ فيه حيثيّة الكشف عن الواقع دون الأصل العملي المحض ، فإنّه لا ينظر إلى الواقع بل يحدّد الوظيفة العمليّة فقط.

ولذلك فإذا كان الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين تنزيليّا كالاستصحاب ثبت به مضافا إلى نفي وجوب الوفاء ظاهرا ، أنّ هذا الوجوب غير ثابت في الواقع تعبّدا ، أي أنّه يعبّدنا وينزّل لنا المستصحب منزلة الواقع ، فعدم الوجوب للوفاء المستصحب عدم الوجوب واقعا بالتعبّد ، ولذلك يتنقّح موضوع وجوب الحجّ تعبّدا لا وجدانا ولذلك يكون حاكما وأصلا سببيّا.

وأمّا إذا كان الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء أصلا بحتا كالبراءة ، فهي لا تثبت إلا عدم وجوب الوفاء فقط ، ولا تنظر إلى الواقع أصلا ، ولذلك لا تعبّدنا البراءة بأنّ وجوب الوفاء منتف واقعا ، بل غاية لسانها أنّ الموقف العملي تجاه هذا الوجوب المشكوك كالموقف العملي فيما لو لم يكن ثابتا ، أي أنّه مؤمّن من ناحيته فقط.

ومن أجل ذلك لا يكون الأصل العملي البحت الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء

ص: 406

حاكما على الأصل العملي الجاري للتأمين عن وجوب الحجّ ؛ لأنّه لا ينظر إليه ولا ينقّح موضوعه ، ولذلك لا يكون أصلا سببيّا ، وإنّما يكون معارضا له ومقتضى التعارض التساقط وبقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته.

تلخيص للقواعد الثلاث :

خرجنا حتّى الآن بثلاث قواعد : فالقاعدة العمليّة الأولى قاعدة عقليّة وهي أصالة الاشتغال على مسلك حقّ الطاعة ، والبراءة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والقاعدة العمليّة الثانية الحاكمة هي البراءة الشرعيّة.

والقاعدة العمليّة الثالثة هي منجّزيّة العلم الإجمالي ، أي تنجّز الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي وعدم جريان البراءة عنه.

* * *

ص: 407

ص: 408

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

اشارة

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

2 - دوران الأمر بين المحذورين :

ص: 409

ص: 410

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

2 - دوران الأمر بين المحذورين :

حتّى الآن كنّا نتكلّم عن الشكّ في التكليف ، وما هي الوظيفة العمليّة المقرّرة فيه عقلا أو شرعا ، سواء كان شكّا بدويّا أو مقرونا بالعلم الإجمالي ، إلا أنّنا كنّا نقصد بالشكّ في التكليف الشكّ الذي يستبطن احتمالين فقط ، وهما :

احتمال الوجوب واحتمال الترخيص ، أو احتمال الحرمة واحتمال الترخيص.

والآن نريد أن نعالج الشكّ الذي يستبطن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة معا ، وهذا الشكّ تارة يكون بدويّا أي مشتملا على احتمال ثالث للترخيص أيضا ، وأخرى يكون مقرونا بالعلم الإجمالي بالجامع بين الوجوب والحرمة ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا مبحثان كما يأتي إن شاء اللّه تعالى :

تكلّمنا سابقا عن حالتين من حالات الشكّ ، إحداهما الشكّ البدوي والأخرى الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، وعرفنا الوظيفة المقرّرة في كلتا الحالتين سواء كانت حكما شرعيّا أم حكما عقليّا.

إلا أنّ الكلام السابق كان في موارد الشكّ في التكليف الدائر بين احتمال الوجوب أو الحرمة من جهة وبين احتمال الترخيص والإباحة من جهة ثانية.

وأمّا هنا فسوف نبحث عن الحكم والوظيفة فيما إذا كان الشكّ في التكليف دائرا بين احتمال الوجوب والحرمة معا ، وهذا النحو من الشكّ فيه صورتان :

الأولى : أن يكون الشكّ في الوجوب والحرمة بدويّا بمعنى أنّه يحتمل الوجوب أو الحرمة أو الترخيص ، ويسمّى بالشكّ البدوي في الوجوب والحرمة.

ص: 411

الثانية : أن يكون الشكّ في الوجوب والحرمة مقرونا بالعلم الإجمالي بجامع التكليف بينهما ، بأن يعلم بالإلزام ويشكّ في كونه وجوبا أو تحريما ، فهاهنا لا احتمال للترخيص ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة هو الشكّ المشتمل على احتمال الوجوب واحتمال الحرمة واحتمال الترخيص ، وسندرس حكمه بلحاظ الأصل العملي العقلي ، وبلحاظ الأصل العملي الشرعي.

الصورة الأولى : ما اذا كان الشكّ في الوجوب والحرمة بدويّا ، أي كان احتمال الوجوب واحتمال الحرمة مشتملا أيضا على احتمال الترخيص والإباحة ، فيدور الأمر بين الإلزام والترخيص في الدقّة ، ولذلك يسمّى بالشكّ البدوي إذ يحتمل ألاّ يكون هناك إلزام أصلا ، فلا وجوب ولا حرمة وبالتالي لا تكليف ، فهو شكّ بدوي في التكليف بهذا اللحاظ ، وإن كان التكليف الإلزامي المشكوك دائرا أيضا بين نوعين هما الوجوب والحرمة.

وحكم هذه الصورة تارة يبحث بلحاظ حكم العقل أي الأصل العملي العقلي والذي هو ( البراءة أو الاحتياط ) ، وأخرى يبحث عنها بلحاظ حكم الشرع أي الأصل العملي الشرعي الشامل للبراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير ونحوها من الأصول الشرعيّة.

أمّا باللحاظ الأوّل فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيان لا شكّ في جريان البراءة عن كلّ من الوجوب والحرمة ، وعلى مسلك حقّ الطاعة يكون كلّ من الاحتمالين منجّزا في نفسه ، ولكنّهما يتزاحمان في التنجيز لاستحالة تنجيزهما معا ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فتبطل منجّزيّتهما معا وتجري البراءة أيضا.

أمّا حكم العقل فهو البراءة العقليّة.

والوجه في ذلك هو : أمّا بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالحكم العقلي الأوّلي هو البراءة ما دام التكليف غير معلوم ولم يتمّ عليه البيان ، وفي مقامنا حيث لا يعلم بالحرمة بخصوصها ولا بالوجوب بخصوصه للدوران بينهما ، وحيث لا يعلم بأصل الإلزام وجامع التكليف لأنّه يحتمل الترخيص والإباحة ،

ص: 412

فلن يكون لدينا علم إجمالي بل الشبهة بدويّة فيتنقّح موضوع البراءة العقليّة ، وهذا واضح ولا شكّ فيه.

وأمّا بناء على المسلك المختار من حكم العقل باشتغال الذمّة والاحتياط عند احتمال التكليف ، فالحكم هنا هو البراءة أيضا ؛ وذلك لأنّ احتمال الوجوب في نفسه وإن كان منجّزا وكذا احتمال الحرمة ؛ لمنجّزيّة الاحتمال والكاشف عقلا لأنّ دائرة حقّ الطاعة واسعة وشاملة لكلّ انكشاف للتكليف.

إلا أنّ هذه المنجّزيّة لا يمكن الأخذ بها ؛ إذ الأخذ بمنجّزيّة الوجوب والحرمة معا يعني اجتماع الضدين ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجبا وحراما ، بمعنى واجديّته لمبادئ وملاكات الوجوب والحرمة معا ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ إذ الاحتمال الموجود فيهما على حدّ واحد ، فيتعيّن سقوطهما معا عن المنجّزيّة إذ لا يوجد حلّ آخر يصار إليه ، وبهذا يثبت الترخيص والبراءة بحكم العقل ، من جهة أنّ المنجّزيّة في المقام مستحيلة.

وبتعبير آخر : أنّ المخالفة القطعيّة مستحيلة والموافقة القطعيّة مستحيلة أيضا عمليّا ؛ لأنّه إمّا أن يفعل أو يترك فيحكم العقل بالبراءة عنها إذ لا محذور فيها حينئذ.

وأمّا باللحاظ الثاني فأدلّة البراءة الشرعيّة شاملة للمورد بإطلاقها ، وعليه فالفارق بين هذا الشكّ وما سبق من شكّ : أنّ هذا مورد للبراءة عقلا وشرعا معا حتّى على مسلك حقّ الطاعة ، بخلاف الشكّ المتقدّم.

وأمّا حكم الشرع فهو البراءة أيضا ، أي أنّ أدلّة البراءة الشرعيّة تشمل بإطلاقها هذه الصورة أيضا ؛ لأنّها من موارد الشكّ البدوي في التكليف ، فقوله ( صلی اللّه علیه و آله ) : « رفع ما لا يعلمون » يشمل كلّ تكليف غير معلوم ، سواء كان هذا التكليف المجهول دائرا بين أمرين أو ثلاثة ، فلا فرق بين الشكّ في الوجوب والإباحة أو الحرمة والترخيص ، وبين الشكّ في الوجوب والحرمة والترخيص ، في كون النحوين من الشكّ ينطبق عليهما عنوان الشك البدوي في التكليف وفي كون التكليف فيهما غير معلوم.

نعم ، يوجد فارق بين النحوين من الشكّ بناء على مسلك حق الطاعة وهو : أنّ الشكّ البدوي في الوجوب والإباحة أو الحرمة والإباحة كان موردا لأصالة الاشتغال

ص: 413

العقلي والاحتياط بناء على منجّزيّة مطلق الانكشاف ، فكان حكم العقل هو الاحتياط ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم العقلي مقيّد بعدم صدور الإذن والترخيص من الشارع كما تقدّم ، وأدلّة البراءة الشرعيّة تعتبر إذنا وترخيصا ، فيكون حكم العقل هو الاحتياط بينما حكم الشرع هو البراءة ، وهي مقدّمة لكونها رافعة لموضوع حكم العقل.

بينما الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة والإباحة فهو مجرى للبراءة العقليّة والشرعيّة معا ، حتّى على مسلك حقّ الطاعة ؛ لأنّ العقل لا يمكنه أن يحكم بالتنجيز واشتغال الذمّة لا لهما معا ولا لأحدهما فقط ، فتسقط المنجّزيّة ، فتكون الشبهة لا منجّز عقلي لها ، وحيث إنّ العقل يدور أمره بين الحكم بالتنجيز أو عدم التنجيز أو الحكم بالاحتياط أو البراءة ، فحيث لا احتياط فتتعيّن البراءة ؛ لأنّه إمّا أن يدرك حقّ الطاعة في هذا المورد أو لا يدركه ، ولا شقّ ثالث بينهما ، وهذا الحكم العقلي بالبراءة موافق لحكم الشارع ؛ لأنّه يحكم بالبراءة أيضا ؛ لأنّ أدلّتها شاملة لهذه الصورة بإطلاقها.

وبهذا ينتهي الكلام عن الصورة الأولى.

2 - دوران الأمر بين المحذورين :

وهو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي بجنس الإلزام ، وتوضيح الحال فيه :

أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا ؛ لأنّ تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة غير ممكن ؛ لأنّها غير مقدورة ، وتنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة ممتنع أيضا ؛ لأنّها غير ممكنة ، وتنجيزه لأحد التكليفين المحتملين بالخصوص دون الآخر غير معقول ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إليهما نسبة واحدة ، وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الإجمالي منجّزا.

الصورة الثانية : فيما إذا كان الشكّ في الوجوب والحرمة مقرونا بالعلم الإجمالي بجامع الإلزام ، أي أنّ المكلّف يعلم بأنّ هذه الواقعة حكمها الإلزام لا الترخيص ، ولكنّه لا يدري ما هو الإلزام الموجود فيها هل هو الوجوب أو هو الحرمة؟ فيكون الشكّ في الوجوب والحرمة في كون المعلوم بالإجمال على أيّهما ينطبق ، أي أنّهما طرفان للعلم الإجمالي.

ص: 414

والسؤال هنا هو : هل هذا العلم الإجمالي الدائر بين الوجوب والحرمة منجّز أو لا؟

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا لشيء من هذين الطرفين. والوجه في ذلك : أمّا تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة - سواء على مسلك الاقتضاء أم على مسلك العلّيّة - فهو غير ممكن ؛ إذ لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة معا على شيء واحد ، ولذلك تكون الموافقة القطعيّة خارجة عن قدرة المكلّف تكوينا وواقعا ؛ لأنّ المكلّف غير قادر تكوينا على الجمع بين الضدّين وهما هنا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة متضادّة فيما بينها بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال والمتطلّبات.

وأمّا تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة على المسلكين فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة يستحيل صدورها ووقوعها في الخارج ؛ لأنّ المكلّف تكوينا أمام هذه الواقعة المشكوكة إمّا أن يفعل أو يترك ، والجمع بين الفعل والترك مستحيل ، وارتفاع الفعل والترك مستحيل وممتنع أيضا ، ولذلك لا تتصوّر المخالفة القطعيّة أصلا لكي يمنع عنها بالعلم الإجمالي ، أي أنّ عدم المخالفة ثابت في الواقع فلا معنى للنهي عن المخالفة شرعا ما دامت لن تتحقّق تكوينا.

وأمّا تنجيزه لأحد التكليفين بعينه دون الآخر فهو غير معقول أيضا ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إلى التكليفين المشكوكين على حدّ واحد ، فيكون ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح ، وهو ممتنع عقلا ، فلا يصدر من الشارع.

وبهذا يثبت لنا بالبرهان أنّ العلم الإجمالي في هذه الصورة ساقط عن المنجّزيّة (1).

ولكن هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة أو لا؟

سؤال اختلف الأصوليّون في الإجابة عليه.

ص: 415


1- وينبغي أن يعلم أنّ فرض الدوران بين المحذورين تارة يكون بين الوجوب والحرمة ، كتكليفين عباديّين يشترط فيهما قصد القربة وامتثال الأمر ، وأخرى يكونان توصّليّين ، وثالثة يكون أحدهما توصّليّا والآخر تعبّديّا. ومحلّ بحثنا هنا الوجوب والحرمة التوصّليّان فقط ، كما إذا حلف على شيء فعلا أو تركا كالسفر ، وأمّا إذا كانا تعبّديّين أو أحدهما فحينئذ تكون المخالفة القطعيّة ممكنة ، بأن لا ينوي القربة في هذا ويأتي بذاك أو لا ينوي القربة فيهما ويقوم بهما معا.

فهناك من قال بجريانها (1) ، إذ ما دام العلم الإجمالي غير منجز فلا يمكن أن يكون مانعا عن جريان البراءة عقلا وشرعا.

وهناك من قال بعدم جريان البراءة على الرغم من عدم منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأثيرت عدّة اعتراضات على إجراء البراءة في المقام ، ويختصّ بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقليّة ، وبعضها بالبراءة الشرعيّة ، وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعيّة ، ونذكر فيما يلي أهم تلك الاعتراضات :

بعد أن عرفنا أنّ العلم الإجمالي في المقام غير منجّز لشيء من الوجوب والحرمة ، يطرح السؤال التالي : هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب والحرمة المشكوكين أم لا؟

وهذا السؤال اختلفت كلمات الأصحاب في الإجابة عنه على قولين رئيسين :

1 - أنّ البراءة العقليّة والشرعيّة تجري في المقام ؛ لأنّ المورد من موارد الشكّ في التكليف ، وهذا الشكّ وإن كان مقرونا ابتداء بالعلم الإجمالي المانع عن جريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة بحسب الفرض ، وسقوطه كذلك يعني زوال المانع من جريان البراءة ؛ لأنّ المقتضي لجريانها موجود وهو كون الواقعة مشكوكة التكليف ، والمانع قد فرض ارتفاعه ؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة ، فلا محذور عقلا ولا إشكال شرعا في جريان البراءة في المقام.

أمّا المحذور العقلي فلم يكن إلا العلم الإجمالي المنجّز وهو هنا غير منجّز ، وأمّا المحذور الشرعي فهو غير موجود أصلا ؛ لأنّ أدلّة البراءة تشمل المقام ؛ لأنّه تكليف مشكوك.

2 - أنّ البراءة العقليّة والشرعيّة لا تجري في المقام ؛ لأنّ العلم الإجمالي وإن كان ساقطا عن المنجّزيّة ولكنّه موجود حقيقة ، بمعنى أنّه غير منحلّ لتصير الشبهة بدويّة ، فالشبهة هنا لا ينطبق عليها عنوان الشكّ البدوي في التكليف فموضوع البراءة غير محرز ليقال بجريانها.

ص: 416


1- منهم السيّد الخوئي كما في مصباح الأصول 2 : 328.

نعم ، هذه الشبهة حكمها ليس التنجيز من جهة العلم الإجمالي ؛ لأنّه ساقط عن المنجّزيّة ، وحينئذ بما أنّ هذه الواقعة لا منجّزيّة فيها ولا ترخيص فيها فيكون المكلّف مخيّرا بين الأمرين.

ثمّ إنّه قد أثيرت على القول الأوّل عدّة اعتراضات تمنع من جريان البراءة ، وهذه الاعتراضات على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الاعتراضات الموجّهة على البراءة العقليّة فقط ، كالاعتراض الأوّل الآتي.

الثاني : الاعتراضات الموجّهة على البراءة الشرعيّة بشكل عامّ أي بلحاظ كلّ أدلّتها وألسنتها ، كالاعتراض الثالث.

الثالث : الاعتراضات الموجّهة على بعض ألسنة البراءة الشرعيّة.

وسوف نبحث أهمّ تلك الاعتراضات لنرى مدى صحّتها ومانعيّتها عن جريان البراءة ، أو عدم ذلك.

الأوّل : الاعتراض على البراءة العقليّة والمنع عن جريانها في المقام حتّى على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وتوضيحه على ما أفاده المحقّق العراقي قدّس اللّه روحه : أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن منجّزا - وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك - ولكن ليس كلّ ترخيص براءة ، فإنّ الترخيص تارة يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ، وأخرى يكون بملاك عدم البيان ، والبراءة العقليّة هي ما كان بالملاك الثاني.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من المنع عن جريان البراءة العقليّة دون الشرعيّة ، وإن كان من المحتمل جريان البراءة الشرعيّة ونحوها من الأصول الترخيصيّة كقاعدة الحلّ والإباحة ، والأصول المرخّصة والاستصحاب النافي للتكليف ، والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الترخيص على نحوين :

الأوّل : الترخيص بملاك عدم البيان ، وهذا ما يسمّى بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو بالبراءة الشرعيّة على مسلك حقّ الطاعة ، فموضوع هذا الترخيص هو عدم البيان والعلم.

الثاني : الترخيص بملاك الاضطرار والعجز ، وهذا ما يسمّى بالتخيير بين الفعل والترك

ص: 417

من جهة أنّه عاجز عن الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة ، فيحكم العقل بإباحة الفعل أو الترك وكون المكلّف مخيّرا فيهما من جهة عجزه التكويني واضطراره إلى أحدهما.

وعليه ، فليس كلّ ترخيص عقلي يعني البراءة ، بل قد يعني التخيير وإباحة الفعل أو الترك ، فالترخيص أعمّ من البراءة ، فإذا ثبت الترخيص لا يلزم منه ثبوت البراءة ، بل قد تثبت وقد لا تثبت ، بينما البراءة أخصّ من الترخيص أي أنّها نوع خاصّ من الترخيص وهو الترخيص الناشئ من ملاك عدم البيان فقط.

وفي مقامنا يحكم العقل بالترخيص من جهة الاضطرار والعجز التكويني عن الجمع بين الفعل والترك وعن تركهما معا ، وهذا يعني التخيير لا البراءة ، وتفصيل الكلام في ذلك أن يقال :

وعليه ، فإن أريد في المقام إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي بنفس البراءة العقليّة فهو مستحيل ؛ لأنّها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بأنّ هذا بيان وذاك ليس ببيان ؛ لأنّها لا تنقّح موضوعها ، فلا بدّ من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة على إجراء البراءة ، وهذا ما يتحقّق في موارد الشكّ وجدانا وتكوينا ؛ لأنّ الشكّ ليس بيانا ، وأمّا في مورد العلم الإجمالي بجنس الإلزام في المقام فالعلم بيان وجدانا وتكوينا ، فلكي نجرّده من صفة البيانيّة لا بدّ من تطبيق قاعدة عقليّة تقتضي ذلك ، وهذه القاعدة ليست نفس البراءة العقليّة ، لما عرفت من أنّها لا تنقّح موضوعها ، وإنّما هي قاعدة عدم إمكان إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحيّة العلم الإجمالي المذكور للمنجّزيّة والحجّيّة ، وبالتالي سقوطه عن البيانيّة.

بعد أن عرفنا أنّ الترخيص الثابت هو الترخيص بملاك الاضطرار والعجز فنقول : إن أريد من إجراء البراءة العقليّة في المقام إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي بنفس البراءة فهذا مستحيل ؛ وذلك لأنّ البراءة موضوعها عدم البيان والعلم ، فلا بدّ من إثبات عدم البيان والعلم أوّلا ثمّ إجراء البراءة ؛ لأنّها متفرّعة ومترتّبة على موضوعها فلا تثبت إذا لم يكن موضوعها ثابتا.

وحينئذ لا بدّ من كون العلم الإجمالي ساقطا عن المنجّزيّة والحجّيّة والبيانيّة لكي يكون المورد من موارد عدم العلم والبيان ، وهذا الأمر لا يمكن إثباته بنفس البراءة ؛ لأنّ الشيء لا يثبت موضوعه أي أنّ البراءة لا تثبت أنّ هذا المورد ليس علما وبيانا ، وإلا

ص: 418

لكان الشيء مثبتا لموضوعه وهو واضح البطلان ، فهو نظير التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، فكما أنّ العامّ لا يثبت مصداقه وموضوعه فكذلك البراءة لا تثبت موضوعها.

وهذا يعني أنّه لا بدّ من إثبات عدم العلم والبيان ، وبالتالي إسقاط العلم الإجمالي في مرحلة سابقة عن إجراء البراءة.

وعليه ، فنقول : إن كان المورد مشكوكا شكّا بدويّا وجدانا فيكون عدم العلم ثابتا بالوجدان ، ولا تحتاج إلى دليل آخر لإثباته فتجري البراءة بلا محذور.

وإن كان المورد مقرونا بالعلم الإجمالي فلا بدّ من تجريد العلم الإجمالي عن صفة البيان والعلم وإسقاطه عن الحجّيّة والمنجّزيّة بدليل ، وهذا الدليل ليس هو البراءة نفسها لما تقدّم ، وإنّما هو حكم العقل بعدم إمكان تكليف العاجز تكوينا عن الجمع بين الفعل والترك وعن تركهما معا ، وهذا ما يعبّر عنه بالإباحة في اختيار أحد الأمرين أو التخيير العقلي بينهما ، فيثبت لنا بهذه القاعدة الترخيص وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والبيانيّة.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ البراءة العقليّة لا يمكنها إسقاط العلم الإجمالي بنفسها ، بل المسقط له قاعدة أخرى غيرها ، فلو كان المراد من إجرائها إثبات هذا الأمر فهي قاصرة عن إثباته ، فلا يكون هناك مبرّر لجريانها.

وإن أريد إجراء البراءة العقليّة بعد إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي وبيانيّته بالقاعدة المشار إليها فلا معنى لذلك ؛ لأنّ تلك القاعدة بنفسها تتكفّل الترخيص العقلي ولا محصّل للترخيص في طول الترخيص.

وإن أريد من إجراء البراءة العقليّة أنّها تجري بعد سقوط العلم الإجمالي عن الحجّيّة والمنجّزيّة والبيانيّة - كما هو الصحيح والمعقول - بالقاعدة العقليّة المتقدّمة - أي الاضطرار والعجز وعدم إمكان تكليف العاجز - فهذا لغو ؛ لأنّه بمجرّد أن تجري تلك القاعدة سوف يثبت لنا الترخيص العقلي المسمّى بالتخيير العقلي وإباحة أحد الأمرين ، فلا يكون هناك مبنى محصّل لجريان البراءة لإثبات الترخيص ؛ لأنّه ثابت في مرحلة سابقة ، وإثبات الترخيص في طول ثبوته لغو وتحصيل للحاصل ، فلا يكون هناك أثر ولا فائدة من جريان البراءة.

ص: 419

وهكذا نصل إلى أنّ جريان البراءة العقليّة ممتنع ، إمّا لأنّه لا موضوع لها ، وإمّا لأنّه لا أثر ولا فائدة منها ، فيتعيّن الحكم بالتخيير العقلي وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

ونلاحظ على ذلك : أنّ المدّعى إجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم منجّزيّة العلم الإجمالي ، وليس الغرض منها إبطال منجّزيّة هذا العلم والترخيص في مخالفته حتّى يقال : إنّه لا محصّل لذلك ، بل إبطال منجّزيّة كلّ من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ومن الواضح أنّ كلاّ من الاحتمالين في نفسه ليس بيانا تكوينا ووجدانا ، فتطبّق عليه البراءة العقليّة لإثبات التأمين من ناحيته.

وجوابه : أنّنا نختار الشقّ الثاني ولا يلزم منه محذور اللغويّة وتحصيل الحاصل ؛ وذلك لأن المراد من إجراء البراءة هو التأمين من ناحية التكليف المشكوك في المقام حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والحجّيّة والبيانيّة ، أي بعد سقوطه نريد إثبات التأمين عن التكليف المشكوك ، فإنّ التكليف في موردنا يتصوّر له منجّزان :

أحدهما : التكليف المنجّز بالعلم الإجمالي ، وهذا ما يثبت التأمين من ناحيته بجريان تلك القاعدة ، أي قاعدة الاضطرار وعدم إمكان تكليف وإدانة العاجز ؛ لأنّ المورد من موارد العجز والاضطرار إلى الفعل أو الترك ، فلا يعقل تكليفه بالجمع بينهما أو بتركهما معا.

والآخر : التكليف المنجّز باحتماله ، فإنّه بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وثبوت التأمين من ناحيته ، يبقى احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ثابتا ، إذ يحتمل أن يكون هذا المورد واجبا ويحتمل أن يكون حراما.

وهذان الاحتمالان يجتمعان مع احتمال الترخيص والإباحة وعدم التكليف. وعليه ، فلا بدّ من إثبات التأمين من ناحية هذا الاحتمال ، وهذا ما تثبته البراءة العقليّة ؛ لأنّ موضوعها ثابت وجدانا وتكوينا ؛ لأنّه لا علم بالوجوب أو الحرمة فيتحقّق عدم البيان وجدانا ، فتجري البراءة لثبوت موضوعها ؛ ولوجود الأثر لها وهو التأمين من ناحية هذا الاحتمال ، وهذا التأمين لم يكن ثابتا في مرحلة سابقة ؛ لأنّ تلك القاعدة تثبت التأمين من ناحية العلم الإجمالي لا من ناحية نفس الاحتمال للتكليف.

وبتعبير أدقّ : إنّ جريان قاعدة عدم إمكان تكليف وإدانة العاجز تثبت لنا سقوط

ص: 420

العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والبيانيّة ، وبالتالي يثبت لنا الترخيص أيضا من هذه الناحية ، وحينئذ يصبح المورد من موارد الشكّ البدوي بين الوجوب والحرمة ؛ لأنّ احتمال الوجوب واحتمال الحرمة انضمّ إليهما ببركة هذه القاعدة احتمال الترخيص أيضا ؛ لأنّها أسقطت العلم الإجمالي ونفت البيان في المورد ، فصار المورد كالصورة الأولى والتي تجري فيها البراءة العقليّة والشرعيّة أيضا لتحقّق الموضوع ، ولوجود الأثر الذي لم يكن موجودا قبل جريانها ، فهذا الاعتراض غير تامّ.

الثاني : الاعتراض على البراءة الشرعيّة ، وتوضيحه على ما أفاده المحقّق النائيني قدس سره (1) : أنّ ما كان منها بلسان أصالة الحلّ لا يشمل المقام ؛ لأنّ الحلّيّة غير محتملة هنا ، بل الأمر مردّد بين الوجوب والحرمة.

وما كان منها بلسان رفع ما لا يعلمون لا يشمل أيضا ؛ لأنّ الرفع يعقل حيث يعقل الوضع ، والرفع هنا ظاهري يقابله الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ، ومن الواضح أنّ إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل ، فلا معنى للرفع إذن.

الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من المنع عن جريان البراءة الشرعيّة ، وتوضيحه : أنّ ألسنة البراءة الشرعيّة على قسمين :

الأوّل : ما كان منها بلسان أصالة الحلّيّة أو الإباحة ، وهذه لا موضوع لها في مقامنا ؛ لأنّ مورد جريانها إنّما هو احتمال الحلّيّة أو الإباحة ، وهنا لا يحتمل سوى الوجوب والحرمة ، ولا يوجد احتمال ثالث ؛ لأنّ الأمر يدور بينهما فالإلزام معلوم ولكنّه مردّد بين الوجوب والحرمة فقط ، ولذلك فجريان هذا النحو من ألسنة البراءة معناه ثبوت الحلّيّة أو الإباحة ، وهذا يتنافى مع ثبوت الإلزام إجمالا.

الثاني : ما كان منها بلسان « رفع ما لا يعلمون » ، وهذا لا يشمل المقام أيضا ؛ وذلك لأنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الرفع في هذا الحديث ظاهري ولا يمكن حمله على الرفع الواقعي ، والمقصود من الرفع الظاهري رفع إيجاب الاحتياط.

وحينئذ نقول : إنّ الرفع إنّما يكون ممكنا فيما إذا كان الوضع ممكنا أيضا ، فلا يصحّ الرفع إلا في الموضع الذي يصحّ فيه الوضع.

ص: 421


1- فوائد الأصول 3 : 445 و 448.

وفي مقامنا لا يصحّ الوضع ؛ لأنّه مستحيل ، إذ الاحتياط بفعلهما معا محال ؛ لأنّ الجمع بين النقيضين محال ، والاحتياط بتركهما معا ممتنع ؛ لأنّه فاعل أم تارك في الواقع ، فالاحتياط بكلا قسميه متعذّر وغير ممكن. وعليه ، فيتعذّر الرفع أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

وبهذا يظهر أنّ البراءة الشرعيّة غير جارية في المقام ؛ لأنّ أدلّتها قاصرة عن الشمول للمورد ، فيتعيّن القول بالتخيير العقلي فقط ، استنادا على قاعدة عدم إمكان تكليف وإدانة العاجز.

وقد يلاحظ على كلامه :

أوّلا : أنّ إمكان جعل حكم ظاهري بالحلّيّة لا يتوقّف على أن تكون الحلّيّة الواقعيّة محتملة ، ودعوى أنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ صحيحة ، ولكن لا يراد بها تقوّمه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له ، بل تقوّمه بعدم العلم بالحكم الواقعي الذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه ، إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيء مؤمّنا عنه أو منجّزا له.

وجوابه ، أوّلا : أنّ ما ذكره من عدم شمول أدلّة البراءة التي لسانها من قبيل أصالة الحلّيّة أو الإباحة غير صحيح ؛ وذلك لأنّه لا يشترط في جريانها أن تكون الحلّيّة الواقعيّة محتملة ، ليقال : إنّ المورد هنا لا يحتمل فيه الحلّيّة الواقعيّة للدوران بين الوجوب والحرمة ، بل يشترط فيها كما يشترط في سائر الأصول العمليّة والأحكام الظاهريّة عموما من كون المورد مشكوكا وغير معلوم تفصيلا ، وهذا موجود في المقام ، إذ لا يعلم بالحكم التفصيلي للواقعة المذكورة لا الوجوب بخصوصه ولا الحرمة بخصوصها.

فإن قيل : إنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ في الحكم الواقعي ، فلا بدّ من الشكّ في الحلّيّة الواقعيّة لكي تثبت الحلّيّة الظاهريّة.

كان الجواب : أنّ تقوّم الحكم الظاهري بالشكّ صحيح ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّه يشترط أن يكون الشكّ الذي هو موضوع الأصل يعني احتمال مماثلة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، بل تقوّمه بالشكّ يعني ألاّ يكون الحكم الواقعي معلوما ، فيثبت التأمين أو التنجيز عن هذا الحكم الواقعي المشكوك ، إذ لو كان الحكم الواقعي معلوما لم يكن معنى لجريان التأمين أو التنجيز ظاهرا.

ص: 422

فظهر أنّ مثل أصالة الحلّ والإباحة تجري بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك ، وهذا متحقّق في مقامنا إذ لا يعلم بالحكم الواقعي ، فالموضوع متحقّق.

وثانيا : أنّ الرفع الظاهري في كلّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده ، وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا ، ومجموع الوضعين وإن كان مستحيلا ولكنّ كلاّ من الرفعين لا يقابل إلا وضعا واحدا لا مجموع الوضعين.

والجواب الثاني : أنّ ما ذكره من عدم جريان البراءة التي لسانها من قبيل رفع ما لا يعلمون غير صحيح أيضا ؛ وذلك لأنّ المراد من الموصول هو الشيء بعينه المجهول والمشكوك ، وحينئذ نقول : إنّ الوجوب بنفسه ممكن أن يوضع ، إذن فيمكن أن يرفع أيضا ، أي أنّه كما يحتمل صدور إلزام ظاهري للحفاظ على ملاكات الإلزام المحتملة يحتمل أيضا صدور ترخيص ظاهري للحفاظ على ملاكات الترخيص المحتملة.

وهكذا الحال بالنسبة للحرمة نفسها فيمكن وضع الاحتياط بلحاظها ولذلك يمكن رفع إيجاب الاحتياط ظاهرا.

وتكون النتيجة إمكان صدور ترخيصين : أحدهما بلحاظ الوجوب المشكوك ، والآخر بلحاظ الحرمة المشكوكة.

ولا يلزم من ذلك أن يكون المطلوب هو الجمع بين الضدّين ليقال بأنّه مستحيل فيستحيل طلب تركهما ، بل المراد أنّ كلّ واحد من الوجوب والحرمة فيه وضع مستقلّ لإيجاب الاحتياط ، ويراد بأدلّة البراءة الشرعيّة رفع كلّ واحد من هذين الوضعين بنحو مستقلّ ، ولا يلزم من ذلك الجمع بين الوضعين ، وإن لزم منه الجمع بين الرفعين ؛ إذ من الممكن التفكيك بين التلازم بأن يكون الجمع بين الوضعين مستحيلا ، ولكن الجمع بين الرفعين ممكن.

نظير قدرة الإنسان على الإتيان بالأفعال المتضادّة كل واحد منها مستقلاّ عن الآخر ، كالسفر إلى هذا البلد والسفر إلى ذاك وهكذا ، بحيث يستحيل أن يجمع بين هذه الأسفار في وقت واحد ، ولكنّه قادر على الجمع بين تركها بألاّ يسافر إلى أي بلد منها.

وهنا من هذا القبيل ، فإنّ المكلّف غير قادر على الجمع بين الفعل والترك ، والشارع لا يمكنه طلب الجمع بينهما ؛ لأنّه من طلب المستحيل ، إلا أنّه يمكنه الترخيص عن

ص: 423

الوجوب والترخيص عن الحرمة كلّ واحد مستقلاّ ، ولازمه ألاّ يجب عليه شيء من الفعل والترك ، فهو مختار لأن يفعل أو يترك من دون أن يتّصف فعله أو تركه بالوجوب أو الحرمة ، بل بالإباحة والترخيص.

فهذا الاعتراض غير تامّ.

الثالث : الاعتراض على شمول أدلّة البراءة الشرعيّة عموما بدعوى انصرافها عن المورد ؛ لأنّ المنساق منها علاج المولى لحالة التزاحم بين الأغراض الإلزاميّة والترخيصيّة في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي ، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين إلزاميّين ، وعليه فالبراءة الشرعيّة لا تجري ، ولكنّ العلم الإجمالي غير منجّز لما عرفت.

الاعتراض الثالث : ما يذكره السيّد الشهيد من المنع عن جريان البراءة الشرعيّة بكافّة ألسنتها.

وتوضيحه : أنّ الأصول الترخيصيّة نوع من الأحكام الظاهريّة التي يجعلها الشارع في موارد التزاحم الحفظي بين ملاكات الإلزام وملاكات الترخيص ، حيث يستدعي كلّ واحد منها الحفاظ عليه بنحو يفوّت الآخر ، فإذا كانت ملاكات الترخيص هي الأهمّ أصدر حكما ظاهريّا بالترخيص في المحتملات.

إذن فملاك جريان الأصول الترخيصيّة هو التزاحم الحفظي بين ملاكات الإلزام وملاكات الترخيص ، بحيث تكون ملاكات الترخيص هي الأهمّ.

وفي مقامنا لا يوجد تزاحم من هذا القبيل ؛ لأنّ المورد يدور أمره بين الوجوب والحرمة فقط ، للعلم إجمالا بجنس الإلزام ، وهذا يعني أنّ التزاحم بين الملاكات الإلزاميّة من جهتين ونوعين أي التزاحم بين ملاكات الوجوب وهو غرض لزومي ، وبين ملاكات الحرمة وهي غرض لزومي أيضا ، فالتزاحم بين غرضين لزوميّين ، لا بين غرض لزومي وغرض ترخيصي.

إذن فلا تجري الأصول الترخيصيّة كلّها ؛ لأنّ أدلّتها غير شاملة لهذا المورد ، إذ هي لم تشرّع لمثل هذا النحو من التزاحم الملاكي ، فالمورد خارج تخصّصا عن مورد جريان الأصول الترخيصيّة.

وهكذا يتّضح لنا حكم هذه الصورة وهو أنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزية

ص: 424

والأصول الترخيصيّة لا تجري ، فالحكم هو التخيير العقلي فقط دون أن يكون هناك موقف للشارع منها.

وينبغي أن يعلم أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون في واقعة واحدة ، وقد يكون في أكثر من واقعة ، بأن يعلم إجمالا بأنّ عملا معيّنا إمّا محرّم في كلّ أيّام الشهر أو واجب فيها جميعا. وما ذكرناه كان يختصّ بافتراض الدوران في واقعة واحدة.

وأمّا مع افتراض كونه في أكثر من واقعة فنلاحظ أنّ المخالفة القطعيّة تكون ممكنة حينئذ ، وذلك بأن يفعل في يوم ويترك في يوم ، فلا بدّ من ملاحظة مدى تأثير ذلك على الموقف ، وهذا ما نتركه لدراسة أعلى.

وهنا تنبيه : وهو أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يفرض وجوده في واقعة واحدة ، وقد يفرض في أكثر من واقعة ، فهنا صورتان :

الأولى : ما إذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، كما إذا علم بصدور حلف منه إمّا على فعل السفر أو على تركه يوم الجمعة.

وهذه الصورة هي التي كانت مقصودة في الأبحاث الماضية.

الثانية : ما إذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة في أكثر من واقعة ، كما إذا علم بصدور حلفين منه إمّا على فعل السفر وإمّا على تركه يوم الخميس ويوم الجمعة معا ، وكما إذا علم بحرمة شيء في تمام أيّام الشهر أو بوجوبه في تمام أيّام الشهر كذلك.

فهنا يمكننا فرض المخالفة القطعيّة بخلافه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّه إذا فعل في يوم وترك في يوم ، أو سافر في كلا اليومين أو ترك السفر فيهما معا ، فإنّه يعلم بحصول المخالفة القطعيّة جزما.

ومن هنا ينفتح البحث مجدّدا في مؤثّريّة مثل هذا العلم الإجمالي في المنجّزيّة أو عدم كونه مؤثّرا فيها ، وفي جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين أو الأطراف أو عدم جريانها.

وهذا البحث نؤجّله إلى درس الخارج إن شاء اللّه تعالى.

ص: 425

ص: 426

الفهرس

خصائص الأصول العمليّة... 5

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة... 15

الأصول التنزيليّة والمحرزة... 25

مورد جريان الأصول العمليّة... 35

1 - الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ... 49

الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ... 51

1 - مسلك قبح العقاب بلا بيان ... 52

2 - مسلك حقّ الطاعة ... 63

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ... 65

أدلّة البراءة من الكتاب... 69

هناك جوابان على هذا الاعتراض ... 73

أدلّة البراءة من السنّة... 89

واستدلّ من السنّة بروايات ... 91

حديث « كل شيء مطلق ... » ... 91

حديث « رفع عن أُمتي ... »... 98

الاعتراضات العامّة... 125

تحديد مفاد البراءة... 143

استحباب الاحتياط... 161

2 - الوظيفة في حالة العلم الإجمالي... 173

قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي... 175

ص: 427

1 - منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمنة الشرعية... 179

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي ... 185

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة... 197

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه... 213

3 - جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه... 225

أما مقام الثبوت... 227

وأما مقام الثبوت... 239

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض... 259

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي... 275

الركن الأول : وجود العلم بالجامع ... 277

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع... 283

الركن الثالث : شمول الأصل المؤمن للطرفين... 293

الركن الرابع : الوقوع في المخالفة القطعية بالترخيص بالطرفين... 297

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي... 301

1 - زوال العلم بالجامع ... 303

2 - الاضطرار إلى بعض الأطراف... 314

3 - انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي ... 324

4 - الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول ... 330

5 - اشتراك علمين إجماليّين في طرف ... 339

6 - حكم ملاقي أحد الأطراف ... 345

7 - الشبهة غير المحصورة ... 350

8 - إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور ... 374

9 - العلم الإجمالي بالتدريجيّات ... 387

10 - الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي ... 398

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا... 409

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة ... 412

ص: 428

2 - دوران الأمر بين المحذورين ... 414

الفهرس... 427

ص: 429

المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 413

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

5

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الخامس

الأقل والأكثر

الإستصحاب

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر

اشارة

1 - التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر

2 - الأقلّ والأكثر في الأجزاء

3 - الأقلّ والأكثر في الشرائط

4 - الدوران بين التعيين والتخيير العقلي

5 - الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي

6 - ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

ص: 5

ص: 6

التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر

درسنا فيما سبق حالة الشكّ في أصل الوجوب ، وحالة العلم بالوجوب وتردّد متعلّقه بين أمرين متباينين.

فالأولى هي حالة الشكّ البدوي التي تجري فيها البراءة الشرعيّة.

والثانية هي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي التي تجري فيها أصالة الاشتغال.

والآن ندرس حالة العلم بالوجوب وتردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر ، وهي على قسمين :

القسم الرابع من أقسام الشكّ هو الشكّ في الأقلّ والأكثر.

تقدّم معنا سابقا تقسيم الشكّ إلى أقسام هي :

1 - الشكّ البدوي في التكليف ، كالشكّ في الوجوب أو الشكّ في الحرمة ، وهذا الشكّ مجرى لأصالة البراءة العقليّة عند المشهور ، ومجرى لأصالة البراءة الشرعيّة على مسلك حقّ الطاعة.

2 - الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، وهذا مجرى لأصالة الاشتغال والاحتياط.

3 - الدوران بين المحذورين ، إمّا بنحو الشكّ البدوي وإمّا بنحو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، كما تقدّم سابقا ، وهذا مجرى لأصالة البراءة عقلا وشرعا في القسم الأوّل ، ومجرى لأصالة التخيير العقلي في الثاني دون البراءة الشرعيّة.

4 - الشكّ في التكليف بين الأقلّ والأكثر ، وذلك بأن يكون نفس التكليف معلوما تفصيلا ولكن يدور أمره بين أجزاء قليلة أو كثيرة.

وهذا النحو من الشكّ في الأقلّ والأكثر على قسمين :

الأوّل : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ، وهو يعني أنّ ما يتميّز به

ص: 7

الأكثر على الأقلّ من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجبا مستقلاّ عن وجوب الأقلّ ، كما إذا علم المكلّف بأنّه مدين لغيره بدرهم أو بدرهمين.

القسم الأوّل : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

وهذا يعني أنّ هناك واجبا وهو وجوب الأقلّ ، وهناك واجب آخر وهو وجوب الأكثر ، بحيث يكون كلّ منهما مستقلا عن الآخر ، فإنّه على تقدير كون الواجب هو الأكثر فهذا يعني وجود وجوب آخر غير الأقلّ ؛ لأنّ ما يتميّز به الأكثر عن الأقلّ يجعله وجوبا مستقلا.

كما إذا علم باشتغال ذمّته لشخص وتردّد أمره بين كون الواجب عليه درهما أو درهمين ، فإنّه على تقدير كون الأكثر هو الواجب فهو مستقل عن الأقلّ ؛ لأنّ الدرهمين غير الدرهم وهكذا العكس ، فكلّ واحد مستقلّ عن الآخر.

الثاني : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وهو يعني أنّ هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد ، وهو إمّا متعلّق بالأقلّ أو بالأكثر ، كما إذا علم المكلّف بوجوب الصلاة وتردّدت الصلاة عنده بين تسعة أجزاء وعشرة.

القسم الثاني : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين :

وهذا يعني أنّ هناك وجوبا واحدا وتكليفا واحدا واجب الامتثال والإطاعة ، بحيث تكون هناك مخالفة واحدة وعصيان واحد ، أو امتثال وإطاعة واحدة.

وهذا يعني أيضا أنّ وجوب الأكثر ليس مستقلاّ عن وجوب الأقلّ ، بل هو الأقلّ وزيادة ؛ إذ لا معنى لوجوب الزيادة لوحدها مستقلّة عن الأقلّ ، بل وجوبها مرتبط بالأقلّ أيضا.

مثاله : أن يعلم بوجوب الصلاة ولكنّه لا يعلم هل الصلاة مركّبة من تسعة أجزاء فقط أو هي مركّبة من عشرة أجزاء ، فهنا الشكّ في الجزء العاشر لا يعني أنّه هو الواجب دون سائر الأجزاء ؛ لأنّ العشرة مرتبطة بالتسعة إذ لا يتصوّر عشرة من دون تسعة ، فلو كان هذا الجزء دخيلا لم يكف امتثال الأقلّ وإن لم يكن دخيلا كفى امتثاله من دون العاشر.

أمّا القسم الأوّل : فلا شكّ في أنّ وجوب الأقلّ فيه منجّز بالعلم ، وأنّ وجوب

ص: 8

الزائد مشكوك بشكّ بدوي ، فتجري عنه البراءة عقلا وشرعا أو شرعا فقط ، على الخلاف بين المسلكين.

أمّا القسم الأوّل أي الشكّ في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، فهنا يقال : إنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا وعلى كلّ تقدير ؛ لأنّ الواجب لو كان الدرهم فقط فالأقلّ هو الثابت بنحو مستقلّ ، وإن كان الثابت هو الدرهمين فالأقلّ أي الدرهم ثابت أيضا ضمن الدرهمين ؛ إذ لا يعقل وجود درهمين من دون الدرهم ، فيكون الأقلّ منجّزا على كلّ تقدير للعلم به.

وأمّا وجوب الأكثر فإنّه على تقدير كون الواجب هو الأقلّ فهو غير ثابت ، وعلى تقدير كون الواجب هو الدرهمين فهو ثابت ، وحيث لا يدري ما هو الثابت منهما فيكون الأكثر مشكوكا شكّا بدويّا ، فتجري فيه البراءة العقليّة والشرعيّة على رأي المشهور ، وتجري فيه البراءة الشرعيّة دون العقليّة على مسلك حقّ الطاعة.

وأمّا القسم الثاني : فتندرج فيه عدّة مسائل نذكرها تباعا :

* * *

ص: 9

ص: 10

الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء

اشارة

ص: 11

ص: 12

1 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء

وفي مثل ذلك قد يقال : بأنّ حاله حال القسم الأوّل ، فإنّ وجوب الأقلّ منجّز بالعلم ، ووجوب الزيادة - أي ما يشكّ في كونه جزءا - مشكوك بدوي فتجري عنه البراءة ؛ لأنّ هذا هو ما يقتضيه الدوران بين الأقلّ والأكثر بطبعه ، فإنّ كلّ دوران من هذا القبيل يتعيّن في علم بالأقلّ وشكّ في الزائد.

إذا تردّد أمر الواجب المركّب من أجزاء بين الأقلّ والأكثر كما إذا علم بوجوب الصلاة وشكّ في كونها مركّبة من تسعة أجزاء فقط أو أنّها مركّبة من عشرة أجزاء ، فهنا مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في دخالة الجزء وعدم دخالته ، كما إذا شكّ في كون السورة جزءا من الصلاة أو ليست بجزء ، فإنّه على تقدير كونها جزءا فتكون الصلاة مركّبة من عشرة أجزاء مثلا ، وأمّا على تقدير كونها ليست جزءا فالصلاة مركّبة من تسعة أجزاء.

فهل هذا الدوران كالدوران بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين يقتصر فيه على وجوب الأقلّ وتجري البراءة عن وجوب الأكثر ، أو أنّه من الدوران بين المتباينين حيث يعلم إجمالا بالجامع بينهما فيجب الاحتياط؟

قد يقال : إنّ حكم هذه المسألة كحكم المسألة السابقة ؛ لأنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا سواء كان الواجب هو الأقلّ أو الأكثر ، فيعلم بوجوب تسعة أجزاء على كلّ حال ، فهو منجّز على كلا التقديرين ولا شكّ فيه.

وأمّا وجوب الأكثر ( أي الجزء المشكوك دخالته ) فهو على بعض التقادير واجب وعلى التقدير الآخر غير واجب ، فيكون مشكوكا شكّا بدويّا فتجري فيه البراءة.

وبتعبير آخر : أنّ القاعدة الأوّليّة في الأقلّ والأكثر هي كون الأقلّ معلوما تفصيلا ،

ص: 13

والأكثر مشكوك بدوا وهو مجرى للبراءة ، وهذه القاعدة لا يرفع اليد عنها إلا بوجود مانع يمنع من جريان البراءة.

وعليه ينصبّ البحث هنا في أنّه هل هناك مانع من جريان البراءة أو لا؟

ولكن قد يعترض على إجراء البراءة عن وجوب الزائد في المقام ، ويبرهن على عدم جريانها بعدّة براهين :

وهنا ذكرت عدّة موانع عن جريان البراءة ، وهذا يعني أنّ الحكم في المسألة هو الاحتياط ولزوم الإتيان بالأكثر ، وسوف نستعرض هذه الموانع لنرى مدى مانعيّتها من جريان البراءة ، وهنا ذكرت ستّة براهين للمنع من جريان البراءة ، وهي :

البرهان الأوّل :

وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الإجمالي المانع عن إجراء البراءة ، وليس هو العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو وجوب الزائد لينفى ذلك بأنّ وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الأقلّ ، فكيف يجعل طرفا مقابلا له في العلم الإجمالي؟ بل هو العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد ، ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب الزائد لكونه جزءا من أحد طرفي العلم الإجمالي.

البرهان الأوّل : أن يقال : إنّه لا يمكن إجراء البراءة هنا ؛ لأنّه يوجد علم إجمالي منجّز ، ومع وجوده لا مجال للبراءة ؛ لأنّ موردها الشكّ البدوي.

وهذا العلم الإجمالي ليس هو العلم الإجمالي الدائر بين وجوب الأقلّ ووجوب العاشر ، أي أنّه ليس دائرا بين التسعة والعاشر ، ليقال بأنّ وجوب الأقلّ معلوم على كلّ حال والعاشر مشكوك فتجري عنه البراءة ؛ لأنّ العاشر لا يمكن أن يقع طرفا مستقلا للعلم الإجمالي بنحو يكون بديلا عن الأقلّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي معناه أنّ كلا طرفيه صالح لأن يكون هو التكليف المعلوم بالإجمال ، فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين مثلا كان كلّ واحد من الإناءين صالحا لأن يكون هو النجس ، وكذا فيما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة.

وفي مقامنا لا يعقل أن يكون الجزء العاشر صالحا لأن يكون هو التكليف المعلوم بالإجمال بنحو يجعله بديلا عن وجوب الأقلّ ؛ إذ لا معنى لوجوب العاشر فقط دون الأقلّ.

ص: 14

وبتعبير آخر : إنّ كون الشيء طرفا للعلم الإجمالي معناه كونه صالحا لأن يكون هو المنجّز بدلا عن الطرف الآخر ، وهنا العاشر لوحده لا يمكن أن يكون هو المنجّز بنحو بديل عن التسعة ؛ إذ لا معنى لوجوب العاشر دون التسعة.

وهكذا نصل إلى أنّ العلم الإجمالي ليس دائرا بين وجوب الأقلّ ووجوب الزائد لوحده ، بل هو دائر بين وجوب الأقلّ أو وجوب الأكثر ، أي بين وجوب التسعة والتي هي كلّ واحد مترابط ، وبين وجوب العشرة والتي هي كلّ واحد مترابط أيضا ، وهذا يعني الدوران بين متباينين وكلّ واحد منهما صالح لأن يكون هو المنجّز ؛ إذ كما يمكن أن يكون الوجوب متعلّقا بالتسعة كذلك يمكن أن يكون متعلّقا بالعشرة المركّبة من التسعة والزيادة.

ومثل هذا العلم الإجمالي منجّز فيجب الاحتياط بالإتيان بالعشرة لكي يعلم ببراءة ذمّته يقينا ، حيث إنّها مشتغلة يقينا بالتكليف ؛ لأنّ الاكتفاء بالأقلّ من دون الإتيان بالجزء العاشر لا يجعل الذمّة بريئة.

ولا يمكن هنا نفي الجزء العاشر الزائد بنحو مستقلّ ؛ لأنّه مرتبط بالأجزاء التسعة المكوّنة لوجوب الأكثر ونفيه ضمن نفي وجوب الأكثر غير ممكن أيضا ؛ لأنّه طرف للعلم الإجمالي والذي يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في طرفيها للتعارض بينهما.

وقد أجيب على هذا البرهان بوجوه :

منها : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ لأنّ الواجب إن كان هو الأقلّ فهو واجب نفسي وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ واجب غيري ؛ لأنّه جزء الواجب وجزء الواجب مقدّمة له.

ثمّ إنّه قد ذكرت عدّة أجوبة على هذا البرهان نذكر منها ما يلي :

الجواب الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري كما هو ظاهر عباراته من أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي في وجوب الأكثر.

وتوضيحه : أنّ الأقلّ إن كان هو الواجب فالأقلّ واجب نفسي ، وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ واجب غيري ؛ لأنّه داخل في الأكثر ؛ إذ هو من المقدّمات الداخليّة

ص: 15

لتحقّق الأكثر ، وعليه فيكون وجوب الأقلّ معلوما على كلّ تقدير ؛ لأنّه إمّا واجب نفسي ، وإمّا واجب غيري ، فيكون وجوبه معلوما على كلا التقديرين ، فهو منجّز قطعا ، ولا شكّ في ذلك.

وأمّا الأكثر فهو إنّما يكون واجبا على تقدير تعلّق المعلوم بالإجمال به بحيث يكون هو المعلوم إجمالا لا وجوب الأقلّ ، وهذا التقدير غير معلوم فيكون مشكوكا بدوا فتجري عنه البراءة.

ولا مانع من جريان البراءة هنا لانحلال العلم الإجمالي إما حقيقة وإمّا حكما ؛ وذلك لأنّنا إذا قلنا : إنّ الأقلّ معلوم تفصيلا فيسري العلم من الجامع إلى الفرد ، ويكون الفرد الثاني مشكوكا بدوا لزوال العلم الإجمالي فهذا انحلال حقيقي ، وإذا قلنا : إنّ الأصل الترخيصي يجري في وجوب الأكثر دون الأقلّ ؛ لأنّ الأقلّ منجّز على كلّ تقدير فلا مورد لجريان الأصل فيه فيجري الأصل في الأكثر من دون معارض فهذا انحلال حكمي.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّه إن أريد به هدم الركن الثاني من أركان تنجيز العلم الإجمالي.

فالجواب عليه : أنّ الانحلال إنّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقا للجامع المعلوم بالإجمال كما تقدّم (1) ، وليس الأمر في المقام كذلك لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم التفصيلي وجوب الأقلّ ولو غيريّا ، وإن أريد به هدم الركن الثالث بدعوى أنّ وجوب الأقلّ منجّز على أي حال ولا تجري البراءة عنه فتجري البراءة عن الآخر بلا معارض.

فالجواب عليه : أنّ الوجوب الغيري لا يساهم في التنجيز كما تقدّم في مباحث المقدّمة (2).

ويرد عليه : أنّ الانحلال المذكور تارة يراد به الانحلال الحقيقي ، وأخرى يراد به الانحلال الحكمي.

ص: 16


1- تحت عنوان : أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، عند بيان الركن الثاني.
2- في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

فإن أريد به الانحلال الحقيقي بدعوى أنّ الركن الثاني منهدم وأنّ العلم سرى من الجامع إلى الفرد ، فهذا يتوقّف على إثبات أنّ المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي ، أو على الأقلّ يصلح لأن يكون مصداقا له مع عدم وجود ميزة وخصوصيّة في المعلوم الإجمالي ، وإلا اشترط إحرازها في المعلوم التفصيلي.

وفي مقامنا لا يمكن أن يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّه يوجد ميزة في المعلوم الإجمالي لا يحرز وجودها في المعلوم التفصيلي فيكون هناك شبهة مصداقيّة للانحلال ، فلا يمكن التمسّك بدليل الانحلال فيها ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ لإثبات مصداقه وهو ممنوع.

والوجه في ذلك : أنّ المعلوم التفصيلي هو وجوب الأقلّ على كلّ تقدير سواء كان نفسيّا أم غيريّا ، بينما المعلوم إجمالا هو وجوب الأقلّ نفسيّا أو وجوب الأكثر نفسيّا ، والأوّل ليس مصداقا للثاني.

نظير ما إذا علم إجمالا بوجود إنسان طويل في المسجد ، ثمّ علم تفصيلا بوجود زيد في المسجد ولكنّه لا يعلم هل هو طويل أو قصير؟ فهذا لا يوجب الانحلال الحقيقي لوجود ميزة وخصوصيّة في المعلوم بالإجمال غير محرزة في المعلوم التفصيلي ، وهنا كذلك فإنّ ميزة النفسيّة المعلومة إجمالا غير محرزة تفصيلا ؛ لأنّ الأمر فيه مردّد بين النفسي والغيري.

وإن أريد به الانحلال الحكمي بدعوى أنّ الركن الثالث منهدم ، أي أنّ الأصول الترخيصيّة تجري لنفي وجوب الأكثر ولا تعارضها الأصول الترخيصيّة في الأقلّ ؛ لأن الأقلّ منجّز على كلّ تقدير ، فلا مورد للأصول الترخيصيّة فيه ، فهذا يتوقّف على إثبات كون الأقلّ منجّزا على كلّ تقدير ، إلا أنّ هذا لا يمكن إثباته هنا.

والوجه في ذلك : أنّ الأقلّ لو كان واجبا نفسيّا فهو منجّز ، لكنّه لو كان واجبا غيريّا فهو غير منجّز بمنجّز مستقلّ ، بل منجّزيّته ضمن منجّزيّة الأكثر ؛ لأنّ الواجب الغيري لا ينجّز التكليف على ذمّة المكلّف بقطع النظر عن الواجب المرتبط به ، فلا يكون وجوب الأقلّ منجّزا على كلّ تقدير ، وإنّما يكون منجّزا على تقدير كونه واجبا نفسيّا فقط.

وأمّا على تقدير كونه واجبا غيريّا فالمنجّزيّة لوجوب الأكثر والتي يترشّح منها

ص: 17

وجوب غيري للمقدّمات والأجزاء ، ولذلك لا يعاقب على ترك المقدّمات زائدا على ترك الواجب.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب المقدّمة لا يكون منجّزا إلا بفرض منجّزيّة ذي المقدّمة نفسه ، وهنا إذا فرضنا كون الأقلّ واجبا غيريّا من باب كونه مقدّمة داخليّة للأكثر ، فلا يكون منجّزا إلا بعد إحراز منجّزيّة الأكثر ، والمفروض أنّ وجوب الأكثر ومنجّزيّته مشكوكة للعلم الإجمالي إمّا بوجوبه أو بوجوب الأقلّ ، وحيث إنّه لا يعلم بوجوبه فلا يعلم بوجوب الأقلّ الغيري بل هو مشكوك ، وحينئذ لا يكون وجوب الأقلّ معلوما على كلّ تقدير لكي لا تجري فيه الأصول الترخيصية ، بل هو معلوم على بعض التقادير فقط ، فحاله حال وجوب الأكثر فإنّه معلوم على بعض التقادير أيضا ، ولذلك تكون الأصول الترخيصيّة نسبتها إليهما على حدّ واحد فتجري فيهما معا ، ويقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما ، فيكون العلم الإجمالي على منجّزيّته ولم ينهدم ركنه الثالث.

ومنها : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للأقلّ ؛ لأنّه واجب نفسا إمّا وحده أو في ضمن الأكثر ، وهذا المعلوم التفصيلي مصداق للجامع المعلوم بالإجمال فينحلّ العلم الإجمالي به.

الجواب الثاني : ما يستفاد أيضا من كلمات الشيخ الأنصاري من دعوى الانحلال الحقيقي بتقريب : أنّ العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف النفسي الدائر بين الأقلّ والأكثر ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي ؛ وذلك لأنّ الواجب إمّا أن يكون هو الأقلّ فقط فهذا من الواضح كونه واجبا نفسيّا ؛ لأنّه واجب استقلالي برأسه ، وإمّا أن يكون في ضمن وجوب الأكثر ، وهذا واجب نفسي أيضا ؛ لأنّ الوجوب الضمني واجب نفسي لا غيري ، أي أنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب ينحلّ بالتضمّن إلى وجوبات نفسيّة ضمنيّة بعدد الأجزاء ، فوجوب التسعة والتي هي الأقلّ واجبة ضمنا بالوجوب النفسي.

وحينئذ نقول : إنّ الخصوصيّة والميزة الموجودة في المعلوم الإجمالي وهو كون الواجب نفسيّا يعلم بوجودها تفصيلا في الأقلّ ؛ لأنّه واجب نفسيّا إما مستقلاّ وإمّا ضمنا ، ولذلك يسري العلم من الجامع إلى الفرد فيتنجّز ، بينما الفرد الآخر مشكوك بدوا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

ص: 18

وقد يجاب على هذا الانحلال بأجوبة نذكر فيما يلي مهمّها :

الجواب الأوّل : أنّ الجامع المعلوم إجمالا هو الوجوب النفسي الاستقلالي إمّا للأقلّ أو للأكثر ، وما هو معلوم بالتفصيل في الأقلّ هو الوجوب النفسي ولو ضمنا ، فلا انحلال.

وأورد على هذا الجواب بإيرادات عديدة نذكر أهمّها :

الأوّل : أنّ المعلوم بالإجمال يشتمل على خصوصيّة وميزة غير محرزة الوجود في المعلوم بالتفصيل ، وذلك لأنّ المعلوم إجمالا هو الوجوب النفسي الاستقلالي إما للأقلّ وإمّا للأكثر ؛ لأنّ الأمر مردّد بين وجوب الأقلّ بحدّه وبين وجوب الأكثر بحدّه ، يعني إمّا هذا بنحو مستقلّ وإمّا ذلك بنحو مستقلّ ، ففي الدقّة يوجد خصوصيّتان معلومتان بالإجمال إحداهما كون الواجب نفسيّا ، والأخرى كونه استقلاليّا.

وأمّا المعلوم بالتفصيل فهو وجوب الأقلّ النفسي المردّد بين الاستقلالي والضمني ؛ لأنّ الواجب النفسي إن كان هو الأقلّ فهو واجب نفسي استقلالي ، وإن كان الواجب النفسي هو الأكثر فالأقلّ واجب نفسي ضمني ، وحينئذ لا تكون خصوصيّة الاستقلاليّة محرزة الوجود في الأقلّ المعلوم تفصيلا مع أنّها محرزة ودخيلة قطعا لكون العلم الإجمالي مشتملا عليها ، وحيث إنّه لا توجد ميزة كذلك فلا يصلح المعلوم التفصيلي للانحلال الحقيقي.

وبتعبير آخر : إنّ حدّ الاستقلاليّة دخيل في المعلوم الإجمالي ، وهذا الحدّ لا بدّ من إحرازه تفصيلا لكي يحصل الانحلال الحقيقي.

وفي مقامنا لا يحرز وجود هذا الحدّ تفصيلا للتردّد بين الاستقلاليّة والضمنيّة فلا انحلال إذن.

ويلاحظ : أنّ الاستقلاليّة معنى منتزع من حدّ الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلّق به ، والحدّ لا يقبل التنجّز ولا يدخل في العهدة ، وإنّما يدخل فيها ويتنجّز ذات الوجوب المحدود ، فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسي الاستقلالي وإن لم يكن منحلاّ ، ولكنّ معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة لعدم قابليّة حدّ الوجوب للتنجّز ، والعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود بقطع النظر عن حدّ

ص: 19

الاستقلاليّة هو الذي ينجّز معلومه ويدخله في العهدة ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي المشار إليه.

ويرد عليه : أنّ حدّ الاستقلاليّة منتزع من الوجوب ، ومعناها أنّ هذا الوجوب لا يتعدّى إلى أكثر ممّا تعلّق به ولا يشمل غيره ، وليست حدّا لمتعلّق الوجوب أي للأقلّ أو للأكثر ، فهنا أمران :

1 - أن نقول : إنّ حدّ الاستقلاليّة حدّ لنفس الأقلّ ولنفس الأكثر ، فيكون المراد أنّ الأقلّ بهذا الحدّ هو الواجب فيكون الإتيان بالجزء العاشر مخلاّ بتحقّق الأقلّ ؛ لعدم الحفاظ على استقلاليّته ، وإمّا من جهة الأكثر فيكون حدّ الاستقلاليّة أنّه يجب الإتيان بالعشرة لا أقلّ فيكون العاشر جزءا دخيلا وعدم وجوده يخلّ بالأكثر.

وحينئذ يكون الأمر دائرا بين كون العاشر مانعا أو جزءا ، وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّه إن كان الواجب هو الأقلّ بحدّه الاستقلالي فالعاشر مانع وإن كان الواجب هو الأكثر بحدّه الاستقلالي فالعاشر جزء.

2 - أن نقول : إنّ حدّ الاستقلاليّة حدّ لنفس الوجوب ، أي أنّه منتزع من وجوب الأقلّ أو وجوب الأكثر ، بمعنى أنّ وجوب الأقلّ أو الأكثر واجب لنفسه لا لغيره ، فهذا صحيح ، إلا أنّ حدّ الاستقلاليّة وإن كان معلوما بالإجمال ولكنّه لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّه وصف ينتزع من وجود الأقلّ أو الأكثر ، فوجوده في طول وجودهما ، وهذا يعني أنّ الذمّة تشتغل بذات الوجوب لا بحدّه.

وحينئذ نقول : إنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالوجوب النفسي الاستقلالي للأقلّ أو للأكثر ، غير منحلّ حقيقة بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ إمّا استقلاليّا وإمّا ضمنيّا ؛ لعدم إحراز الميزة الموجودة في العلم الإجمالي.

إلا أنّ المقصود من العلم الإجمالي كونه منجّزا ومدخلا للعهدة والذمّة ، فإذا لم يكن منجّزا لمعلومه فلا أثر له ، وحيث إنّ حدّ الاستقلاليّة غير قابل للتنجيز والدخول في العهدة فلا أثر للعلم الإجمالي به ، وعليه فيكون العلم الإجمالي منجّزا للوجوب النفسي دون الاستقلاليّة ، وهذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة للعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي على كلّ تقدير ، أي سواء كان استقلاليّا أم ضمنيّا.

والحاصل : أنّ حدّ الاستقلاليّة حيث لا يمكن دخوله في العهدة فوجوده وعدمه

ص: 20

على حدّ واحد ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي به مانعا من الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي وإن لم تحرز فيه خصوصيّة الاستقلاليّة ؛ لأنّ إحرازها وعدم إحرازها لا أثر له في عالم الاشتغال والدخول في العهدة.

الجواب الثاني : أنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّا فمتعلّقه الأقلّ مطلقا من حيث انضمام الزائد وعدمه ، وإذا كان ضمنيّا فمتعلّقه الأقلّ المقيّد بانضمام الزائد ، وهذا يعني أنّا نعلم إجمالا إمّا بوجوب التسعة المطلقة أو التسعة المقيّدة ، والمقيّد يباين المطلق ، والعلم التفصيلي بوجوب التسعة على الإجمال ليس إلا نفس ذلك العلم الإجمالي بعبارة موجزة ، فلا معنى لانحلاله به.

الإيراد الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من المنع عن انحلال العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّا فالواجب هو التسعة مطلقا أي لا بشرط من حيث الزيادة ، فسواء ضمّ إليها العاشر أم لا فالتسعة الواجبة متحقّقة ، وأمّا إذا كان وجوب الأقلّ ضمنيّا فالواجب هو التسعة المقيّدة بالعاشر أي بشرط الجزء العاشر والزيادة.

وهذا يعني أنّ وجوب الأقلّ يدور أمره بين كونه مطلقا أو كونه مقيّدا ، والإطلاق والتقييد وصفان متقابلان ؛ لأنّ أحدهما مباين للآخر ، إلا أنّ هذا العلم التفصيلي لا يحقّق الانحلال ؛ لأنّه نفس العلم الإجمالي وعبارة أخرى عنه ، إذ العلم بوجوب الأقلّ إمّا مطلقا وإمّا مقيّدا عبارة أخرى وموجزة ومختصرة عن العلم الإجمالي إمّا بوجوب التسعة وإمّا بوجوب العشرة ، والشيء لا ينحلّ بنفسه بل بغيره.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بوجوب الأقلّ مطلقا عبارة عن العلم بوجوب التسعة ، والعلم بوجوب الأقلّ مقيّدا عبارة عن العلم بوجوب العشرة ، فكان العلم التفصيلي عين العلم الإجمالي وعبارة أخرى عنه وإن اختلفت الألفاظ والتعبيرات ، إلا أنّ الحقيقة شيء واحد.

ويلاحظ هنا أيضا : أنّ الإطلاق - سواء كان عبارة عن عدم لحاظ القيد أو لحاظ عدم دخل القيد - لا يدخل في العهدة ؛ لأنّه يقوّم الصورة الذهنيّة ، وليس له محكي ومرئي يراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة ، بخلاف التقييد.

فإن أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن ؛ لأنّ

ص: 21

الإطلاق لا يقبل التنجّز ، وإن أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجّز ويدخل في العهدة ، فهو منحلّ.

ولكن سيظهر ممّا يلي أنّ دعوى الانحلال غير صحيحة.

ويرد عليه : أنّ حدّ الإطلاق - سواء كان معناه لحاظ عدم القيد أم كان معناه عدم لحاظ القيد - لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق والتقييد وصفان للصور الذهنيّة فهما لحاظان ذهنيّان ، لا وجود لهما في الخارج ؛ لأنّه في الخارج إمّا أن يوجد المفهوم والطبيعة الواجدة للجزء العاشر أو توجد الماهيّة والطبيعة الفاقدة لهذا الجزء ، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع من الخارج هذين الوصفين ويجعلهما حدّين للصور الذهنيّة.

وحينئذ نقول : إنّ ما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة إمّا الأجزاء التسعة وإمّا الأجزاء العشرة أي ذات الطبيعة ، وأمّا وصف الإطلاق فلا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّه لا يوجد له مرئي ومحكي في الخارج بخلاف التقييد فإنّه يحكي عن الخارج وجودا أو عدما.

وعليه ، فإن أريد من العلم الإجمالي بوجوب التسعة المطلقة أو بوجوب التسعة المقيّدة إثبات التنجيز المردد بين الأمرين ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإطلاق لا يقبل التنجيز فالعلم الإجمالي به لا يكون منجّزا ؛ لأنّه ليس دائرا بين تكليفين ، أو لأنّه غير صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير ، فلا يكون هناك علم إجمالي بجامع التكليف ؛ لأنّ الجامع بين التنجيز واللاتنجيز لا يكون منجّزا.

وإن أريد من هذا العلم الإجمالي إثبات التنجيز للقدر الذي يمكن دخوله في العهدة ويمكن اشتغال الذمّة به وهو ذات الطبيعة فهذا وإن كان ممكنا وصحيحا ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة للعلم التفصيلي بوجوب التسعة أي الأقلّ على كلّ تقدير ، فيكون الأكثر مشكوكا بدوا فتجري فيه البراءة.

إلا أنّ هذا الانحلال غير تامّ كما سيأتي توضيحه في الجواب الثالث عن البرهان الأوّل.

ومنها : أنّه إن لوحظ العلم بالوجوب بخصوصيّاته التي لا تصلح للتنجّز - من قبيل حدّ الاستقلاليّة والإطلاق - فهناك علم إجمالي ولكنّه لا يصلح للتنجيز.

ص: 22

وإن لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجّز فلا علم إجمالي أصلا ، بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة وشكّ بدوي في وجوب الزائد.

فالبرهان الأوّل ساقط إذن ، كما أنّ دعوى الانحلال ساقطة أيضا ؛ لأنّها تستبطن الاعتراف بوجود علمين لو لا الانحلال ، مع أنّه لا يوجد إلا ما عرفت.

الجواب الثالث : وهو الصحيح في الجواب عن دعوى وجود العلم الإجمالي المنجّز الدائر بين الأقلّ والأكثر ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي المدّعى إمّا أن تلاحظ فيه الخصوصيّات جميعا ، بما فيها تلك الحدود التي لا تقبل التنجيز والدخول في العهدة ولا تصلح لاشتغال الذمّة بها ، من قبيل وصفي الاستقلاليّة والإطلاق ؛ لأنّهما حدّان منتزعان ولا وجود لهما في الخارج ، وإمّا ألاّ تلاحظ فيه إلا الخصوصيّات التي تقبل التنجيز والدخول في العهدة واشتغال الذمّة.

فإن قيل بالأوّل فهذا العلم الإجمالي غير منحلّ بالعلم التفصيلي بالأقلّ ؛ لأنّه لا يحرز وجود مثل هذه الخصوصيّات في الأقلّ ؛ إذ الاستقلاليّة أو الإطلاق مشكوكان والأقلّ مردّد بينهما ، فهناك ميزة في الجامع المعلوم بالإجمال لا يحرز وجودها في المعلوم بالتفصيل ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي الموجود غير منجّز ؛ لأنّ الخصوصيّات المشتمل عليها والدخيلة فيه بحسب الفرض غير منجّزة ولا تصلح للتنجيز أصلا ، ولذلك لا يكون لمثل هذا العلم الإجمالي أثر ، وبالتالي يسقط عن الاعتبار إذ لا منجّزيّة له ؛ لأنّ الغرض من العلم الإجمالي إثبات التنجيز وهذا غير متحقّق في مقامنا.

وإن قيل بالثاني فالعلم الإجمالي المذكور لا وجود له ؛ وذلك لأنّ ما يقبل التنجيز والدخول في العهدة هو الأقلّ أو الأكثر ، أي التسعة أو العشرة ، وهذا معناه أننا نعلم بوجوب التسعة تفصيلا ولو ضمن العشرة ، ونشكّ في العاشر فتجري البراءة عنه ، كما هو مقتضى الدوران بين الأقلّ والأكثر.

وبهذا نثبت أنّ البرهان الأوّل ساقط ؛ لعدم وجود علم إجمالي.

ومن هنا يعرف أنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي ساقطة أيضا ؛ لأنّ هذه الدعوى تستبطن الاعتراف بكون العلم الإجمالي الأوّل منجّز ثمّ ينحلّ بالعلم التفصيلي المذكور ، مع أنّنا أثبتنا أنّه لا وجود للعلم الإجمالي المنجّز ؛ لأنّ العلم إذا دار بين الأقلّ

ص: 23

والأكثر لم يكن منجّزا أصلا ؛ لأنّه عبارة عن علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي بالأكثر.

ومنها : دعوى انهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقلّ ؛ لأنّه إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول ؛ إذ لا يعقل ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ وترك الأكثر بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعيّة ولا يمكن التأمين بلحاظها.

وهكذا نعرف أنّ الأصل المؤمّن عن وجوب الأقلّ ليس له دور معقول ، فلا يعارض الأصل الآخر.

الجواب الرابع : ما ذكره السيّد الخوئي من الانحلال الحكمي لهذا العلم الإجمالي ؛ وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ إذ الأصل المؤمّن يجري لنفي وجوب الأكثر من دون معارض ، لأنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الأقلّ ؛ لأنّ جريانه فيه غير ممكن ، بتقريب : أنّ الأصل المؤمّن عن وجوب الأقلّ إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ ولكن بشرط الإتيان بالأكثر فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر يستبطن الإتيان بالأقلّ فلا يعقل ترك الأقلّ حالة الإتيان بالأكثر ، فكيف يتمّ التأمين من ناحيته مع أنّه لا بدّ من الإتيان به ولا يمكن تركه تكوينا وواقعا حالة الإتيان بالأكثر؟ فيكون التأمين عنه كذلك بلا أثر وبلا فائدة ، بل غير معقول في نفسه ، ولا يمكن صدوره من الشارع.

وإن أريد بجريان الأصل المؤمّن عن الأقلّ التأمين حالة ترك الأقلّ عند ترك الأكثر أيضا ، أي أنّ المكلّف مؤمّن في ترك الأقلّ إذا ترك الأكثر أيضا ، فهذا مستحيل وغير معقول ؛ لأنّ التأمين المذكور يعني التأمين عند المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ ترك الأقلّ وترك الأكثر معناه الوقوع في المخالفة القطعيّة.

ومن الواضح أنّ التأمين عن المخالفة القطعيّة غير معقول ، ولا يمكن صدوره من الشارع ؛ لما تقدّم في الجزء السابق من عدم إمكان الترخيص لا الواقعي ولا الظاهري في موارد العلم التفصيلي بحكم العقل ، ولا يمكن ذلك في موارد العلم الإجمالي عقلائيّا.

ص: 24

وبهذا يظهر أنّ الأصل المؤمّن عن الأقلّ مستحيل ولا معنى له فلا يجري ، ولذلك يكون جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الأكثر لا معارض له ، وبه يتحقّق الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي.

وهذا بيان صحيح في نفسه ، ولكنّه يستبطن الاعتراف بالركنين الأوّل والثاني ومحاولة التخلّص بهدم الركن الثالث ، مع أنّك عرفت أنّ الركن الثاني غير تامّ في نفسه.

وهذا الجواب وإن كان صحيحا في نفسه لكنّه يستلزم مسبقا الاعتراف بوجود علم إجمالي منجّز وتامّ ، ثمّ يصار إلى إسقاطه عن المنجّزيّة بعدم ركنه الثالث.

إلا أنّ مثل هذا العلم الإجمالي المنجّز لا وجود له كما تقدّم في الجواب الثالث ، أو منحلّ انحلالا حقيقيّا كما تقدّم في الجوابين الأوّل والثاني ، وحينئذ لا مجال للانحلال الحكمي أصلا.

البرهان الثاني :

البرهان الثاني : والبرهان الثاني يقوم على دعوى أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصّل بالنسبة إلى الغرض ، وذلك ضمن النقاط التالية :

أوّلا : أنّ هذا الواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر للمولى غرض معيّن من إيجابه ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات في متعلّقاتها.

ثانيا : أنّ هذا الغرض منجّز لأنّه معلوم ، ولا إجمال في العلم به ، وليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر وإنّما يشكّ في أنّه هل يحصل بالأقلّ أو بالأكثر؟

ثالثا : يتبيّن ممّا تقدّم أنّ المقام من الشكّ في المحصّل بالنسبة إلى الغرض ، وفي مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال كما تقدّم.

البرهان الثاني : ما لعلّه يظهر من صاحب ( الكفاية ) حيث ذكر نظير هذا الكلام في بحث التعبّدي والتوصّلي عند الشكّ فيهما ، ودوران أمر الواجب بين كونه تعبّديّا أو توصّليّا.

وهذا البرهان يبتني على جعل المورد من موارد الشكّ في المحصّل لكن بلحاظ الغرض لا بلحاظ نفس التكليف ، ولا بلحاظ الخروج عن العهدة ، إذ الشكّ في المحصّل تارة يكون بلحاظ التكليف ، وذلك عند الشكّ فيما هو المكلّف به ، وأخرى

ص: 25

يكون بلحاظ الخروج عن عهدة التكليف عند الشكّ في أنّ هذا مصداق للمكلّف به أو ذاك ، وثالثة يكون بلحاظ تحقيق الغرض المطلوب من التكليف.

ومقامنا من القسم الثالث من الشكّ في المحصّل ، وتوضيحه :

أوّلا : أنّ التكليف كما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة كذلك يدخل في العهدة الغرض ؛ لأنّ كلّ تكليف فيه غرض بناء على ما هو الصحيح عند مذهب العدليّة من أنّ الأحكام الشرعيّة كلّها تابعة للمفاسد والمصالح في متعلّقاتها ، وفي مقامنا حيث إنّ التكليف معلوم ولو إجمالا فيدخل في العهدة ، فكذلك الغرض معلوم ويدخل في العهدة.

والواجب هنا وإن كان مردّدا بين الأقلّ والأكثر إلا أنّه على كلا التقديرين يعلم بوجود الغرض المولوي واشتغال الذمّة به.

وثانيا : أنّ الغرض يجب تحصيله كما أنّ التكليف يجب تحصيله أيضا ، وذلك على أساس حكم العقل بحقّ الطاعة ولزوم الامتثال ، فإنّ هذا الحكم لا يختصّ بالتكليف ، بل يشمل الغرض المطلوب من التكليف أيضا ، فالغرض واجب إذن فيجب تحصيله أيضا.

وثالثا : أنّ هذا الغرض الواجب تحصيله بحكم العقل ليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر كما هو حال التكليف ، فإنّ التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر والأقلّ معلوم تفصيلا والأكثر مشكوك بدوا فتجري عنه البراءة.

بينما الغرض شيء واحد لا ترديد فيه ولا إجمال ، وهذا الغرض الواحد يشكّ في تحقّقه وحصوله بالأقلّ ؛ لأنّه لا يعلم هل يتحقّق بالأقلّ أو أنّه يتحقّق بالأكثر.

وبكلمة أخرى : أنّ الواجب مركّب من أجزاء لا يعلم هل هي تسعة أو عشرة؟ فيكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، إلا أنّ الغرض ليس مركّبا بل هو بسيط ، وهذا يعني أنّ الأمر يدور بين وجوده أو عدمه أي أنّه هذا الغرض البسيط والواحد هل يوجد بالأقلّ أو يوجد بالأكثر؟

ورابعا : إنّ المورد ما دام من موارد الشكّ في المحصّل بلحاظ الغرض ، وما دام هذا الغرض واحدا وبسيط أولا يعلم بتحققه عند الإتيان بالأقلّ ، إذ بمجرّد الإتيان بالأقلّ لا يعلم بفراغ الذمّة يقينا وخروجها عن عهدة الغرض ، فلا بدّ من الاحتياط والإتيان بالأكثر ؛ لأنّه هو الذي يؤدّي إلى فراغ الذمّة يقينا من الغرض.

ص: 26

والحاصل : أنّ الشكّ في المحصّل معناه لزوم الاحتياط استنادا إلى أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وحيث إنّنا نعلم بالغرض ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات ، وحيث إنّنا لا نعلم ببراءة الذمّة من الغرض عند الإتيان بالأقلّ لاحتمال أن يكون الأكثر هو المحصّل للغرض دون الأقلّ فيجب الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

ووجوب الإتيان بالأكثر لا من باب الاحتياط في التكليف بلحاظ الشكّ فيما هو المكلّف به ، ليقال بأنّ الأقلّ معلوم يقينا والأكثر مشكوك فينفى بالبراءة ، بل وجوب الأكثر هنا من باب الاحتياط في تحصيل الغرض المطلوب والذي هو أمر آخر اشتغلت به الذمّة إضافة إلى التكليف ، فالذمّة هنا مشغولة بالتكليف ومشغولة بالغرض ، والتكليف يكفي فيه الأقلّ لجريان البراءة عن الزائد ، بينما الغرض لا يكفي فيه إلا الأكثر عند الشكّ في تحصيله ؛ لأنّه أمر وحداني بسيط وليس مركّبا كالتكليف.

ويلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه من قال بأنّ الغرض ليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر كنفس الواجب؟

بأن يكون ذا مراتب وبعض مراتبه تحصل بالأقلّ ولا تستوفى كلّها إلا بالأكثر ، ويشكّ في أنّ الغرض الفعلي قائم ببعض المراتب أو بكلّها ، فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب.

ويرد على هذا البرهان أمران :

الأمر الأوّل : أن ننكر كون الغرض واحدا بسيطا في جميع الموارد ، بل تارة يكون واحدا وأخرى يكون متعدّدا وذا مراتب ، وحينئذ نقول : كما يحتمل في مقامنا أن يكون الغرض واحدا وبسيطا ، وبالتالي حيث يعلم بوجوده واشتغال الذمّة به يقينا ويشكّ في تحقّقه بالأقلّ ، فيجب الإتيان بالأكثر من باب الفراغ اليقيني.

فكذلك يحتمل أن يكون الغرض متعدّدا ؛ وذلك لأنّ الغرض عبارة عن الحسن والقبح الذاتيّين في المتعلّق أو المصلحة والمفسدة فيه ، فيحتمل أن يكون الغرض المطلوب مترتّبا على جميع الأفعال بنفسها لكونه حسنة مثلا ، بأن يكون كلّ جزء وكلّ فعل فيه مصلحة بذاته لكونه حسنا ، فيكون لدينا مجموعة من المصالح لا مصلحة واحدة فقط.

فإذا كان كلّ واحد منهما محتملا ، فيعقل حينئذ أن يكون الغرض كالتكليف

ص: 27

والواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّه إذا كان الغرض ذا مراتب متعدّدة ، وبعض هذه المراتب تحصل بالأقلّ بينما يحصل الجميع بالأكثر ، فنحن نشكّ في كون الغرض الفعلي هو الغرض القائم ببعض المراتب أو هو الغرض القائم بكلّ المراتب نتيجة الشكّ في كون الواجب هو الأقلّ أو الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو الواجب فالغرض قائم ببعض المراتب ، وإن كان الأكثر هو الواجب فالغرض قائم بكلّ المراتب ، ولكن حيث إنّ الغرض القائم ببعض المراتب معلوم تفصيلا ودخيل في العهدة يقينا على كلّ تقدير فيكون الزائد عن ذلك مشكوكا بدوا فتجري عنه البراءة.

وبهذا يظهر أنّه من الممكن تصوير الغرض متعدّدا وذا مراتب فلا يتمّ فيه البرهان المذكور.

نعم ، إذا كان الغرض واحدا وبسيطا فيتمّ البرهان ، إلا أنّ معرفة كون الغرض واحدا أو متعدّدا ليس ميسورا للمكلّف لعدم اطّلاعه على الملاكات ، وإنّما عهدته على الشارع ؛ لأنّه الأعرف بملاكاته ، ولذلك لا بدّ من بيان ذلك شرعا ، فإذا لم يتبيّن ذلك كان المكلّف شاكّا في كون الغرض واحدا أو متعدّدا ، فيكون شاكّا فيما اشتغلت به ذمّته وهل هي مشتغلة بغرض واحد أو بغرض متعدّد؟ والأوّل ذو مئونة زائدة بخلاف الثاني فيكون من الأقلّ والأكثر أيضا.

وهذا نقاش صغروي ؛ لأنّه مبني على التسليم بوجود غرض منجّز ولكنّه مردّد بين كونه غرضا وحدانيّا بسيطا ، أو كونه غرضا مركّبا وذا مراتب.

وثانيا : أنّ الغرض إنّما يتنجّز عقلا بالوصول إذا وصل مقرونا بتصدّي المولى لتحصيله التشريعي ، وذلك بجعل الحكم على وفقه أو نحو ذلك.

فما لم يثبت هذا التصدّي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجّز وما دام مؤمّنا عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر.

الأمر الثاني : وهو نقاش كبروي أي إنكار وجود غرض منجّز في المقام ، وتوضيحه أن يقال : إنّ الغرض إنّما يتنجّز مع فرض وصوله إلى المكلّف كالتكليف ، فما لم يصل الغرض إلى المكلّف فلا يكون منجّزا وبالتالي لا تشتغل به الذمّة ، ولا يدخل في العهدة ؛ إذ يقبح العقاب على ترك شيء لم يصل إلى المكلّف.

ص: 28

فحال الغرض كحال التكليف تماما ، فكما لا عقاب على ترك تكليف غير واصل ، فكذلك لا عقاب على ترك تحصيل غرض غير واصل.

وأمّا كيفيّة وصول الغرض إلى المكلّف فهذا إنّما يكون بتصدّي الشارع لتحصيله ، فإنّه إذا تصدّى المولى لإبراز تحصيل الغرض - إمّا ابتداء ومباشرة بأن جعل الحكم على وفقه ، وإمّا بالإخبار عن كونه مطلوبا ومحبوبا للمولى - فحينئذ يحكم العقل بلزوم تحصيله ، ويكون التقريب المذكور صحيحا وتامّا ؛ لأنّ الغرض قد دخل في العهدة واشتغلت به الذمّة يقينا فيجب إبراؤها اليقيني ، وهذا لا يتمّ إلا بالإتيان بالأكثر ؛ لأنّ الأقلّ وإن كان معلوما على كلّ تقدير لكنّه من جهة الغرض لا يحرز كونه محصّلا للغرض.

وأمّا إذا لم يتصدّ المولى لإبرازه بنحو من الأنحاء فلا يتنجز ولا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ، حتّى وإن علم به المكلّف من طريق آخر غير طريق الشرع ، وحينئذ لا يتمّ التقريب المذكور ، بل يكون الغرض على فرض وجوده معلوما ضمن الأقلّ ، ويشكّ في وجوده ضمن الأكثر فتجري البراءة لنفيه.

وفي مقامنا لم يثبت التصدي المولوي لإبراز الغرض وأنّه ضمن الأكثر ؛ إذ المفروض أنّه لا يوجد دليل ولا أصل ولا شيء من أنحاء التنجيز يثبت الأكثر ، بل الأصل يثبت التأمين والتعذير من ناحية الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ معلوم تفصيلا على كلّ حال.

وما دام الأمر كذلك فلا موجب ولا مبرّر لإثبات كون الغرض في الأكثر ، بل هو مشكوك ، وبما أنّ الأقلّ معلوم تفصيلا فيعلم بتحقّق الغرض به ، فيكون الشكّ في وجوب الغرض بالأكثر شكّا بدويّا وهو مجرى للبراءة لا للاحتياط.

فتبيّن أنّ الغرض ما دام غير ثابت ولا واصل ولا منجّز ولم يتصدّ المولى لإبرازه فلا يحكم العقل بلزوم تحصيله والاحتياط من ناحيته ؛ لأنّه والحال هذه يكون مشكوكا بدوا.

البرهان الثالث :

أنّ وجوب الأقلّ منجّز بحكم كونه معلوما ، وهو مردّد بحسب الفرض بين كونه استقلاليّا أو ضمنيّا ، وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقلّ يسقط هذا

ص: 29

الوجوب المعلوم على تقدير كونه استقلاليّا ؛ لحصول الامتثال ، ولا يسقط على تقدير كونه ضمنيّا ؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة مترابطة ثبوتا وسقوطا ، فما لم تمتثل جميعا لا يسقط شيء منها.

وهذا يعني أنّ المكلّف الآتي بالأقلّ يشكّ في سقوط وجوب الأقلّ والخروج عن عهدته ، فلا بدّ له من الاحتياط.

وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد ، حتّى يقال : إنّه شكّ في التكليف ، بل إنّما هو رعاية للتكليف بالأقلّ المنجّز بالعلم واليقين ، نظرا إلى أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

البرهان الثالث : ويقوم على أساس إبراز أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصّل بلحاظ الخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت الذمّة به يقينا ، والذي يكون مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال العقلي.

وحاصله : أنّنا لو سلّمنا بانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقلّ وشكّ بدوي في وجوب الأكثر ، إلا أنّه مع ذلك يجب الإتيان بالأكثر ولا يكفي الاقتصار على الأقلّ.

ببيان : أنّ الأقلّ بحسب الفرض معلوم وجوبه تفصيلا ، إلا أنّه مع ذلك مردّد بين كونه واجبا استقلاليّا فيما إذا كان الواجب الأقلّ وحده أو واجبا ضمنيّا فيما إذا كان الواجب الأقلّ ضمن الأكثر ، وهذا معناه اشتغال الذمّة يقينا بالأقلّ على كلا التقديرين ، ويجب إخراجها عن عهدته وإبراؤها منه يقينا ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وعليه فإذا اقتصر في الامتثال والخروج عن العهدة بالإتيان بالأقلّ وحده ، سوف يعلم ببراءة ذمّته ممّا اشتغلت به على تقدير كون الأقلّ الذي اشتغلت به الذمّة هو الأقلّ الاستقلالي ، وأمّا على تقدير كون الأقلّ الداخل في العهدة هو الأقلّ الضمني فالذمّة لا تزال مشتغلة به ولم تخرج عن عهدته ؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة حيث إنّها مترابطة فيما بينها في عالم الثبوت فهي مترابطة فيما بينها أيضا بلحاظ عالم الامتثال والسقوط والخروج عن العهدة ، إذ الوجوب الضمني لا يمتثل إلا ضمنا ، أي أنّ الأقلّ الضمني لا يتحقّق امتثاله إلا بلحاظ كونه ضمنيّا ، وهذا لا يتأتّى إلا بالإتيان بالأكثر لكي يتحقّق عنوان الضمنيّة للأقلّ.

ص: 30

وبهذا ظهر أنّ المكلّف وإن كان يعلم بوجوب الأقلّ على كلّ حال ، إلا أنّه بلحاظ تحصيل الخروج عن العهدة للتكليف الذي اشتغلت به الذمّة لا بدّ له من الاحتياط والإتيان بالأكثر.

ووجوب الأكثر هنا ليس بابه باب الاحتياط في الإتيان بالتكليف الزائد ليقال : إنّ احتمال التكليف الزائد مجرى للبراءة ، بل بابه باب الاحتياط في الخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت به الذمّة.

فالأكثر في نفسه ليس واجبا وإنّما يجب بلحاظ كونه مقدّمة لتحقيق الامتثال والفراغ اليقيني.

والجواب على ذلك : أنّ الشكّ في سقوط تكليف معلوم إنّما يكون مجرى لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشكّ في الإتيان بمتعلّقه ، وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ - سواء كان استقلاليّا أو ضمنيّا - قد أتي بمتعلّقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلّقة إلا الأقلّ ، وإنما ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصور في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيّته المانعة عن سقوطه مستقلاّ عن وجوب الزائد.

وهكذا يرجع الشكّ في السقوط هنا إلى الشكّ في ارتباط وجوب الأقلّ بوجوب زائد.

والجواب على هذا البرهان أن يقال : إنّ الشكّ في سقوط التكليف المعلوم دخوله في العهدة على نحوين :

الأوّل : أن يكون الشكّ ناشئا من الشكّ في الإتيان بالتكليف ، أي أنّه لا يعلم هل أتى بمتعلّق التكليف أو لا؟

فهنا سوف يشكّ في أنّه امتثل المأمور به أو لا ، وبالتالي سوف يشكّ في سقوط التكليف وخروجه عن عهدته أو أنّه لا يزال مشغول الذمّة به ، وهذا الشكّ هو مورد قاعدة الاشتغال اليقيني المستدعي للفراغ اليقيني.

الثاني : أن يكون الشكّ ناشئا من الشكّ في أنّ التكليف هل هو متعلّق بهذا المقدار الذي أتى به أو أنّه متعلّق بشيء آخر أيضا زائدا عليه؟ فهنا يعلم بأنّ ما أتى به متعلّقا للتكليف يقينا وأنّ الذمّة مشتغلة به يقينا ، إلا أنّه يشكّ في اشتغاله بشيء آخر

ص: 31

زائدا عليه يكون على فرض وجوده وثبوته واشتغال الذمّة به مانعا من الخروج عن العهدة وعن سقوط التكليف ، وهذا النحو من الشكّ يرجع إلى الشكّ في تكليف زائد عمّا هو معلوم ويكون مجرى لأصالة البراءة.

وفي المقام إذا كان الشكّ من النحو الأوّل جرت فيه أصالة الاشتغال العقلي ، وأمّا إذا كان من النحو الثاني فهو مجرى لأصالة البراءة العقليّة أو الشرعيّة ، ولذلك نقول :

إنّ وجوب الأقلّ المعلوم يقينا اشتغال الذمّة به إمّا استقلالا وإمّا ضمنا قد أتى به المكلّف وامتثله وبالتالي قد سقط التكليف بالأقلّ ؛ لأن التكليف متعلّق بالأقلّ وقد أتى به ، فلا شكّ في امتثاله للمتعلّق.

إلا أنّه هنا يشكّ في سقوط التكليف من ناحية أخرى ، وهي أنّ الأقلّ لو كان وجوبه ضمنيّا فهو لا يسقط بالامتثال الاستقلالي للأقلّ ، بمعنى أنّ الإتيان بالأقلّ الاستقلالي يمنع من تحقّق الامتثال فيما لو كان الأقلّ واجبا ضمنا ؛ لأنّ الواجب الضمني لا يتحقّق ولا يمتثل إلا بالإتيان به ضمنا.

وهذا النحو من الشكّ مرجعه بالدقّة إلى الشكّ في كون الأقلّ مستقلاّ عن الزائد أو هو مرتبط بالزائد ، أي أنّ التكليف هل هو متعلّق بالمقدار الذي أتى به فقط ، أو أنّه متعلّق بشيء آخر زائد على ذلك؟ وهذا يجعل المورد من القسم الثاني لا الأوّل ، ولذلك نقول :

ومثل هذا الشكّ ليس مجرى لأصالة الاشتغال ، بل يكون مؤمّنا عنه بالأصل المؤمّن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى أنّ ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقلّ ، بل بمعنى أنّه يجعل المكلّف غير مطالب من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.

بعد أن تبيّن أنّ الشكّ في مقامنا من الشكّ في وجوب الأقلّ المرتبط بوجوب الزائد ، نقول : إنّ وجوب الزائد المشكوك يجري فيه الأصل المؤمّن ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد على التكليف المعلوم ، فيثبت أنّ ما تعلّق به التكليف واشتغلت به الذمّة يقينا وهو الأقلّ قد امتثل ؛ لأنّ المكلّف قد أتى بالأقلّ.

وأمّا الأكثر أي وجوب الزائد فهو منفي بالأصل المؤمّن ، وهذا الأصل ينفي لنا

ص: 32

وجوب الأكثر ، بمعنى أنّ الذمّة لم تشتغل به يقينا ولم يدخل في العهدة ، وبالتالي لم يتعلّق به التكليف.

ولا يراد بهذا الأصل المؤمّن إثبات سقوط وجوب الأقلّ ليقال بأنّه من الأصل المثبّت بتقريب أنّ جريان البراءة عن الأكثر لازمه ثبوت وجوب الأقلّ ، وحيث إنّه امتثله فيتحقّق سقوط وجوبه.

بل المراد بهذا الأصل أنّ المكلّف ليس مطالبا بأكثر من الإتيان بالأقلّ في مقام إسقاط التكليف والخروج عن العهدة ، من جهة أنّ الزائد مؤمّن عنه ، فلا حاجة إلى الإتيان به في مقام الخروج عن عهدة التكليف ، بل الخروج كذلك يتحقّق بالإتيان بالأقلّ فقط.

البرهان الرابع :

وهو علم إجمالي يجري في الواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها كالصلاة ، إذ يقال بأنّ المكلّف إذا كبّر تكبيرة الإحرام ملحونة وشكّ في كفايتها حصل له علم إجمالي إمّا بوجوب إعادة الصلاة ، أو حرمة قطع هذا الفرد من الصلاة التي بدأ بها ؛ لأنّ الجزء إن كان يشمل الملحون حرم عليه قطع ما بيده وإلا وجبت عليه الإعادة ، فلا بدّ له من الاحتياط ؛ لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض أصالة البراءة عن حرمة قطع هذا الفرد.

البرهان الرابع : ما ذكره المحقّق العراقي ، من إبراز علم إجمالي منجّز ، إلا أنّه مختصّ في الموارد التي يكون الواجب فيها مركّبا بنحو لا يجوز قطعه عند الشروع فيه ، وبنحو لا تجري فيه قاعدة ( لا تعاد ) ، كما في الصلاة والحجّ مثلا.

فإنّ المكلّف إذا شكّ في أوّل الصلاة أنّ تكبيرة الإحرام الملحونة هل تكفي لتحقّق المأمور به أو لا بدّ من التكبيرة الصحيحة؟

أو شكّ في أنّ الاستقبال للقبلة هل يكتفى فيه بالبناء على النظر العرفي التسامحي أو لا بدّ فيه من الدقّة؟

وعليه فإذا كبّر تكبيرة ملحونة أو استقبل القبلة من دون بناء على الدقّة فلو كان ذلك كافيا لوجب عليه الإتمام ؛ لأنّه شرع في تكليف يحرم قطعه ، وإذا لم يكن كافيا بأن كان الواجب هو التكبيرة الصحيحة أو الاستقبال الدقيق وجب عليه الإعادة من

ص: 33

جديد ؛ لأنّه لا يكون قد دخل في الصلاة أصلا. فيكون الأمر دائرا بين وجوب الإتمام أو وجوب الإعادة أي وجوب الإتمام مع الأقلّ أو وجوب الإعادة مع الأكثر ، هذا هو التصوير الفنّي والصحيح لهذا المانع.

وأمّا ما ذكره المحقّق العراقي من دوران الأمر بين وجوب الإعادة وحرمة القطع فهو يتصوّر فيما إذا كان الشكّ في السورة وكونها جزءا من الصلاة أو لا ، فإنّه إذا شرع في الصلاة وقرأ الحمد من دون السورة ثمّ ركع - وهذا يعني تجاوز المحلّ لأنّه قد دخل في الركن - سوف يعلم إجمالا : إمّا بحرمة قطع هذه الصلاة ووجوب إتمامها بأن لم تكن السورة جزءا من الصلاة ، وإمّا بوجوب القطع والإعادة بأن كانت السورة جزءا من الصلاة وقد تركها عمدا بحسب الفرض لا نسيانا أو جهلا.

وهذا العلم الإجمالي الدائر بين حرمة القطع ووجوب الإعادة منجّز ويجب الاحتياط تجاهه ، وذلك بأن يتمّ ما بيده من صلاة ثمّ يأتي بصلاة جديدة مع الأكثر فيكون قد امتثل كلا الطرفين.

وهذا العلم الإجمالي ليس منحلاّ لا حقيقة ولا حكما.

أمّا الأوّل فواضح ، إذ لا علم لنا بأحد الفردين.

وأمّا الثاني فلأنّ الأصل المؤمّن الجاري لنفي وجوب الإعادة معارض بالأصل المؤمّن لنفي حرمة القطع ، فإنّ كلاّ من وجوب الإعادة وحرمة القطع يعتبر تكليفا زائدا عن الواجب المأمور به وهو الصلاة.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان دائرا بين الأقلّ والأكثر قبل الشروع في الصلاة حيث يشكّ في وجوب السورة وعدمها ، ولكنّه بعد الشروع في الصلاة وتجاوز المحلّ أي بعد الدخول في الركن كالركوع سوف ينقلب هذا العلم الإجمالي إلى العلم الإجمالي بين وجوب الإتمام أو حرمة القطع ، وبين وجوب الإعادة والاستئناف.

ونلاحظ على ذلك : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة التي يجوز للمكلّف بحسب وظيفته الفعليّة الاقتصار عليها في مقام الامتثال ؛ إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك.

وواضح أنّ انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة

ص: 34

عن وجوب الزائد ، وإلا لما جاز الاقتصار عليها عملا ، وهذا يعني أنّ احتمال حرمة القطع مترتّبة على جريان البراءة عن الزائد فلا يعقل أن يستتبع أصلا معارضا له.

والجواب على هذا البرهان أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي الدائر بين وجوب إعادة الصلاة وبين حرمة قطعها منحلّ انحلالا حكميّا ؛ وذلك لأنّ البراءة تجري لنفي وجوب الإعادة بلا معارض ؛ لأنّ البراءة لا تجري لنفي حرمة قطع الصلاة.

وتوضيحه : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها الصلاة التي يجوز الاكتفاء بها والاقتصار عليها في مقام الامتثال ولو ظاهرا ، فلكي تثبت حرمة القطع لا بدّ أوّلا من إثبات كون الصلاة التي أتى بها وشرع فيها من دون الإتيان بالسورة ممّا يمكن ويصحّ الاكتفاء بها عمليّا ، إلا أنّ إثبات ذلك فرع كون السورة مؤمّنا عنها ، وهذا إنّما يثبت بجريان البراءة عن الزائد والاكتفاء بالأقلّ ، فإنّه إذا كان الأقلّ كافيا كانت الصلاة صحيحة وبالتالي يحرم قطعها.

والوجه في ذلك : أنّ دليل حرمة قطع الصلاة هو الإجماع والذي هو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو الصلاة الصحيحة ولو ظاهرا ، والتي يصحّ الاكتفاء بها في الامتثال ، ولا شمول لهذا الدليل لأكثر من هذا المقدار ، بل يعلم بعدم الشمول ؛ لأنّ الصلاة إذا لم يصحّ الاكتفاء بها فلا معنى لحرمة قطعها ؛ لأنّها لا تكون صلاة بالدقّة.

وحينئذ نقول : إنّ حرمة قطع الصلاة مترتّبة ومتفرّعة على جريان البراءة أوّلا لنفي وجوب الزائد ، فهي في طول جريان البراءة إذ قبل جريانها لا يعلم بحرمة قطع الصلاة ؛ لأنّه إذا ترك السورة وكانت جزءا من الصلاة فهذا يعني أنّ صلاته باطلة ، والصلاة الباطلة لا يحرم قطعها إجماعا.

ولذلك لا يمكن أن تجتمع البراءة لنفي الأكثر والزائد مع البراءة لنفي حرمة قطع الصلاة ؛ لأنّ البراءة الثانية للزائد تنقّح موضوع حرمة القطع فتكون الحرمة ثابتة قطعا لثبوت موضوعها ، ومعه لا مجال لجريان البراءة عنها ؛ إذ لا مورد للبراءة في حالة العلم.

وبتعبير آخر : إنّ احتمال حرمة القطع والذي يكون موردا للبراءة فرع عدم جريان

ص: 35

البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّه لو جرت البراءة عن وجوب الزائد تنقّح موضوع حرمة القطع فصارت ثابتة قطعا ، وإذا لم تجر البراءة كذلك فحرمة القطع محتملة ومشكوكة فتكون مجرى للبراءة.

وهذا يعني أنّه لا يمكن أن تجتمع البراءة لنفي الزائد مع البراءة لنفي حرمة القطع ، بل إحداهما فقط هي الجارية ، ولذلك يكون العلم الإجمالي المذكور منحلاّ حقيقة.

والحكم في مثل هذا المورد يختلف باختلاف الأصل الجاري في المقام ، فقد يكون الأصل الجاري هو البراءة عن وجوب الزائد فيكون الحكم وجوب الإتمام وحرمة القطع ، وهذا يكون في مثل الشكّ في جزئيّة السورة.

وأمّا في مثل صحّة التكبيرة الملحونة أو صحّة الاستقبال العرفي المسامحي دون الدقّي والصحيح ، فهنا إذا لم تكن التكبيرة الملحونة كافية فهو لم يشرع في الصلاة أصلا ليحرم قطعها ، وإذا كانت كافية فيحرم قطعها فيشكّ في حرمة القطع فتجري عنها البراءة ، وتتعارض مع البراءة الجارية بلحاظ وجوب الإعادة ؛ لأنّها مشكوكة أيضا فيحكم بالاحتياط أي الإتمام ثمّ الإعادة.

البرهان الخامس :

وحاصله تحويل الدوران في المقام إلى دوران الواجب بين عامّين من وجه بدلا عن الأقلّ والأكثر ، وتوضيح ذلك ضمن مقدّمتين :

البرهان الخامس : وهو مختصّ في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر في الواجبات العباديّة لا التوصّليّة ؛ لأنّ الواجبات العباديّة حيث إنّها تشتمل زائدا على الإتيان بالمتعلّق كون الإتيان به بداعي القربة لله تعالى ، فيمكن فيها انقلاب الأقلّ والأكثر إلى العامّين من وجه ، فيكون لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر جهة افتراق عن الآخر وهناك مادّة اجتماع ، وإذا دار الأمر كذلك فيتنجّز خصوص مادّة الاجتماع دون مادّتي الافتراق ، ومادّة الاجتماع هنا هي الإتيان بالأكثر المشتمل على الزائد.

وأمّا كيفيّة تصوير هذا المطلب فهذا يتّضح ضمن المقدّمتين التاليتين :

الأولى : أنّ الواجب تارة يدور أمره بين المتباينين كالظهر والجمعة ، وأخرى بين العامّين من وجه كإكرام العادل وإكرام الهاشمي ، وثالثة بين الأقلّ والأكثر.

ولا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الأولى الموجب للجمع بين

ص: 36

الفعلين ، وتنجيزه في الحالة الثانية الموجب ؛ لعدم جواز الاقتصار على إحدى مادّتي الافتراق ، وأمّا الحالة الثالثة فهي محلّ الكلام.

المقدّمة الأولى : أنّ التردّد في الواجب على أنحاء ثلاثة :

1 - أن يكون الواجب مردّدا بين المتباينين ، كأن يعلم بوجوب الصلاة مثلا ويتردّد أمرها بين الظهر أو الجمعة ، وهنا لا إشكال في كون هذا العلم الإجمالي منجّزا لطرفيه بمعنى وجوب الإتيان بالظهر والجمعة ، كما تقدّم في مباحث العلم الإجمالي.

2 - أن يكون الواجب مردّدا بين العامّين من وجه ، كأن يعلم بوجوب الإكرام مثلا ويتردّد أمره بين إكرام العالم أو إكرام الهاشمي ، فهنا العالم يشمل الهاشمي وغير الهاشمي ، والهاشمي يشمل العالم وغير العالم ، فيجتمعان في العالم الهاشمي ، ويفترق الهاشمي عن العالم في الهاشمي غير العالم ، ويفترق العالم عن الهاشمي في العالم غير الهاشمي ، ومثل هذا العلم الإجمالي يكون منجّزا لمادّة الاجتماع أي وجوب إكرام العالم الهاشمي ، ولا يصحّ الاكتفاء بإحدى مادّتي الافتراق.

3 - أن يكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كأن يعلم بوجوب الصلاة ولا يدري أنّها تسعة أجزاء أو عشرة ، وحكم هذا الدوران يتحدّد على أساس أن الأقلّ والأكثر هل هما من العلم التفصيلي بالأقلّ والشكّ البدوي في الأكثر ، أو هما من المتباينين ، أو هما من العامّين من وجه؟

وسوف نرى أنه بالإمكان إرجاعهما إلى العامّين من وجه.

الثانية : أنّ الواجب المردّد في المقام بين التسعة والعشرة إذا كان عباديّا فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالأقلّ وامتثاله على تقدير تعلّقه بالأكثر هي العموم من وجه.

ومادّة الافتراق من ناحية الأمر بالأقلّ واضحة ، وهي أن يأتي بالتسعة فقط.

وأمّا مادّة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر فلا تخلو من خفاء في النظرة الأولى ؛ لأنّ امتثال الأمر بالأكثر يشتمل على الأقلّ حتما ، ولكن يمكن تصوير مادّة الافتراق في حالة كون الأمر عباديّا والإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلّق بالأكثر على وجه التقييد على نحو لو كان الأمر متعلّقا بالأقلّ فقط لما انبعث عنه ، ففي

ص: 37

مثل ذلك يتحقّق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ، ولا يكون امتثالا للأمر بالأقلّ على تقدير ثبوته.

المقدّمة الثانية : أنّ مورد تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر تارة يكون الواجب المردّد توصّليّا ، وأخرى يكون عباديّا.

فإن كان توصّليّا فلا كلام في أنّ الزائد تجري فيه البراءة ؛ لأنّ الأقلّ معلوم على كلّ تقدير.

وإن كان تعبّديّا كالصلاة فهنا تكون النسبة بين امتثال الأقلّ وامتثال الأكثر العموم والخصوص من وجه ، أي أنّ الأقلّ يفترق عن الأكثر ، والأكثر يفترق عن الأقلّ ، ويجتمع كلّ منهما معا.

أمّا مادّة افتراق الأقلّ عن الأكثر فواضحة وهي فيما إذا أتى بالتسعة فقط ، فإنّه لا ينطبق عليها عنوان الأكثر.

وأمّا مادّة الاجتماع بينهما فهي الإتيان بالعشرة بقصد امتثال الأمر الواقعي ، لا بقصد امتثال الأقلّ بخصوصه ، ولا بقصد امتثال الأكثر بخصوصه ، فإنّ الإتيان بالعشرة بقصد امتثال مطلق الأمر ينطبق على الأقلّ والأكثر معا.

وأمّا مادّة افتراق الأكثر عن الأقلّ فقد يقال : إنّ هذا غير معقول إذ لا يمكن تصوّر الأكثر من دون الأقلّ ؛ لأنّ العشرة لا تتحقّق إلا بالتسعة ، إلا أنّ الصحيح إمكان ذلك استنادا إلى المبنى الفقهي المشهور من أنّ الإتيان بالأكثر بقصد التقييد يمنع من انطباقه على الأقلّ ، بمعنى أنّه يقصد الإتيان بالأكثر بعنوان امتثال الأمر المتعلّق بالأكثر بحيث إنّه لو كان الأمر متعلّقا بالأقلّ لما كان امتثله وانبعث نحوه ، فيكون الإتيان بالأكثر بهذا القيد امتثالا للأمر بالأكثر دون الأقلّ ؛ لأنّه قصد عدم امتثاله والانبعاث عنه.

نظير ما لو علم بصدور أمر بالصلاة مردّد بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه إذا قصد امتثال الأمر الواقعي يكون قد جمع بين الوجوب والاستحباب ، وإذا قصد الاستحباب بخصوصه فلا ينطبق على الوجوب وكذا العكس ، وهذا ما يسمّى بقصد الأكثر على نحو التقييد لا على نحو التطبيق.

وحينئذ يقال : إنّ العلم الإجمالي يدور بين العامّين من وجه ، وفي مثل ذلك يتنجّز

ص: 38

مادّة الاجتماع ولا يكتفى بإحدى مادّتي الافتراق ، فيجب الإتيان بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي.

ويثبت على ضوء هاتين المقدّمتين أنّ العلم الإجمالي في المقام منجّز إذا كان الواجب عباديّا كما هو واضح.

وبهذا ظهر أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر العباديّين ينقلب إلى الدوران بين العامّين من وجه والذي يكون منجّزا لمادّة الاجتماع.

والجواب : أنّ التقييد المفروض في النيّة لا يضرّ بصدق الامتثال على كلّ حال حتّى للأمر بالأقلّ ما دام الانبعاث عن الأمر فعليّا.

والجواب عن هذا البرهان أن يقال : إنّ المبنى الفقهي المبتني عليه هذا البرهان غير تامّ ؛ وذلك لأنّنا ننكر أن يكون هناك نحوان من قصد الامتثال : أحدهما بعنوان التطبيق ، والآخر بعنوان التقييد ، وإنّما هناك نحو واحد فقط ، وهو قصد امتثال الأمر والانبعاث الفعلي نحو المأمور به الناشئ من تعلّق الأمر به.

والدليل على ذلك هو : أنّ المستند لوجوب الانبعاث عن الأمر وقصد امتثاله هو الإجماع ، وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن منه وهو قصد القربة مطلقا ، أو قصد الامتثال والانبعاث الفعلي عن الأمر ، ولذلك فإذا أضاف قيدا زائدا على ذلك وهو كون الانبعاث والامتثال للأمر بنحو التقييد لخصوص الأكثر لا يكون مضرّا في صدق الانطباق على الأقلّ حقيقة وفي صدق تحقّق الانبعاث والامتثال للأمر.

البرهان السادس : وهو يجري في الواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة كالصلاة ، والزيادة هي الإتيان بفعل بقصد الجزئيّة للمركّب مع عدم وقوعه جزءا له شرعا.

وحاصل البرهان : أنّ من يشكّ في جزئيّة السورة يعلم إجمالا إمّا بوجوب الإتيان بها وإمّا بأنّ الإتيان بها بقصد الجزئيّة مبطل ؛ لأنّها إن كانت جزءا حقّا وجب الإتيان بها ، وإلا كان الإتيان بها بقصد الجزئيّة زيادة مبطلة.

وهذا العلم الإجمالي منجّز وتحصل موافقته القطعيّة بالإتيان بها بدون قصد الجزئيّة ، بل لرجاء المطلوبيّة أو للمطلوبيّة في الجملة.

البرهان السادس : وهو يبتني على قاعدة فقهيّة صحيحة ، ومفادها أنّ الإتيان

ص: 39

بالجزء بقصد الجزئيّة مانع ومبطل للمركّب ، فيما إذا لم يكن هذا الجزء المأتي به جزءا واقعا ، فهذا البرهان يختصّ في المركّبات العباديّة التي تعتبر الزيادة فيها على تقدير عدم ثبوتها واقعا مانعة ومبطلة للمركّب إذا قصد الجزئيّة حين الإتيان بها ، وحينئذ سوف يكون الدوران بين الأقلّ والأكثر في مثل هذه الموارد من الدوران بين العامّين من وجه ، والتي يكون العلم الإجمالي فيه منجّزا لمورد الاجتماع.

وحاصل البرهان أن يقال : إذا شكّ المكلّف في وجوب السورة وعدم وجوبها ، فهذا الشكّ ابتداء من الأقلّ والأكثر ؛ لأنّه إمّا أن تجب تسعة أجزاء أو عشرة ، إلا أنّه بالالتفات إلى كون السورة جزءا أو زيادة ، فسوف يحصل له علم إجمالي إمّا بوجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة لاحتمال كونها جزءا دخيلا في المركّب واقعا ، وإمّا بوجوب تركها وحرمة الإتيان بها بقصد الجزئيّة ؛ لأنّها حينئذ سوف تكون زيادة مبطلة للمركّب على تقدير عدم جزئيّتها واقعا.

وهذا العلم الإجمالي دائر بين العامّين من وجه ، فيكون منجّزا لمورد الاجتماع ، ولا يصحّ الاكتفاء بأحد موردي الافتراق.

وبيان ذلك : أمّا مورد افتراق الأقلّ فهو الإتيان بالمركّب من دون الإتيان بالسورة لكونها زيادة مبطلة.

وأمّا مورد افتراق الأكثر فهو الإتيان بالمركّب مع الاتيان بالسورة بقصد الجزئيّة.

وأمّا مورد الاجتماع فهو الإتيان بالمركّب مع الإتيان بالسورة لا بقصد الجزئيّة ، بل بقصد المطلوبيّة للوجوب ، أو بقصد مطلق المطلوبيّة الأعمّ من الوجوب والاستحباب.

فإذا أتى بمورد الاجتماع تحقّقت الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ، وبذلك يثبت وجوب الإتيان بالأكثر.

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ؛ وذلك لأنّ هذا الشاكّ في الجزئيّة يعلم تفصيلا بمبطليّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة حتّى لو كانت جزءا في الواقع ؛ لأنّ ذلك منه تشريع ما دام شاكّا في الجزئيّة فيكون محرّما ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة ، وهذا يعني كونه زيادة.

والجواب عن ذلك أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حكما ، وذلك لجريان أصل البراءة عن وجوب الزيادة أي السورة بلا معارض.

ص: 40

وتقريبه : أنّ هذا الشاكّ يعلم تفصيلا أنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة زيادة مبطلة على كلّ تقدير ، أي سواء كان الواجب في الواقع هو الأقلّ أم كان هو الأكثر.

أمّا على تقدير كون الواجب هو الأقلّ فواضح ؛ لأنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مبطل حتما ؛ لأنّه يكون قد أتى بما ليس بواجب ، وما ليس بجزء بهذا القصد.

وأمّا على تقدير كون الأكثر هو الواجب واقعا فكذلك يكون الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مبطلا ؛ لأنّه لا يعلم بوجوب الأكثر وإنّما هو شاكّ في وجوبه ، ومع الشكّ في وجوبه يكون الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة تشريعا محضا وهو محرّم ؛ لأنّه ينسب إلى الشريعة ما لا يعلم أنّه منها ؛ لأنّ الفرض كونه شاكّا في وجوب الأكثر.

يبقى وجوب الإتيان بالسورة لا بقصد الجزئيّة ، وهذا الوجوب غير معلوم ، بل هو مشكوك بدوا ، فتجري فيه البراءة بلا معارض ؛ لأنّ معارضه وهو البراءة عن وجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة على كلا التقديرين لا يجري ؛ لأنّ وجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة معلوم كونه مبطلا ومانعا تفصيلا ، ومع العلم به كذلك لا مجال لجريان البراءة عنه.

يبقى احتمال أن تكون السورة واجبة بالوجوب الضمني ، وهذا الاحتمال باطل ؛ لأنّ كون السورة واجبة ضمنا فرع أن يكون الأمر بالمركّب متعلّقا بالأكثر ، فإنّه إذا كان متعلّقا بالأكثر كان هناك وجوب ضمني لكلّ جزء من أجزائه حتّى السورة ، إلا أنّ المفروض أنّ وجوب الأكثر مشكوك فيكون الوجوب الضمني للسورة مشكوكا فتجري فيه البراءة من دون معارض كما تقدّم.

وبهذا اتّضح أنّه ليس هناك مانع من جريان البراءة في مسألة الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء ؛ لأنّ كلّ ما ذكر من أدلّة وبراهين للمنع غير تامّة.

وبهذا ينتهي البحث عن مسألة الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

* * *

ص: 41

ص: 42

الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

اشارة

ص: 43

ص: 44

2 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

والتحقيق فيها - على ضوء المسألة السابقة - هو جريان البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّ مرجع الشرطيّة للواجب إلى تقيّد الواجب بقيد وانبساط الأمر على التقيّد ، كما تقدّم في موضعه (1) ، فالشكّ فيها شكّ في الأمر بالتقيّد.

والدوران إنّما هو بين الأقلّ والأكثر إذا لوحظ المقدار الذي يدخل في العهدة ، وهذا يعني وجود علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الزائد فتجري البراءة عنه.

إذا شكّ في وجوب شرط مع الواجب ، كما إذا شكّ في وجوب الطهارة مع الصلاة ، فهذا من الشكّ في الأقلّ والأكثر في الشرائط ، بمعنى أنّ الواجب هل هو الصلاة فقط ، أو الصلاة مع الطهارة؟

والتحقيق في ذلك أن يقال : إنّ البراءة تجري لنفي الشرط الزائد المشكوك ، كما هو الحال في الشكّ في الجزء الزائد تماما.

والوجه في ذلك : أنّ مرجع الشكّ في الشرطيّة للواجب إلى الشكّ في أنّ المأمور به هل هو ذات الطبيعة أو حصّة خاصّة من الطبيعة؟ لأنّ الشرطيّة للواجب معناها تقيّد الواجب بقيد ، وتعلّق الأمر بذات الواجب وبالتقيّد بذلك القيد لا بذات الواجب فقط ؛ لأنّ القيد يحصّص الواجب إلى حصّتين ، الأولى الصلاة من دون القيد والثانية الصلاة مع القيد ، بحيث يكون المأمور به هو الحصّة الخاصّة من الواجب لا الواجب كيفما اتّفق.

وحينئذ يكون الشكّ في الشرط مرجعه في الحقيقة إلى الشكّ في الأمر بالتقيّد زائدا على ذات الواجب ، وهذا يعني أنّه دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ ذات الواجب

ص: 45


1- بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

معلوم على كلّ تقدير سواء كان الشرط موجودا أم لا ، ويشكّ في وجوب زائد وهو تقيّد الواجب بهذا القيد فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه تكليف زائد مشكوك.

وبهذا يكون هذا العلم الإجمالي منحلاّ انحلالا حقيقيّا ؛ لأنّ ما يدخل في العهدة على كلّ تقدير هو ذات الواجب ، ويشكّ في دخول شيء زائد في العهدة وهو التقيّد الناشئ من الشكّ في وجوب الشرط.

والحاصل : أنّ الشكّ في دخالة الشرط كالشكّ في دخالة الجزء في كونه مجرى للبراءة.

غاية الأمر الفرق بينهما من جهة أنّ الجزء يكون بنفسه مأمورا به بنحو الوجوب الضمني المترشّح عليه من الأمر بالمركّب ، بينما الشرط لا يكون بنفسه مأمورا به ، بل المأمور به هو تقيّد الواجب بهذا الشرط لا الشرط نفسه ، وإنّما الشرط يفيدنا في تحصيص الواجب إلى حصّتين حصّة مطلقة وحصّة مقيّدة ، ثمّ ينصبّ الأمر على الحصّة المقيّدة والتي هي بالتحليل العقلي تقسّم إلى جزءين ذات الواجب والشرط ، فهو جزء تحليلي للواجب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط المشكوك راجعا إلى متعلّق الأمر كما في الشكّ في اشتراط العتق بالصيغة العربيّة واشتراط الصلاة بالطهارة ، أو إلى متعلّق المتعلّق ، كما في الشكّ في اشتراط الرقبة التي يجب عتقها بالإيمان أو الفقير الذي يجب إطعامه بالهاشميّة.

ثمّ إنّ الحكم الذي ذكرناه عند الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط وهو جريان البراءة ، لا يختلف سواء كان الشكّ في الشرطيّة راجعا إلى متعلّق الأمر أم كان راجعا إلى متعلّق المتعلّق.

أمّا النحو الأوّل أي يكون الشكّ راجعا إلى متعلّق الأمر ، كما إذا شكّ في اشتراط الصلاة بالطهارة ، فإنّ الطهارة هنا شرط للمادّة أي لمتعلّق الأمر وهو الصلاة في المثال ، لا للوجوب ؛ لأنّ الوجوب ثابت على كلّ تقدير عند زوال الشمس سواء كان متطهّرا أم لا ، وإنّما الواجب عند الزوال هو الصلاة مع الطهارة لا بدونها ، فهذا الشرط شرط للمادّة أي للواجب.

وأمّا النحو الثاني أي يكون الشكّ راجعا إلى متعلّق المتعلّق وهو الموضوع ، كما إذا

ص: 46

شكّ في اشتراط الإيمان في الرقبة التي يجب عتقها ، فإنّ العتق متعلّق للوجوب ، والرقبة متعلّق للعتق ، والإيمان متعلّق بالرقبة لا بالوجوب ولا بالعتق ، فهي شرط في الموضوع.

وكذا وجوب إطعام الفقير الذي شكّ في اشتراط الهاشميّة فيه ، فإنّ الهاشميّة شرط لمتعلّق المتعلّق أي للموضوع ؛ لأنّ الحكم هو الوجوب المتعلّق بالإطعام فهو المادّة أو متعلّق الأمر ، والإطعام متعلّق بالفقير فهو متعلّق المتعلّق والهاشميّة شرط في الفقير أي الموضوع.

ففي هذين النحوين يكون الشكّ في الشرطيّة مجرى للبراءة ؛ لأنّ مرجعه كما قلنا إلى الأمر بالتقيّد زائدا على ذات الطبيعة المعلومة على كلّ تقدير.

هذا هو الصحيح في المسألة ، إلا أنّ المحقّق العراقي له تفصيل في المقام وهو :

وقد ذهب المحقّق العراقي - قدس اللّه روحه - (1) إلى عدم جريان البراءة في بعض الحالات المذكورة.

ومردّ دعواه إلى أنّ الشرطيّة المحتملة على تقدير ثبوتها : تارة تتطلّب من المكلّف في حالة إرادته الإتيان بالأقلّ أن يكمّله ويضمّ إليه شرطه ، وأخرى تتطلّب منه في الحالة المذكورة صرفه عن ذلك الأقلّ الناقص رأسا وإلغاءه إذا كان قد أتى به ودفعه إلى الإتيان بفرد آخر كامل واجد للشرط.

ومثال الحالة الأولى : أن يعتق رقبة كافرة فإنّ شرطيّة الإيمان في الرقبة تتطلّب منه أن يجعلها مؤمنة عند عتقها ، وحيث إنّ جعل الكافر مؤمنا ممكن فالشرطيّة لا تقتضي إلغاء الأقلّ رأسا بل تكميله ، وذلك بأن يجعل الكافر مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن.

ومثال الثاني : أن يطعم فقيرا غير هاشمي فإنّ شرطيّة الهاشميّة تتطلّب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه إلى الإتيان بفرد جديد من الإطعام ؛ لأنّ غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشميّا.

وهنا تفصيل للمحقّق العراقي يفرّق على أساسه بين الشرط الراجع إلى المتعلّق والشرط الراجع إلى متعلّق المتعلّق ، فتجري البراءة في النحو الأوّل دون الثاني ، ولكن

ص: 47


1- نهاية الأفكار 3 : 399.

يمكن إرجاع تفصيله إلى مطلب آخر لعلّه هو مراده فنقول : أنّ الشرطيّة المحتملة على تقدير ثبوتها واقعا على نحوين :

الأوّل : أن تكون الشرطيّة تستدعي من المكلّف أن يضمّ شيئا زائدا على ما أتى به ، بحيث إنّ الأقلّ لا يكفي ، بل لا بدّ من تكميله بضمّ الزائد إليه لكي تتحقّق الشرطيّة.

كما إذا قيل أعتق رقبة وشكّ في شرطيّة الإيمان في الرقبة ، فهنا إذا أراد أن يعتق رقبة غير مؤمنة فشرطيّة الإيمان المحتملة لا تتطلّب منه أن يلغي ما أراد الشروع فيه رأسا ويأتي برقبة مؤمنة غير الرقبة التي يريدها ، بل تتطلّب منه أن يضمّ إلى هذه الرقبة الكافرة شرطا زائدا عليها وهو شرط الإيمان ، وذلك بأن يجعل هذا الكافر مؤمنا ، فإنّ جعل الكافر مؤمنا ممكن فيكون واقعا تحت الاختيار ويصحّ تعلّق الأمر به ، ولذلك إذا جعل هذا الكافر مؤمنا عند إرادة عتقه فلا يكون قد جاء بمتعلّق آخر ، وإنّما نفس المتعلّق الذي تحت يده غاية الأمر أنّه ضمّ إليه شيئا زائدا وأكمله بالشرط المحتمل ، وأوضح منه ما إذا كان الشرط المحتمل في العتق هو قصد القربة.

الثاني : أن تكون الشرطيّة تستدعي من المكلّف أن يلغي ما أراد الشروع فيه رأسا ، ويأتي بمتعلّق آخر غير هذا ، وذلك بأن يكون الشرط المحتمل الثبوت غير ممكن جعله وضمّه إلى ما بيده ، بل لا بدّ من كونه موجودا في نفسه من قبل ، فهو خارج عن إرادته واختياره.

كما إذا قيل : أكرم الفقير ، وشكّ في شرطيّة الهاشميّة فيه ، فهنا إذا أراد أن يكرم فقيرا غير هاشمي فلا يمكنه أن يضمّ إليه شرط الهاشميّة ؛ لأنّ الهاشميّة ليست دخيلة تحت إرادة المكلّف ولا يمكنه جعلها ، ولذلك تكون هذه الشرطيّة على تقدير ثبوتها تستدعي من المكلّف أن يصرف نظره عن المتعلّق الذي يريد إكرامه فيما إذا لم يكن واجدا للشرط ، وعليه أن يبحث عن فرد آخر يكون واجدا لهذا الشرط في نفسه ؛ لأنّ هذا الفرد يباين ويغاير الفرد السابق.

فاتّضح على ضوء هذا التفصيل أنّ الشرطيّة تارة تكون واقعة تحت إرادة المكلّف واختياره فلا تتطلّب منه إلا ضمّ الزائد إلى نفس المتعلّق ، وأخرى لا تكون تحت اختياره وإرادته فهنا تتطلّب منه أن يأتي بمتعلّق آخر واجد للشرط ؛ لأنّ المتعلّق الذي

ص: 48

بيده لا يمكن أن يضمّ إليه الشرط ؛ لأنّه غير ممكن له وخارج عن اختياره ، وحينئذ نقول :

ففي الحالة الأولى : تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة ؛ لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في إيجاب ضمّ أمر زائد على ما أتى به بعد الفراغ عن كون ما أتى به مصداقا للمطلوب في الجملة ، وهذا معنى العلم بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الزائد ، فالأقلّ محفوظ على كلّ حال والزائد مشكوك.

وفي الحالة الثانية : لا تجري البراءة عن الشرطيّة ؛ لأنّ الأقلّ المأتي به ليس محفوظا على كلّ حال ، إذ على تقدير الشرط لا بدّ من إلغائه رأسا ، فليس الشكّ في وجوب ضمّ أمر زائد إلى ما أتى به ليكون من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

الفرق بين الصورتين :

ففي الحالة الأولى : تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة والمحتملة الثبوت ؛ وذلك لأنّ ما في يده يحتمل فيه أن يكون محقّقا للمأمور به وكافيا في الامتثال والخروج عن العهدة ، وذلك على تقدير ألا يكون الشرط ثابتا ، ويحتمل ألاّ يكون كافيا كذلك إلا بضمّ الشرط إليه.

وهذا معناه أنّه يشكّ في وجوب شيء زائد عمّا في يده ، فما في يده معلوم الوجوب على كلّ تقدير سواء كان هو الواجب فقط أم كان هو مع الشيء الآخر ، وأمّا الشيء الزائد وهو الشرطيّة فهي مشكوكة فتجري فيها البراءة بلا معارض ؛ لأنّ البراءة عن الفعل الذي بيده لا معنى لها ؛ لأنّه معلوم الوجوب تفصيلا ، فهو من الدوران بين الأقلّ والأكثر حقيقة ، والذي ينحلّ بالدقّة إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الزائد والذي تجري عنه البراءة.

فمثلا إذا كان الشكّ في شرطيّة قصد القربة في العتق للرقبة ، فعتق الرقبة معلوم تفصيلا ويشك في وجوب شيء آخر زائدا عليه وهو قصد القربة فتجري البراءة عنه بلا معارض.

وأمّا الحالة الثانية : فلا تجري البراءة عن الشرطيّة المحتملة الثبوت ؛ وذلك لأنّ الفرد المأتي به والذي لا يكون واجدا للشرطيّة - على تقدير ثبوت الشرطيّة واقعا - لا يكون محقّقا للمأمور به ، من جهة أنّه ليس مصداقا له رأسا لا من جهة أنّه فاقد لشيء زائد ،

ص: 49

إذ المفروض أنّ هذا الشيء الزائد لا يمكنه إيجاده ؛ لأنّه خارج عن قدرته واختياره ، ولذلك لا بدّ من الإتيان بفرد آخر يكون واجدا في نفسه للشرط.

وهذا معناه أنّه يشكّ في مصداق الواجب هل هو هذا الفرد الفاقد للشرط أو ذاك الفرد الواجد للشرط؟ وهذا علم إجمالي دائر بين المتباينين وليس هناك قدر متيقّن ومعلوم على كلّ حال ، بل إمّا هذا الواجب أو ذاك.

وفي مثل ذلك يكون العلم الإجمالي منجّزا للإتيان بالأكثر ؛ لأنّه يتحقّق المأمور به على كلا التقديرين ، بخلاف ما لو أتى بالأقلّ فإنّه على تقدير يكون محقّقا وعلى تقدير آخر لا يكون محقّقا ، فيكون الشكّ فيما هو المحقّق للمأمور به فيجب الاحتياط.

وهذا التحقيق لا يمكن الأخذ به ، فإنّ الدوران في كلتا الحالتين دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الملحوظ فيه إنّما هو عالم الجعل وتعلّق الوجوب ، وفي هذا العالم ذات الطبيعي معروض للوجوب جزما ، ويشكّ في عروضه على التقيّد ، فتجري البراءة عنه ، وليس الملحوظ في الدوران عالم التطبيق خارجا ليقال : إنّ ما أتي به من الأقلّ خارجا قد لا يصلح لضمّ الزائد إليه ولا بدّ من إلغائه رأسا على تقدير الشرطيّة.

والصحيح : أنّ هذا التفصيل وإن كان تحقيقا في المقام لكنّه خارج عن محلّ البحث ، وذلك لأنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر تارة يلحظ في عالم الجعل والتشريع ، وأخرى يلحظ في عالم التطبيق والامتثال.

فإن لوحظ الأقلّ والأكثر في عالم التطبيق والامتثال كان هذا التفصيل وجيها.

وإن لوحظ الأقلّ والأكثر في عالم الجعل والتشريع فلا يتمّ هذا التفصيل ؛ لأنّ عالم الجعل والتشريع هو عالم تعلّق الحكم بموضوعه ، فإذا قيل : أكرم الفقير أو اعتق رقبة كان وجوب الإكرام عارضا على موضوعه وهو ذات الفقير ، وكذلك وجوب العتق عارض على ذات الرقبة ، فإذا شكّ في شرطيّة الهاشميّة في الفقير أو شرطيّة الإيمان وقصد القربة في العتق أو الرقبة ، كان هذا الشكّ من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأنّ وجوب الأقلّ وهو ذات الفقير أو ذات الرقبة معلوم الوجوب تفصيلا ؛ لأنّه هو معروض الحكم ، ويشكّ في وجوب شيء زائد عليه وهو تقيّد

ص: 50

الفقير بالهاشميّة أو تقيّد الرقبة بالإيمان أو تقيّد العتق بقصد القربة ؛ لأنّ الشكّ في الشرطيّة مرجعه - كما قلنا - إلى الشكّ في التقيّد ؛ لأنّ الشرط على تقدير ثبوته يكون محصّصا للواجب إلى حصّتين فهو أمر بالواجب وأمر بالتقييد بالقيد ، وحيث إنّ ذات الواجب معلوم ؛ لأنّه هو معروض الحكم فيكون الشكّ في التقيّد شكّا في تكليف زائد فتجري عنه البراءة.

واللحاظ الأوّل خارج عن محلّ البحث والكلام ؛ لأنّنا نريد أن نحدّد المقدار الداخل في الذمّة والذي اشتغلت به في مرحلة سابقة عن الامتثال والتطبيق ، وهذا إنّما يكون بتحديد الموضوع الذي انصبّ عليه الحكم ، ولذلك لا بدّ من ملاحظة الدوران في عالم الجعل والتشريع ؛ لأنّه هو الذي يحدّد المقدار الداخل في العهدة.

وبهذا ظهر أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط تجري فيه البراءة مطلقا ، سواء كان الشرط راجعا إلى متعلّق الأمر أم كان راجعا إلى متعلّق المتعلّق ، وسواء كان الشرط ممّا يمكن إيجاده للمكلّف أم كان ممّا لا يمكن إيجاده.

وبهذا يتمّ الكلام حول الشكّ في الشرطيّة.

ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشكّ في الشرطيّة ووجوب التقيّد بين أن يكون القيد المشكوك أمرا وجوديّا وهو ما يعبّر عنه بالشرط عادة ، أو عدم أمر وجودي ويعبّر عن الأمر الوجودي حينئذ بالمانع.

فكما لا يجب على المكلّف إيجاد ما يحتمل شرطيّته كذلك لا يجب عليه الاجتناب عمّا يحتمل مانعيّته ، وذلك لجريان الأصل المؤمّن.

الشكّ في المانعيّة : ذكرنا فيما تقدّم أنّه إذا شكّ في شرطيّة شيء فتجري البراءة لنفي الشرطيّة.

ثمّ إنّ هذه الشرطيّة على نحوين :

الأوّل : أن تكون الشرطيّة المحتملة الثبوت أمرا وجوديّا ، وهذا ما يسمّى بالشرط عادة كالأمثلة المتقدّمة سابقا ، فإنّ الشكّ في شرطيّة الهاشميّة في الفقير مثلا شكّ في أمر وجودي ؛ لأنّ الهاشميّة صفة وجوديّة ، ويكون الشكّ فيها راجعا إلى تقيّد الواجب بهذا القيد ، والذي تجري عنه البراءة كما تقدّم.

الثاني : أن تكون الشرطيّة المحتملة الثبوت أمرا عدميّا أو عدم أمر وجودي ، وهذا ما

ص: 51

يسمّى بالمانع على تقدير وجود هذا الأمر ، كما إذا شكّ في مانعيّة الضحك أو البكاء في الصلاة ، أو شكّ في مانعيّة لبس الجلد المشكوك في الصلاة ، فإنّ الشكّ هنا مرجعه إلى تقيّد الواجب بعدم هذا الأمر الوجودي ، فتجري فيه البراءة لأنّه شكّ في تكليف زائد عمّا هو متيقّن وهو ذات الواجب.

* * *

ص: 52

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

ص: 53

ص: 54

3 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

وذلك بأن يعلم بوجوب متعلّق بعنوان خاصّ أو بعنوان آخر مغاير له مفهوما غير أنّه أعمّ منه صدقا ، كما إذا علم بوجوب الإطعام إمّا لطبيعي الحيوان أو لنوع خاصّ منه كالإنسان ، فإنّ الحيوان والإنسان كمفهومين متغايران وإن كان أحدهما أعمّ من الآخر صدقا.

المراد من التخيير العقلي أن يكون متعلّق الأمر عنوانا واحدا كلّيّا له حصص ومصاديق متعدّدة في الخارج ، ونسبته إلى حصصه على حدّ واحد ، كعنوان الإنسان مثلا ، فهو أمر تعييني بحسب مفهومه ولحاظه ولكنّه تخييري بحسب مصداقه.

كما إذا قيل : أكرم العالم ، فإنّ الإكرام له حصص كثيرة في الخارج ، فيكون اختيار أحدها ناتجا من حكم العقل ، وهنا إذا علم بوجوب الإكرام للعالم وشكّ في كونه متعلّقا بالعالم مطلقا أو بالفقيه خاصّة ، فهنا الشكّ في ذلك ناتج عن التخيير العقلي بين أفراد العالم ، فلو كان الواجب مطلق العالم لكفى غير الفقيه ، ولو كان الواجب خصوص الفقيه لم يجز غيره.

والنسبة بين العالم والفقيه بلحاظ مفهوميهما هي نسبة التباين ؛ لأنّ كلّ المفاهيم متباينة في عالم الذهن ؛ لأنّ لكلّ مفهوم صورة ذهنيّة تختلف عن الصورة الذهنيّة للمفهوم الآخر حتّى وإن كان بينهما تساو في الخارج.

نعم ، النسبة بين العالم والفقيه في الخارج وبلحاظ عالم الصدق هي العموم والخصوص مطلقا ؛ لأنّ كلّ فقيه عالم ، ولكن ليس كلّ عالم فقيها.

والحاصل : أنّ الشكّ في التعيين والتخيير يعني أن يشكّ في كون المتعلّق للأمر هل هو الحصّة الخاصّة المعيّنة منه أو أي حصّة يختارها؟ فيكون داخلا في الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الحصّة الخاصّة عبارة عن الحصّة وزيادة ، وهي كونها متشخّصة ومتعيّنة بحدود

ص: 55

وخصوصيّات لا يكفي عنها غيرها ، بخلاف مطلق الحصّة فإنّه لا يجب إلا كونها حصّة للمتعلّق ، وأمّا الخصوصيّات والمشخّصات فهي غير داخلة فيها.

وهذا يعني أنّه يعلم بوجوب الحصّة على كلّ تقدير ، سواء كانت مطلقة أو كانت معيّنة ويشك في كونها معيّنة بحصّة لا تنطبق إلا على نفسها ولا يجزي عنها غيرها ، وهذا يعني أنّ الدوران المذكور ينحلّ إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الأكثر فتجري عنه البراءة.

والصحيح أن يقال : إنّ التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ، ولكن بنحو اللف والإجمال.

وأخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في مجرّد إجمال اللحاظ وتفصيليّته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيفما اتّفق أو بوجوب إطعامه ، فإنّ مفهوم الإكرام ليس محفوظا في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع ، غير أنّ أحدهما أعمّ من الآخر صدقا.

والتحقيق في حال الدوران المذكور أن يقال : إنّ التغاير بين العنوانين والمفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في عالم اللحاظ ، أي في عالم الصور الذهنيّة كما في التغاير بين الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ؛ لأنّ النوع مركّب عقلا من الجنس والفصل ، فالجنس داخل في تركيب النوع ومحفوظ فيه ، ولكنّه بنحو الإجمال من دون ظهور واضح لذلك.

كما في الدوران بين الحيوان والإنسان أو بين العالم والفقيه ، فإنّ الحيوان والعالم جنس والفقيه والإنسان نوع ؛ لأنّ الانسان هو الحيوان الناطق ، والفقيه هو العالم بالفقه ، فكل واحد منهما ينطوي على الجنس أي الحيوان ويحتوي عليه ولكن بنحو الإجمال لا التفصيل وبنحو اللفّ لا النشر والظهور.

وأخرى يكون التغاير بين العنوانين والمفهومين إضافة للتغاير في عالم اللحاظ في عالم الملحوظ أيضا ، أي في عالم الصور الذهنيّة وحدودها ، وفي نفس الملحوظ والمرئي في هذه الصور فإنّه مختلف ومتغاير أيضا.

كما فيما إذا علم بوجوب إكرام زيد أو بوجوب إطعامه ، فهنا الإكرام والإطعام

ص: 56

كمفهومين بلحاظ عالم الجعل متغايران وكذا نفس الإكرام كملحوظ ومرئي يغاير الإطعام ، وليس أحدهما محفوظا في الآخر ومندمجا فيه ؛ إذ الإكرام لا يتركّب من الإطعام ولا الإطعام يتركّب من الإكرام كما هو الحال في الجنس والنوع.

نعم ، يوجد بين هذين المفهومين عموم وخصوص مطلق من حيث الصدق الخارجي ، فإنّ كلّ إطعام إكرام ولكن ليس كلّ إكرام إطعاما.

وفي الصورتين تجري البراءة عن الأكثر ؛ لأنّ العلم الإجمالي الدائر بين المفهومين منحلّ ، إلا أنّ الانحلال يختلف ، ففي الصورة الأولى يكون الانحلال حقيقيّا بينما في الصورة الثانية يكون الانحلال حكميّا ، ولذلك نقول :

فالحالة الأولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقلّ والأكثر حقيقة إذا أخذنا بالاعتبار مقدار ما يدخل في العهدة ، وليست من الدوران بين المتباينين ؛ لأنّ تباين المفهومين إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، وهما من خصوصيّات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة ، وإنّما يدخل فيها ذات الملحوظ ، وهو مردّد بين الأقلّ وهو الجنس ، أو الأكثر وهو النوع.

أمّا الحالة الأولى : وهي حالة كون التغاير بين المفهومين في الإجمال والتفصيل في عالم اللحاظ والصور الذهنيّة ، أي في عالم التحليل العقلي كما في الجنس والنوع. فهنا يكون الانحلال حقيقيّا لسريان العلم من الجامع إلى الفرد.

ففي قولنا : أكرم العالم إذا شكّ في أنّه مطلق العالم أو خصوص الفقيه ، فإنّ الفقيه هو العالم بالفقه وهذا معناه أنّنا نعلم بوجوب إكرام العالم على كلّ تقدير ، سواء كان المطلوب والمتعلّق هو مطلق العالم بأي حصّة منه أو خصوص الفقيه.

والوجه في ذلك : أنّ ما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة هو ذات الملحوظ لا الحدود اللحاظيّة ، فإنّها ممّا لا تقبل الدخول في العهدة ، وهنا ذات الملحوظ مردّدة بين العالم أو العالم الفقيه ، وهذا من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حقيقة ، والذي ينحلّ إلى علم تفصيلي بالأقلّ أي العالم ، وشكّ بدوي بالأكثر أي الفقيه.

نعم ، إذا أخذنا الحدود واللحاظات الذهنيّة فالعالم والفقيه متباينان بلحاظ أنّ هذا جنس وذاك نوع ، ولكن بالتحليل الذهني نرى أنّ التباين بلحاظ الإجمال والتفصيل فقط ، أو بلحاظ اللفّ والنشر ، إلا أنّ هذه الحدود لا تدخل في العهدة ولا تشتغل بها

ص: 57

الذمّة فلا تكون منجّزة ، كغيرها من الحدود التي لا تدخل في العهدة كالإطلاق والاستقلاليّة.

وأمّا الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في ذات الملحوظ لا في كيفيّة لحاظهما ، ومن هنا كان الدوران فيها دورانا بين المتباينين ؛ لأنّ الداخل في العهدة إمّا هذا المفهوم أو ذاك ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي ثابت.

ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخصّ العنوانين صدقا ، ولا تعارضها البراءة عن وجوب أعمّهما وفقا للجواب الأخير من الأجوبة المتقدّمة على البرهان الأوّل في المسألة الأولى من مسائل الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا الحالة الثانية : وهي حالة كون التباين بين المفهومين موجودا في عالم اللحاظ وكيفيّته وفي عالم ذات الملحوظ والمرئي ، كما في مثال الدوران بين وجوب الإطعام أو الإكرام ، ففي عالم اللحاظ يختلف فيه الإكرام عن الإطعام ، وفي عالم الملحوظ يتغايران كذلك.

نعم ، في عالم الصدق الخارجي يكون الإكرام أعمّ صدقا من الإطعام ؛ لأنّه يشمله ويشمل غيره ، فالتباين إذن موجود ، فيكون هناك علم إجمالي دائر بين المتباينين : إمّا وجوب الإطعام وإمّا وجوب الإكرام ، فالداخل في العهدة إمّا هذا وإمّا ذاك.

وحيث إنّهما متباينان لحاظا وملحوظا فسوف يشكّ في متعلّق الوجوب ، وهل هو هذا المفهوم أو ذاك المفهوم المباين له؟ فالعلم الإجمالي موجود إذن.

إلا أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ انحلالا حكميّا ؛ وذلك لأنّ البراءة تجري في أحدهما من دون معارض لها ، فتجري البراءة عن المفهوم الأخصّ من الآخر بلحاظ عالم الصدق الخارجي ، أي عن وجوب الإطعام في مثالنا ، ولا تجري البراءة عن المفهوم الأعمّ صدقا وهو الإكرام ، ولذلك تسقط المنجّزيّة لانهدام الركن الثالث.

وأمّا كيفيّة انهدام هذا الركن فبأن يقال :

وذلك : أنّ البراءة عن وجوب الأعمّ ليس لها دور معقول لكي تصلح للمعارضة ؛ لأنّه إن أريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ مع الإتيان بالأخصّ فهو غير معقول ؛ لأنّ نفي الأعمّ يتضمن نفي الأخصّ لا محالة.

وإن أريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ بما يتضمّنه من ترك الأخصّ فهذا

ص: 58

مستحيل ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة ثابتة في هذه الحالة ، والأصل العملي يؤمّن عن المخالفة الاحتماليّة لا القطعيّة.

وجه الانحلال : أن البراءة لا يمكن جريانها عن المفهوم الأعمّ صدقا في الخارج ؛ وذلك لأنّه إن أريد بالبراءة عن الأعمّ إثبات التأمين من ناحية الأعمّ مع الإتيان بالأخصّ فهذا غير معقول ؛ إذ الإتيان بالأخصّ يتضمّن الإتيان بالأعمّ قطعا ، فكيف يمكنه الإتيان بالأخصّ من دون الإتيان بالأعمّ؟ إذ لو فرض أنّه لن يأتي بالأعمّ فهذا يعني أيضا عدم الإتيان بالأخصّ ؛ لأنّ الأخصّ ينتفي إذا انتفى الأعمّ ، والأعمّ يثبت إذا ثبت الأخصّ.

وإن أريد بالبراءة عن الأعمّ إثبات التأمين عن الأعمّ حالة عدم الإتيان بالأخصّ فهذا لا يكون معقولا ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه إذا ترك الأخصّ وترك الأعمّ أيضا فهذا يعني أنّه ترك الواجب المأمور به ، فيكون الأصل مؤمنا في هذه الحالة عن العقاب حالة المخالفة القطعيّة ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الأصل يراد به التأمين من ناحية احتمال المخالفة فقط ، ولا يمكنه إثبات التأمين عند المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها محرّمة عقلا أو عقلائيّا ولا شكّ فيها.

وبهذا ظهر أنّه لا معنى لجريان البراءة عن الأعمّ فتجري البراءة عن الأخصّ بلا معارض ، وبهذا يتحقّق الانحلال الحكمي.

* * *

ص: 59

ص: 60

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ص: 61

ص: 62

4 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ونتكلّم في حكم هذا الدوران على عدّة مبان في تصوير التخيير الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في المقام :

التخيير الشرعي هو التخيير الثابت بحكم الشارع وذلك بأن يجعل عدّة بدائل على نحو يكون امتثال أحدها محقّقا للمأمور به ؛ لأنّه أحد الموضوعات التي تعلّق بها الأمر مباشرة ، ولكن على سبيل البدل كما هو الحال في خصال كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان حيث إنّها متباينة ولا يوجد بينها جامع حقيقي.

كما إذا ورد حكم وتردّد متعلّقه بين أن يكون أمرا واحدا على سبيل التعيين أو عدّة أمور على سبيل البدل ، كما إذا ورد الأمر بالكفّارة في مورد وشكّ في كونها إحدى الخصال الثلاث على سبيل البدل أو كونها واحدة منها على سبيل التعيين.

وتفصيل الكلام في هذا المورد أن نستعرض المباني في حقيقة التخيير الشرعي لنتكلّم عن حكم المسألة بلحاظ كلّ مبنى بنحو مستقلّ.

والمباني المذكورة في تصوير التخيير الشرعي نذكر منها ثلاثة :

1 - كون التخيير الشرعي عبارة عن وجوبين أو وجوبات مشروطة ، أي كلّ واحد منها مشروط بترك الآخر.

2 - كون التخيير الشرعي كالتخيير العقلي متعلّقا بأمر واحد كلّي له حصص متعدّدة.

3 - كون التخيير الشرعي عبارة عن غرضين لزوميّين متزاحمين في مقام التحصيل والاستيفاء بحيث يكون استيفاء أحدهما مفوّتا لاستيفاء الآخر من حيث الملاك.

فأوّلا : نبدأ بالمبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين ، وشرط كلّ منهما ترك متعلّق الآخر ، وهذا يعني أنّ ( العتق ) مثلا الذي علم

ص: 63

وجوبه إمّا تعيينا أو تخييرا واجب في حالة ترك ( الإطعام ) بلا شكّ ، ويشكّ في وجوبه حالة وقوع الإطعام فتجري البراءة عن هذا الوجوب ، وينتج ذلك التخيير عمليّا.

المبنى الأوّل : وهو المعروف من رجوع التخيير الشرعي إلى وجوب كلّ واحد من البدائل مشروطا بترك الآخر.

ففي مثال الخصال الثلاث يجب العتق إذا ترك الإطعام والصيام ، ويجب الصيام إذا ترك العتق والإطعام ، ويجب الإطعام إذا ترك العتق والصيام.

فإذا شكّ في مورد بوجوب العتق تعيينا أو وجوبه تخييرا بينه وبين غيره من الخصال ، فهنا يقال : إنّ وجوب العتق معلوم فيما إذا ترك الصيام والإطعام ، إمّا لكونه واجبا تعيينيّا وإمّا لكونه واجبا تخييريّا ، وأمّا إذا أطعم أو صام فسوف يشكّ في وجوب العتق لاحتمال كونه واجبا تعيينيّا ؛ لأنّه حينئذ يجب الإتيان به حتّى لو أطعم أو صام ؛ لأنّ الواجب التعييني لا يجزي غيره عنه ، إلا أنّ الشكّ في وجوب العتق حال الإطعام أو الصيام شكّ في تكليف زائد فتجري فيه البراءة ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي.

وتكون النتيجة هي عدم وجوب العتق التعييني ، وهذا يعني عمليّا التخيير بين الخصال الثلاث كلّ منها مشروط بترك الآخر.

ولا يتعارض أصل البراءة عن وجوب العتق بأصل البراءة عن وجوب العدلين الآخرين ؛ إذ لا معنى لجريانها عنهما حالة جريانها في وجوب العتق ؛ لأنّ لازمها الترخيص في المخالفة القطعيّة وهي معلومة الحرمة.

والحاصل : أنّ البراءة تجري لنفي المئونة الزائدة المشكوكة ، وهذه المئونة موجودة في طرف التعيين لا التخيير ؛ لأنّ التعيين معناه أنّه لا يجزي غير العتق عنه بخلاف التخيير فإنّه يجزي غيره عنه ، ولذلك لو أطعم فسوف يتمسّك في وجوب العتق أيضا وعدم وجوبه فتجري البراءة لنفي وجوبه ، وأمّا لو ترك الإطعام والصيام فسوف يعلم بوجوب العتق قطعا على كلا التقديرين.

وقد يقال - كما في بعض إفادات المحقّق العراقي - (1) إنّ كلاّ من الوجوب

ص: 64


1- نهاية الأفكار 3 : 288 - 289.

التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثيّة إلزاميّة يفقدها الآخر ، فيكون كلّ منهما مجرى للأصل النافي ويتعارض الأصلان.

قد يقال : كما عن المحقّق العراقي كلاما يثبت فيه أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي من الدوران بين المتباينين ، والذي يكون العلم الإجمالي فيه منجّزا وموجبا للاحتياط.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الوجوب التعييني للعتق فيه مئونة زائدة غير موجودة في الوجوب التخييري ، والوجوب التخييري بين العتق وغيره فيه حيثيّة ومئونة زائدة غير موجودة في الوجوب التعييني ، وعليه فكما تجري البراءة لنفي المئونة الزائدة في الوجوب التعييني كذلك تجري لنفي المئونة الزائدة في الوجوب التخييري ، وبالتالي تتعارض البراءتان وتتساقطان ويحكم بالمنجّزيّة.

وتفصيل ذلك أن يقال :

أمّا الحيثيّة الإلزاميّة في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل النافي للتأمين عنها فهي الإلزام بالعتق حتّى ممّن أطعم ، وهي حيثيّة لا يشتمل عليها الوجوب التخييري.

أمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني فهي حيثيّة إلزاميّة ، وتوضيحها : أنّ وجوب العتق ثابت سواء أطعم وصام أم لا ، وهذا يعني أنّه إذا أطعم وصام فيبقى وجوب العتق ثابتا ولا ينتفي ؛ لأنّ الوجوب التعييني لا يجزي غيره عنه ، وهذه الحيثيّة الإلزاميّة حيث إنّها مشكوكة لعدم العلم بالوجوب التعييني فتكون مجرى للبراءة فيثبت التأمين من ناحيتها ، وهذه الحيثيّة الإلزاميّة ليست موجودة في الوجوب التخييري ؛ لأنّه إذا أطعم أو صام فلا يجب عليه العتق ، حيث إنّ الوجوب التخييري معناه أنّه إذا أتى بأحد البدائل كفى وسقط وجوب البقيّة ، وهذه الحيثيّة ناظرة إلى جهة الامتثال والإطاعة ، فإنّه إذا أطعم سوف يشكّ في كونه محقّقا للامتثال والإطاعة وحده أم يجب ضمّ العتق إليه أيضا ، فهو شكّ في وجوب زائد فيمكن نفيه بالبراءة التي تثبت جواز ترك العتق ممّن أطعم ، بخلافه على الوجوب التخييري فإنّه إذا أطعم لا شكّ في جواز ترك العتق حيث إنّ كلّ واحد مشروط وجوبه بترك الآخر.

وأمّا الحيثيّة الإلزاميّة في الوجوب التخييري للعتق أو الإطعام التي يجري

ص: 65

الأصل النافي للوجوب التخييري تأمينا عنها فهي تحريم ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ، إذ بهذا الضمّ تتحقّق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحقّقة بنفس ترك العتق ، ولا يكون هناك بأس في ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ؛ لأنّه من ضمّ ترك المباح إلى ترك الواجب. فالبراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممّن ترك العتق.

وأمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التخييري فهي حيثيّة إلزاميّة وتوضيحها : أنّ وجوب العتق إنّما يثبت فيما إذا ترك وجوب الإطعام والصيام ، فوجوب العتق ليس ثابتا مطلقا ، بل معلّق على ترك البديلين الآخرين ، وعليه فإذا ترك العتق لا يكون قد ارتكب حراما بمجرّد تركه ، وإنّما يكون ترك العتق محرّما فيما إذا ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام ؛ لأنّه حينئذ يكون قد ترك جميع البدائل فتتحقّق المخالفة القطعيّة وهي محرّمة.

وهذه حيثيّة إلزاميّة ناظرة إلى جهة العصيان والمخالفة ، وهي حرمة ترك العتق الذي ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام ، وهذه ليست موجودة في الوجوب التعييني للعتق ؛ لأنّه بناء على الوجوب التعييني يكون ترك العتق محرّما مطلقا سواء ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام أم لا ، كما أنّه لا مدخليّة لضمّ فعل الغير إلى فعله في الامتثال ، إذ يكون ضمّ كلّ من فعل الغير إلى فعله أو ترك الغير إلى تركه من باب ضمّ الفعل أو الترك المباح إلى ترك أو فعل الواجب.

والحاصل : أنّ الوجوب التخييري فيه حيثيّة إلزاميّة وهي حرمة ضمّ ترك العتق إلى ترك الإطعام والصيام ، وهذه الحرمة مشكوكة ؛ لأنّه لا يعلم بالوجوب التخييري فتكون مجرى للبراءة فيثبت التأمين عنها.

وحينئذ يكون في كلّ من الوجوب التعييني والوجوب التخييري حيثيّة زائدة عن الآخر فتكون مجرى للبراءة ، فتجري البراءتان معا ، وتتعارضان ويحكم بتساقطهما ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بالبراءتين معا ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة ؛ لأنّ البراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم تعني أنّه يجوز ترك العتق ، والبراءة عن حرمة ترك الإطعام حين ترك العتق تعني جواز ترك الإطعام ، والجمع بينهما تعني جواز ترك العتق والإطعام معا وهو مخالفة قطعيّة ، والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن التساقط.

ص: 66

والنتيجة : منجّزيّة العلم الإجمالي للوجوب التعييني والوجوب التخييري ، وتتحقّق الموافقة القطعيّة بالإتيان بمتعلّق الوجوب التعييني ؛ لأنّه يحقّق كلا الأمرين فيكون ممتثلا للطرفين.

ولا يكتفى بالإتيان بإحدى البدائل الأخرى وترك العتق المحتمل كونه تعيينيّا ؛ لأنّه يكون قد امتثل أحد طرفي العلم الإجمالي ، فتبقى ذمّته مشغولة بالطرف الآخر.

وهذا البيان وإن كان يثبت علما إجماليّا بإحدى حيثيّتين إلزاميّتين ، ولكن هذا العلم غير منجّز بل منحلّ حكما ، لجريان البراءة الأولى وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ؛ لأنّ فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعيّة ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعيّة ، بخلاف فرض جريان البراءة الأولى فإنّه فرض المخالفة الاحتماليّة.

والجواب عن ذلك : أنّ هذا الكلام وإن كان يبرز لنا وجود حيثيّتين إلزاميّتين يعلم بإحداهما إجمالا ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي غير منجّز لانهدام ركنه الثالث ، حيث إنّ البراءة تجري في أحد الطرفين من دون معارض لها ؛ لأنّ البراءة في الطرف الآخر لا يعقل جريانها.

فهذا الكلام يتمّ للمنع عن الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي وأنه لا يوجد علم إجمالي بين المتباينين ، وإنّما هناك علم إجمالي بين الأقلّ والأكثر والذي مرجعه إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الأكثر.

فبهذا الكلام يثبت أنّه يوجد علم إجمالي ؛ لأنّه يوجد في كلّ من الوجوب التخييري والوجوب التعييني حيثيّة إلزاميّة زائدة غير موجودة في الآخر ، ولذلك لا يعلم بأحدهما على كلّ تقدير ، بل كلّ واحد منهما مشكوك.

إلا أنّ هذا العلم الإجمالي - ولو سلّم أنّه دائر بين المتباينين - منحلّ انحلالا حكميّا ؛ لأنّ البراءة عن الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني تجري بلا معارض ، فيثبت لنا التأمين من جهة ترك العتق حال الانتقال إلى الإطعام أو الصيام.

وأمّا البراءة عن الحيثيّة الزائدة في الوجوب التخييري - التي هي حرمة ضمّ ترك الإطعام والصيام إلى ترك العتق - فلا تجري ؛ لأنّ هذه الحيثيّة الزائدة معلومة الحرمة

ص: 67

وليست مشكوكة ، والبراءة موردها الشكّ لا العلم ، فالمكلّف إذا ترك الإطعام والصيام وترك العتق أيضا يعلم بأنّه قد خالف قطعا كلا الوجوبين التخييري والتعييني ، ولا شكّ عنده في هذه الحرمة ليحتمل جريان البراءة عنها. إذن لو سلّم بوجود حيثيّة زائدة إلا أنّها ليست مشكوكة بل معلومة الحرمة.

وأمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني فهي مشكوكة ؛ لأنّه يحتمل إذا ترك العتق أن يجزي عنه الإطعام أو الصيام فيما لو كان الواجب المتعلّق في ذمّته هو الوجوب التخييري لا التعييني ، ويحتمل عدم الإجزاء لو كان الداخل في ذمّته الوجوب التعييني ، وحيث إنّه يشكّ فيما هو الداخل في عهدته فسوف يشكّ في أنّه إذا أطعم أو صام هل يجب عليه العتق أيضا أو لا؟ فتجري البراءة للتأمين عنه لأنّ مورد جريانها هو التأمين عن المخالفة الاحتماليّة ، وهنا تحتمل المخالفة حال ترك العتق.

وأمّا إذا ترك العتق مضافا إلى ترك الإطعام والصيام فهذه الحيثيّة الزائدة لا يحتمل كونها مخالفة لتجري فيها البراءة ، بل يقطع بالمخالفة المحرّمة فلا تجري البراءة لكونها لا تجري للتأمين عن المخالفة القطعيّة المعلومة الحرمة.

وثانيا : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، والحكم حينئذ هو الحكم في المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب بين إكرام زيد مطلقا وإطعامه خاصّة.

المبنى الثاني : هو المبنى القائل بأنّ التخيير الشرعي يرجع إلى التخيير العقلي ، فالشارع وإن ذكر البدائل إلا أنّ ذكرها ليس من باب تعلّق الأمر بها ، وإنّما من باب كونها مصاديق للمأمور به وهو الجامع الانتزاعي الكلّي كعنوان ( أحدها ) مثلا.

وحينئذ إذا دار الأمر بين وجوب أحد هذه البدائل تعيينا وبين وجوبه تخييرا بينه وبين سائر البدائل ، فسوف يكون حكمه حكم المسألة السابقة من الانحلال الحقيقي ، فيما إذا كان أحد المفهومين أعمّ من الآخر في عالم الصدق الخارجي وفي ذات الملحوظ والمرئي كالعالم والفقيه ، أو الانحلال الحكمي فيما إذا كانا متغايرين في عالم اللحاظ والملحوظ أيضا ، ولكنّهما في عالم الصدق الخارجي بينهما عموم وخصوص مطلق.

ص: 68

وهذا يعني أنّ البراءة تجري عن الوجوب التعييني ، ولا تعارضها البراءة عن الوجوب التخييري إذ لا معنى لجريانها عن الوجوب التخييري ؛ لأنّه يعني الترخيص في المخالفة القطعيّة وهي معلومة الحرمة.

وثالثا : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميّين للمولى غير أنّهما متزاحمان في مقام التحصيل ، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يعجّز المكلّف عن استيفاء الآخر ، ومن هنا يحكم بوجوب كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر.

والحكم هنا أصالة الاشتغال ؛ لأنّ مرجع الشكّ في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا حينئذ إلى الشكّ في أنّ الإطعام هل يعجّز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق ، فيكون من الشكّ في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال؟

المبنى الثالث : هو المبنى القائل بأنّ التخيير الشرعي مرجعه إلى وجود غرضين لزوميّين أو أغراض لزوميّة بعدد البدائل بحيث يكون لكلّ واحد من البدائل غرض خاصّ به ، إلا أنّ هذه الأغراض متزاحمة في مقام التحصيل ، أي أنّ تحصيل أحدها يجعل المكلّف عاجزا عن تحصيل الغرض من الآخر ، ولذلك يكون كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر.

وهذا شبيه بالمبنى الأوّل من جهة كون أحد البدائل واجبا فيما لو ترك الآخر ، ولكنّهما يختلفان من جهة أنّ المبنى الأوّل يفترض وجود غرض واحد يمكن استيفاؤه بأحد هذه البدائل ، بينما هذا المبنى يفترض تعدّد الغرض ، إلا أنّه لا يمكن استيفاء جميع هذه الأغراض بسبب عجز المكلّف عن ذلك ، إذ بمجرّد تحصيل الغرض الأوّل يصبح عاجزا عن تحصيل الغرض الثاني.

وعليه فإذا دار الأمر بين الوجوب التعييني لأحد البدائل وبين الوجوب التخييري ، فهذا يعني الدوران في أنّ الغرض هل هو متعلّق بهذا البدل بنحو التعيين بحيث لا يكون الإتيان بغيره معجّزا للمكلّف عن تحصيل الغرض منه ، أو أنّ الغرض متعلّق بكل واحد من البدائل ويكون الإتيان بأحدها معجّزا عن تحصيل الغرض في الآخر؟

ولذلك فإذا أتى بالإطعام سوف يشكّ في أنّه يعجّز المكلّف عن تحصيل الغرض

ص: 69

الموجود في العتق على تقدير كون الواجب تخييرا ، أو أنّه لا يعجّزه عن تحصيل الغرض من العتق فيما إذا كان وجوب العتق تعيينا.

وهذا مرجعه بالدقّة إلى الشكّ في القدرة على تحصيل الغرض بعد العلم بوجوده ، وفي مثل هذه الحالة تجري أصالة الاشتغال الموجبة للإتيان بالعتق بعد الإطعام ؛ لأنّ القدرة موجودة ابتداء ويشكّ في ارتفاعها بعد الإطعام.

وهذا الحكم - لو تمّ المبنى - صحيح ، إلا أنّ المبنى غير تامّ كما تقدّم في محلّه.

* * *

ص: 70

ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

اشارة

ص: 71

ص: 72

5 - ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

فرغنا من المسائل الأساسيّة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وبقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر.

1 - دور الاستصحاب في هذا الدوران

قد يتمسّك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لإثبات وجوب الاحتياط وأخرى لإثبات نتيجة البراءة.

أمّا التمسّك به على الوجه الأوّل فبدعوى : أنّا نعلم بجامع وجوب مردّد بين فردين من الوجوب ، وهما وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالإتيان بالأقلّ ، ووجوب العشرة لا يسقط بذلك ، فإذا أتى المكلّف بالأقلّ شكّ في سقوط الجامع وجرى استصحابه ، ويكون من استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

التنبيه الأوّل : في جريان الاستصحاب وعدمه ، فهل يجري في الدوران بين الأقلّ والأكثر أو لا؟ وهنا قولان :

قد يقال : إنّ الاستصحاب يجري لإثبات نتيجة الاحتياط ووجوب الإتيان بالأكثر.

وقد يقال : إنّ الاستصحاب يجري لإثبات نتيجة البراءة والاكتفاء بالأقلّ.

أمّا القول الأوّل : وهو التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر ، فتقريبه أن يقال : إنّ المكلّف يعلم إجمالا إمّا بوجوب التسعة وإمّا بوجوب العشرة ، وعلى التقديرين فهو يعلم بوجوب الجامع بينهما كوجوب الصلاة المردّد بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فذمّة المكلّف مشغولة يقينا بالجامع ، ولو سلّمنا ما تقدّم

ص: 73

سابقا من جريان البراءة لنفي وجوب الزائد ووجوب الإتيان بالأقلّ ، إلا أنّه عند الإتيان بالأقلّ سوف يشكّ في سقوط الجامع المعلوم إجمالا من جهة أنّ الإتيان بالأقلّ يوجب سقوط التسعة على تقدير كون الجامع هو الأقلّ ، ولكنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب سقوط العشرة على تقدير كون الجامع هو الأكثر ، وهذا يعني أنّه عند الإتيان بالأقلّ سوف يشكّ في براءة ذمّته من الجامع ، وهذا الشكّ وإن كان مجرى للبراءة ولكنّه مجرى للاستصحاب أيضا ، لتوفّر أركانه في المقام للعلم السابق بالجامع والشكّ اللاحق في سقوطه فيستصحب بقاؤه.

والنتيجة هي وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر من جهة الاستصحاب الحاكم على البراءة كما سيأتي في محلّه.

وهذا الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ؛ لأنّه دائر بين الفردين الطويل والقصير ، حيث إنّ الفرد القصير مرتفع جزما والفرد الطويل باق جزما ، والجامع يشكّ في كونه متمثّلا في القصير فيرتفع أو متمثّلا في الطويل فهو باق ، فيشكّ في بقائه وارتفاعه ، وحيث إنّه معلوم الحدوث ومشكوك البقاء فتجري استصحابه.

والجواب على ذلك : أنّ استصحاب جامع الوجوب إن أريد به إثبات وجوب العشرة - لأنّ ذلك هو لازم بقائه - فهذا من الأصول المثبتة ؛ لأنّه لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب.

وإن أريد به الاقتصار على إثبات جامع الوجوب ، فهذا لا أثر له ؛ لأنّه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع ، وقد فرضنا أنّ العلم به لا ينجّز سوى الأقلّ ، والأقلّ حاصل في المقام بحسب الفرض.

والجواب : أنّ استصحاب جامع الوجوب لا يجري في المقام ؛ وذلك لأنّه إن أريد باستصحاب جامع الوجوب - بعد الإتيان بالأقلّ - إثبات أنّ الأكثر هو الذي اشتغلت به الذمّة ، حيث إنّ الأقلّ لم يسقط به وجوب الجامع فيتعيّن وجوب الأكثر ؛ لأنّ الجامع لا يزال باقيا ولا معنى لبقائه في الأقلّ ؛ لأنّه قد ارتفع وسقط بالإتيان به فيكون باقيا في الأكثر ، فهذا من الأصل المثبت وهو غير حجّة ؛ لأنّ إثبات وجوب الأكثر باستصحاب الجامع لازم عقلي لبقاء الجامع ، إذ المفروض أنّ الجامع مردّد بين الأقلّ

ص: 74

والأكثر ، فإذا أتى بالأقلّ وبقي وجوب للجامع فهذا يعني أنّه باق في الأكثر ؛ إذ لا يوجد غير الأكثر بعد استثناء الأقلّ ، إلا أنّ هذا لازم عقلي وليس شرعيّا ، والملازمة العقليّة لا تثبت بالأصل.

وإن أريد باستصحاب الجامع التعبّد ببقاء الجامع من دون تعيين للفرد ، فهذا هو نفس العلم الإجمالي السابق والذي كان عبارة عن علم تفصيلي وجداني بالجامع وشكّ في الفرد ، ومع فرض وجود العلم الوجداني بالجامع يكون التعبّد به لغوا وتحصيلا للحاصل ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ هذا الجامع المتعبّد ببقائه لا أثر له ؛ لأنّ البراءة تجري عن الزائد كما تقدّم سابقا.

وأمّا التمسّك به على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت أو في صدر عصر التشريع.

ولا يعارض باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقلّ ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب ؛ لأنّه إن أريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو مثبت ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ فهو غير صحيح ؛ لأنّ فرض ترك الأقلّ هو فرض المخالفة القطعيّة ، ولا يصحّ التأمين بالأصل العملي إلا عن المخالفة الاحتماليّة.

وأمّا القول الثاني : وهو التمسّك بالاستصحاب لإثبات نتيجة البراءة ، والاكتفاء بالأقلّ فتقريبه :

إمّا بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، حيث يلتفت إلى بداية عصر التشريع فيقال : إنّه لم يجعل الشارع وجوبا للأكثر ، بل هو مشكوك فيجري استصحاب عدم جعل الأكثر.

وإمّا بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، وذلك بأن يلتفت المكلّف إلى ما قبل دخول الوقت ، فإنّه قبل زوال الشمس لم يكن الأكثر مجعولا ولا فعليّا ولو من جهة عدم تحقّق قيوده وشروطه وموضوعه ، ثمّ بعد الزوال - حيث يعلم بوجوب الصلاة فعلا عليه - يشكّ في كون الوجوب متعلّقا بالأكثر فيجري استصحاب عدمه الثابت قبل الزوال.

وبهذا الاستصحاب يتبيّن لنا أنّ الزائد غير واجب وهذا يعني أنّه يجوز الاكتفاء بالأقلّ.

وقد يعترض على استصحاب عدم وجوب الزائد لنفي وجوب الأكثر ، بأنّه معارض

ص: 75

باستصحاب عدم وجوب الأقلّ الاستقلالي ، فإنّه وإن كنّا نعلم بوجوب الأقلّ بعد جريان البراءة لنفي الزائد كما تقدّم سابقا ، إلا أنّ هذا الأقلّ مردّد بين كونه استقلاليّا أو ضمنيّا ، وإثبات كونه استقلاليّا يعني صدور تشريع خاصّ بالأقلّ ، وهذا الأمر مشكوك الصدور في عصر التشريع فيجري استصحاب عدم جعل الأقلّ الاستقلالي ، أو يجري استصحاب عدم فعليّة الأقلّ أيضا ولو قبل دخول الوقت.

وحينئذ يتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، إذ الأخذ بهما معا غير معقول والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح.

وجوابه : أنّ استصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي - سواء كان على مستوى الجعل أم كان على مستوى المجعول - لا يجري في المقام ؛ وذلك لأنّه لا معنى لجريانه ؛ لأنّه :

إن أريد باستصحاب عدم الأقلّ إثبات أنّ الأكثر هو متعلّق الوجوب ؛ لأنّ الوجوب دائر بينهما فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ، فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الملازمة هنا عقليّة.

وإن أريد باستصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي إثبات التأمين من جهة الأقلّ حالة فعل الأكثر ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر يستبطن الإتيان بالأقلّ ، مضافا إلى أنّه خلف المراد من الاستصحاب وهو إثبات الأقلّ دون الأكثر.

وإن أريد باستصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي إثبات التأمين من جهة الأقلّ حين ترك الزائد والأكثر أيضا ، فهذا مستحيل أيضا ؛ لأنّه إذا ترك الزائد وترك الأقلّ يكون قد وقع في المخالفة القطعيّة ، ففي حالة تركه للزائد لا يمكن تأمينه عن ترك الأقلّ بالأصل العملي ؛ لأنّه يكون من باب التأمين عن المخالفة القطعيّة بالأصل ، وهذا غير ممكن لأنّ المخالفة القطعيّة معلومة الحرمة قطعا ؛ ولأنّ الأصل العملي إنّما يجري لإثبات التأمين من جهة المخالفة الاحتماليّة لا القطعيّة.

وبهذا ظهر أنّه لا معنى لجريان استصحاب عدم الأقلّ.

فالصحيح هو جريان استصحاب عدم جعل الأكثر أو عدم فعليّة الأكثر ، وتكون النتيجة تأكيدا لنتيجة البراءة.

2 - الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة

إذا تردّد أمر شيء بين كونه جزءا من الواجب أو مانعا عنه ، فمرجع ذلك إلى

ص: 76

العلم الإجمالي بوجوب زائد متعلّق إمّا بالتقيّد بوجود ذلك الشيء أو بالتقيّد بعدمه. وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئيّة مع أصالة البراءة عن المانعيّة ، فيجب على المكلّف الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الإتيان بذلك الشيء ومرّة بدونه.

هذا فيما إذا كان في الوقت متّسع ، وإلا جازت المخالفة الاحتماليّة بملاك الاضطرار وذلك بالاقتصار على أحد الوجهين.

التنبيه الثاني : فيما إذا دار الأمر بين كون شيء جزءا أو مانعا :

مثاله ما إذا شكّ في أنّ كلمة ( آمين ) أو ( التكفير ) مثلا هل هو جزء من الصلاة أو مانع من الصلاة؟

ومرجع هذا الشكّ في الحقيقة إلى العلم الإجمالي بوجوب زائد ، وهذا الوجوب الزائد يتردّد أمره بين تقيّد المركّب بأمر وجودي بناء على الجزئيّة ، أو تقيّده بأمر عدمي بناء على المانعيّة ؛ لأنّ الجزئيّة معناها كون وجود التأمين أو التكفير جزءا واجبا في المركّب ، والمانعيّة معناها كون عدم التأمين أو التكفير جزءا واجبا في المركّب. فيعود الدوران في الحقيقة بين شيئين متباينين ؛ لأنّ وجود التأمين أو التكفير مغاير لعدم التكفير أو التأمين ، إذ الوجود والعدم لا يجتمعان ، بل هما متباينان.

وفي مثل ذلك يكون لدينا علم إجمالي منجّز لدورانه بين المتباينين ؛ لأنّ البراءة عن كونه جزءا تتعارض مع البراءة عن كونه مانعا ، فتجب الموافقة القطعيّة وتحرم المخالفة القطعيّة.

ولكن حيث إنّ المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة غير ممكنتين ؛ لأنّ هذا الأمر المردّد بين الجزئيّة أو المانعيّة يتردّد في الحقيقة بين وجوده أو عدمه ، والوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان فلا تمكن المخالفة أو الموافقة ، إلا أنّ هذا إنّما هو في الفعل الواحد للمركّب ، ولكن بلحاظ تكرار المركّب يمكن فيه الموافقة القطعيّة ، وذلك بأن يأتي بالفعل الأوّل مع الجزء ويأتي بالفعل الثاني من دون الجزء.

ولذلك يحكم في هذه الصورة بوجوب الاحتياط بتكرار العمل مرة واجدا للشيء ، وأخرى فاقدا له ، وبهذا تتحقّق الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ؛ لأنّها ممكنة ومقدور عليها ، ولا يكفيه الموافقة الاحتماليّة عندئذ.

ص: 77

وهذا بخلاف ما إذا دار الأمر بين كونه جزءا أو ليس جزءا كالسورة ، فإنّ الموافقة القطعيّة تحصل بالإتيان بالمركّب مرّة واحدة واجدة للجزء لا بقصد الجزئيّة ، بل بقصد رجاء المطلوبيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من حكم الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة إنّما هو على تقدير سعة الوقت للتكرار ، وأمّا لو كان الوقت ضيّقا لا يتّسع إلا للفعل مرّة واحدة فيكون المكلّف مخيّرا في الإتيان به مع الجزء أو بدونه ؛ لأنّه مضطرّ عمليّا إلى ذلك ، إذ لا يمكنه ترك المركّب رأسا ولا يمكنه تكراره بحسب الفرض لضيق الوقت ، فيتعيّن الإتيان به مع أحدهما ، وهنا سوف تتحقّق المخالفة الاحتماليّة في مقابل الموافقة الاحتماليّة.

وهذه المخالفة الاحتماليّة يؤمّن عنها بملاك الاضطرار ؛ لأنّه يؤمّن عن المخالفة القطعيّة فمن الأولى أن يؤمّن عن المخالفة الاحتمالية كما هو واضح ؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها.

وقد يقال : إنّ العلم الإجمالي المذكور غير منجّز ولا يمنع عن جريان البراءتين معا ، بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الإجمالي ، وهي صيغة الميرزا (1) القائلة : بأنّ تعارض الأصول مرهون بأداء جريانها إلى الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة ، فإنّ جريان الأصول في المقام لا يؤدّي إلى ذلك ؛ لأنّ المكلّف لا تمكّنه المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ، إذ في حالة الإتيان بالشيء المردّد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفي حالة تركه يحتملها أيضا ، فلا يلزم من جريان الأصلين معا ترخيص في المخالفة القطعيّة.

فإن قيل : ألا تحصل المخالفة القطعيّة لو ترك المركّب رأسا؟

قلنا : نعم تحصل ، ولكن هذا ممّا لا إذن فيه من قبل الأصلين حتّى لو جريا معا.

قد يقال : إنّ حكم هذه المسألة هو التخيير لا الاحتياط بتكرار العمل.

والوجه في ذلك : أنّ العلم الإجمالي المذكور وإن كان دائرا بين المتباينين إلا أنّه في الدقّة دائر بين المحذورين ، وقد تقدّم أنّه في موارد الدوران بين المحذورين لا مانع من جريان البراءة عنهما ؛ لأنّه لن يؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة.

ص: 78


1- فوائد الأصول 4 : 26 - 27.

والمفروض أنّ المنع عن جريان البراءة في الطرفين إنّما هو لأجل أداء جريانها فيهما معا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وأمّا إذا لم يؤدّ جريانها فيهما إلى ذلك فلا محذور في جريانها.

وفي موردنا لا يمكن أن تتحقّق المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ هذا الشيء المشكوك على تقدير كونه جزءا فهذا يعني وجوب الإتيان به ، وعلى تقدير كونه مانعا فهذا يعني حرمة الإتيان به ، فيدور الأمر بين كون هذا الشيء واجبا أو محرّما ، وهذا من الدوران بين المحذورين والذي يحكم فيه بالتخيير عقلا وبجريان البراءة عن الوجوب والحرمة معا ؛ لأنّ التأمين عنهما لن يؤدّي عمليّا إلى المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ هذا الشاكّ إمّا أن يأتي بالمركّب واجدا للجزء أو يأتي به فاقدا للجزء ، فهناك مخالفة احتماليّة لا قطعيّة ، فالمورد من موارد جريان البراءة ، ولا يمكن للمكلّف أن يأتي بالمركّب واجدا وفاقدا لهذا الشيء ؛ لأنّه مستحيل.

ولا يقال هنا : إنّ المخالفة القطعيّة ممكنة وذلك بأن يترك الصلاة رأسا فيكون قد خالف العلم الإجمالي قطعا.

لأنّه يقال : إنّ هذه المخالفة القطعيّة مخالفة للعلم التفصيلي وهو وجوب المركّب لا للعلم الإجمالي ، مضافا إلى أنّ هذه المخالفة لم تنشأ من جريان البراءة في الطرفين ، وإنّما نشأت من خلال ترك الواجب المعلوم تفصيلا.

ولكن يمكن أن يقال على ضوء صيغة الميرزا : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ممكنة أيضا فيما إذا كان الشيء المردّد بين الجزء والمانع متقوّما بقصد القربة على تقدير الجزئيّة ، فإنّ المخالفة القطعيّة حينئذ تحصل بالإتيان به بدون قصد القربة ، ويكون جريان الأصلين معا مؤدّيا إلى الإذن في ذلك ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

والجواب أن يقال : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي الدائر بين وجوب الشيء على تقدير كونه جزءا وبين حرمته على تقدير كونه مانعا ، ممكنة فيما إذا كان هذا الشيء على تقدير جزئيّته ممّا يشترط فيه قصد القربة بأن كان من الواجبات التعبّديّة لا التوصّليّة.

فإنّنا إذا فرضنا أنّ ( التأمين أو التكفير ) على تقدير الشكّ في الجزئيّة والمانعيّة يشترط

ص: 79

في جزئيّتهما الإتيان بهما بقصد القربة ، فهنا يمكن للمكلّف المخالفة القطعيّة ، وذلك بأن يأتي بالشيء لا بقصد القربة فإنّه على تقدير كونه جزءا فقد خالف ؛ لأنّه لم يأت بالجزء بقصد القربة والذي هو شرط في تحقّق الجزئيّة بحسب الفرض.

وعلى تقدير كونه مانعا فلم يتركه أي أنّه أوجد المانع مع أنّ المطلوب منه إعدام المانع ، فقد خالف أيضا (1).

وبهذا يكون جريان البراءة عن كونه جزءا وجريان البراءة عن كونه مانعا مؤدّيا إلى المخالفة القطعيّة ، فالركن الرابع محفوظ ولذلك تتعارض البراءتان وتتساقطان ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا يمكن الأخذ بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّ الأوّل مخالفة قطعيّة والثاني ترجيح بلا مرجّح.

فالصحيح ما ذكرناه من لزوم الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الشيء ومرّة من دونه.

3 - الأقلّ والأكثر في المحرّمات

كما قد يعلم إجمالا بواجب مردّد بين التسعة والعشرة ، كذلك قد يعلم بحرمة شيء مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه.

ويختلف الدوران المذكور في باب الحرام عنه في باب الواجب من بعض الجهات :

التنبيه الثالث : فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في المحرّمات.

كما إذا علم بحرمة التصوير وشكّ في أنّ هذه الحرمة مختصّة بتصوير الرأس أو أنّها شاملة لتصوير تمام الشكل ، فهنا يدور الأمر بين المتباينين إمّا حرمة تصوير الرأس فقط ، وإمّا حرمة تصوير تمام الشكل.

وهنا الحكم نفس الحكم المتقدّم في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الوجوبات

ص: 80


1- قد يقال : إنّ قصد القربة لمّا كان دخيلا في الشيء المردّد كما هو الفرض فكما لا تتحقق الجزئيّة بالإتيان به من دون قصد القربة كذلك لا تتحقق المانعية لأن المانع ليس هو ذات الشيء بل هو معه مضافا إلى قصد القربة ، ولذلك لا يبطل الصلاة الإتيان به من دون قصد الجزئيّة حتى لو كانت مانعيته معلومة قطعا.

من جريان البراءة لنفي التكليف الزائد ، إلا أنّ الأقلّ والأكثر في المحرّمات يختلف عن الأقلّ والأكثر في الواجبات من جهة تصوير الأقلّ والأكثر ، ومن جهة أنّ هذا الدوران هل يشمل الموارد الأربعة للدوران أي الأجزاء والشرائط والتعيين والتخيير العقلي أو الشرعي أو لا؟

ولذلك سوف نتحدّث عن هاتين الجهتين ، فنقول :

فأوّلا : وجوب الأكثر هناك كان هو الأشدّ مئونة ، وأمّا حرمة الأكثر هنا فهي الأخفّ مئونة ، إذ يكفي في امتثالها ترك أي جزء ، فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الأقلّ في باب الواجب.

الجهة الأولى : في تصوير الأقلّ والأكثر.

تقدّم في باب الواجبات أنّ الأكثر يشتمل على مئونة زائدة ، ففي الدوران بين التسعة أو العشرة كان وجوب الأكثر أي العشرة فيه مئونة زائدة ، وهي لزوم ضمّ الجزء العاشر إلى التسعة ولا يكفي الإتيان بالتسعة فقط ، وحيث إنّ هذا الوجوب مشكوك فتجري عنه البراءة.

وأمّا في باب المحرّمات فالأكثر لا يشتمل على المئونة الزائدة ، وإنّما الأقلّ هو الذي يشتمل على المئونة الزائدة ؛ وذلك لأنّه في الدوران بين حرمة تصوير الرأس أو حرمة تصوير تمام الشكل ، تكون حرمة تصوير الرأس والتي هي الأقلّ ثابتة سواء صوّر الرأس فقط أم صوّره مع تمام البدن ، بينما حرمة الأكثر وهي تصوير تمام الشكل ثابتة فيما إذا صوّر جميع الأعضاء فقط ، وهذا يعني أن الحرمة الأولى لا تنتفي إلا بعدم تصوير الرأس سواء صوّر غيره أم لا ، بينما الحرمة الثانية تنتفي بانتفاء أي جزء من الشكل.

ولذلك فإذا صوّر الرأس فقط سوف يشكّ في حرمته ؛ لأنّ الحرام لو كان هو تصوير الرأس فالحرمة ثابتة ، وأمّا لو كان الحرام هو تصوير تمام البدن فلا حرمة في تصوير الرأس فقط ، وحينئذ تكون حرمة تصوير الرأس وحده مشكوكة فتجري عنها البراءة ، وحيث إنّ البراءة تجري لنفي المئونة الزائدة والتكليف الزائد فيكون الأقلّ هنا مشتملا على المئونة الزائدة نظير الأكثر في الواجبات ، بينما الأكثر هنا وهو حرمة تصوير تمام الشكل ليس فيه مئونة زائدة ؛ لأنّها تنتفي بانتفاء أي جزء من الشكّ فهي نظير الأقلّ في الواجبات.

ص: 81

وبذلك تثبت حرمة تصوير الشكل بتمامه ؛ لأنّها الحرمة المتيقّنة على كلّ تقدير ؛ لأنّه إذا صوّر تمام الشكل يكون قد ارتكب الحرام سواء كان الحرام تصوير تمام البدن أم كان الحرام تصوير الرأس فقط ؛ لأنّ الرأس داخل في تمام الشكل.

وأمّا إذا صوّر الرأس فقط فهو شكّ في حرمة زائدة مضافا إلى حرمة تصوير الكلّ ، وحيث إنّ حرمته مشكوكة فتجري عنها البراءة.

فالفارق الأوّل بين الواجبات والمحرّمات هو في المئونة الزائدة وفي تصوير جريان البراءة ، فهناك تجري لنفي المئونة الزائدة في الأكثر بينما هنا تجري لنفي المئونة الزائدة في الأقلّ.

وثانيا : أنّ دوران الحرام بين الأقلّ والأكثر يشابه دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ؛ لأنّ حرمة الأكثر في قوّة وجوب ترك أحد الأجزاء تخييرا ، وحرمة الأقلّ في قوّة وجوب ترك هذا الجزء بالذات تعيينا ، فالأمر دائر بين وجوب ترك أحد الأجزاء ووجوب ترك هذا الجزء بالذات ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير لا الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو الشرائط.

الجهة الثانية : في كون الدوران من أي أقسام الأقلّ والأكثر؟

والصحيح فيها : أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في المحرّمات يدخل في الدوران بين التعيين والتخيير.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ حرمة الأكثر - أي حرمة تصوير تمام الشكل - يكفي في الاجتناب عنها ترك أي جزء من الأجزاء كاليد أو الرأس ونحوهما ، فهي نظير الوجوب التخييري الذي يكفي في امتثاله أن يمتثل أيّ فرد من الأفراد المخيّر بينها عقلا أو شرعا ، ففي مقام الامتثال للحرمة أو للوجوب التخييري يكفي ترك أي جزء أو فعل أيّ فرد.

وأمّا حرمة الأقلّ - أي حرمة تصوير الرأس خاصّة - فهذه لا يكفي فيها ترك أيّ جزء آخر كاليد أو الساق ، بل لا بدّ فيها من ترك الرأس سواء ضمّ إليه ترك الأعضاء الأخرى أم لا ، لأنّ ضمّ ترك الأجزاء الأخرى إلى ترك الرأس يكون من باب ضمّ ترك ما ليس بحرام إلى ترك الحرام ، وأمّا فعل الأجزاء الأخرى مع ترك الرأس فهو من باب ضمّ فعل المباح إلى جانب ترك الحرام ، فهذا نظير الوجوب التعييني للعتق مثلا ، والذي

ص: 82

لا يمتثل إلا بالعتق ولا يكفي الإطعام أو الصيام عنه ، ومخالفته تتحقّق بترك العتق سواء أطعم وصام أم لا ؛ لأنّ ضمّهما أو تركهما يكون من ضمّ أو ترك المباح.

فالتصوير الصحيح للدوران بين الأقلّ والأكثر هو الدوران بين التعيين أي حرمة تصوير الرأس خاصّة أو التخيير أي حرمة تصوير تمام البدن.

ولا يدخل المورد في الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو الشرائط.

والحكم هو جريان البراءة عن حرمة الأقلّ ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الأكثر ، بنفس البيان الذي جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق ، بدون أن تعارض بالبراءة عن الوجوب التخييري.

الجهة الثالثة : أنّ حكم هذا الدوران هو الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين ؛ وذلك لأنّ البراءة عن وجوب الأقلّ - حرمة تصوير الرأس - تجري من دون معارض.

وأمّا البراءة عن وجوب الأكثر - حرمة تصوير تمام الشكل - فلا تجري ؛ لأنّه لا معنى لجريانها ولا أثر ؛ وذلك لأنّه إن أريد بالبراءة عن الأكثر - حرمة تصوير تمام الشكل - التأمين عن حرمة تصوير تمام الشكل ، بإثبات أنّ الحرمة في الأقلّ - أي حرمة تصوير الرأس - فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الملازمة هنا عقليّة.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر التأمين عن تصوير تمام الشكل حال الإتيان بتصوير الرأس فهذا غير معقول ؛ لأنّ تصوير الرأس مع تصوير تمام الأعضاء الأخرى معناه الوقوع في المخالفة القطعيّة ، والبراءة لا مورد لها في حال المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها معلومة الحرمة وليست مشكوكة.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر التأمين عن تصوير تمام الشكل حال ترك تصوير الرأس فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بتمام الشكل يتضمّن حتما الإتيان بتصوير الرأس ، وهذا مخالفة قطعيّة أيضا.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر أنّه إذا ترك تصوير الرأس وترك تصوير سائر الأعضاء أيضا فهو مؤمّن بالبراءة ، فهذا لا معنى له ؛ لأنّه في هذه الحالة يقطع بالتأمين حيث إنّه لم يرتكب شيئا من التصوير لا الجزء ولا الكلّ ، والبراءة لا تجري في موارد القطع.

وبهذا يظهر أنّ البراءة عن وجوب الأقلّ ذي المئونة الزائدة تجري بلا معارض ،

ص: 83

والنتيجة عدم حرمة تصوير الرأس خاصّة ، وإنّما يحرم تصوير تمام الشكل.

وأمّا الانحلال الحقيقي فهو غير متصوّر هنا ؛ لأنّ العلم الإجمالي دائر في الحقيقة بين المتباينين لا الأقلّ والأكثر. وهذا فارق ثالث بين الأقلّ والأكثر في الواجبات وبين الأقلّ والأكثر في المحرّمات.

فهناك كان يمكن تصوير الانحلال الحقيقي في بعض الموارد ، وأمّا هنا فلا يمكن تصوير الانحلال الحقيقي ؛ لأنّ الطرفين هنا متباينان لأنّ حرمة الأكثر عبارة عن حرمة إيجاد المجموع بعنوانه الخاصّ ، وهذه الحرمة ترتفع بانتفاء أي جزء من المجموع على سبيل التخيير ، بينما حرمة الأقلّ عبارة عن إيجاد هذا الجزء بخصوصه وهذه الحرمة لا ترتفع إلا بانتفاء هذا الجزء فقط على سبيل التعيين ، فهناك تباين وتغاير بين الطرفين ولذلك لا انحلال حقيقي. وإنّما الانحلال الحكمي هو المتعيّن.

4 - الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر

كما يمكن افتراض الشبهة الحكميّة للدوران بين الأقلّ والأكثر ، كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعيّة ، بأن يكون مردّ الشكّ إلى الجهل بالحالات الخارجيّة لا الجهل بالجعل ، كما إذا علم المكلّف بأنّ ما لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة ، وشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه أو لا؟ فتجري البراءة عن مانعيّته أو عن وجوب تقيّد الصلاة بعدمه بتعبير آخر.

التنبيه الرابع : في الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر.

كما يمكن افتراض الشكّ في الشبهة الحكميّة للأقلّ والأكثر وهو ما كنّا نتحدّث عنه سابقا ، كموارد الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة أو التعيين والتخيير ، حيث كان الشكّ فيها بلحاظ عالم الجعل ، أي أنّ هذا المشكوك هل هو جزء أو شرط أو مانع؟ فالشكّ في أصل ثبوت الجزئيّة والمانعيّة والشرطيّة ، وهناك قلنا : إنّ الحكم هو البراءة عن الأكثر الذي يتضمّن المئونة الزائدة.

كذلك يمكن افتراض الشكّ في الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بأصل الشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة ، وشكّ في أنّ هذا الأمر الموجود في الخارج هل هو مصداق للشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة المعلومة أم ليس مصداقا لها؟ فإنّ الشكّ في المصداق الخارجي شكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة.

ص: 84

مثاله : أن يعلم بأنّ اللباس المصنوع ممّا لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة ، وشكّ في أنّ هذا اللباس الموجود أمامه هل هو مصنوع ممّا يؤكل لحمه أو ممّا لا يؤكل لحمه؟ فهنا يشكّ في أنّه مانع من الصلاة أم لا ، والشكّ في المانعيّة شكّ في أمر زائد ؛ لأنّ المانعيّة معناها كما تقدّم تقيّد المركّب بعدم شيء ، خلافا للشرطيّة التي تعني تقيّده بوجود شيء.

وهذا الشكّ شكّ في الشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ المانعيّة على مستوى الجعل معلومة ، إلا أنّ مصداقها مشكوك.

والحكم هنا هو جريان البراءة ؛ لأنّ الشكّ في مانعيّة هذا اللباس معناه الشكّ في تكليف زائد ؛ لأنّه يشكّ في تقيّد الصلاة بعدم هذا اللباس فتجري البراءة للتأمين عن هذا اللباس المشكوك ، وبالتالي تجوز الصلاة فيه.

وأمّا لو شكّ في الشبهة الموضوعيّة للشرطيّة فهنا يختلف الحكم ، فإذا علم بشرطيّة الطهارة مثلا ، وشكّ في أنّ ما فعله هل هو طهارة أم لا؟ فهنا يكون الشكّ في المحصّل للمأمور به ، فيجب الاحتياط والإتيان بالطهارة يقينا ، وهكذا الحال في الشكّ في الجزئيّة وأنّه هل أتى بها أم لا؟

إلا أنّ هذا على عمومه غير صحيح ، لإمكان تصوير الشبهة الموضوعيّة بين الأقلّ والأكثر في الشرطيّة وفي الجزئيّة أيضا والذي يكون مجرى للبراءة.

وقد يقال - كما عن الميرزا قدس سره (1) : إنّ الشبهة الموضوعيّة للواجب الضمني لا يمكن تصويرها إلا إذا كان لهذا الواجب تعلّق بموضوع خارجي كما في هذا المثال.

قد يقال : كما عن المحقّق النائيني - قدس اللّه روحه - ذهب إلى أنّ تصوير الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر إنّما تكون في المانعيّة وفي الشرطيّة التي لها متعلّق في الخارج ، كما في مثالنا السابق ، فإنّ اللباس الذي يشكّ في كونه ممّا يؤكل لحمه أو ممّا لا يؤكل ، موضوع خارجي يشكّ في تعلّق المانعيّة به.

وأمّا إذا لم يكن للواجب تعلّق بموضوع خارجي ، فلا يتصوّر فيه الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر ، كما في القراءة الواجبة فإنّه لا يوجد شيء في الخارج يتعلّق به وجوب

ص: 85


1- فوائد الأصول 4 : 200.

القراءة ، وإنّما يراد بوجوب القراءة إيجاد شيء في الخارج ، وهكذا بالنسبة للطهور أيضا.

ففي هذه الحالة يشكّ في تحقّق الواجب وعدم تحقّقه ، وحيث إنّه معلوم اشتغال الذمّة به فتجري أصالة الاشتغال.

ولكنّ الظاهر إمكان تصويرها في غير ذلك أيضا ، وذلك بلحاظ حالات المكلّف نفسه ، كما إذا فرضنا أنّ السورة كانت واجبة على غير المريض في الصلاة ، وشكّ المكلّف في مرضه ، فإنّ هذا يعني الشكّ في جزئيّة السورة مع أنّها واجب ضمني لا تعلّق له بموضوع خارجي ، والحكم هو البراءة.

والجواب : أنّ ما فرض الميرزا عدم إمكان تصويره يمكن تصويره ، وذلك بأن نفرض أنّ السورة واجبة على الصحيح وليست واجبة على المريض ، أي أنّ هذا الواجب الضمني مختصّ ببعض حالات المكلّف لا في جميع حالاته ، وحينئذ فإذا شكّ المكلّف في كونه مريضا فهذا شكّ في الشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ الشخص الموجود في الخارج لا يدري هل هو مريض أم لا؟ فهنا سوف يشكّ في وجوب السورة عليه وعدم وجوبه ، وبذلك يتحقّق تصوير تعلّق الشكّ في الواجب الضمني بالشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ الشكّ في المرض سوف يؤدّي إلى الشكّ في أنّ وجوب السورة متعلّق به أو لا؟ وهذا يعني أنّه بالإمكان تصوير الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة للجزء الذي هو واجب ضمني مع أنّ نفس الجزء لا تعلّق له بموضوع خارجي.

وفي مثل ذلك تجري البراءة أيضا ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد ؛ لأنّه عند ما يشكّ في مرضه سوف يشكّ في وجوب السورة عليه وعدم وجوبها أي في الجزئيّة ، فتجري البراءة لأنّها تكليف زائد مشكوك كما تقدّم.

5 - الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط
اشارة

كنّا نتكلّم عمّا إذا شكّ المكلّف في جزئيّة شيء أو شرطيّته مثلا للواجب.

وقد يتّفق العلم بجزئيّة شيء أو دخالته في الواجب بوجه من الوجوه ، ولكن يشكّ في شمول هذه الجزئيّة لبعض الحالات ، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا في إطلاق جزئيّتها لحالة المرض أو السفر.

ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر بلحاظ هذه الحالة

ص: 86

بالخصوص ، فإذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق لها وانتهى الموقف إلى الأصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة.

وهذا على العموم لا إشكال فيه ، ولكن قد يقع الإشكال في حالتين من هذه الحالات وهما :

حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة نسيان الجزء.

وحالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة تعذّره.

ونتناول هاتين الحالتين فيما يلي تباعا :

التنبيه الخامس : الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط.

إذا علم بجزئيّة شيء أو بشرطيّته في الواجب فتارة يعلم بأنّه واجب مطلقا وفي جميع الحالات ، كما في ( الفاتحة ) فإنّها واجبة على كلّ حال ، وأخرى يعلم بأنّه ليس واجبا مطلقا وإنّما في بعض الحالات ، كما في القيام أو الركوع أو السجود فإنّها تسقط عند العجز عن القيام أو الركوع أو السجود وينتقل إلى بدلها وهو الجلوس والإيماء ، وثالثة يشكّ في أنّ هذا الجزء أو الشرط هل هو واجب مطلقا وفي جميع الحالات أو في بعض الحالات فقط؟

كما إذا علم بوجوب السورة وكونها جزءا واجبا من الصلاة ولكن شكّ في أنّها واجبة بنحو مطلق وفي جميع الحالات ، أو أنّها واجبة في بعض الحالات دون البعض الآخر كالسفر أو المرض أو الخوف فإنّها تسقط.

فإنّ مرجع هذا الشكّ إلى أنّ جزئيّتها هل هي مطلقة أو مقيّدة ببعض الحالات ، وتسمّى هذه الحالة بحالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة.

والحكم هنا على وجه العموم أنّ هذه الجزئيّة حيث إنّه لا دليل على إطلاقها وشمولها لكلّ الحالات ، فسوف يصل الأمر إلى الأصول العمليّة لتحديد الموقف والوظيفة ، وهنا تجري الأصول المؤمّنة كالبراءة ؛ لأنّ المورد من موارد الشكّ في تكليف زائد بالنسبة للمريض أو المسافر ، حيث إنّه يعلم بوجوب الصلاة ويشكّ في كون الأجزاء هي الأقلّ أو الأكثر ؛ لأنّه يشكّ في وجوب السورة وعدمها فهو شكّ في تكليف زائد.

إلا أنّه قد وقع الإشكال في حالتين من حالات الشكّ في إطلاق الجزئيّة أو الشرطيّة ، هما :

ص: 87

1 - حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة النسيان.

2 - حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة التعذّر.

أ - الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان

إذا نسي المكلّف جزءا من الواجب فأتى به بدون ذلك الجزء ، ثمّ التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به.

فإن كان لدليل الجزئيّة إطلاق لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به ؛ لأنّه فاقد للجزء ، من دون فرق بين افتراض النسيان في أثناء الوقت وافتراض استمراره إلى آخر الوقت ، وهذا هو معنى أنّ الأصل اللفظي في كلّ جزء يقتضي ركنيته أي بطلان المركّب بالإخلال به نسيانا.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق وانتهى الموقف إلى الأصل العملي ، فقد يقال بجواز اكتفاء الناسي بما أتى به ؛ لأنّ المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان والأقلّ واقع والزائد منفيّ بالأصل.

الصورة الأولى : فيما إذا شكّ في إطلاق الجزئيّة أو الشرطيّة لحالة النسيان.

فإذا نسي المكلّف أن يأتي بالجزء كالسورة مثلا ثمّ التفت بعد ذلك إلا أنّه قد أتى بالمركّب من دون السورة نسيانا ، فهل يحكم بصحّة صلاته أو ببطلانها؟

والجواب كما عن المشهور هو :

إن كان لدليل الجزئيّة إطلاق لحالة النسيان فمقتضى إطلاقه لذلك كون هذا الجزء ركنا واجبا في المركّب لا بدّ من الإتيان به ، ويكون الإخلال به ولو سهوا ونسيانا موجبا لبطلان المركّب وبالتالي تجب الإعادة ، فالسورة مثلا التي نسيها إن كان لدليلها إطلاق على كون السورة واجبة في جميع الحالات وأنّها لا تسقط بحال ، فهذا يعني أنّ جزئيّتها تشمل النسيان ، وهذا النوع من الأجزاء الواجبة يسمّى بالركن كما هو الحال بالنسبة للتكبيرة والركوع والسجود والفاتحة والتسليم.

وحينئذ لا يكون هناك فرق بين أن يتذكّر في الوقت أو يستمرّ نسيانه إلى أن يخرج من الوقت ، فتجب الإعادة في الأوّل والقضاء في الثاني.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق لفظي يشمل حالة النسيان ، بل كان الدليل الدالّ عليها يثبت أصل جزئيّتها من دون نظر إلى كونها مطلقة أو مقيّدة بحالة من

ص: 88

الحالات ، فهنا يكون القدر المتيقّن من جزئيّتها هو حالة التذكّر ، وأمّا حالة النسيان فهي مشكوكة الجزئيّة فيها كما هو بالنسبة للسورة أو الجهر أو الإخفات.

فهنا حيث لا يوجد أصل لفظي يتمسّك بإطلاقه فسوف ينتهي الأمر إلى الأصول العمليّة لتحديد الوظيفة والموقف ، وحينئذ قد يقال إنّ البراءة تجري في المقام ؛ لأنّ من نسي السورة إلى أن فرغ من صلاته سوف يشكّ في وجوب الإعادة وعدم وجوبها نتيجة الشكّ في أنّ السورة جزء مطلقا ، أم أنّها في بعض الحالات ، وهذا الشكّ يرجع إلى الدوران بين الأقلّ والأكثر أي بين وجوب السورة حال التّذكر الذي هو الأقلّ ، أو وجوبها مطلقا للمتذكّر والناسي والذي هو الأكثر ، فتجري البراءة لنفي المئونة الزائدة في الأكثر ؛ لأنّ وجوبها على المتذكّر معلوم على كلّ حال ويشكّ في وجوبها على الناسي.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ النسيان تارة يستوعب الوقت كلّه ، وأخرى يرتفع في أثنائه.

والتحقيق في هذه الصورة أن يقال : إنّه تارة يتذكّر في أثناء الوقت فيكون النسيان مرتفعا في الأثناء وغير مستمرّ.

وأخرى لا يتذكّر إلا أن يخرج الوقت بحيث يكون النسيان مستمرّا ومستوعبا للوقت كلّه.

فلا بدّ من استعراض كلّ واحدة من هاتين الحالتين لمعرفة حكم الناسي في كلّ منهما.

ففي الحالة الأولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يحتمل التكليف بالأكثر بالنسبة إليه ؛ لأنّ الناسي لا يكلّف بما نسيه على أي حال ، بل هو يعلم إمّا بصحّة ما أتى به أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا إلى الشكّ في وجوب استقلالي جديد وهو وجوب القضاء ، فتجري البراءة عنه حتّى لو منعنا من البراءة في موارد دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

أمّا الحالة الأولى : وهي فيما إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فالحكم فيها صحّة ما أتى به.

ص: 89

والوجه في ذلك : أنّ المكلّف الذي نسي الجزء حتّى انتهى الوقت لا يمكن تكليفه بهذا الجزء في أثناء الوقت ؛ إذ لا يمكن توجيه خطاب للناسي بالجزء الذي نسيه ؛ لأنّ هذا خلف كونه ناسيا ، ولذلك لا يكلّف بالأكثر جزما في أثناء الوقت بسبب النسيان المانع من ذلك ، وعليه فلا يكون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الأكثر لا يكلّف به الناسي إمّا لعجزه وإمّا لرفع التكليف بالنسيان استنادا إلى حديث الرفع.

وحينئذ يكون الدوران في هذه الحالة بين كون ما أتى به من صلاة فاقدة للجزء الذي نسيه صحيحة ومجزية عن المأمور به ، وبين لزوم القضاء بالإتيان بصلاة واجدة للجزء خارج الوقت ؛ لأنّ الفرض هنا استيعاب النسيان لتمام الوقت.

ومرجع هذا الشكّ في الحقيقة إلى الشكّ في تكليف زائد ، بمعنى أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة إلى علم تفصيلي بالأقلّ - بناء على إمكان تكليفه بالأقلّ - وشكّ بدوي في الأكثر فتجري البراءة عن الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ قد امتثله فعلا والأكثر مشكوك ، وهذا من العلم الإجمالي بعد امتثال أحد طرفيه والذي لا يكون علما إجماليّا في الحقيقة ، بل مشكوك في تكليف زائد ابتداء.

وأمّا بناء على عدم إمكان تكليف الناسي بالأقلّ كالأكثر فالأمر أوضح ؛ لأنّه حال نسيانه لم يكن مكلّفا بشيء وبعد ارتفاع النسيان خارج الوقت يشكّ في وجوب القضاء فتجري البراءة عنه.

وهذا الكلام يتمّ حتّى لو أنكرنا جريان البراءة في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأنّه هنا لا يوجد تكليف بالأكثر حقيقة ، والأقلّ متحقّق فعلا.

وأمّا في الحالة الثانية فالتكليف فعلي في الوقت ، غير أنّه متعلّق إمّا بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان أو بالصلاة التامّة فقط.

والأوّل معناه اختصاص جزئيّة المنسي بغير حال النسيان ، والثاني معناه إطلاق الجزئيّة لحال النسيان ، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامّة تعيينا هو من أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ، ويمثّل الجامع فيه الأقلّ ، وتمثّل الصلاة التامّة الأكثر ، وتجري البراءة وفقا للدوران المذكور.

وأمّا الحالة الثانية : وهي فيما إذا ارتفع النسيان في أثناء الوقت بحيث كان فيه متّسع للأداء ، فالحكم هنا هو البراءة والاكتفاء بما أتى به.

ص: 90

وجهه أن يقال : إنّ المكلّف الذي أتى بالصلاة الناقصة نسيانا ثمّ ارتفع عذره في الوقت سوف يتشكّل لديه علم إجمالي دائر بين طرفين ، أحدهما كونه مكلّفا بالصلاة التامّة الواجدة لجميع الأجزاء فقط ، بحيث يكون الإخلال بجزء منها ولو نسيانا موجبا للإعادة في الوقت ؛ لأنّ ما أتى به ليس هو المأمور به ، والآخر كونه مكلّفا بالجامع بين الصلاتين التامّة والناقصة ، بمعنى أنّ الإتيان بصلاة واجدة لجميع الأجزاء حال التذكّر كالصلاة الفاقدة للجزء حال النسيان في كونهما مصداقين للجامع المأمور به.

وهذا الشكّ مرجعه في الدقّة إلى أنّ جزئيّة الجزء المنسي هل هي مختصّة بحال التذكّر فقط ، فلا تشمل الناسي ، أو أنّها مطلقة وشاملة لحال النسيان أيضا ، فالناسي كالمتذكّر في وجوب الإعادة عند فقدان الجزء ، غاية الأمر يختلفان في العقاب وعدمه؟

فإن كانت جزئيّة الجزء المنسي مختصّة بالمتذكّر فصلاة الناسي للجزء صحيحة ومجزية عن المأمور به ، وهو وجوب الجامع بين الصلاتين لا خصوص إحداهما.

وإن كانت جزئيّة الجزء المنسي مطلقة وشاملة فصلاة الناسي باطلة وغير صحيحة وتجب عليه الإعادة.

والحاصل : أنّ المكلّف بعد ارتفاع النسيان يعلم إجمالا إمّا بوجوب الصلاة التامّة فقط أو بوجوب الجامع بين الصلاتين ، وهذا العلم الإجمالي يدخل في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي والذي هو أحد أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ التكليف لو كان هو الجامع بين الصلاتين فهذا معناه أنّه تجزي إحدى الصلاتين عن الأخرى ، ولكن كلّ واحدة في موردها فالصلاة التامّة واجبة ومجزية عن المأمور به حال التذكّر ، والصلاة الناقصة مجزية كذلك حال النسيان ، ولو كان التكليف هو الصلاة التامّة فقط فهذا يعني لزوم الإتيان بها عند القدرة عليها ، ولذلك إذا لم يرتفع العذر لم يكن مكلّفا بها ، ولكن مع ارتفاعه - كما في مقامنا - يصبح قادرا على الإتيان بالصلاة التامّة والمفروض أنّها تكليفه فتجب الإعادة والإتيان بالصلاة التامّة.

فيدور الأمر بين وجوب الصلاة التامة تعيينا وبين وجوبها تخييرا بينها - حال التذكّر - وبين الصلاة الناقصة حال النسيان ، فهو من الدوران بين التعيين والتخيير.

وفي مثل هذه الحالة قلنا بأنّ البراءة تجري هنا عن الوجوب التعييني بلا معارض ؛

ص: 91

لأنّ جريانها عن الوجوب التخييري لا معنى له ، فهنا تجري البراءة عن وجوب الإتيان بصلاة تامّة تعيينا ، ولا تعارض بجريان البراءة عن وجوب الجامع بين الصلاتين ؛ لأنّ التأمين عن الجامع يراد به أحد أمور كلّها باطلة :

أن يكون المراد بالتأمين عن الجامع بعد امتثال أحد طرفيه أنّه موجود في الطرف المتحقّق فعلا فهو من الأصل المثبت.

أن يكون المراد بذلك أنّه يجوز ترك الجامع بكلا طرفيه فهذا مستحيل هنا ؛ لأنّ أحد طرفيه متحقّق فعلا.

أن يكون المراد بذلك أنّه لا يجب شيء من الصلاتين فهذا مخالفة قطعيّة لا تجري فيها البراءة.

وبهذا ظهر أنّ الوجه هنا هو التفصيل بين استيعاب الوقت وعدم استيعابه ، وإن كانت النتيجة واحدة فيهما إلا أنّ ملاكها مختلف.

بخلاف ما ذهب إليه المشهور من التفصيل بين كون دليل الجزئيّة فيه إطلاق لحال النسيان فتجب الإعادة أو القضاء ، وبين ما إذا لم يكن فيه إطلاق فلا تجب الإعادة ؛ لأنّه من الأقلّ والأكثر.

فإنّه في الصورة الأولى يصحّ ما حكموا به إلا أنّ الصورة الثانية قد يستشكل فيها كما عن الشيخ.

ولكن قد يقال - كما في إفادات الشيخ الأنصاري (1) وغيره - بأنّ هذا إنّما يصحّ فيما إذا كان بالإمكان أن يكلّف الناسي بالأقلّ ، فإنّه يدور عنده أمر الواجب حينئذ بين الأقلّ والأكثر ، ولكنّ هذا غير ممكن ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ إن خصّص بالناسي فهو محال ؛ لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسيا ، فلا يمكن لخطاب موجّه إلى الناسي أن يصل إليه ، وإن جعل على المكلّف عموما شمل المتذكّر أيضا مع أنّ المتذكّر لا يكفي منه الأقلّ بلا إشكال.

وعليه فلا يمكن أن يكون الأقلّ واجبا في حقّ الناسي وإنّما المحتمل إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشكّ في سقوطه بالأقلّ ، وفي مثل ذلك لا تجري البراءة.

ص: 92


1- راجع فرائد الأصول 2 : 363 ، وكفاية الأصول : 418.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أثار شبهة هنا حاصلها أنّ الناسي لا يمكن تكليفه لا بالأقلّ ولا بالأكثر ، ولذلك لا يكون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر أو التعيين والتخيير ، بل يكون من موارد الشكّ في براءة الذمّة بعد العلم باشتغالها بتكليف ، والذي هو مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال ، وتوضيح ذلك أن يقال :

إنّ ما تقدّم من كلام حول ما إذا كان هناك إطلاق في دليل الجزئيّة ، وما إذا لم يكن إطلاق فيه ، وحول ما إذا كان مستوعبا للوقت أم لا ، إنّما يتمّ فيما إذا أمكن تكليف الناسي بالأقلّ وتوجيه خطاب له بذلك ، فإنّه والحال هذه سوف يكون الأقلّ معلوم الدخول في العهدة تفصيلا وقد أتى به ، ويشكّ في اشتغال ذمّته بتكليف زائد فتجري فيه البراءة ، وتأتي التفصيلات المذكورة سابقا.

إلا أنّ الصحيح عدم إمكان تكليف الناسي لا بالأكثر كما هو واضح ؛ لأنّ المفروض كونه ناسيا فيكون عاجزا عقلا أو لا تكليف عليه شرعا من الإتيان بالأكثر ، ومع العجز أو رفع التكليف لا يكون هناك تكليف ، ولا بالأقلّ أيضا ؛ وذلك لأنّ التكليف إنّما يكون لغرض الباعثيّة والمحرّكيّة ، فلو قيل بصدور خطاب بحقّ الناسي متعلّق بالأقلّ ، فهذا الخطاب إمّا أن يتوجّه إلى الناسي بعنوان كونه ناسيا ، وإمّا أن يتوجّه إلى طبيعي المكلّف الشامل للناسي والمتذكّر.

فإن كان موجّها للناسي بعنوانه فهذا يجعل الناسي متذكّرا ؛ لأنّ وصول الخطاب إلى الناسي بأنّه مكلّف بالأقلّ يجعله متذكّرا لما نسيه فيصبح متذكّرا لا ناسيا ، وإذا لم يصل الخطاب إليه فلا تكليف عليه بالأقلّ ، وإن كان موجّها للناسي بنحو العموم والشمول لطبيعي المكلّف الشامل للناسي والمتذكّر ، فهذا يعني أنّ المتذكّر سوف يشمله هذا الخطاب ، وبالتالي سوف يصحّ منه الاكتفاء بالأقلّ اعتمادا على هذا العموم ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ المتذكّر للجزء لا يمكنه تركه عمدا ؛ لأنّ تركه كذلك مبطل.

والحاصل : أنّه لا يوجد معنى معقول لتكليف الناسي لا بالأقلّ ولا بالأكثر.

وحينئذ تكون النتيجة أنّه بعد الفراغ من الصلاة الناقصة ثمّ تذكره للجزء المنسي في الوقت سوف يشكّ في براءة ذمّته من الصلاة التي اشتغلت بها يقينا ، وهذا الشكّ مجرى لأصالة الاشتغال لا البراءة ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته بأصل الصلاة من دون

ص: 93

تعيين لها بالأقلّ أو بالأكثر ؛ لأنّهما لا يدخلان في ذمّته كما تقدّم ، ويشكّ في فراغها بما أتى به ، فهو شكّ في الفراغ اليقيني.

والجواب : أنّ التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعي المكلّف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكّر على الأقلّ ؛ لأنّه جامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة ، كما لا يلزم منع عدم إمكان الوصول إلى الناسي ؛ لأنّ موضوع التكليف هو طبيعي المكلّف ، غاية الأمر أنّ الناسي يرى نفسه آتيا بأفضل الحصّتين من الجامع مع أنّه إنّما تقع منه أقلّهما قيمة ، ولا محذور في ذلك.

والجواب : أنّنا نختار الشقّ الثاني ، أي بأن يكون هناك تكليف يشمل بعمومه أو بإطلاقه الناسي كما يشمل المتذكّر ، وذلك بأن يجعل التكليف على طبيعي المكلّف متعلّقا بجامع الصلاة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة حال التذكّر.

فيقال مثلا : ( تجب على طبيعي المكلّف أو على عموم المكلّفين الصلاة الجامعة بين إحدى حصّتين : إمّا الصلاة الناقصة حال النسيان وإمّا الصلاة التامّة حال التذكّر ).

وحينئذ يكون الناسي مخاطبا بعنوان عامّ بالصلاة الناقصة وكذا المتذكّر يكون مطالبا بالصلاة التامّة حال كونه متذكّرا ، ولا يلزم من ذلك ما ذكره الشيخ من الإشكالين.

أمّا أنّه لا يلزم محذور جواز اكتفاء المتذكّر بالصلاة الناقصة فلأنّ الصلاة الناقصة وإن كانت واجبة على طبيعي المكلّف إلا أنّها واجبة فيما إذا تحقّقت حال النسيان لا مطلقا ، والمتذكّر يفترض أنّه غير ناس فيكون مخاطبا بالحصّة الأخرى من الصلاة أي الصلاة التامّة ، فلا تجزيه الصلاة الناقصة ؛ لعدم تحقّق شرطها وقيدها ، لا لأنّ التكليف مختصّ بالناسي إذ المفروض أنّ التكليف مطلق يشمل الناسي والمتذكّر ، وإنّما متعلّق التكليف أي الصلاة كانت مقيّدة بحالة النسيان.

وأمّا أنّه لا يلزم محذور في كيفيّة توجيه الخطاب إلى الناسي ، فلأنّنا فرضنا أنّ الخطاب ليس مختصّا بالناسي ليقال بأنّه يستحيل وصوله إليه ؛ لأنّ وصوله إليه يعني التفاته إلى نسيانه فيصبح متذكّرا ، بل الخطاب موجّه إلى طبيعي المكلّف من أوّل الأمر ، فهذا المكلّف يعلم بوجود خطاب بحقّ الناسي وأنّه تجب عليه الصلاة الناقصة وبحقّ المتذكّر أيضا وأنّه تجب عليه الصلاة التامّة ، غاية الأمر أنّ هذا الناسي حينما

ص: 94

يأتي بالصلاة يعتقد أنّه متذكّر وأنّه يأتي بالصلاة التامّة لا الناقصة ، مع أنّ واقع الحال كونه ناسيا وأنّه يأتي بالصلاة الناقصة.

وهذا الأمر سوف يتبيّنه فيما بعد التذكّر إمّا في الوقت وإمّا في خارجه ، إلا أنّ هذا الاشتباه لا يضرّ ؛ لأنّه اشتباه في المصداق لا اشتباه في الموضوع المأمور به والمتعلّق للتكليف ، إذ متعلّق التكليف إحدى الصلاتين التامّة أو الناقصة كلّ واحدة في موردها وهو قد حقّق إحدى هاتين الصلاتين بظنّ امتثال الأخرى ، إلا أنّ ما حقّقه قد تعلّق به الأمر أيضا.

فهو من قبيل الأمر بالصلاة إمّا في المسجد أو في البيت فصلّى في البيت بظنّ أنّه المسجد ، فهذه الصلاة مأمور بها وإن اعتقد بأنّها الأفضل فتبيّن أنّها الأقلّ فضلا ، فإنّ هذا لا يضرّ ؛ لأنّه لم يكن متعلّقا للأمر ، وهذا ما يسمّى بأنّ القيد خارج ولكن التقيّد داخل أي أنّه ليس مأمورا بالقيد ، وإنّما بالتقيّد فقط والتقيّد متحقّق ؛ لأنّه أتى بالصلاة الناقصة حال كونه ناسيا (1).

وهذا الجواب أفضل ممّا ذكره عدد من المحقّقين (2) في المقام من حلّ الإشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقلّ بافتراض خطابين :

أحدهما متكفّل بإيجاب الأقلّ على طبيعي المكلّف ، والآخر متكفّل بإيجاب الزائد على المتذكّر.

وأجاب صاحب ( الكفاية ) عن إشكال الشيخ بنحو آخر مفاده :

ص: 95


1- وهناك صياغة أخرى للجامع وذلك بأن يقال : ( إن الصلاة واجبة على طبيعي المكلّف بمقدار ما يتذكّره منها ) ، فإنّ عنوان ( ما يتذكّره ) جامع لأي مقدار من الأجزاء يأتي به ، فالناسي يتذكر الصلاة الناقصة وغير الناسي يتذكّر الصلاة التامّة. ولا يمكن للمتذكّر لكامل الأجزاء أن يأتي بالصلاة الناقصة ؛ لأنّه يكون قد أخلّ به عمدا مع تذكّره له فيكون مخاطبا بشيء ولكنّه لم يمتثله عمدا فصلاته باطلة. ولا يرد محذور توجيه الخطاب للناسي ؛ أنّ الخطاب متوجّه إلى عنوان المتذكّر ، والناسي متذكّر لسائر الأجزاء الأخرى أيضا فهو مكلف بها فقط ، وأمّا الجزء الذي نسيه فهو ليس مكلّفا بها لعدم دخوله في العنوان المتعلّق به التكليف أي عنوان ( ما يتذكّره ).
2- منهم المحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 418 ، والمحقّق النائيني في فوائد الأصول 4 : 214.

أنّه إذا استحال توجيه خطاب للناسي بعنوانه الخاصّ فيمكننا توجيه خطاب عامّ لمطلق المكلّفين يكون شاملا للناسي وللمتذكّر ، ويكون متعلّق هذا الخطاب الصلاة الناقصة أي الأقلّ ، وبذلك يندفع محذور استحالة توجيه الخطاب لخصوص الناسي.

وأمّا محذور اكتفاء المتذكّر بالأقلّ فهذا يندفع بأن يوجّه خطاب آخر متعلّقه الصلاة التامّة لخصوص المتذكّر أي بعنوانه الخاصّ.

والحاصل أنّه يوجد خطابان : أحدهما لمطلق المكلّف متعلّق بالصلاة الناقصة ، والآخر خطاب لخصوص المتذكّر متعلّق بالصلاة التامّة.

إذ نلاحظ على ذلك : أنّ الأقلّ في الخطاب الأوّل هل هو مقيّد بالزائد ، أو مطلق من ناحيته ، أو مقيّد بلحاظ المتذكّر ومطلق بلحاظ الناسي ، أو مهمل؟

والأوّل خلف ؛ إذ معناه عدم كون الناسي مكلّفا بالأقلّ.

والثاني كذلك ؛ لأنّ معناه كون المتذكّر مكلّفا بالأقلّ ، وسقوط الخطاب الأوّل بصدور الأقلّ منه.

والثالث رجوع إلى الخطاب الواحد الذي ذكرناه ، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطاب آخر يخصّ المتذكّر.

والرابع غير معقول ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والإيجاب ، فلا يمكن انتفاؤهما معا.

إلا أنّ ما ذكره من جواب لا يمكن قبوله ؛ وذلك لأنّ الخطاب الأوّل الشامل لطبيعي المكلّف والمتعلّق بالأقلّ أي بالصلاة الناقصة لا معنى له ؛ لأنّ المراد منه لا يخلو من أحد احتمالات أربعة :

الأوّل : أن يكون الخطاب بالأقلّ مقيّدا بالزائد أي متعلّق بالصلاة التامّة ، بالنسبة للناسي والمتذكّر معا.

وهذا خلف المفروض ؛ لأنّ لازم ذلك كون الناسي كالمتذكّر مخاطبا بالصلاة التامّة لا الناقصة ، مع أنّ المطلوب إثبات كونه مخاطبا بالصلاة الناقصة ليجوز له الاكتفاء بها.

الثاني : أن يكون الخطاب بالأقلّ مطلقا من حيث الزائد ، أي يوجد خطاب شامل للناسي والمتذكّر متعلّق بالصلاة فقط الأعمّ من الناقصة والتامّة.

ص: 96

وهذا باطل ؛ لأنّ لازمه جواز اكتفاء المتذكّر بالصلاة الناقصة كالناسي ، فإذا أتى بها سقط الخطاب أو سقطت فاعليّته بالامتثال للأقلّ.

وحينئذ يجب عليه خصوص الزائد بعد الانتهاء من الأقلّ ، وهذا لا معنى له ؛ إذ لا معنى لوجوب السورة مثلا بعد الانتهاء من الصلاة ؛ لأنّ السورة واجبة أثناء الصلاة لا بعدها ، وإعادة الصلاة من جديد بحيث تكون شاملة للجزء لا مبرّر لها ؛ لأنّ سائر الأجزاء الأخرى قد امتثلها بالإتيان بالصلاة الناقصة ، وبالتالي سقط الأمر بها فلا موجب لإعادتها مرّة ثانية.

وهذا خلف كون المتذكّر مكلّفا بصلاة تامّة من أوّل الأمر لا بصلاتين ، ولا بصلاة وجزء بعدها.

الثالث : أن يكون الخطاب بالأقلّ مقيّدا بالزائد بلحاظ المتذكّر ومطلقا من ناحيته بلحاظ الناسي ، وهذا يعني أنّه يوجد خطاب واحد لا خطابان.

وهذا الاحتمال باطل ؛ لأنّ كلام الشيخ يأتي هنا وأنّه كيف يكون الناسي مخاطبا بالأقلّ بعنوانه الخاصّ؟

ولا جواب لهذا الإشكال إلا ما ذكرناه من كيفيّة جعل خطاب واحد شامل للناسي والمتذكّر ، بحيث يكون الناسي تكليفه الأقلّ بينما المتذكّر تكليفه الأكثر ، ومع هذا الخطاب الواحد لا نحتاج إلى خطاب آخر مستقلّ مجعول على عنوان المتذكّر بخصوصه ؛ لأنّه يكون لغوا وتحصيلا للحاصل.

الرابع : أن يكون الخطاب بالأقلّ مهملا من حيث الزائد لا هو مقيّد به ولا هو مطلق من ناحيته.

وفيه أنّه غير معقول ؛ لأنّ النظر إن كان إلى عالم الثبوت والجعل فالتقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت والجعل تقابل النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان ، ولا معنى لفرض الإهمال الثبوتي ؛ لأنّه يعني ارتفاع الإطلاق والتقييد وهذا يعني ارتفاع النقيضين وهو محال.

وإن كان النظر إلى عالم المجعول والصياغة فالإهمال غير معقول أيضا ، وإنّما يتصوّر الإجمال فقط ، إلا أنّ هذا لا يحلّ الإشكال المذكور سابقا ؛ إذ يبقى السؤال في كيفيّة توجيه الخطاب إلى الناسي بالأقلّ ، ولا حلّ له إلا ما ذكرناه من جواب.

ص: 97

وعلى هذا الأساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، فيلحقه حكمه من جريان البراءة عن الزائد.

وبهذا ظهر أنّ هذا الجواب لا ينفع لحلّ المشكلة التي أثارها الشيخ ، وإنّما الحلّ ما ذكرناه من جواب.

وبذلك يتّضح لنا أنّ المقام من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان ؛ لأنّه بعد الفراغ من الصلاة سوف يشكّ أنّ تكليفه هذه الصلاة التي أتى بها فقط ، أو تكليفه مضافا إليها وجوب الإعادة مع الجزء الذي نسيه فتجري البراءة عنه ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد.

بل التدقيق في المقارنة يكشف عن وجود فارق يجعل المقام أحقّ بالبراءة من حالات الدوران المذكور. وهو أنّ العلم بالواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر قد يدّعى كونه في حالات الدوران المذكور علما إجماليّا منجّزا ، وهذه الدعوى لئن قبلت في تلك الحالات فهناك سبب خاصّ يقتضي رفضها في المقام وعدم إمكان افتراض علم إجمالي منجّز هنا.

وهو أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر في المقام إنّما يحصل للناسي بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض أنّه قد أتى بالأقلّ في حالة النسيان ، وهذا يعني أنّه يحصل بعد امتثال أحد طرفيه ، فهو نظير أن تعلم إجمالا بوجوب زيارة أحد الإمامين بعد أن تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم الإجمالي غير منجّز بلا شكّ ، حتّى لو كان التردّد فيه بين المتباينين فضلا عمّا إذا كان بين الأقلّ والأكثر.

وخلافا لذلك حالات الدوران الاعتياديّة ، فإنّ التردّد فيها يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، فإذا تشكّل منه علم إجمالي كان منجّزا.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ مقامنا أولى وأحقّ بجريان البراءة من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ وذلك لوجود امتياز في المقام غير موجود في تلك الحالات.

وتوضيح ذلك : أنّه في حالات الدوران بين الأقلّ والأكثر في جميع أنحائه قلنا بجريان البراءة : إمّا للانحلال الحقيقي وإمّا للانحلال الحكمي.

إلا أنّه في بعض الحالات حيث يكون الطرفان متباينين مفهوما ومتّحدين مصداقا ،

ص: 98

قد يثار إشكال في كون هذا الدوران من موارد العلم الإجمالي المنجّز لكلا الطرفين ، ومع ذلك قلنا بجريان البراءة عن الأكثر وعدم جريانها عن الأقلّ ؛ لأنّه لا يوجد معنى معقول لجريانها عن الأقلّ فيكون الركن الثالث مهدوما.

وأمّا في مقامنا فيوجد سبب خاصّ وامتياز يجعل المورد مجرى للبراءة بلا إشكال أو محذور ، حتّى لمن استشكل هناك فإنّه يقبل جريان البراءة هنا من دون إشكال.

والوجه في ذلك : أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر إنّما يحصل للناسي بعد الفراغ عن الإتيان بالأقلّ ؛ لأنّ ارتفاع النسيان كان بعد الفراغ من الصلاة كما تقدّم ، وحينئذ سوف يكون التردّد ناشئا بين طرفين ، أحدهما قد تحقّق وامتثل فعلا ، وبالتالي سوف يكون التردّد في طرف واحد ، وهذا يجعله من الشكّ البدوي ؛ لأنّ الموجود فعلا طرف واحد يشكّ في وجوبه.

وهذا نظير العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين ، والذي تحقّق أحد طرفيه قبل حصوله ، كما إذا زار المكلّف أحد المرقدين الطاهرين ثمّ شكّ في أنّه يجب عليه زيارة المرقد الذي زاره أو مرقد آخر غيره ، فإنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان دائرا بين المتباينين ولكنّه لمّا كان أحد طرفيه متحقّقا ومفروغا عن امتثاله فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ البراءة سوف تجري عن الطرف الموجود من دون معارض ؛ لأنّ البراءة في الطرف الآخر الذي امتثله لا معنى لها ، أو لأنّ المطلوب من العلم الإجمالي أن يكون صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ، والحال أنّه في الطرف الممتثل لا يكون قابلا للتنجيز ؛ لأنّه امتثله فعلا.

فإذا كان العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين والذي امتثل فيه أحد الطرفين قبل حدوث العلم الإجمالي غير منجّز ، فمن الأولى ألاّ يكون التردّد بين الأقلّ والأكثر في مقامنا منجّزا أيضا.

ووجه الأولويّة أنّه في موارد العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين قد تثار شبهة وجود علم إجمالي آخر منجّز ، بينما هنا لا يمكن ذلك ؛ لأنّ التردّد هنا إنّما يحدث بعد امتثال أحد الطرفين دائما ، بينما في موارد العلم الإجمالي قد يقال بحدوث العلم الإجمالي قبل امتثال أحد الطرفين ، وذلك بالالتفات إلى حالة ما قبل البلوغ أو حالة صدور التشريع مثلا.

ص: 99

وبهذا ينتهي الكلام عن الحالة الأولى وهي حالة النسيان ، وتبيّن أنّ الحكم فيها هو البراءة في كلتا الصورتين ، أي استيعاب النسيان لتمام الوقت أو ارتفاعه في أثنائه وإن اختلف الملاك في جريانها.

ب - الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر

إذا كان الجزء جزءا حتّى في حالة التعذّر كان معنى ذلك أنّ العاجز عن الكلّ المشتمل عليه لا يطالب بالناقص.

وإذا كان الجزء جزءا في حالة التمكّن فقط فهذا يعني أنّه في حالة العجز لا ضرر من نقصه ، وأنّ العاجز يطالب بالناقص.

والتعذّر تارة يكون في جزء من الوقت ، وأخرى يستوعبه.

الصورة الثانية : فيما إذا كان عاجزا عن الإتيان بالجزء ، فهنا يقال : إذا كان الدليل الدالّ على الجزئيّة مطلقا وشاملا لحالة العجز والتعذر فهذا يعني أنّ الجزء لا يتحقّق المركّب من دونه ، فإذا كان المكلّف عاجزا عنه فلازمه كون المكلّف عاجزا عن الإتيان بالمركّب ، ومع العجز عن الإتيان به لا تكليف عليه ، والنتيجة أنّه لا يجب عليه شيء.

أمّا الكلّ فلأنّه متعذّر ، وأمّا سائر الأجزاء الأخرى فلأنّه ليس مخاطبا بالأجزاء الأخرى بنحو مستقلّ عن الجزء المتعذّر ، بل مخاطب بها ضمن ذلك الجزء ، فالتعذّر عن البعض يعني التعذّر عن الكلّ أيضا ، من قبيل شرطيّة الطهارة في الصلاة فإنّها إذا تعذّرت - سواء المائيّة أم الترابيّة - فلا تكليف عليه بالصلاة حينئذ.

وأمّا إذا كان دليل الجزئيّة دالاّ على الجزئيّة حال التمكّن فقط ، فهذا معناه الأمر بالجامع بين الصلاة الناقصة حال التعذّر وبين الصلاة التامّة حال التمكّن ، فإذا عجز عن جزء كان مكلّفا بسائر الأجزاء فيجب عليه الإتيان بها.

وهذا من قبيل جزئيّة القيام أو السورة في الصلاة فإنّ الدليل دلّ على جزئيّتها حال التمكّن ، وأمّا حال التعذّر فيصلّي من جلوس أو يصلّي من دون السورة.

وهذا واضح لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا شكّ في أنّ جزئيّة هذا الجزء هل هي شاملة لحالتي التعذّر والتمكّن ، أو أنّها مختصّة في حال التمكّن فقط؟ فهنا هل يسقط وجوب الباقي أو لا؟

والجواب : أنّه تارة يكون التعذّر والعجز مستوعبا لتمام الوقت وأخرى لا يكون

ص: 100

كذلك ، بل يعلم بارتفاعه في أثنائه ، فلا بدّ من الحديث عن كلّ حالة لنرى ما هو حكمها؟ ولذلك نقول :

ففي الحالة الأولى يحصل للمكلّف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة ، أو بوجوب الصلاة التامّة عند ارتفاع العجز ؛ لأنّ جزئيّة المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالجامع ، وإلا كان متعلّقا بالصلاة التامّة عند ارتفاع التعذّر.

وتجري البراءة حينئذ عن وجوب الزائد وفقا لحالات الدوران بين الأقلّ والأكثر.

ويلاحظ : أنّ التردّد هنا بين الأقلّ والأكثر يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، خلافا لحال الناسي ؛ لأنّ العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله حين العجز.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان التعذّر في جزء من الوقت ، وذلك بأن كان يعلم بأنّه سوف يرتفع عذره في أثناء الوقت ، كما إذا كان عاجزا فعلا عن القيام أو عن قراءة السورة أو عن الطهارة ، ولكنّه يعلم بأنّه سوف يصبح قادرا على القيام أو سوف يتمكّن من التعلّم أو سوف يحصل على الماء أو التراب فيما بعد ، والمفروض أنّه لا يعلم بأنّ هذا الجزء جزئيّته مطلقة أم مقيّدة بحال التمكّن فقط.

فهنا سوف يحصل للمكلّف علم إجمالي من أوّل الأمر دائر بين طرفين ، أحدهما وجوب الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة أيضا بعد ارتفاع العجز ، والآخر وجوب الصلاة التامّة فقط بعد ارتفاع العجز والتعذّر.

والوجه في ذلك : أنّ جزئيّة الجزء المتعذّر عنه إن كانت ساقطة حال التعذّر - بأن كان دليل الجزئيّة مختصّا بحال التمكّن فقط - فهنا تكليفه إمّا الصلاة الناقصة حال العجز أو الصلاة التامّة بعد ارتفاعه أي يكون مخيّرا بين إحدى الصلاتين ، وهذا معناه أنّه مخاطب بالجامع بين الصلاتين لا بإحداهما بالخصوص.

وإن كانت جزئيّة الجزء المتعذّر عنه ثابتة حتّى في حال التعذّر - بأن كان دليل الجزئيّة شاملا لحالتي العجز والتمكّن - فهنا تكليفه وجوب الصلاة التامّة فقط تعيينا بعد ارتفاع عذره ؛ لأنّ الصلاة الناقصة ليست مطلوبة في هذه الحالة.

وعليه فيكون المورد من موارد الأقلّ والأكثر ، أي التعيين والتخيير ؛ لأنّ وجوب

ص: 101

الجامع يعني كونه مخيّرا بين إحدى الصلاتين كلّ في موردها ، ووجوب الصلاة التامّة فقط يعني كون الواجب عليه تعيينا هو هذه الصلاة ولا تجزي عنها الصلاة الناقصة حتّى في حال العجز.

والحكم في مثل ذلك هو جريان البراءة عن الوجوب التعييني ؛ لأنّه ذو مئونة زائدة ، ولا تجري البراءة عن الوجوب التخييري ؛ إذ لا معنى لجريانها عنه كما تقدّم سابقا ، وبالتالي يكون هذا العلم الإجمالي منحلاّ حكما.

وبهذا يظهر أنّ العاجز عن الجزء الذي يعلم بارتفاعه فيما بعد كالناسي الذي يرتفع نسيانه في الوقت أيضا ، من جهة أنّ حكمهما هو البراءة عن التكليف الزائد والاكتفاء بالصلاة الناقصة.

إلا أنّهما يختلفان في مسألة ، وهي أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة للناسي الذي ارتفع عذره في الأثناء إنّما يحصل بعد الفراغ من الصلاة الناقصة كما تقدّم ؛ لأنّ الناسي لا يلتفت إلى كونه ناسيا إلا بعد الفراغ من الصلاة.

وأمّا الدوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة للعاجز فهو موجود قبل الإتيان بالصلاة الناقصة ؛ لأنّ العاجز يلتفت إلى كونه عاجزا عن الجزء من أوّل الأمر وقبل الشروع في الصلاة.

وهذا الفرق يجعل الناسي أحسن حالا من العاجز ؛ لأنّ الدوران كان بعد امتثال أحد الطرفين فلا شبهة في جريان البراءة عن الطرف الآخر ؛ لأنّه يكون شكّا في الزائد بدوا ، وأمّا هنا فالدوران قبل الامتثال فيمكن أن يقال بوجود علم إجمالي منجّز ، إلا أنّه منحلّ حكما لانهدام ركنه الثالث ، حيث إنّ البراءة لا يعقل جريانها عن الوجوب التخييري.

وفي الحالة الثانية يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بوجوب الناقص في الوقت أو بوجوب القضاء إذا كان للواجب قضاء ؛ لأنّ جزئيّة المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالناقص في الوقت ، وإلا كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالي منجّز.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان العجز والتعذّر مستوعبا لتمام الوقت ، بأن كان يعلم بأنّه لن يرتفع عجزه عن القيام في هذا اليوم ، بل سوف يستمرّ أيّاما ، فهنا سوف

ص: 102

يحصل للمكلّف العاجز عن القيام علم إجمالي دائر بين طرفين ، أحدهما وجوب الصلاة الناقصة في الوقت ، والآخر وجوب الصلاة التامّة خارج الوقت أي بعد ارتفاع عذره.

والوجه في ذلك : أنّ دليل الجزئيّة إن كان مطلقا حتّى لحالة العجز فلا تكليف عليه بالصلاة أصلا في الوقت ؛ لأنّه غير قادر على الإتيان بالصلاة التامّة فيه ، والمفروض أنّ الصلاة الناقصة لا تكفي ، وإن كان مختصّا بحالة التمكّن فقط فهو مكلّف بالصلاة الناقصة حال العجز في الوقت.

وهذا العلم الإجمالي دائر بين المتباينين فيكون منجّزا لهما ، وبالتالي يجب الاحتياط بالإتيان بالصلاة الناقصة في الوقت والصلاة التامّة خارج الوقت ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة حينئذ.

وليعلم أنّ الجزئيّة في حال النسيان أو في حال التعذّر إنّما تجري البراءة عند الشكّ فيها إذا لم يكن بالإمكان توضيح الحال عن طريق الأدلّة المحرزة ، وذلك بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : أن يقوم دليل خاصّ على إطلاق الجزئيّة أو اختصاصها ، من قبيل حديث « لا تعاد الصلاة إلا من [ خمسة ] » (1).

وهنا تنبيه ، وحاصله أن يقال : إنّ ما تقدّم من كلام كان بلحاظ الأصول العمليّة حين الانتهاء إليها.

وأمّا مقتضى الأصل اللفظي في المقام فهو يتحدّد وفقا لما يدلّ عليه هذا الدليل ، ومعه لا مجال للأصول العمليّة أصلا ، وهذا واضح ؛ لأنّ الأصول العمليّة تحدّد الوظيفة عند الشكّ في الحكم وعدم وجود دليل عليه ، فمع وجود الدليل المحرز على الحكم الشرعي يؤخذ به ويرتفع موضوع الأصل حقيقة.

فالكلام إذن عن الأصل اللفظي ، وهذا يمكن بيانه بأحد الوجوه التالية :

الوجه الأوّل : أن يقوم دليل من الخارج يدلّ على أنّ هذه الجزئيّة للجزء مطلقة أو أنّ جزئيّة الجزء مختصّة بحال التمكّن والتذكّر فقط ، من قبيل الحديث المشهور « لا تعاد الصلاة إلا من خمس ... » فإنّه يدلّ على أنّ هذه الأجزاء الخمسة تجب إعادة

ص: 103


1- وسائل الشيعة 4 : 312 ، أبواب القبلة ، ب 9 ، ح 1.

الصلاة فيها أي بسببها ، فإذا لم تكن موجودة كلاّ أو بعضا فالصلاة تجب أن تعاد ، وهذا معنى كون جزئيتها مطلقة وشاملة لحالتي النسيان والتعذّر أيضا.

وأمّا غير هذه الخمس فالصلاة لا تعاد فيها أي أنّه إذا نسيها أو تعذّرت فلا تجب إعادة الصلاة بسببها ، وهذا يعني أنّ جزئيّتها مختصّة بحال التمكّن والتذكّر فقط ، فلا تجب الإعادة ويكتفى بما أتى به من صلاة ناقصة.

ثانيا : أن يكون لدليل الجزئيّة إطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذّر فيؤخذ بإطلاقه ، ولا مجال حينئذ للبراءة.

الوجه الثاني : أن يكون لنفس الدليل الدالّ على جزئيّة الجزء إطلاق يشمل حالتي النسيان والعجز ، فهنا يؤخذ بإطلاق هذا الدليل لإثبات كون المركّب الفاقد للجزء غير مأمور به ، وأنّه لا بدّ من الإعادة مع الجزء عند ارتفاع النسيان أو العجز ، من قبيل : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » الدالّ على أنّ جزئيّة الفاتحة مطلقة لجميع الحالات وليست مختصّة بحال دون آخر.

ثالثا : ألاّ يكون لدليل الجزئيّة إطلاق بأن كان مجملا من هذه الناحية ، وكان لدليل الواجب إطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء رأسا.

ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئيّة مقيّدا لإطلاق دليل الواجب بمقداره ، وحيث إنّ دليل الجزئيّة لا يشمل حال التعذّر أو النسيان فيبقى إطلاق دليل الواجب محكّما في هاتين الحالتين ودالاّ على عدم الجزئيّة فيهما.

الوجه الثالث : ألاّ يكون هناك دليل من الخارج يدلّ على الإطلاق لهذا الجزء ، ولا يكون نفس دليل الجزئيّة مطلقا أيضا بأن كان مجملا ، فهنا سوف نواجه دليلين هما : دليل جزئيّة الجزء المجمل ، ودليل الأمر بالمركّب الواجب.

أمّا دليل الأمر بالمركّب الواجب فهو من قبيل قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) الدالّ بإطلاقه على وجوب إقامة الصلاة بأركانها المقوّمة لها في جميع الحالات ، وهذه الأركان المقوّمة للصلاة هي : ( تكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والسجود والتسليم ) ، فهذه تجب إقامتها مطلقا في جميع الحالات ، سواء كان الجزء موجودا أم لا وسواء نسيه أو عجز عنه أم لا.

وأمّا دليل الأمر بالجزء فهو مقيّد لإطلاق الأمر بالصلاة الشامل للصلاة مع هذا الجزء وللصلاة من دونه ، ويخصّصه بالصلاة المقيّدة بهذا الجزء.

ص: 104

ولكن حيث إنّ دليل الجزئيّة مجمل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو جزئيّة الجزء في حال التمكّن منه وفي حال تذكّره فقط لا مطلقا ، إذ لا إطلاق فيه.

وعليه فيكون إطلاق الأمر بالصلاة مقيّدا بحال التمكّن من هذا الجزء وفي حال تذكّره فقط ، وأمّا في غير هاتين الحالتين أي في حالة التعذّر والنسيان فلا يكون إطلاق الأمر بالصلاة مقيّدا بالجزء ؛ لأنّ المقدار الثابت تقيّده بذلك الجزء هو حالتا التذكّر والنسيان ؛ لأنّهما القدر المتيقّن لدليل الجزئيّة المجمل.

وفي غير هاتين الحالتين يشكّ في أصل وجود المقيّد للإطلاق ، وفي مثل ذلك يتمسّك بالإطلاق ؛ لأنّه حجّة ولا يرفع اليد عمّا يكون حجّة إلا بحجّة أخرى ، والمفروض أنّ الحجّة الأخرى وهي التقييد لم تثبت فالإطلاق إذن مستحكم في المقام ، فيثبت بمدلوله المطابقي وجوب إقامة ماهيّة الصلاة ، أي الصلاة بأركانها المقوّمة لها ، وهذا يدلّ بالالتزام على أنّ الجزء ليس جزءا في حالتي النسيان والعجز ؛ لأنّه منفي بالإطلاق.

وهذا يعني أنّه شامل للموردين ، ولازمه سقوط جزئيّة الجزء في حالتي التعذّر والنسيان ، ووجوب الإتيان بالمركّب الفاقد لهذا الجزء في الحالتين المذكورتين. وهذا المعنى نتيجته الاختصاص لا الإطلاق.

* * *

ص: 105

ص: 106

الاستصحاب

اشارة

1 - أدلّة الاستصحاب

2 - الاستصحاب أصل أو أمارة؟

3 - أركان الاستصحاب

4 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب

5 - عموم جريان الاستصحاب

6 - تطبيقات

ص: 107

ص: 108

أدلّة الاستصحاب

اشارة

الاستصحاب قاعدة من القواعد الأصوليّة المعروفة ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة الكلام عن تعريفه والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع (1).

والمهمّ الآن استعراض أدلّة هذه القاعدة ، ولمّا كان أهمّ أدلّتها الروايات فسنعرض فيما يلي عددا من الروايات التي استدلّ بها على الاستصحاب كقاعدة عامّة :

الاستصحاب من أهمّ القواعد الأصوليّة المتأصّلة والمعروفة عند الأصحاب ، وإن اختلفت كلمات القدماء عن المتأخّرين في التعبير عنه.

والاستصحاب هو الحكم بإبقاء ما كان أو مرجعيّة الحالة السابقة ، أي أنّ ما وجد سابقا يحكم ببقائه لاحقا عند الشكّ به.

وأمّا الفرق بين الاستصحاب وغيره من القواعد كقاعدتي اليقين والمقتضي والمانع فقد تقدّم الكلام عنه في الحلقة السابقة وخلاصته أن يقال :

أوّلا : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وهو من جهتين :

الأولى : من حيث المتعلّق ، فإنّ اليقين والشكّ في الاستصحاب يختلف متعلّقهما بلحاظ الزمان ، فاليقين متعلّق بالزمان السابق والشكّ متعلّق بالزمان اللاحق ، بخلاف اليقين والشكّ في قاعدة اليقين ، فإنّ متعلّقهما واحد أي أنّ نفس ما تعلّق به اليقين موضوعا وزمانا هو أيضا ما تعلّق به الشكّ ، بمعنى أنّ الشكّ سرى إلى اليقين فصار اليقين مشكوكا.

ص: 109


1- بحث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنواني : تعريف الاستصحاب ، والتمييز بين الاستصحاب وغيره.

الثانية : من حيث الملاك ، فإنّ الملاك في الاستصحاب هو أنّ الغالب فيما وجد أن يبقى ، بينما الملاك في قاعدة اليقين هو أنّ الغالب في اليقين أن يكون صحيحا ومطابقا للواقع.

ثانيا : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع ، وهو من جهتين أيضا :

الأولى : من حيث المتعلّق ، فإنّ المتعلّق في الاستصحاب متّحد ذاتا بين اليقين والشكّ بالنسبة للقضيّة ، بينما المتعلّق في قاعدة المقتضي والمانع متعدّد ذاتا ، فإنّ اليقين متعلّق بالمقتضي والشكّ متعلّق بالمانع.

الثانية : من حيث الملاك ، فملاك الاستصحاب غلبة ما يوجد يبقى ، بينما ملاك القاعدة غلبة عدم وجود المانع أو غلبة وجود المقتضى عند وجود المقتضي.

والآن نريد أن نتحدّث عن أدلّة الاستصحاب ، وهي ثلاثة :

1 - حجّيّة الاستصحاب من باب إفادته للظنّ.

2 - حجّيّة الاستصحاب من باب السيرة العقلائيّة.

3 - حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار والروايات.

أمّا حجّيّة الاستصحاب من باب إفادته للظنّ فهي تتوقّف على أمرين :

أوّلا : أنّ الحالة السابقة تفيد الظنّ ببقائها.

ثانيا : أنّ مثل هذا الظنّ حجّة شرعا.

إلا أنّ كلا الأمرين غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الحالة السابقة بمجرّد حدوثها لا تفيد الظنّ ببقائها ، بل يختلف ذلك بحسب تلك الحالة ونوعيّتها ، وهل هي ممّن له قابليّة البقاء أو لا؟

وأمّا الظنّ المستفاد من الحالة السابقة الحادثة فهو إمّا أن يكون ظنّا نوعيّا ، وإمّا أن يكون ظنّا شخصيّا ، والأوّل يحتاج إلى حجّيّة مطلق الظنّ ، والذي لم يتمّ كما تقدّم في محلّه ، والثاني يحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير ثابت.

وأمّا حجّيّة الاستصحاب من باب السيرة العقلائيّة فهي تتوقّف على أمرين أيضا :

الأوّل : إثبات أنّ العقلاء يبنون على بقاء الحالة السابقة من باب الاستصحاب لا من ملاك آخر.

الثاني : إثبات عدم الردع الكاشف عن الإمضاء.

ص: 110

أمّا الأوّل فقد يسلّم به رغم وجود احتمالات كثيرة في تفسير هذا البناء غير احتمال بقاء الحالة السابقة ، إلا أنّها لا تضرّ ما دام هذا البناء منعقدا بالفعل عندهم على أساس الظنّ الناشئ من ذلك ، لا على أساس الاطمئنان أو الاحتياط كما ادّعى البعض.

وأمّا الثاني فقد يناقش في إمضاء الشارع لهذه السيرة ، بمعنى أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تردع عن العمل بالسيرة العقلائيّة المنعقدة على الاستصحاب ، ومعها لا تكون مثل هذه السيرة حجّة.

وأمّا حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار والروايات فهي العمدة في المقام ، ولذلك سوف نستعرض أهمّ الروايات التي استدلّ بها الأصحاب على هذه القاعدة فنقول :

الرواية الأولى :

رواية زرارة : قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء » ، قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (1).

وتقريب الاستدلال : أنّه حكم ببقاء الوضوء مع الشكّ في انتقاضه تمسّكا بالاستصحاب.

الاستدلال بهذه الرواية على الاستصحاب واضح ؛ لأنّ الإمام علیه السلام قد حكم فيها ببقاء الوضوء الذي كان على يقين منه على حاله عند الشكّ في ارتفاعه وانتقاضه ، مستندا في ذلك على الاستصحاب حيث عبّر عن ذلك بقوله : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » ، الدالّ على أنّ الوضوء يحكم ببقائه وعدم انتقاضه بسبب كونه متيقّنا به في السابق ، ومجرّد الشكّ به لا يوجب ارتفاعه وانتقاضه.

إلا أنّه توجد بعض الإشكالات ، من قبيل احتمال كون المقصود منها قاعدة

ص: 111


1- وسائل الشيعة 1 : 245 ، أبواب نواقض الوضوء ، ب 1 ، ح 1.

المقتضي والمانع ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الوضوء إنّما يكون لأجل الشكّ في وجود المانع والرافع له كالنوم مثلا.

والصحيح : أنّ الوضوء من الأفعال التي لها استمراريّة ودوام ؛ لأنّ المقصود به الطهارة لا خصوص الغسل والمسح ، وعليه فيكون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، أي أنّه تيقّن بالوضوء وشكّ في الوضوء أيضا.

وقد يستشكل أيضا بأنّه لما ذا لم يستصحب عدم النوم فإنّه أصل موضوعي مقدّم على استصحاب نفس الوضوء والذي هو مسبّب عن عدم النوم؟

والصحيح : أنّ الأصل السببي ليس حاكما ومقدما على الأصل المسبّبي دائما ، وإنّما إذا كانا متخالفين فقط دون المتوافقين ، وسيأتي تفصيل ذلك في باب التعارض.

وبهذا يظهر أنّ دلالة الرواية على الاستصحاب واضحة.

يبقى أنّ هذه الرواية هل تدلّ على الاستصحاب في باب الوضوء خاصّة أو أنّها تعمّ جميع الأبواب أيضا؟

وظهور التعليل في كونه بأمر عرفيّ مركوز يقتضي كون الملحوظ فيه كبرى الاستصحاب المركوزة لا قاعدة مختصّة بباب الوضوء ، فيتعيّن حمل ( اللام ) - في اليقين والشكّ - على الجنس لا العهد إلى اليقين والشكّ في باب الوضوء خاصّة.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) تفصيل الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها وإثبات كلّيّتها فلاحظ.

قد يستشكل على عموم هذه القاعدة بأنّها مختصّة بباب الوضوء استنادا إلى أنّ ( اللام ) للعهد لا للجنس ، حيث إنّ الإمام علیه السلام ذكر « وإلا فإنّه على يقين من وضوئه » فاليقين هنا متعلّق بالوضوء ، ثمّ ذكر « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » فأشار إلى اليقين المذكور سابقا والمعهود بذكره اللفظي وأنّه يحرم نقضه بالشكّ ، فتكون الرواية دالّة على الاستصحاب في باب الوضوء فقط أو في باب الطهور لو حملنا الوضوء على الطهور ، وليس فيها دلالة على عموم القاعدة لكلّ الأبواب الفقهيّة.

والجواب عن ذلك : أنّ تعليله بالقول « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » إشارة إلى شيء مرتكز عند العقلاء ويبنون عليه في حياتهم العمليّة من عدم نقض ما هو متيقّن

ص: 112


1- تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

بالشكّ ؛ لأنّ هذا التعليل لبقاء الحكم بالوضوء لدى السائل يفترض كون هذا الأمر مقبولا عنده بما هو إنسان عرفي ، وهذا يعني ارتكازيّة الاستصحاب في حياة العقلاء.

وهذه الارتكازيّة توجب إلغاء خصوصيّة المورد وعدم اختصاص القاعدة بباب الوضوء ، ولذلك تكون ( اللام ) فيها للجنس لا للعهد ، وهذا أيضا يفترض أوّلا ثبوت السيرة العقلائيّة على العمل بالاستصحاب كما ليس ببعيد ، وبذلك تكون القاعدة عامّة لكلّ الأبواب.

وهناك تفصيلات أخرى في الرواية من جهة فقه الرواية أو من جهة كيفيّة الاستدلال بها على القاعدة ، أو من جهة كلّيّة القاعدة ودلالة الرواية على الاستصحاب دون غيره ونحو ذلك ، وقد تقدّم الكلام عنها في الحلقة السابقة فلتراجع.

الرواية الثانية :
اشارة

وهي رواية أخرى لزرارة كما يلي :

1 - قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له من الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا ، وصليت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : « تعيد الصلاة وتغسله ».

2 - قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : « تغسله وتعيد الصلاة ».

3 - قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : « تغسله ولا تعيد الصلاة ».

قلت : ولم ذلك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ».

4 - قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟

قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك ».

5 - قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟

قال : « لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك ».

ص: 113

6 - قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

قال : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » (1).

وتشتمل هذه الرواية على ستّة أسئلة من الراوي مع أجوبتها ، وموقع الاستدلال ما جاء في الجواب على السؤال الثالث والسادس ، غير أنّا سنستعرض فقه الأسئلة الستّة وأجوبتها جميعا ؛ لما لذلك من دخل في تعميق فهم موضعي الاستدلال من الرواية.

وهذه الرواية تدلّ على الاستصحاب على أساس الفقرتين الثالثة والسادسة ، حيث صرّح الإمام علیه السلام فيهما باليقين والشكّ اللذين هما ركنا الاستصحاب.

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أنّ راويها زرارة لا يسأل عادة إلا من المعصوم ، ولذلك لا مجال للتشكيك في سندها المؤيّد بمضمونها الناطق صريحا بأنّها صادرة من المعصوم.

وهي تشتمل على فقرات ستّة وأجوبتها ، وإنّما ذكرت بطولها هنا لما في الحديث عن فقراتها من فائدة ومدخليّة في فهم وتعميق الاستدلال بفقرتي الرواية الدالّتين على الاستصحاب ، ولذلك سوف نستعرض فقه الاسئلة الستّة وأجوبتها.

ففي السؤال الأوّل : يستفهم زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه ثمّ نسي ذلك وصلّى فيه ، وتذكّر الأمر بعد الصلاة ، وقد أفتى الإمام بوجوب إعادة الصلاة لوقوعها مع النجاسة المنسيّة ، وغسل الثوب.

أمّا السؤال الأوّل : فكان عمّن علم بالنجاسة تفصيلا وعلم بمكانها تفصيلا أيضا ولكنّه لم يطهّر الموضع من أجل عدم وجود الماء لديه ، فكان تأخيره لذلك عن عذر مقبول شرعا ، ثمّ إنّه بعد أن وجد الماء نسي أن يطهّر موضع النجاسة وصلّى بالثوب النجس ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة تذكّر أنّه صلّى بالثوب النجس.

وهنا حكم الإمام علیه السلام ببطلان الصلاة ووجوب إعادتها بعد غسل الثوب وتطهيره من النجاسة.

ص: 114


1- تهذيب الأحكام 1 : 432 / 1335. الاستبصار 1 :292- 293 / 641.

وهذا ممّا لا كلام لنا فيه وهو متناسب مع القواعد والأصول أيضا ؛ لأنّ شرطيّة الطهارة للثوب أو البدن تشمل الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، وكلاهما مفقود هنا ؛ لأنّ الثوب نجس واقعا ، ولم يدخل في الصلاة بالثوب الطاهر ظاهرا أيضا ، بل بثوب نجس ، غاية الأمر كونه عن نسيان فلا إثم عليه لذلك ، لكنّه لم يحقّق الشرطيّة المطلوبة.

وفي السؤال الثاني : سأل عمّن علم بوقوع النجاسة على الثوب ففحص ولم يشخّص موضعه ، فدخل في الصلاة باحتمال أنّ عدم التشخيص مسوّغ للدخول فيها مع النجاسة ما دام لم يصبها بالفحص.

وقوله : « فطلبته ولم أقدر عليه » إنّما يدلّ على ذلك ، ولا يدلّ على أنّه بعدم التشخيص زال اعتقاده بالنجاسة ، فإنّ عدم القدرة غير حصول التشكيك في الاعتقاد السابق ، ولا يستلزمه ، وقد أفتى الإمام بلزوم الغسل والإعادة لوقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة إجمالا.

وأمّا السؤال الثاني : فكان عمّن علم بأنّ النجاسة قد أصابت الثوب ولكنّه لم ير الموضع الذي وقعت عليه النجاسة ، فهنا يوجد لديه علم إجمالي بنجاسة الثوب وشكّ في المكان الذي تنجّس من الثوب ، ثمّ إنّه قد فحص عن الموضع فلم يقدر على العثور عليه لكي يطهّره بخصوصه ، فاعتقد نتيجة ذلك أنّه يجوز له الصلاة بهذا الثوب ما دام قد فحص عن مكان النجاسة ولم يعثر عليها ، مع أنّه يجب عليه في هذه الحالة الاجتناب عن الصلاة بهذا الثوب لعلمه بوقوع النجاسة عليه ، فإنّ الجهل بالموضع تفصيلا لا يضرّ ولا يزيل العلم بوقوع النجاسة على الثوب.

وهنا حكم الامام علیه السلام بوجوب الإعادة وغسل الثوب كالسؤال السابق ولنفس النكتة أيضا.

ولا يتوهّم هنا أنّ قوله : « فطلبته فلم أقدر عليه » يدلّ على زوال اليقين السابق بالنجاسة ، حيث إنّه بعد أن فحص لم يعثر على النجاسة فزال اعتقاده بها فصلّى لأجل ذلك ، وبالتالي تكون الفقرة دالّة على قاعدة اليقين.

بل الصحيح أنّ قوله هذا إنّما يدلّ على أنّه قد سوّغ لنفسه الصلاة بهذا الثوب لأجل أنّه فحص ولم يعثر على الموضع ، فبرّر صلاته بالثوب النجس بأنّه قد فحص عن الموضع ليطهّره فلم يعثر عليه.

ص: 115

وليس في هذا القول دلالة على زوال اعتقاده السابق بوقوع النجاسة ، وإلا لكان المناسب لذلك أن يعبّر عنه بقوله : « فلم أره » فإنّه يحتمل الوجهين.

وأمّا عدم الإصابة للموضع تفصيلا فليس فيه دلالة على قاعدة اليقين لا بالمطابقة ولا بالاستلزام ، بل غاية ما يستفاد منه أنّه حاول بالفحص العثور على الموضع لكنّه لم يقدر على ذلك ، وهذا معناه العلم الإجمالي بأصل النجاسة والشكّ في موضعها.

وفي السؤال الثالث : افترض زرارة أنّه ظنّ الإصابة ففحص فلم يجد فصلى فوجد النجاسة ، فأفتى الإمام بعدم الإعادة ، وعلّل ذلك بأنّه كان على يقين من الطهارة فشكّ ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ.

وهذا المقطع هو الموضع الأوّل للاستدلال ، وفي بادئ الأمر يمكن طرح أربع فرضيّات في تصوير الحالة التي طرحت في هذا المقطع.

وأمّا السؤال الثالث : فكان عمّن ظنّ أنّ ثوبه قد أصابته النجاسة ففحص عن ذلك فلم يجد شيئا ، ولذلك دخل في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ منها وجد النجاسة على ثوبه.

وهنا حكم الإمام بصحّة الصلاة ووجوب غسل الثوب للأعمال اللاحقة ، وعلّل ذلك بقاعدة الاستصحاب ؛ وذلك لأنّه كان على يقين بالطهارة أوّلا ثمّ شكّ في زوالها بسبب الظنّ في إصابة الثوب للنجاسة فلم يفحص ولم يجد النجاسة فصار شاكّا في أنّ ثوبه هل لا يزال طاهرا أم لا؟

فهنا لا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ ، وهذا الحكم بعدم لزوم إعادة الصلاة كان تطبيقا لقاعدة الاستصحاب بشكل واضح وجلي.

وأمّا الحكم بلزوم غسل الثوب فمن أجل أنّه صار متيقّنا من نجاسته بعد أن فرغ من الصلاة ووجد النجاسة عليه ، وهذه الفقرة هي الموضع الأوّل للاستدلال على الاستصحاب ، ولذلك لا بدّ من تنقيح الكلام فيها واستعراض ما يحتمل أن يقال فيها ، ومن هنا توجد احتمالات أربعة يمكن افتراضها بادئ الأمر منشؤها أمران :

الأوّل : قوله : « فنظرت ولم أر شيئا » حيث إنّه يحتمل فيه القطع بعدم الإصابة ويحتمل فيه مجرّد عدم العلم بالإصابة.

الثاني : قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » حيث إنّه يحتمل فيه رؤية النجاسة التي ظنّها

ص: 116

قد وقعت أوّلا قبل الدخول بالصلاة ، ويحتمل فيه أيضا رؤية نجاسة أخرى غيرها.

وعليه فتكون الاحتمالات المتصوّرة أربعة :

1 - القطع بعدم الإصابة ثمّ رؤية النجاسة المظنون إصابتها.

2 - القطع بعدم الإصابة ثمّ رؤية نجاسة أخرى.

3 - عدم العلم بالإصابة ثمّ رؤية النجاسة المظنون إصابتها.

4 - عدم العلم بالإصابة ثمّ رؤية نجاسة أخرى.

الفرضيّة الأولى : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص وعدم الوجدان ، وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة بأنّ النجاسة هي نفس ما فحص عنه ولم يجده أوّلا.

وهذه الفرضيّة غير منطبقة على المقطع جزما ؛ لأنّها لا تشتمل على شكّ لا قبل الصلاة ولا بعدها ، مع أنّ الإمام قد افترض الشكّ وطبّق قاعدة من قواعد الشكّ.

الفرضيّة الأولى : أن يفرض حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة بعد أن فحص ولم ير شيئا ، فدخل في الصلاة ثمّ بعد الفراغ من الصلاة وجد نجاسة وعلم يقينا بأنّها نفس النجاسة التي ظنّ أنّها قد أصابت الثوب.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين ، يقين قبل الصلاة بعدم النجاسة ، ويقين بالنجاسة بعد الصلاة ، ولا يوجد شكّ أبدا ، ولذلك من المستبعد أن تكون هي المقصودة من سؤال زرارة لعدم انسجامها مع جواب الإمام حيث إنّه قد طبّق قاعدة من قواعد الشكّ - سواء كانت هي الاستصحاب أو قاعدة اليقين - وهذا التطبيق يفترض وجود الشكّ إمّا قبل الصلاة وإمّا بعدها وإما في أثنائها ، مع أنّه لا وجود للشكّ أصلا بناء على هذه الفرضيّة ، وعليه فتكون ساقطة إثباتا وإن كانت محتملة ثبوتا.

الفرضيّة الثانية : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص كما سبق ، والشكّ عند وجدان النجاسة بعد الصلاة في أنّها تلك النجاسة أو نجاسة متأخّرة.

وهذه الفرضيّة تصلح لإجراء الاستصحاب فعلا في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلّف على يقين من عدم النجاسة قبل ظنّ الإصابة فيستصحب ، كما أنّها تصلح

ص: 117

لإجراء قاعدة اليقين فعلا في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلّف كان على يقين من الطهارة بعد الفحص وقد شكّ الآن في صحّة يقينه هذا.

الفرضيّة الثانية : أن يفرض حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة بعد الفحص عنها وعدم وجدانها ، ولذلك دخل في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ منها رأى نجاسة واحتمل أن تكون عين النجاسة التي ظنّ إصابتها للثوب أو تكون نجاسة أخرى غيرها متأخّرة عن الصلاة أو في أثنائها.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين وشكّ ، اليقين الأوّل بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة ، واليقين الثاني بعدم وجود النجاسة بعد الفحص وقبل الصلاة ، والشكّ بعد الفراغ من الصلاة بأنّ النجاسة الموجودة هل هي نجاسة سابقة على الصلاة أو أنّها نجاسة طرأت عليه حين أو بعد الصلاة؟

ولذلك يكون جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ منسجما مع هذه الفرضيّة المشتملة على الشكّ ، إلا أنّ هذه الكبرى كما يحتمل فيها أن تكون كبرى الاستصحاب ، كذلك يحتمل فيها أن تكون ناظرة إلى قاعدة اليقين.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا لاحظنا اليقين السابق على ظنّ الإصابة فهو يقين راسخ بطهارة الثوب ، ثمّ حصل الظنّ بالإصابة واليقين بعدمها ثمّ الصلاة ، ثمّ رؤية النجاسة المحتمل سبقها على الصلاة وتأخّرها عنها ، فالشك هنا معناه أنّ النجاسة إن كانت سابقة على الصلاة فهذا يعني أنّ طهارة الثوب قد انتقضت قبل الدخول في الصلاة ، فيكون قد صلّى بثوب نجس واقعا فصلاته باطلة.

وإن كانت متأخّرة عنها أو في أثنائها فطهارة الثوب قبل الصلاة لم تنتقض برؤية النجاسة بعد الفراغ ، وهذا معناه أنّه قد صلّى بثوب طاهر فصلاته صحيحة.

فيشكّ الآن بعد الفراغ من الصلاة في صحّة صلاته وبطلانها ، بسبب الشكّ في انتقاض طهارة الثوب المتيقّنة ، فيكون حكم الإمام بعدم الإعادة مستندا إلى استصحاب طهارة الثوب المتيقّنة سابقا قبل ظنّ الإصابة ؛ لأنّ اليقين لا ينتقض بالشكّ ، فيكون ظرف جريان الاستصحاب هو حين السؤال.

ويمكن أيضا أن يكون ظرف جريان هذا الاستصحاب هو حين ظنّ الإصابة ؛ لأنّه عند ما ظنّ الإصابة شكّ في انتقاض طهارة الثوب المتيقّنة فيستصحب بقاءها ، وأمّا

ص: 118

حين الصلاة فلا يحتاج إلى الاستصحاب ؛ لأنّه بعد أن فحص ولم يجد شيئا حصل له العلم بعدم الإصابة وبعد الفراغ من الصلاة حصل له اليقين بالنجاسة المحتمل تقدّمها وتأخّرها عن الصلاة.

وأمّا إذا لاحظنا اليقين الحاصل من الفحص بعد ظنّ الإصابة فسوف يختلف الحال ؛ لأنّ الشكّ بأنّ هذه النجاسة سابقة على الصلاة أو متأخّرة عنها ، معناه أنّ النجاسة لو كانت موجودة قبل الصلاة فيقينه بعدم الإصابة الحاصل من الفحص وعدم الوجدان غير صحيح بل مخطئ ، إذ المفروض أنّ النجاسة موجودة قبل الصلاة بعد ظنّ الإصابة ، ولا يمكن اجتماع النجاسة وعدمها في وقت واحد.

وأمّا لو كانت طارئة حين الصلاة أو بعدها فاليقين بعدم الإصابة قبل الصلاة على حاله ، أي أنّه صحيح غير مخطئ ، غاية الأمر يكون قد ارتفع وانتقض بطروّ النجاسة.

وعليه فيحتمل أن يكون تطبيق الإمام لكبرى اليقين والشكّ يراد به قاعدة اليقين والتي يكون الشكّ فيها هادما لليقين ، والشكّ هنا على أحد الفرضين يكون هادما لليقين فيحتمل كون نظر الإمام إليه.

وحيث إنّ كلا الأمرين محتمل في نفسه ثبوتا فالاستدلال بهذا المقطع بناء على هذه الفرضيّة يحتاج إلى استظهار الأمر الأوّل دون الثاني ، واستظهاره يحتاج إلى دليل يدلّ عليه من نفس السؤال ، وهذا غير ممكن ؛ لأنّ السؤال يحتمل الأمرين معا ، فيكون مجملا غير صالح للاستدلال.

الفرضيّة الثالثة عكس الفرضيّة السابقة ، بأن يفرض عدم حصول القطع بالعدم عند الفحص ، وحصول القطع عند وجدان النجاسة بأنّها ما فحص عنه.

وفي مثل ذلك لا يمكن إجراء أي قاعدة للشكّ فعلا في ظرف السؤال لعدم الشكّ ، وإنّما الممكن جريان الاستصحاب في ظرف الفحص والإقدام على الصلاة.

الفرضيّة الثالثة : أن يفرض عدم حصول اليقين بعدم الإصابة عند الفحص عنها وعدم وجدانها ، بل كانت الإصابة لا تزال محتملة ، ثمّ صلّى وبعد الفراغ وجد النجاسة وتيقّن أنّها نفس النجاسة التي كانت مظنونة قبل الدخول في الصلاة.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين وشكّ ، اليقين الأوّل هو اليقين بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة ، واليقين الثاني هو اليقين بالنجاسة بعد الفراغ من الصلاة وأنّها نفس

ص: 119

النجاسة التي ظنّ إصابتها للثوب قبل الدخول في الصلاة ، والشكّ حين ظنّ الإصابة والفحص وعدم الوجدان للنجاسة وحين الصلاة إلى أن فرغ منها.

وعليه فيكون جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ منسجما مع هذه الفرضيّة ، إلا أنّ الكلام في أنّ هذه القاعدة هل هي قاعدة الاستصحاب أو أنّها قاعدة اليقين؟

والجواب : أنّ هذه القاعدة هي الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، والوجه في ذلك هو : أنّ قاعدة اليقين تفترض وجود شكّ سرى إلى اليقين وهدمه ، والشكّ المتصوّر على هذه الفرضيّة هو الشكّ في إصابة النجاسة للثوب حين ظنّ النجاسة ؛ لأنّه بقي شاكّا ومحتملا للإصابة حتّى بعد الفحص وعدم الوجدان ، إلا أنّ هذا الشكّ لا يمكن أن يكون هادما لليقين بطهارة الثوب السابق على ظنّ الإصابة ، إذ حتّى على فرض اليقين بالنجاسة حين ظنّ الإصابة والفحص لا ينهدم اليقين ، بل ينتقض ويرتفع حكمه كما هو واضح.

وأمّا الاستصحاب فهو يجري حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص واحتمال الإصابة وفي أثناء الصلاة ؛ لأنّه في كلّ هذه الفترة كانت النجاسة مشكوكة ، فيستصحب بقاء طهارة الثوب إلى حين الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة.

ومجرّد العلم بأنّ هذه النجاسة كانت موجودة قبل الدخول في الصلاة لا يمنع من جريان الاستصحاب لتوفّر كلا ركنيه حينها.

نعم ظرف جريان الاستصحاب هو حين الفحص والدخول في الصلاة ، لا في ظرف السؤال ؛ إذ لا شكّ عنده حينه.

وتصحيح الإمام للصلاة مبني على أنّ شرطيّة الطهارة للثوب تشمل الطهارة الظاهريّة أيضا لا خصوص الواقعيّة ، وهنا المكلّف حينما دخل في الصلاة كان ثوبه طاهرا بالاستصحاب ، فالشرطيّة متحقّقة.

نعم بعد رؤية النجاسة ينتقض هذا الاستصحاب لانهدام ركنيه ، فيحتاج إلى تطهير الثوب للأعمال اللاحقة التي يراد الإتيان بها بهذا الثوب.

الفرضيّة الرابعة عكس الفرضيّة الأولى ، بافتراض الشكّ حين الفحص وحين الوجدان.

ص: 120

ولا مجال هنا لقاعدة اليقين ؛ إذ لم يحصل شكّ في خطأ يقين سابق ، وهناك مجال لجريان الاستصحاب حال الصلاة وحال السؤال معا.

الفرضيّة الرابعة : أن يفرض حصول الشكّ في الإصابة بعد الفحص عنها وعدم رؤية شيء ، أي أنّه بعد أن ظنّ الإصابة وفحص ولم ير شيئا بقي محتملا للإصابة وشاكّا فيها ، ويفرض أيضا الشكّ في أنّ النجاسة التي وجدها بعد الفراغ من الصلاة هل هي النجاسة التي ظنّ إصابتها أو أنّها نجاسة أخرى طارئة؟

وهذه الفرضيّة تشتمل على شكّين ويقين : الشكّ الأوّل حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص ، والشكّ الثاني بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة ، والشكّ في أنّها سابقة أو متأخّرة ، واليقين هو اليقين بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة.

وهذه الفرضيّة تنسجم مع جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ.

إلا أنّ هذا الجواب لا يمكن تطبيقه على قاعدة اليقين بناء على هذه الفرضيّة ؛ لأنّه لا يوجد يقين سرى إليه الشكّ بحيث يكون هادما له من حين حدوثه.

نعم يطبّق على قاعدة الاستصحاب فقط من ناحيتين :

الأولى : أن يكون جوابه ناظرا إلى الشكّ الحاصل حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص ، بحيث يكون المراد أنّ اليقين بطهارة الثوب الثابت قبل ظنّ الإصابة لا ينبغي نقضه بالشكّ الحاصل بعد الظنّ والفحص.

وعليه فيكون المكلّف قد دخل في الصلاة بثوب طاهر تعبّدا بالاستصحاب ، فالشرطيّة متحقّقة ظاهرا. وهذا يكفي لتسويغ الشروع في الصلاة ، فظرف جريان الاستصحاب هو حال الصلاة.

الثانية : أن يكون جوابه ناظرا إلى الشكّ الحاصل بعد الفراغ من الصلاة وحين رؤية النجاسة ، حيث إنّه شكّ في أنّها سابقة على الصلاة أو متأخّرة عنها ، فيكون المقصود من الكبرى هو أنّ الصلاة صحيحة إلى ما بعد الفراغ منها ، حيث إنّه قد أتى بها وهو على طهارة تعبّديّة استصحابيّة ؛ لأنّ الشكّ في أنّ النجاسة متقدّمة على الصلاة أو متأخّرة عنها يعني الشكّ في إتيانه للصلاة كاملة بالطهارة التعبّديّة الظاهريّة ، وعليه فظرف جريان الاستصحاب هو حال السؤال عن صحّة الصلاة ووجوب إعادتها.

ص: 121

ومن هنا يعرف أنّ الاستدلال بالمقطع المذكور على الاستصحاب موقوف على حمله على إحدى الفرضيّتين الأخيرتين ، أو على الفرضيّة الثانية مع استظهار إرادة الاستصحاب.

وبهذا يظهر أنّ الفقرة الثالثة صالحة للاستدلال على الاستصحاب ؛ لأنّ الفرضيّة الأولى ساقطة عن الاعتبار والفرضيّتين الثالثة والرابعة صالحتان للاستدلال ، وأمّا الثانية فتصلح لو استظهر إرادة الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

وفي السؤال الرابع : سأل عن حالة العلم الإجمالي بالنجاسة في الثوب ، وأجيب بلزوم الاعتناء والاحتياط.

وأمّا السؤال الرابع : فهو سؤال عن العلم الإجمالي ومنجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ وذلك لأنّ زرارة قد افترض العلم بإصابة النجاسة للثوب ولكنّه جهل الموضع الذي أصابته ، فكان سؤاله حول ما إذا كان هذا العلم الإجمالي منجّزا لوجوب الاجتناب عن الثوب حال الصلاة أو عن وجوب تطهيره.

فأجابه الإمام بأنّ هذا العلم الإجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعيّة ، أي أنّه يجب الاحتياط إمّا بالاجتناب عن الثوب ، وإمّا بلزوم تطهير المكان الذي يحتمل إصابة النجاسة له.

وهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ لا دلالة فيه على شيء لا الاستصحاب ولا قاعدة اليقين.

ومورد هذا السؤال هو حال الشروع في الصلاة بمعنى أنّه هل يجوز الشروع في الصلاة بهذا الثوب أم لا؟

وفي السؤال الخامس : سأل عن وجوب الفحص عند الشك ، وأجيب بالعدم.

وأمّا السؤال الخامس : فهو سؤال عن وجوب الفحص عند الشكّ في إصابة النجاسة للثوب.

وأجابه الإمام بأنّ الفحص غير واجب ، نعم الأفضل الفحص لكي يذهب الشكّ من النفس.

ويحتمل أيضا أن يكون السؤال حول وجوب الموافقة القطعيّة والاعتناء عند الشكّ ، وتفريعا له على السؤال السابق.

ص: 122

والجواب هنا أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال.

والوجه في عدم وجوب الفحص والاحتياط هو التمسّك بأصالة الطهارة ، فإنّها تثبت الطهارة الظاهريّة للثوب ، وهي كافية للدخول في الصلاة ؛ لأنّها أحد فردي الشرطيّة.

وليس في هذه الفقرة نظر للاستصحاب ولا لغيره ؛ إذ لا يوجد يقين سرى إليه الشكّ لكي تطبّق قاعدة اليقين ، ولا يوجد سؤال عن حكم الصلاة بهذا الثوب المشكوك لكي تطبّق قاعدة الاستصحاب باعتبار أنّ الثوب مسبوق بالطهارة اليقينيّة قبل الشكّ ، وإنّما السؤال عن تكليف الشخص وأنّه هل يجب عليه الاحتياط والفحص والتفتيش والنظر أم لا؟

وفي السؤال السادس : يقع الموضع الثاني من الاستدلال بالرواية ، حيث إنّه سأل عمّا إذا وجد النجاسة في الصلاة ، فأجيب بأنّه إذا كان قد شكّ في موضع منه ثمّ رآه قطع الصلاة وأعادها ، وإذا لم يشكّ ثمّ رآه رطبا غسله وبنى على صلاته لاحتمال عدم سبق النجس ، ولا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.

وأمّا السؤال السادس : فكان سؤالا عمّا إذا وجد النجاسة أثناء الصلاة.

وأجابه الإمام مفصّلا بين صورتين :

الأولى : أن يكون قبل الدخول في الصلاة قد شكّ في إصابة النجاسة للثوب في إحدى جهاته ، ثمّ في أثناء الصلاة وجد النجاسة في ذاك الموضع الذي شكّ في إصابة النجاسة له.

وهنا حكم الإمام بقطع الصلاة ووجوب إعادتها ؛ وذلك لأنّه بعد رؤيته للموضع النجس يتبيّن له أنّه قد دخل في الصلاة بثوب نجس.

الثانية : ألاّ يكون شاكّا بالإصابة أصلا فدخل في الصلاة ، ثمّ رأى على ثوبه نجاسة رطبة في الأثناء ، وهنا حكم الإمام بوجوب التطهير وإكمال الصلاة والبناء على صحّة ما مضى منها.

والوجه فيه احتمال أن تكون النجاسة المرئيّة رطبة قد وقعت عليه في الأثناء مع احتمال سبقها أيضا ، ولكن ما دام شاكّا في الأمر يجب البناء على اليقين وعدم نقضه بالشكّ.

ص: 123

وهنا محلّ الاستدلال بهذه الفقرة حيث طبّق الإمام علیه السلام كبرى الاستصحاب مصحّحا على أساسها الصلاة ؛ لأنّه كان على يقين من الطهارة قبل الصلاة ويشكّ في ارتفاعها قبل الشروع إلى حين رؤية النجاسة فيستصحب بقاء الطهارة إلى حين الرؤية.

ويحتمل أن يراد بالشقّ الأوّل صورة العلم الإجمالي ، وبالشقّ الثاني المبدوء بقوله : « وإن لم تشكّ » صورة الشكّ البدوي.

ويحتمل أن يراد بالشقّ الأوّل صورة الشكّ البدوي السابق ثمّ وجدان نفس ما كان يشكّ فيه ، وبالشقّ الثاني صورة عدم وجود شكّ سابق ، ومفاجأة النجاسة للمصلّي في الأثناء.

ولكلّ من الاحتمالين معزّزات.

ثمّ إنّه يوجد احتمالان في تفسير الشكّ في الشقّين :

الأوّل : أن يراد من قوله : « إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » صورة العلم الإجمالي بالإصابة ، أي أنّه علم بالإصابة وشكّ في موضعها ، ففحص فلم يجد فدخل في الصلاة فوجدها في ذاك الموضع أثناء الصلاة ، فهنا يجب قطع الصلاة وإعادتها على القاعدة ، لمنجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة قبل الشروع بالصلاة إمّا للتطهير وإمّا للاجتناب عن الثوب في الصلاة.

وحينئذ يكون المراد من قوله : « وإن لم تشكّ » أي لم يكن لديك علم إجمالي سابق على الصلاة ، وإنّما كان هناك شكّ بدوي بالإصابة فدخلت في الصلاة ، ثمّ رأيت النجاسة فهنا يطهّر الموضع ويكمل صلاته على القاعدة أيضا ؛ لأنّه دخل في الصلاة وهو على طهارة ظاهريّة استصحابيّة.

الثاني : أن يراد بقوله : « إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » صورة الشكّ البدوي بالإصابة قبل الشروع بالصلاة ، ثمّ رؤية نفس النجاسة المشكوكة في الأثناء ، أي أنّه علم بأنّ هذه النجاسة كانت موجودة من أوّل الأمر ، فهنا تجب الإعادة من جديد لوقوع الصلاة مع النجاسة.

وحينئذ يكون المراد من قوله : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته » صورة العلم بالطهارة قبل الشروع ثمّ رؤية النجاسة في الأثناء رطبة ، فهنا لا تجب الإعادة بل يطهّر الموضع

ص: 124

ويكمل الصلاة ؛ لاحتمال أن تكون النجاسة طارئة ولا ينبغي نقض اليقين بالطهارة حين الشروع باحتمال كون النجاسة موجودة من أوّل الأمر ؛ لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

ثمّ إنّ لكلّ واحد من هذين الاحتمالين ما يؤيّده ويعزّزه.

أمّا الاحتمال الثاني فيؤيّده أمور :

1 - قوله « إذا شككت ... » الظاهر في الشكّ البدوي لا العلم الإجمالي وإلا لعبّر بالعلم.

2 - أنّه إذا حمل قوله « إذا شككت ... » على الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي كان المراد من هذه الفقرة نفس المراد من الفقرة الثانية ، فيكون تكرارا لا فائدة منه.

3 - أنّ قوله « إذا شككت ... » متفرّع عن السؤال الخامس الذي فرض فيه الشكّ بالإصابة من أوّل الأمر ، فمقتضى تفرّعه عليه كون المراد الشكّ البدوي.

وأمّا الاحتمال الأوّل فيؤيّده أمران :

1 - قوله « إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » حيث أضاف الشكّ إلى الموضع لا إلى الإصابة ، وهذا يعني أنّ الإصابة معلومة وإنّما الشكّ في موضعها ، وهذا يعني العلم الإجمالي.

2 - حكم الإمام بالإعادة معناه العلم بأنّ النجاسة التي رآها كانت موجودة من أوّل الأمر وقبل الشروع ، وهذا لا ينسجم مع الشكّ البدوي بالإصابة ؛ لاحتمال أن تكون النجاسة المرئيّة طارئة في الأثناء أيضا ، وإنّما ينسجم مع كون الشكّ بالإصابة شكّا مقرونا بالعلم الإجمالي من أوّل الأمر.

والصحيح هو الاحتمال الثاني أي صورة الشكّ البدوي بالإصابة.

والنتيجة المفهومة واحدة على التقديرين وهي : أنّ النجاسة المرئيّة في أثناء الصلاة إذا علم بسبقها بطلت الصلاة ، وإلا جرى استصحاب الطهارة وكفى غسلها وإكمال الصلاة.

وعلى أيّ حال فالنتيجة واحدة سواء حملنا الشكّ على الشكّ البدوي أم على الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ المراد النهائي والمشترك بين الاحتمالين هو أنّ النجاسة التي رآها في أثناء الصلاة إن علم بكونها نجاسة موجودة من أوّل الأمر وقبل

ص: 125

الشروع بالصلاة فالصلاة باطلة وتجب إعادتها ، وإن لم يعلم بسبقها كذلك فالصلاة صحيحة بمعنى أنّه يجب البناء على صحّة ما مضى ولزوم تطهير الثوب وإكمال الصلاة والاكتفاء بها ، استنادا إلى استصحاب اليقين بالطهارة للثوب ، وعدم جواز نقض اليقين لمجرّد احتمال سبق النجاسة على الصلاة.

وقد ادّعي في كلمات الشيخ الأنصاري (1) وقوع التعارض بين هذه الفتوى في الرواية والفتوى الواقعة في جواب السؤال الثالث إذا حملت على الفرضيّة الثالثة ، إذ في كلتا الحالتين وقعت الصلاة في النجاسة جهلا إمّا بتمامها كما في مورد السؤال الثالث ، أو بجزء منها كما في مورد السؤال السادس ، فكيف حكم بصحّة الصلاة في الأوّل وبطلانها في الثاني؟!

وهنا إشكال للشيخ الأنصاري حاصله : أنّ الشقّ الأوّل من الفقرة السادسة لو حمل على الشكّ البدوي ، فهو يتناقض مع الفقرة الثالثة إذا حملت على الفرضيّة الثالثة ، والوجه في ذلك : أنّ الإمام حكم هنا بعدم صحّة الصلاة ووجوب إعادتها عند افتراض الشكّ البدوي بإصابة النجاسة للثوب ثمّ رؤيتها في أثناء الصلاة.

بينما هناك حكم الإمام بصحّة الصلاة التي فرغ منها رغم وقوعها كاملة مع النجاسة ، حيث إنّه رأى النجاسة بعد الفراغ من الصلاة ، وهذه النجاسة التي رآها كانت مشكوكة حين الشروع في الصلاة.

ففي صورة الشكّ بالإصابة قبل الشروع بالصلاة ثمّ رؤية النجاسة المشكوكة حكم الإمام بحكمين مختلفين ، أحدهما وجوب الإعادة عند رؤية النجاسة في الأثناء ، والآخر عدم الإعادة عند رؤية النجاسة بعد الفراغ من الصلاة ، فكيف تكون الصلاة الواقعة بتمامها مع النجاسة جهلا أحسن حالا من الصلاة التي وقع بعضها مع النجاسة جهلا؟!

وهذا شاهد ومؤيّد لما تقدّم من احتمال كون المراد من الشكّ هنا هو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي لا الشكّ البدوي.

والجواب : أنّ كون النجاسة قد انكشفت وعلمت في أثناء الصلاة قد يكون له دخل في عدم العفو عنها ، فلا يلزم من العفو عن نجاسة لم تعلم أثناء الصلاة العفو عن نجاسة علمت كذلك.

ص: 126


1- فرائد الأصول 3 : 61.

وجوابه : أنّه يوجد فارق بين الصورتين وهو : أنّه في الفقرة الثالثة بناء على الفرضيّة الثالثة كان شاكّا بالإصابة فصلّى ، وبعد تماميّة الصلاة والفراغ منها رأى النجاسة ، فرؤية النجاسة إذن حصلت بعد الفراغ من العمل.

بينما في الشقّ الأوّل من الفقرة السادسة على تفسير الشك بالشك البدوي كان شاكّا بالإصابة وصلّى ، ثمّ رأى النجاسة في الأثناء ، فرؤية النجاسة إذن حصلت حين العمل لا بعد الفراغ منه.

وعليه يكون حكم الإمام بالصحّة هناك وعدمها هنا مبنيّا على هذه النكتة ، أي نكتة الفراغ من العمل وعدم الفراغ منه ، وهذه نكتة عرفيّة أيضا.

وبتعبير آخر : أنّ أدلّة مانعيّة النجاسة للثوب من صحّة الصلاة تشمل ثلاث حالات :

1 - حالة وجود النجاسة قبل الشروع والعلم بها كذلك.

2 - حالة وجود النجاسة قبل الشروع والعلم فيها في الأثناء.

3 - حالة وجود النجاسة قبل الشروع والعلم بها بعد الفراغ من العمل.

أمّا الحالة الأولى فهي مشمولة لأدلّة المانعيّة والبطلان بلا شكّ.

وأمّا الحالة الثالثة فقد دلّت الأخبار على خروجها واستثنائها من وجوب الإعادة.

وأمّا الحالة الثانية فهي تحتمل كونها ملحقة بالأولى أو بالثالثة ، وهنا ألحقها الشارع بالأولى دون الثالثة ، إذ لا ملازمة بين العفو عن النجاسة التي لم تعلم إلا بعد الفراغ من العمل والعفو عن النجاسة التي علمت أثناءه بعد أن كان الجميع داخلا تحت أدلّة المانعيّة ، غاية الأمر رخّص الشارع في العفو عن بعض الحالات دون البعض الآخر.

هذا حاصل الكلام في فقه الرواية.

وأمّا تفصيل الكلام في موقعي الاستدلال فيقع في مقامين :

المقام الأوّل :

في الموقع الأوّل ، والكلام فيه في جهات :

الأولى : أنّ الظاهر من جواب الإمام تطبيق الاستصحاب لا قاعدة اليقين ؛ وذلك لأنّ تطبيق الإمام لقاعدة على السائل متوقّف على أن يكون كلامه ظاهرا في تواجد أركان تلك القاعدة في حالته المفروضة ، ولا شكّ في ظهور كلام

ص: 127

السائل في تواجد أركان الاستصحاب من اليقين بعدم النجاسة حدوثا والشكّ في بقائها.

وأمّا تواجد أركان قاعدة اليقين فهو متوقّف على أن يكون قوله : « فنظرت فلم أر شيئا ... » مفيدا لحصول اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة بسبب الفحص وعدم الوجدان ، وأن يكون قوله : « فرأيت فيه ... » مفيدا لرؤية نجاسة يشكّ في كونها هي المفحوص عنها سابقا ، مع أنّ العبارة الأولى ليست ظاهرة عرفا في افتراض حصول اليقين حتّى لو سلّمنا ظهور العبارة الثانية في الشكّ.

المقام الأوّل : في الفقرة الثالثة وكيفيّة دلالتها على الاستصحاب ، والكلام فيها يقع في عدّة جهات :

الجهة الأولى : في أنّ المقصود من الكبرى ( وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ) الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، وهذا الأمر يمكن استظهاره من نفس السؤال ، وذلك بأن يقال : إنّ استظهار الاستصحاب أو قاعدة اليقين من جواب الإمام علیه السلام متوقّف على إثبات مطلب ، وهو أن تكون أركان القاعدة أو الاستصحاب متوفّرة في سؤال السائل ومفهومة عنده ليكون جواب الإمام منسجما مع سؤال السائل ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من ظهور كلام السائل في أركان القاعدة أو الاستصحاب.

وبناء على هذا نقول : أمّا أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق ، فيمكن استظهارها من كلام السائل بوضوح ؛ وذلك لأنّه افترض في سؤاله أنّه ظنّ إصابة النجاسة للثوب والذي يدلّ بالمفهوم والملازمة على أنّ الثوب كان متيقّن الطهارة قبل طروّ الظنّ المذكور.

فالركن الأوّل إذن - وهو اليقين بالحدوث - متوفّر ، وأمّا الشكّ في بقاء الطهارة فيدلّ عليه ما افترضه من الفحص وعدم الوجدان للنجاسة ، والذي يفيد أنّه لم يتيقّن النجاسة لا أكثر فهو لا يزال شاكّا ومحتملا لها ، وحيث إنّ كلا الركنين متوفّر فيجري الاستصحاب.

وأمّا أركان قاعدة اليقين من اليقين الذي سرى إليه الشكّ ، فاستظهارهما يتوقّف على أن يكون قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) دالاّ على اليقين بعدم الإصابة وأنّه حين

ص: 128

الشروع في الصلاة كان متيقّنا بعدم نجاسة الثوب نتيجة الفحص وعدم الرؤية ، وعلى أن يكون قوله : ( فرأيت فيه ... ) دالاّ على الشكّ في أنّ هذه النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي نفس النجاسة التي فحص عنها ولم يجدها قبل الشروع أو أنّها نجاسة أخرى طارئة.

فإذا تمّ استظهار هذين المقامين كانت أركان قاعدة اليقين تامّة ومتوفّرة في سؤال السائل ، فيكون جواب الإمام ناظرا إلى القاعدة.

إلا أنّ الصحيح عدم إمكان استفادة ذلك ؛ لأنّ القول الأوّل لا يستفاد منه عرفا اليقين بعدم النجاسة لا بالمطابقة ولا بالالتزام ؛ لأنّ عدم وجدان النجاسة بعد الفحص كما يحتمل فيه حصول اليقين بعدم النجاسة كذلك يحتمل فيه عدم الظنّ بالإصابة ، أي أنّ الظنّ بالإصابة قد زال بعد الفحص وعدم الرؤية ، وحلّ مكانه الشكّ والاحتمال للإصابة لا أكثر ، وحيث إنّ كلا الأمرين محتمل فلا يمكن تعيين أحدهما من القول المذكور.

وأمّا القول الثاني : وهو الشكّ في أنّ هذه النجاسة كانت سابقة أو أنّها طارئة ، فيمكن التسليم به ؛ لأنّ قوله : ( فرأيت فيه ) يحتمل فيه كلا الأمرين.

فالركن الثاني وهو الشكّ متوفّر إلا أنّ الركن الأوّل وهو اليقين الذي سرى إليه هذا الشكّ وهدمه غير متوفّر.

وبهذا يتعيّن النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

الجهة الثانية : أنّ الاستصحاب هل أجري بلحاظ حال الصلاة أو بلحاظ حال السؤال؟

وتوضيح ذلك : أنّ قوله : « فرأيت فيه » إن كان ظاهرا في رؤية نفس ما فحص عنه سابقا فلا معنى لإجراء الاستصحاب فعلا ، كما أنّ قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » إذا كان ظاهرا في حصول اليقين بالفحص فلا معنى لجريانه حال الصلاة.

الجهة الثانية : في أنّ الاستصحاب هل يجري حال الصلاة أو حال السؤال؟

والجواب عن هذا السؤال يرتبط بتفسير ما ورد في كلمات زرارة أوّلا وآخرا.

فقوله أوّلا : ( فنظرت فلم أر شيئا ) إذا كان ظاهرا في حصول اليقين بعدم النجاسة بعد الفحص فهذا يعني أنّه لا شكّ لديه حال الصلاة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب

ص: 129

حينئذ ، بل يتعيّن أن يكون قوله : ( فرأيت فيه ) مفيدا للشكّ في أنّ هذه النجاسة التي رآها إمّا كانت سابقة على الصلاة أو طارئة وبالتالي يكون جريان الاستصحاب حال السؤال.

وإن كان قوله أخيرا : ( فرأيت فيه ) ظاهرا في رؤية النجاسة التي فحص عنها ولم يجدها ، فهذا يعني حصول العلم بسبق النجاسة على الصلاة ، والعلم أيضا بأنّه قد أوقع الصلاة كاملة مع النجاسة ، وهذا يمنع من جريان الاستصحاب حال السؤال لأنّه يعلم بانتقاض الطهارة بعد الصلاة.

وعليه فيتعيّن أن يكون قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) مفيدا للشكّ في الإصابة واحتمالها ، لا الجزم بعدم النجاسة ، ولذلك يكون الاستصحاب جاريا حال الصلاة عند الشروع فيها.

فالحاصل : أنّ تعيين مورد جريان الاستصحاب وأنّه حال الصلاة أو حال السؤال مرتبط باستظهار أحد هذين التفسيرين لكلام زرارة ، ولذلك نقول :

والصحيح : أنّه لا موجب لحمل قوله : « فرأيت فيه » على رؤية ما يعلم بسبقه ، فإنّ هذه عناية إضافيّة تحتاج إلى قرينة عند تعلّق الغرض بإفادتها ، ولا قرينة ، بل حذف المفعول بدلا عن جعله ضميرا راجعا إلى النجاسة المعهود ذكرها سابقا يشهد لعدم افتراض اليقين بالسبق.

وعليه فالاستصحاب جار بلحاظ حال السؤال ، ويؤيد ذلك أنّ قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » وإن لم يكن له ظهور في حصول اليقين ، ولكنّه ليس له ظهور في خلاف ذلك ؛ لأنّ إفادة حصوله بمثل هذا اللسان عرفيّة ، فكيف يمكن تحميل السائل افتراض الشكّ حال الصلاة وإفتاؤه بجريان الاستصحاب حينها؟

والصحيح : هو أنّ الاستصحاب يجري حال السؤال لا حال الصلاة ، والوجه في ذلك هو : أنّ إجراء الاستصحاب حال الصلاة معناه أنّ قوله : ( فرأيت فيه ) ظاهر في رؤية نفس النجاسة التي ظنّ إصابتها والتي فحص عنها ولم يجدها ، إلا أنّ هذا الاستظهار بعيد ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه ؛ وذلك لأنّ إرادة رؤية نفس النجاسة السابقة من هذا التعبير وحده لا تكفي بل لا بدّ من ذكر ما يدلّ على ذلك ، كأن يقول مثلا : « فرأيتها فيه » أو يقول : « فوجدته فيه » كما هو الحال في السؤال

ص: 130

السابق ، فعدول زرارة عن مثل هذا التعبير إلى التعبير المذكور في السؤال يدلّ على أنّه لا يريد إفادة رؤية نفس النجاسة السابقة ، وإنّما رأى نجاسة فقط وهي مشكوكة من حيث السبق أو التأخّر.

بل هناك قرينة على أنّ المراد رؤية نجاسة ما لا نفس النجاسة السابقة ، وهي حذف المفعول من قوله : ( رأيت ) ؛ لأنّه لو كان يريد إفادة رؤية نفس النجاسة السابقة لجعل المفعول ضميرا متعلّقا بالفعل ، فحذفه يشهد على عدم إرادته إفادة ذلك ، ولا أقلّ من الشكّ والاحتمال وهو كاف في المقام.

ويؤيّد ما ذكرناه أنّ قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) وإن كان يحتمل فيه حصول اليقين بعدم النجاسة ويحتمل فيه نفي الظنّ وبقاء الشكّ بالإصابة ، إلا أنّ حمله على حصول اليقين ليس فيه مخالفة عرفيّة ؛ لأنّ مثل هذا اللسان والتعبير ورد كثيرا في إفادة حصول اليقين.

وعليه فلما ذا نحمّل زرارة أنّه يسأل عن الشكّ حال الصلاة رغم أنّ تعبيره المذكور فيه ظهور عرفي بحصول اليقين بعدم الإصابة ، بينما لا نحمّله السؤال عن الشكّ بعد الفراغ من الصلاة رغم أنّ تعبيره هناك ظاهر عرفا في رؤية نجاسة ما لا يعلم سبقها وعدمه؟

فالمتعيّن إذن هو كون الشكّ حال السؤال وجريان الاستصحاب في هذا الظرف ، وأمّا حال الصلاة فليس بعيدا أن يكون قد دخل الصلاة على يقين بعدم الإصابة بسبب الفحص وعدم الوجدان.

وليس في مقابل تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال السؤال إلا استبعاد استغراب زرارة من الحكم بصحّة الصلاة حينئذ ؛ لأنّ فرض ذلك هو فرض عدم العلم بسبق النجاسة ، فأيّ استبعاد في أن يحكم بعدم إعادة صلاة لا يعلم بوقوعها مع النجاسة؟

فالاستبعاد المذكور قرينة على أنّ المفروض حصول اليقين للسائل بعد الصلاة بسبق النجاسة ، ومن هنا استغرب الحكم بصحّتها ، وهذا يعني أنّ إجراء الاستصحاب إنّما يكون بلحاظ حال الصلاة لا حال السؤال.

وأمّا المشهور : فذهب إلى أنّ الاستصحاب يجري حال الصلاة لا حال السؤال ، والوجه عندهم هو : أنّنا إذا أجرينا الاستصحاب حال السؤال ، فهذا يعني أنّنا افترضنا

ص: 131

اليقين بعدم الإصابة عند الفحص وعدم الوجدان ، والشكّ عند رؤية النجاسة بعد الصلاة في أنّها نجاسة سابقة على الصلاة أو طارئة ، إلا أنّ هذا لا يتناسب مع استغراب زرارة لحكم الإمام بعدم الإعادة ؛ وذلك لأنّ الحكم بصحّة الصلاة وعدم إعادتها يكون مطابقا للأصول والقواعد حيث إنّه بعد الفراغ من العمل شكّ في أنّه هل أتى بالصلاة مع النجاسة أو لا؟

وفي مثل هذا المورد تجري قاعدة الفراغ والتجاوز والصحّة ، فيكون الحكم بالصحّة هو المتوقّع والمترقّب ، وحينئذ ما الداعي لأن يستغرب زرارة هذا الحكم بقوله ( ولم ذلك؟ ) بل استغرابه بعيد خصوصا وأنّه ذاك الإنسان المتفقّه العالم؟!

وأمّا إذا أجرينا الاستصحاب حال الصلاة فيكون قد دخل في الصلاة بطهارة استصحابيّة تعبّديّة ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة رأى النجاسة وتيقّن بأنّها نفس النجاسة التي فحص عنها ولم يجدها ، وظلّ شاكّا بإصابتها أو ظانّا بذلك.

وحينئذ يكون حكم الإمام بعدم الإعادة مستغربا ؛ لأنّه مخالف للقواعد التي تجري في المقام ، إذ المفروض أنّه لمّا تيقّن بأنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة كانت موجودة قبل الشروع بها ، فسوف تكون الصلاة باطلة ؛ لأنّها وقعت مع النجاسة واقعا ، فالحكم بالصحّة يكون مستغربا ، ولذلك سأل عن علّة ذلك ، فأجيب بأنّه قد صلّى وهو على يقين من الطهارة ولا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ.

وبهذا يظهر أنّ استغراب زرارة قرينة على أنّ الاستصحاب يجري حال الصلاة لا حال السؤال.

ويؤيّد ذلك : أنّه في السؤال الثاني سأله عن العلم الإجمالي بالإصابة والجهل بالموضع ثمّ الفحص وعدم الوجدان وبعد الصلاة رأى النجاسة وأنّها نفس النجاسة المعلومة إجمالا ، وأجابه الإمام بالإعادة.

وفي مقامنا لمّا سأله عن الظنّ بالإصابة والفحص وعدم الوجدان ثمّ وجدان النجاسة بعد الصلاة وأنّها نفس النجاسة المظنونة أجابه الإمام بعدم الإعادة.

فكأنّ زرارة وجد أنّ حال الظنّ بالإصابة كحال العلم الإجمالي بالإصابة يجب أن يكون حكمهما واحدا ، فلمّا اختلف الحكم استغرب وسأل عن تعليله.

ولكن يمكن الردّ على هذا الاستبعاد : بأنّه لا يمتنع أن يكون ذهن زرارة مشوبا

ص: 132

بأنّ المسوّغ للصلاة مع احتمال النجاسة الظنّ بعدمها الحاصل من الفحص ، وحيث إنّ هذا الظنّ يزول بوجدان النجاسة بعد الصلاة على نحو يحتمل سبقها كان زرارة يترقّب ألاّ يكتفي بالصلاة الواقعة.

فإن تمّ هذا الردّ فهو ، وإلا ثبت تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة ، ويصل الكلام حينئذ إلى الجهة الثالثة.

ويرد عليه : أنّ وجه الاستغراب من حكم الإمام بعدم الإعادة يمكن أن يكون شيئا آخر وهو : أنّ زرارة لمّا ظنّ الإصابة ثمّ فحص ولم يجدها ظنّ بعدمها وصلّى ، ثمّ رأى النجاسة واحتمل سبقها على الصلاة ، فكانت رؤيته للنجاسة مع احتمال سبقها رافعا للظنّ بعدم الإصابة قبل الصلاة والذي على أساسه سوّغ لنفسه الدخول في الصلاة ، فلمّا ارتفع المسوّغ اعتقد أنّ حكم صلاته هو البطلان واللازم إعادتها ، فلمّا حكم الإمام بصحتها وعدم لزوم إعادتها استغرب ذلك ؛ لأنّ المبرّر الذي اعتقده قد ارتفع ، فكيف تكون صحيحة؟ (1).

فإن لم يتمّ هذا الوجه وادّعي جريان الاستصحاب حال الصلاة كما هي مقالة المشهور فهنا سوف نواجه إشكالا نطرحه في الجهة الثالثة.

ص: 133


1- هذا وجه ، فإن تمّ فهو ، وإلا فيمكن ذكر وجوه أخرى في المقام : منها : إنّ هذه الرواية من القوي جدّا كونها عن الإمام الباقر عليه السلام وهذا يعني أنّها في أوائل حياة زرارة ، أي قبل تفقّهه وتعلّمه ، فيكون سؤاله واستغرابه نتيجة عدم علمه بالقواعد والأصول. ويؤيّده سؤاله عن أشياء لا تخفى على إنسان متعلّم ، كسؤاله عن وجوب الفحص عند الشكّ البدوي وكسؤاله عن منجّزيّة العلم الإجمالي. ومنها : يحتمل أن يكون زرارة قد اخترع هذه الأسئلة من أجل إشباع البحث في المسألة زيادة في التفقّه والتعلّم ، ولذلك شقّق المسألة إلى فروع وصور من أجل استدراج الإمام لإعطائه المزيد من القواعد والأصول والنكات الكلّية العامّة. ومنها : يحتمل أنّه بعد أن فحص ولم يجد حصل له الاطمئنان بعدم الإصابة ، فلمّا وجد النجاسة بعد الصلاة واحتمل سبقها استغرب حكم الإمام بعدم الإعادة ، باعتبار أنّ الاطمئنان والذي هو حجّة عنده قد زال وارتفع فلم يبق ما يبرّر الحكم بالصحّة ولذلك سأل عن علّة ذلك. وبهذا يكون جريان الاستصحاب حال السؤال.

الجهة الثالثة : أنّا إذا افترضنا كون النجاسة المكشوفة معلومة السبق ، وأنّ الاستصحاب إنّما يجري بلحاظ حال الصلاة ، فكيف يستند في عدم وجوب الإعادة إلى الاستصحاب؟ مع أنّه حكم ظاهري يزول بانكشاف خلافه ، ومع زواله وانقطاعه لا يمكن أن يرجع إليه في نفي الإعادة.

الجهة الثالثة : أنّنا إذا قلنا بمقالة المشهور : من أنّ الاستصحاب يجري حال الصلاة ، فهذا معناه أنّه بعد ظنّ الإصابة والفحص وعدم الوجدان ظلّ شاكّا ومحتملا للإصابة فأجرى الاستصحاب بلحاظ اليقين السابق بطهارة الثوب ، فدخل في الصلاة بطهارة استصحابيّة ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة رأى النجاسة وتيقّن أنّها النجاسة التي ظنّها وفحص عنها سابقا.

وحينئذ يطرح سؤال وهو : أنّ الإمام حكم بصحّة الصلاة وعدم وجوب إعادتها استنادا إلى كبرى عدم نقض اليقين بالشكّ أي ( الاستصحاب ) ، مع أنّ الاستصحاب حكم ظاهري تعبّدي يعمل به عند الشكّ وعدم العلم ، ويرفع اليد عنه عند العلم وانكشاف الخلاف ، وفي مقامنا حيث علم بسبق النجاسة فهذا يعني أنّ الاستصحاب الذي كان جاريا في هذه الفترة قد زال وارتفع ؛ لانكشاف خلافه وأنّ الواقع هو النجاسة.

وعليه فكيف يستند الإمام في الحكم بعدم الإعادة إلى الاستصحاب عند ما سأله زرارة مع أنّه حين السؤال كان الاستصحاب قد انتقض وانهدم؟

وبهذا يتبيّن أنّ حمل الاستصحاب على فترة ما قبل الشروع في الصلاة لا يتناسب مع تطبيق الإمام للاستصحاب والحكم بعدم الإعادة مستندا إليه ، وهذا يعزّز ما تقدّم من أنّ الاستصحاب يجري حال السؤال.

وقد أجيب على ذلك تارة بأنّ الاستناد إلى الاستصحاب في عدم وجوب الإعادة يصحّ إذا افترضنا ملاحظة كبرى مستترة في التعليل وهي إجزاء الحكم الظاهري عن الواقع.

وأجيب عن هذا الإشكال بوجهين :

الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري ، من أنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب يصحّ بناء على أنّ الحكم الظاهري يجزي عن الحكم الواقعي ، فالإمام وإن لم يذكر ذلك في

ص: 134

جوابه لكنّه اعتمد عليه في تعليله ، واكتفى بذكر كبرى الاستصحاب مشيرا به إلى تلك الكبرى المستترة (1).

وأخرى بأنّ الاستناد المذكور يصحّ إذا افترضنا أنّ الاستصحاب أو الطهارة الاستصحابيّة بنفسها تحقّق فردا حقيقيّا من الشرط الواقعي للصلاة ، بأن كان الشرط الواقعي هو الجامع بين الطهارة الواقعيّة والطهارة الظاهريّة ، إذ بناء على ذلك تكون الصلاة واجدة لشرطها حقيقة.

الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) ، من أنّ الاستناد إلى الاستصحاب في تعليل الحكم بالصحّة وعدم الإعادة نكتته أنّ الاستصحاب ونحوه من الأصول المنقّحة للموضوع ، تفيد توسعة دائرة موضوع الحكم الواقعي لشرطيّة الطهارة في الصلاة.

وبهذا يكون الاستصحاب أو استصحاب الطهارة ناظرا إلى دليل شرطيّة الطهارة في الصلاة وموسّعا له ، بمعنى كونه موجدا لفرد حقيقي من أفراد الطهارة التي هي شرط للصلاة ، بحيث يكون الشرط حقيقة هو الجامع بين الطهارة الواقعيّة والطهارة الظاهريّة ، والاستصحاب يحقّق أحد هذين الفردين ، فيكون المكلّف قد صلّى صلاة واجدة لشرطها ، لأنّه أوجد أحد فرديه.

ولذلك يكون الاستناد إلى الاستصحاب معقولا ومبرّرا شرعا ؛ لأنّه عند ما أجرى الاستصحاب حال الصلاة ثبت له الطهارة الظاهريّة ، فيجري استصحابها حال

ص: 135


1- وفيه : أنّ تعليل عدم الإعادة بذلك وإن كان ممكنا ولكنّه لا دليل عليه في كلام الإمام ، مع أنّ الإمام علّل الحكم بكبرى مرتكزة عند السائل وأركانها مذكورة في سؤاله ، ولا يوجد في السؤال إلا الاستصحاب فقط ، فلا بدّ أن يكون التعليل مستندا إليه بنفسه لا بما هو مصداق لكبرى محذوفة ، هذا أوّلا. وثانيا : مضافا إلى أنّ هذا يجعل الرواية غامضة ، فيها كثير من العنايات والتقدير والحذف وهو خلاف الظاهر. وثالثا : إنّ الإجزاء يحتاج إلى حيثيّة كاشفة بأن يكون الحكم الظاهري وافيا بتمام الملاك في الحكم الواقعي ، أو بأن يكون وافيا ببعض الغرض والبعض الآخر لا يمكن تداركه مجدّدا ، وهاتان الحيثيّتان غير موجودتين ؛ لأنّ الاستصحاب انكشف بطلانه وعدم مطابقته للواقع ، فما أتى به لم يكن وافيا بالغرض ، والمفروض أنّه بالإمكان تدارك الغرض الواقعي بتمامه إذ لم يفرض ضيق الوقت أو انتهاؤه.

الصلاة إلى حين الفراغ منها ، وتعليل الإمام ناظر إلى أنّه قد صلّى بطهارة استصحابيّة ، وهي تحقّق موضوع الطهارة فلا تجب الإعادة لذلك.

ولا يضرّ انكشاف الخلاف بعد ذلك ؛ لأنّ رؤية النجاسة والعلم بأنّها كانت سابقة على الصلاة معناه أنّ الطهارة الواقعيّة لم تكن محقّقة حال الصلاة ، وأمّا الطهارة الظاهريّة فكانت ثابتة حينها ، وهي كافية بحسب الفرض (1).

الجهة الرابعة : أنّه بعد الفراغ عن دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب نقول : إنّه ظاهر في جعله على نحو القاعدة الكلّيّة ، ولا يصحّ حمل اليقين والشكّ على اليقين بالطهارة والشكّ فيها خاصّة ؛ لنفس ما تقدّم من مبرّر للتعميم في الرواية السابقة ، بل هو هنا أوضح ؛ لوضوح الرواية في أنّ فقرة الاستصحاب وردت تعليلا للحكم ، وظهور كلمة ( لا ينبغي ... ) في الإشارة إلى مطلب مركوز وعقلائي.

وعلى هذا فدلالة المقطع المذكور على المطلوب تامّة.

الجهة الرابعة : في أنّ الاستصحاب المستفاد من هذه الرواية هل هو قاعدة عامّة كلّيّة تصلح للجريان في مختلف الأبواب الفقهيّة ، أو هو قاعدة خاصّة في باب الطهارة فقط؟

والجواب : أنّه قاعدة كلّيّة وعامّة ، والوجه في ذلك أمور :

1 - أنّ قوله : « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين أبدا بالشكّ » اللام فيه للجنس لا للعهد ؛ لأنّ الأصل في اللام أن تكون للجنس إلا إذا دلّت القرينة على العهد ، والقرينة هنا غير موجودة ، وما هو موجود لا يصلح أن يكون قرينة على العهد ؛ لأنّ هذه الجملة وردت تعليلا للحكم ، والتعليل المذكور كان على أساس نكتة مرتكزة عند العرف والعقلاء من أنّ اليقين لا ينتقض أبدا بالشكّ.

ص: 136


1- وفيه : أنّه نحو من التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة كالاستصحاب ونحوه من الأصول الموضوعيّة ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في الجزء السابق. مضافا إلى أنّ التوسعة المذكورة معناها إجزاء بعض الأحكام الظاهريّة عن الأحكام الواقعيّة ، والمفروض أنّ الإجزاء يعتمد على إحدى نكتتين ، الأولى كون الأمر الظاهري وافيا بتمام الملاك ، والثانية كونه وافيا ببعض الملاك بنحو لا يمكن تدارك البعض الآخر ، وكلا النكتتين غير موجودتين في المقام ؛ لإمكان الإعادة في الوقت وتدارك تمام الملاك.

2 - أنّ كلمة ( أبدا ) تفيد التأبيد ، أي أنّ اليقين دائما لا ينتقض بالشكّ سواء كان اليقين بالوضوء أو اليقين بغيره ، ولا يتناسب التأبيد بكون اليقين خصوص اليقين بالوضوء ؛ لأنّ اختصاصه بالوضوء يغني عن ذكر كلمة ( أبدا ) التي جيء بها لإفادة مطلب آخر وهو التأكيد على التعميم والإطلاق.

3 - أنّ المورد وإن كان هو الوضوء أو الطهارة إلا أنّ التعليل لم يذكر فيها ذلك ، وحيث إنّه تعليل بأمر مرتكز وعرفي فهو يقتضي التعميم تبعا لمناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المورد لا يخصّص الوارد العامّ والمطلق.

4 - وهو الأهمّ أنّ التعليل المذكور قد ورد في عدّة روايات ، وهذا يعني أنّه ليس مختصّا بباب الوضوء ، وإنّما هو كبرى كلّيّة عامّة تجري في مختلف الأبواب والمسائل التي يتوفّر فيها اليقين والشكّ.

وفي هذه الرواية هناك وضوح في التعميم ؛ لأنّ كبرى الاستصحاب وردت في التعليل صريحا بخلاف الرواية السابقة ، مضافا إلى أنّ كلمة ( لا ينبغي ) تفيد أنّ اليقين معلوم بأنّه لا ينقض بالشكّ ، أي أنّ هذا الأمر مرتكز عند العرف والعقلاء.

وبهذا تكون هذه الفقرة دالّة على الاستصحاب بما هو قاعدة كلّيّة عامّة.

المقام الثاني :

المقام الثاني : في الموقع الثاني من الاستدلال وهو قوله : « وإن لم تشكّ ... » في جواب السؤال السادس.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ عدم الشكّ هنا تارة يكون بمعنى القطع بعدم النجاسة ، وأخرى بمعنى عدم الشكّ الفعلي الملائم مع الغفلة والذهول أيضا.

المقام الثاني : في النقطة الثانية من الاستدلال على الاستصحاب ، وهي قوله :

« وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

وكيفيّة الاستدلال بهذا القول أنّ قوله : « وإن لم تشكّ » يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون المراد من عدم الشكّ حصول القطع بعدم النجاسة قبل الصلاة ، بمعنى أنّه قبل الشروع في الصلاة تيقّن من عدم النجاسة فدخل في الصلاة وهو على يقين.

الثاني : أن يكون المراد من عدم الشكّ أنّه لم يحصل له شكّ أصلا في النجاسة ،

ص: 137

بمعنى أنّه لمّا دخل في الصلاة لم يكن ملتفتا إلى النجاسة أصلا ، بل كان ذاهلا وغافلا عن وجودها أو عدمها.

فعلى الأوّل : تكون أركان الاستصحاب مفترضة في كلام السائل وكذلك أركان قاعدة اليقين.

أمّا الافتراض الأوّل فواضح.

وأمّا الافتراض الثاني فلأنّ اليقين حال الصلاة مستفاد بحسب الفرض من قوله : « وإن لم تشكّ ... » والشكّ في خطأ ذلك اليقين قد تولّد عند رؤية النجاسة أثناء الصلاة مع احتمال سبقها.

وعليه فكما يمكن تنزيل القاعدة في جواب الإمام على الاستصحاب كذلك يمكن تنزيلها على قاعدة اليقين.

أمّا على الأمر الأوّل : وهو حصول اليقين بعدم النجاسة قبل الشروع في الصلاة ، فهو يجعل الفقرة قابلة للتطبيق على الاستصحاب وعلى قاعدة اليقين أيضا ، لتوفّر أركانهما معا في سؤال زرارة.

والوجه في ذلك : أمّا تطبيقها على الاستصحاب فواضح ؛ لأنّه كان على يقين من عدم النجاسة من أوّل الأمر مضافا إلى يقينه بعدم النجاسة حال الصلاة ، فدخل في الصلاة فوجد نجاسة وشكّ في أنّها سابقة على الصلاة أو أنّها طارئة في الأثناء ، فهذا الشكّ لا ينبغي له أن ينقض به اليقين السابق بالطهارة من أوّل الأمر أو عدم النجاسة حال الصلاة.

وأمّا تطبيقها على قاعدة اليقين فلأنّ اليقين بعدم النجاسة الحاصل حال الصلاة من المحتمل أن يكون مخطئا ؛ وذلك لأنّه وجد نجاسة في أثناء الصلاة ومن المحتمل أن تكون سابقة عليها ، وهذا الاحتمال على فرض ثبوته يجعل اليقين بعدم النجاسة حال الصلاة منهدما ومخطئا ؛ لأنّه قد انكشف خلافه ، فيكون الشكّ ساريا إلى اليقين وهو معنى قاعدة اليقين.

وبهذا يظهر أنّه بلحاظ احتمال طروّ النجاسة أثناء الصلاة يكون جواب الإمام منطبقا على الاستصحاب ، وبلحاظ احتمال سبق النجاسة على الصلاة يكون جوابه منطبقا على قاعدة اليقين.

ص: 138

ولذلك فكما يمكن الاستدلال بهذه الفقرة على الاستصحاب كذلك يمكن الاستدلال بها على قاعدة اليقين. هذا من الناحية النظريّة الثبوتيّة.

وأمّا إثباتا فيمكننا استظهار التطبيق على الاستصحاب ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

غير أنّه يمكن تعيين الأوّل بلحاظ ارتكازيّة الاستصحاب ومناسبة التعليل ، والتعبير ب- ( لا ينبغي ) لكون القاعدة مركوزة ، وأمّا قاعدة اليقين فليست مركوزة.

هذا مضافا إلى أنّ استعمال نفس التركيب الذي أريد منه الاستصحاب في جواب السؤال الثالث في نفس الحوار يعزّز - بوحدة السياق - أن يكون المقصود واحدا في المقامين.

ثمّ إنّه يمكننا أن نستظهر الاستصحاب من هذه الفقرة وذلك لقرينتين :

القرينة الأولى : كون الاستصحاب مرتكزا عند العرف والعقلاء لثبوت البناء العقلائي على العمل بالاستصحاب ، والإمام في جوابه أفاد تطبيق مطلبا مرتكزا لدى العرف كما يدلّ عليه التعليل ، فإنّ التعليل المذكور يفيد أنّ ما ذكره الإمام مفهوم لدى العرف ومرتكز عندهم ، خصوصا مع ملاحظة التعبير بكلمة ( لا ينبغي ) الصريح بأنّ ما ذكره الإمام مركوزا في أذهان العرف والعقلاء.

والحاصل أنّ جواب الإمام ناظر إلى أمر عرفي ، والاستصحاب مركوز لدى العرف ، بخلاف قاعدة اليقين فإنها ليست مركوزة لدى العرف والعقلاء ؛ إذ لم يثبت قيام السيرة والبناء العقلائي على العمل بها.

فارتكازيّة الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، وتعليل الإمام وتعبيره الظاهرين بكون ما أفاده أمرا مركوزا يعيّن الاستصحاب.

القرينة الثانية : أنّ التعبير الذي استخدمه الإمام في هذه الفقرة هو نفس التعبير الذي استخدمه في الفقرة الثالثة ، وحيث إنّنا في الفقرة الثالثة أثبتنا كون المراد هو الاستصحاب فيكون المراد هنا هو الاستصحاب أيضا ، والدالّ على ذلك هو وحدة السياق الظاهر في وحدة المعنى ، إذ من البعيد جدّا أن يستخدم الإمام في حوار واحد تعبيرين متطابقين تماما في معنيين مختلفين من دون الإشارة إلى ذلك ، خصوصا مع ملاحظة أنّ الإمام في مقام تفهيم زرارة علّة الحكم ، فلا بدّ والحال هذه أن يكون تعبيره واضحا ومفهوما لدى زرارة ، وبما أنّ زرارة قد فهم من هذا التعبير الاستصحاب

ص: 139

بمقتضى الفقرة الثالثة فلا بدّ أن يفهم الاستصحاب هنا أيضا ، فلو كان نظر الإمام إلى قاعدة اليقين لكان ينبغي ألاّ يكتفي بهذا المقدار ، بل لا بدّ من التعبير بنحو آخر لا يحتمل الشكّ والتردّد.

وعلى الثاني : يكون الحمل على الاستصحاب أوضح ، إذ لم يفترض حينئذ في كلام الإمام اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة لكي تكون أركان قاعدة اليقين مفترضة ، فيتعيّن بظهور الكلام حمل القاعدة المذكورة على ما فرض تواجد أركانه وهو الاستصحاب.

وهكذا تتّضح دلالة المقطع الثاني على الاستصحاب أيضا.

وأمّا على الأمر الثاني : وهو عدم حصول اليقين بعدم النجاسة حال الصلاة ، وإنّما كان غافلا عن وجودها أو عدمها ، فهذا يتناسب مع حمل جواب الإمام على الاستصحاب لا على قاعدة اليقين ، فهنا دعويان :

الأولى : تناسب كلام الإمام مع الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ السائل كان على يقين من طهارة الثوب أوّلا ثمّ دخل في الصلاة من دون الالتفات إلى النجاسة أو إلى عدمها ، وفي الأثناء وجد نجاسة واحتمل سبقها على الصلاة وطروّها في الأثناء ، فهذا يعني أنّه يشكّ في أنّ يقينه السابق بالطهارة قد انتقض قبل الشروع في الصلاة أو أنّه لم ينتقض ، بل كان شروعه في الصلاة عن طهارة وإنّما انتقض في الأثناء ، وفي مثل ذلك لا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ ، أي أنّ اليقين السابق بالطهارة لا ينبغي نقضه حال الشروع لمجرّد احتمال سبق النجاسة ، فأركان الاستصحاب تامّة وكلام الإمام ينطبق عليها.

الثانية : عدم تناسب كلام الإمام مع قاعدة اليقين ؛ وذلك لعدم توفّر أركانها إذ لا يوجد يقين بعدم النجاسة حال الصلاة ، ليكون الشكّ الحاصل من رؤية النجاسة أثناء الصلاة من المحتمل نقضه لهذا اليقين.

وأمّا اليقين بالطهارة الموجود من أوّل الأمر فلا ينهدم بالشكّ ، إذ حتّى لو كان على يقين من النجاسة قبل الصلاة فهذا لا يعني أنّ اليقين بالطهارة من أوّل الأمر لم يكن صحيحا ، وإنّما يعني أنّ آثاره قد ارتفعت فقط.

وعليه فيكون كلام الإمام على هذا الفرض أوضح في الانطباق على

ص: 140

الاستصحاب ، إذ لا احتمال لتطبيقه على قاعدة اليقين أصلا ، مع أنّها لو كانت محتملة ثبوتا إلا أنّ القرائن الإثباتيّة تؤيّد الحمل على الاستصحاب أيضا.

وبذلك يظهر أنّ هذه الفقرة صالحة للدلالة على الاستصحاب كالفقرة الثالثة.

وبهذا ينتهي الكلام عن الرواية الثانية ، وقد ظهر تماميّة الاستدلال بها.

الرواية الثالثة :
اشارة

وهي رواية زرارة عن أحدهما علیه السلام قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين؟ قال :

« يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها ركعة أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشك باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (1).

وهذه الرواية صحيحة أيضا وإن كانت مضمرة حيث إنّ إضمارات زرارة لا خدشة فيها من حيث الإرسال في عدم الرواية مباشرة عن المعصوم ، والمراد من أحدهما هنا الإمام الباقر أو الصادق علیهماالسلام .

ثمّ إنّ مفاد هذه الرواية هو السؤال عن حالة الشكّ بين الاثنتين والأربع في الصلاة ، والجواب أنّه يبني على الاثنتين ؛ لأنّه متيقّن من الإتيان بهما فلا بدّ أن يضيف ركعتين.

ثمّ يفيده الإمام مطلبا آخر وهو أنّ من يشكّ بين الثلاث والأربع وقد تيقّن من الثلاث فيبني على الثلاث ويأتي بركعة رابعة.

وبعد ذلك يطبق الإمام على ما ذكر أنّه لا ينقض اليقين بالشكّ.

وهذا التعبير هو مورد الاستدلال كما تقدّم في الروايتين السابقتين.

ولذلك سوف نذكر تقريب الاستدلال والاعتراضات التي توجّه على ذلك مع الإجابة عنها ، فنقول :

ص: 141


1- الاستبصار 1 : 373 / 3.

وفقرة الاستدلال في هذه الرواية تماثل ما تقدّم في الروايتين السابقتين وهي قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ ... ».

وتقريبه : أنّ المكلّف في الحالة المذكورة على يقين من عدم الإتيان بالرابعة في بادئ الأمر ، ثمّ يشكّ في إتيانها ، وبهذا تكون أركان الاستصحاب تامّة في حقّه ، فيجري استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وقد أفتاه الإمام على هذا الأساس بوجوب الإتيان بركعة عند الشكّ المذكور ، واستند في ذلك إلى الاستصحاب المذكور معبّرا عنه بلسان « ولا ينقض اليقين بالشكّ ».

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على الاستصحاب على أساس الفقرة المذكورة في سياق تعليله للحكم بأنّه لا ينقض اليقين بالشكّ ، فإنّ السائل سأله عن مسألة ، والإمام أيضا أفاده حكم مسألة أخرى ، وكلتا المسألتين تشتركان في وجود حالة سابقة متيقّنة وحالة لاحقة مشكوكة ، فإنّ الركعتين أو الثلاث محرزة للمكلّف والشكّ في الإتيان بالرابعة أو بالثالثة والرابعة ، فأركان الاستصحاب تامّة بلا إشكال من جهة عدم الإتيان بالرابعة أو الثالثة والرابعة ، وهذا الأمر يعبّر عنه الإمام بعدم نقض اليقين بالشكّ كما تقدّم في الروايتين السابقتين على أساس أنّ هذه القاعدة أمر مرتكز في الذهن العرفي ، ولذلك فإنّ الإمام يطبّقها على مصاديقها.

ولكن يبقى على هذا التقريب أن يفسّر لنا النكتة في تلك الجمل المتعاطفة بما استعملته من ألفاظ متشابهة من قبيل : عدم إدخال الشكّ في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر ، فإنّ ذلك يبدو غامضا بعض الشيء.

إلا أنّ هذا التقريب يواجه مشكلة لا بدّ من حلّها وهي : أنّ كلام الإمام إن كان ناظرا إلى قاعدة الاستصحاب كما هو الصحيح ، فباعتباره قاعدة مركوزة عند العقلاء والعرف فيكفي في التعبير عنها الإشارة إلى أركانها ، وقد ذكر الإمام ذلك بقوله : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » ، وحينئذ فما هي الحاجة لذكر تلك الجمل الأربع وما هي النكتة في هذا التطويل والتكرار؟ إذ يبدو في بادئ الأمر أنّ ذكرها لا مناسبة له مع الاستصحاب ، بل لعلّ الإمام يريد أن يذكر مطلبا غير الاستصحاب ، ولذلك أكّد وكرّر ؛ لأنّ هذا المطلب الجديد ليس مرتكزا عند العقلاء فاحتاج إلى شرح وتكرار من أجل أن يصبح مرتكزا عندهم.

ص: 142

والحاصل : أنّ هذا الاستدلال عليه أن يفسّر الوجه في هذا التطويل والتكرار وإبراز النكتة التي يريدها الإمام منها.

هذا فيما يرتبط بالاستدلال ، وأمّا الإشكالات فهي :

وقد اعترض على هذا الاستدلال المذكور باعتراضات :

الأوّل : دعوى أنّ اليقين والشكّ في فقرة الاستدلال لا ظهور لهما في ركني الاستصحاب ، بل من المحتمل أن يراد بهما اليقين بالفراغ والشكّ فيه ، ومحصّل الجملة حينئذ أنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بالفراغ ، ولا ينبغي رفع اليد عن ذلك بالشكّ ومجرّد احتمال الفراغ ، وهذا أجنبي عن الاستصحاب.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري وحاصله : أنّ قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » ليس ظاهرا في الاستصحاب ، بل في قاعدة البناء على اليقينيّة أي البراءة اليقينيّة عند الشغل اليقيني ؛ وذلك لأنّ المكلّف يعلم يقينا باشتغال ذمّته من أوّل الأمر بأربع ركعات ، فلا بدّ له أن يحصّل الفراغ اليقيني والبراءة اليقينيّة بأنّ ذمّته قد فرغت ممّا اشتغلت به.

وهذا يعني أنّ الشاكّ بين الثلاث والأربع وقد أحرز الثلاث يجب عليه الاحتياط بالإتيان بالركعة الرابعة لكي تحصل له البراءة اليقينيّة.

وهذا التعبير ورد في بعض الروايات أيضا كقوله : « إذا شككت فابن على اليقين » أي يجب الاحتياط حتّى يحصل الفراغ اليقيني.

ويكون المحصّل النهائي للرواية أنّه لا بدّ من الحصول على اليقين بفراغ الذمّة وبراءتها ممّا اشتغلت به ، ولا يجوز له الاعتماد على الشكّ والاحتمال في الفراغ والبراءة.

وبهذا يظهر أنّ الرواية لا ظهور لها في الاستصحاب ، بل فيما ذكرنا ، ولا أقلّ من احتمال ذلك ، فتكون مجملة ومع إجمالها لا يصحّ الاستدلال بها على الاستصحاب.

وعلى هذا يكون ذكر الإمام لتلك الجمل من باب التأكيد على هذه القاعدة من أجل أن تصبح قاعدة مرتكزة في الأذهان ، وأنّه لا بدّ من تحصيل اليقين وعدم خلط اليقين والشكّ أو إدخال أحدهما بالآخر.

ص: 143

والجواب : أنّ هذا الاحتمال مخالف لظاهر الرواية ، لظهورها في افتراض يقين وشكّ فعلا ، وفي أنّ العمل بالشكّ نقض لليقين وطعن فيه ، مع أنّه بناء على الاحتمال المذكور لا يكون اليقين فعليّا ، ولا يكون العمل بالشكّ نقضا لليقين ، بل هو نقض لحكم العقل بوجوب تحصيله.

والجواب عن هذا الاعتراض : أنّه لا يمكن استظهاره من الرواية ، بل ظاهرها مخالف لهذا الاحتمال. والوجه في ذلك : أنّ الرواية ظاهرة في أمرين :

أحدهما : أنّ الرواية ظاهرة في افتراض يقين وشكّ موجودين بالفعل لا تقديرا ، ويدلّ على ذلك قوله : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » الظاهر في وجود يقين وشكّ فعلا لدى المكلّف ، بل هذا ما صرّح به السائل عند افتراضه لإحراز الثالثة والشكّ في الرابعة ، أو عند إحراز الركعتين والشكّ في الأربع.

والآخر : أنّ قوله : « ولا ينقض - ولا يدخل - ولا يخلط - إلى آخره » ظاهر في أنّ العمل بالشكّ والبناء عليه سوف ينقض اليقين ويهدمه ، وهذا معناه أنّه يوجد يقين سابق على الشكّ بحيث يكون الشكّ متأخّرا عن اليقين والبناء عليه طعن في اليقين وإلغاء له.

وما ذكر في الاعتراض من ظهور الرواية أو احتمال ظهورها في قاعدة « الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لا ينسجم مع هذين الظهورين أصلا وذلك : أنّ قاعدة الفراغ اليقيني حكم عقلي بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ وبراءة الذمّة ممّا اشتغلت به يقينا ، وهذا يعني أنّ اليقين ليس موجودا فعلا وإنّما يراد إيجاده وتحصيله لكي تفرغ الذمّة ، فاليقين لم يفرغ عن وجوده ، وهذا مخالف لظهور الرواية في وجود يقين بالفعل لا تقديرا ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ البناء على الشكّ يعني أنّ المكلّف لم يراع حكم العقل بلزوم الاحتياط وتحصيل اليقين بالفراغ وبراءة الذمّة ، وهذا يعني أنّ البناء على الشكّ ينقض حكم العقل ، بينما الرواية ظاهرة في أنّ البناء على الشكّ ينقض اليقين نفسه.

وثالثا : أنّ ظهور الرواية في كون البناء على الشكّ ينقض اليقين يفترض مسبقا وجود يقين فعلا لكي يكون العمل بالشكّ نقضا له ؛ لأنّ هذا التعبير : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » يشتمل على موضوع وحكم ، والمفروض أن يكون الموضوع متحقّقا

ص: 144

قبل الحكم نظرا لطبيعة العلاقة بين الحكم والموضوع ، فلا بدّ من فرض ثبوت اليقين أوّلا ثمّ الحكم عليه بأنّ البناء على الشكّ يكون ناقضا له ، وأمّا إذا لم يكن لدينا يقين مفترض الثبوت فلا يكون البناء على الشكّ نقضا له فعلا ، بل على تقدير وجوده ، وهذا مخالف لظهور الرواية في فرض اليقين الفعلي.

بل لو حملنا الرواية على قاعدة الفراغ اليقيني فإنّ البناء على الشكّ يكون ناقضا لليقين الذي يراد إيجاده وتحصيله ، فتكون نسبة النقض على نحو المجاز لا الحقيقة ، وهذا مخالف لظاهر الرواية والتعبير إذ لا قرينة على المجاز فيها.

وبهذا يظهر أنّه لا يمكن استظهار قاعدة الفراغ من هذه الرواية ، بل ولا احتمال ذلك ، فالرواية ظاهرة في الاستصحاب فقط.

الثاني : أنّ تطبيق الاستصحاب على مورد الرواية متعذّر ، فلا بدّ من تأويلها ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب ليست وظيفته إلا إحراز مؤدّاه والتعبّد بما ثبت له من آثار شرعيّة.

وعليه : فإن أريد في المقام باستصحاب عدم إتيان الرابعة التعبّد بوجوب إتيانها موصولة كما هو الحال في غير الشاكّ ، فهذا يتطابق مع وظيفة الاستصحاب ، ولكنّه باطل من الناحية الفقهيّة جزما ؛ لاستقرار المذهب على وجوب الركعة المفصولة.

وإن أريد بالاستصحاب المذكور التعبّد بوجوب إتيان الركعة مفصولة ، فهذا يخالف وظيفة الاستصحاب ؛ لأنّ وجوب الركعة المفصولة ليس من آثار عدم الإتيان بالركعة الرابعة لكي يثبت باستصحاب العدم المذكور ، وإنّما هو من آثار نفس الشكّ في إتيانها.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري أيضا.

وتوضيحه : أنّ هذه الرواية لا يمكن حملها على الاستصحاب ، ولذلك لا بدّ من التأويل وحملها على قاعدة الفراغ اليقيني.

والوجه في ذلك : هو أنّ الاستصحاب حكم ظاهري تعبدي يثبت ويحرز المؤدّى ويفيد التعبّد بآثاره الشرعيّة ، فما يكون من الآثار الشرعيّة للمؤدّى المستصحب يؤخذ به ويعامل معه معاملة المتيقّن به.

ص: 145

وعلى هذا فاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة الوارد في كلام الإمام يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون المراد بهذا الاستصحاب التعبّد بوجوب الإتيان بالركعة الرابعة موصولة بما قبلها من الركعات من دون فصل بينهما لا بالتشهّد والتسليم ولا بتكبيرة الإحرام ، حيث إنّ الاستصحاب يجعل المكلّف كغير الشاكّ تعبّدا ، ووظيفة غير الشاكّ هو الركعة المتّصلة لا المنفصلة كما هو واضح.

وهذا الاحتمال يتطابق مع الوظيفة العمليّة التي يقتضيها الاستصحاب ، حيث إنّه يتعبّد بأن يعامل الشاكّ نفسه معاملة المتيقّن ، فكما أنّ من تيقّن بعدم الإتيان بالرابعة يجب عليه الإتيان بها موصولة ، فكذلك من جرى الاستصحاب بحقّه وثبت لديه بالتعبّد عدم الإتيان بالرابعة ، فيكون الإتيان بالركعة متّصلة من آثار الاستصحاب الشرعيّة التي يمكن التعبّد بها.

إلا أنّ الإتيان بالركعة موصولة مخالف لمذهبنا وموافق لمذهب العامّة ، إذ لا يقول أحد من الفقهاء بوجوب الركعة الموصولة ، وهذا يعني أنّ الرواية على هذا الاحتمال إمّا أن تكون ساقطة لموافقتها للعامّة فيجب حملها على التقية ، وإمّا أنّها لا تدلّ على الاستصحاب وإن كانت ظاهرة فيه فيجب التصرّف بظهورها ، وحملها على مطلب آخر يتلاءم مع ما هو مسلّم به على مذهبنا كقاعدة الفراغ اليقيني مثلا.

الثاني : أن يكون المراد بهذا الاستصحاب التعبّد بوجوب الإتيان بالركعة مفصولة ، أي أنّه لا بدّ أن يفصل بين الركعات الثلاث وبين هذه الركعة بالتشهّد والتسليم وتكبيرة الإحرام.

وهذا موافق لمذهبنا ومخالف لمذهب العامّة.

إلا أنّ الإتيان بالركعة المفصولة حينئذ لا يكون موافقا ومتلائما مع الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب كما ذكرنا يفيد التعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على اليقين ، بحيث إنّه ينزل أو يجعل الشاكّ كغير الشاكّ من حيث الوظيفة العمليّة التعبّديّة والتي تقتضي لزوم كون الركعة موصولة لا مفصولة.

وعليه فيكون الإتيان بالركعة المفصولة غير مرتبط بالاستصحاب ، بل هو من لوازم وآثار نفس الشكّ في الإتيان بالركعة الرابعة ؛ لأنّ من يشكّ في الإتيان بالرابعة يجب

ص: 146

عليه الإتيان بها ظاهرا لقاعدة الاشتغال اليقيني المستدعي للفراغ اليقيني ، فإنّه بناء على هذه القاعدة إن جيء بالركعة موصولة فمن المحتمل ألاّ يكون قد أفرغ ذمّته ؛ لاحتمال أن يكون قد أتمّ الرابعة قبلها فتكون

الركعة الموصولة خامسة ، وهي مبطلة لاشتمالها على الركوع والذي تكون زيادته مبطلة سهوا وعمدا.

وأمّا إن جيء بالركعة مفصولة بالتشهّد والتسليم ، فهنا إن كان ما في يده هي الرابعة فقد أنهى الصلاة بالتشهّد والتسليم وتكون الركعة زائدة على الصلاة ، وزيادتها غير مضرّة ؛ لأنّها مفصولة عن الصلاة ، وإن كانت الثالثة فيكون محتاجا إلى الركعة المذكورة لتميم صلاته ، واشتمالها على زيادة التشهّد والتسليم غير مضرّة ؛ لأنّها زيادة مغتفرة لدلالة الروايات على العفو عن مثل هذه الزيادة ، مضافا إلى أنّ التشهّد والتسليم زيادتهما غير العمديّة ليست مضرّة.

وبهذا يظهر أنّ حمل الرواية على الاستصحاب يعتبر مخالفة للمذهب ممّا يجعل الرواية واردة مورد التقية ، وبالتالي لا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب ، للعلم بأنّ أصالة الجهة والجدّيّة فيها غير تامّة.

بينما حمل الرواية على الركعة المفصولة كما هو الصحيح لا يدلّ على الاستصحاب ؛ لأنّها ليست من آثار ولوازم التعبّد بالاستصحاب شرعا ، وإنّما هي من آثار نفس الشكّ بالإتيان بالرابعة والذي يكون مجرى لأصالة الاشتغال العقلي.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بأجوبة :

منها : ما ذكره المحقّق العراقي (1) من اختيار الشقّ الأوّل ، وحمل تطبيق الاستصحاب المقتضي للركعة الموصولة على التقية مع الحفاظ على جدّيّة الكبرى وواقعيّتها.

فأصالة الجهة والجدّ النافية للهزل والتقية تجري في الكبرى دون التطبيق.

ثمّ إنّه قد أجيب على هذا الاعتراض بعدّة أجوبة :

الجواب الأوّل على الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي وحاصله : أنّنا نختار الشق الأوّل ، أي أنّ الرواية تدلّ على وجوب الإتيان بالركعة الموصولة استنادا إلى كبرى الاستصحاب.

ص: 147


1- مقالات الأصول 2 : 352.

وما ذكر من مخالفة الركعة الموصولة للمذهب صحيح ، إلا أنّ هذا لا يمنع من الأخذ بدلالة الرواية على كبرى الاستصحاب وإنّما يمنع من الأخذ بتطبيق الاستصحاب على المورد المذكور.

وتوضيح ذلك : أنّه يوجد في الرواية مطلبان :

الأوّل : إفادة كبرى الاستصحاب بقول : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » ، فإنّ هذا التعبير يراد به قاعدة الاستصحاب لورود نظير هذا التعبير في روايات أخرى دالّة على الاستصحاب.

الثاني : إفادة تطبيق الاستصحاب على المورد المذكور في الرواية من إحراز الثلاث ركعات والشكّ في الرابعة ، والحكم بوجوب الإتيان بالركعة الموصولة.

أمّا المطلب الأوّل فلا محذور من الأخذ به ، بل إنّ هذا التعبير لا يتناسب إلا مع كبرى الاستصحاب ، فهذا التعبير ظاهر جدّا في الاستصحاب ، وظهوره الجدّي على نحو الحقيقة والواقع لا التقية.

وأمّا المطلب الثاني أي تطبيق الاستصحاب على المورد واستفادة الركعة الموصولة فلا يمكن الأخذ به ، لمخالفته للمذهب من الناحية الفقهيّة وموافقته لمذهب العامّة ، فيكون محمولا على التقية.

وبهذا ظهر أنّ أصالة الجدّ والجهة تجري في الكبرى ، أي في أصل استفادة كبرى الاستصحاب من هذه الرواية ، إلا أنّ التطبيق على المورد لا يمكن جريان أصالة الجهة والجدّ فيه ؛ لأنّ نتيجة التطبيق مخالفة للقواعد المقرّرة فقهيّا عندنا مع موافقته لمذهب العامّة.

وبهذا يفصّل بين الكبرى والتطبيق ، والاستدلال بالرواية على الاستصحاب تامّ ؛ لأنّنا نريد من الرواية أن تكون دالّة على كبرى الاستصحاب وهي كذلك ، إذن فلا محذور من الأخذ بها.

وهذا التفكيك بين الكبرى والتطبيق مضافا إلى أنّه لا مانع منه ولا محذور فيه ، توجد شواهد تاريخيّة عليه من قبيل ما ذكره الإمام الصادق في حواره مع المنصور بالنسبة ليوم العيد حيث قال : « ذاك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا وإن أفطر أفطرنا » فإنّ الكبرى صحيحة وهي كون الحكم لإمام المسلمين في مسألة هلال العيد ، إلا أنّ تطبيقها على المنصور كان تقية كما هو واضح.

ص: 148

فإن قيل : إنّ الكبرى إن كانت جدّيّة فتطبيقها صوري ، وإن كانت صوريّة فتطبيقها بما لها من المضمون جدّي ، فأصالة الجدّ في الكبرى تعارضها أصالة الجدّ في التطبيق.

كان الجواب : أنّ أصالة الجدّ في التطبيق لا تجري ، إذ لا أثر لها للعلم بعدم كونه تطبيقا جادّا لكبرى جادّة على أي حال ، فتجري أصالة الجهة في الكبرى بلا معارض.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي ذكر هنا إشكالا وأجاب عنه وحاصلهما :

أمّا الإشكال : فما ذكر من حمل الكبرى على الجدّيّة ، وحمل التطبيق على التقية ، لا موجب له بل هو ترجيح بلا مرجّح ، إذ كما أنّ أصالة الجدّ تجري في الكبرى فيكون التطبيق صوريا محمولا على التقية ، كذلك يمكن أن تكون الكبرى صوريّة بينما التطبيق يكون جدّيّا ؛ لأنّ النتيجة على النحوين واحدة.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا قلنا : إنّ الرواية دالّة على كبرى الاستصحاب جدّا وواقعا ، فيكون تطبيق الاستصحاب على المورد المذكور في الرواية صوريا ومخالفا للواقع وبالتالي يحمل على التقية ، فالنتيجة على هذا عدم إرادة الركعة الموصولة جدّا.

وهكذا إذا قلنا بأنّ الرواية من أوّل الأمر دالّة على أنّ كبرى الاستصحاب صوريّة ، أي أنّ إرادة الاستصحاب غير جدّيّة وواقعيّة ، بل لأجل التقية وموافقة العامّة الذين يطبّقون الاستصحاب في مثل هذا المورد.

فإنّ جديّة تطبيق الاستصحاب على المورد المذكور واستفادة الركعة الموصولة لا مانع من الأخذ بها ما دامت أصل الكبرى غير مرادة في المقام جدّا ، إذ النتيجة على هذا هي عدم إرادة الركعة الموصولة جدّا من باب عدم استفادة الكبرى وعدم جريانها أصلا.

وهذا يعني أنّ أصالة الجدّ في الكبرى تعارضها أصالة الجدّ في التطبيق ، فلا مرجّح لإحداهما على الأخرى.

وعليه فكما يمكن استفادة كبرى الاستصحاب من الرواية لو حملت الكبرى على الجدّ كذلك لا يمكن استفادة الاستصحاب منها لو حملت أصالة الجدّ على التطبيق ، وبالتالي تكون الرواية مردّدة ومجملة وغير صالحة للاستدلال.

ص: 149

وأمّا الجواب فهو : أنّ أصالة الجدّ في التطبيق لا تجري أصلا فلا تصلح للمعارضة.

والوجه في ذلك : أنّ التطبيق معلوم أنّه لا أثر له واقعا وجدّا ، إذ على كلّ حال يعلم بأنّ الركعة الموصولة ليست مرادة جدّا سواء كانت في الكبرى أم في التطبيق.

وعليه فما دام يقطع بعدم وجود الأثر فلا يمكن جريان أصالة الجدّ في التطبيق ومعارضتها لأصالة الجدّ في الكبرى ؛ لأنّ المعارضة فرع كون التطبيق جدّيّا.

وهنا نقطع بعدم هذا الأثر في التطبيق ؛ لأنّه تطبيق صوري غير جادّ على كلّ حال ، فلا شكّ لدينا لتجري أصالة الجدّ وإنّما نقطع بعدم الجدّيّة فلا تجري ؛ لعدم تحقّق موضوعها وهو الشكّ.

ولذلك تجري أصالة الجدّ في الكبرى لوجود أثر لها ، وهو استفادة كبرى الاستصحاب ، ولا تجري في التطبيق ؛ لأنّه لا أثر لجريانها فيه ، إذ لا يمكن الحكم بالركعة الموصولة على كلّ تقدير.

ولكنّ الإنصاف : أنّ الحمل على التقية في الرواية بعيد جدّا ، بملاحظة أنّ الإمام قد تبرّع بذكر فرض الشكّ في الرابعة ، وأنّ الجمل المترادفة التي استعملها تدلّ على مزيد الاهتمام والتأكيد بنحو لا يناسب التقيّة.

والصحيح : أنّ ما ذكره المحقّق العراقي من اختيار الشقّ الأوّل من كلام الشيخ الأنصاري لا يمكن المساعدة عليه لكونه مخالفا لظهور الرواية.

والوجه في ذلك : أنّ الرواية تشتمل على أمرين لا يتناسب شيء منهما مع اختيار الشقّ الأوّل.

وتوضيحه أن يقال : إنّ الرواية قد فرضت أنّ الإمام هو الذي تبرّع بذكر السؤال الثاني « وهو الشكّ في الرابعة بعد إحراز الثالثة » وهذا الافتراض لا يتناسب مع ما استظهره المحقّق العراقي من كون المورد محمولا على التقيّة ؛ إذ لو كان المورد تقيّة فلا معنى لأن يوقع الإمام نفسه اختيارا في محذور التقيّة ما دام مستغنيا عنه بالسكوت ، مضافا إلى أنّ الجمل المتعاطفة التي ذكرت في ذيل الرواية ظاهرها التأكيد على مطلب مهم ، وهذا التطويل لا يتناسب مع كون المورد تقيّة ، بل المناسب في هذا المورد أن يختصر ويوجز.

فالحمل على التقيّة لا قرينة عليه ، بل الظاهر خلافه ، خصوصا مع ملاحظة الجواب

ص: 150

عن السؤال الأوّل الظاهر جدّا في كون الركعتين مفصولتين ، فمن البعيد أن يكون جوابه الأوّل عن الركعتين المفصولتين وجوابه الثاني عن الركعة الموصولة ، فإنّ وحدة السياق والتفريع والترتيب بين السؤالين تقتضي كونهما من ناحية الحكم شيئا واحدا.

ولذلك فالمتعيّن هو الشقّ الثاني وعدم دلالة الرواية على الاستصحاب.

ومنها : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه من أنّ عدم الإتيان بالركعة الرابعة له أثران :

أحدهما : وجوب الإتيان بركعة ، والآخر : مانعيّة التشهّد والتسليم قبل الإتيان بهذه الركعة (1).

ومقتضى استصحاب العدم المذكور التعبّد بكلا الأثرين ، غير أنّ قيام الدليل على فصل ركعة الاحتياط يخصّص دليل الاستصحاب ويصرفه إلى التعبّد بالأثر الأوّل لمؤدّاه دون الثاني.

فإجراء الاستصحاب مع التبعيض في آثار المؤدّى صحيح.

الجواب الثاني على الاعتراض الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وحاصله : أنّنا نختار كون الركعة مفصولة لا موصولة.

ولا يرد على ذلك أنّ الرواية حينئذ لا تكون ناظرة إلى الاستصحاب.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يترتّب عليه بإطلاقه أثران شرعيّان هما :

1 - وجوب الإتيان بالركعة الرابعة حيث إنّه يثبت بالاستصحاب تعبّدا عدم الإتيان بها.

2 - كون هذه الركعة متّصلة بما قبلها من ركعات ، وهذا يعني عدم جواز الفصل بينها وبين الركعات السابقة بالتشهّد والتسليم ، بل يمنع الإتيان بهما كذلك.

والإمام حينما أجرى الاستصحاب بقوله : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » كان المفروض ترتيب هذين الأثرين الشرعيّين ، بمقتضى الإطلاق وعدم التقييد.

إلا أنّه يوجد لدينا دليل من الخارج ينصّ على عدم لزوم كون ركعة الاحتياط عند الشكّ بين الثالثة والرابعة مفصولة لا موصولة ، فهذا الدليل يخصّص إطلاق جريان

ص: 151


1- كفاية الأصول : 450.

الاستصحاب في المورد ويخرج من دائرته الأثر الثاني ، فيبقى الأثر الأوّل مشمولا للاستصحاب دون الثاني.

وهذا التبعيض في شمول الاستصحاب لبعض الآثار دون البعض الآخر لا إشكال فيه ؛ لأنّ الاستصحاب في نفسه يقتضي ترتب كلا الأثرين ، غاية الأمر يوجد مانع من ترتيب الأثر الثاني فيخرج ، وأمّا الأثر الأوّل فلا مانع من ترتيبه فيبقى داخلا.

وعليه فلا محذور في حمل الرواية على الاستصحاب ؛ لأنّ ما يبقى داخلا من أثر للمؤدّى يتناسب مع الاستصحاب ، وأمّا الأثر الذي لا يتناسب مع الاستصحاب فهو خارج عن مفاد الرواية لقيام الدليل من الخارج على انتفائه وعدم إمكان التعبّد به.

ونلاحظ على ذلك : أنّ مانعيّة التشهّد والتسليم إذا كانت ثابتة في الواقع على تقدير عدم الإتيان بالرابعة ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب مع التبعيض في مقام التعبّد بآثار مؤدّاه ؛ لأنّ المكلّف يعلم حينئذ وجدانا بأنّ الركعة المفصولة التي يأتي بها ليست مصداقا للواجب الواقعي ؛ لأنّ صلاته التي شكّ فيها إن كانت أربع ركعات فلا أمر بهذه الركعة ، وإلا فقد بطلت بما أتى به من المانع بتشهّده وتسليمه ؛ لأنّ المفروض انحفاظ المانعيّة واقعا على تقدير النقصان.

ويرد عليه : أنّ الأثر الثاني لعدم الإتيان بالركعة الرابعة والذي هو مانعيّة التشهّد والتسليم على نحوين :

الأوّل : أن تكون مانعيّتهما ثابتة في الواقع ، أي أنّ الحكم الواقعي مفاده أنّ التشهّد والتسليم قبل الرابعة مانعان من صحّة الصلاة واقعا سواء علم المكلّف أم لا ، فهنا لا يكفي إجراء الاستصحاب لإثبات الركعة المفصولة على أساس التبعيض في آثار المؤدّى من شموله للأثر الأوّل دون الثاني ، بل لا يمكن إجراء الاستصحاب على هذا الفرض ؛ وذلك لأنّ المكلّف يكون على علم وجدانا بوجوب الركعة الموصولة بناء على المانعيّة الواقعيّة للتشهّد والتسليم.

وبالتالي سوف يكون على علم وجدانا أيضا بأنّ الركعة الموصولة التي يأتي بها ليست مصداقا للمأمور به واقعا ، إذ على تقدير كون الركعات أربعا حين شكّه بين الثلاث والأربع سوف تكون هذه الركعة غير مأمور بها ، وإنّما هو مأمور بالتشهّد

ص: 152

والتسليم فقط ، فإضافة الركعة والحال هذه بلا أمر وبلا موجب ، وعلى تقدير كون الركعات ثلاثا فالتشهد والتسليم اللذان أوقعهما قبل هذه الركعة الرابعة يمنعان من صحّة الصلاة ؛ لأنّ المانعيّة واقعيّة على هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّه بناء على المانعيّة الواقعيّة للتشهّد والتسليم سوف يعلم - إذا جاء بالركعة مفصولة - إمّا ببطلان صلاته من جهة الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الرابعة على فرض ما بيده هو الثالثة ، وإمّا بأنّ هذه الركعة لا أمر بها وليست مصداقا للواجب الواقعي المأمور به على فرض ما بيده هو الرابعة.

وفي كلتا الحالتين تكون صلاته باطلة ويكون عالما وجدانا بذلك ، وعليه فلا يمكن إجراء الاستصحاب وإثبات التبعيض في آثاره.

وأمّا إذا لم يثبت التبعيض فيقطع من أوّل الأمر بوجوب الركعة الموصولة لا المفصولة ، ويكون إتيانه بالركعة منفصلة مبطلا لصلاته على كلّ تقدير.

وإذا افترضنا أنّ مانعيّة التشهّد والتسليم ليست من آثار عدم الإتيان في حالة الشكّ ، فهذا يعني أنّ الشكّ في الرابعة أوجب تغيّرا في الحكم الواقعي وتبدّلا لمانعيّة التشهّد والتسليم إلى نقيضها ، وذلك تخصيص في دليل المانعيّة الواقعيّة ، ولا يعني تخصيصا في دليل الاستصحاب كما ادّعي في ( الكفاية ).

الثاني : أن نفترض أنّ مانعيّة التشهّد والتسليم مبطلة في حال الإتيان بهما قبل الركعة الرابعة عند العلم بأنّ ما يأتي به هو الرابعة ، وأمّا إذا كان شاكّا في أنّ ما يأتي به هو الرابعة فلا يكون هناك مانعيّة.

وهذا يعني أنّ المانعيّة هنا صارت من آثار الشكّ. وعليه فيلزم تغيّر وتبدّل الحكم الواقعي للمانعيّة إلى عدم المانعيّة ، فالتشهّد والتسليم الزائدان المانعان من صحّة الصلاة واقعا ، أصبحا هنا في فرض الشكّ في الإتيان بالركعة الرابعة غير مانعين بعد إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة.

وحينئذ لا يكون رفع اليد عن مانعيتهما هنا من باب التخصيص في دليل الاستصحاب بتطبيقه على الأثر الأوّل دون الأثر الثاني ، بل يكون ذلك من باب التخصيص في دليل المانعيّة الواقعيّة ، والذي يفترض ثبوته في مرحلة سابقة على إجراء الاستصحاب ، لقيام الدليل الخاصّ على عدم المانعيّة في حالة الشكّ.

ص: 153

والحاصل : أنّ المانعيّة تكون ثابتة واقعا في حالة العلم بأنّ ما يأتي به هو الرابعة ، وأمّا عند الشكّ في ذلك فلا يكون هناك مانعيّة.

وهذا الافتراض يجعل التخصيص في دليل المانعيّة لا في آثار الاستصحاب ، وهذا خلافا لما افترضه صاحب ( الكفاية ) من كون التخصيص في دليل الاستصحاب.

مضافا إلى أنّه على هذا سوف يكون الجواب المذكور متطابقا مع ما ذكره الميرزا في المعالجة الثالثة والتي سوف نذكرها مع النقاش فيها.

ومنها : ما ذكره المحقّق النائيني - قدس اللّه روحه - من افتراض أنّ عدم الإتيان بالرابعة مع العلم بذلك موضوع واقعا لوجوب الركعة الموصولة ، وأنّ عدم الإتيان بها مع الشكّ موضوع واقعا لوجوب الركعة المفصولة.

وعلى أساس هذا الافتراض إذا شكّ المكلّف في الرابعة فقد تحقّق أحد الجزءين لموضوع وجوب الركعة المفصولة وجدانا وهو الشكّ ، وأمّا الجزء الآخر وهو عدم الإتيان فيحرز بالاستصحاب.

وعليه فالاستصحاب يجري لإثبات وجوب الركعة المفصولة بعد افتراض كونه ثابتا على النحو المذكور.

الجواب الثالث على الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من اختيار الشقّ الثاني أي الحمل على الركعة المفصولة ، ولا يرد الإشكال المتقدّم من أنّها ليست من آثار الاستصحاب.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الرواية ظاهرة في تطبيق الاستصحاب على المورد لظهور قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » في ذلك ، وعليه فالاستصحاب يجري لإثبات عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وأمّا كونها موصولة أو مفصولة ، فهذا لا مدخليّة للاستصحاب به ، بل تعيين كيفيّة الإتيان بالركعة الرابعة راجعة إلى الشارع ، وهنا الشارع أمر بفردين من الركعة الرابعة أو بنحوين منها هما :

الأوّل : وجوب الإتيان بالركعة الرابعة موصولة على من علم وتيقّن وجدانا بأنّه لم يأت بالرابعة ، فموضوع الركعة الموصولة هو العلم بعدم الإتيان ، وهذا ما تدلّ عليه الأدلّة والروايات الأوّليّة.

الثاني : وجوب الإتيان بالركعة الرابعة مفصولة على من شكّ في الإتيان بها ،

ص: 154

فموضوع الركعة المفصولة هو الشاكّ بعدم الإتيان ، وهذا تدلّ عليه أخبار ركعات الاحتياط.

وفي مقامنا المفروض أنّ المكلّف شاكّ في الإتيان بالركعة الرابعة ، وهذا يعني عدم وجوب الركعة الموصولة عليه لانتفاء موضوعها وهو العلم الوجداني ، وهذا الشكّ يحقّق أحد جزئي موضوع وجوب الركعة المفصولة ؛ لأنّ موضوعها مركّب من جزءين ، الأوّل عدم الإتيان بالرابعة ، والثاني الشكّ في الإتيان بها.

أمّا الجزء الأوّل فهو ثابت وجدانا لفرض الشكّ ، وأمّا الجزء الثاني فهذا ما يتكفّل به الاستصحاب ؛ لأنّه يثبت لنا تعبّدا عدم الإتيان بالرابعة ؛ لأنّ الشكّ في الإتيان بها مسبوق بالعدم.

وبهذا يتحقّق لنا موضوع وجوب الركعة المفصولة ؛ لأنّ أحد الجزءين ثابت بالوجدان وهو عنوان الشكّ في الإتيان بالرابعة والثاني ثابت بالتعبّد وهو عدم الإتيان بالرابعة ، فتجب الركعة المفصولة لتحقّق موضوعها الواقعي.

وأمّا نسبة الركعة المفصولة إلى الاستصحاب كما هو ظاهر التعليل في الرواية فمن أجل أنّه حقّق الجزء الآخر من موضوعها بالتعبّد ، إذ الجزء الأوّل وهو الشكّ محقّق في نفسه وجدانا ، فكان التعليل بالاستصحاب ؛ لأنّه أثبت الجزء الأخير من الموضوع والذي عليه العمدة في ترتب الحكم ، وفي الدقّة الاستصحاب لا يثبت الركعة المفصولة ، وإنّما يثبت الجزء الأخير من موضوعها المفترض ثبوته واقعا في الشريعة.

وبتعبير آخر : أنّ أدلّة ركعة الاحتياط الدالّة على وجوب كونها مفصولة توجب الانقلاب والتبدّل والتغيّر في الحكم الواقعي لوجوب الإتيان بالركعة الرابعة الدالّ على وجوب الإتيان بها موصولة. فيصير هناك فردان أحدهما الرابعة الموصولة عند عدم الشكّ ، والرابعة المفصولة عند الشكّ.

ويمكننا أن نبيّن المطلب بنحو آخر وهو : أنّ الاستصحاب وإن كان مفاده التعبّد ببقاء المستصحب والمؤدّى كما هو الحال عند عدم الشكّ ، والذي يعني وجوب الإتيان بالرابعة موصولة ؛ لأنّ المتيقّن هو عدم الإتيان بالرابعة موصولة فهو الذي يستصحب.

إلا أنّنا لا بدّ أن نرفع اليد عن هذا الإطلاق لدلالة أدلّة ركعات الاحتياط على

ص: 155

كونها مفصولة ، وهذا يعني أنّ القيد وهو كونها موصولة يجب رفع اليد عنه ، فيبقى الاستصحاب دالاّ على وجوب الإتيان بالرابعة وتكون أدلّة ركعات الاحتياط دالّة على كونها مفصولة.

ولا يشكل هنا : بأنّ الاستصحاب يلغي الشكّ تعبّدا ويجعل المورد معلوما تعبّدا بناء على مسلك الميرزا من جعل العلميّة والطريقيّة ، وهنا إذا ألغينا الشكّ فسوف يرتفع أحد جزأي موضوع الركعة المفصولة المركّب موضوعها من الشكّ ومن عدم الإتيان بالرابعة. فإنّنا إذا أجرينا استصحاب عدم الإتيان بالرابعة فسوف نصبح على علم تعبّدي بعدم الإتيان بها ، فيرتفع الشكّ فينتفي موضوع الركعة المفصولة ويتحقّق موضوع الركعة الموصولة ، وهذا لا يمكن الأخذ به لمخالفته لمذهبنا وموافقته لمذهب العامّة.

لأنّه يجاب : أنّ الأمارات والأصول إنّما تقوم مقام القطع الموضوعي بناء على المسلك الصحيح ، فيما إذا لم تؤدّ إلى إلغاء الدليل المحكوم وذلك بانتفاء كلّ آثاره ، وإلا فلا تكون حاكمة عليه.

وهنا إذا أردنا العمل بالاستصحاب وتقديمه على الحكومة فسوف ينتفي الشكّ ، وانتفاؤه يعني انتفاء جميع الآثار المترتّبة عليه في المقام ، ولذلك لا يكون الاستصحاب حاكما على المورد ومثبتا للعلم التعبّدي ؛ لأنّ حكومته تقتضي إلغاء آثار المحكوم ( أي الشكّ ) ، والمفروض أنّه لا يشترط في الحكومة ألاّ يكون الدليل الحاكم رافعا لجميع آثار الدليل المحكوم وإلا لصار الدليل المحكوم هو المقدّم ، ومقامنا من هذا القبيل ؛ ولذلك يتقدّم الشكّ على الاستصحاب ويعمل بآثار الشكّ لا بآثار الاستصحاب.

ومن هنا يظهر أنّ الرواية ليست محمولة على التقية وليس فيها ما يخالف المذهب ، بل تحمل على الاستصحاب بلحاظ أحد الجزءين أي عدم الإتيان بالرابعة ، وأمّا الجزء الآخر وهو كونها مفصولة فيترتّب نتيجة تحقّق موضوع وجوب الركعة المفصولة واقعا كما بيّناه.

وهذا التصحيح للاستصحاب في المورد وإن كان معقولا ، غير أنّ حمل الرواية عليه خلاف الظاهر ؛ لأنّه يستبطن افتراض حكم واقعي بوجوب الركعة المفصولة على الموضوع المركّب من عدم الإتيان والشكّ ، وهذا بحاجة إلى البيان ، مع أنّ

ص: 156

الإمام اقتصر على بيان الاستصحاب على الرغم من أنّ ذلك الحكم الواقعي المستبطن هو المهمّ ، إذ مع ثبوته لا بدّ من الإتيان بركعة مفصولة حينئذ سواء جرى استصحاب عدم الإتيان أو لا ، إذ تكفي نفس أصالة الاشتغال والشكّ في وقوع الرابعة للزوم إحرازها ، فالعدول في مقام البيان عن نكتة الموقف إلى ما يستغنى عنه ليس عرفيّا.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره الميرزا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّه خلاف الظاهر من الرواية.

وتوضيحه : أن افتراض وجود حكم واقعي بوجوب الركعة المفصولة موضوعه مركّب من جزءين هما الشكّ وعدم الإتيان بالرابعة ، وإن كان معقولا في نفسه بل هو صحيح أيضا لدلالة الأخبار عليه ، إلا أنّ كلام الإمام وتعليله لا يتناسب معه ؛ وذلك لأنّ كلام الإمام ظاهر في بيان التعليل للحكم بوجوب الركعة الرابعة المفصولة.

وهنا المناسب بل المتعيّن أن يكون التعليل بأنّه يوجد حكم واقعي على وجوب الركعة المفصولة ، فعدم ذكره مع كونه في مقام البيان والتفهيم وذكر العلّة في غير محلّه.

وأمّا القول بأنّه قد ذكر الاستصحاب الذي يثبت أحد جزأي الموضوع أي ( عدم الإتيان بالرابعة ) ، فيكون قد اكتفى بهذا المقدار عوضا عن ذكر الحكم ؛ لأنّ الموضوع يتحقّق بكلا جزأيه :

أحدهما وجدانا وهو الشكّ ، والآخر تعبّدا وهو عدم الإتيان بالرابعة ، فهذا غير تامّ ؛ لأنّ الاستصحاب لا مدخليّة له في وجوب الركعة المفصولة بعنوانه الخاصّ ليكون التعليل به موجّها ؛ وذلك لأنّه إذا كان هناك حكم واقعي بوجوب الركعة المفصولة مترتّب على عنواني الشكّ وعدم الإتيان بالرابعة ، فهذا الحكم ثابت سواء جرى الاستصحاب في المقام أم لا ؛ لأنّ الجزء الأوّل من الموضوع وهو الشكّ ثابت بالوجدان ، والجزء الآخر منه وهو عدم الإتيان بالرابعة كما يثبت بالاستصحاب أي استصحاب عدم الإتيان بالرابعة كذلك يثبت على أساس قاعدة ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) ، إذ المكلّف يعلم من أوّل الأمر باشتغال ذمّته بالركعة الرابعة والآن يشكّ في فراغ ذمّته منها ، فتطبّق القاعدة ويثبت بها عدم الإتيان بالرابعة ولزوم

ص: 157

الاحتياط بالإتيان بها ، فمن الممكن أن يكون التعليل ناظرا إلى هذه القاعدة لا إلى الاستصحاب.

ويكون الاستناد إلى الاستصحاب عندئذ والعدول عن النكتة والعلّة الصحيحة للحكم إليه في غير محلّه ، ولا يقبله العرف ، بل هو مخالف للفهم العرفي.

مضافا إلى استلزامه الحذف والتقدير ، وهما عناية زائدة لا قرينة عليهما في المقام والأصل عدمهما.

ومن هنا يمكن أن يكون الاعتراض الثاني بنفسه قرينة على حمل الرواية على ما ذكر في الاعتراض الأوّل ، وإن كان خلاف الظاهر في نفسه. وبالحمل على ذلك يمكن أن نفسّر النهي عن خلط اليقين بالشكّ وإدخال أحدهما بالآخر بأنّ المقصود التنبيه بنحو يناسب التقيّة على لزوم فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقّنة.

والتحقيق : أن يقال : إنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري في الاعتراض الأوّل من حمل الرواية على قاعدة ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) ، وإن كان مخالفا لظاهر الرواية من ناحيتين كما تقدّم ، إلا أنّه يتعيّن حملها عليه بقرينة الاعتراض الثاني.

فإنّ كلّ المعالجات التي ذكرت لحلّ هذا الإشكال غير تامّة ، ولا حلّ له إلا بالقول بأنّه استند إلى قاعدة الفراغ اليقيني ؛ لأنّ استفادة الاستصحاب لا تتناسب مع الركعة المفصولة واستفادة الركعة الموصولة مخالفة للمذهب.

وحينئذ يكون المراد أنّه ما دام يعلم باشتغال ذمّته بأربع ركعات وقد أحرز ثلاثا فيجب عليه الإتيان بالرابعة ، وأمّا كيفيّة الإتيان بهذه الرابعة فهذا يعلم من روايات أخرى دلّت على أنّ هذه الركعة يجب أن تكون مفصولة ؛ لأنّ الإتيان بها موصولة لا يحقّق الفراغ اليقيني.

إذ لو كان ما في يده هو الرابعة فإقامة ركعة موصولة يجعل الصلاة باطلة ؛ لأنّها تصبح خمس ركعات ، ولو كان ما في يده هو الثالثة فالركعة الموصولة مصحّحة للصلاة ، فليس هناك فراغ يقيني وإنّما فراغ احتمالي.

بخلاف ما لو أتى بها مفصولة ، فإنّه لو كان في الثالثة فالفصل بينها وبين الرابعة بالتشهّد والتسليم والتكبير مغتفر لدلالة الروايات على ذلك ، ولو كان في الرابعة

ص: 158

فإقامة ركعة مفصولة لا يضرّ أصلا ؛ لأنّ الصلاة قد تمّت قبل هذه الإضافة وعليه فيتحقّق الفراغ اليقيني.

وبهذا التفسير نستطيع أن نحلّ ما طرحناه من إشكال في وجه التطويل والتكرار بذكر الجمل المتعاطفة ، فإنّ ذكرها حينئذ من باب الإشارة والتنبيه والإلفات إلى أنّ هذه الركعة لا بدّ أن تكون مفصولة ، وإنّما لم يصرّح الإمام بذلك لاحتمال كونه في مقام التقيّة ، فإنّ الإشارة إلى الركعة المفصولة بهذه الجمل يتناسب مع التقيّة.

وبهذا يظهر أنّه لا دلالة في الرواية على الاستصحاب أصلا.

الثالث : أنّ حمل الرواية على الاستصحاب متعذّر ، لأنّ الاستصحاب لا يكفي لتصحيح الصلاة حتّى لو بني على إضافة الركعة الموصولة وتجاوزنا الاعتراض السابق ؛ لأنّ الواجب إيقاع التشهّد والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، وباستصحاب عدم الإتيان بالرابعة يثبت وجوب الإتيان بركعة ، ولكن لو أتى بها فلا طريق لإثبات كونها رابعة بذلك الاستصحاب ؛ لأنّ كونها كذلك لازم عقلي للمستصحب ، فلا يثبت ، فلا يتاح للمصلّي إذا تشهّد وسلّم حينئذ [ أن يحرز ] أنّه قد أوقع ذلك في آخر الركعة الرابعة.

الاعتراض الثالث : ما ذكره المحقّق العراقي ، وحاصله : أنّ حمل الرواية على الاستصحاب متعذّر إمّا من جهة انتفاء الشكّ الذي هو أحد ركني الاستصحاب ، وإمّا من جهة عدم ترتّب الأثر الشرعي على المستصحب والذي هو أحد شروط جريان الاستصحاب.

أمّا انتفاء الشكّ فلأنّ المكلّف حيث يشكّ بين الثالثة والرابعة فهذا يعني أنّه لا يعلم هل ما بيده هو الثالثة أو هو الرابعة؟ لكنّه يقطع بعدم وجود الرابعة ويقطع أيضا بوجود الثالثة ، وهذا معناه أنّه يوجد لديه علم إجمالي مردّد بين فردين أحدهما مقطوع العدم والآخر مقطوع الوجود ، ومثل هذا العلم الإجمالي لا يجري فيه الاستصحاب لانتفاء الشكّ.

وأمّا انتفاء الأثر الشرعي فإنّنا لو أجرينا الاستصحاب فإنّه لا يكفي للحكم بصحّة الصلاة التي يوقعها حتّى على فرض كون الركعة التي سوف يأتي بها موصولة ، وذلك بلحاظ التشهّد والتسليم ، فإنّ وجوب التشهّد والتسليم كما يستفاد من الأدلّة مترتّب

ص: 159

على أن تكون الركعة التي يأتي بها هي الرابعة ، أي كونها متّصفة بحيثيّة الرابعة أو بتعبير آخر مترتّب على رابعيّة الركعة بنحو مفاد ( كان ) الناقصة ، والاستصحاب هنا إنّما يثبت لنا عدم الإتيان بالركعة الرابعة فيجب الإتيان بالركعة الرابعة ، أي يجب إيجاد الركعة الرابعة بنحو مفاد كان التامّة ، ولا يثبت كونها متّصفة بالرابعة إلا على أساس اللازم العقلي ، فيكون من الأصل المثبت.

وبتعبير آخر أنّ الاستصحاب يثبت لنا عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، ولكنّه لا يثبت لنا أنّ الركعة التي يأتي بها هي الركعة المتّصفة بالرابعة إلا على أساس اللازم العقلي.

وعليه فعند ما يأتي بالتشهّد والتسليم بعد هذه الركعة سوف لا يحرز أنّه أوقعهما بعد الركعة الرابعة ، بل يشكّ في ذلك ، وبما أنّ ذمّته مشغولة يقينا بالإتيان بهما بعد الرابعة فلا بدّ أن يحرز فراغها يقينا ، وهذا لا يتأتّى إلا بالإعادة من جديد.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ؛ لأنّ إثبات الركعة المفصولة ليس من آثار الاستصحاب كما تقدّم ، وإثبات الركعة الموصولة ولو تقيّة لا يمكن المصير إليه ؛ لأنّه لا يصحّح الصلاة إلا على أساس اللازم العقلي والأصل المثبت وهو ليس حجّة.

وقد أجاب السيّد الأستاذ على ذلك بأنّ المصلّي بعد أن يستصحب عدم الإتيان ويأتي بركعة يتيقّن بأنّه قد تلبّس بالركعة الرابعة ويشكّ في خروجه منها إلى الخامسة فيستصحب بقاءه في الرابعة.

وأجاب عنه السيّد الخوئي بأنّ الاستصحاب على هذا الفرض يجري ويترتّب عليه الأثر الشرعي.

والوجه فيه : أنّنا إذا أجرينا استصحاب عدم الإتيان بالرابعة وقلنا بوجوب الإتيان بها موصولة فسوف يحصل له اليقين بأنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ؛ لأنّ المكلّف حينما يأتي بهذه الركعة سوف يعلم إجمالا بأنّه قد دخل في الركعة الرابعة إمّا الآن أي بهذه الركعة فيما لو فرض أنّ ما أتى به من ركعات كان ثلاثا ، وإمّا في الركعة السابقة لو كانت الركعات السابقة على هذه الركعة أربعا ، فهذا العلم الإجمالي يحقّق له أصل الدخول في الرابعة ، إلا أنّه سوف يشكّ في أنّه هل خرج من الرابعة إلى الخامسة أو أنّه لا يزال في الرابعة؟ من جهة أنّ ما أتى به إن كان

ص: 160

ثلاث ركعات فهو لا يزال في الرابعة ، وإن كان أربع ركعات فقد دخل في الخامسة ، وهنا يجري استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو استصحاب عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة ، وعلى أساس هذا الاستصحاب الثاني سوف يحصل المكلّف على علم تعبّدي بأنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ، وهذا يكفي لتصحيح الصلاة ؛ لأنّه ليس من الأصل المثبت أو اللازم العقلي.

والحاصل : أنّه يوجد لدينا استصحابان :

الأوّل : استصحاب عدم الإتيان بالرابعة.

والثاني : استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة ، ولذلك سوف يحرز تعبدا بأن التشهد والتسليم قد وقعا بعد الرابعة فتكون صلاته صحيحة.

ونلاحظ على هذا الجواب : أنّ الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه في الرابعة ؛ لأنّه يعلم إجمالا بأنّه إمّا الآن أو قبل إيجاده للركعة المبنيّة على الاستصحاب ليس في الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.

ويرد على هذا الجواب : أنّ استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة لو سلّم جريانه ، فهو معارض باستصحاب عدم دخوله في الرابعة أيضا.

والوجه فيه هو : أنّ المكلّف كما يعلم بأنّه قد دخل في الرابعة إمّا الآن حين الإتيان بالركعة المبنيّة على الاستصحاب وإمّا قبلها ، كذلك يعلم بأنّه لم يدخل في الرابعة إمّا الآن وإمّا قبل الإتيان بهذه الركعة ؛ لأنّه إن كان قد أتى بثلاث ركعات قبل هذه الركعة فهو لم يدخل في الرابعة ، وإن كان قد أتى بأربع ركعات فهو الآن لم يدخل في الرابعة بل في الخامسة ، وحيث إنّه يشكّ فيستصحب عدم إتيانه بالرابعة.

وهذا الاستصحاب يتعارض مع الاستصحاب الذي ذكره السيّد الخوئي ، ومع التعارض يحكم بتساقطهما ، وبعد التساقط لا يحرز أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ، فتبقى ذمّته مشغولة فتجب الإعادة كما ذكر المحقّق العراقي.

وهذه المسألة ذكر نظيرها السيّد الخوئي عند الشكّ في يوم العيد ، فإنّه بعد يوم الشكّ سوف يحصل له علم بدخول يوم العيد إمّا الآن وإمّا سابقا ، فيستصحب

ص: 161

دخول يوم العيد ، لكنّه ذكر أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الدخول في يوم العيد إمّا الآن وإمّا سابقا ، فيستصحب عدم الدخول ويتعارض الاستصحابان ويتساقطان.

مضافا إلى أنّنا لو سلّمنا بجريان استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة ، وأنّه لا معارض له ، إلا أنّ هذا الاستصحاب لا يفيد ؛ لأنّه لا يثبت أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة إلا بنحو الأصل المثبت ، إذ غاية ما يثبت بالاستصحاب المذكور أنّه لم يدخل في الخامسة أو لم يخرج من الرابعة ، أمّا أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الرابعة فهذا لازم عقلي ؛ لعدم الخروج من الرابعة أو لعدم الدخول في الخامسة وهو من الأصل المثبت ، والذي لا يكون حجّة.

كما يلاحظ على أصل الاعتراض : بأنّ إثبات اللازم العقلي بالاستصحاب ليس أمرا محالا ، بل محتاجا إلى الدليل ، فإذا توقّف تطبيق الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك كانت بنفسها دليلا على الإثبات المذكور.

ويرد على اعتراض المحقّق العراقي : أنّ الأصل المثبت أو اللازم العقلي إنّما لا يكون حجّة لعدم الدليل على حجّيّته ، وأمّا لو فرض قيام الدليل على حجّيّته ، فلا مانع من التعبّد بثبوت اللازم العقلي حينئذ وكونه حجّة.

وليس هناك دليل على استحالة التعبّد باللازم العقلي ليكون كلّ لازم عقلي منتفيا ولا يثبت شرعا ، وعليه فإذا دلّ الدليل في مورد خاصّ على التعبّد باللازم العقلي فيؤخذ به. وهذا مقبول على نحو الكبرى.

وأمّا في مقامنا فقد ذكر المحقّق العراقي بأنّ هذه الرواية تعتبر دليلا خاصّا على ثبوت اللازم العقلي ؛ لأنّ تطبيق الاستصحاب في هذا المورد يتوقّف على ثبوت اللازم العقلي ، فيدور الأمر بين إلغاء الاستصحاب وبين الأخذ به بما له من أثر عقلي ، ثمّ أشكل عليه ولم يقبله.

الرواية الرابعة :

وهي رواية عبد اللّه بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر : إنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « صلّ فيه ولا

ص: 162

تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (1).

وهذه الرواية وإن كانت مرويّة عن الأب وهو مجهول ، إلا أنّ الابن كان حاضرا وهذا يعني أنّه سمع المحاورة ، وهذا يكفي ؛ لأنّ عبد اللّه بن سنان من الرواة الأجلّة.

ومفادها : أنّه أعاره الثوب وهو طاهر ، ثمّ شكّ في نجاسته من جهة أنّه يشرب الخمر ونحوه ، وهنا حكم الإمام بالطهارة معلّلا ذلك بأنّك قد أعرته إيّاه وهو طاهر.

وأمّا دلالتها على الاستصحاب فيقال في تقريبها :

ولا شكّ في ظهور الرواية في النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة الطهارة ، بقرينة أخذ الحالة السابقة في مقام التعليل ، إذ قال : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر » ، فتكون دالّة على الاستصحاب.

نعم ، لا عموم في مدلولها اللفظي ، ولكن لا يبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل ، وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابيّة المركوزة عرفا.

وهذه الرواية واضحة الدلالة في الاستصحاب ؛ وذلك لأنّه قد أخذ الحالة السابقة في التعليل ، أي بملاحظة كونه أعاره إيّاه وهو طاهر ولم يستيقن أنّه نجّسه ، فينبغي له الحكم ببقاء الطهارة ، ولا ينتقض يقينه بالطهارة بمجرّد الشكّ في أنّه نجّسه بسبب شربه للخمر ما دام لم يستيقن أنّه قد أصابه الخمر.

وليست ظاهرة في قاعدة الطهارة ؛ لأنّه لا يشترط في البناء على الطهارة أن يكون هناك حالة سابقة متيقّنة ، فسواء كان هناك يقين سابق بالطهارة أم لا فعند الشكّ في النجاسة العرضيّة يبني على الطهارة.

إلا أنّ الإمام هنا أورد الحالة السابقة في تعليله للحكم بالطهارة ، وهذا يدلّ على كون النكتة في حكمه هو وجود هذه الحالة السابقة ، وهذا يتناسب مع الاستصحاب لا قاعدة الطهارة.

يبقى أنّ هذه القاعدة المستفادة من الرواية قد يقال باختصاصها بالمورد ، إلا أنّ الصحيح إمكان تعميمها وذلك بملاحظة أمرين :

ص: 163


1- وسائل الشيعة 3 : 521 ، أبواب النجاسات ، ب 74 ، ح 1.

الأوّل : أنّ هذه الفقرة وردت في التعليل والتعليل يعمّم حكم المورد لكلّ حالة من هذا القبيل.

الثاني : أنّ هذه الفقرة تتطابق بالمفاد والمدلول مع ما تقدّم من كبرى ( لا تنقض اليقين بالشك ) مع الاختلاف بالألفاظ ، وهذا يعني الإشارة إلى قاعدة مركوزة عرفا ، وهي ما تقدّمت الإشارة إليها من كونها كبرى الاستصحاب فالاستدلال تامّ.

هذا هو المهمّ من روايات الباب ، وهو يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب.

وبعد إثبات هذه الكبرى يقع الكلام في عدّة مقامات :

إذ نتكلم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونها أمارة أو أصلا.

وكيفيّة الاستدلال بها.

ثمّ في أركانها.

ثمّ في مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار.

ثمّ في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكلّ مورد.

ثمّ في جملة من التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها.

فالبحث إذن يكون في خمسة مقامات كما يلي :

وبهذا ينتهي الكلام عن أدلّة الاستصحاب التي كان مهمّها هو الروايات ، فإنّ ما ذكرناه منها يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب ، فلا حاجة للتطويل بذكر سائر ما ذكروه من أدلّة وروايات.

وبعد ذلك يقع البحث في عدّة أمور :

1 - كون الاستصحاب أمارة أو أصلا.

2 - كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب على الأحكام الشرعيّة.

3 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب من الآثار واللوازم الشرعيّة والعقليّة والتكوينيّة.

4 - الموارد التي تشملها قاعدة الاستصحاب ، وهل هو يجري في مطلق الشبهات أو خصوص الحكميّة أو الموضوعيّة؟

5 - بعض التطبيقات التي وقع الخلاف أو الشكّ فيها.

* * *

ص: 164

الاستصحاب أصل أو أمارة

اشارة

ص: 165

ص: 166

الاستصحاب أصل أو أمارة

قد عرفنا سابقا (1) الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الأمارات والحكم الظاهري في باب الأصول ، وهو : أنّه كلّما كان الملحوظ فيه أهمّيّة المحتمل كان أصلا ، وكلّما كان الملحوظ قوّة الاحتمال وكاشفيّته محضا كان المورد أمارة.

تقدّم في الجزء السابق الفرق بين الأمارات والأصول ، وتوضيحه مختصرا أن يقال : إنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات عند اشتباهها وعدم تمييز المكلّف لها.

فحقيقة الحكم الظاهري كونه حكما مجعولا لحلّ هذا التزاحم من تقديم الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك فالحكم الظاهري حكم طريقي لا حقيقي ، أي أنّه طريق للكشف عن الأهمّ واقعا بنظر الشارع.

وعلى هذا الأساس فإنّ الأهمّيّة التي يلاحظها الشارع تتصوّر على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يلحظ قوّة المحتمل ونوعيّة الحكم المحتمل كأن يلحظ الشارع أهمّيّة ملاكات الإلزام فيجعل الاحتياط أو يلحظ نوع الأحكام الترخيصيّة بأن كانت ملاكاتها هي الأهمّ فيجعل البراءة ، وهذا ما يسمّى بالأصول العمليّة المحضة ، فالأهمّيّة هنا لوحظت على أساس المرجّح الكيفي.

الثاني : أن تلحظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة بأن يلحظ الشارع كثرة المطابقة للواقع في هذا الكاشف ، فموارد الإصابة فيه أكثر من موارد الخطأ ولذلك يكون المرجّح هنا كمّيّا ، فيجعل الحجّيّة له من هذا الباب ، كخبر الثقة مثلا الذي جعلت له الحجّيّة على أساس كثرة الإصابة في أخبار الثقات فالملاحظ هو المرجّح الكمّي ، ولا مدخليّة

ص: 167


1- في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.

للكيفيّة فإنّ خبر الثقة كما يحكي عن الوجوب يحكي عن الحرمة ويحكي عن الإباحة والحلّيّة وما إلى ذلك ... وهذا ما يسمّى بالأمارات.

الثالث : أن تلحظ قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل معا أي يلحظ المرجّحين الكمّي والكيفي ، ويكون جعل الحكم الظاهري على أساس هذين الأمرين معا ، أي أنّ هذا النحو ليس فيه كثرة المطابقة للواقع بحيث تكون هي ملاك الأهمّيّة ، وليس فيه نوع واحد من الأحكام يحكي عنه دائما بحيث تكون نوعيّة المحتمل هي الملاك ، وإنّما فيه من المرجّحين ، كما هو الحال في قاعدة الفراغ حيث لوحظ فيها كثرة الإصابة ؛ لأنّ الأغلب صحّة العمل عند الشكّ في صحّته بعد الفراغ منه ولوحظ فيها أنّ هذا العمل قد فرغ منه بحيث لو لم يفرغ منه فلا ترجيح لهذه القاعدة ، وهذا ما يسمّى بالأصول المحرزة أو التنزيليّة.

وعلى هذا نريد أن نعرف من أي قسم يكون الاستصحاب ، فهل هو أمارة أو أصل محض أو أصل محرز؟

وهذا يتطلّب أن نعرف حقيقة الاستصحاب وما هو الملاك الموجود فيه وما هو المحتمل وما هو الكاشف لنرى على أي أساس جعلت له الحجّيّة.

وعلى هذا الضوء إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب واجهنا صعوبة في تعيين هويّتها ودخولها تحت أحد القسمين ؛ وذلك لأنّ إدخالها في نطاق الأمارات يعني افتراض كاشفيّة الحالة السابقة وقوّة احتمال البقاء مع أنّ هذه الكاشفيّة لا واقع لها - كما عرفنا في الحلقة السابقة (1) - ولهذا أنكرنا حصول الظنّ بسبب الحالة السابقة.

بعد أن عرفنا ملاك الأصل والأمارة نبحث في أنّ الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب هل تدخل في نطاق الأصول أو أنّها تدخل في نطاق الأمارات؟

والجواب : أنّه يوجد صعوبة في تحديد هويّة هذه الكبرى.

ووجه الإشكال هو : أنّنا إذا قلنا بأنّ هذه الكبرى داخلة في الأمارات فهذا يعني افتراض قوّة الاحتمال ووجود الكاشفيّة الظنّيّة في أنّ الحالة السابقة إذا وجدت فهي تبقى ، وهذا معناه ملاحظة الشارع للمرجّح الكمّي ، أي أنّ الأغلب هو وجود الظنّ بالبقاء عند الحدوث.

ص: 168


1- تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

إلا أنّ هذه الكاشفيّة الظنّيّة لا واقع لها في الاستصحاب ؛ لأنّ أغلبيّة البقاء ليست مسلّمة مضافا إلى أنّ البقاء ليس مظنونا ، ولذلك ننكر إفادة الحالة السابقة بمجرّد حدوثها للظنّ بالبقاء ؛ لأنّ هذا يختلف باختلاف الحالة السابقة ، فمن الحالات السابقة إذا حدثت يعلم ببقائها ، ومنها إذا حدثت يعلم بارتفاعها.

وأمّا تعامل الناس على أساس البقاء عند الحدوث فهو إمّا لأجل الغفلة أو لأجل العادة والألفة.

ومن هنا يشكل إدخال الاستصحاب في الأمارات ؛ لعدم إحراز الظنّ بالبقاء عند الحدوث.

وإدخالها في نطاق الأصول يعني أنّ تفوّق الأحكام المحتملة البقاء على الأحكام المحتملة الحدوث في الأهمّيّة أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع أنّ الأحكام المحتملة البقاء ليست متعيّنة الهويّة والنوعيّة ، فهي تارة وجوب ، وأخرى حرمة ، وثالثة إباحة ، وكذلك الأمر فيما يحتمل حدوثه ، فلا معنى لأن يكون سبب تفضيل الأخذ بالحالة السابقة الاهتمام بنوع الأحكام التي يحتمل بقاؤها.

وأمّا إذا قلنا بأنّ هذه الكبرى تدخل في الأصول ، فهذا يعني افتراض قوّة المحتمل ونوع الحكم الذي يحكي عنه الاستصحاب ، بمعنى أنّ الحالة السابقة كان يوجد فيها نوع واحد من الأحكام ، ولذلك رجّح الشارع الحكم بالبقاء تبعا لأهمّيّة هذا النوع ، على أساس المرجّح الكيفي.

إلا أنّ هذا غير صحيح ؛ لأنّ الحالة المحتملة البقاء ليس لها هويّة محدّدة ومشخّصة من جهة نوعيّة الحكم ؛ لأنّها تارة تكون وجوبا ، وأخرى حرمة ، وثالثة إباحة ورابعة ...

إلى آخره. فلا يمكن أن يكون الترجيح وملاحظة الأهمّيّة بنظر الشارع قائما على أساس الاهتمام بنوعيّة الحكم المحتمل ؛ لأنّه ليس واحدا ، نظير الحالة المحتملة الحدوث ابتداء ، فإنّها تختلف من حيث نوعيّة الأحكام المحتمل ثبوتها ، ولذلك لا يدخل في الأصول لعدم نوعيّة الحكم المحتمل.

وبعبارة أخرى : أنّ ملاك الأصل - وهو رعاية أهمّيّة المحتمل - يتطلّب أن يكون نوع الحكم الملحوظ محدّدا ، كما في نوع الحكم الترخيصي الملحوظ في أصالة

ص: 169

الحلّ ، ونوع الحكم الإلزامي الملحوظ في أصالة الاحتياط ، وأمّا إذا كان نوع الحكم غير محدّد وقابلا للأوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.

وبتعبير آخر : أنّ الملاك في الأمارات هو ملاحظة أهمّيّة الكاشف والاحتمال ، وهذا غير محرز في الحالة السابقة ، والملاك في الأصول هو ملاحظة أهمّيّة نوع الحكم المحتمل وهذا يعني افتراض نوع واحد من الأحكام ، كملاحظة نوع الحكم بالترخيص في البراءة أو ملاحظة نوع الحكم بالإلزام في الاحتياط ، وأمّا إذا كان الحكم مختلفا ومتعدّدا كما هو الحال في الحالة السابقة التي تحتمل أوجها متعدّدة من الأحكام فلا يحرز وجود الملاك ، فلا تدخل في الأصول كما لا تدخل في الأمارات.

ومن هنا نواجه مشكلة في هويّة الاستصحاب لا بدّ من حلّها لوجود ثمرات تترتّب على ذلك من أهمّها ثبوت اللوازم العقليّة والتكوينيّة أو عدم ثبوتها.

وحلّ الإشكال : أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام الظاهريّة تقرّر دائما نتائج التزاحم بين الأحكام والملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ عند الاختلاط ، فبالإمكان أن نفترض أنّ المولى قد لا يجد في بعض حالات التزاحم قوّة تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس الاحتمال ، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتة نفسيّة في ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

وحلّ الإشكال هو : أنّنا عرفنا سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة سواء الأمارات أم الأصول مجعولة في مقام التزاحم الحفظي عند اختلاط الملاكات والأحكام وعدم تمييزها من أجل إبراز ما هو الأهمّ من هذه الملاكات بنظر الشارع.

إذن فالأحكام الظاهريّة تعالج مسألة التزاحم الحفظي. وعليه فكما يمكن الترجيح بلحاظ قوّة المحتمل ونوع الحكم كما في الأصول ، وكما يمكن الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشف كما في الأمارات ، كذلك يمكن أن نفترض الترجيح بشيء آخر لا بنوع المحتمل ولا بقوّة الاحتمال ، وإنّما على أساس وجود نكتة نفسيّة ذاتيّة تقتضي بنظر الشارع ترجيح أحد الحكمين على الآخر عند التزاحم بينهما.

وبتعبير آخر : إذا لم توجد ملاكات الترجيح بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ الاحتمال ، فبالإمكان أن يلجأ الشارع إلى الترجيح على أساس نكات نفسيّة وذاتيّة رآها أنّها تكفي وتصلح لأن تكون ملاكا لترجيح أحد الحكمين على الآخر ، فليس الأمر

ص: 170

محصورا بالملاكين السابقين للترجيح ولبيان الأهمّ ، بل يوجد ملاك آخر أيضا من الممكن أن يفرض الترجيح على أساسه ، ولذلك نقول :

ففي محلّ الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشكّ في البقاء لا يجد أقوائيّة لا للمحتمل إذ لا تعيّن له ، ولا للاحتمال إذ لا كاشفيّة ظنّيّة له ، ولكنّه يرجّح احتمال البقاء لنكتة نفسيّة ولو كانت هي رعاية الميل الطبيعي العامّ إلى الأخذ بالحالة السابقة.

ولا يخرج الحكم المجعول على هذا الأساس عن كونه حكما ظاهريّا طريقيّا ؛ لأنّ النكتة النفسيّة ليست هي الداعي لأصل جعله ، بل هي الدخيلة في تعيين كيفيّة جعله.

وفي مقامنا نقول : إنّ الشارع عند ما يجعل الاستصحاب ويتعبّدنا ببقاء الحالة السابقة لا يكون ترجيحه لبقاء الحالة السابقة قائما على أساس أهمّيّة نوع الحكم المحتمل ؛ لأنّه لا يوجد نوع واحد من الأحكام ؛ لأنّ الحالة السابقة تتناسب مع جميع الأحكام ، ولا يكون ترجيحه لبقاء الحالة السابقة على أساس قوّة الاحتمال والكاشف ؛ لأنّه لا يوجد كاشفيّة ظنّيّة مفادها أنّ كلّ ما يوجد فهو يبقى.

وهذا يعني أنّ الشارع قد رجّح بقاء الحالة السابقة على أساس ملاكات ونكات نفسيّة ذاتيّة رآها موجودة عند النوع الإنساني ، ولعلّها هي ( الميل العرفي والطبع العامّ على الأخذ بالحالة السابقة ).

إلا أنّ هذه النكتة النفسيّة الذاتيّة النوعيّة لا تجعل الاستصحاب يثبت لنا أحكاما واقعيّة ، بل لا يخرج الحكم المجعول أي نفس الاستصحاب عن كونه حكما ظاهريّا طريقيّا ، أمّا كونه حكما ظاهريّا فلأنّ المفروض فيه الشكّ في الحكم الواقعي ، وأمّا كونه طريقيّا فلأنّه مجعول في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة فهو طريق إليها.

وأمّا ما ذكر من النكتة النفسيّة فهي وإن كانت دخيلة في كيفيّة جعل الاستصحاب من حيث إنّها المرجّح لأهمّيّة احتمال البقاء ، إلا أنّها ليست هي الداعي والغرض والملاك لجعل الاستصحاب ، إذ الغرض من جعله هو علاج التزاحم الحفظي بين الملاكات ، وهذه النكتة دورها تعيين وترجيح أحد الاحتمالين أي بقاء الحالة السابقة لا ارتفاعها.

ص: 171

وعلى هذا الأساس يكون الاستصحاب أصلا ؛ لأنّ الميزان في الأصل الذي لا تثبت به اللوازم على القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوّة الاحتمال محضا سواء كان الملحوظ فيه قوّة المحتمل أو نكتة نفسيّة ؛ لأنّ النكتة النفسيّة قد لا تكون منطبقة إلا على المدلول المطابقي للأصل فلا يلزم من التعبّد به التعبّد باللوازم.

وعلى هذا نعرف أنّ الاستصحاب أصل عملي ، ولكنّه ليس أصلا عمليّا محضا وليس أمارة أيضا ، بل هو برزخ بينهما ، والسرّ في ذلك هو أنّ الاستصحاب من جهة يشبه الأمارات ؛ لأنّه لا يوجد فيه نوع واحد من الأحكام وإنّما يثبت به أحكام متعدّدة ومختلفة ، ومن جهة أخرى يشبه الأصول ؛ لأنّه لا يثبت به لوازمه غير الشرعيّة.

ومن هنا يمكننا أن نعطي ضابطا آخر للأصول والأمارات وهو : إن كان الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشف فقط كان الحكم الظاهري المجعول إمارة ، وتثبت لوازمه الشرعيّة وغيرها ؛ لأنّ قوّة الكاشف والاحتمال نسبته إلى المدلول المطابقي والالتزامي على حدّ واحد.

وإن لم يكن الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال ، بل كان بلحاظ نوعيّة الحكم المحتمل أو كان بلحاظ نكات نفسيّة نوعيّة فيكون الحكم الظاهري المجعول أصلا عمليّا ، ولا تكون لوازمه غير الشرعيّة حجّة.

والاستصحاب من القسم الثاني ؛ لأنّ الترجيح فيه لم يكن على أساس قوّة الاحتمال إذ لا ظنّ بالبقاء دائما ، ولا على أساس نوعيّة الحكم المحتمل ؛ لأنّه لا يوجد فيه نوع واحد ، وإنّما على أساس النكتة النفسيّة ، وهذه النكتة لا تجعل لوازم الاستصحاب غير الشرعيّة حجّة ؛ لأنّه بالإمكان أن يتعبّدنا الشارع بالمدلول المطابقي فقط دون اللوازم الأخرى ما دام لا يوجد كاشفيّة في البين.

كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب :

وقد يتوهّم أنّ النقطة السابقة تؤثّر في كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب ، وبالتالي في كيفيّة علاج تعارضه مع سائر الأدلّة.

فإن افترضنا أنّ الاستصحاب أمارة ، وأنّ المعوّل فيه على كاشفيّة الحالة السابقة ، كان الدليل هو الحالة السابقة على حدّ دليليّة خبر الثقة ، ومن هنا يجب أن تلحظ النسبة بين نفس الأمارة الاستصحابيّة وما يعارضها من أصالة الحلّ مثلا ،

ص: 172

فيقدّم الاستصحاب بالأخصّيّة على دليل أصالة الحلّ ، كما وقع في كلام السيّد بحر العلوم انسياقا مع هذا التصوّر.

قد يقال : إنّ تحديد هويّة الاستصحاب من كونه أصلا أو أمارة يؤثّر على كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب وعلى كيفيّة علاج التعارض بينه وبين الأدلّة الأخرى ؛ لأنّه يوجد لدينا فرضيّتان :

الفرضيّة الأولى : أن يكون الاستصحاب أمارة فالاستدلال على الحكم الشرعي به يختلف عمّا لو كان أصلا ؛ لأنّه لو كان أمارة فيكون الدليل على الحكم الشرعي هو نفس الاستصحاب كخبر الثقة ، ولو كان أصلا فالدليل على الحكم الشرعي هو الأدلّة والروايات الدالّة على الاستصحاب لا الاستصحاب نفسه ؛ لأنّه يكون حكما شرعيّا تعبّديّا ، هذا من ناحية كيفيّة الاستدلال.

وأمّا من ناحية التعارض بينه وبين سائر الأدلّة وعلاج هذا التعارض ، فقد يقال أيضا - كما عن السيّد بحر العلوم والإمام الخميني - : إنّ الاستصحاب لو كان أمارة بحيث كان الملحوظ فيه قوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الحالة السابقة ، فيكون الدليل هو نفس الحالة السابقة ، لأنّها هي الكاشفة عن البقاء ، كما هو الحال في خبر الثقة ، فإنّ الدليل هو كونه ثقة ؛ لأنّ الوثاقة هي الحيثيّة الكاشفة عن الصدق والمطابقة للواقع.

وحينئذ يجب أن تلاحظ النسبة بين نفس الحالة السابقة وبين دليل أصالة الحلّ والبراءة ، كما هو الحال بالنسبة لخبر الثقة حيث تلحظ النسبة بين خبر الثقة وبين الأدلّة الدالّة على أصالة الحلّ والبراءة وغيرهما عند التعارض.

وفي هذه الحالة يتقدّم الاستصحاب بمعنى الحالة السابقة ؛ لأنّه أخصّ من دليل أصالة الحلّ والبراءة ، إذ دليل أصالة الحلّ يشمل كلّ مورد شكّ في حليّته وحرمته سواء كان له حالة سابقة أم لا ، بينما الحالة السابقة التي هي الأمارة الكاشفة لا تجري إلا إذا كان هناك حالة سابقة مشخّصة ، فتكون أخصّ من دليل أصالة الحلّ فتقدّم لذلك.

وإن افترضنا الاستصحاب أصلا عمليّا وحكما تعبّديّا مجعولا في دليله فالمدرك حينئذ لبقاء المتيقّن عند الشكّ نفس ذلك الدليل ، لا أماريّة الحالة السابقة ، وعند التعارض بين الاستصحاب وأصالة الحلّ يجب أن تلحظ النسبة بين دليل

ص: 173

الاستصحاب - وهو مفاد رواية زرارة مثلا - ودليل أصالة الحلّ ، وقد تكون النسبة حينئذ العموم من وجه.

الفرضيّة الثانية : أن يكون الاستصحاب أصلا عمليّا فهذا يعني أنّه حكم ظاهري تعبّدي مجعول من الدليل الدالّ عليه ، فيكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي ليس الاستصحاب نفسه أو الحالة السابقة ، وإنّما الدليل الدالّ على الاستصحاب.

ولذلك عند التعارض بين الاستصحاب وغيره من الأمارات والأصول لا بدّ أن تلحظ النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب - والتي هي الروايات المتقدّمة الذكر كصحيحة زرارة وغيرها - وبين الدليل الدالّ على أصالة الحلّ أو البراءة أو خبر الثقة نفسه ؛ لأنّ التعارض إنّما يكون بين الأدلّة لا بين المؤدّى والمحكي فيها مباشرة.

وحينئذ ، فإذا لاحظنا النسبة بين دليل أصالة الحلّ وبين دليل الاستصحاب ، وجدنا أنّها العموم والخصوص من وجه ؛ وذلك لأنّ دليل أصالة الحلّ يفيد حلّيّة كلّ مشكوك الحلّية والحرمة ، سواء كان له حالة سابقة أم لا ، ودليل الاستصحاب يفيد جريان الاستصحاب في كل مورد له حالة سابقة ، سواء كانت الحالة السابقة هي الحلّيّة أو الحرمة أو شيئا آخر غيرهما كالعدالة والطهارة ونحو ذلك ، فيجتمعان في مشكوك الحلّيّة والحرمة الذي له حالة سابقة ويقع التعارض بينهما ، ولا يتقدّم أحدهما على الآخر بنفسه. نعم ، إذا وجدت المرجّحات الأخرى في أحدهما فيقدّم.

وهذا التوهّم باطل فإنّ ملاحظة نسبة الأخصّيّة والأعمّيّة بين المتعارضين وتقديم الأخصّ من شئون الكلام الصادر من متكلّم واحد خاصّة ، حيث يكون الأخصّ قرينة على الأعمّ بحسب أساليب المحاورة العرفيّة.

ولمّا كانت حجّيّة كلّ ظهور منوطة بعدم ثبوت القرينة على خلافه ، كان الخبر المتكفّل للكلام الأخصّ مثبتا لارتفاع الحجّيّة عن ظهور الكلام الأعمّ في العموم ، وليست الأخصّيّة في غير مجال القرينيّة ملاكا لتقديم إحدى الحجّتين على الأخرى ، ولهذا لا يتوهّم أحد أنّه إذا دلّت بيّنة على أنّ كلّ ما في الدار نجس ، ودلّت أخرى على أنّ شيئا منه طاهر قدّمت الثانية للأخصّيّة ، بل يقع التعارض إذ لا معنى للقرينيّة مع فرض صدور الكلامين من جهتين.

ويرد على هذا القول : أنّ التقديم بملاك الأخصّيّة والأظهريّة أو التخصيص

ص: 174

والتقييد ، إنّما يكون فيما إذا كان هناك كلام صادر من متكلّم واحد ، دون ما إذا كان الكلام صادرا من متكلّمين أو من جهتين مختلفتين ، وهذا يعني أنّه يشترط وحدة المتكلّم إمّا شخصا وإمّا نوعا.

أمّا شخصا فواضح ، وأمّا نوعا فكالأئمّة المعصومين علیهم السلام ، فإنّ كلام أوّلهم كلام آخرهم.

وعليه فيجب إحراز هذا الأمر ليتمّ التقديم بملاك القرينيّة العرفيّة ، حيث يكون الأخصّ ونحوه من القرائن العرفيّة قرينة على تحديد المراد من العامّ بحسب الفهم العرفي العامّ ، وبحسب ما هو متعارف عليه في المحاورات.

والوجه في ذلك : هو أنّ حجّيّة كلّ ظهور فرع انعقاد ظهور للكلام وعدم وجود قرينة على خلافه ، فما لم ينعقد للكلام ظهور فلا يمكن التمسّك بحجّيّته ، وإذا كان هناك قرينة على خلافه فلا يكون ما ظهر منه سابقا على القرينة حجّة.

وعليه فيكون الكلام الأخصّ ونحوه رافعا لحجّيّة الكلام الأعمّ في العموم ؛ لاختلال شرط الحجّيّة.

ثمّ إنّ هذا التقديم بملاك الأخصّيّة ونحوها إنّما هو بملاك القرينيّة فقط ، ولذلك إذا لم يكن أحد الكلامين قرينة على الآخر فلا يكون الأخصّ مقدّما على الأعمّ ، من قبيل ما إذا قامت بيّنتان إحداهما تثبت نجاسة تمام ما في الدار بينما الأخرى تثبت طهارة أحد المواضع من الدار ، فهنا وإن كانت النسبة بين البيّنتين هي العموم والخصوص المطلق إلا أنّ الخاصّ لا يتقدّم على العامّ ؛ لأنّه ليس قرينة على تحديد المراد من العامّ ؛ لأنّ العامّ صادر من جهة والخاصّ صادر من جهة أخرى لا تتّحد مع الجهة الأولى لا شخصا ولا نوعا ، ولذلك يكون بين البيّنتين تعارض ، ولا مجال للجمع العرفي بينهما ؛ لأنّ مجال الجمع العرفي هو ما يكون قرينة أو ما يصلح للقرينيّة ، وهذا يستلزم صدور الكلام من متكلّم واحد ليكون كلامه مفسّرا بعضه للبعض الآخر.

وعلى هذا ففي المقام سواء قيل بأماريّة الاستصحاب أو أصليّته ، لا معنى لتقديمه بالأخصّيّة الملحوظة بينه وبين معارضه ، بل لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الأصل أو دليل حجّيّة الأمارة ، فإن كان أخصّ قدّم بالأخصّيّة ؛

ص: 175

لأنّ مفاد الأدلّة كلام الشارع ، ومتى كان أحد كلاميه أخصّ من الآخر قدّم بالأخصّيّة.

وبناء عليه نقول : إنّ الاستصحاب سواء قلنا بأنّه أمارة أو أصل ، لا مجال لأن تلحظ النسبة بينه وبين ما يعارضه من أدلّة ليقال بتقديمه بملاك الأخصّيّة ، بل على كلا التقديرين لا بدّ أن تلحظ النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب وبين الدليل الدالّ على الأصل المعارض له أو الأمارة المعارضة له ، فإن كان أخصّ قدّم بملاك الأخصّيّة ، وإلا فلا. فهنا دعويان :

الأولى : عدم ملاحظة النسبة بين نفس الاستصحاب أو الحالة السابقة وبين ما يعارضه.

الثانية : لزوم ملاحظة النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب وبين الدليل الدالّ على معارضه.

أمّا الأولى فلأنّ الاستصحاب أو الحالة السابقة ليست كلاما صادرا من الشارع ، وإنّما هو دليل لإثبات المنجّزيّة أو المعذّريّة مستفاد من الأدلّة الدالّة عليه.

وأمّا الثانية فلأنّ النسبة تلحظ بين الكلامين الصادرين من متكلّم واحد ، وهنا الدليل الدالّ على الاستصحاب كرواية زرارة كلام صادر من الشارع ، والدليل على أصالة الحلّ كرواية ( كلّ شيء حلال حتّى تعلم أو تعرف ... ) كلام صادر من الشارع أيضا ، فيصحّ أن يكون أحدهما قرينة على الآخر لو كان أخصّ منه فيقدّم عليه لملاك الأخصّيّة.

وكذا يمكن أن تلحظ النسبة بين نفس الاستصحاب وبين نفس أصالة الحلّ أو البراءة.

* * *

ص: 176

أركان الاستصحاب

اشارة

ص: 177

ص: 178

أركان الاستصحاب

وللاستصحاب على ما يستفاد من أدلّته المتقدّمة أربعة أركان وهي :

اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثر عملي مصحّح للتعبّد بها.

وسنتكلّم عن هذه الأركان فيما يلي تباعا إن شاء اللّه تعالى.

هناك أربعة أركان للاستصحاب بمعنى أنّ جريانه متوقّف على هذه الأربعة ، فلو اختلّ واحد منها لم يجر الاستصحاب ، لذلك لا بدّ من بسط الحديث حول هذه الأركان لنرى مدى دلالة الروايات عليها ، وأنّه هل يمكن استفادتها من الأدلّة المتقدّمة أم لا؟

وهذه الأركان على ما ذكر المشهور هي :

1 - اليقين بالحدوث ، فلا بدّ أن يكون هناك يقين بحدوث الحالة السابقة ، أي كون الحالة السابقة متيقّنة.

2 - الشكّ في البقاء ؛ لأنّه لو كان البقاء معلوما أو كان الارتفاع معلوما فلا معنى للاستصحاب.

3 - وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، أو وحدة الموضوع الذي يتعلّق به الشكّ واليقين ؛ لأنّه لو كان مختلفا وكان لكلّ منهما متعلّق يختلف عن الآخر لم يجر الاستصحاب.

4 - وجود أثر عملي يصحّح التعبّد ببقاء الحالة السابقة عند استصحابها ، إذ لو لم يكن هناك أثر عملي لكان جريان الاستصحاب لغوا لا فائدة منه ، فلا بدّ من كون المستصحب إمّا حكما أو موضوعا لحكم أو جزء موضوع ونحو ذلك ممّا يكون له أثر عملي.

وتفصيل الكلام في هذه الأركان أن يقال :

ص: 179

أ - اليقين بالحدوث
اشارة

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ مجرّد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعليّة الحكم الاستصحابي لها ، وإنّما يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة ؛ وذلك لأنّ اليقين قد أخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة الروايات ، وظاهر أخذه كونه مأخوذا على نحو الموضوعيّة لا الطريقيّة إلى صرف ثبوت الحالة السابقة.

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، وهذا معناه لزوم كون الحالة السابقة متيقّنة ، ومجرّد حدوث الحالة السابقة واقعا لا يكفي لجريان الاستصحاب والتعبّد بالبقاء فعلا ، والوجه عندهم في استفادة هذا الركن هو ظاهر أخذ اليقين في لسان الأدلّة التي دلّت على كبرى الاستصحاب ، كصحاح زرارة ثلاث المتقدّمة حيث ورد فيها « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » أو « ... وقد أحرز الثلاث ».

فهذه الروايات أخذت عنوان اليقين ، وظاهر أخذ اليقين عنوانا أنّه مأخوذ على نحو الموضوعيّة أي كونه جزءا من الموضوع ، فيكون الموضوع مركّبا من الحدوث واليقين ولا يكفي الحدوث فقط ؛ لأنّ الظاهر من أخذ القيد أو العنوان كونه دخيلا في الموضوع واقعا بنفسه ، لا بما هو طريق كاشف ومرآة حاكية عن المتعلّق الذي هو حدوث الحالة السابقة ، فإنّه وإن كان ممكنا ولكنّه على خلاف الظاهر.

وعلى هذا فلا بدّ من اشتراط اليقين بالحدوث ولا يكفي الظنّ بالحدوث أو نفس الحدوث الواقعي من دون يقين به.

نعم ، في رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة علّل الحكم الاستصحابي بنفس الحالة السابقة في قوله : « لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر » لا باليقين بها ، وهو ظاهر في ركنيّة المتيقّن لا اليقين.

وتصلح أن تكون قرينة على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقيّة إذا تمّ الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلّيّة.

إلا أنّ كلام المشهور يواجه مشكلة ، وهي أنّه ورد في صحيحة ابن سنان تعليل الحكم المستصحب بأنّه كان على طهارة أي بنفس الحدوث لا باليقين بالحدوث ، كما

ص: 180

يظهر من قوله : « لأنّك أعرته إياه وهو طاهر » ، فكان الحكم ببقاء الطهارة الاستصحابيّة مبتنيا على ركنيّة نفس كونه طاهرا في السابق ، وهذا معناه عدم ركنيّة اليقين فلا تكون له موضوعيّة ، بل يكون طريقا كاشفا عن ثبوت الحالة السابقة ، وهذا يعني أنّ كلّ طريق كاشف عن الحدوث والثبوت يقوم مقام اليقين.

وحينئذ فنحن بين أمرين :

إمّا أن تكون رواية ابن سنان قرينة مفسّرة لحمل اليقين في الروايات السابقة على كونه طريقا كاشفا عن الحدوث ، والركن هو نفس حدوث الحالة السابقة في جميع الروايات ، وذكر اليقين كان من أجل المثال الأوضح والأبرز للطريق الكاشف عن الحدوث ، وبالتالي يتمّ الجمع بين الروايات ويكون مفاد الجميع واحدا.

وإمّا ألاّ تصلح هذه الرواية للقرينيّة فيقع التعارض بين الروايات ، والحكم هو التساقط والأخذ بالقدر المتيقّن وهو ركنيّة ( اليقين بالحدوث ) ؛ لأنّ اليقين لا شكّ في أخذه وإنّما الشكّ في أخذ غيره أيضا.

وأمّا إذا لم نأخذ بالقدر المتيقّن فهل يكون لدينا قاعدتان متشابهتان أم لا؟

والجواب بالنفي ؛ لأنّ المفاد واحد والملاك واحد ، فالعرف يرى وحدة القاعدة وعليه لا بدّ من علاج لهذا التعارض بين الأخبار.

وقد نشأت مشكلة من افتراض ركنيّة اليقين بالحدوث وهي : أنّه إذا كان ركنا فكيف يمكن إجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالأمارة إذا دلّت الأمارة على حدوثه وشككنا في بقائه؟!

مع أنّه لا يقين بالحدوث ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة ثوب وشكّ في تطهيره ، أو على نجاسة الماء المتغيّر في الجملة وشكّ في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر.

وهنا إشكال بناء على كون الركن هو اليقين بالحدوث ، وحاصله : أنّه إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بغير اليقين كما إذا دلّت الأمارة على ثبوت شيء ، ثمّ شككنا في بقائه ، فهل يمكن إجراء الاستصحاب هنا مع أنّه لا يقين بالحدوث أم لا؟ مع أنّه لا إشكال عندهم إثباتا في جريان الاستصحاب في مثل قيام الأمارة على الحدوث دون الأصل العملي.

ص: 181

مثال ذلك : أن تقوم الأمارة - كخبر الثقة مثلا - على نجاسة الثوب ثمّ يشكّ بعد ذلك في تطهيره ، فهل يجري استصحاب بقاء نجاسته أم لا؟

وكما إذا قامت الأمارة - كخبر الثقة مثلا - على أنّ الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة نجس ، ثمّ شككنا في بقاء هذه النجاسة بعد زوال التغيّر من نفسه ، فهل يجري استصحاب بقاء كونه نجسا أيضا إلى ما بعد زوال التغيّر أم لا؟

وهذا الإشكال لا يرد فيما إذا كان الركن هو الحدوث ، فإنّه كما يتحقّق الحدوث باليقين كذلك يتحقّق بالأمارة ؛ لأنّها معا طريقان معتبران شرعا ، فأحدهما يحقّق الحدوث وجدانا والآخر يحقّقه تعبّدا ، وإذا تحقّق الموضوع ترتّبت عليه الآثار الشرعيّة ومنها جريان الاستصحاب.

وقد أفيد في جواب هذه المشكلة عدّة وجوه :

الوجه الأوّل : ما ذكرته مدرسة المحقّق النائيني - قدس اللّه روحه - (1) من أنّ الأمارة تعتبر علما بحكم لسان دليل حجّيّتها ؛ لأنّ دليل الحجّيّة مفاده جعل الطريقيّة وإلغاء احتمال الخلاف تعبّدا ، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعي لحكومة دليل حجّيّتها على الدليل المتكفّل لجعل الحكم على القطع.

ومعنى الحكومة هنا أنّ دليل الحجّيّة يحقّق فردا تعبّديّا من موضوع الدليل الآخر ، ومن مصاديق ذلك قيام الأمارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، وحكومة دليل حجّيّتها على دليله.

وهذا الإشكال وجدت عدّة أجوبة عليه لتخريج قيام الأمارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، بحيث يكون ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين كافيا لجريان الاستصحاب مع الاحتفاظ بركنيّة اليقين بالحدوث ، وأهمّ هذه الوجوه هو :

الوجه الأوّل : ما ذكرته مدرسة الميرزا بناء على تصوّرات الميرزا في حقيقة الحكم الظاهري.

وحاصله : أنّ دليل الحجّيّة مفاده جعل العلميّة والطريقيّة للأمارات ، بخلاف الأصول فإنّ مفاد دليلها جعل الوظيفة العمليّة وتحديدها.

وهذا يعني أنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعل الأمارة علما تعبّدا ويلغي احتمال الخلاف

ص: 182


1- فوائد الأصول 3 : 21 - 22.

في موردها ، ولذلك تكون الأمارات على أساس دليل الحجّيّة هذا حجّة كما هو الحال في العلم الوجداني فهي تقوم مقام القطع الطريقي والموضوعي أيضا.

وعلى هذا الأساس فمقتضى جعل الحجّيّة للأمارة هو كونها علما ، وهذا يعني إلغاء الشكّ تعبّدا ، وصيرورة المكلّف عالما بالحدوث تعبّدا.

والسرّ في ذلك هو أنّ أدلّة جعل الحجّيّة للأمارة حاكمة على سائر الأدلّة الأخرى التي أخذ في موضوعها العلم ، ومعنى حكومتها كذلك أنّها توجد فردا تعبّديّا من أفراد الموضوع ، أي أنّها تدّعي وجود فرد آخر من العلم وهو العلم التعبّدي إلى جانب العلم الوجداني ، فكلّ ما أخذ في موضوعه العلم فهو يشمل هذين الفردين.

وعلى هذا فالأمارة التي تثبت نجاسة الثوب تعني أنّ المكلّف صار عالما بنجاسته تعبّدا ، ويجب عليه ترتيب آثار هذا العلم سواء كان على نحو الطريقيّة أم على نحو الموضوعيّة.

ولذلك تكون الأمارة المثبتة للحدوث كالعلم الوجداني المثبّت للحدوث كلاهما يحقّقان اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب ، فيجري الاستصحاب عند الشكّ في البقاء في الحالتين معا ، لتحقّق ركنه وهو اليقين بالحدوث ، فإنّه أعمّ من اليقين الوجداني ومن اليقين التعبّدي الثابت على أساس دليل حجّيّة الأمارة الحاكم على الأدلّة التي جعل الحكم فيها على القطع واليقين والعلم.

وقد تقدّم - في مستهلّ البحث عن الأدلّة المحرزة من هذه الحلقة - المنع عن وفاء دليل حجّيّة الأمارة بإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي ، وعدم صلاحيّته للحاكميّة ؛ لأنّها فرع النظر إلى الدليل المحكوم ، وهو غير ثابت ، فلاحظ.

ويرد عليه : ما تقدّم سابقا في مباحث القطع عند الحديث عن الأدلّة المحرزة من أنّ الأمارات لا تقوم مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يفي بإثبات ذلك فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو قيامها مقام القطع الطريقي ، والسرّ في ذلك أنّ مهمّ أدلّة الحجّيّة هو السيرة العقلائيّة وهي غير قائمة على العمل بالقطع الموضوعي إذ لا وجود له في حياتهم إلا نادرا.

مضافا إلى أنّ حكومة دليل الحجّيّة يحتاج إلى إثبات كونه ناظرا إلى الدليل المحكوم ، وهذا النظر غير محرز في المقام ، فلا تثبت حكومته ، خصوصا وأنّ الدليل

ص: 183

على الحجّيّة هو السيرة وهي غير الشارع فلا تتحقّق الحكومة ؛ لأنّها تختصّ في الكلامين الصادرين من المتكلّم الواحد ؛ لأنّ الحكومة من أقسام القرينيّة المفسّرة للمراد الجدّي كما تقدّم وسيأتي في بحث التعارض.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه (1) وحاصله - على ما قيل في تفسيره - : أنّ اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب ، بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب ، بل يكفي في جريان الاستصحاب الشكّ في البقاء على تقدير الحدوث والثبوت وإن لم يحرز ثبوته وحدوثه ، فيتعبّد بالبقاء على هذا التقدير.

وهذا يستفاد من أدلّة الاستصحاب حيث إنّ مفادها هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ، أي أنّ ما كان ثابتا فهو باق تعبّدا ، فالثبوت كما يتحقّق بالعلم كذلك يتحقّق بالأمارة ؛ لأنّ اليقين المأخوذ في لسان الدليل مأخوذ على نحو المرآتيّة والكاشفيّة ، وهذه الجهة لليقين لا إشكال في قيام الأمارة مقامه فيها ؛ لأنّ المتيقّن من دليل حجّيّتها هو قيامها مقام القطع الطريقي ، أي ما يكون طريقا وكاشفا ومرآة عن الحكم الواقعي.

فكأنّه قال : ما قامت عليه الحجّة ثبوتا فهو باق تعبّدا على أساس أنّ دليل الاستصحاب يتعبّدنا بالملازمة ابتداء بين الحدوث والبقاء.

وقد اعترض السيّد الأستاذ (2) على ذلك ، بأنّ مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة الواقع لزم كونه دليلا واقعيّا على البقاء ، وهو خلف كونه أصلا عمليّا ، ولو كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجّز فكلّما تنجّز الحدوث تنجّز البقاء ، لزم بقاء بعض أطراف العلم الإجمالي منجّزة حتّى بعد انحلاله بعلم تفصيلي ؛ لأنّها كانت منجّزة حدوثا ، والمفروض أنّ دليل الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجّز.

وأشكل عليه السيّد الخوئي بما حاصله : أنّ الملازمة بين الحدوث والبقاء التي

ص: 184


1- كفاية الأصول : 460 - 461.
2- مصباح الأصول 3 : 97 - 98.

يتعبّدنا بها دليل الاستصحاب لا معنى محصّل لها ؛ لأنه إن كان المقصود من هذه الملازمة هو الملازمة الواقعيّة بين الحدوث والبقاء ، فيكون المراد من التعبّد الاستصحابي حينئذ أنّ ما كان حادثا واقعا فهو باق واقعا ، فهذا معناه أنّ الاستصحاب أصبح كاشفا تعبّديّا عن الواقع على أساس هذه الملازمة ، وهذا يجعله داخلا ضمن الأمارات التي تجعل من أجل حيثيّة الكشف فيها.

وهذا خلف كون الاستصحاب أصلا عمليّا ، إذ كونه أصلا يعني أنّه لا يوجد كشف فيه عن الواقع.

وإن كان المقصود من هذه الملازمة هو الملازمة الظاهريّة أي مرحلة التنجّز ، فيكون المراد من التعبّد بهذه الملازمة هو أنّ كلّ ما قام عليه المنجّز ظاهر حدوثا وثبوتا فهو باق على منجّزيّته تعبّدا واستصحابا ، فإذا قامت الأمارة ونحوها ممّا يثبت المنجّزيّة ثبوتا وحدوثا فهذا المنجّز باق تعبّدا فيما إذا شكّ في بقاء منجّزيّته.

إلا أنّ هذا يلزم منه أن تكون أطراف العلم الإجمالي منجّزة بقاء حتّى مع انحلال هذا العلم بعلم تفصيلي ببعض الأطراف ؛ لأنّ المفروض أنّها منجّزة حدوثا بالعلم الإجمالي ويشكّ بعد انحلاله في بقاء منجّزيّتها فتستصحب.

فلو قام لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، فهذا يعني ثبوت المنجّزيّة لهما على أساس منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، ثمّ لو قام لدينا علم تفصيلي بنجاسة هذا الإناء بعينه فهنا سوف ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بنجاسة هذا الإناء وشكّ في نجاسة الآخر.

وهنا بمقتضى ما تقدّم في بحث العلم الإجمالي تجري الأصول المؤمّنة في الإناء الآخر ، وبالتالي يخرج عن المنجّزيّة ، إلا أنّه بناء على كون الاستصحاب يعبّدنا ببقاء ما تنجّز سابقا على أساس الملازمة الظاهريّة بين الحدوث والبقاء فسوف يكون هذا الإناء منجّزا بقاء أيضا ؛ لأنّه كان منجّزا سابقا ويشكّ في بقاء هذه المنجّزيّة لاحقا وبقاء بعد زوال العلم الإجمالي فيجري استصحاب المنجّزيّة. إلا أنّ هذا لا يلتزم به أحد.

وعليه فلم يتحصّل معنى لهذه الملازمة التي يجعلها الشارع ويعبّدنا بها.

وهذا الاعتراض غريب ؛ لأنّ المراد بالملازمة بين الحدوث الواقعي

ص: 185

والبقاء الظاهري ، ومردّ ذلك في الحقيقة إلى التعبّد بالبقاء منوطا بالحدوث ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر.

ويجاب عن هذا الإشكال : بأنّ الملازمة الثابتة تعبّدا بين الحدوث والبقاء ليست هي الملازمة الواقعيّة وليست هي الملازمة الظاهريّة أيضا ، وإنّما هي الملازمة بين الحدوث الواقعي وبين البقاء الظاهري.

بمعنى أنّ ما كان ثابتا واقعا وشكّ في بقائه فهو باق ظاهرا ، وبالتالي يكون مفاد التعبّد الاستصحابي بهذه الملازمة هو التعبّد بالبقاء ظاهرا مشروطا بثبوت الحدوث واقعا.

وعليه فلا يلزم كون الاستصحاب أمارة ؛ لأنّه لا ينظر إلى الواقع ولا يكشف عنه ، بل يثبت بقاء المنجّزيّة ظاهرا وهذا المقدار يفي به الأصل العملي.

ولا يلزم منه النقض المذكور ؛ لأنّ العلم الإجمالي بعد انحلاله بالعلم التفصيلي يعني زوال المنجّز الواقعي عن الطرف الآخر ، فلا يكون هناك منجّز لهذا الطرف بعد الانحلال لكي يتعبّد ببقائه ظاهرا ؛ لأنّ هذا الطرف بعد الانحلال صار مشكوكا بدوا ، وهذا يعني عدم تنجّزه بعد الانحلال فلا يجري استصحاب بقاء التنجّز ؛ لأنّه يعلم بارتفاعه عنه بعد الانحلال.

فهذا الإشكال نشأ من تحديد معنى الملازمة بأحد هذين الاحتمالين مع أنّه يوجد احتمال ثالث لهذه الملازمة وهو ما ذكرناه ، وعلى هذا الأساس فلا إشكال في معنى الملازمة على فرض استظهارها من دليل الاستصحاب.

والصحيح أن يقال : إنّ مردّ هذا الوجه إلى إنكار الأساس الذي نجمت عنه المشكلة - وهو ركنيّة اليقين - المعتمدة على ظهور أخذه إثباتا في الموضوعيّة ؛ فلا بدّ له من مناقشة هذا الظهور وذلك بما ورد في ( الكفاية ) (1) من دعوى : أنّ اليقين باعتبار كاشفيّته عن متعلّقه يصلح أن يؤخذ بما هو معرّف ومرآة له ، فيكون أخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا الأساس ، ومرجعه إلى أخذ الحالة السابقة.

وهذه الدعوى لا بدّ أن تتضمّن ادّعاء الظهور في المعرفيّة ؛ لأنّ مجرّد إبداء

ص: 186


1- كفاية الأصول : 461.

احتمال ذلك بنحو مساو للموضوعيّة يوجب الإجمال وعدم إمكان تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود اليقين.

والصحيح أن يقال : إنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من عدم ركنيّة اليقين بالحدوث ، وإنّما التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء ، مرجعه في الحقيقة إلى إنكار كون اليقين بالحدوث ركنا مقوّما للاستصحاب بحيث يكون دخيلا فيه على نحو الموضوعيّة ، وإنّما أخذ في لسان الروايات بما هو طريق وآلة ومعرّف وكاشف عن متعلّقه ، ولذلك فلا موضوعيّة لليقين ؛ لأنّ غيره من الطرق يؤدّي الدور نفسه من الكشف عن متعلّقه والطريقيّة إليه ، ولذلك يكون مراد صاحب ( الكفاية ) من هذا الوجه إثبات أنّ الركن هو نفس الحالة السابقة والحدوث ، ولا مدخليّة لليقين في ذلك ، ومن هنا تقوم الأمارة بنفس الدور المطلوب من اليقين.

وهذه الدعوى لا يكفي فيها مجرّد الاحتمال ، بل لا بدّ من استظهار كون اليقين المأخوذ في الروايات مأخوذا على نحو الطريقيّة والكاشفيّة والمرآتيّة ، إذ لو لم يستظهر ذلك وكان يحتمل كلا الأمرين ، فمع الشكّ سوف يقتصر على القدر المتيقّن وهو دخالة اليقين بنفسه في الاستصحاب ، وأمّا الأمارة فهي مشكوكة في أنّها تقوم بنفس الدور أم لا من جهة الشكّ والاحتمال في أنّ اليقين موضوع أو طريق.

وبهذا ظهر أنّ الوجه الذي يريده صاحب ( الكفاية ) هو أنّ اليقين بالحدوث ليس ركنا من باب دعوى استظهار أنّ اليقين المأخوذ في لسان أدلّة الاستصحاب هو اليقين الطريقي ، أي ما يكون كاشفا ومرآة وطريقا لا اليقين الموضوعي.

ولذلك تقوم الأمارة الدالّة على الحدوث بنفس ما يقوم به اليقين الدالّ على الحدوث ؛ لاشتراكهما معا في صفة الكاشفيّة والمرآتيّة والطريقيّة.

وأمّا ما ذكره من كون الاستصحاب يعبّدنا بالملازمة بين الحدوث والبقاء على تقدير الحدوث فهذا لا يعني إلغاء ركنيّة الحدوث ، بل يعني التعبّد بالبقاء على تقدير ثبوت الحدوث ، فإذا كان الحدوث ثابتا فعند الشكّ يكون باقيا أيضا تعبّدا.

ويرد عليها : أنّ المقصود بما ادّعي إن كان إبراز جانب المرآتيّة الحقيقيّة لليقين بالنسبة إلى متيقّنه ، فمن الواضح أنّها إنّما تثبت لواقع اليقين في أفق نفس المتيقّن الذي يرى من خلال يقينه متيقّنه دائما ، وليست هذه المرآتيّة ثابتة لمفهوم اليقين ،

ص: 187

فمفهوم اليقين كأيّ مفهوم آخر إنّما يلحظ مرآة إلى أفراده لا إلى متيقّنه ؛ لأنّ الكاشفيّة الحقيقيّة التي هي روح هذه المرآتيّة من شئون واقع اليقين لا مفهومه.

ويرد على ذلك : أنّ اليقين المعرّف والمرآة عن المتعلّق يحتمل فيه أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون المراد من اليقين بما هو صفة من الصفات القلبيّة النفسانيّة أي من المعاني ذات الإضافة التي تحتاج إلى متعلّق ، فيكون اليقين حاكيا ومرآة لمتعلّقه حقيقة وواقعا ؛ لأنّه لا ينفكّ عنه.

فهذا وإن كان صحيحا ولكنّه يصدق على اليقين بالحمل الشائع لا اليقين بالحمل الأوّلي.

وتوضيحه : أنّ اليقين إن لوحظ بالحمل الأوّلي فهو مفهوم يتصوّره الذهن بنحو الاستقلاليّة عن متعلّقه كسائر المفاهيم التي يتصوّرها الذهن ، فمفهوم الإنسان مثلا عبارة عن تلك الصورة الذهنيّة التي تمثّل حقيقة الإنسان التي يتركّب منها وهي الحيوان الناطق ، وهكذا مفهوم اليقين الذي يتصوّره الذهن بالحمل الأوّلي عبارة عن تلك المرتبة من التصديق والإذعان النفسي والتي هي صفة قلبيّة.

وأمّا إن لوحظ بالحمل الشائع أي بواقعه فاليقين يحتاج دائما إلى المتعلّق ، وعليه فالذي يحصل له يقين فهو يرى من خلال يقينه هذا المتعلّق أي المتيقّن ، فيكون اليقين حاكيا ومرآة للمتيقّن ، كما هو الحال بالنسبة لواقع الإنسان فإنّه يحكي عن الأفراد الخارجيّة كزيد وعمرو ... فيرى الإنسان في زيد كما يرى اليقين في المتيقّن.

وهذا يعني أنّ المرآتيّة والحكاية صفة لليقين بما هو ملحوظ بالحمل الشائع ، أي واقع اليقين لا مفهوم اليقين ، بينما في مقامنا المأخوذ في لسان الروايات هو اليقين كمفهوم ، أي تلك الصورة الذهنيّة المتصوّرة بنحو الاستقلاليّة ، وهذه لا حكاية لها عن المتيقّن وليست مرآة له ، ولذلك لا يصحّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من المرآتيّة والحكاية ؛ لأنّها تثبت لليقين بالحمل الشائع أي بواقعه ، ولذا لا يمكن ترتيب المرآتيّة والحكاية على مفهوم اليقين.

ويدلّ على ذلك أنّ الظاهر من ألسنة الروايات أنّ اليقين المذكور فيها هو مفهوم اليقين ، أي تلك الصفة التي لها استحكام في النفس ، ولذلك يكون العمل بالشكّ

ص: 188

نقضا لليقين أي ينقض ما هو مستحكم ومبرم ، لا أنّه ينقض المتعلّق والمتيقّن فإنّه ثابت في أفق نفس المتيقّن حتّى لو كان خطأ وغلطا.

ولذلك لا يكون اليقين طريقا وكاشفا ومرآة ، بل تلك الصفة النفسانيّة فيكون اليقين موضوعيّا.

وإن كان المقصود أخذ اليقين معرّفا وكناية عن المتيقّن فهو أمر معقول ومقبول عرفا ، ولكنّه بحاجة إلى قرينة ، ولا قرينة في المقام على ذلك لا خاصّة ولا عامّة ، أمّا الأولى فانتفاؤها واضح ، وأمّا الثانية فلأنّ القرينة العامّة هي مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة وهي لا تأبى في المقام عن دخل اليقين في حرمة النقض.

الثاني : أن يكون المراد من اليقين المتيقّن ، بمعنى أنّ اليقين الوارد في ألسنة الروايات قد أخذ معرّفا عن المتيقّن بنحو الكناية والتي هي من أفراد المجاز بسبب علاقة الإضافة بينهما.

فهذا وإن كان معقولا في نفسه إذ لا محذور في إطلاق اليقين وإرادة المتيقّن على أساس ملاحظة اليقين بالحمل الشائع ، ومقبولا في العرف على أساس أنّ أهل اللغة والمحاورات العرفيّة يستعملون مثل ذلك من باب المجاز والكناية للمناسبة والعلاقة بين الأمرين.

إلا أنّ إرادة هذا المعنى من الروايات الدالّة على الاستصحاب تحتاج إلى وجود قرينة معيّنة لهذا الاستظهار ، إذ المستظهر بدوا من هذه الألسنة التي ورد اليقين فيها كونه بما هو صفة استحكام في النفس ، أي بما هو ملحوظ بالحمل الأوّلي كمفهوم ذهني يتصوّر مستقلاّ عن متعلّقه.

وهذه القرينة المدّعاة إمّا أن تكون قرينة خاصّة ، وإمّا عامّة ، وكلاهما منتف هنا.

أمّا القرينة الخاصّة فانتفاؤها واضح ؛ إذ لا يوجد في الروايات التي ذكرت كبرى الاستصحاب ما يدلّ على أنّه مأخوذ بالحمل الشائع ، أي حاكيا عن متعلّقه وكناية عن المتيقّن.

وأمّا القرينة العامّة فهي وحدة المناط أو مناسبات الحكم والموضوع ، والتي هي من القرائن العرفيّة العامّة التي تعطي ضوءا وتفسيرا للمقصود والمراد الجدّي في كلام المتكلّم ، والتي من شأنها التوسعة أو التضييق أيضا.

ص: 189

وفي مقامنا حيث ورد « لا تنقض اليقين بالشكّ » فكما يمكن على أساس مناسبات الحكم والموضوع أن يكون المراد من اليقين هو المتيقّن ؛ لكون التعبير بهذا اللفظ تعبيرا عما هو مركوز في الذهن العرفي ، والذي لا يأبى حمل اليقين على المتيقّن ، فكذلك يمكن أن تكون هذه المناسبة بين الحكم والموضوع معيّنة لكون اليقين المذكور في الروايات هو اليقين الموضوعي ، أي يكون له موضوعيّة في نفسه.

لأنّ الشكّ الذي يحرم أن يكون ناقضا لليقين هو تلك الصفة التي تحدث في النفس من التردّد والحيرة ، لا الشكّ بمعنى المشكوك ، إذ المشكوك لا ينقض المتيقّن ؛ لأنّهما أمران تكوينيّان خارجيّان متحقّقان بالفعل ، ولا يمكن لأحدهما أن يرفع الآخر وينقضه.

وإنّما يكون الشكّ بعنوانه ناقضا لليقين بعنوانه أيضا ، فإنّهما من الصفات النفسانيّة القلبيّة التي تتوارد على النفس فيكون أحدهما ناقضا للآخر وهادما له وحالاّ مكانه ، وبهذا يتعيّن حمل اليقين على معناه الأوّلي أي الصورة الذهنيّة بالحمل الأوّلي.

مضافا إلى أنّ اليقين يختلف عن العلم ، فإنّه يشتمل على الاستحكام والتصديق والإذعان بخلاف العلم ، فإنّه عبارة عن الصورة الذهنيّة التي تقبل التصديق والإذعان ، فالتعبير باليقين ظاهر ، بل نصّ في الموضوعيّة لا الطريقيّة والمرآتيّة.

وكان الأولى بصاحب ( الكفاية ) أن يستند في الاستغناء عن ركنيّة اليقين إلى ما لم يؤخذ في لسانه اليقين بالحدوث من روايات الباب.

فالأفضل والأحسن أن يستند صاحب ( الكفاية ) في إلغاء ركنيّة اليقين بالحدوث إلى الروايات التي ذكرت نفس الحدوث والحالة السابقة ، لا إلى ما ذكره من تفسير لليقين فإنّه غير تامّ في نفسه ، ولا يحلّ مشكلة تخريج جريان الاستصحاب في الموارد التي يثبت الحدوث فيها بالأمارة.

الوجه الثالث : أنّ اليقين وإن كان ركنا للاستصحاب بمقتضى ظهور أخذه في الموضوعيّة إلا أنّه مأخوذ بما هو حجّة ، فيتحقّق الركن بالأمارة المعتبرة أيضا باعتبارها حجّة.

الوجه الثالث : ما اختاره مشهور المحقّقين بعد صاحب ( الكفاية ) من أنّ اليقين بالحدوث ركن في الاستصحاب لدلالة ظاهر أخذه في الروايات على كونه مأخوذا

ص: 190

بنحو الموضوعيّة ، فلا بدّ من أن يكون دخيلا بعنوانه في الاستصحاب ، إلا أنّ اليقين له جهات أربع ، وهي :

1 - جهة الصفتيّة والتي هي الإذعان والتصديق القلبي.

2 - جهة الكاشفيّة والطريقيّة عن المتعلّق.

3 - جهة المحرّكيّة والباعثيّة نحو الغرض أو المقصود.

4 - جهة المنجّزيّة والمعذّريّة أي الحجّة.

وهنا اليقين مأخوذ بما هو حجّة ومنجّز للحالة السابقة والحدوث ؛ لأنّ هذا هو المهمّ من جهات اليقين ، ولذلك فيكون مأخوذا بما هو مصداق لعنوان الحجّة ، وعليه فالأمارة الدالّة على الحدوث تكفي لجريان الاستصحاب أيضا ؛ لأنّها تحقّق مصداقا آخر لعنوان الحجّة.

وهذا يعني الورود أي أنّ دليل حجّيّة الأمارات يكون واردا على الحكم الذي أخذ في موضوعه اليقين بمعنى الحجّة ؛ لأنّه يوجد فردا حقيقيّا من أفراد الحجّة.

وهنا لا يشترط النظر أو إحرازه ؛ لأنّ الورود أمر تكويني واقعي سواء كان الدليل ناظرا إليه أم لا ؛ لأنّ الأمر الواقعي يتحقّق بوجود سببه وعلّته ولا يشترط معرفة المتكلّم بذلك.

والحاصل النهائي أن يقال : إنّ مفاد دليل الاستصحاب على هذا المعنى هو ( لا تنقض الحجّة بالشكّ ) ، وكما أنّ اليقين يكون مصداقا للحجّة فكذلك الأمارة تحقّق مصداقا حقيقيّا للحجّة ، فتكون الأمارة الدالّة على الحدوث دالّة على حدوث الحجّة كاليقين ، وهذه الحجّة يتعبّدنا الاستصحاب ببقائها وعدم جواز نقضها.

ويختلف هذا الوجه عن سابقه بالاعتراف بركنيّة اليقين ، وعن الأوّل بأنّ دليل حجّيّة الأمارة على هذا يكون واردا على دليل الاستصحاب ؛ لأنّه يحقّق فردا من الحجّة حقيقة ، وأمّا على الوجه الأوّل فدليل الاستصحاب حاكم لا وارد.

والفرق بين هذا الوجه وبين الوجهين السابقين هو : أنّ هذا الوجه يعترف بركنيّة اليقين بالحدوث ، لكنّه يعطي اليقين معنى يشمل الأمارة أيضا وهو الحجّة.

بينما الوجه الثاني أنكر ركنيّة اليقين بالحدوث على أساس أنّ اليقين الوارد في لسان الأدلّة هو ما يكون مرآة وكاشفا وطريقا إلى المتعلّق والمتيقّن ، وهذا ما يشمل

ص: 191

الأمارات أيضا فيكون التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء ؛ لأنّ العمدة على الحدوث والثبوت للحالة السابقة لا على اليقين بها.

وهذا الوجه يعتبر أنّ دليل حجّيّة الأمارات وارد على دليل الاستصحاب ؛ لأنّ المأخوذ في دليل الاستصحاب هو اليقين كمصداق للحجّة ، فالموضوع في الحقيقة هو ما يكون حجّة ، واليقين يحقّق هذا الموضوع باعتباره فردا ومصداقا حقيقيّا له ، وكذلك دليل الأمارة الذي يعتبر الأمارة حجّة شرعا مفاده جعل المنجّزية والمعذّريّة حقيقة فهي فرد ومصداق للحجّة حقيقة ولكن بلسان التعبّد.

بينما على الوجه الأوّل كان دليل حجّيّة الأمارات حاكما على دليل الاستصحاب ؛ لأنّه كان يوجد فردا تعبّديّا من أفراد العلم ، فهو ينظر إلى الأحكام التي أخذ في موضوعها العلم ويوسّع دائرتها لتشمل العلم الوجداني والعلم التعبّدي أيضا ، ولذلك نحتاج هنا إلى إحراز النظر من الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم بخلاف الورود ، فإنّه لا يحتاج إلى النظر.

ويرد على هذا الوجه : أنّ ظاهر أخذ شيء كونه بعنوانه دخيلا ، فحمله على دخل عنوان جامع بينه وبين غيره يحتاج إلى قرينة.

ويرد على هذا الوجه : أنّ أخذ شيء موضوعا ظاهره كون هذا الشيء بنفسه وبعنوانه الخاصّ هو الدخيل في هذا الموضوع ، لا أنّه دخيل في الموضوع بما هو مصداق وفرد من عنوان آخر لم يذكر ولم تدلّ عليه قرينة.

نعم مع وجود القرينة اللفظيّة أو اللبّيّة على ذلك يمكن الأخذ به ، إلا أنّ هذه القرينة منتفية في المقام ؛ لأنّ القرينة اللفظيّة غير موجودة ، والقرينة اللبّيّة التي يمكن ادّعاؤها هنا هي كون العرف لا يفرّق بين اليقين وغيره من الطرق المعتبرة شرعا لإثبات التنجيز كالأمارة ، إلا أنّها في خصوص المقام لا يمكن قبولها ، وذلك للفرق بين اليقين والعلم ، فإنّ العلم يمكن فيه هذه الدعوى دون اليقين المشتمل على التصديق والإذعان دون العلم.

ولأنّ الشكّ المقابل لليقين لا يمكن حمله إلا على ما يقابل اليقين من مراتب الكشف والتصديق الشامل للظنّ أيضا ، إذ حمله على ما يقابل الحجّة يلزم منه رفع اليد عن اليقين عند تحقّق حجّة على التنجيز ، وهذا يشمل الأصول أيضا ولا يمكن الالتزام به.

ص: 192

والتحقيق أن يقال : إنّ الأمارة تارة تعالج شبهة موضوعيّة كالأمارة الدالّة على نجاسة الثوب ، وأخرى شبهة حكميّة كالأمارة الدالّة على نجاسة الماء المتغيّر ، وعلى التقديرين تارة ينشأ الشكّ في البقاء من شبهة موضوعيّة كما إذا شكّ في غسل الثوب أو زوال التغيّر ، وأخرى ينشأ من شبهة حكميّة كما إذا شكّ في طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف أو ارتفاع النجاسة عند زوال التغيّر من قبل نفسه ، فهناك إذن أربع صور :

والتحقيق في الجواب عن الإشكال المذكور أن يقال : إنّ الأمارة تارة تعالج شبهة موضوعيّة ، وأخرى شبهة حكميّة هذا من جهة الحدوث ، وأمّا من جهة الشكّ في البقاء فهو تارة ينشأ من شبهة موضوعيّة ، وأخرى من شبهة حكميّة ، فهنا صور أربع :

الأولى : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة موضوعيّة أيضا ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الثوب ثمّ شكّ في تطهيره بالماء أو عدم تطهيره.

الثانية : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة موضوعيّة ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر بالنجس ، ثمّ شكّ في بقاء التغيّر أو عدم بقائه.

الثالثة : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة حكميّة ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الثوب ثمّ غسل بالماء المضاف وكان حصول التطهير بالماء المضاف مشكوكا ، أي لا يعلم هل يكفي لحصول الطهارة أم لا؟

الرابعة : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة حكميّة أيضا ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر بالنجس ثمّ شكّ في ارتفاع النجاسة عن الماء لمجرّد زوال التغير من نفسه ، أي أنّ ارتفاع التغيّر هل يكفي في حصول الطهارة أم لا؟

وسوف نتحدّث عن كلّ صورة لنرى أنّ الأمارة هل تكفي في جريان الاستصحاب أم لا؟

الأولى : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة

ص: 193

موضوعيّة أيضا ، كما إذا أخبرت الأمارة بتنجّس الثوب وشكّ في طروّ المطهّر.

وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعيّة ليرد الإشكال القائل بأنّه لا يقين بحدوثها ، بل يمكن إجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين :

الصورة الأولى : أن تقوم الأمارة على شبهة موضوعيّة كما إذا شكّ في نجاسة الثوب فأخبرت الأمارة كخبر الثقة مثلا بأنّ الثوب متنجّس ، ثمّ شكّ في بقاء النجاسة بنحو الشبهة الموضوعيّة أيضا بأن شكّ في أنّ هذا الثوب المتنجّس هل طهّر بالماء أم لا؟

والوجه في كون الشبهة موضوعيّة حدوثا وبقاء هو أنّ الموضوع المشكوك جزئي متشخّص في الخارج ، والحكم معلوم فيهما أيضا فإنّ ملاقاة الشيء للنجس يسبّب النجاسة وتطهيره بالماء يرفعها أيضا ولا شكّ فيهما.

فهنا إذا أردنا استصحاب بقاء نجاسة الثوب الثابتة بالإمارة جرى الإشكال ؛ لأنّها ليست متيقّنة ، فنحتاج إلى إحدى التخريجات المذكورة ، إلا أنّه بالإمكان التعويض عن هذا الاستصحاب بإجراء استصحاب آخر بأحد وجهين لا يرد عليهما الإشكال ، وبالتالي لا نحتاج إلى ما ذكر من التخريجات ، وذلك بأن يقال :

الأوّل : أن نجري الاستصحاب الموضوعي ، فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء ، ومن الواضح أنّ نجاسة الثوب مترتّبة شرعا على موضوع مركّب من جزءين :

أحدهما ملاقاته للنجس ، والآخر عدم طروّ الغسل عليه.

والأوّل ثابت بالإمارة والثاني بالاستصحاب ؛ لأنّ أركانه فيه متوفّرة بما فيها اليقين بالحدوث ، فيترتّب على ذلك بقاء النجاسة شرعا.

النحو الأوّل : أن نجري الاستصحاب الموضوعي ، أي استصحاب عدم غسل الثوب بالماء ، أو عدم طروّ المطهّر للثوب ، فإنّ أركان هذا الاستصحاب تامّة ، أمّا اليقين بعدم غسل الثوب بالماء فهو ثابت للشكّ في تطهير الثوب بعدم قيام الأمارة على تنجّسه ، فإنّه يعلم قبل طروّ هذا الشكّ بأنّ الثوب لم يغسل بالماء ، وأمّا الشكّ في البقاء فهو ثابت وجدانا أيضا ؛ لأنّه يشكّ في تطهيره بالماء أي أنّه يشكّ في غسله بالماء ، فيستصحب عدم غسله بالماء.

وهذا الاستصحاب يحقّق أحد جزأي موضوع نجاسة الثوب ؛ لأنّ نجاسة الثوب

ص: 194

موضوعها مركّب من جزءين : أحدهما : ملاقاة الثوب للنجس ، والآخر : عدم غسل الثوب بالماء ، أو عدم طروّ المطهّر عليه.

والجزء الأوّل وهو الملاقاة ثابت بقيام الأمارة على حدوث النجاسة للثوب.

والجزء الثاني وهو عدم الغسل أو عدم طروّ المطهّر ثابت بالاستصحاب الموضوعي المذكور لتماميّة أركانه.

فتكون النتيجة حينئذ هي بقاء نجاسة الثوب ، وهي نفس النتيجة المتوخّاة من إجراء استصحاب بقاء النجاسة الحادثة بالأمارة ، والتي يرد عليها الإشكال المتقدّم.

الثاني : أنّ الأمارة التي تدلّ على حدوث النجاسة في الثوب تدلّ أيضا بالالتزام على بقائها ما لم يغسل ؛ لأنّنا نعلم بالملازمة بين الحدوث والبقاء ما لم يغسل ، فما يدلّ على الأوّل بالمطابقة يدلّ على الثاني بالالتزام.

ومقتضى دليل حجّيّة الأمارة التعبّد بمقدار ما تدلّ عليه بالمطابقة والالتزام ، فإذا شكّ في طروّ الغسل كان ذلك شكّا في انتهاء أمد البقاء التعبّدي الثابت بدليل الحجّيّة فيستصحب ؛ لأنّه معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

النحو الثاني : أنّ يقال : إن الأمارة الدالّة على الحدوث بالمطابقة تدلّ على البقاء بالالتزام ، وحيث إنّ دليل حجّيّة الأمارة يعبّدنا بالحدوث وبما يترتّب عليه من لوازم شرعيّة فهو يعبّدنا بالبقاء أيضا ، فإذا شكّ في البقاء جرى استصحابه. وتوضيح ذلك : أنّ خبر الثقة يدلّ على نجاسة الثوب أي ملاقاته للنجس ، وهذا مدلول مطابقي ، ويوجد مدلول التزامي مفاده أنّ هذه النجاسة باقية ومستمرّة في عمود الزمان ما لم يعلم بارتفاعها بطروّ المطهّر للثوب ، وهذا المدلول الالتزامي حجّة تعبّدا كالمدلول المطابقي ؛ لأنّ مداليل الأمارات حجّة كما تقدّم في محلّه.

وعليه فنحن على علم وجدانا بالملازمة بين الحدوث والبقاء أي نعلم بأنّه توجد ملازمة بين حدوث النجاسة وبين بقائها ما لم ترتفع بالمطهّر والغسل بالماء ، فإذا شككنا في طروّ المطهّر على الثوب ، فهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ تلك الملازمة بين الحدوث والبقاء هل ارتفعت وانتهى أمدها أم أنّها لا تزال مستمرّة وباقية؟

وحينئذ نجري استصحاب الملازمة ؛ لأنّها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء ، وتكون النتيجة أنّ النجاسة لا تزال باقية في الثوب تعبّدا على أساس الاستصحاب ، وهذا

ص: 195

استصحاب للنجاسة الظاهريّة المغيّاة بالغسل بسبب الشكّ في حصول الغسل.

وهذه النتيجة هي نفس النتيجة المطلوبة من استصحاب نفس النجاسة الحادثة بالأمارة ، والتي يرد عليها ما تقدّم من إشكال ، والتي تحتاج إلى إحدى التخريجات المذكورة آنفا.

الثانية : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة موضوعيّة ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر وشكّ في بقاء التغيّر.

وهنا يجري نفس الوجهين السابقين ، حيث يمكن استصحاب التغيّر ، ويمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهريّة المغيّاة بارتفاع التغيّر للشكّ في حصول غايتها.

الصورة الثانية : أن تقوم الأمارة على شبهة حكميّة ، كما إذا أخبر الثقة : ( بأنّ الماء إذا تغيّر بأوصاف النجاسة فهو يتنجّس ) ، ثمّ يشكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعيّة ، بأن شكّ في بقاء التغيّر أو زواله عن الماء المتغيّر.

وهنا الحدوث الثابت بالأمارة عبارة عن شبهة حكميّة ؛ لأنّ الأمارة تخبر عن حكم كلّي على موضوع كلّي وهو : ( أنّ كلّ ماء تغيّر بأوصاف النجاسة فهو يتنجّس ) فإنّ هذه قضيّة كلّيّة بموضوعها ومحمولها ، وهي ليست موجودة في الخارج بكلّيّتها ، وإنّما في عالم التشريع والجعل.

وأمّا البقاء المشكوك فهو هذا الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة بالفعل هل زال عنه التغيّر أم لا؟ فهو شبهة موضوعيّة ؛ لأنّ الموضوع متشخّص وجزئي وموجود فعلا في الخارج.

فإذا أردنا استصحاب نفس النجاسة الحادثة عند التغيّر فيرد الإشكال ؛ لأنّها غير متيقّنة إذ حدوثها كان ثابتا بالأمارة لا باليقين ، ولذلك نجري الاستصحاب بأحد الوجهين السابقين :

الأوّل : الاستصحاب الموضوعي أي الاستصحاب الذي يحقّق لنا أحد جزأي موضوع الحكم بالنجاسة ، وهو استصحاب بقاء التغيّر المعلوم عند قيام الأمارة على التغيّر ، والمشكوك بقاؤه بسبب الشكّ في زوال التغيّر.

ومع استصحابه يتحقّق أنّ التغيّر لا يزال ثابتا وباقيا ، والجزء الآخر وهو ملاقاة الماء

ص: 196

للنجس ثابتة بالأمارة ، فيتنقّح كلا الجزءين للحكم بالنجاسة ؛ لأنّ موضوعها مركّب من ملاقاة الشيء للنجس ، وبقاء التغيّر بأوصاف النجاسة.

الثاني : الاستصحاب الظاهري أي استصحاب النجاسة الثابتة ظاهرا على أساس الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فإنّ دليل الأمارة كما يعبّدنا بالحدوث فهو يعبّدنا بالبقاء على أساس حجّيّة المدلولين المطابقي والالتزامي معا ، وهنا المدلول المطابقي هو حدوث التغيّر للماء ونجاسته ، والمدلول الالتزامي هو بقاء النجاسة ما لم يعلم بارتفاعها بزوال التغيّر ، وحيث يشكّ في زوال التغيّر فهذا يعني الشكّ في حصول الغاية التي تنتهي عندها هذه الملازمة فيجري استصحاب بقاء أمدها واستمرارها.

وتكون النتيجة بقاء النجاسة أيضا.

الثالثة : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة حكميّة ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة الثوب وشكّ في بقائها عند الغسل بالماء المضاف.

وفي هذه الصورة يتعذّر إجراء الاستصحاب الموضوعي ؛ إذ لا شكّ في وقوع الغسل بالماء المضاف ، وعدم وقوع الغسل بالماء المطلق.

الصورة الثالثة : أن تقوم الأمارة على شبهة موضوعيّة كما إذا أخبر الثقة بنجاسة الثوب ، فهنا الحدوث الثابت بالأمارة عبارة عن شبهة موضوعيّة ؛ لأنّها تعالج أمرا جزئيّا موجودا بالفعل في الخارج وهو الثوب ، ثمّ يشكّ في بقاء هذه النجاسة من باب الشكّ في حكم الماء المضاف ، وأنّه هل يكفي الغسل بالماء المضاف أم لا؟

فهنا بعد أن غسلنا الثوب بالماء المضاف كماء الرمان مثلا نشكّ في حصول الطهارة للثوب.

ووجه الشكّ هنا هو أنّ المطهّريّة هل تتحقّق بالماء المضاف أو أنّه يشترط أن تكون بالماء المطلق فقط؟ فالشكّ في البقاء شبهة حكميّة ؛ لأنّه لا يعلم ما هو حكم الماء المضاف من حيث المطهّريّة وعدمها؟

وفي هذه الصورة لا يمكننا إجراء الاستصحاب الموضوعي المتقدّم سابقا أي استصحاب عدم غسل الثوب بالماء المضاف ؛ لأنّنا نعلم بأنّ الثوب قد غسل بالماء المضاف ولا شكّ لدينا في ذلك ، أو استصحاب عدم الغسل بالماء المطلق ؛ لأنّنا نعلم

ص: 197

بأنّه لم يغسل بالماء المطلق ، وفي حالة العلم لا يجري الاستصحاب كما هو واضح لعدم الشكّ.

والحاصل : أنّه لا يوجد موضوع مشكوك من حيث البقاء ؛ لأنّ الثوب كان نجسا ثمّ غسل بالماء المضاف ، وهذا يعني أنّه لم يغسل بالماء المطلق فهو معلوم الارتفاع ، ولا شكّ في حدوثه فضلا عن الشكّ في بقائه ، وأمّا غسله بالماء المضاف فهو معلوم الحدوث ولا شكّ في بقائه ليجري استصحابه.

فينحصر الشكّ في البقاء هنا من ناحية الشكّ في الحكم أي أنّ حكم الماء المضاف مشكوك فهل هو مطهّر أم لا؟

فيتعيّن جريان الاستصحاب الحكمي ، ولذلك نقول :

ولكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني ؛ لأنّ الأمارة المخبرة عن نجاسة الثوب تخبر التزاما عن بقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهّر الواقعي ، وعلى هذا الأساس يكون التعبّد الثابت على وفقها بدليل الحجّيّة تعبّدا مغيّا بالمطهّر الواقعي أيضا ، فالتردّد في حصول المطهّر الواقعي ولو على نحو الشبهة الحكميّة يسبّب الشكّ في بقاء التعبّد المستفاد من دليل الحجّيّة والذي هو متيقّن حدوثا ، فيجري فيه الاستصحاب.

وأمّا الاستصحاب الحكمي المتقدّم سابقا فهو يجري هنا للعلم به حدوثا والشكّ به بقاء.

وتوضيحه : أنّ الأمارة الدالّة مطابقة على نجاسة الثوب تدلّ بالالتزام على أنّ هذه النجاسة باقية ومستمرّة ما لم يغسل واقعا. وهذه الملازمة بين الحدوث والبقاء معلومة عند قيام الأمارة على نجاسة الثوب.

وعلى هذا فنحن نعلم بالقضيّة القائلة : إنّ هذا الثوب النجس نجاسته باقية ومستمرّة ما لم ينته الأمد ، أو ما لم تحصل الغاية التي ترتفع عندها النجاسة ، وهي حصول المطهّر الواقعي لهذا الثوب.

فإذا غسلنا الثوب بالماء المضاف - والمفروض أنّ حكمه من حيث المطهّريّة مشكوك - فسوف نشكّ في أنّ الغاية التي ترتفع عندها النجاسة هل تحقّقت أم لا؟

والوجه في ذلك : أنّ الماء المضاف لو كان مطهّرا واقعا فالنجاسة ارتفعت لحصول

ص: 198

غايتها أو لانتهاء أمدها ، وإن لم يكن مطهّرا فالملازمة لا تزال على حالها ، وهذا معناه أنّنا نشكّ في بقاء الملازمة بعد العلم بحدوثها فيجري استصحابها ، وبذلك يثبت لدينا البقاء التعبّدي للملازمة والذي أثره هو الحكم ظاهرا بنجاسة الثوب.

وهذه النتيجة هي نفس النتيجة المطلوبة من إجراء استصحاب النجاسة الثابتة بالأمارة مباشرة ، والتي يأتي فيها ما تقدّم من الإشكال.

الرابعة : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة حكميّة أيضا ، كما إذا دلّت على تنجّس الثوب بملاقاة المتنجّس ، وشكّ في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.

الصورة الرابعة : أن تقوم الأمارة على علاج شبهة حكميّة مفادها أنّ ملاقاة الثوب للمتنجّس حكمها هو النجاسة ، كما إذا أخبر الثقة بأنّ ملاقاة الثوب ونحوه للمتنجّس يؤدّي إلى تنجّسه ، فإنّ هذه شبهة حكميّة ؛ لأنّ موضوعها كلّي وحكمها كلّي ، أي أنّه لو فرض تحقّق الملاقاة بين الثوب والمتنجّس فالحكم هو نجاسة الثوب ، ثمّ يشكّ في بقاء نجاسة الثوب بنحو الشبهة الحكميّة أيضا ، كما إذا شكّ في حكم مطهّريّة الماء المضاف ، أي أنّ الثوب لو فرض غسله بالماء المضاف فهل تحصل المطهّريّة أم لا؟ فهذا شكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكميّة ؛ لأنّ الموضوع والحكم فيها كلّيّان قد افترض وجودهما.

وعلاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة ، فإنّ النجاسة المخبر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرّة مغيّاة بطروّ المطهّر الشرعي ، وعلى هذا فالتعبّد على طبق الأمارة يتكفّل إثبات هذا النحو من النجاسة ظاهرا ، ولمّا كانت الغاية مردّدة بين مطلق الغسل والغسل بالمطلق فيقع الشكّ في حصولها عند الغسل بالمضاف ، وبالتالي يقع الشكّ في بقاء التعبّد المغيّى المستفاد من دليل الحجّيّة فيستصحب.

وعلاج هذه الصورة هو نفس علاج الصورة الثالثة ، بمعنى أنّ الاستصحاب الموضوعي لا يجري بينما الاستصحاب الحكمي يجري.

أمّا عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فلأنّ الغسل المفترض وقوعه هو غسل الثوب بالماء المضاف لا بالماء المطلق ، ولذلك لا يجري استصحاب عدم غسله بالماء

ص: 199

المضاف ؛ لأنّه معلوم الحدوث ولا شكّ فيه ، ولا يجري استصحاب عدم غسله بالماء المطلق ؛ لأنّه معلوم الارتفاع ولا شكّ فيه ، وإذ لم يكن في البين شكّ فلا يجري الاستصحاب كما هو واضح.

وأمّا جريان الاستصحاب الحكمي فلأنّ الأمارة الدالّة بالمطابقة على تنجّس الثوب الملاقي للمتنجّس تدلّ بالالتزام على أنّ هذا التنجّس باق ومستمرّ إلى أن يحصل المطهّر الواقعي أو المعتبر شرعا.

وهذا يعني أنّ دليل حجّيّة الأمارة كما يعبّدنا بالمدلول المطابقي وهو تنجّس الثوب ، فكذلك يعبّدنا بثبوت هذه الملازمة ظاهرا ، وهذه الملازمة مغيّاة بحصول المطهّر الواقعي أو الشرعي ، أي أنّها لا ترتفع إلا عند حصول غايتها وانتهاء أمد استمرارها وبقائها.

وعليه فلو غسل الثوب المتنجّس بالماء المضاف سوف يشكّ في تحقّق الغاية التي ترتفع عندها تلك الملازمة.

والوجه في ذلك : هو أنّ المطهّر الشرعي والواقعي هل هو مطلق الغسل الشامل للغسل بالماء المطلق والماء المضاف ، أو أنّه الغسل بالمطلق المختصّ بالغسل بالماء المطلق فقط؟ فإذا غسل بالماء المضاف سوف يشكّ في بقاء الملازمة من جهة الشكّ في تحقّق غايتها ، وحيث إنّ أصل الملازمة معلوم الحدوث عند قيام الأمارة فيجري استصحاب بقائها ، حيث إنّ البقاء مشكوك من جهة الشكّ في حكم الماء المضاف من حيث المطهّريّة.

ويثبت لدينا حينئذ البقاء الظاهري للملازمة والتي أثرها بقاء تنجّس الثوب ؛ لأنّ الرافع لهذه الملازمة مشكوك تحقّقه بنحو الشبهة الحكميّة.

وهذه النتيجة هي نفس النتيجة المطلوبة من إجراء الاستصحاب في بقاء التنجّس الثابت بالأمارة مباشرة ، والذي يرد عليه ما تقدّم من الإشكال.

ففي كلّ هذه الصور يمكن التفادي عن الإشكال بإجراء الاستصحاب الموضوعي ، أو استصحاب نفس المجعول في دليل الحجّيّة ، وجامع هذه الصور أن يعلم بأنّ للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته غاية ورافعا ، ويشكّ في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة.

ص: 200

والحاصل : أنّه في هذه الصور الأربعة أمكننا تفادي الإشكال المتقدّم من عدم جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة على الحدوث ما دام الركن هو اليقين بالحدوث ؛ وذلك لأنّنا لم نستصحب الحكم الحادث بالأمارة مباشرة ، وإنّما أجرينا استصحابا آخر ، وهو إمّا الاستصحاب الموضوعي في بعض الصور ، وإمّا الاستصحاب الحكمي في بعضها الآخر ، وإمّا كلا الاستصحابين معا.

والوجه في ذلك : أنّ الحكم المدلول عليه بالأمارة إن كان له مدلول التزامي يمكن التعبّد به كالمدلول المطابقي ، وكان هذا المدلول الالتزامي عبارة عن قضيّة كلّيّة أو يعالج شبهة حكميّة جرى استصحاب هذه الملازمة وهذا هو الاستصحاب الحكمي ، وإن كان المدلول عليه بالأمارة موضوعا له أمد وغاية ورافع ثمّ شكّ في تحقّق هذا الرافع والغاية ، جرى استصحاب عدم تحقّقه ، وهذا هو الاستصحاب الموضوعي.

ويجمعهما أن يكون لمدلول الأمارة غاية ورافع وأمد ثمّ يشكّ في تحقّقه ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة وإمّا بنحو الشبهة الحكميّة ، فإنّه يجري الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي أو كلاهما ، كما تقدّم آنفا.

نعم ، قد لا يكون الشكّ على هذا الوجه ، بل يكون الشكّ في قابليّة المستصحب للبقاء ، كما إذا دلّت الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال وشكّ في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال ، فإنّ الأمارة هنا لا يحتمل أنّها تدلّ مطابقة أو التزاما على أكثر من الوجوب إلى الزوال ، وهذا يعني أنّ التعبّد على وفقها المستفاد من دليل الحجّيّة لا يحتمل فيه الاستمرار أكثر من ذلك.

وفي مثل هذا يتركّز الإشكال ، لأنّ الحكم الواقعي بالوجوب غير متيقّن الحدوث ، والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجّيّة غير محتمل البقاء ، ويتوقّف دفع الإشكال حينئذ على إنكار ركنيّة اليقين بلحاظ مثل رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة.

استدراك : هناك صور أخرى لا يجري فيها ما ذكرناه من الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي ، والجامع لهذه الصور أن يقال : أن تقوم الأمارة على الحدوث ثمّ يشكّ في البقاء من جهة الشكّ في أنّ ما قامت عليه الأمارة هل له القابليّة للاستمرار والبقاء أو لا؟

ص: 201

أو الشكّ في أنّ ما قامت عليه الأمارة حدوثا لم يكن له غاية وأمد ورافع مفترض شرعا لكي يكون استمراره مغيّا به ، فيكون الشكّ في بقائه من جهة أخرى غير الشكّ في تحقّق الرافع ، والغاية بنحو الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة.

مثال ذلك : أن تقوم الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى زوال الشمس ، ثمّ بعد تحقّق الزوال نشكّ في بقاء وجوب الجلوس أيضا.

فهاهنا دليل حجّيّة الأمارة يعبّدنا بالمدلول المطابقي وهو وجوب الجلوس إلى الزوال ، أي أنّ هذا الوجوب ثابت ومستمرّ إلى الزوال ، فإذا تحقّق الزوال ارتفع وجوب الجلوس المذكور للعلم بتحقّق غايته فعلا.

ولا يوجد مدلول التزامي لهذه الأمارة لكي يعبّدنا به دليل الحجّيّة ؛ لأنّ وجوب الجلوس بعد الزوال غير معلوم إذ هو مسكوت عنه نفيا وإثباتا ، بل وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال المدلول عليه بالمطابقة يعلم بانتفائه ؛ لأنّه مقيّد بالزوال ، ووجوب آخر غيره مماثل له يحتاج إلى دليل خاصّ.

وعليه فلا يوجد لدينا أكثر من وجوب الجلوس إلى الزوال ، وهذا ثابت بالأمارة.

وهنا التعبّد بدليل الحجّيّة للأمارة لا يفيدنا أكثر من ذلك ، فإذا شككنا في وجوب الجلوس بعد الزوال فهذا الشكّ لا يمكن علاجه لا بأصل موضوعي ولا بأصل حكمي.

أمّا الأصل الموضوعي فلأنّ الوجوب قبل الزوال علم بارتفاعه بعد الزوال ، فالمشكوك وجوب آخر لم يكن حادثا سابقا.

وأمّا الأصل الحكمي فلأنّ دليل الحجّيّة للأمارة لا يعبّدنا بأكثر من الملازمة بين الوجوب والبقاء إلى الزوال ، وأمّا بعد الزوال فالشكّ في أمر آخر غير ما هو ثابت بالملازمة.

ولا يمكن علاج هذا الشكّ إلا بما تقدّم سابقا من تخريجات إن تمّت ؛ لأنّ الإشكال هنا مستحكم ، إذ لو كان اليقين بالحدوث ركنا في الاستصحاب فلا يمكن جريان استصحاب وجوب الجلوس قبل الزوال إلى ما بعد الزوال ؛ لأنّ حدوث هذا الوجوب لم يكن باليقين ، بل بالأمارة أي أنّه لا يقين بالحدوث.

ولو كان اليقين بالحدوث معرّفا ونحو ذلك فالأمارة الكاشفة عن الوجوب إنّما

ص: 202

تكشف عنه مقيّدا ومحدّدا بالزوال لا أكثر ، أي أنّ الوجوب لا يحتمل بقاؤه بعد الزوال بل يعلم بارتفاعه ، والشكّ في وجوب آخر غير ما قامت عليه الأمارة.

والأفضل في علاج هذا الإشكال هو ما ذكرناه من إنكار ركنيّة اليقين بالحدوث استنادا إلى رواية عبد اللّه بن سنان التي ذكرت الحالة السابقة فقط ، والتي تصلح لحمل اليقين في سائر الروايات على اليقين الطريقي لا الموضوعي.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الأوّل من أركان الاستصحاب.

* * *

ص: 203

ص: 204

الشكّ في البقاء
اشارة

ص: 205

ص: 206

ب - الشكّ في البقاء

والشكّ في البقاء هو الركن الثاني ، وذلك لأخذه في لسان أدلّة الاستصحاب.

وقد يقال : إنّ ركنيته ضروريّة بلا حاجة إلى أخذه في لسان الأدلّة ، لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ، فإن فرض الشكّ في الحدوث كان مورد قاعدة اليقين ، فلا بدّ إذن من فرض الشكّ في البقاء.

ولكن سيظهر أنّ ركنيّة الشكّ في البقاء بعنوانه لها آثار إضافيّة لا تثبت بالبرهان المذكور ، بل بأخذه في لسان الأدلّة ، فانتظر.

الركن الثاني هو الشكّ في البقاء : ويدلّ عليه أمران :

الأوّل : الروايات الدالّة على الاستصحاب حيث أخذ في لسانها عنوان الشكّ كما في ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) ، وكما في ( كان على يقين ثمّ شكّ ) ، فإنّ الظاهر كون الشكّ في البقاء لا في نفس اليقين.

والثاني : على ما قيل : من أنّ ركنيّة الشكّ ضروريّة ومفروغ عنها ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليها أو أخذها في لسان الأدلّة ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ؛ لأنّه مجعول في مقام الشكّ في الواقع.

وعليه فإن كان الشكّ راجعا إلى نفس الحدوث فهذا يعني أنّ اليقين والشكّ متعلّقان بشيء واحد في زمان واحد ، وهو مورد قاعدة اليقين التي يكون الشكّ فيها ساريا إلى نفس اليقين ، وإن كان الشكّ متعلّقا بالبقاء فهو مورد الاستصحاب ، وهو المطلوب.

إلا أنّ الصحيح وجود فرق بين النحوين من الاستدلال ، ولا يكفي الدليل الثاني لإثبات كون الشكّ راجعا الى البقاء ؛ لأنّه لا يثبت أكثر من لزوم أخذ الشكّ وكونه غير سار إلى اليقين ، وأمّا كونه متعلّقا بالبقاء فهذا لا يثبت به.

ص: 207

مضافا إلى وجود بعض الآثار والثمرات التي لا تترتّب إلا إذا كان عنوان الشكّ بالبقاء مستظهرا من نفس روايات الاستصحاب كما سيأتي لاحقا.

وتتفرّع على ركنيّة الشكّ في البقاء قضيّتان :

ثمّ بعد التسليم والفراغ عن ركنيّة الشكّ في البقاء يوجد هنا ثمرتان مترتّبتان على ذلك وهما :

الأولى : أنّ الاستصحاب لا يجري في الفرد المردّد ، ونقصد بالفرد المردّد حالة القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما إذا علمنا بوجود جامع الإنسان في المسجد وهو مردّد بين زيد وخالد ، ونشكّ في بقاء هذا الجامع ؛ لأنّ زيدا نراه الآن خارج المسجد ، فإن كان هو المحقّق للجامع حدوثا فقد ارتفع الجامع ، وإن كان خالد هو المحقّق للجامع فلعلّه لا يزال باقيا.

وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع إذا كان لوجود الجامع أثر شرعي. ويسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، ولا يجري استصحاب بقاء زيد ولا استصحاب بقاء خالد بلا شكّ.

القضيّة الأولى : في جريان الاستصحاب في الفرد المردّد وعدم جريانه ، وتوضيحه :

المقصود من الفرد المردّد هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، حيث يعلم بالجامع ويشكّ بالفرد ، كما إذا علم بدخول الإنسان إلى المسجد ولكنّه مردّد بين كونه متمثّلا بزيد أو بخالد ، ثمّ يعلم بخروج زيد من المسجد ، فهنا سوف يشكّ في بقاء الجامع من جهة الشكّ في الفرد الذي حقّق هذا الجامع ، فإنّه إذا كان زيد هو المحقّق لجامع الإنسان فحيث إنّ زيدا يعلم بخروجه من المسجد فلا شكّ في البقاء ؛ لأنّه سوف يعلم بخروج الجامع أيضا ، إذ لا وجود له إلا ضمن زيد ، وأمّا وجوده ضمن خالد فيكون مشكوك الحدوث فضلا عن البقاء ، ولكن إذا كان خالد هو المحقّق لجامع الانسان ، فحيث إنّه لا يعلم بخروج خالد من المسجد ؛ لأنّ الخارج هو زيد فسوف يحتمل بقاء جامع الإنسان في المسجد لعدم العلم بخروج خالد منه.

ص: 208


1- في النقطة الثالثة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : استصحاب الكلّي.

وفي هذه الحالة يقال : إنّ استصحاب الجامع يجري إذا كان هناك أثر شرعي مترتّب عليه بقاء ، فلو فرض وجود حكم شرعي مترتّب على موضوع الإنسان كأن قيل مثلا : ( تصدّق على الفقير إذا كان هناك إنسان في المسجد ) ، فهاهنا حيث إنّ جامع الإنسان معلوم الحدوث في المسجد ويشكّ في ارتفاعه عند خروج زيد بسبب الشكّ في كون الإنسان الموجود هو زيدا أو خالدا ، فيجري استصحاب بقاء جامع الإنسان ويترتّب عليه الأثر المفروض ، وهذا ما يسمّى باستصحاب القسم الثاني من الكلّي والذي تقدّم سابقا وسيأتي أيضا.

وأمّا استصحاب الفرد فلا يجري وذلك :

أمّا استصحاب بقاء زيد في المسجد فهو غير تامّ الأركان ؛ للعلم بخروجه من المسجد ، فلا شكّ في البقاء فضلا عن أنّه لا علم بحدوثه تفصيلا.

وأمّا استصحاب بقاء خالد في المسجد فهو غير تامّ أيضا ؛ لأنّه وإن كان لا يعلم بارتفاعه فهو محتمل البقاء إلا أنّه لا يقين بحدوثه ليجري استصحاب بقائه. نعم ، هو مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، وهذا يعني أنّ اليقين ليس فعليّا بل هو تقديري ، وسيأتي البحث حول هذه النقطة عند الحديث عن استصحاب الكلّي.

فكلّ واحد من زيد وخالد لا يمكن جريان الاستصحاب فيهما بعنوانهما الخاصّ ؛ لعدم تماميّة أركان الاستصحاب.

وأمّا استصحاب الفرد المردّد بين زيد وخالد فهل يجري استصحابه أم لا؟

والجواب :

ولكن قد يقال : إنّ الآثار الشرعيّة إذا كانت مترتّبة على وجود الأفراد بما هي أفراد أمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، بأن نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول : إنّه على إجماله يشكّ في خروجه من المسجد ، فيستصحب.

قد يقال : إنّ استصحاب الفرد المردّد يجري فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على وجود الأفراد بما هي أفراد لا على الأفراد بما هي مصاديق وتعيّنات للجامع ، فلو فرض وجود أثر شرعي مترتّب على عنوان دخول زيد أو خالد إلى المسجد فباستصحاب الفرد المردد سوف يترتّب هذا الأثر.

ص: 209

فلو فرض وجود حكم على عنوان زيد وخالد كما إذا فرض ( تصدّق بدرهم إذا كان زيد في المسجد وتصدّق بدرهمين إذا كان خالد في المسجد ).

فهنا إذا جرى استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، سوف يثبت لدينا وجود أحد هذين الفردين في المسجد ، وهذا علم إجمالي منجّز فتجب موافقته القطعيّة ، وذلك بالتصدّق مرّتين مرّة بدرهم ومرّة بدرهمين.

والوجه في جريان هذا الاستصحاب : هو أنّ الفرد المردّد على إجماله معلوم الحدوث ؛ وذلك لأنّه يعلم بدخول شخص أو فرد إلى المسجد ثمّ بعد خروج زيد منه سوف يشك في ارتفاع هذا العنوان الإجمالي فيستصحب بقاؤه ، والمفروض أنّ لبقائه أثرا شرعيّا مترتّبا على الأفراد بما هي أفراد لا بما هي تعيّنات للكلّي ، وحيث لا يعلم أي الفردين هو الداخل والباقي ، فسوف يحصل لدينا علم إجمالي منجّز لكلا الأثرين.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الاستصحاب لا محصّل له ؛ لأنّنا حينما نلحظ الأفراد بعناوينها التفصيليّة لا نجد شكّا في البقاء على كلّ تقدير ، إذ لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض ، وإذا لاحظناها بعنوان إجمالي وهو عنوان الإنسان الذي دخل إلى المسجد فالشكّ في البقاء ثابت.

فإن أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي فهو متعذّر ، إذ لعلّ الفرد هو زيد ، وزيد لا شكّ في بقائه فيكون الركن الثاني مختلاّ.

وإن أريد به إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي فالركن الثاني محفوظ ، ولكنّ الركن الرابع غير متوفّر ؛ لأنّ الأثر الشرعي غير مترتّب بحسب الفرض على العنوان الإجمالي ، بل على العناوين التفصيليّة للأفراد.

والصحيح : أنّ استصحاب الفرد المردّد لا محصّل ولا معنى له ؛ وذلك لأنّ الفرد المردّد إمّا أن يراد به واقع الفرد المردّد أو مفهوم الفرد المردّد.

فإن كان المراد به واقع الفرد المردّد أي أنّنا لاحظنا الأفراد بعناوينها التفصيليّة كزيد بعنوانه الخاصّ وخالد كذلك ، فنكون أردنا من استصحاب الفرد المردّد التوصّل إلى استصحاب بقاء زيد أو خالد ، فهذا الاستصحاب غير تامّ ؛ لأنّه لا يوجد لدينا شكّ في بقاء زيد للعلم بخروجه من المسجد ، ولا يوجد علم بدخول خالد فهو مشكوك الحدوث لا البقاء.

ص: 210

وإن كان المراد به مفهوم الفرد المردّد أي أنّنا لاحظنا العنوان الإجمالي للفرد وهو الفرد الواقعي الذي دخل إلى المسجد من دون تعيين وتشخيص هويّته ظاهرا ، فهذا الاستصحاب وإن كان يتوفّر فيه اليقين والشكّ ؛ لأنّ الفرد بالعنوان الإجمالي معلوم الحدوث ومشكوك البقاء عند خروج زيد ، إلا أنّه مع ذلك لا يجري لاختلال ركنه الرابع.

وبتعبير آخر : إنّ أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي أي بقاء زيد أو خالد بعنوانهما ، فهذا الاستصحاب لا يمكن إجراؤه لاختلال الركن الثاني بالنسبة لزيد إذ لا شكّ في بقائه ، ولاختلال الركن الأوّل بالنسبة لخالد إذ لا يقين بحدوثه ليتعلّق الشكّ في بقائه ، وإنّما الشكّ في بقائه على تقدير حدوثه.

وإن أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي أي الفرد الواقعي الذي دخل إلى المسجد ، فهو وإن كان متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء إلا أنّ الركن الرابع مختلّ ؛ وذلك لأنّ المفروض كون الأثر الشرعي مترتّبا إمّا على الأفراد بعناوينها التفصيليّة الخاصّة ، وإمّا عليها بما هي مصاديق وتعيّنات للجامع الكلّي ، ولا يوجد أثر شرعي مترتّب على عنوان الفرد المردّد ؛ لأنّه لا وجود له في نفسه في الخارج وإنّما الموجود في الخارج الفرد بعنوانه الخاصّ.

فظهر أنّه لا مجال لجريان الاستصحاب في الفرد المردّد لا بعنوانه التفصيلي ولا بعنوانه الإجمالي.

ومن هنا نعرف أنّ عدم جريان استصحاب الفرد المردّد من نتائج ركنيّة الشكّ في البقاء الثابتة بظهور الدليل ، ولا يكفي فيه البرهان القائل بأنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ؛ إذ لا يأبى العقل عن تعبّد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.

وعلى هذا تظهر الثمرة الأولى بين كون الشكّ الذي هو ركن في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء المستفاد من أدلّة الاستصحاب ، وبين كون الشكّ الركن هو الشكّ المقوّم للحكم الظاهري.

فإن قيل : إنّ الركن هو الشكّ في البقاء استنادا إلى ظاهر الأدلّة التي أخذ في لسانها عنوان الشكّ ، فلا يمكن جريان استصحاب الفرد المردّد لا بعنوانه التفصيلي

ص: 211

ولا بعنوانه الإجمالي ؛ لأنّه لا يوجد شكّ في البقاء على أحد الوجهين ولا يوجد يقين بالحدوث على الوجه الآخر.

وأمّا إن قيل : إنّ الركن هو الشكّ المستفاد من كون الاستصحاب حكما ظاهريّا وهو متقوّم بالشكّ ، فهذا الشكّ لا يشترط أن يكون متعلّقا بالبقاء لعدم الدليل على ذلك ، حيث لم يستند في ركنيّته إلى الروايات ، بل إلى هذا البرهان ، وهو لا يثبت أكثر من ركنيّة الشكّ فقط.

ولذلك فيمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد بعنوانه الواقعي أي واقع الفرد الذي دخل إلى المسجد ، ولا يوجد محذور أو مانع عقلي في أن يعبّدنا الشارع بالحكم ببقاء هذا الفرد ، وإلغاء احتمال الارتفاع وإن كان من الممكن أن يكون منطبقا على الفرد المعلوم خروجه والمقطوع ارتفاعه.

فيكون مفاده التعبّد بالبقاء وإلغاء احتمال الارتفاع ، وبالتالي تترتّب الآثار على الفرد الواقعي المستصحب بقاؤه ، وحيث إنّه مردّد بين فردين فيتكوّن علم إجمالي منجّز ، فيجب ترتيب الآثار على كلا الفردين ، ولكن حيث يعلم بخروج زيد فالآثار المترتّبة عليه ترتفع فتبقى الآثار المترتّبة على خالد.

وهذا يتصوّر على المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع ، كما هو مسلك المحقّق العراقي.

والقضيّة الثانية : هي أنّ زمان المتيقّن قد يكون متّصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، وقد يكون مردّدا بين أن يكون نفس زمان المشكوك أو الزمان الذي قبله.

ففي الحالة الأولى يصدق الشكّ في البقاء بلا شكّ.

وأمّا الحالة الثانية فمثالها أن يحصل له العلم إجمالا بأنّ هذا الثوب إمّا تنجّس في هذه اللحظة أو كان قد تنجّس قبل ساعة وطهّر ، فالنجاسة معلومة التحقّق في هذا الثوب أساسا ولكنّها مشكوكة فعلا ، وزمان المشكوك هو اللحظة الحاضرة ، وزمان النجاسة المتيقّنة لعلّه نفس زمان المشكوك ولعلّه ساعة قبل ذلك.

القضيّة الثانية : في جريان الاستصحاب مع عدم اتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك.

وتوضيحه : أنّ زمان المتيقّن تارة يكون متّصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، كما

ص: 212

إذا علم بنجاسة الثوب صباحا ثمّ شكّ في تطهيره عند الزوال ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب لتماميّة أركانه.

أمّا اليقين بالحدوث فهو ثابت عند الصباح ، وأمّا الشكّ في البقاء فهو ثابت عند الزوال ، وزمان المتيقّن أي الصباح متّصل بزمان المشكوك أي الزوال ، إذ لا يوجد فترة زمنيّة لم يكن فيها الثوب متّصفا بأحد الأمرين أي اليقين بالنجاسة والشكّ في بقائها ، وزمان المتيقّن أيضا سابق على زمان المشكوك ومتقدّم عليه.

وأخرى يكون زمان المتيقّن مشكوك الاتّصال بزمان المشكوك ، أي أنّه مردّد بين أن يكون زمانه سابقا على زمان المشكوك أو أنّهما حدثا معا ، كما إذا علم إجمالا بأنّ الثوب قد تنجّس إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، إلا أنّه إذا كان قد تنجّس قبل ساعة فيحتمل ارتفاع النجاسة عنه وذلك لاحتمال تطهيره قبل هذا الآن ، وأمّا إن كان قد تنجّس الآن فنجاسته مستمرّة ، وهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين.

فهنا أصل حدوث النجاسة في الثوب معلوم من حيث إنّها قد حدثت في الثوب إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، فالشكّ ليس في حدوثها وإنّما الشكّ والترديد في تاريخها ، وأمّا زمان المشكوك فهو في هذا الآن الزماني أي اللحظة الحاضرة الحاليّة ؛ لأنّه إن كانت النجاسة حادثة قبل ساعة فيحتمل ارتفاعها بالطهارة الآن ؛ لأنّه يحتمل طروّ الطهارة على الثوب قبل هذا الآن ، وإن حدثت في هذا الآن فهذا يعني أنّ النجاسة لا تزال باقية ؛ لأنّها حدثت بعد الطهارة المعلومة سابقا.

وحينئذ حيث إنّ زمان المشكوك هو اللحظة الحاليّة وحيث إنّ زمان المتيقّن مردّد ، أي أنّه يحتمل أن يكون سابقا على زمان المشكوك ومتّصلا به ، ويحتمل أن يكون نفس زمان المشكوك ، فهذا يعني أنّ زمان المتيقّن لم يتّصل بزمان المشكوك أو على الأقلّ لا يحرز اتّصاله به وسبقه عليه ، وهذا يسبّب مشكلة في جريان الاستصحاب كما يظهر من اشتراط اتّصال الزمانين وعدم انفصالهما في جريان الاستصحاب.

وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ من المحتمل وحدة زمانيّ المشكوك والمتيقّن ، وعلى هذا التقدير لا يكون أحدهما بقاء للآخر ، فالشكّ إذا لم يحرز كونه شكّا في البقاء ، وبذلك يختلّ الركن الثاني ، فلا يجري

ص: 213

الاستصحاب في كلّ الحالات التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين زمان المشكوك وما قبله.

وهنا إشكال ذكره صاحب ( الكفاية ) وهو ما يسمّى بشبهة انفصال زمان اليقين عن الشكّ.

وحاصله : أنّ الاستصحاب في الحالات المذكورة - التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين أن يكون سابقا على زمان المشكوك أو نفس زمان المشكوك والتي تسمّى بتوارد الحالتين - لا يمكن إجراؤه وذلك لاختلال ركنه الثاني وهو عنوان ( الشكّ في البقاء ).

ببيان : أنّ زمان المتيقّن لو فرض سابقا على زمان المشكوك فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ عنوان الشكّ في البقاء يكون محقّقا ، حيث إنّه على هذا الفرض يكون قبل ساعة لدينا يقين ثمّ الآن نشكّ في بقائه.

وأمّا لو فرض كون زمان المتيقّن هو نفس زمان المشكوك ، أي أنّه في هذا الآن الزماني واللحظة الحاضرة هل الثوب تنجّس الآن أو لا يزال متنجّسا سابقا؟ فإذا تنجّس الآن فهذا يعني أنّه متنجّس بنجاسة غير مشكوكة البقاء ؛ بل مشكوك الحدوث ؛ لأنّ النجاسة المشكوكة البقاء هي نجاسة أخرى غير هذه التي يشكّ في حدوثها الآن ، إلا أنّ هذه النجاسة المشكوكة البقاء إنّما هي مشكوكة كذلك على تقدير حدوث هذه النجاسة قبل ساعة لا حدوثها الآن ، فالشكّ في البقاء تقديري لا فعلي.

والحاصل : حيث إنّنا نحتمل أن يكون زمان المتيقّن هو نفس زمان المشكوك فهذا يعني أنّنا لا نحرز عنوان ( الشكّ في البقاء ) ؛ لأنّ النجاسة الحادثة الآن ليست بقاء لنجاسة سابقة وإنّما هي نجاسة جديدة طارئة ، ولأنّ النجاسة المشكوكة ليست هي هذه النجاسة التي تحدث الآن ، بل يفترض أن تكون نجاسة أخرى غيرها موجودة قبل الآن ، وهذه النجاسة السابقة غير معلومة لكي يتعلّق الشكّ ببقائها.

ففي مثل هذا الفرض لا نحرز عنوان الشكّ في البقاء فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الثاني.

ومن هنا تظهر لنا الثمرة الثانية بين المسلكين في الاستدلال على الشكّ بالبقاء.

ص: 214

فإذا أخذنا بالروايات فلا بدّ من إحراز عنوان الشكّ بالبقاء وهو غير محرز في المقام ، فالإشكال وارد لاختلال الركن الثاني.

وإذا أخذنا بذاك البرهان فإنّه يفترض ضرورة وجود الشكّ لا أكثر ، ولا يقتضي لزوم كون الشكّ في البقاء ، وعنوان الشكّ هنا محرز وجدانا فيجري الاستصحاب لتماميّة الأركان من اليقين بالحدوث والشكّ.

ويمكن دفع الاستشكال : بأنّ ( الشكّ في البقاء ) بعنوانه لم يؤخذ صريحا في لسان روايات الاستصحاب ، وإنّما أخذ ( الشكّ ) بعد ( اليقين ) ، وهو يلائم كلّ شكّ متعلّق بما هو متيقّن الحدوث سواء صدق عليه ( الشكّ في البقاء ) أو لا.

وجواب الإشكال : أن يقال : إنّ عنوان الشكّ في البقاء لم يؤخذ صريحا في روايات الاستصحاب ، وإنّما المأخوذ فيها عنوان الشكّ بعد اليقين ، أي لا بدّ أن يكون لدينا عنوانان ( اليقين والشكّ ) وكلاهما متعلّقان بموضوع واحد أو بقضيّة واحدة ، فإذا كان لدينا يقين بنجاسة الثوب فلا بدّ أن يكون لدينا شكّ في نجاسته أيضا لكي يجري الاستصحاب ، فالركن هو أن يتعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين.

وفي مقامنا حيث نعلم بنجاسة الثوب إمّا الآن وإمّا قبل ساعة فعنوان اليقين بالحدوث متحقّق ، وحيث إنّنا نعلم بطروّ المطهّر قبل هذا الآن ، فهذا يعني أنّنا نشكّ في نجاسة هذا الثوب وطهارته في هذا الآن فيجري الاستصحاب.

إلا أنّ استصحاب النجاسة المتيقّنة يتعارض باستصحاب الطهارة المعلومة أيضا قبل هذا الآن ، وهذا يعني أنّه في موارد توارد الحالتين يجري كلّ من استصحاب النجاسة واستصحاب الطهارة ويتعارضان ويتساقطان.

فظهر أنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّ عنوان ( الشكّ في البقاء ) لم يذكر صريحا في الروايات ، بل المأخوذ فيها عنوان الشك فقط ، وهذا ثابت بالبرهان المذكور أيضا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدّي إلى أنّ الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه لا من أجل التعارض.

فإذا علم بالحدث والطهارة وشكّ في المتقدّم منهما ، فهو يعلم إجمالا بالحدث إمّا الآن أو قبل ساعة ويشكّ في الحدث فعلا ، فزمان الحدث المشكوك هو الآن

ص: 215

وزمان الحدث المتيقّن مردّد بين الآن وما قبله ، فلا يجري استصحاب الحدث ، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة.

وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ثمّ إنّ الإشكال المتقدّم إن تمّ في مقامنا وقلنا بأنّ الاستصحاب لا يجري لعدم إحراز عنوان الشكّ في البقاء ، فسوف يرد نفس هذا الإشكال في سائر موارد توارد الحالتين ، فيكون الاستصحاب ساقطا من نفسه لا أنّه يسقط بسبب التعارض ، وأمّا إن لم يتمّ الإشكال وقبلنا العلاج الذي ذكرناه فالاستصحاب في موارد توارد الحالتين تام ويجري إلا أنّه يسقط بسبب المعارضة.

وتوضيح ذلك : إذا علم المكلّف بالطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر ، فهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين ، أي أنّه يعلم بطروّ الحدث ويعلم بحصول الطهارة ولكنّه لا يدري أيّهما المتقدّم والمتأخّر ، فإن كان الحدث هو المتقدّم فهذا يعني أنّه الآن على طهارة ، وإن كانت الطهارة هي المتقدّمة فهذا يعني أنّه الآن محدث.

والسؤال هنا هل يجري استصحاب الحدث في نفسه وكذا استصحاب الطهارة في نفسها أو لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف الصياغة للركن الثاني للاستصحاب ؛ وذلك إن كان الركن هو ( الشكّ في البقاء ) فسوف لا يجري كلا هذين الاستصحابين ؛ لأنّه يشترط حينئذ أن يكون زمان المشكوك متّصلا بزمان المتيقّن ، أي أنّه متأخّر عنه ، وهذا الشرط لا يحرز تحقّقه في المقام ، وذلك أنّ المكلّف يعلم إجمالا في هذا الآن واللحظة الحاضرة إمّا أنّه محدث الآن وإمّا أنّه قد أحدث قبل ساعة مثلا.

ففي هذا الآن يشكّ فعلا في الحدث ؛ لأنّ الحدث إن كان قبل ساعة فقد ارتفع بطروّ الطهارة عليه ، وإن كان الحدث الآن فهو باق لتأخّره عن الطهارة ، فزمان الشكّ هو الآن واللحظة الحاضرة بينما زمان المتيقّن مردّد بين أن يكون الآن وبين أن يكون قبل ساعة ، ولذلك لا يحرز اتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك ؛ لأنّ زمانه إمّا الآن أو قبل ساعة.

وهذا يعني أنّ عنوان ( الشكّ في البقاء ) غير محرز ؛ إذ على تقدير كون الحدث

ص: 216

متحقّقا قبل ساعة فالشكّ في الحدث يكون بقاء ، ولكنّه على تقدير كونه متحقّقا الآن فالشكّ في الحدث ليس بقاء.

فبناء على كون الركن هو الشكّ في البقاء لا يجري استصحاب الحدث ؛ لأن هذا العنوان غير محرز.

وأمّا بناء على كون الركن ما ذكرناه من كون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين فيجري الاستصحاب ؛ لأنّ اليقين متعلّق بالحدث والشكّ متعلّق بالحدث أيضا.

وهكذا يقال بالنسبة للطهارة حيث إنّ المكلّف يعلم بالطهارة إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، فهو على شكّ فعليّ الآن لكن زمان المتيقّن لا يحرز كونه متّصلا بزمان المشكوك ؛ لأنّه مردّد بين هذا الآن وبين ما قبل ساعة ، فإن كان الآن فلا اتّصال وإن كان قبل ساعة فهناك اتّصال ، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز كون الشكّ شكّا في البقاء ، بينما يجري لو أنكرنا ركنيّة الشكّ في البقاء.

والنتيجة : أنّه في حالة توارد الحالتين إن قلنا بركنيّة الشكّ في البقاء سوف لا يجري استصحاب الحدث أو الطهارة ، فيكون الاستصحاب ساقطا في نفسه لعدم توفّر أركانه ، وإن قلنا بركنيّة تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين فسوف يجري كلا الاستصحابين ولكنّهما يتعارضان ويتساقطان.

وبهذا ظهر أنّ من ثمرات القول باتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك هو عدم جريان الاستصحاب في نفسه في موارد توارد الحالتين ، وسيأتي مزيد تفصيل للمسألة لاحقا.

ثمّ إنّ هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغة أخرى ، فيقال : إنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين بالشكّ ، ويفرّع على ذلك : بأنّه متى ما لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضا لليقين باليقين ، فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب.

وقد مثّل لذلك : بما إذا علم بطهارة عدّة أشياء تفصيلا ثمّ علم إجمالا بنجاسة بعضها ، فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي لمّا كان مردّدا بين تلك الأشياء فكلّ واحد منها يحتمل أن يكون معلوم النجاسة ، وبالتالي يحتمل أن يكون رفع اليد عن

ص: 217

الحالة السابقة فيه نقضا لليقين باليقين ، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.

الصياغة الثانية لركنيّة الشكّ هي ما ذكره الميرزا من كون الركن هو أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه أنّه نقض لليقين بالشكّ ، ففي كلّ حالة يحرز ذلك يجري الاستصحاب.

وأمّا إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه عنوان نقض اليقين باليقين ، أو كان يحتمل ذلك فلا يجري الاستصحاب.

أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّه القدر المفروغ عنه ، فإذا علم بالنجاسة ثمّ علم بالطهارة بعدها فلا إشكال في أنّ اليقين بالطهارة ينتقض باليقين بالنجاسة ؛ لأنّه نقض لليقين باليقين.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ احتمال صدق عنوان نقض اليقين باليقين معناه أنّه لا يحرز كون رفع اليد هنا من باب نقض اليقين بالشكّ ، وما دام هذا العنوان غير محرز فلا يجري الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه أو لعدم تحقّق موضوعه ؛ وذلك لأنّ الحكم وهو حرمة النقض إنّما تثبت على موضوعها فقط وهو أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ ، فما لم يحرز ذلك سوف لا يحرز موضوع الحرمة فلا تثبت.

ثمّ ذكروا مثالا لذلك وهو : فيما إذا علم بطهارة عشرة إناءات بنحو تفصيلي ثمّ علم إجمالا بنجاسة إناء منها.

فهنا لا يجري استصحاب الطهارة في أيّ واحد من الإناءات ، وذلك لعدم إحراز عنوان نقض اليقين بالشكّ ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال يحتمل انطباقه على كلّ واحد من هذه العشرة ، فكلّ واحد منها يحتمل أن يكون هو النجس فيكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين باليقين لا بالشكّ ، وما دام هذا الاحتمال موجودا فلا يمكن إجراء الاستصحاب لعدم إحراز موضوعه أو أركانه ، وهو كون رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ ، ولذلك فلا يجري استصحاب الطهارة في كلّ واحد من هذه الإناءات العشرة في نفسه لعدم تماميّة أركانه ، لا أنّه يجري ويسقط بالمعارضة مع الاستصحاب في الآخر.

ص: 218

وأمّا إذا لم نأخذ بهذه الصياغة وأخذنا بما تقدّم من كون الركن هو ( الشكّ في البقاء ) فكلّ واحد معلوم الطهارة سابقا ويشكّ في نجاسته لاحقا فيجري الاستصحاب ، ولكن لا يمكن الأخذ بالاستصحاب فيها جميعا ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد العشرة ، ولا يمكن الأخذ به في بعضها دون البعض الآخر فتتعارض وتتساقط.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي ليس متعلّقا بالواقع بل بالجامع ، فلا يحتمل أن يكون أيّ واحد من تلك الأشياء معلوم النجاسة.

ويرد على هذا : أوّلا : أنّنا لو سلّمنا هذه الصياغة إلا أنّ المثال المذكور غير تامّ ؛ لأنّ أركان الاستصحاب فيه تامّة حتّى على الصياغة الجديدة ، حيث إنّنا كنا على يقين بطهارة كلّ واحد من الإناءات العشرة ، فاليقين بالحدوث متحقّق ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة أحدها ، وهذا العلم الإجمالي بناء على ما هو الصحيح والمختار متعلّق بالجامع لا بالواقع ، أي أنّنا نعلم بوجود كلّي النجاسة وجامع النجاسة بين هذه العشرة ، ولكن كلّ فرد منها مشكوك كونه النجس بخصوصيّاته ، وهذا يعني أنّنا إذا أخذنا كلّ إناء وحده فقد كنّا على يقين من طهارته ثمّ شككنا فيها فيجري استصحاب بقائها ؛ لأنّ رفع اليد عنه معناه رفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة بالشكّ ، فهو من نقض اليقين بالشكّ.

ولا يحتمل أن يكون من باب نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ اليقين بالنجاسة متعلّق بالجامع لا بالفرد ولا يسري هذا العلم من الجامع إلى الفرد إلا بعد حصول العلم التفصيلي.

وعليه فيجري الاستصحاب في كلّ الإناءات ولكنّه لا يمكن الأخذ به فيها جميعا ، ولا في بعضها دون البعض بسبب العلم الإجمالي المنجّز فيقع التعارض بينها ويحكم بتساقطها.

وثانيا : لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع فهو يتعلّق به على نحو يلائم مع الشكّ فيه أيضا ، ودليل الاستصحاب مفاده أنّه لا يرفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ مورد يكون بقاؤها فيه مشكوكا ، وهذا يشمل محلّ الكلام حتّى لو انطبق العلم الإجمالي بالنجاسة على نفس المورد أيضا.

ص: 219

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع كما هي مقالة المحقّق العراقي ، إلا أنّه مع ذلك يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه في المقام ؛ وذلك لأنّ العلم بالفرد ليس علما وجدانيّا ، وإنّما هو علم إجمالي.

وهذا العلم الإجمالي على ما فسّره المحقّق العراقي يتلاءم مع الشكّ ، أي أنّه يجتمع مع الشكّ أيضا ، فكلّ واحد من الإناءات يحتمل فيه أن يكون هو المعلوم بالإجمال ، لكن رفع اليد عن الحالة السابقة فيه يعتبر نقضا لليقين بالشكّ لا باليقين ، فيجري الاستصحاب فيه مع ملاحظة الشكّ المصاحب لليقين.

وحيث إنّ دليل الاستصحاب مفاده عدم جواز رفع اليد عن الحالة السابقة التي يصدق عليها أنّها من باب رفع اليقين بالشكّ ، فالمهمّ حينئذ كون البقاء مشكوكا أو كون رفع اليد مشكوكا سواء كان إلى جانب هذا الشكّ يقين أم لا ، إذ لا يضرّ وجوده ما دام عنوان النقض بالشكّ متحقّق وما دام النقض لم يستند إلى اليقين.

وبتعبير آخر : أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن الحالة السابقة حيث يكون رفع اليد عنها يصدق عليه أنّه نقض لليقين بالشكّ ، فما دام هذا العنوان موجودا حرم النقض وجرى الاستصحاب لإثبات البقاء التعبّدي ، سواء كان إلى جانب هذا الشكّ يقين أم لا ؛ لأنّ وجوده إلى جانب الشكّ لا يضرّ ، وإنّما الذي يضرّ هو أن يكون النقض مستندا إلى اليقين نفسه فإنّه حينئذ لا يجري الاستصحاب.

وفي مقامنا حيث إنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالواقع عبارة عن العلم المشوب بالشكّ لا العلم وحده ، فيكون كلّ واحد من الأفراد - وإن كان من المحتمل انطباق الواقع عليه - مشكوك البقاء ، ويكون رفع اليد عن حالته السابقة - أي الطهارة في موردنا - نقضا لليقين السابق بالشكّ اللاحق ، إذ لا يوجد يقين لكي ننقض به اليقين السابق ، وإنّما الموجود هو اليقين المشوب بالشكّ لا اليقين وحده. وما دام الشكّ موجودا فيصدق نقض اليقين بالشكّ.

نعم ، هذا الاستصحاب يجري في كلّ الأطراف ولذلك يقع التعارض والتساقط بسبب العلم الإجمالي المنجّز.

فإن قيل : بل لا يشمل ؛ لأنّنا حينئذ لا ننقض اليقين بالشكّ بل باليقين.

كان الجواب : أنّ ( الباء ) هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشكّ ، وإلا

ص: 220

للزم إمكان النقض بالقرعة أو الاستخارة ، بل يراد بذلك أنّه لا نقض في حالة الشكّ وهي محفوظة في المقام.

قد يقال : إنّنا إذا سلّمنا بكون العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع أي بالفرد غاية الأمر كون هذا العلم مشوبا بالشكّ ، فإنّه حينئذ سوف يكون رفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ فرد من الإناءات يصدق عليه عنوان نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ كلّ فرد يحتمل أن يكون هو المعلوم بالإجمال ، فيحتمل أن يكون رفع اليد عن الطهارة السابقة فيه رفعا باليقين لا بالشكّ ، ودليل الاستصحاب ينهى عن نقض اليقين بالشكّ ، أي إذا كان الشكّ هو الذي استندنا إليه بالنقض فيكون هناك حرمة ، وأمّا إذا لم يكن المستند هو الشكّ فلا حرمة سواء كان هناك شكّ أم لا ، وهنا نستند في النقض إلى اليقين المجتمع مع الشكّ لا إلى الشكّ نفسه ، فلا حرمة ، وبالتالي لا يجري الاستصحاب.

والجواب على ذلك : أنّ هذا يتمّ فيما إذا كانت الباء في كلمة ( بالشكّ ) بمعنى السبب ، فيكون المعنى أنّه لا يجوز نقض اليقين ورفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة بسبب الشكّ ، إلا أنّ الصحيح أنّها بمعنى المورد والظرف ، أي أنّه في مورد الشكّ وظرفه لا يجوز النقض سواء كان النقض مستندا إلى نفس الشكّ أو إلى اليقين المجتمع معه.

وفي المقام اليقين الإجمالي مشوب بالشكّ فيصدق كون النقض في ظرف الشكّ.

ولو كانت ( الباء ) بمعنى السبب للزم جواز نقض اليقين بالقرعة أو بالاستخارة ؛ لأنّه ليس نقضا لليقين بالشكّ ، وهذا لا يمكن الالتزام به أصلا (1).

الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني :

وقد يقال : إنّ الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة

ص: 221


1- بل إنّ أصل الكلام مغالطة ؛ لأنّ العلم الإجمالي وإن كان عبارة عن العلم المصاحب للشكّ إلا أنّ حقيقته هذه ليست بمعنى التركيب الحقيقي من الجزءين المذكورين ، وإنّما هو تركيب تحليلي ؛ إذ لا يوجد إلا صورة واحدة بالتحليل تنقسم إلى ما ذكر ، وعليه فالمستند إلى هذه الصورة بقسميها لا إلى أحدهما بخصوصه ؛ إذ لا وجود له مستقلّ عن الآخر ، وما ذكر من النقض بالقرعة والاستخارة لا يتمّ ؛ لأنّ الروايات حصرت نقض اليقين باليقين فقط فلا يشملهما الجواز كما لا يشملهما التحريم.

الحكميّة ، كما إذا شكّ في بقاء نجاسة الماء أو حرمة المقاربة بعد زوال التغيّر أو النقاء من الدم ؛ وذلك لأنّ النجاسة والحرمة وكلّ حكم شرعيّ ليس له وجود وثبوت إلا بالجعل ، والجعل آني دفعي ، فكلّ المجعول يثبت في عالم الجعل في آن واحد من دون أن يكون البعض منه بقاء للبعض الآخر ومترتّبا عليه زمانا.

فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زمانا في عالم الجعل ، وعليه فلا شكّ في البقاء بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلا ، بل المتيقّن حصّة من الجعل والمشكوك حصّة أخرى منه ، فلا يجري استصحاب النجاسة أو الحرمة.

قد يقال : إنّ الاستصحاب لا يمكن جريانه في الشبهات الحكميّة بناء على أخذ ركنيّة الشكّ سواء كانت بعنوان الشكّ بالبقاء أم كانت بعنوان الشكّ بما تعلّق به اليقين.

وتوضيح ذلك : أنّ الشكّ في الشبهات الحكميّة يعني الشكّ في الحكم ، والشكّ في الحكم إن كان مباشرة وبلا توسّط الشكّ بالموضوع أو بقيوده فهذا يعني الشكّ في النسخ ، والذي يجري فيه استصحاب عدم النسخ ، إلا أنّ موارد هذا النحو من الشكّ قليلة جدّا ونادرة.

فلا بدّ أن يكون الشكّ في الحكم ناشئا من الشكّ في الموضوع بمعنى أنّ هناك بعض القيود والخصوصيّات التي يشكّ في دخالتها كانت موجودة ثمّ ارتفعت ، ولذلك يشكّ في الموضوع وبالتالي يشكّ في الحكم.

كما إذا علمنا بنجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجس ثمّ زالت هذه الأوصاف من نفسها من دون تطهير بالماء ، فهنا سوف نشكّ في أنّ هذا الماء الذي زال التغيّر عنه هل هو نجس أم طاهر؟ فهذا شكّ في الحكم.

وكما إذا علمنا بحرمة مقاربة المرأة الحائض أثناء نزول الدم ، إلا أنّه بعد انقطاع الدم عنها وقبل اغتسالها سوف نشكّ في أنّه يجوز مقاربتها أم لا؟ فهذا شكّ في الحكم أيضا.

فهل يجري استصحاب الحكم السابق أي استصحاب بقاء نجاسة الماء حتّى بعد زوال التغيّر من نفسه؟ وهل يجري استصحاب بقاء حرمة وطء المرأة حتّى بعد انقطاع الدم عنها وقبل اغتسالها؟

ص: 222

قد يقال : إنّه لا يجري ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني.

وبيانه : أنّ الأحكام الشرعيّة عالمها الجعل والتشريع ؛ لأنّها اعتبارات شرعيّة تصدر من الشارع على موضوعها المفترض والمقدر الوجود ، وهذا يعني أنّ الحكم بكلّ حصصه موجود في عالم الجعل ، ولا يوجد تدرّج فيها ، بمعنى أنّه يوجد في آن واحد بكلّ حصصه دفعة واحدة ، وليس هناك ترتّب في الزمان بين بعض هذه الحصص مع البعض الآخر.

فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها ( أي الماء المتغيّر فعلا والماء الذي زال عنه التغيّر من نفسه بعد أن كان متغيّرا ) وحرمة مقاربة المرأة الحائض بتمام حصصها ( أي المرأة التي يسيل منها الدم والتي انقطع عنها الدم قبل طهرها واغتسالها ) ، وحينئذ فإمّا أن نعلم بهذا الحكم الموجود في عالم الجعل فلا يكون لدينا شكّ ، وإمّا ألاّ نعلم به فلا يقين ، وإمّا أن نعلم ببعض حصصه دون البعض الآخر ، فيكون لدينا يقين بالبعض الذي علم به ولا شكّ فيه وجهل بالبعض الآخر ولا علم فيه.

وفي مقامنا نعلم ببعض الحصص ونشكّ بالبعض الآخر ، وحيث إنّه لا ارتباط ولا ترتّب لبعض الحصص على بعضها الآخر في عالم الجعل ، فما يكون معلوما ليس مشكوكا وما يكون مشكوكا ليس معلوما ؛ لأنّ المتيقّن حصّة والمشكوك حصّة أخرى لا ارتباط لها بالحصّة الأولى في عالم الجعل ، لأنّ الحصص في عالم الجعل كلّها متقارنة ودفعيّة.

نعم ، في عالم المجعول يوجد ترتّب في الزمان بين الحصص ؛ لأنّ الماء يكون غير متغيّر ثمّ يتغيّر ثمّ يزول التغيّر من نفسه ، إلا أنّ الوجود الخارجي للحصص ليس هو الموضوع للحكم ، وإنّما الموضوع له هو ما يكون في عالم الجعل وهو غير مترتّب ، بل دفعي.

وعليه فلا يجري الاستصحاب لاختلال الركن الثاني ؛ إذ لا علاقة ولا ارتباط للشكّ باليقين أو للمشكوك بالمتيقّن.

وهذا الكلام مبني على ملاحظة عالم الجعل فقط ، فإنّ حصص المجعول فيه متعاصرة ، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول ، فإنّ النجاسة بما هي صفة للماء المتغيّر الخارجي لها حدوث وبقاء ، وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض

ص: 223

الخارجيّة ، فيتمّ بملاحظة هذا العالم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ويجري الاستصحاب.

والجواب : أنّ هذا الكلام يتمّ فيما إذا انحصر الحكم في عالم الجعل والتشريع ، وأمّا إذا قلنا : إنّه يوجد الحكم في عالم المجعول والفعليّة فلا يتمّ هذا الكلام.

والصحيح : أنّ الحكم وإن كان تشريعه في عالم الجعل إلا أنّ وجوده لا ينحصر هناك ، وإلا لأصبحت كلّ الأحكام ذهنيّة ، بل الحكم تابع لموضوعه فإذا ثبت موضوعه في عالم الخارج كان الحكم فعليّا ، وإذا لم يثبت الموضوع في الخارج ظلّ الحكم منصبّا على الموضوع الموجود في عالم التشريع والجعل فقط.

فوجوب الحجّ على المستطيع حكم منصبّ على الاستطاعة في عالم الجعل والتشريع ، إلا أنّه إذا وجد في الخارج إنسان مستطيع فإنّ الحكم ينصبّ عليه فيقال : هذا الإنسان المستطيع يجب عليه الحجّ.

وفي مقامنا نجاسة الماء المتغيّر وحرمة وطء المرأة الحائض يتّصف بهما في الخارج الماء المتغيّر بالفعل والمرأة الحائض بالفعل ، فإذا زال التغيّر عن هذا الماء الموجود فعلا وانقطع الدم عن المرأة الموجودة في الخارج ، سوف يكون الشكّ في نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر والشكّ في حرمة وطء المرأة التي انقطع عنها الدم شكّا في بقاء النجاسة السابقة والحرمة السابقة ؛ لأنّ موضوع الحكم لا يزال موجودا وهو واحد ، غاية الأمر زالت عنه بعض القيود والخصوصيّات والتي كانت هي المنشأ للشكّ في الحكم بقاء وارتفاعا.

وحينئذ يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه ، أمّا اليقين بالحدوث فلأنّ هذا الماء كان نجسا عند ما كان متغيّرا ، وهذه المرأة كان يحرم مقاربتها عند ما كان الدم يسيل منها ، ثمّ بعد زوال التغيّر وانقطاع الدم نشكّ في بقاء نجاسة هذا الماء وفي بقاء حرمة وطء هذه المرأة ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة ؛ لأنّ الركن الثاني متوفّر وهو الشكّ في البقاء أو كون الشكّ متعلّقا بما تعلّق به اليقين وهو هذا الماء وهذه المرأة.

وسيأتي فيما بعد مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن التفصيل المذكور في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة وعدم جريانه في الشبهات الحكميّة.

* * *

ص: 224

وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة
اشارة

ص: 225

ص: 226

ج - وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة

وهذا هو الركن الثالث ، والوجه في ركنيّته أنّه مع تغاير القضيّتين لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، بل في حدوث قضيّة جديدة ، ومن هنا يعلم بأنّ هذا ليس ركنا جديدا مضافا إلى الركن السابق ، بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه.

وقد طبّق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعيّة ، وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة ، وواجه في كلّ من المجالين بعض المشاكل والصعوبات كما نرى فيما يلي :

الركن الثالث : هو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

والوجه في ركنيّة هذا الركن هو أنّه إذا لم تكن القضيّة واحدة ، بل كانت القضيّة المتيقّنة مغايرة للقضيّة المشكوكة ، فلا يصدق كون الشكّ شكّا في البقاء أو شكّا في شيء تعلّق به اليقين ، بل يكون شكّا في قضيّة جديدة أي في الحدوث.

فمثلا إذا كنّا على يقين من طهارة الثوب ، فلا بدّ أن يكون الشكّ شكّا في طهارة هذا الثوب أيضا ، وأمّا إذا كان الشكّ شكّا في طهارة الإناء فهذا الشكّ ليس بقاء للمتيقّن السابق وليس متعلّقا به أصلا ، وإنّما هو شكّ في الحدوث ابتداء ، وهو مجرى لأصالة البراءة ونحوها من الأصول المؤمّنة ، وعليه فهذا الركن ليس ركنا مستقلاّ في مقابل الركن الثاني ، بل هو من تفريعاته ولازم له ومستنبط منه ، بل هو نفسه وتعبير آخر عنه.

وهذا الركن يواجه بعض الإشكالات والصعوبات إن من جهة تطبيقه على الشبهات الموضوعيّة أو من جهة تطبيقه على الشبهات الحكميّة ، ولذلك سنتحدّث عن كلّ واحدة منهما لنرى ما هي المشاكل والصعوبات التي تواجه الاستصحاب بناء على هذا الركن؟

ص: 227

أوّلا : تطبيقه في الشبهات الموضوعية :

جاء في إفادات الشيخ الأنصاري - قدّس اللّه روحه - (1) التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع ، إذ مع تبدّل الموضوع لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، فلا يمكنك مثلا أن تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رمادا ؛ لأنّ موضوع النجاسة المتيقّنة لم يبق.

وهذه الصياغة سبّبت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك أصل وجود الشيء بقاء ؛ لأنّ موضوع الوجود الماهيّة ولا بقاء للماهيّة إلا بالوجود ، فمع الشكّ في وجودها بقاء لا يمكن إحراز بقاء الموضوع ، فكيف يجري الاستصحاب؟

البحث الأوّل : في تطبيق هذا الركن في الشبهات الموضوعيّة.

ذكر الشيخ الأنصاري أنّ الركن الثالث عبارة عن إحراز بقاء الموضوع ، فما لم يحرز بقاء الموضوع - سواء أحرز عدم بقائه أم احتمل ذلك - فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه مع تبدّل الموضوع وتغيّره لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، وإنّما شكّ في الحدوث ، وهو شكّ بدوي لا حالة سابقة متيقّنة له.

ومثّل لذلك : بما إذا كنّا على يقين من نجاسة خشبة ، ثمّ بعد احتراقها وصيرورتها رمادا شككنا في نجاستها ، فهذا الشكّ ليس شكّا في بقاء نجاسة الخشبة إذ الخشبة لم تبق ، وإنّما هو شكّ في موضوع جديد وهو نجاسة الرماد ، وهذا شكّ بدوي لا حالة سابقة متيقّنة له ، فلا يجري الاستصحاب لعدم بقاء الموضوع المتيقّن.

وهذه الصياغة تسبّب الاستشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة أيضا.

أمّا الاستشكال في جريانه في الشبهات الموضوعيّة فلأنّنا لو فرضنا ترتّب أثر شرعي على حياة زيد ، كبقاء العلاقة الزوجيّة أو عدم تقسيم تركته ، وكنّا على يقين من حياته فإذا شككنا في بقائه حيّا تعذّر جريان الاستصحاب هنا بناء على أنّ الركن هو بقاء الموضوع ؛ لأنّ الموضوع غير محرز.

ص: 228


1- فوائد الأصول 3 : 290 - 291.

والوجه في ذلك : هو أنّ زيدا عبارة عن ماهيّة والماهيّة يعرض عليها الوجود فيقال : ( زيد موجود ) ، فإذا شككنا في وجود زيد فهذا يعني أنّنا نشكّ في ماهيّته ، إذ لا بقاء للماهيّة إلا بالوجود ، فمع الشكّ في بقاء وجودها يعني أنّنا لم نحرز الماهيّة ، إذ لو كانت الماهيّة محرزة فهي موجودة فلا شكّ في بقاء وجودها ، وإذا لم تكن الماهيّة محرزة فهي غير موجودة ، فعند الشكّ في بقاء وجود الماهيّة لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع أي ( ماهيّة زيد ).

وبتعبير آخر : أنّ ماهيّة زيد معروضة للوجود ولا بقاء لها إلا بالوجود ، كما أنّ أصل حدوثها يكون بالوجود ، وعليه فإذا شككنا في بقاء وجودها فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز الموضوع وهو ( ماهيّة زيد ) ، إذ لو كانت ماهيّته محرزة فهي موجودة فلا شكّ في البقاء فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم توفّر الركن الثاني ، ولو كانت ماهيّته غير محرزة فهذا يعني أنّنا نشكّ في بقاء الموضوع وعدمه ، ومع الشكّ كذلك لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع.

وكذلك سبّبت الاستشكال أحيانا فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانويّة المتأخّرة عن الوجود كالعدالة ؛ وذلك لأنّ زيدا العادل تارة يشكّ في بقاء عدالته مع العلم ببقائه حيّا ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا إشكال ؛ لأنّ موضوعها وهو حياة زيد معلوم البقاء ، وأخرى يشكّ في بقاء زيد حيّا ويشكّ أيضا في بقاء عدالته على تقدير حياته ، وفي مثل ذلك كيف يجري استصحاب بقاء العدالة مع أنّ موضوعها غير محرز؟

وكذلك يرد الاستشكال بناء على أخذ بقاء الموضوع في بعض الشبهات الموضوعيّة الأخرى ، وذلك فيما إذا كان الشكّ في بقاء بعض أعراض الموضوع والماهيّة والشيء لا في أصل بقاء وجود الماهيّة والشيء.

فإذا كان لدينا يقين بعدالة زيد - والعدالة من الصفات الثانويّة المتأخّرة في وجودها عن وجود الماهيّة والشيء ؛ لأن الشيء يوجد أوّلا ثمّ يتّصف بالعدالة ونحوها - ثمّ شككنا في بقاء عدالته ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : أن يشكّ في بقاء عدالة زيد مع إحراز بقاء زيد على قيد الحياة ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ وذلك لإحراز بقاء الموضوع وهو حياة زيد ،

ص: 229

فإنّ زيدا الحي هو الذي يتّصف بصفة العدالة أو بعدمها ، وهنا لدينا يقين بأنّ زيدا الحي كان عادلا ثمّ نشكّ في بقاء عدالته فيجري استصحاب بقائها لتماميّة أركان الاستصحاب.

الصورة الثانية : أن يشكّ في بقاء عدالة زيد ويشكّ أيضا في بقاء زيد على قيد الحياة ، فلو كان زيد ميّتا فلا معنى لبقاء عدالته ؛ لأنّها صفة يتّصف بها الحي لا الميّت ، وإن كان زيد حيّا فهو مشكوك العدالة ، أي أنّ الشكّ في بقاء عدالته إنّما هو على تقدير بقاء حياته.

فهنا لا يجري استصحاب بقاء العدالة ؛ وذلك لعدم إحراز بقاء الموضوع وهو حياة زيد ؛ إذ لعلّ زيدا ميّت فلا معنى لعدالته إذ لا موضوع لها ، فكيف يجري استصحاب بقاء العدالة والحال أنّ موضوعها غير محرز؟ مع أنّها صفة متأخّرة عن وجود الموضوع ، أي أنّها تثبت للموضوع والماهيّة الموجودة.

وبتعبير آخر : أنّ صفة العدالة على نحو مفاد ( كان ) الناقصة ، أي أنّها صفة للشيء والماهيّة بعد الفراغ عن ثبوت ووجود الماهيّة ، فإذا كانت الماهيّة مشكوكة وغير محرزة الوجود فسوف يشكّ في بقاء هذه الصفة ، إلا أنّه لا يجري استصحابها ؛ لأنّ موضوعها غير محرز ، إذ كيف يجري استصحاب بقائها على فرض كون الموضوع والماهيّة غير ثابتة؟ مع أنّها عرض يحتاج إلى الموضوع دائما ولا توجد من دونه ، ولذلك لا بدّ من إحراز موضوعها أوّلا ثمّ استصحاب بقائها ثانيا.

وعليه فلا بدّ من جريان استصحاب بقاء زيد حيّا في مرتبة سابقة لكي يتحقّق الموضوع.

وأمّا الاستشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فسيأتي التعرّض له ضمن الإشكال على الصياغة الثانية لهذا الركن.

وهذه الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة ، وهي لا مبرّر لها. ومن هنا عدل صاحب ( الكفاية ) (1) عنها إلى القول بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر.

ص: 230


1- كفاية الأصول : 486.

وأمّا افتراض المستصحب عرضا وافتراض موضوع له واشتراط إحراز بقائه فلا موجب لذلك.

والجواب : أنّ هذه الاستشكالات كما هو واضح نشأت من صياغة الركن الثالث على هذا النحو أي إحراز بقاء الموضوع.

مع أنّ هذه الصياغة لا مبرّر لها لعدم أخذها بعنوانها في لسان الأدلّة ، وإنّما هي متفرّعة عن الركن الثاني أي كون الشكّ في البقاء ، وهذا يكفي فيه افتراض الركن الثالث بنحو آخر.

ومن هنا صاغ المحقّق الخراساني الركن الثالث بنحو آخر وهو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، فإنّه على أساس هذه الوحدة سوف يكون الشكّ شكّا في البقاء لا في الحدوث ، أو شكّا فيما تعلّق به اليقين لا بشيء آخر مغاير له.

وبناء على هذه الصياغة الثانية لا ترد الإشكالات المذكورة آنفا ؛ لأنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة محفوظة ، أمّا الشكّ في نجاسة الرماد فهو شكّ في النجاسة التي كانت متيقّنة سابقا في الخشب ؛ لأنّ الميزان في الوحدة هو الوحدة العرفيّة لا الوحدة بالدقّة العقليّة والفلسفيّة ، والعرف يرى أنّ هذا الرماد هو نفس ذلك الخشب ، غاية الأمر أنّ صورته قد تغيّرت وأمّا المادّة فهي واحدة لكنّها الآن صارت بشكل وصورة أخرى.

وأمّا الشكّ في العدالة بقاء فهو شكّ في أنّ زيدا الذي كان حيّا وعادلا بالأمس مثلا هل لا يزال عادلا أم لا؟ فالمتيقّن والمشكوك واحد وهو عدالة زيد الحي فإنّه سابقا كان متيقّن والآن مشكوك فيجري الاستصحاب.

وأمّا ما ذكره الشيخ من كون المستصحب من الأعراض كالحياة أو العدالة أو النجاسة ، والعرض لا بدّ له من موضوع ومحلّ ليعرض عليه ، فلا بدّ أوّلا من إحراز بقاء المعروض والمحلّ ثمّ إجراء الاستصحاب ، فهذا لا موجب ولا مبرّر له لعدم الدليل على ذلك بهذا العنوان.

ثانيا : تطبيقه في الشبهات الحكميّة :
اشارة

وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكميّة نشأت بعض المشاكل أيضا ، إذ لوحظ أنّا حين نأخذ بالصياغة الثانية له التي اختارها صاحب ( الكفاية ) نجد أنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة

ص: 231

الحكميّة إلا في حالات الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل ؛ - أي النسخ بمعناه الحقيقي.

وأمّا حيث لا يحتمل النسخ فلا يمكن أن ينشأ شكّ في نفس القضيّة المتيقّنة ، وإنّما يشكّ في بقاء حكمها حينئذ إذا تغيّرت بعض القيود والخصوصيّات المأخوذة فيها ، وذلك بأحد وجهين :

البحث الثاني : في تطبيق هذا الركن في الشبهات الحكميّة.

ثمّ إنّ هذا الركن بصياغته الثانية التي ذكرها الآخوند تواجه بعض الصعوبات والمشاكل عند تطبيق الاستصحاب في موارد الشبهات الحكمية.

والوجه في ذلك : أنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لا يعقل افتراضها في الشبهات الحكميّة إلا بأن يكون هناك علم بالجعل ثمّ يشكّ في بقاء هذا الجعل ، وهذا يعني الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل حقيقة ، فيجري استصحاب بقاء الجعل أو عدم النسخ ، فهنا الشكّ في بقاء الحكم بنفسه لا في موضوعه أو قيوده أو بعض الخصوصيّات ، وهذا الشكّ يعني الشكّ في أنّ الشارع هل رفع اليد عن هذا الحكم ونسخه أم لا؟

وقد تقدّم سابقا أنّ النسخ بمعناه الحقيقي محال تصويره بحقّ المولى عزّ وجلّ ، فلا بدّ من افتراض الشكّ في الحكم بنحو آخر وهو : أن يكون الشكّ لا بمعنى النسخ ورفع الجعل ابتداء ، وإنّما يشكّ في بقاء الحكم نتيجة تغيّر الموضوع أو بعض الخصوصيّات والقيود المأخوذة في الموضوع ، وحينئذ لا يكون هناك قضيّة واحدة بين المتيقّن والمشكوك ؛ لأنّ المتيقّن هو الحكم على هذا الموضوع بهذه القيود والخصوصيّات ، والمشكوك هو الحكم على الموضوع الذي فقد أو تغيّرت بعض قيوده وخصوصيّاته ، فكيف يجري الاستصحاب والحال هذه؟

وهنا قبل أن نجيب عن هذا الاستشكال لا بدّ من تصوير كيفيّة الشكّ في الحكم ، وهي على نحوين :

أمّا بأن تكون خصوصيّة ما دخيلة يقينا في حدوث الحكم ويشكّ في إناطة بقائه ببقائها فترتفع الخصوصيّة ويشكّ حينئذ في بقاء الحكم ، كالشكّ في نجاسة الماء بعد زوال تغيّره.

ص: 232

وأمّا بأن تكون خصوصيّة ما مشكوكة الدخل من أوّل الأمر في ثبوت الحكم فيفرض وجودها في القضيّة المتيقّنة ؛ إذ لا يقين بالحكم بدونها ، ثمّ ترتفع فيحصل الشكّ في بقاء الحكم.

وفي كلّ من هذين الوجهين لا وحدة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

النحو الأوّل : أن تكون هناك خصوصيّة دخيلة يقينا في حدوث وثبوت الحكم ولكن يشكّ في كونها دخيلة في بقائه أيضا ، بحيث يكون ارتفاعها فيما بعد سببا للشكّ في بقاء الحكم ؛ لأنّها لو كانت دخيلة بقاء فقد ارتفع الحكم وإن لم تكن دخيلة بقاء فالحكم باق على حاله.

مثاله : نجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة ، فإنّه يعلم أنّ التغيّر دخيل في ثبوت الحكم بالنجاسة على الماء ، ولكن لا يعلم كون التغيّر دخيلا كذلك بقاء ، بحيث لو زال التغيّر فيما بعد من نفسه فهل تبقى النجاسة أو ترتفع؟ فهنا الشكّ في بقاء الحكم نشأ من الشكّ في الخصوصيّات لا من الشكّ في ارتفاع الحكم من نفسه بالنسخ.

النحو الثاني : أن تكون هناك خصوصيّة موجودة ولكن يشكّ في كونها دخيلة في ثبوت الحكم من أوّل الأمر ، فيفرض كونها موجودة في موضوع الحكم وقيوده حدوثا ، ثمّ ترتفع فيما بعد فيشكّ في ارتفاع الحكم للشكّ في كونها دخيلة في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط.

مثاله : وجوب صلاة الجمعة فإنّه يشكّ من أوّل الأمر في كون وجوبها هل هو الأعمّ من عصر الحضور وعصر الغيبة أو هو مختصّ بعصر الحضور؟ وعلى كلّ حال لا بدّ من فرض وتقدير دخالة عصر الحضور في الموضوع ، إذ هو القدر المتيقّن ، ولكن بعد عصر الحضور سوف يشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة ؛ لأنّ هذه الخصوصيّة لو كانت دخيلة حدوثا وبقاء فقد ارتفعت الآن فلا وجوب وإلا فالوجوب باق على حاله.

وهذان النحوان من الشكّ يشكل جريان الاستصحاب فيهما من أجل الاستشكال في إمكان تطبيق الركن الثالث أي وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وذلك لأنّ موضوع الحكم المتيقّن في المثال الأوّل هو الماء المتغيّر بينما الموضوع المشكوك هو الماء الذي زال عنه التغيّر ، وموضوع الحكم المتيقّن في المثال الثاني هو صلاة الجمعة في

ص: 233

عصر الحضور بينما الموضوع المشكوك هو صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، وهذا يعني أنّ القضيّة المتيقّنة مغايرة للقضيّة المشكوكة وليست نفسها.

كما أنّا حين نأخذ بالصياغة الأولى لهذا الركن نلاحظ أنّ موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله ، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيّات المفروضة الوجود في مقام جعله.

وكذلك يرد الإشكال المذكور على الصياغة الأولى لهذا الركن أي إحراز بقاء الموضوع ؛ وذلك لأنّ الموضوع عبارة عن جميع ما أخذ مفترض الوجود في عالم الجعل ، فكلّ الخصوصيّات والحيثيّات والقيود والشروط المتصوّرة في عالم الجعل كلّها دخيلة في الموضوع ، فلا بدّ من إحرازها ليتحقّق بذلك إحراز بقاء الموضوع ، وهذا يعني أنّ الشكّ في بقاء الموضوع ينشأ من الشكّ في كون هذه الخصوصيّات المفترضة في الموضوع هل هي محفوظة أم لا؟ إذ لو كانت هذه القيود والخصوصيّات كلّها محفوظة فهذا يعني إحراز بقاء الموضوع ، وبالتالي يحرز بقاء الحكم ؛ لأنّه لا شكّ حينئذ ، فلا بدّ من فرض الشكّ في كون هذه الخصوصيّات والقيود وكلّ ما أخذ في عالم الجعل وقدّر وفرض هل هو محفوظ في هذا الموضوع أم لا؟ ولذلك فإنّ الموضوع الذي كنّا على يقين من حدوث الحكم فيه غير الموضوع الذي نشكّ فيه فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع ، وإذا كان هو نفسه فلا يجري الاستصحاب لعدم الشكّ.

ولأجل حلّ المشكلة المذكورة نقدّم مثالا من الأعراض الخارجيّة فنقول :

إنّ الحرارة لها معروض وهو الجسم ، وعلّة وهي النار أو الشمس ، والحرارة تتعدّد بتعدّد الجسم المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء ، ولا تتعدّد بتعدّد الأسباب والحيثيّات التعليليّة ، فإذا كانت حرارة الماء مستندة إلى النار حدوثا وإلى الشمس بقاء لا تعتبر حرارتين متغايرتين ، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء.

والتحقيق في الجواب عن الإشكال المذكور أن يقال : إنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري بلا إشكال ؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة أو لأنّ الموضوع لا يزال باقيا.

ص: 234

وقبل بيان ذلك نتعرّض لتقديم مثال من الأعراض الخارجيّة التكوينيّة ليلقي ضوءا على ما نحن بصدده ، ولذلك نقول : إنّ الحرارة تعرض على الجسم فهي العرض والجسم هو المعروض.

وللحرارة علّة توجدها كالنار أو الشمس أو الكهرباء ، فالنار مثلا علّة للحرارة فهي حيثيّة تعليليّة.

ثمّ إنّ الحرارة تتعدّد وتتكثّر في الخارج بتعدّد الأجسام التي تعرض عليها ، فكلّما وجد جسم في الخارج وتعرّض للنار أو الشمس أو الكهرباء فالحرارة تعرض عليه ، فالتعدّد يكون بلحاظ المعروض ولذلك تكون حرارة الجسم الخشبي مغايرة لحرارة الماء أو الحجر ، مع أنّ العلّة في الجميع قد تكون واحدة كالنار ، وقد تكون متعدّدة كالنار للخشب والشمس للماء.

وهذا يعني أنّ التعدّد في الحرارة لا يكون بلحاظ التعدّد في العلّة والسبب التي هي الحيثيّات التعليليّة ؛ لأنّها قد تتعدّد ولا يكون هناك تعدّد في الحرارة في الخارج ، وقد لا تتعدّد ويحصل التعدّد في الحرارة في الخارج ، فالعمدة أو السبب في حصول التعدّد هو تعدّد المعروض.

ولذلك فإذا كان لدينا ماء فأشعلنا تحته النار فتحدث فيه الحرارة ، ثمّ إذا رفعنا النار من تحته وسلّطنا عليه الشمس أو الكهرباء فالحرارة الموجودة الآن بلحاظ مرحلة البقاء مستندة إلى الشمس أو الكهرباء لا إلى النار ، ولكنّ حرارة الماء واحدة لم تتغيّر ؛ لأنّ المعروض لا يزال ثابتا لم يتغيّر ، وإنّما تغيّرت الحيثيّات التعليليّة وهي لا توجب التعدّد والتغيّر للحرارة.

وعليه فحرارة الماء حدوثا استندت إلى النار ولكنّها استندت إلى الشمس بقاء إلا أنّها حرارة واحدة مستمرّة ، أي لها حالة استمراريّة حدوثا وبقاء لا أنّها انقطعت ثمّ حدثت حرارة أخرى مكانها ، بل الحرارة التي كانت موجودة سابقا لا تزال موجودة لاحقا.

والحاصل : أنّ العرض يتعدّد بلحاظ تعدّد المعروض لا بلحاظ تعدّد العلّة والسبب والحيثيّات التعليليّة.

ونفس الشيء نقوله عن الحكم كالنجاسة مثلا ، فإنّ لها معروضا وهو الجسم

ص: 235

وعلّة وهي التغيّر بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلا ، والضابط في تعدّدها تعدّد معروضها لا تعدّد الحيثيّات التعليليّة.

فالخصوصيّة الزائلة التي سبّب زوالها الشكّ في بقاء الحكم إن كانت على فرض دخالتها بمثابة العلّة والشرط فلا يضرّ زوالها بوحدة الحكم ، ولا تستوجب دخالتها كحيثيّة تعليليّة مباينة الحكم بقاء للحكم حدوثا ، كما هو الحال في الحرارة أيضا ، وإن كانت الخصوصيّة الزائلة مقوّمة لمعروض الحكم كخصوصيّة البوليّة الزائلة عند تحوّل البول بخارا ، فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها.

وفي الشبهات الحكميّة نقول : إنّ الحكم يعرض على الموضوع ؛ لأنّ الأحكام وإن كانت اعتباريّة بالحمل الأوّلي وبلحاظ عالم الجعل إلا أنّها موجودات حقيقيّة بالحمل الشائع وبلحاظ عالم المجعول.

فالنجاسة العارضة على الماء المتغيّر مثلا موجودة حقيقة في عالم المجعول والفعليّة ، فهي تعرض على الماء الموجود في الخارج المتغيّر بأوصاف النجاسة ، والماء المتغيّر فعلا هو معروضها ، وعلّتها هي التغيّر.

وعليه فالنجاسة تتعدّد في الخارج بلحاظ تعدّد المعروض أي كلّما وجد ماء تغيّر فهو نجس كالحرارة العارضة على الجسم ، وسببها هو التغيّر كما أنّ سبب الحرارة هو الشمس أو النار ، ولكنّ التغيّر حيثيّة تعليليّة لا تتعدّد النجاسة بسببها ، بل تتعدّد بلحاظ الماء.

وحينئذ نقول : إنّ الخصوصيّة - التي كانت موجودة ثمّ ارتفعت فيما بعد ، والذي كان ارتفاعها وزوالها هو السبب في حصول الشكّ في بقاء الحكم - إن كانت بمثابة السبب والعلّة والحيثيّة التعليليّة أو الشرط فوجودها ضروري لحدوث الحكم وعروضه على الموضوع ، إلا أنّ زوالها لا يضرّ في بقاء الحكم واستمراره ، ولا يؤثّر زوالها في كون الحكم الحادث مباينا للحكم الباقي ، نظير النار والشمس بالنسبة للحرارة ، فإنّ الحرارة إن كانت حادثة بالنار فلا يضرّ زوال النار وبقاء الحرارة بالشمس ؛ لأنّ النار والشمس حيثيّتان تعليليّتان لا يوجبان التعدّد والمباينة في العرض.

وأمّا إن كانت هذه الخصوصيّة بمثابة المقوّم للمعروض بحيث يكون المعروض -

ص: 236

وجودا وعدما - متوقّفا على وجود تلك الحيثيّة وعدمها ، فهنا إذا كانت هذه الحيثيّة موجودة حدوثا فالمعروض موجود فالعرض ثابت له ، فإذا ارتفعت هذه الحيثيّة بقاء فهذا يعني أنّ المعروض مرتفع أيضا فيرتفع العرض ؛ لأنّ العرض لا يثبت من دون معروضه ، من قبيل نجاسة البول فإنّ النجاسة عارضة على الجسم المتّصف بالبوليّة إلا أنّ هذه الحيثيّة مقوّمة لهذا السائل ، بحيث إذا ارتفعت وصار السائل بخارا مثلا يرتفع المعروض أيضا فيرتفع العرض بارتفاع معروضه ، ولذلك فالحكم بالنجاسة الثابت للجسم المتّصف بالبوليّة مغاير ومباين للحكم بالنجاسة للجسم الذي ارتفعت عنه هذه الحيثيّة وصار بخارا ، وهذا ما يسمّى بالحيثيّة التقييديّة.

وعليه فكلّما كانت الخصوصيّة غير المحفوظة من الموضوع أو من القضيّة المتيقّنة حيثيّة تعليليّة فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثا وبقاء ، ومعه يجري الاستصحاب.

وكلّما كانت الخصوصيّة مقوّمة للمعروض كان انتفاؤها موجبا لتعذّر جريان الاستصحاب ؛ لأنّ المشكوك حينئذ مباين للمتيقّن.

وعليه : نستنتج قاعدة عامّة كلّيّة مفادها : أنّ الخصوصيّة التي كانت موجودة في الموضوع أو في القضيّة المتيقّنة إن كانت من الحيثيّات التعليليّة ، فارتفاعها لاحقا وبقاء لا يضرّ في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ ارتفاعها لا يوجب تعدّد الحكم كما أنّ وجودها لا يوجب تعدّد الحكم أيضا ، وهذا معناه أنّ الحكم الذي كان متيقّنا سابقا هو نفس الحكم المشكوك بقاء وليس مغايرا له.

فتغيّر وتبدّل الحيثيّة التعليليّة لا يوجب التغيّر والتبدّل في الموضوع أو القضيّة المتيقّنة فيجري الاستصحاب ، وأمّا إن كانت الخصوصيّة المذكورة من الحيثيّات التقييديّة - بأن كانت مقوّمة للمعروض بحيث يكون وجودها سببا لوجود المعروض وارتفاعها سببا لارتفاع المعروض - فهنا زوال هذه الحيثيّة بقاء يوجب التغيّر والتبدّل في الموضوع أو القضيّة المتيقّنة.

فيكون المعروض المتيقّن الحكم سابقا مغايرا للمعروض اللاحق والذي يشكّ في حكمه بقاء ، ولذلك لا يجري الاستصحاب لعدم إحراز وحدة الموضوع ، أو لأنّ هذه الحيثيّة توجب كون المتيقّن غير المشكوك فلم تتّحد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

ص: 237

ومن هنا يبرز السؤال التالي :

كيف نستطيع أن نميّز بين الحيثيّة التعليليّة والحيثيّة التقييديّة المقوّمة لمعروض الحكم؟

بعد أن عرفنا أنّ الحيثيّة والخصوصيّة الموجب ارتفاعها الشكّ في بقاء الحكم على نحوين :

الأوّل : الحيثيّة التعليليّة ، التي لا توجب التغيّر والتبدّل في الموضوع والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وبالتالي لا توجب التعدّد والتغيّر في المعروض فيجري الاستصحاب لتوفّر أركانه.

الثاني : الحيثيّة التقييديّة ، التي تكون مقوّمة للمعروض بحيث يكون المعروض الواجد لها مباينا للمعروض الفاقد لها ، أي أنّها توجب التغيّر والتبدّل في الموضوع والقضيّة المتيقّنة ، وبالتالي المعروض. فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الثالث.

فلا بدّ أن نعرف الضابط الذي على أساسه نميّز الحيثيّة التعليليّة عن الحيثيّة التقييديّة ، فما هو الملاك والميزان لذلك هل هو العقل أو العرف أو الشرع؟

فقد يقال بأنّ مرجع ذلك هو الدليل الشرعي ؛ لأنّ أخذ الحيثيّة في الحكم ونحو هذا الأخذ تحت سلطان الشارع ، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك.

فإذا ورد بلسان ( الماء إذا تغيّر تنجّس ) فهمنا أنّ التغيّر اتّخذ حيثيّة تعليليّة ، وإذا ورد بلسان ( الماء المتغيّر متنجّس ) فهمنا أنّ التغيّر حيثيّة تقييديّة.

وعلى وزان ذلك ( قلّد العالم ) أو ( قلّده إن كان عالما ) ، وهكذا.

قد يقال : إنّ الضابط والميزان لتحديد كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو الشارع ؛ وذلك لأنّ أخذ الحيثيّة في الحكم من شئون الشارع وتحت سلطانه ؛ لأنّ الحكم الشرعي هو ذاك الاعتبار الشرعي المجعول في عالم الجعل واللحاظ على موضوعه بتمام الحيثيّات والخصوصيّات ، وكذلك بالنسبة لكيفيّة أخذ هذه الحيثيّة بنحو التعليل أو التقييد ، فإنّه أيضا راجع إلى الشارع.

وعلى هذا الأساس لا بدّ من النظر إلى الدليل الشرعي وملاحظة ما ورد في لسانه ، وهنا إذا كان لسان الدليل - الذي وردت فيه هذه الحيثيّة - بنحو الشرط أو جزء الموضوع ، فهذا يعني أنّ الحيثيّة الواردة فيه قد أخذت بنحو الحيثيّة التعليليّة ، كما إذا

ص: 238

قيل : ( الماء إذا تغيّر تنجّس ) ، فهنا التغيّر كان شرطا لنجاسة الماء فهو العلّة والسبب لحدوث النجاسة ، ولذلك إذا زال التغيّر فالحكم السابق المتيقّن ليس مباينا للحكم اللاحق المشكوك ، بل يعتبر الثاني بقاء للأوّل فيجري الاستصحاب.

وأمّا إذا كان لسان الدليل بنحو الوصف أو القيد أو اللقب ، فهذا يعني أنّ الحيثيّة المأخوذة فيه حيثيّة تقييديّة ، كما إذا قيل : ( الماء المتغيّر متنجّس ) فهنا التغيّر أخذ قيدا ووصفا للماء ، وهذا يعني أنّ الماء المتّصف بهذا الوصف هو المحكوم بالنجاسة ، فإذا زال هذا الوصف ارتفع الحكم بالنجاسة عن الماء ، فإذا شكّ في نجاسته فهذا يعني الشكّ في حكم آخر غير الحكم السابق ؛ لأنّ الحكم السابق انتفى بانتفاء قيده ، فيكون الشكّ اللاحق شكّا في الحدوث لا في البقاء ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا نظير ما إذا ورد ( قلّد العالم ) ، وورد ( الشخص إن كان عالما فقلّده ).

فإنّ الأوّل يدلّ على أخذ حيثيّة العلم بما هي حيثيّة تقييديّة ؛ لأنّها وصف وقيد للإنسان ، فيكون التقليد مختصّا بالعالم ، فإذا زال العلم عنه وشكّ في جواز تقليده لم يجر الاستصحاب ؛ لأنّ جواز التقليد عن الفاقد ليس بقاء للحكم بجواز تقليد العالم ، بل هو فرد آخر منه ، بخلاف الثاني فإنّ العلم أخذ حيثيّة تعليليّة بمعنى أنّ العلّة والسبب لجواز تقليد هذا الشخص هو العلم ، فإذا زال عنه هذا الوصف وشكّ في بقاء تقليده جرى استصحابه ؛ لأنّ الحكم اللاحق على فرض ثبوته يعتبر بقاء للحكم السابق.

وهكذا نعرف أنّ المرجع في تحديد وتعيين كيفيّة أخذ الحيثيّة من كونها تعليليّة أو تقييديّة هو الشارع.

والصحيح : أنّ أخذ الحيثيّة في الحكم بيد الشارع وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل ، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معيّنة كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة ، فبإمكانه أن يجعل التغيّر قيدا للماء ، وبإمكانه أن يجعله شرطا في ثبوت النجاسة تبعا لكيفيّة تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم الجعل.

غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل ، بل بلحاظ عالم المجعول ، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء كما تقدّم (1).

ص: 239


1- تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الميزان والضابط ليس هو الدليل الشرعي ، والوجه في ذلك هو : أنّ ما ذكر من كون الحيثيّة بيد الشارع صحيح ، وكذلك نحو أخذها علّة تارة وقيدا أخرى ، إلا أنّ هذا يتمّ بلحاظ عالم الجعل والتشريع الذي هو عالم اللحاظ المولوي للحكم وموضوعه.

فالشارع يلحظ جميع الحيثيّات والخصوصيّات التي يرى دخالتها في ثبوت الحكم ، ولكن يلحظها بما هي مفاهيم وصور ذهنيّة ، كلّ صورة مغايرة ومباينة للأخرى ، كالماء والتغيّر والنجاسة.

فإنّ الصورة الذهنيّة للماء مغايرة للصورة الذهنيّة للتغيّر والنجاسة ، وبعد لحاظه لها بإمكانه أن يجعل هذه الحيثيّة تعليليّة بأن يأخذها شرطا وعلّة وسببا لثبوت الحكم بالنجاسة على الماء ، وبإمكانه أن يجعلها قيدا ووصفا للموضوع الذي يريد الحكم عليه بأنّه نجس ، وذلك تبعا لما يراه مناسبا في صياغة الحكم على موضوعه ، ولما يراه مناسبا في كيفيّة تنظيم هذه المفاهيم المتباينة فيما بينها.

غير أنّ هذا لا علاقة له بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وذلك لما تقدّم من أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل ؛ لأنّه لا معنى له إلا من ناحية الشكّ في النسخ والذي يعتبر حالة نادرة من جهة ، وحالة غير ابتلائيّة فعلا من ناحية أخرى.

وإنّما يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، أي يكون الشكّ في الحكم ناتجا ومسبّبا عن كون حيثيّة ما موجودة في موضوع الحكم ثمّ ارتفعت وزالت ، فيشكّ في بقاء الحكم نتيجة الشكّ في كون هذه الحيثيّة التي كانت موجودة ثمّ ارتفعت ، هل هي مؤثّرة في ارتفاع الحكم بقاء أو لا؟

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة عالم المجعول لا عالم الجعل ، وفي عالم المجعول كما تقدّم يكون الحكم عارضا على الموضوع الموجود فعلا ، وهذا الموضوع له حدوث وله بقاء ؛ لأنّه تارة يكون واجدا لهذه الحيثيّة وأخرى يكون فاقدا لها ، والحكم المشكوك في حالة الفقدان للحيثيّة ليس مغايرا للحكم المتيقّن سابقا حالة وجود هذه الحيثيّة ، بل يكون على فرض ثبوته بقاء واستمرارا للحكم السابق.

ص: 240

وعلى هذا الأساس لا بدّ أن ننظر إلى الحيثيّة بما هي موجودة في الخارج وعالم المجعول لا عالم الجعل والذهن.

وعليه فالمعروض محدّد واقعا ، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتّبع في دخوله وخروجه نحو أخذه في عالم الجعل ، بل مدى قابليّته للاتّصاف بالحكم خارجا.

فالتغيّر مثلا لا يتّصف بالنجاسة والقذارة في الخارج ، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء ، والتغيّر سبب الاتّصاف.

والتقليد وأخذ الفتوى يكون من العالم بما هو عالم أو من علمه بحسب الحقيقة.

فالتغيّر حيثيّة تعليليّة ولو أخذت تقييديّة جعلا ودليلا ، والعلم حيثيّة تقييديّة لوجوب التقليد ولو أخذ شرطا وعلّة جعلا ودليلا.

وعلى هذا نقول : إنّ الحكم عرض محدّد وكذا المعروض محدّد في الواقع ، تبعا لما لاحظه الشارع في عالم الجعل واللحاظ ، أي أنّ الشارع صبّ حكمه على المعروض المحدّد.

وأمّا الحيثيّات والخصوصيّات الداخلة أو الخارجة بالنسبة للمعروض ، فهذه لا يتّبع فيها كيفيّة أخذها في عالم الجعل واللحاظ ، بل خروجها ودخولها يتّبع فيه مدى قابليّتها للاتّصاف بالحكم في الخارج ، فإذا كانت قابلة لاتّصاف الحكم فهي داخلة وإلا فهي خارجة.

وبهذا يكون الميزان والضابط لكون الحيثيّة تعليليّة أي خارجة أو تقييديّة أي داخلة هو مدى قابليّتها لاتّصاف الحكم بها في الخارج.

فمثلا التغيّر المأخوذ في موضوع الحكم بالنجاسة على الماء إن كان قابلا للاتّصاف بالحكم فهو حيثيّة تقييديّة وإن لم يكن قابلا لذلك فهو حيثيّة تعليليّة.

ومن الواضح أنّ التغيّر لا يتّصف بالنجاسة ؛ إذ لا يقال : ( التغيّر نجس ) وإنّما يقال : ( الماء نجس ) ، فإذن ما هو داخل ذات الماء فقط ، والتغيّر علّة لذلك ، سواء كان مأخوذا في لسان الدليل شرطا وعلّة أم كان مأخوذا قيدا ووصفا ؛ لأنّ الاعتبار بلحاظ عالم الخارج لا بلحاظ عالم الجعل واللحاظ.

ص: 241

والاجتهاد أو العلم المأخوذ في موضوع الحكم بتقليد الشخص العالم إن كان قابلا للاتّصاف بالحكم فهو حيثيّة تقييديّة وإلا فهو حيثيّة تعليليّة.

ومن الواضح أنّ الاجتهاد أو العلم يصحّ اتّصافه بالحكم فيقال : قلّد العلم أو الاجتهاد ، أو يقال : قلّد من يكون عالما ، ولا يقال : ( قلّد الشخص ) على الإطلاق.

وهذا يعني أنّه حيثيّة تقييديّة سواء أخذ في لسان الدليل وعالم الجعل شرطا وعلّة أم وصفا وقيدا.

وبهذا يظهر أنّ الضابط لكون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو كونها قابلة للاتّصاف بالحكم في الخارج أو غير قابلة لذلك ، وليس الضابط لذلك كونها مأخوذة في لسان الدليل وعالم الجعل شرطا أو قيدا ؛ لأنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري بلحاظ عالم المجعول والخارج لا عالم الجعل واللحاظ.

وهنا نواجه سؤالا آخر وهو : أنّ المعروض واقعا بأي نظر نشخّصه؟ هل بالنظر الدقيق العقلي ، أو بالنظر العرفي؟

مثلا : إذا أردنا في الشبهة الحكميّة أنّ نستصحب اعتصام الكرّ بعد زوال جزء يسير منه - فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء - فكيف نشخّص معروض الاعتصام؟

فإنّنا إذا أخذنا بالنظر الدقيق العقلي وجدنا أنّ المعروض غير محرز بقاء ؛ لأنّ الجزء اليسير الذي زال من الماء يشكّل جزءا من المعروض بهذا النظر ، وإذا أخذنا بالنظر العرفي وجدنا أنّ المعروض لا يزال باقيا ببقاء معظم الماء ؛ لأنّ العرف يرى أنّه نفس الماء السابق.

والشيء نفسه نواجهه عند استصحاب الكريّة بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعيّة.

وهنا سؤال آخر : بعد أن عرفنا أنّ الضابط في تحديد كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو ملاحظة المعروض في الخارج ومدى اتّصاف الحيثيّة بالحكم ، نريد أن نشخّص هذا الضابط ؛ وذلك لأنّ تشخيص المعروض الخارجي إمّا أن يكون بالنظر العقلي الدقيق ، وإمّا أن يكون بالنظر العرفي المسامحي ، فإنّ هذين النظرين يختلفان في النتيجة.

ص: 242

وبيان ذلك : إذا كان لدينا ماء بقدر كرّ فهو محكوم بالاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجاسة ما لم يحصل التغيّر ، فإذا أخذنا من هذا الماء مقدارا يسيرا جدّا - كقبضة اليد مثلا - فشككنا في بقائه على صفة الاعتصام أو زوالها عنه بسبب فقدانه لذلك الجزء اليسير من الماء.

فهل يجري استصحاب الاعتصام بنحو الشبهة الحكميّة ، بأن يقال : إنّ هذا الماء كان معتصما والآن نشكّ في بقائه على الاعتصام بسبب فقدانه مقدارا يسيرا من الماء ، فيجري استصحاب الاعتصام؟ أو أنّ الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّ الماء الذي كان معتصما هو الماء الواجد لهذا الجزء اليسير الذي أخذ منه ، والماء المشكوك كونه معتصما هو الماء الفاقد لهذا المقدار ، فلم يتّحد الموضوع أو القضيّة المتيقّنة والمشكوكة؟

وهنا الجواب يختلف باختلاف الميزان والضابط الذي على أساسه نشخّص المعروض في الخارج ، فنقول : إن كان الميزان هو النظر العقلي الدقيق ، كان الماء المحكوم بالاعتصام يقينا غير الماء المشكوك الاعتصام ، فالموضوع غير محرز أو المعروض ليس متّحدا ؛ لأنّ الجزء اليسير من الماء المأخوذ يعتبر جزءا من الماء ويشكّل جزءا من الكرّ المحكوم بالاعتصام ، فمع فقدانه يفقد الكرّ وبالتالي الاعتصام.

وإن كان الميزان هو النظر العرفي المسامحي ، فالماء أي المعروض للاعتصام لا يزال باقيا على حاله ؛ لأنّه يقال عرفا إنّ هذا الماء الفاقد لمقدار يسير لا يزال على الاعتصام ، بحيث إنّه يرى عرفا أنّ هذا الماء هو نفس ذلك الماء واستمرار له.

ونفس هذا الكلام يجري في الشبهات الموضوعيّة ، فيما إذا أردنا أن نستصحب بقاء الكرّيّة لهذا الماء بعد العلم بالكرّيّة ثمّ أخذ مقدار منه ، فإنّه يشكّ في بقاء الموضوع بناء على النظر العقلي الدقيق فلا يجري الاستصحاب ، بينما يكون الموضوع واحدا بناء على النظر العرفي المسامحي فيجري الاستصحاب.

والجواب : أنّ المتّبع هو النظر العرفي ؛ لأنّ دليل الاستصحاب خطاب عرفي منزّل على الأنظار العرفيّة ، فالاستصحاب يتّبع صدق النقض عرفا ، وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفا.

والجواب : أنّ الميزان في تشخيص المعروض في الخارج هو النظر العرفي المسامحي.

والوجه في ذلك هو : أنّ دليل الاستصحاب عبارة عن خطاب بأمر عرفي ؛ لأنّ

ص: 243

كبرى الاستصحاب أي ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) عبارة عن قاعدة مرتكزة في الذهن العرفي ، وهذا معناه أنّ ما يراه العرف نقضا لليقين بالشكّ يكون حراما ، وتشخيص كون هذا نقضا أو ليس نقضا بيد العرف ؛ لأنّ الاستصحاب منزّل على الفهم العرفي وعلى صدق النقض عرفا.

وعلى هذا الأساس فالمعروض الذي يشترط بقاؤه والحفاظ عليه هو ذاك المعروض الذي يراه العرف ثابتا ومحفوظا.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الثالث من أركان الاستصحاب.

* * *

ص: 244

الأثر العملي

ص: 245

ص: 246

د - الأثر العملي

والركن الرابع من أركان الاستصحاب وجود الأثر العملي المصحّح لجريانه ، وهذا الركن يمكن بيانه بإحدى الصيغ التالية :

الركن الرابع من أركان الاستصحاب هو وجود أثر عملي يمكن التعبّد به.

والوجه في ركنيّة هذا الركن هو أنّ الأثر العملي يعتبر شرطا مصحّحا لجريان الاستصحاب ، إذ لو لم يكن هناك أثر عملي فلا يصحّ جريان الاستصحاب.

ثمّ إنّ هذا الركن توجد ثلاث صياغات له :

الأولى : أن ينتهى إلى التعبّد بأثر عملي ، ولعلّ هذا ما يظهر من مدرسة الميرزا.

الثانية : أن يكون المستصحب ذا أثر قابل للتنجيز أو التعذير ، ولعلّ هذا ما يختاره السيّد الشهيد.

الثالثة : أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، وهو المشهور بينهم كما يظهر من ( الكفاية ) وغيرها.

وتوجد فوارق عمليّة بين هذه الصياغات سوف تظهر لاحقا.

الأولى : أنّ الاستصحاب يتقوّم بلزوم انتهاء التعبّد فيه إلى أثر عملي ، إذ لو لم يترتّب أيّ أثر عمليّ على التعبّد الاستصحابي كان لغوا ، وقرينة الحكمة تصرف إطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك.

الصياغة الأولى : أن يكون التعبّد الاستصحابي مؤدّيا إلى التعبّد بأثر عملي ، أي أنّ جريان الاستصحاب متقوّم بوجود الأثر العملي لكي يصحّ التعبّد الاستصحابي ، إذ لو لم يكن هناك أي أثر عملي في البين لم يصحّ التعبّد بالاستصحاب في مثل تلك الموارد ؛ لأنّ شموله للموارد التي لا يوجد فيها أثر عملي لغو ولا فائدة منه.

ولذلك فمقدّمات الحكمة تصرف الإطلاق في دليل الاستصحاب من الموارد التي

ص: 247

لا أثر عملي فيها إلى الموارد التي يوجد فيها أثر عملي ، فيكون الدليل مقيّدا بمقيّد لبّي متّصل به ، والذي يعني أنّ ظهور الدليل لا ينعقد في الإطلاق أصلا ومن أوّل الأمر ، بل ينعقد في المقيّد ابتداء.

وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجة إلى أيّ استدلال سوى ما ذكرناه ، وتسمح حينئذ بجريان الاستصحاب حتّى فيما إذا لم يكن المستصحب أثرا شرعيّا ، أو ذا أثر شرعي ، أو قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من الوجوه ، على شرط أن يكون لنفس التعبّد الاستصحابي به أثر يخرجه عن اللغويّة ، كما إذا أخذ القطع بموضوع خارجي - لا حكم له - تمام الموضوع لحكم شرعي ، وقلنا بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى أنّ المجعول فيه الطريقيّة ، فإنّ بالإمكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وإن لم يكن للمستصحب أثر.

وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.

وهذه الصياغة واسعة جدّا فهي تشمل كلّ الموارد ما عدا تلك التي يكون جريانه فيها لغوا ولا فائدة منه.

والدليل على هذا الركن بهذه الصياغة هو التمسّك بإطلاق أدلّة الاستصحاب الشاملة ، لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ في كلّ الحالات ما عدا الحالات التي لا يوجد فيها أثر يصحّ التعبّد به وإلا لكان لغوا ، فمحذور اللغويّة ومقدّمات الحكمة تقتضي هذه الصياغة.

ثمّ إنّ صياغة الركن بهذا النحو تجعل الاستصحاب يجري في كلّ الموارد ، سواء كان هناك أثر شرعي مترتّب على المستصحب ، أم كان المستصحب نفسه حكما شرعيّا ، أو موضوعا لحكم شرعي ، أم كان المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، أم لم يكن المستصحب شيئا من هذه الأمور أصلا شرط أن يكون هناك أثر على نفس التعبّد الاستصحابي لكي يخرج عن اللغويّة ويصحّ التعبّد به ، فيما إذا كان الأثر مترتّبا على نفس اليقين الاستصحابي لا على المستصحب.

مثال ذلك : أن يكون القطع بالموضوع الخارجي تمام الموضوع لحكم شرعي ، من دون أن يكون لنفس الموضوع الخارجي أثر شرعي ، فإنّنا لو فرضنا مثل هذا الموضوع

ص: 248

فيكون القطع به هو تمام الموضوع ولا مدخليّة لهذا الموضوع الخارجي في موضوع الحكم.

فهنا إذا حصل لنا قطع وجداني بالموضوع الخارجي فلا إشكال في ترتّب الحكم المفترض ثبوته على هذا القطع.

وأمّا إذا لم يكن لدينا قطع فعلا بل كان لدينا قطع بالموضوع الخارجي سابقا والآن نشكّ ببقائه ، فهل يجري الاستصحاب أم لا؟

والجواب : أنّه على هذه الصياغة سوف يجري الاستصحاب ؛ لأنّه ينتهى به إلى التعبّد بأثر عملي ؛ لأنّنا إذا استصحبنا بقاء ذاك اليقين السابق فنصبح على يقين تعبّدي بذاك الموضوع الخارجي ، وهنا إذا قلنا - كما هي مقالة مدرسة الميرزا - إنّ المجعول في الاستصحاب هو العلميّة والكاشفيّة والطريقيّة وإنّ الاستصحاب كالأمارات يقوم مقام القطع الموضوعي ، فسوف يترتّب الحكم الثابت للقطع الحقيقي على القطع الثابت بالاستصحاب ، فيكون للتعبّد الاستصحابي نفسه أي لليقين التعبّدي أثر عملي يصحّح التعبّد به ، بينما نفس المستصحب أي ذاك الموضوع الخارجي لا أثر عملي له بحسب الفرض.

وهذا معنى ما يقال : إنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي دون القطع الطريقي في بعض الموارد ، فإنّ هذا المورد يقوم فيه الاستصحاب نفسه أي اليقين التعبدي المفاد من دليل الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، حيث فرضنا أنّ القطع تمام الموضوع لحكم ، ولكنّه لم يقم مقام القطع الطريقي ؛ لأنّ الموضوع الخارجي لا أثر عملي له بحسب الفرض.

الثانية : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر على نفس التعبّد الاستصحابي.

ولا فرق في قابليّة المستصحب للمنجّزيّة والمعذّريّة بين أن تكون باعتباره حكما شرعيّا أو عدم حكم شرعي ، أو موضوعا لحكم أو دخيلا في متعلّق الحكم ، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا إثباتا ونفيا.

الصياغة الثانية : أن يكون الاستصحاب ذا أثر تنجيزي أو تعذيري ، بمعنى أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو التعذير ، فإذا لم يكن المستصحب قابلا لذلك لم

ص: 249

يجر الاستصحاب حتّى لو فرض وجود أثر على نفس التعبّد الاستصحابي ، فإنّ هذا الأثر وحده لا يكفي في جريان الاستصحاب ما دام المستصحب غير قابل للتنجيز أو التعذير.

ثمّ إنّ كون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير يشمل عدّة موارد :

الأول : أن يكون المستصحب حكما شرعيّا كاستصحاب نجاسة الماء أو استصحاب وجوب الجمعة بعد زوال التغيّر أو بعد عصر الحضور.

الثاني : أن يكون المستصحب عدم حكم شرعي كاستصحاب عدم وجوب الحجّ عند الشكّ في تحقّق الاستطاعة.

الثالث : أن يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعيّ كاستصحاب عدالة زيد التي هي موضوع لجواز الصلاة خلفه أو لقبول شهادته.

الرابع : أن يكون المستصحب دخيلا في متعلّق الحكم نفيا أو إثباتا كاستصحاب طهارة الثوب الدخيلة إثباتا في الصلاة ، أو استصحاب عدم الطهارة كذلك ، فإنّ الطهارة ثبوتا وانتفاء دخيلة في الواجب كالصلاة.

فهذه الاستصحابات كلّها ممّا يترتّب على المستصحب فيها أثر تنجيزي أو تعذيري ، فاستصحاب الحكم منجّز تارة إن كان الحكم إلزاميّا كالوجوب والحرمة ، ومعذّر أخرى بأن كان الحكم الجواز ، واستصحاب عدم الحكم معذّر ؛ لأنّه ينفي التكليف ، واستصحاب الموضوع تارة يكون منجّزا بأن كان موضوعا لحكم إلزامي ، وأخرى يكون معذّرا بأن كان موضوعا لحكم ترخيصي.

واستصحاب ما يكون دخيلا في متعلّق الحكم أي الواجب تارة يكون منجّزا كاستصحاب طهارة الثوب أو عدم طهارته ، فإنّ استصحاب طهارته تجعل المكلّف معذورا لو دخل في الصلاة بهذا الثوب ثمّ تبيّن نجاسته فيما بعد ، واستصحاب نجاسته تجعل المكلّف ملزما بتطهيره أو تبديله وعدم جواز الصلاة فيه.

ومدرك هذه الصيغة التي هي أضيق من الصيغة السابقة استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب ؛ لأنّ مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي ؛ لأنّه واقع لا محالة ولا معنى للنهي عنه ، وإنّما هو النقض العملي ، وفرض النقض العملي لليقين هو فرض أنّ اليقين - بحسب طبعه - له

ص: 250

اقتضاء عملي لينقض عملا ، والاقتضاء العملي لليقين إنّما يكون بلحاظ كاشفيّته ، وهذا يفترض أن يكون اليقين متعلّقا بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله إطلاق دليل الاستصحاب.

والدليل على صحّة هذه الصياغة هو أنّ النقض الوارد في كبرى الاستصحاب ليس هو النقض الحقيقي وإنّما هو النقض العملي.

أمّا أنّ النقض الحقيقي غير ممكن أن يكون هو المراد ، فلأنّ النقض الحقيقي معناه أنّ الشارع حكم ببقاء اليقين عند الشكّ أو أنّه نهى عن نقض اليقين عند الشكّ.

وهذا المعنى غير معقول ؛ لأنّ اليقين منتقض حقيقة وتكوينا بسبب حصول الشكّ ، إذ لا يمكن اجتماع اليقين والشكّ معا ، ففرض حصول الشكّ معناه انتقاض اليقين من نفسه ، فلا معنى لأن يعبّدنا الشارع بعدم نقض اليقين ؛ لأنّه يكون من النهي عن شيء واقع لا محالة ، وهو خارج عن قدرة المكلّف.

وبتعبير آخر : أنّ النقض هنا واقع لا محالة لفرض الشكّ فلا يعقل النهي عن النقض الحقيقي لليقين ؛ لأنّه لما انتقض تكوينا بالشكّ فصار عدم نقضه تكليفا بما لا يطاق ولا يقدر المكلّف عليه.

وأمّا النقض العملي فهو المعقول فيكون المراد أنّ آثار اليقين لا يجوز نقضها ورفع اليد عنها بسبب الشكّ.

ومن الواضح أنّ الفرض المذكور لا يتمّ إلا إذا كان اليقين متعلّقا بشيء له أثر عملي تنجيزي أو تعذيري لكي يصحّ النهي عن نقضه ، وعليه فلا بدّ من فرض أن يكون لليقين اقتضاء عملي بالفعل لكي يصحّ نقضه بالشكّ ، وبالتالي يصحّ النهي الشرعي عنه ، وفرض الاقتضاء العملي لليقين لا يكون بلحاظ نفس اليقين ؛ لأنّ النقض العملي يقابله الجري العملي والجري العملي بلحاظ اليقين لا يكون بلحاظ اليقين نفسه ، بل بلحاظ المتيقّن ، وهذا يفترض أن يكون اليقين هنا ملحوظا بما هو كاشف وطريق عن المتعلّق.

وبهذا يكون النقض العملي لليقين بلحاظ كاشفيّته متوجّها في الحقيقة إلى آثار المتيقّن التنجيزيّة أو التعذيريّة ، فيكون دليل الاستصحاب شاملا لكلّ الموارد التي يكون فيها تنجيز وتعذير بلحاظ المتيقّن.

ص: 251

ولذلك لا بدّ من فرض المستصحب نفسه ذا أثر تنجيزي أو تعذيري لكون اليقين هنا ملحوظا بما هو كاشف ، ولا يصحّ جريان الاستصحاب في الموارد التي لا يكون فيها للمستصحب أي أثر ، بل كان الأثر بلحاظ نفس التعبّد الاستصحابي أي اليقين التعبّدي ؛ لأنّ هذا يعني ملاحظة اليقين الموضوعي وملاحظته كذلك معناها فرض النقض الحقيقي والذي تقدّم أنّه غير معقول.

وهذا البيان يتوقّف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلّق النهي به ، ولا يتمّ إذا استظهر عرفا إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه إرشادا إلى عدم إمكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فإنّ المولى قد ينهى عن شيء إرشادا إلى عدم القدرة عليه كما يقال في : ( دعي الصلاة أيّام أقرائك ) ، غاية الأمر أنّ الصلاة غير مقدورة للحائض حقيقة ، والنقض غير مقدور للمكلّف ادّعاء واعتبارا ، لتعبّد الشارع ببقاء اليقين السابق.

وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقيّة ، ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي.

إلا أنّ ما ذكرناه - من كون النقض هو النقض العملي لا الحقيقي - متوقّف على استظهار أن يكون المراد من النهي عن النقض هو النهي الحقيقي أي الحرمة الشرعيّة ، ولو بقرينة تعلّق النهي باليقين ، حيث قلنا : إنّ النهي عن نقض اليقين غير معقول ؛ لأنّ الانتقاض حاصل تكوينا لطروّ الشكّ فعلا ، فلا يمكن توجيه خطاب للمكلّف ينهاه عن نقض اليقين فإنّه غير مقدور له ، فالبيان المتقدّم يتمّ إذا كان المستظهر النهي الشرعي أي الحرمة التكليفيّة.

وأمّا إذا استظهر عرفا كون المراد من النهي هنا النهي الإرشادي فلا يتمّ ما ذكرناه ، بل يتمّ ما تقدّم في الصياغة الأولى لهذا الركن ؛ لأنّه بناء على النهي الإرشادي يكون المراد أنّ الشارع يرشدنا إلى عدم إمكان نقض اليقين بحسب عالم الاعتبار ، أي أنّه يرشدنا إلى أنّ النقض صار غير مقدور لنا بسبب أنّ الشارع قد عبّدنا ببقاء اليقين ، فيكون النقض خارجا عن قدرة المكلّف بسبب التعبّد الشرعي بعدم جواز النقض.

فكما أنّ عدم القدرة والعجز التكويني عن الفعل أو الترك لا يمكن تعلّق التكليف

ص: 252

به فكذلك العجز الشرعي عن الفعل أو الترك ، فإنّه لا يكون المكلّف بلحاظه قادرا على الفعل أو الترك تعبّدا وإن كان قادرا على ذلك تكوينا.

فإذا قيل : ( لا تطر في الهواء ) كان هذا النهي متعلّقا بشيء غير مقدور للمكلّف تكوينا ؛ لأنّه غير قادر على الطيران واقعا فلا يمكن النهي عنه شرعا والتعبّد بعدمه.

وإذا قيل : ( دعي الصلاة أيّام أقرائك ) كان هذا النهي متعلّقا بشيء غير مقدور عليه شرعا ، أي أنّ الحائض بهذا الوصف لا يمكنها الإتيان بالصلاة ، فالصلاة غير مقدورة ولا يمكن للحائض الإتيان بها حقيقة ؛ لأنّ الصلاة يشترط فيها الطهارة وهي غير مقدورة للحائض حقيقة ، فإذا صلّت الحائض فهذه الصلاة ليست هي الصلاة المطلوبة شرعا ؛ لأنّها فاقدة للطهارة فهي لم تصلّ أصلا وإن أتت بشيء يشبه صورة الصلاة ، فواقعا وحقيقة لم تصلّ ولا تقدر على الصلاة.

وفي مقامنا إذا حملنا النقض على الإرشاد أي أنّ الشارع يرشدنا إلى أنّه لا يمكننا أن ننقض اليقين بالشكّ ، كان النقض غير مقدور لنا بسبب تعبّد الشارع ببقاء اليقين ، فعدم قدرتنا ليست تكوينيّة بل هي بسبب التعبّد والادّعاء الشرعي بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، ولذلك يكون اليقين باقيا على حاله ، وبالتالي تتمّ الصياغة الأولى بناء على استظهار جعل الطريقيّة والعلميّة في الاستصحاب كما هي مقالة السيّد الخوئي رحمه اللّه .

والحاصل : إننا أمام استظهارين :

الاستظهار الأوّل : أن يكون النهي تكليفيّا فهنا تتمّ الصياغة الثانية.

والاستظهار الثاني : أن يكون النهي إرشاديّا فتتمّ الصياغة الأولى.

ولكي نعيّن الصياغة الثانية لا بدّ من استظهار النهي التكليفي لا الإرشادي.

غير أنّه يكفي لتعيّن الصيغة الثانية في مقابل الأولى إجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقّن منه ، والمتيقّن ما تقرّره الصيغة الثانية.

نعم ، يكفي لتعيّن الصيغة الثانية أن يكون الدليل مجملا ، فالنقض المنهي عنه في كبرى الاستصحاب كما يحتمل فيه النهي الحقيقي أي الحرمة التكليفيّة كذلك يحتمل فيه النهي الإرشادي ، فإذا لم يكن لدينا دليل على تعيين أحد الاحتمالين وقع التعارض بين الاستظهارين ويحكم بتساقطهما ، وصيرورة الدليل مجملا ، وعند إجمال الدليل يقتصر فيه على القدر المتيقّن من النقض.

ص: 253

وهنا القدر المتيقّن هو كون النقض مسندا إلى اليقين بلحاظ كونه طريقيّا أو كاشفا وطريقا إلى المتعلّق ؛ لأنّ هذا هو المتيقّن من دليل الحجّيّة أي قيامها مقام القطع الطريقي ، وأمّا قيامها مقام القطع الموضوعي فيحتاج إلى الدليل الخاصّ وهو مفقود بحسب الفرض.

وعليه فنحصل على نفس نتيجة الصيغة الثانية من خلال إجمال الدليل والاقتصار فيه على القدر المتيقّن وهو النهي عن نقض اليقين بلحاظ كاشفيّته التي هي آثار المتيقّن ، فيكون المراد أنّه لا يجوز نقض اليقين بلحاظ آثار متيقّنه ، وبالتالي لا بدّ أن نفترض كون الآثار مترتّبة على المستصحب.

وأمّا الآثار المترتّبة على نفس الاستصحاب فهذه لا يشملها الدليل إلا إذا كان النقض مسندا إلى اليقين ذاته أي كان اليقين موضوعيّا ، وهذا يحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود في المقام لإجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين.

الثالثة : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي. وهذه الصيغة أضيق من كلتا الصيغتين السابقتين.

ومن هنا وقع الإشكال في كيفيّة جريان الاستصحاب على ضوء هذه الصيغة في متعلّق الأمر قيدا وجزءا ، - من قبيل استصحاب الطهارة - مع أنّ الواجب ليس حكما شرعيّا ولا موضوعا يترتّب عليه حكم شرعي ؛ لأنّ الوجوب يترتّب على موضوعه لا على متعلّقه.

الصياغة الثالثة : وهي الصياغة المشهورة عندهم ومفادها : أنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، كاستصحاب وجوب الجمعة في عصر الغيبة وكاستصحاب عدالة زيد ، فإنّ استصحاب وجوب الجمعة استصحاب لحكم شرعي ، واستصحاب عدالة زيد استصحاب لموضوع يترتّب عليه حكم شرعي كجواز الصلاة خلفه وقبول شهادته.

ولذلك فهذه الصياغة أضيق من الصيغتين السابقتين ؛ لأنّ الصياغة الأولى تشمل كلّ أثر عملي يترتّب على الاستصحاب ، سواء كان هذا الأثر للمستصحب أم للاستصحاب نفسه ؛ ولأنّ الصياغة الثانية تشمل كلّ أثر تنجيزي أو تعذيري يترتّب على المستصحب دون الاستصحاب نفسه ، وأمّا هذه الصياغة فهي لا تشمل إلا إذا

ص: 254

كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، ولا تشمل كلّ أثر تنجيزي أو تعذيري سواء في المستصحب أو في الاستصحاب نفسه.

ومن هنا يرد إشكال على هذه الصياغة وهو أنّ المستصحب إذا كان قيدا أو شرطا أو جزءا من متعلّق الأمر ، فاللازم عدم جريان الاستصحاب لأنّ ما ذكر لا ينطبق عليها عنوان الحكم أو الموضوع.

وتوضيح ذلك : إذا قيل : ( تجب الصلاة ) فهنا الوجوب تعلّق بالصلاة ، وموضوع الوجوب هو الإنسان البالغ العاقل فيمكن جريان الاستصحاب في الوجوب أو البلوغ أو العقل عند الشكّ بها.

وأمّا بالنسبة للصلاة فهي مركّبة من قيود وشروط وأجزاء ، فالركوع والسجود ونحوهما أجزاء للصلاة ، والطهارة من الحدث والخبث شرط في الصلاة ، والاستقبال قيد أو شرط فيها.

وعلى هذا فلا يمكن جريان الاستصحاب في الطهارة ؛ لأنّها قيد للواجب وليست موضوعا للوجوب ولا حكما أيضا ، فكيف أجرى الإمام استصحاب طهارة الثوب في رواية زرارة الثانية في الفقرة الثالثة منها حيث قال : « تغسله ولا تعيد الصلاة » ، قلت : ولم ذلك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ».

والحال أنّ متعلّق الأمر ليس حكما شرعيّا كالصلاة فإنّها ليست حكما ، بل الحكم هو الوجوب وليست موضوعا للحكم الشرعي ، وإنّما الموضوع هو المكلّف ، فأجزاؤها وقيودها وشروطها لا يجري فيها الاستصحاب ؛ لأنّها تحقّق الامتثال وكيفيّته فقط وليست حكما ولا موضوعا للحكم.

وقد يدفع الإشكال بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط للأمر ، فهو موضوع لعدمه ، فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا الدفع بحاجة من ناحية إلى توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملا لعدم الحكم أيضا ، وبحاجة من ناحية أخرى إلى التسليم بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط لنفس الأمر لا لفاعليّته على ما تقدّم (1).

ص: 255


1- في البحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

وقد يجاب عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّ متعلّق الأمر وإن لم يكن بنفسه حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، إلا أنّه باعتبار آخر يكون وجوده دخيلا في الأمر ومن قيوده ، وذلك بأن يقال : إنّ الأمر إن وجد متعلّقه فهو يسقط ، فالأمر بالصلاة يسقط إذا أوجد المكلّف الصلاة ، وأمّا إذا لم يوجد الصلاة فالأمر بها باق ، وعليه فيكون استصحاب الطهارة باعتباره يرجع إلى تحقّق الصلاة بكامل شروطها وقيودها دخيلا في الموضوع ؛ لأنّه إذا كانت الصلاة عن طهارة فالمتعلّق متحقّق فالأمر ساقط.

وبهذا يكون وجود المتعلّق موضوعا لعدم الأمر والوجوب ، فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا من قبيل : الأمر بالعقيقة الذي أخذ فيه عدم إيجاد الأضحيّة ؛ لأنّ من ضحّى يسقط عنه الأمر بالعقيقة ، ولذلك فمن يحجّ ويذبح الأضحيّة يترتّب على ذلك سقوط الأمر بالعقيقة ؛ لأنّه أخذ في موضوع الأمر بها عدم الأضحيّة ، فمن شكّ في أنّه ضحّى أم لا وجرى استصحاب الأضحيّة أو استصحاب عدمها كان لهذا الاستصحاب مدخليّة في سقوط الأمر بالعقيقة أو بقائه ، مع أنّ المستصحب نفسه ليس إلا متعلّقا ؛ لأنّه جزء من أجزاء الحجّ وليس موضوعا ولا حكما.

وهذا الدفع للإشكال يتوقّف على أمرين :

الأوّل : أن يكون المراد من كون المستصحب حكما أو موضوعا الأعمّ من موضوع الحكم وموضوع عدم الحكم ، وهذا الأمر لا يبعد التسليم به وقبوله.

الثاني : أن يكون الأمر ساقطا إذا امتثل متعلّقه ، بمعنى أنّ امتثال المتعلّق مسقط للأمر. وهذا الأمر قد تقدّم الكلام عنه سابقا ، وقلنا : إنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل هما يسقطان التكليف عن الفاعليّة والمحرّكيّة لا عن مبادئه وملاكاته. فمن أدّى الصلاة يسقط التكليف عن تحريكه للصلاة لا أنّه يسقط التكليف رأسا ، وأنّه لا خطاب موجّه إليه ولو من ناحية المبادئ والملاكات. ولذلك لا يكون هذا الدفع تامّا.

والأولى في دفع الإشكال رفض هذه الصيغة الثالثة ، إذ لا دليل عليها سوى أحد أمرين :

ص: 256

فالأحسن في الجواب عن هذا الإشكال هو رفض هذه الصياغة التي نشأ منها الإشكال ؛ لأنّ هذه الصياغة لا دليل عليها سوى أحد أمرين ، وكلاهما غير تامّ.

الأوّل : أنّ المستصحب إذا لم يكن حكما شرعيّا ولا موضوعا لحكم شرعي كان أجنبيّا عن الشارع فلا معنى للتعبّد به شرعا.

والجواب عن ذلك : أنّ التعبّد الشرعي معقول في كلّ مورد ينتهى فيه إلى التنجيز والتعذير ، وهذا لا يختصّ بما ذكر ، فإنّ التعبّد بوقوع الامتثال أو عدمه ينتهي إلى ذلك أيضا.

الأمر الأوّل : أنّ المستصحب إذا لم يكن موضوعا لحكم شرعي ، ولا حكما شرعيّا ؛ فلا معنى لأن يعبّدنا الشارع به ؛ لأنّه والحال هذه يكون أجنبيّا عن الشارع ، والتعبّد الشرعي إنّما يكون فيما إذا كان الشيء ممّا تناله يد الشارع بما هو شارع ، والشارع بهذا اللحاظ لا يجعل إلا الحكم وموضوعه ، فبإمكانه أن يعبّدنا بالموضوع أو بالحكم بقاء ، وأمّا غيرهما فلا تطالهما يد التعبّد ، وبالتالي يكون شمول دليل الاستصحاب لغير الموضوع والحكم لغوا ولا فائدة منه.

وجوابه : أنّ التعبّد الشرعي يعقل في كلّ مورد ينتهى فيه إلى أثر عملي تنجيزي أو تعذيري يترتّب على المستصحب ؛ لأنّ محذور اللغويّة أو مقدّمات الحكمة تفترض أن يكون المستصحب ذا أثر عملي ، إذ لو لم يكن كذلك كان التعبّد به لغوا وبلا فائدة وهو يتنافى مع الحكمة ومقدّماتها.

ثمّ إنّ الأثر العملي التنجيزي والتعذيري لا يختصّ في الموارد التي يكون المستصحب فيها حكما أو موضوعا ، بل يشمل كلّ مورد يترتّب عليه هذا الأثر ، ومنها استصحاب المتعلّق أو قيوده وشروطه وأجزائه ؛ لأنّها ممّا يترتّب عليها الأثر العملي.

فإذا عبّدنا الشارع بتحقّق الامتثال كان لهذا التعبّد أثر عملي تعذيري فيما إذا انكشف فيما بعد خلاف الواقع ، وإذا عبّدنا بعدم تحقّق الامتثال كان له أثر عملي تنجيزي في لزوم الإتيان بالمتعلّق أو بقيوده وشروطه وأجزائه.

الثاني : أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا ، فلا بدّ أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه.

ص: 257

الأمر الثاني : أنّ يدّعى أن مفاد دليل الاستصحاب عبارة عن جعل الحكم المماثل على وفق المستصحب ظاهرا ، أي أنّ الشارع يجعل حكما مماثلا لمفاد دليل الاستصحاب ، فإن كان المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ أمكن جعل الحكم المماثل على وفق ذلك ؛ لأنّ الشارع يمكنه جعل الموضوع والحكم بلحاظ كونه مشرّعا دون غيرهما ، وأمّا إذا لم يكن المستصحب حكما ولا موضوعا لحكم فلا يمكن التعبّد الاستصحابي عندئذ ؛ لعدم إمكان جعل الحكم المماثل على وفق المستصحب.

والجواب عن ذلك : أنّه لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب ، بل مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، إمّا بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي تنجيز الحالة السابقة بقاء ، وإمّا بمعنى النهي عن النقض الحقيقي إرشادا إلى بقاء اليقين السابق ، أو بقاء المتيقّن السابق ادّعاء.

وعلى كلّ حال فلا يلزم أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، بل أن يكون أمرا قابلا للتنجيز والتعذير لكي يتعلّق به التعبّد على أحد هذه الأنحاء.

وجوابه : أنّ جعل الحكم المماثل بعنوانه الخاصّ لم يرد في أدلّة الاستصحاب ، فلا يمكن استفادته منها بالخصوص ، وعليه فإمّا أن يدّعى أنّ جعل الحكم المماثل هو المستفاد من جعل الحكم الظاهري عموما ، وهذا ما تقدّم سابقا عدم صحّته ، وإمّا أن يدّعى ذلك في خصوص الاستصحاب ، وهذا لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأنّ أدلّة الاستصحاب مفادها عدم نقض اليقين بالشكّ ، لا جعل الحكم المماثل بعنوانه.

وعدم نقض اليقين بالشكّ يوجد فيه ثلاثة احتمالات كلّها لا تتناسب مع جعل الحكم المماثل ، وهي :

1 - أن يكون المراد النهي الحقيقي أي الحرمة التكليفيّة ، وهي لا يمكن أن تتوجّه نحو النقض الحقيقي لليقين ، بل إلى النقض العملي بلحاظ كاشفيّة اليقين ، من أجل تنجيز الحالة السابقة بقاء ، أي الآثار التي كانت مترتّبة على الحالة السابقة ( المتيقّن ) حدوثا فهي لا تزال ثابتة بقاء.

2 - أن يكون المراد الإرشاد إلى عدم القدرة على نقض اليقين ، فاليقين السابق لا يزال باقيا على حاله تعبّدا ، ولذلك لا يتمكّن المكلّف من نقضه ، وعليه فيكون الشاكّ

ص: 258

فعلا كالمتيقّن ، وهذا إنّما يتمّ على مباني الميرزا ومدرسته من جعل العلميّة والطريقيّة لا جعل الحكم المماثل.

3 - أن يكون المراد الإرشاد إلى بقاء المتيقّن السابق على حاله تعبّدا وادّعاء ، فيكون المستصحب كالمتيقّن ، وهذا يجعل الاستصحاب أصلا تنزيليّا أو أصلا محرزا.

وعلى هذه الاحتمالات الثلاثة لا يستفاد جعل الحكم المماثل ليلزم أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، بل المستفاد من دليل الاستصحاب على جميع هذه الوجوه أن يكون المستصحب أمرا قابلا للتنجيز أو التعذير ، لكي يصحّ أن يتعلّق به التعبّد الشرعي بعدم جواز النقض حقيقة أو حكما ، ولا يختصّ ذلك بكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الرابع من أركان الاستصحاب ، وبه أيضا ينتهي الكلام عن أركان الاستصحاب.

* * *

ص: 259

ص: 260

مقدار ما يثبت الاستصحاب

ص: 261

ص: 262

مقدار ما يثبت الاستصحاب

لا شكّ في أنّ المستصحب يثبت تعبّدا وعمليّا بالاستصحاب ، وأمّا آثاره ولوازمه فهي على قسمين :

القسم الأوّل : الآثار الشرعيّة ، كما إذا كان المستصحب موضوعا لحكم شرعي ، أو حكما شرعيّا واقعا بدوره موضوعا لحكم شرعيّ آخر. وقد يكون المستصحب موضوعا لحكمه ، وحكمه بدوره موضوع لحكم آخر ، كطهارة الماء الذي يغسل به الطعام المتنجّس فإنّها موضوع لطهارة الطعام وهي موضوع لحلّيّته.

بعد الفراغ عن تواجد أركان الاستصحاب الأربعة لا إشكال في جريان الاستصحاب ، وفي ثبوت الحالة السابقة المستصحبة تعبّدا بنظر الشارع وعمليّا بلحاظ المكلّف ، فإنّنا إذا استصحبنا بقاء عدالة زيد ثبت لدينا شرعا عدالته فعدالته ثابتة تعبّدا ، وكذلك يجب ترتيب الآثار من المكلّف بلحاظ هذه العدالة.

وهذه الآثار واللوازم تقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : الآثار الشرعيّة ، وهي على أنواع :

1 - أن يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعي ، كاستصحاب عدالة زيد ، فإنّ أثرها الشرعي هو جواز الصلاة خلفه أو قبول شهادته.

2 - أن يكون المستصحب حكما شرعيّا واقعا موضوعا لحكم شرعيّ آخر ، كاستصحاب ملكيّة زيد ، فإنّها حكم شرعي وضعي ، وهي بدورها موضوع لجواز تصرّفه في ملكه وعدم جواز تصرّف غيره فيه إلا بإذنه.

3 - أن يكون المستصحب موضوعا لحكمه ، وحكمه موضوع لحكم آخر ، كاستصحاب طهارة الماء الذي هو موضوع لطهارة الطعام المتنجّس الذي غسل به ، وهذا الحكم أي طهارة الطعام موضوع لحكم آخر ، وهو حلّيّة أكله.

ص: 263

القسم الثاني : الآثار واللوازم العقليّة التي يكون ارتباطها بالمستصحب تكوينيّا وليس بالجعل والتشريع ، كنبات اللحية اللازم تكوينا لبقاء زيد حيّا ، وموته اللازم تكوينا من بقائه إلى جانب الجدار إلى حين انهدامه ، وكون ما في الحوض كرّا اللازم تكوينا من استصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، فإنّ مفاد ( كان ) الناقصة لازم عقلي لمفاد ( كان ) التامّة ، وهكذا.

القسم الثاني : الآثار العقليّة ، وهي على أنواع :

1 - أن تكون اللوازم والآثار العقليّة مترتّبة على نفس المستصحب ، كاستصحاب بقاء زيد حيّا بعد مرور فترة طويلة على غيابه ، فإنّه يثبت بهذا الاستصحاب بقاء حياته ، ولازم بقائه على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة كونه كبير السنّ أو ذا لحية.

فإنّ كبر السنّ ونبات اللحية من الآثار التكوينيّة لبقائه على قيد الحياة ، وهذه الآثار ليست شرعيّة بل هي آثار ولوازم تكوينيّة تثبت بالملازمة العقليّة بينها وبين بقائه على قيد الحياة.

2 - أن تكون الآثار واللوازم العقليّة مترتّبة على المستصحب مع الواسطة التكوينيّة ، كاستصحاب بقاء زيد إلى جانب الجدار إلى حين انهدام الجدار ، فإنّ هذا الاستصحاب يثبت وقوع الجدار عند ما كان زيد إلى جانبه.

وأمّا أنّه مات فهذا الأثر إنّما يثبت لو ضممنا إلى وقوع الجدار كونه قد وقع عليه ، وكون هذا الوقوع بحيث يسبّب الوفاة عادة ، فتكون النتيجة أنّه قد مات ، وهذا أثر غير شرعي بل هو أثر تكويني ثبت بالملازمة بينه وبين وقوع الجدار مع ضمّ تلك الوسائط العاديّة.

3 - أن تكون الآثار واللوازم العقليّة مترتّبة مع الواسطة العقليّة ، كاستصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، فإنّنا إذا كنّا نعلم بوجود كرّ من الماء في الحوض ثمّ أخذنا منه مقدارا من الماء أدّى إلى الشكّ في بقاء الكرّ من الماء في الحوض أو زواله ، فهنا نجري استصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، ولازم ذلك كون ما في الحوض من الماء كرّا ، فإنّ هذا لازم غير شرعي ، بل هو أثر عقلي لوجود كرّ من الماء في الحوض.

وبعبارة أخرى : أنّ ما ثبت بالاستصحاب هو أصل وجود كرّ من الماء في الحوض ،

ص: 264

والأثر الذي يراد إثباته هو كون ما في الحوض من الماء متّصفا بالكرّيّة ، وهذا يعني أنّ ما يثبت هو مفاد ( كان ) التامّة أي أصل وجود الشيء ، وما يراد التوصّل إليه من الآثار هو مفاد ( كان ) الناقصة أي اتّصاف هذا الشيء بتلك الصفة ، ومن الواضح أنّ مفاد ( كان ) الناقصة لازم عقلي لمفاد ( كان ) التامّة.

نعم لو أردنا استصحاب اتّصاف الماء الموجود في الحوض بالكرّيّة بأن نقول : هذا الماء كان متّصفا بالكرّيّة والآن نشكّ في بقاء اتّصافه فيجري استصحاب هذا الاتّصاف ، لكان هذا الاستصحاب من أوّل الأمر ناظرا لمفاد ( كان ) الناقصة مباشرة ، من دون توسّط ( كان ) التامّة في ذلك ، وبالتالي يكون الأثر المترتّب على ذلك هو كون هذا الماء معتصما لا ينفعل بالنجاسة لمجرّد الملاقاة من دون تغيّر ، وهذا الأثر شرعي لا عقلي ، فيكون الاستصحاب تامّا.

بعد هذا نبحث في كلّ من القسمين لنرى مدى انطباق دليل الاستصحاب عليهما.

أمّا القسم الأوّل : فلا خلاف في ثبوته تعبّدا وعمليّا بدليل الاستصحاب ، سواء قلنا : إنّ مفاده : الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء المتيقّن ، أو الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء نفس اليقين ، أو النهي عن النقض العملي لليقين بالشكّ.

أمّا القسم الأوّل وهو الآثار الشرعيّة فهي تثبت بالاستصحاب بلا خلاف بينهم ، فيكون الاستصحاب مثبتا لتلك الآثار تعبّدا ، أي أنّ مفاده هو التعبّد ببقاء تلك الآثار الشرعيّة ولزوم الجري العملي على وفقها مهما كان مفاد هذا التعبّد ، أي أنّ الآثار الشرعيّة تثبت تعبّدا وعمليّا على جميع المسالك في تفسير مفاد دليل الاستصحاب وهي :

1 - أن يكون مفاد دليل الاستصحاب يعبدنا ببقاء المتيقّن على أساس كون النهي إرشادا إلى أنّ آثار المتيقّن لا يمكن نقضها بسبب حكم الشارع ببقائها تعبّدا ، فيكون الشارع قد نزّل المشكوك منزلة المتيقّن ، فيكون الاستصحاب أصلا تنزيليّا.

2 - أن يكون مفاد دليل الاستصحاب يعبّدنا ببقاء اليقين نفسه ، فيكون النهي عن النقض نهيا إرشاديّا إلى أنّ اليقين السابق لا ينتقض عند الشكّ بسبب حكم الشارع

ص: 265

ببقائه ، فالمكلّف على يقين فعلا ولكن ادّعاء وتنزيلا لا حقيقة وواقعا ، فينزّل الشاكّ منزلة المتيقّن ، وبهذا يصبح الاستصحاب كالأمارات ؛ لأنّ مفاده جعل العلميّة والطريقيّة.

3 - أن يكون مفاد دليل الاستصحاب التعبّد ببقاء الآثار ولزوم الجري العملي على طبق اليقين ، وهذا يعني أنّ النهي عن النقض لا يتوجّه إلى اليقين حقيقة ؛ لأنّه غير معقول كما تقدّم ، بل ينصبّ على النقض العملي لآثار اليقين والتي تعني كونه كاشفا عن المتعلّق والمتيقّن ، فيكون المفاد التعبّد ببقاء الآثار العمليّة للحالة السابقة المتيقّنة في مرحلة الجري العملي ، ولذلك يكون الاستصحاب أصلا تنزيليّا.

وتفصيل الكلام بناء على هذه المسالك أن يقال :

أمّا على الأوّل : فلأنّ التعبّد ببقاء المتيقّن ليس بمعنى إبقائه حقيقة بل تنزيلا ، ومرجعه إلى تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، فيكون دليل الاستصحاب من أدلّة التنزيل ، ومقتضى دليل التنزيل إسراء الحكم الشرعي للمنزّل عليه إلى المنزّل إسراء واقعيّا أو ظاهريّا تبعا لواقعيّة التنزيل أو ظاهريّته وإناطته بالشكّ.

وعليه فإطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضي ثبوت جميع الآثار الشرعيّة للمستصحب بالاستصحاب.

أمّا على المسلك الأوّل وهو ما اختاره صاحب ( الكفاية ) من تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، فهذا معناه أنّ الشارع قد حكم ببقاء المتيقّن عند الشكّ وعبّدنا بذلك ، وهذا الحكم بالإبقاء ليس إبقاء حقيقيّا ، إذ من الواضح أنّ المتيقّن الآن مشكوك واقعا وتكوينا ، بل الإبقاء هنا تعبّدي وتنزيلي.

والتنزيل على نحوين :

الأوّل : التنزيل الواقعي أي إسراء الآثار الشرعيّة المترتّبة على المنزّل عليه إلى المنزّل ، وهذا يكون في الموارد التي لم يفترض فيها الشكّ ، كما في « الطواف في البيت صلاة » فهذا تنزيل واقعي بحيث تكون الآثار الشرعيّة للصلاة سارية إلى الطواف.

الثاني : التنزيل الظاهري أي إسراء الأحكام والآثار الشرعيّة للمنزّل عليه إلى المنزّل ظاهرا ، وهذا يفترض الشكّ ليكون التنزيل ظاهريّا.

ص: 266

وأمّا حدود هذا التنزيل وهل هي تشمل جميع الآثار والأحكام الشرعيّة أو بعضها فقط؟ فهذا يحتاج إلى مراجعة دليل التنزيل لتحديد المقدار الناظر إليه.

وفي مقامنا يكون تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن تنزيلا ظاهريّا لفرض الشكّ.

وعلى هذا فالمقدار الذي يثبت بدليل الاستصحاب هو الآثار والأحكام الشرعيّة الثابتة للمتيقّن ، فإنّها تسري إلى المشكوك ؛ لأنّ التنزيل يكون من الشارع بما هو شارع لا بما هو خالق ، ولذلك فلا تترتّب إلا الآثار التي تطالها يد الشارع بما هو كذلك ، وهي الآثار الشرعيّة دون اللوازم والآثار العقليّة ؛ لأنّها ليست من أحكام الشارع بما هو شارع.

فإن قيل : هذا يصحّ بالنسبة إلى الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب مباشرة ، ولا يبرّر ثبوت الأثر الشرعي المترتّب على ذلك الأثر المباشر ؛ وذلك لأنّ الأثر المباشر لم يثبت حقيقة لكي يتبعه أثره ؛ لأنّ التنزيل ظاهري لا واقعي ، وإنّما ثبت الأثر المباشر تنزيلا وتعبّدا ، فكيف يثبت أثره؟

قد يقال : إنّه بناء على هذا المسلك تثبت الآثار الشرعيّة ، غير أنّ هذه الآثار كما تقدّم على ثلاثة أنحاء ، فما يثبت منها هو الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب مباشرة ، أي استصحاب الحكم الشرعي والموضوع للحكم الشرعي.

وأمّا الآثار الشرعيّة الطوليّة التي لا تترتّب على المستصحب مباشرة ، بل كانت من آثار ولوازم آثار المستصحب فلا تثبت ، كما هو الحال بالنسبة لاستصحاب طهارة الماء الموضوع لطهارة الطعام المغسول به الموضوع لجواز أكله وحلّيّته ، فإنّ الحلّيّة ليست من الآثار الشرعيّة المباشرة لطهارة الماء ، بل هي من آثار طهارة الطعام ، التي هي الأثر الشرعي المباشر لطهارة الماء ، فهذه الآثار ليست مشمولة لدليل الاستصحاب بناء على هذا المسلك.

وبتعبير آخر : أنّ الآثار الشرعيّة على قسمين : آثار مباشرة ، وآثار غير مباشرة.

أمّا الآثار المباشرة كاستصحاب عدالة زيد التي يترتّب عليها الحكم بجواز الصلاة خلفه ، وكاستصحاب وجوب الجمعة مثلا ، فلا إشكال في ثبوتها بالتنزيل المذكور ؛ لأنّها القدر المتيقّن من أدلّة التنزيل.

وأمّا الآثار غير المباشرة كثبوت حلّيّة الطعام التي موضوعها طهارة الطعام التي

ص: 267

تثبت باستصحاب طهارة الماء ، فهذه ليست من آثار طهارة الماء المستصحبة فكيف يتمّ التنزيل بلحاظها؟

إذ المفروض هنا أنّ التنزيل ظاهري لأخذ الشكّ في دليل الاستصحاب ، وليس تنزيلا حقيقيّا ، والتنزيل الظاهري مفاده جعل الحكم المماثل على طبق المؤدّى ، فالمستصحب منزّل منزلة المتيقّن ، ولذلك فالآثار المترتّبة على المستصحب تثبت وهذا يختصّ بالآثار الشرعيّة المباشرة ؛ لأنّها المترتبة على المستصحب ، وأمّا الآثار الشرعيّة الطولية أو غير المباشرة فهي ليست مترتّبة على المستصحب ، بل على آثار المستصحب فلا يشملها دليل التنزيل ، إلا بالقول : إنّ دليل التنزيل يثبت جميع الآثار الشرعيّة المباشرة أو مع الواسطة ، وهذا لا يمكن قبوله ؛ لأنّه يشمل الآثار الشرعيّة المترتّبة على الواسطة العقليّة أيضا ، وهذا لا يقوله أصحاب هذا المسلك.

وبكلمة ثالثة : أنّ الآثار المباشرة مترتّبة على المستصحب نفسه ، فإذا ثبت المستصحب حقيقة أو تعبّدا تثبت هذه الآثار ، وأمّا الآثار غير المباشرة فهي مترتّبة على آثار المستصحب ، وهذه الآثار ليست ثابتة حقيقة بل هي ثابتة بالتعبّد والتنزيل ، والتنزيل هنا ظاهري لا واقعي.

ومعنى ذلك أنّ ما هو ثابت لنا هو طهارة الطعام ظاهرا بينما حلّيّته مترتّبة على طهارة الطعام واقعا ، فالطهارة الظاهريّة ليست من لوازمها الحلّيّة ، بل الحلّيّة لازم للطهارة الواقعيّة وهي غير ثابتة ، فلم يتحقّق موضوعها.

كان الجواب : أنّه يثبت بالتنزيل أيضا ، إذ ما دام إثبات الأثر المباشر كان إثباتا تنزيليّا فمرجعه إلى تنزيله منزلة الأثر المباشر الواقعي ، وهذا يستتبع ثبوت الأثر الشرعي الثاني تنزيلا ، وهكذا.

والجواب : أنّ الآثار الشرعيّة غير المباشرة أي الطوليّة يمكن إرجاعها إلى آثار شرعيّة مباشرة ، وذلك بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب ما دام يستفاد منه تنزيل المشكوك منزلة الواقع المتيقّن ، فهذا يعني أنّ استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الطعام المتنجّس يترتّب عليه طهارة الطعام ، وحينئذ تكون طهارة الطعام ثابتة بالتنزيل ، وهذا يعني أنّ طهارة الطعام ثابتة ظاهرا بالتنزيل فيترتّب عليها أثرها الشرعي المباشر وهو حلّيّة هذا الطعام.

ص: 268

والوجه في ذلك : أنّ دليل الاستصحاب الذي مفاده جعل الحكم المماثل تنزيلا يستفاد منه عدّة تنزيلات ، أي أنّه ينحلّ إلى تنزيلات متعدّدة من جهة الموضوع ومن جهة المحمول.

فالموضوع الذي هو طهارة الماء ثبت بالتنزيل وترتّب عليه أثره الشرعي أي طهارة الطعام المغسول به ، وهذا المحمول أي طهارة الطعام ثبت بالتنزيل فيترتّب عليه أثره الشرعي المباشر ، أي حلّيّة الطعام.

ولا وجه للتفصيل بين هذين التنزيلين ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

وبتعبير آخر : أنّ دليل التنزيل عامّ من جهة الموضوع ومن جهة المحمول ، إذ لا دليل على اختصاصه بالموضوع فقط ، ولذلك تثبت الآثار المباشرة للموضوع وتثبت الآثار المباشرة للمحمول أيضا.

وأمّا على الثاني : فقد يستشكل بأنّه لا تنزيل في ناحية المستصحب على هذا التقدير ، وإنّما التنزيل والتعبّد في نفس اليقين ، وغاية ما يقتضيه كون اليقين بالحالة السابقة باقيا تعبّدا بلحاظ كاشفيّته.

ومن الواضح أنّ اليقين بشيء إنّما يكون طريقا إلى متعلّقه لا إلى آثار متعلّقه ، وإنّما يقع في صراط توليد اليقين بتلك الآثار ، واليقين المتولّد هو الذي له طريقيّة إلى تلك الآثار ، وما دامت طريقيّة كلّ يقين تختصّ بمتعلّقه فكذلك منجّزيّته ومحرّكيّته.

وعليه فالتعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة إنّما يقتضي توفير المنجّز والمحرّك بالنسبة إلى الحالة السابقة ، لا بالنسبة إلى آثارها الشرعيّة.

وأمّا على المسلك الثاني وهو ما اختارته مدرسة الميرزا من أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو تنزيل الشكّ منزلة اليقين أي أنّ الشاكّ كالمتيقّن ، فإنّه على هذا المسلك يكون التنزيل بلحاظ نفس اليقين لا المتيقّن ، أي هنا تعبّد وتنزيل بلزوم الجري العملي على وفق اليقين أو التعبّد ببقاء نفس اليقين السابق.

وأمّا الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب ، فهذه لا يمكن استفادتها من دليل الاستصحاب على أساس هذا المسلك ؛ وذلك لأنّ ما يقتضيه الحكم ببقاء اليقين أو الجري العملي على وفق كون الحالة السابقة لا تزال باقية تعبّدا لا حقيقة ، حيث

ص: 269

لوحظ اليقين هنا بما هو كاشف وطريق إلى متعلّقه لا بما هو موضوع ، إذ لا يصحّ إسناد النقض إليه كما تقدّم.

وبهذا يكون التعبّد ببقاء اليقين الكاشف والطريقي تعبّدا ببقاء المتعلّق ؛ لأنّ اليقين إنّما يكون طريقيّا وكاشفا عن متعلّقه فقط ، وأمّا آثار متعلّقه فهذه لا يكشف عنها اليقين ابتداء ولا تقع في طريق كاشفيّة اليقين ؛ لأنّ الكشف عن المتعلّق لا يعني الكشف عن آثاره المترتّبة عليه ، فيكون اليقين الذي نستفيده من دليل التعبّد الاستصحابي طريقيّا وكاشفا عن تلك الحالة السابقة فقط.

وأمّا الآثار الشرعيّة التي تترتّب على المتعلّق فهذه لا يمكن إثباتها بناء على هذا المسلك ؛ لأنّ طريقيّة اليقين وكاشفيّته إنّما تكون بلحاظ متعلّقه فيكون هذا اليقين محرّكا ومنجّزا بلحاظ ما يقتضيه متعلّقه فقط ؛ لأنّها هي التي تمّ عليها المحرّك والمنجّز.

وبتعبير آخر : أنّ دليل الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين وعدم جواز نقضه ، وهذا يكون بلحاظ الجري العملي على وفق ما يقتضيه اليقين الكاشف والطريقي ، لا اليقين الموضوعي ؛ لأنّ إسناد النقض إليه غير معقول.

وعلى هذا فالكاشفيّة والطريقيّة لليقين تكون بلحاظ كشفه عن متعلّقه ، فالتعبّد ببقاء اليقين يعني التعبّد بوجود المحرّك والمنجّز بلحاظ الحالة السابقة التي حكم ببقاء اليقين بها ، وأمّا الآثار الشرعيّة فهي ليست آثارا لكاشفيّة اليقين ، بل هي آثار للمتيقّن نفسه ، فلم تكن داخلة في كاشفيّة وطريقيّة اليقين المتولّد من الاستصحاب ، وهذا يعني أنّ الاستصحاب غاية ما ينظر إليه هو ثبوت الحالة السابقة دون غيرها.

وبكلمة ثالثة : أنّ اليقين متعلّق بالمؤدّى والمستصحب بحسب كاشفيّته وطريقيّته ، والتعبّد الاستصحابي المستفاد منه الحكم ببقاء اليقين على أساس جعل العلميّة والطريقيّة في الاستصحاب كما هي مقالة السيّد الخوئي يعبّدنا بأنّ الشاكّ كالمتيقّن ، فيثبت المؤدّى والمستصحب ؛ لأنّه واقع في طريق الكاشفيّة والطريقيّة لليقين ، وهذا التعبّد يقتضي الجري العملي على وفق المستصحب ، وأمّا الآثار الشرعيّة فهي ليست داخلة في كاشفيّة وطريقيّة اليقين ؛ لأنّ اليقين لا يكشف إلا عن المتعلّق وبالتالي لا يكون محرّكا ومنجّزا إلا للمتعلّق.

فإن قيل : أليس من يكون على يقين من شيء يكون على يقين من آثاره أيضا؟

ص: 270

كان الجواب : أنّ اليقين التكويني بشيء يلزم منه اليقين التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره ، وأمّا اليقين التعبّدي بشيء فلا يلزم منه اليقين التعبّدي بآثاره ؛ لأنّ أمره تابع امتدادا وانكماشا لمقدار التعبّد ، ودليل الاستصحاب لا يدلّ على أكثر من التعبّد باليقين بالحالة السابقة.

قد يقال : إنّ الآثار الشرعيّة المباشرة تترتّب أيضا ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل العلميّة والطريقيّة ، وهذا يعني أنّ المكلّف يصبح عالما بالحالة السابقة تعبّدا ، ومن الواضح أنّ العلم بشيء علم بلوازمه أيضا ، فيكون العلم متعلّقا بالحالة السابقة وبآثارها الشرعيّة مطلقا.

وجوابه : أنّ الملازمة بين ثبوت شيء وثبوت آثاره ولوازمه ملازمة تكوينيّة واقعيّة ، فإذا كان لدينا علم وجداني بالشيء فهذا الشيء صار ثابتا واقعا وتكوينا ، وبالتالي تترتّب آثاره ولوازمه تبعا للملازمة التكوينيّة بينهما.

وأمّا إذا كان لدينا يقين تعبّدي كما في مقامنا ، فاليقين التعبّدي يتحدّد بالمقدار الذي يدلّ عليه الدليل سعة وضيقا ، فإن كان دليل التعبّد يستفاد منه التعبّد بجميع الآثار فيؤخذ بها ، وإن لم يكن له مثل هذه الدلالة فيقتصر فيه على المقدار المتيقّن الذي يدفع به محذور اللغويّة من التعبّد لا أكثر.

وهنا دليل الاستصحاب يعبّدنا ببقاء اليقين بالحالة السابقة فيثبت هذا المقدار فقط ، باعتبار اليقين كاشفا عن متعلّقه ، وبالتالي تترتّب الآثار الشرعيّة المباشرة دفعا لمحذور اللغويّة من التعبّد ، وأمّا سائر الآثار الشرعيّة فهذه لا تثبت إلا بالملازمة التكوينيّة وهذه سببها غير موجود ، أو بشمول دليل التعبّد لها بالمطابقة وهذا أيضا غير موجود.

والتحقيق : أنّ تنجّز الحكم يحصل بمجرّد وصول كبراه وهي الجعل ، وصغراه وهي الموضوع ، فاليقين التعبّدي بموضوع الأثر بنفسه منجّز لذلك الأثر والحكم وإن لم يسر إلى الحكم.

والتحقيق أن يقال : إنّ المنجّزيّة تترتّب على أمرين :

الأوّل : وصول الكبرى وهي الجعل.

والثاني : تحقّق الصغرى وهي الموضوع.

فمثلا وجوب الحجّ على المستطيع إنّما يكون منجّزا فيما إذا وصل الجعل إلى

ص: 271

المكلّف ، بأن علم بوجوب الحجّ على المستطيع ، وفيما إذا تحقّقت الاستطاعة في الخارج ، وأمّا إذا لم يعلم بوجوب الحجّ فلا يكون الحجّ منجّزا عليه ولو كان مستطيعا ، وكذا إذا علم بوجوب الحجّ ولم يكن مستطيعا فلا يكون الوجوب منجّزا عليه.

وفي مقامنا نقول : إنّ اليقين التعبّدي المستفاد من دليل الاستصحاب يثبت لنا الموضوع أي الصغرى ، وأمّا الأثر والحكم الشرعي فهو ثابت بالوجدان.

فمثلا نحن نعلم بأنّ من كان عادلا تجوز الصلاة خلفه وتقبل شهادته. وهذا يعني أنّنا نعلم بالأثر والحكم وجدانا ، وأمّا الصغرى وهي كون زيد عادلا فهذا ما يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّنا كنّا على يقين من عدالة زيد وعند استصحابها تثبت لنا عدالته تعبّدا.

وبهذا تتحقّق المنجّزيّة لوصول الجعل بالعلم الوجداني ولوصول الموضوع بالعلم التعبدي.

ولا نحتاج لإثبات الحكم والأثر إلى إثبات كون اليقين التعبّدي متعلّقا بالأثر والحكم ليقال بأنّ اليقين التعبّدي يثبت لنا الحالة السابقة فقط ولا يسري إلى آثارها وأحكامها الشرعيّة.

وعلى هذا تكون الآثار الشرعيّة ثابتة ومنجّزة لتحقّق كلا جزأي موضوع المنجّزيّة من الجعل والموضوع ، فإنّ الأوّل ثابت بالوجدان ، والثاني ثابت بالتعبّد.

فإن قيل : إذا كان اليقين بالموضوع كافيا لتنجّز الحكم المترتّب عليه ، فما ذا يقال عن الحكم الشرعي المترتّب على هذا الحكم؟ وكيف يتنجّز مع أنّه لا تعبّد باليقين بموضوعه وهو الحكم الأوّل؟

فإن قيل : إنّ ما ذكرتموه يتمّ في الآثار الشرعيّة المباشرة المترتّبة على المستصحب ؛ لأنّ الجعل معلوم وجدانا والصغرى ثابتة تعبّدا ، وأمّا الآثار الشرعيّة غير المباشرة أي الآثار والأحكام المترتّبة على الحكم ، وكذا الأثر الشرعي للمستصحب لا على المستصحب نفسه ، فهذه كيف يمكن تنجّزها مع أنّ موضوعها - أي الحكم الشرعي - لم يثبت بدليل التعبّد الاستصحابي؟

لأنّ التعبّد الاستصحابي يثبت به الموضوع فقط لا الأثر الشرعي ، فتترتّب الآثار الشرعيّة الثابتة للموضوع دون الآثار الشرعيّة الثابتة للأثر الشرعي ؛ لأنّه غير ثابت

ص: 272

وجدانا كما هو واضح ، وغير ثابت تعبّدا ؛ لأنّ دليل الاستصحاب قاصر عن إثباته كما تقدّم ، فيقتصر على المقدار الثابت تعبّدا لا أكثر.

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني الذي أخذ في موضوعه الحكم الأوّل لا يفهم من لسان دليله إلا أنّ الحكم الأوّل بكبراه وصغراه موضوع للحكم الثاني ، والمفروض أنّه محرز كبرى وصغرى ، جعلا وموضوعا ، وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني ، فيتنجّز الحكم الثاني كما يتنجّز الحكم الأوّل.

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني المترتّب على الحكم الأوّل بحيث يكون الحكم الأوّل جزءا من موضوعه ، لم يؤخذ في دليل الاستصحاب ، ولا نريد إثباته بالتعبّد الاستصحابي ، وإنّما يثبت لتحقّق كبراه وصغراه.

فمثلا إذا أردنا إثبات حلّيّة الطعام وجواز أكله التي هي أثر شرعي مترتّب على طهارة الطعام ، التي هي أثر شرعي مترتّب على طهارة الماء المغسول به الثابتة بالاستصحاب ، نقول : إنّ هذا الحكم الثاني كبراه ثابتة وجدانا ؛ لأنّنا نعلم بالجعل الثابت في عالم التشريع القائل بأنّ الطعام الطاهر يجوز أكله ، لدلالة الأخبار والروايات على ذلك.

وأمّا صغراه أي الموضوع وهو ثبوت ووجود طعام طاهر فعلا ، فهذه ثابتة بالتعبّد الاستصحابي ، حيث إنّ استصحاب طهارة الماء يثبت به موضوع طهارة الطعام ؛ لأنّه أثر شرعي معلوم جعلا بالوجدان ومعلوم موضوعا بالاستصحاب. وهذا يعني أنّ الاستصحاب أحرز به أو تنجّز به طهارة الطعام التي هي الصغرى للحكم بحلّيّة الطعام وجواز أكله. وبالتالي يكون الحكم الثاني ثابتا لثبوت جعله وجدانا ، ولثبوت صغراه تعبّدا فيكون منجّزا.

ولذلك نقول : إنّنا لا نريد بالاستصحاب إثبات الحكم الثاني ابتداء ، ليقال إنّ دليل الاستصحاب غير شامل له ، وإنّما نريد بالاستصحاب إثبات أحد جزأي موضوع منجّزيّة الحكم الثاني وهي الصغرى ؛ لأنّ الكبرى أي الجعل معلومة بالوجدان.

فكما قلنا بالنسبة للأثر الأوّل نقوله بالنسبة للأثر الثاني ؛ لأنّ الاستصحاب يثبت به تمام موضوع الأثر الأوّل ، وبالتالي يثبت به جزء موضوع الأثر الثاني أيضا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

ص: 273

وهذا المضمون هو معنى ما يقال : إنّ أثر الأثر الشرعي أثر أيضا ، فإذا ثبت الأثر الشرعي يثبت أثره الشرعي الثاني وهكذا (1).

ومنه يعرف الحال على التقدير الثالث ، فإنّ اليقين بالموضوع لمّا كان بنفسه منجّزا للحكم كان الجري على طبق حكمه داخلا في دائرة اقتضائه العملي ، فيلزم بمقتضى النهي عن النقض العملي.

وأمّا على المسلك الثالث الذي اخترناه من كون دليل الاستصحاب ناظرا إلى النهي عن النقض العملي لليقين ، فمقتضى النهي المذكور كون الآثار الشرعيّة الثابتة للمتعلّق لا يجوز نقضها ؛ لأنّ إسناد النقض إلى اليقين ليس حقيقة بلحاظ نفس اليقين ؛ لأنّه غير معقول كما تقدّم ، بل إلى اليقين بما هو كاشف وطريق.

وهذا يفترض وجود آثار ثابتة للمتعلّق ينهى عن نقضها عمليّا ، فتثبت الآثار العمليّة الشرعيّة المترتّبة على المستصحب ؛ لأنّ الجري العملي على وفق المستصحب يعني ثبوت الموضوع وتنجّزه ، وإذا تحقّق الموضوع تعبّدا ترتّب حكمه الشرعي عليه ؛ لأنّ الحكم معلوم وجدانا بلحاظ عالم الجعل ، فيكون ثبوت الحكم داخلا في دائرة التعبّد الاستصحابي بالجري العملي على طبق الموضوع.

وبتعبير آخر : أنّ مقتضى النهي عن النقض العملي لليقين كون المتيقّن ثابتا ومنجّزا وهو الموضوع ، فإذا ثبت الموضوع تعبّدا وكان الحكم معلوما بالوجدان بلحاظ عالم الجعل تحقّقت المنجّزيّة للحكم الشرعي المترتّب على هذا الموضوع فيثبت الحكم ، وبالتالي يدخل في دائرة النهي عن النقض العملي.

هذا بالنسبة للآثار المباشرة ، وكذا الحال بالنسبة للآثار الطوليّة غير المباشرة ، فإنّ التعبّد بالجري العملي على وفق المتيقّن يثبت جزء الموضوع للحكم الثاني تعبّدا كما تقدّم آنفا.

ص: 274


1- قدّمنا الإشكال وجوابه على قوله : ( ومنه يعرف .. ) ؛ لأنّه الأنسب بالترتيب كما هو واضح.

الأصل المثبت

ص: 275

ص: 276

[ الأصل المثبت ]

وأمّا القسم الثاني ، فلا يثبت بدليل الاستصحاب ؛ لأنّه إن أريد إثبات اللوازم العقليّة بما هي فقط فهو غير معقول ، إذ لا أثر للتعبّد بها بما هي ، وإن أريد إثبات ما لهذه اللوازم من آثار وأحكام شرعيّة فلا يساعد عليه دليل الاستصحاب على التقادير الثلاثة المتقدّمة.

أمّا على الأوّل فلأنّ التنزيل في جانب المستصحب إنّما يكون بلحاظ الآثار الشرعيّة لا اللوازم العقليّة كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

وأمّا على الأخيرين فلأنّ اليقين بالحالة السابقة تعبّدا لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي المترتّب على اللازم العقلي ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم هو اللازم العقلي ، واليقين التعبّدي بالمستصحب ليس يقينا تعبّديا باللازم العقلي.

وأمّا اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب كنبات اللحية وكبر السنّ والهرم المترتّبة على استصحاب حياة زيد بعد فترة طويلة من السنين ، وكإثبات موته باستصحاب بقائه تحت الجدار إلى انهدامه ، وكإثبات كرّيّة الماء الموجود باستصحاب وجود الكرّ من الماء ، فهذه اللوازم لا تثبت بالاستصحاب ، وهذا ما يسمّى بالأصل المثبت ، ويقال عادة : إنّ الأصل المثبت لا يثبت.

والوجه في عدم حجّيّة اللوازم العقليّة المراد إثباتها بالاستصحاب هو : أنّه إن أريد بالاستصحاب إثبات اللوازم العقليّة بما هي هي من دون الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، فهذا لغو ولا فائدة منه ، إذ لا معنى لأن يعبّدنا الشارع بنبات اللحية في حين لا يوجد أثر شرعي مترتّب عليها ؛ لأنّ مثل هذا التعبّد يكون لغوا ومخالفا لمقدّمات الحكمة.

ص: 277


1- في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

وإن أريد بالاستصحاب إثبات اللوازم العقليّة وإثبات الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها بأن كان المنظور من إثبات اللوازم العقليّة هو التوصّل إلى إثبات الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، كأن يفرض وجود حكم شرعي مترتّب على نبات اللحية كأن يقال : ( إذا كان لزيد لحية فيجب التصدّق ) ، فهذا معقول في نفسه ، إذ لا محذور في أن يعبّدنا الشارع بثبوت مثل هذا الأثر المترتّب على اللازم العقلي ؛ لأنّ الثبوت للأثر ولموضوعه ظاهري ادّعائي لا حقيقي.

إلا أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن إفادة ذلك على المسالك الثلاثة المتقدّمة في تفسير التعبّد الاستصحابي.

أمّا على المسلك الأوّل القائل بالتنزيل للمشكوك منزلة المتيقّن فواضح ؛ لأنّ التنزيل من الشارع إنّما يكون بلحاظ الآثار التي تقع تحت سلطان الشارع بما هو شارع ، وهذا يفترض كون الآثار المراد التنزيل بلحاظها آثارا شرعيّة كالحكم وموضوعه ؛ لأنّها هي التي يمكن للشارع التنزيل بلحاظها ؛ لأنّها أحكامه هو.

وأمّا الآثار واللوازم العقليّة فهي من أحكام العقل لا الشرع ، ولا معنى لأن يعبّدنا الشارع بثبوت الآثار العقليّة ؛ لأنّها خارجة عن نطاق التشريع ، فيكون هناك قصور من ناحية هذه الآثار العقليّة ؛ لأنّ الملاحظ في التنزيل كون المنزّل مشرّعا ، فيكون هناك انصراف لبّي في دليل الاستصحاب عن اللوازم العقليّة واختصاصه باللوازم الشرعيّة فقط.

وأمّا على المسلك الثاني القائل بأنّ الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة ، فالمستفاد منه كما تقدّم أنّ الحالة السابقة هي المنجّزة ؛ لأنّها هي التي تعلّق بها اليقين دون غيرها ، فما يثبت هو الحالة السابقة فقط دون الآثار مطلقا ؛ لأنّها ليست متعلّقة لليقين الاستصحابي ؛ لأنّ متعلّقه هو الموضوع المستصحب.

وأمّا الآثار فهي متعلّقة لليقين المتولّد من اليقين بالمتعلّق والموضوع ، إلا أنّ ثبوت اليقين التعبّدي بالمتعلّق لا يلزم منه ثبوت اليقين التعبّدي بالآثار ؛ لأنّ الملازمة تكوينيّة واقعيّة وهي لا تثبت بالتعبّد.

نعم ، قلنا : إنّ الآثار الشرعيّة المباشرة وكذا الآثار الشرعيّة غير المباشرة التي تكون الواسطة فيها شرعيّة يمكن إثباتها بما تقدّم من تحقّق موضوع الحجّيّة والمنجّزيّة ، حيث

ص: 278

إنّ الجعل معلوم وجدانا والموضوع أي الصغرى تثبت بالاستصحاب ؛ لأنّه يثبت تمام الموضوع للأثر المباشر وجزء الموضوع للأثر غير المباشر.

وأمّا الآثار واللوازم العقليّة فلا يتحقّق فيها موضوع المنجّزيّة لا بتمامه ولا بجزئه ؛ لأنّ استصحاب الموضوع المتيقّن ليس هو تمام الموضوع للأثر العقلي ، وليس أيضا جزء الموضوع له.

فمثلا استصحاب حياة زيد ليست هي تمام الموضوع لوجوب التصدّق وليست جزء الموضوع له أيضا ؛ لأنّ وجوب التصدّق موضوعه نبات اللحية لا حياة زيد ، ونبات اللحية لم يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّ اليقين لم يتعلّق بها ، وإنّما هي ثابتة بالملازمة العقليّة والتي لا يقين بها.

وأمّا على المسلك الثالث القائل بأنّ الاستصحاب مفاده التعبّد بالجري العملي على طبق اليقين بلحاظ كاشفيّته عن المتعلّق ؛ لأنّ النقض ليس حقيقيّا بل عمليّا ، فأيضا لا تثبت اللوازم العقليّة ولا آثارها الشرعيّة ، لما تقدّم من أنّ موضوع الأثر الشرعي هو نبات اللحية في المثال والتي هي لازم عقلي ، وهذا اللازم العقلي لا يقين به مباشرة ، وإنّما اليقين متعلّق بحياة زيد ، وهي ليست تمام الموضوع ولا جزأه ، فلا يكون اليقين التعبّدي بحياة زيد يقينا تعبّديّا بنبات لحيته أيضا ؛ لأنّ الملازمة بينهما تكوينيّة واقعيّة وهي لا تثبت بالتعبّد.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ الأصل المثبت غير معتبر ، بمعنى أنّ الاستصحاب لا تثبت به اللوازم العقليّة للمستصحب ، ولا الآثار الشرعيّة لتلك اللوازم.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ الأصل المثبت غير معتبر ولا يكون حجّة في إثبات اللوازم العقليّة لا هي نفسها ولا آثارها الشرعيّة المترتّبة عليها.

أمّا عدم ثبوتها هي نفسها فقط فلأنّه لغو ولا فائدة من التعبّد بها كما تقدّم.

وأمّا عدم ثبوت لوازمها الشرعيّة أيضا ، فلأنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول لها ؛ لأنّها ليست متعلّقة لليقين ، وليس المستصحب تمام الموضوع ولا جزأه بالنسبة لها ؛ لأنّ تمام موضوعها هو اللازم العقلي ، وهو لا يثبت تعبّدا بالاستصحاب ؛ لأنّه لا يقين به.

ولا ملازمة أيضا بين اليقين التعبّدي بالمستصحب واليقين التعبّدي بآثاره العقليّة ؛ لأنّ الملازمة واقعيّة تكوينيّة مترتّبة على اليقين الوجداني فقط.

ص: 279

نعم ، إذا كان لنفس الاستصحاب لازم عقلي كحكم العقل بالمنجّزيّة مثلا فلا شكّ في ترتّبه ؛ لأنّ الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز فتترتّب عليه كلّ لوازمه الشرعيّة والعقليّة على السواء.

وهنا يوجد استثناءان من عدم حجّيّة الأصل المثبت أو اللوازم العقليّة :

الأوّل : لم يذكره هنا لوضوحه وهو فيما إذا كان اليقين متعلّقا باللازم العقلي من أوّل الأمر ثمّ شكّ في بقائه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب لإثبات بقائه تعبّدا.

كما إذا كنّا على يقين من نبات لحية زيد ثمّ شككنا في بقائها ، وكان هناك أثر شرعي مترتّب عليها فيجري استصحابها ويترتّب الأثر الشرعي ؛ لأنّه أثر شرعي للمؤدّى المستصحب.

وكما إذا كنّا على يقين بأنّ هذا الماء متّصف بالكرّيّة ثمّ شككنا في بقاء اتّصافه بها بعد أخذ مقدار يسير منه ، فيجري استصحاب بقاء اتّصافه بالكرّيّة ويترتّب عليه الحكم الشرعي بالاعتصام وعدم الانفعال بمجرّد الملاقاة ، خلافا لما إذا كنّا على يقين بوجود كرّ فاستصحبنا أصل وجود الكرّ ، فإنّ إثبات اتّصاف الماء بالكرّيّة يكون لازما عقليّا كما تقدّم ؛ لأنّ المتيقّن مفاد ( كان ) التامّة ، والمراد إثباته مفاد ( كان ) الناقصة وهي لازم عقلي.

الثاني : ما ذكره الشهيد هنا وهو : أن يكون اللازم العقلي مترتّبا على نفس التعبّد الاستصحابي أي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ، كحكم العقل بالمنجّزيّة والحجّيّة ، فإنّ هذا الحكم العقلي مترتّب وثابت لنفس الاستصحاب فيقال :

الاستصحاب حجّة ومنجّز ومعذّر ، فإذا جرى الاستصحاب في مورد ثبتت المنجّزيّة أو المعذّريّة التي هي حكم عقلي ، وصار هذا الشيء المستصحب حجّة ومنجّزا أو معذّرا.

وهذه المنجّزيّة ليست من الآثار العقليّة للمستصحب نفسه ؛ لأنّ حياة زيد ليست من آثارها التكوينيّة المنجّزيّة كما هو واضح ، وإنّما المنجّزيّة من الآثار العقليّة التي يحكم بها العقل عند إحراز الحكم الشرعي أو موضوعه ، فهي حكم عقلي منصبّ على نفس الحكم.

وعليه فيكون هذا اللازم العقلي ثابتا ؛ لأنّه مترتّب على الاستصحاب نفسه ،

ص: 280

والاستصحاب نفسه ثابت بدليل محرز وهو الأخبار المتقدّمة الدالّة عليه ، وحيث إنّ الأخبار من جملة الأمارات ، وحيث إنّ الأمارات لوازمها حجّة سواء الشرعيّة أو العقليّة ، فما يثبت بالأمارة هو الأعمّ من المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي ، والمدلول المطابقي للأخبار هو الاستصحاب ، والمدلول الالتزامي لها هو حجّيّته ومنجّزيّته فتكون المنجّزيّة ثابتة بالدليل المحرز أي الأمارة.

وكذا يمكن تصوير ثبوت اللازم العقلي فيما إذا كان مترتّبا على نفس الحجّيّة أي المنجّزية والمعذّريّة كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية أي لزوم الامتثال وحرمة العصيان ، فإنّهما لازمان عقليّان مترتّبان على نفس المنجّزيّة والمفروض أنّ المنجّزيّة ثابتة للاستصحاب يقينا ؛ لأنّها ثابتة بالدليل المحرز فهي مقطوعة وجدانا ، واللازم العقلي لا إشكال في ثبوته عند القطع الوجداني.

هذا كلّه على تقدير عدم ثبوت أماريّة الاستصحاب كما هو الصحيح على ما عرفت.

وأمّا لو قيل بأماريّته واستظهرنا من دليل الاستصحاب أنّ اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفيّة ، كان حجّة في إثبات اللوازم العقليّة للمستصحب وأحكامها أيضا ، وفقا للقانون العامّ في الأمارات على ما تقدّم سابقا (1).

ثمّ إن ما تقدّم من عدم حجّيّة اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب إنّما يأتي على القول بأنّ الاستصحاب أصل عملي تنزيلي ومحرز.

وأمّا على القول بأماريّة الاستصحاب لوجود الحيثيّة الكاشفة فيه فيكون من جملة الأمارات التي تكون لوازمها الشرعيّة والعقليّة حجّة كما تقدّم في الجزء السابق ، حيث تقدّم أنّ مثبتات الأمارة حجّة بينما مثبتات الأصول ليست حجّة.

والوجه في ذلك : ما تقدّم من أنّ المجعول في الأمارات هو العلميّة والطريقيّة وتتميم الكشف بناء على تصوّرات المشهور ، بينما المجعول فيها قوّة الاحتمال الكاشف التي نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ واحد على ما اخترناه هناك.

ص: 281


1- عند عرض المبادئ العامّة لبحث الأدلّة المحرزة في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة.

إلا أنّ أحدا لم يقل بأنّ الاستصحاب أمارة سوى السيّد الخوئي ، ولكنّه رغم ذلك لم يذهب إلى حجّيّة مثبتات الأمارات كما تقدّم عنه سابقا ، فالنتيجة العمليّة واحدة حينئذ سواء كان أصلا أم لا.

وبهذا ينتهي الكلام عن الأصل المثبت واللوازم الشرعيّة والعقليّة.

* * *

ص: 282

عموم جريان الاستصحاب

اشارة

ص: 283

ص: 284

عموم جريان الاستصحاب

بعد ثبوت كبرى الاستصحاب وقع البحث بين المحقّقين في إطلاقها لبعض الحالات ، ومن هنا نشأ التفصيل في القول به ، ولعلّ أهمّ التفصيلات المعروفة قولان :

بعد الفراغ عن استفادة كبرى الاستصحاب من الروايات المتقدّمة ، وقع الكلام بينهم في أنّ هذه القاعدة هل هي عامّة وشاملة لكلّ الموارد التي يوجد فيها يقين وشكّ أم أنّها مختصّة ببعض تلك الموارد؟

ومن هنا وجدت عدّة تفصيلات :

منها : ما تقدّم من اختصاص الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فقط ، فلا يجري في الشبهات الموضوعيّة.

ومنها : عكس السابق ، أي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة دون الحكميّة.

ومنها : جريانه في الشبهات الحكميّة الثابتة بدليل الشرع دون الشبهات الحكميّة الثابتة بدليل العقل.

ومنها : جريانه في موارد الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي.

وهناك تفصيلات تفريعيّة مرجعها إلى أحد هذه التفصيلات ، وسوف نتحدّث عن اثنين من هذه التفصيلات فقط :

أحدهما : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (1) من التفصيل بين موارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع. والالتزام بجريان الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.

ومدرك المنع من جريانه في الأوّل أحد وجهين :

التفصيل الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا تبعا للشيخ الأنصاري الذي قال : إنّ أوّل من

ص: 285


1- فرائد الأصول 3 : 51.

التفت إلى هذا التفصيل هو المحقّق الخوانساري ، ولعلّ المحقّق الحلّي سبقهم إلى ذلك في ( المعارج ) ، وعلى كلّ حال فالتفصيل يتّجه إلى أنّ الاستصحاب لا يجري إذا كان الشكّ في المقتضي. وأمّا إذا كان الشكّ في الرافع فيجري الاستصحاب.

فهنا دعويان إحداهما إيجابيّة وهي جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع ، وهي صحيحة لا كلام فيها.

والأخرى سلبيّة وهي عدم جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، وهي غير مقبولة عندنا.

وقبل الدخول في الاستدلال على هذه الدعوى والنقاش فيها لا بدّ من تعيين المراد من المقتضي والرافع.

فالمقتضي يراد به ألاّ يكون الشيء له قابليّة واستعداد للاستمرار والامتداد في عمود الزمان ، فيشكّ في بقائه من جهة الشكّ في انتهاء استعداده وقابليّته للاستمرار ، ككبير السنّ الذي يشكّ في بقائه حيّا ، فإنّ منشأ الشكّ هو أنّ كبر السنّ لا يوجب استمرار الحياة وامتدادها ، وكخيار الغبن الذي يشكّ في بقائه من جهة انتهاء زمانه حيث يشكّ أنّه هل له القابليّة والاستعداد للاستمرار والامتداد أم لا؟

وأمّا الرافع فهو أن يكون الشيء له قابليّة واستعداد للاستمرار في عمود الزمان ، وإنّما ينشأ الشكّ في بقائه نتيجة الشكّ في طروّ المانع والمزيل والرافع لهذا الاستمرار والاستعداد ، كالشاب الفتى ، الذي يشكّ في بقائه حيّا من جهة وجود مانع من استمرار الحياة كالقتل أو الغرق ونحو ذلك ، وكالطهارة أو النجاسة التي تستمرّ إلى وجود الرافع والمزيل.

وأمّا مدرك هذا التفصيل فيمكن أن يستدلّ عليه بوجهين كلاهما غير تامّ :

الأوّل : أن يدّعى بأنّ دليل الاستصحاب ليس فيه إطلاق لفظي ، وإنّما ألغيت خصوصيّة المورد في قوله : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بقرينة الارتكاز العرفي وكون الكبرى مسوقة مساق التعليل الظاهر في الإشارة إلى قاعدة عرفيّة مركوزة ، وليست هي إلا كبرى الاستصحاب ، ولمّا كان المرتكز عرفا من الاستصحاب لا يشمل موارد الشكّ في المقتضي ، فالتعميم الحاصل في الدليل بضمّ هذا الارتكاز لا يقتضي إطلاقا أوسع من موارد الشكّ في الرافع.

ص: 286

الوجه الأوّل : أن يقال : إنّ روايات الاستصحاب ليس فيها إطلاق لفظي ، لكي يتمسّك بهذا الإطلاق في كلّ الموارد حتّى موارد الشكّ في المقتضي ، بل روايات الاستصحاب واردة في موارد خاصّة ، وهي موارد الشكّ في الرافع ؛ لأنّ بعضها كان في الشكّ في حصول النوم الرافع للطهارة وبعضها كان في الشكّ في طروّ النجاسة على الثوب الطاهر.

إلا أنّنا ألغينا خصوصيّة الطهارة الحدثيّة أو الخبثيّة وعمّمنا الاستصحاب كقاعدة كلّيّة عامّة تجري في كلّ الموارد ، إلا أنّ هذه الموارد ليست هي إلا موارد الشكّ في الرافع فقط دون المقتضي ؛ وذلك لأنّ التعميم كان مستندا على أساس كون كبرى الاستصحاب ظاهرة في التعليل بأمر مركوز عند العرف والعقلاء ؛ لأنّها مسوقة مساق بيان العلّة والسبب للحكم بالبقاء.

والوجه في كونها عرفيّة مركوزة هو التعبير ب- ( لا ينبغي ) أو ( لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ) فإنّ الأولى قرينة على أنّ العرف والعقلاء لا يفعلون ذلك ، والثانية فيها ذكر لفظي للتأبيد الذي يفيد العموم.

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة ما هو المركوز عند العقلاء لنرى مدى سعة هذا التعميم؟

ومن الواضح أنّ العرف والعقلاء إنّما يجرون الاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع فقط دون المقتضي ؛ لأنّهم إنّما يحكمون ببقاء الشيء عند ما يشكّون في بقائه بعد علمهم باستعداده وقابليّته للبقاء.

والحاصل : أنّه لا يوجد إطلاق لفظي ليتمسّك به ، والإطلاق والتعميم وإلغاء خصوصيّة المورد يفيد أنّه يجري في سائر الموارد التي هي من هذا القبيل ، أو التي ارتكز عند العرف جريان الاستصحاب فيها ، وليست هي إلا موارد الشكّ في الرافع.

وهذا البيان يتوقّف - كما ترى - على عدم استظهار الإطلاق اللفظي في نفسه ، وظهور ( اللام ) في كلمتي ( اليقين ) و( الشكّ ) في الجنس.

والجواب عن هذا البيان : أنّه متوقّف على أمرين :

الأوّل : عدم استظهار الإطلاق اللفظي من أدلّة الاستصحاب ، إذ لو استظهر الإطلاق اللفظي لأمكن التمسّك به ؛ لتعميم القاعدة لكلّ الموارد سواء الشكّ في المقتضي أم الرافع.

ص: 287

الثاني : عدم ظهور ( اللام ) في كلمتي ( اليقين والشكّ ) في الجنس ، إذ لو كانت ظاهرة في الجنس لأمكن التمسّك بهذا الظهور لاستفادة التعميم ، فكلّ يقين لا ينقض بكلّ شكّ.

وكلا هذين الأمرين غير تامّ.

أمّا الأوّل ، فلأنّ بعض أدلّة الاستصحاب يمكن أن يستفاد منها الإطلاق اللفظي كما في رواية إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن علیه السلام قال : « إذا شككت فابن على اليقين » ، قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم ».

فهذه ظاهرة في الإطلاق اللفظي ، حيث لم يكن هناك مورد خاصّ فيها ، بل كانت ابتداء من الإمام علیه السلام .

وأمّا الثاني ، فلأنّ الروايات التي كان لها مورد خاصّ ، قد استفدنا منها التعميم والإطلاق من خلال استظهار أنّ ( اللام ) في كلمتي ( اليقين والشكّ ) ، وأنّها ( لام ) الجنس لا ( لام ) العهد ، والدليل على هذا الاستظهار هو نفس كون هذه الكبرى مركوزة في الذهن العرفي ، فإنّ هذا الارتكاز يلغي خصوصيّة المورد ، وبالتالي يتعيّن كون ( اللام ) للجنس فيهما ، فيتمسّك بالعموم الذي تدلّ عليه هذه ( اللام ) الشامل لموارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

الثاني : أن يسلّم بالإطلاق اللفظي في نفسه ، ولكن يدّعى وجود قرينة متّصلة على تقييده ، وهي كلمة ( النقض ) حيث إنّها لا تصدق في موارد الشكّ في المقتضي.

الوجه الثاني : أنّنا لو سلّمنا بوجود الإطلاق اللفظي ، إلا أنّه يوجد أيضا قرينة لفظيّة متّصلة بهذا الإطلاق ، والقرينة المتّصلة تمنع من أصل انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق ، بل ينعقد الظهور على وفق هذه القرينة المتّصلة ، وهذه القرينة توجب تقييد الإطلاق بموارد الشكّ في الرافع دون المقتضي.

والقرينة هي كلمة ( النقض ) ، فإنّ النقض يحمل على الشيء الذي له صفة إحكام واستقرار ، وهذا يفترض كون الشيء المنقوض مستحكما في نفسه ، وهذا معناه كون الشيء له القابليّة والاستعداد في نفسه لو لا الرافع والمانع. إذ في موارد الشكّ في المقتضي لا يوجد مثل هذا الاستحكام والاستعداد ؛ لأنّه يشكّ في أصل ذلك.

ص: 288

وقد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة السابقة (1) ، واتّضح أنّ كلمة ( النقض ) لا تصلح للتقييد.

والجواب : أنّ كلمة ( النقض ) وإن كان معناها يفترض الاستحكام والإبرام إلا أنّها مسندة إلى اليقين نفسه لا إلى المتيقّن ، ومن الواضح أنّ اليقين فيه استحكام ؛ لأنّه التصديق وإذعان النفس واستقرارها ، فلا تكون هذه الكلمة دالّة على التقييد إلا إذا استظهر كونها مسندة إلى المتيقّن ، وهذا غير تامّ كما تقدّم سابقا.

والقول الآخر : ما ذهب إليه السيّد الأستاذ (2) من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة واختصاصه بالشبهات الموضوعيّة ، وذلك - بعد الاعتراف بإطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا القسمين من الشبهات - بدعوى أنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

التفصيل الثاني : ما ذكره المحقّق النراقي وطوّره السيّد الخوئي رحمه اللّه ، وحاصله : أنّ دليل الاستصحاب شامل في نفسه لكلا القسمين تمسّكا بالإطلاق ، فيشمل الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة.

أمّا الشبهات الموضوعيّة فيجري فيها استصحاب الموضوع واستصحاب الحكم الجزئي المترتّب على هذا الموضوع ، فإذا كان لدينا طعام طاهر ثمّ شككنا في بقاء طهارته جرى استصحاب طهارته وجرى استصحاب جواز أكله ؛ لأنّه متيقّن أيضا.

وأمّا في الشبهات الحكميّة الكلّيّة كوجوب صلاة الجمعة حال الغيبة ، أو طهارة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر من نفسه ، فهنا لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه مبتلى بالمعارض ، أو أنّ الاستصحاب يجري لكنّه يسقط بالمعارضة.

وهذا مختصّ في الحكم الإلزامي لا الترخيصي ، فإنّ استصحاب الحكم الترخيصي لا معارض له فيجري ؛ لأنّه في الحكم الإلزامي إذا أجري استصحاب بقاء الحكم المجعول فيعارضه استصحاب عدم الجعل ، بينما في الحكم الترخيصي إذا أجري استصحاب عدم المجعول فلا يكون استصحاب عدم الجعل معارضا له بل مؤيّدا.

ص: 289


1- في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.
2- مصباح الأصول 3 : 36.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم الشرعي - كما تقدّم في محلّه (1) - ينحلّ إلى جعل ومجعول ، والشكّ فيه تارة يكون مصبّه الجعل وأخرى يكون مصبّه المجعول.

فالنحو الأوّل من الشكّ يعني أنّ الجعل قد تعلّق بحكم محدّد واضح بكلّ ما له دخل فيه من الخصوصيّات ، غير أنّ المكلّف يشكّ في بقاء نفس الجعل ويحتمل أنّ المولى ألغاه ورفع يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل.

توضيح التفصيل المذكور : أنّ الحكم الشرعي ينحلّ إلى الحكم بلحاظ عالم الجعل ، وإلى الحكم بلحاظ عالم المجعول.

أمّا الحكم بلحاظ عالم الجعل فهو عبارة عن الحكم الإنشائي والاعتبار المولوي وتشريع الحكم على المكلّف.

وأمّا الحكم بلحاظ عالم المجعول فهو عبارة عن الحكم الفعلي الذي يكون محرّكا وباعثا للمكلّف ، فإنّ الحكم إنّما يصير فعليّا فيما إذا تحقّقت قيوده وشروطه وموضوعه وقيوده في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في الحكم الشرعي تارة يكون بلحاظ عالم الجعل وأخرى بلحاظ عالم المجعول.

أمّا الشكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل فهو يكون بأصل تشريع الحكم ، أي أنّ المولى هل شرّع هذا الحكم أم لا؟ كالشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإنّ الموضوع محدّد ومعروف بكلّ خصوصيّاته ، وكذا الحكم لا شكّ في قيوده وشروطه وإنّما يشكّ في أصل جعله على المكلّف.

ويتصوّر أيضا في الموارد التي يعلم فيها بأصل الجعل والتشريع ، أي أنّ المكلّف يعلم بأنّ الشارع قد جعل هذا الحكم بكلّ ما له من خصوصيّات على موضوعه المحدّد من جميع الحيثيّات ، ولكنّه يشكّ في الحكم من جهة احتمال أن يكون الشارع قد ألغاه ورفع اليد عنه ، وهذا يسمّى بالشكّ في النسخ بمعناه الحقيقي.

والنحو الثاني من الشكّ يعني أنّ الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه ، غير أنّ الشكّ في مجعوله والحكم المنشأ به ، فلا يعلم مثلا هل أنّ المولى جعل النجاسة على الماء المتغيّر حتّى إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو جعل النجاسة منوطة بفترة التغيّر

ص: 290


1- بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

الفعلي؟ فالمجعول مردّد بين فترة طويلة وفترة قصيرة ، وكلّما كان المجعول مردّدا كذلك كان الجعل مردّدا لا محالة بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة للفترة القصيرة معلوم وجعل النجاسة للفترة الإضافيّة مشكوك.

وأمّا الشكّ في الحكم بلحاظ عالم المجعول فمعناه أنّ الحكم بلحاظ عالم الجعل معلوم وثابت ولا يشكّ في إلغائه ونسخه ، وإنّما يشكّ في حدود المجعول والمنشأ به أي المقدار الذي جعله الشارع وأنشأه.

فمثلا يعلم المكلّف بأنّ الشارع قد جعل الحكم بالنجاسة على الماء المتغيّر ، ولكنّه لا يدري حدود هذا الجعل والمقدار المنشأ شرعا ، فهل هذا الجعل يشمل الماء المتغيّر حتّى بعد زوال التغيّر من نفسه ، أو أنّه يختصّ بحال التغيّر فعلا؟ وهذا الشكّ والترديد ليس في أصل الجعل والحكم بالنجاسة ، وإنّما هو بلحاظ مقدار المجعول سعة وضيقا.

فالمجعول مردّد بين الفترة الطويلة التي هي الحكم بالنجاسة إلى ما بعد التغيّر أيضا ، وبين الفترة القصيرة وهي الحكم بالنجاسة في فترة التغيّر الفعلي ، فقط ، وهذا معناه أنّ المجعول مردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة في الفترة القصيرة معلوم ، ويشكّ في المقدار الزائد وهي فترة زوال التغيّر من قبل نفسه.

ففي النحو الأوّل من الشكّ - إذا كان ممكنا - يجري استصحاب بقاء الجعل.

وأمّا في النحو الثاني من الشكّ فيوجد استصحابان متعارضان :

أحدهما : استصحاب بقاء المجعول أي بقاء النجاسة في الماء بعد زوال التغيّر مثلا ؛ لأنّها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء.

والآخر : استصحاب عدم جعل الزائد أي عدم جعل نجاسة الفترة الإضافيّة مثلا ، لما أوضحناه من أنّ تردّد المجعول يساوق الشكّ في الجعل الزائد.

وهذان الاستصحابان يسقطان بالمعارضة ، فلا يجري استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة.

أمّا النحو الأوّل من الشكّ أي الشكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل ، فيجري استصحاب عدم جعل الحكم بلا إشكال فيما إذا كان الشكّ في أصل الجعل والتشريع ، وأمّا إذا كان الشكّ في النسخ بمعناه الحقيقي فيجري استصحاب عدم النسخ أيضا على القول بأنّ النسخ بمعناه الحقيقي ممكن ، حيث يوجد معنيان للنسخ

ص: 291

أحدهما محال لاستلزامه الجهل وهو النسخ المستلزم للعلم بعد الجهل ، والآخر ممكن وهو أن يكون الحكم مؤقّتا بوقت لم يذكره الشارع فعند انتهاء أمده يرتفع ، فيكون الشكّ بمعنى أنّ هذا الحكم هل انتهى وقته أم أنّه مطلق من حيث الزمان؟

وأمّا النحو الثاني من الشكّ أي الشكّ بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، فهنا يجري استصحابان :

أحدهما : استصحاب بقاء المجعول الفعلي ، حيث إنّ المكلّف يعلم بحدوث النجاسة للماء المتغيّر فعلا الموجود في الخارج ، ثمّ يشكّ في بقاء هذه النجاسة من أجل الشكّ في أنّ زوال التغيّر من نفسه هل يوجب ارتفاع النجاسة أو لا؟ فيجري الاستصحاب ؛ لأنّ النجاسة معلومة الحدوث ، ومشكوكة البقاء.

والآخر : استصحاب عدم جعل الزائد ، أي عدم جعل الحكم بالنجاسة على المقدار الزائد وهو الفترة الإضافيّة الطويلة ، حيث تقدّم أنّ مرجع الشكّ في المجعول إلى التردّد في كون الحكم منصبّا على الفترة القصيرة أي الأقلّ ، وهي فترة التغيّر الفعلي أو على الفترة الطويلة أيضا وهي فترة زوال التغيّر من نفسه ، وهو من الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فيجري الأصل المؤمّن أي استصحاب عدم جعل النجاسة على الفترة الإضافيّة ؛ لأنّها مشكوكة بينما الفترة القصيرة معلومة.

وحينئذ يقع التعارض بين هذين الاستصحابين ؛ لأنّ الأوّل ينجّز النجاسة للفترة الإضافيّة المشكوكة ، بينما الثاني يؤمّن عنها فيحكم بتساقطهما ، وهذا معناه عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّه دائما معارض.

ولكي نعرف الجواب على شبهة المعارضة هذه ينبغي أن نفهم كيف يجري استصحاب المجعول في الشبهة الحكميّة بحدّ ذاته قبل أن نصل إلى دعوى معارضته بغيره؟

فنقول : إنّ استصحاب المجعول نحوان :

أحدهما : استصحاب المجعول الفعلي التابع لفعليّة موضوعه المقدّر الوجود في جعله ، وهو لا يتحقّق ولا يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء إلا بعد تحقّق موضوعه خارجا ، فنجاسة الماء المتغيّر لا تكون فعليّة إلا بعد وجود ماء متغيّر بالفعل ، ولا تتّصف بالشكّ في البقاء إلا بعد أن يزول التغيّر عن الماء فعلا.

ص: 292

وحينئذ يجري استصحاب النجاسة الفعليّة ، واستصحاب المجعول بهذا المعنى يتوقّف جريانه - كما ترى - على وجود الموضوع ، وهذا يعني أنّه لا يجري بمجرّد افتراض المسألة على وجه كلّيّ والالتفات إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر ، ويقضي ذلك بأنّ إجراء الاستصحاب من شأن المكلّف المبتلى بالواقعة خارجا لا من شأن المجتهد الذي يستنبط حكمها على وجه كلّي ، فالمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب في حقّه عند تماميّة الأركان لا أنّ المجتهد يجريه ويفتي المكلّف بمفاده.

وقبل الجواب عن شبهة المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل يجب أن نذكر المراد من استصحاب المجعول ، فإنّ تنقيح ذلك يلقي ضوءا على حلّ هذه الشبهة ؛ وذلك لأنّ استصحاب المجعول قد يراد به أحد معنيين :

الأوّل : استصحاب المجعول الفعلي الموجود في الخارج ، أي استصحاب الحكم المجعول الجزئي.

الثاني : استصحاب المجعول تقديرا ، أي استصحاب الحكم المجعول الكلّي.

أمّا النحو الأوّل : أي استصحاب المجعول الفعلي ، فهذا يفترض أن يكون الموضوع فعليّا ، وفعليّة الموضوع معناها وجود الموضوع في الخارج بوجود كلّ قيوده وشروطه وخصوصيّاته ، فلا بدّ أن يكون الموضوع محقّق الوجود في الخارج لكي يكون الحكم فعليّا.

وحينئذ يمكن أن يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء الذي هو الركن الثالث من أركان الاستصحاب ، أي تكون هناك قضيّة واحدة متيقّنة ومشكوكة.

فمثلا نجاسة الماء المتغيّر إنّما تكون فعليّة ، فيما إذا وجد في الخارج ماء واتّصف بالتغيّر بأوصاف النجاسة فعلا ، فيصدق حينئذ اليقين بالحدوث ، ثمّ إذا زال التغيّر من نفسه عن هذا الماء فعلا فتغيّرت الأوصاف فهنا يصدق الشكّ في البقاء ؛ وذلك لأنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة وهي الماء الموجود في الخارج فعلا ، والذي كان متيقّن النجاسة عند اتّصافه بالتغيّر الفعلي ، ثمّ صار مشكوك النجاسة عند ما زال عنه التغيّر فعلا ، ولهذا يكون الماء الثاني امتدادا واستمرارا للماء الأوّل ، أي الحصّة الثانية وهي الماء الذي زال عنه التغيّر هي بقاء للحصّة الأولى أي الماء الذي كان متغيّرا ؛ لأنّ

ص: 293

الماء يوجد أوّلا ثمّ يتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، فهناك طولية بين الحصّتين في عمود الزمان.

وبما أنّ أركان الاستصحاب تامّة لوجود يقين بحدوث النجاسة وشكّ في بقائها ، والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة للطوليّة بين الحصّتين في الخارج ، فيجري استصحاب بقاء المجعول الفعلي ، أي النجاسة الفعليّة الثابتة للماء الموجود في الخارج.

إذا النحو الأوّل من استصحاب المجعول يتمّ فيما إذا كان الموضوع موجودا فعلا في الخارج.

وأمّا إذا لم يكن الموضوع موجودا فعلا في الخارج بل كان مفروض ومقدّر الوجود ، فلا يجري استصحاب المجعول الفعلي ؛ لأنّ الالتفات إلى الموضوع في عالم الجعل واللحاظ المولوي يعني أنّ الموضوع كلّي فيكون الحكم الثابت له كلّيّا أيضا ، وهذا يعني أنّ الحكم المراد استصحابه وهو الحكم المجعول الفعلي لا يقين بحدوثه ؛ لأنّ اليقين بحدوثه إنّما يتحقّق إذا وجد الموضوع فعلا في الخارج لا ما إذا كان مفترض الوجود ، ولذلك فلا يجري الاستصحاب بهذا اللحاظ.

ومن هنا نعرف أنّ استصحاب المجعول الفعلي إنّما هو من شئون المكلّف لا من شئون المجتهد.

وبيانه : أنّ الماء المتغيّر فعلا يعلم به من كان لديه ماء متغيّر فعلا وهو المكلّف ، ثمّ يزول هذا التغيّر فعلا ، والذي يكون امتدادا للماء الأوّل.

وأمّا المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعيّة فهو يفترض وجود الماء المتغيّر ، ويفترض وجود الماء الذي زال عنه التغيّر ، أي أنّه يفترض الحصّتين معا ، وهاتان الحصّتان موجودتان معا في عالم الافتراض والتقدير ، وليست إحداهما امتدادا للأخرى ، ولذلك لا تكون القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة واحدة ؛ لأنّهما موجودتان في عرض واحد ، ولذلك لا يتمكّن المجتهد من إجراء استصحاب الحكم المجعول الفعلي ، وإنّما يفتي المكلّف بإجراء هذا الاستصحاب اذا تمّت أركانه عنده.

وهذه النتيجة التي نحصل عليها مخالفة للوجدان العرفي والفقهي ، حيث إنّه يرى أنّ إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم المجعول الفعلي حقّ للمكلّف وللمجتهد معا ، فكما يحقّ للمجتهد أن يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة التي يكون

ص: 294

الموضوع فيها كلّيّا أي مفترض الوجود ، كذلك يجريه فيما إذا كان الموضوع جزئيّا وفعليّا أي محقّق الوجود.

ولا تفصيل بين هذين النحوين فقهيّا ، ولذلك يكون هذا المرتكز قرينة على أنّ المراد من استصحاب المجعول ليس هذا النحو ؛ لأنّه يؤدّي إلى نتيجة غير مقبولة فقهيّا.

والنحو الآخر لاستصحاب المجعول : هو إجراء الاستصحاب في المجعول الكلّي على نحو تتمّ أركانه بمجرّد التفات الفقيه إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر وشكّه في شمول هذه النجاسة لفترة ما بعد زوال التغيّر.

وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب بدون توقّف على وجود الموضوع خارجا ، ومن هنا كان بإمكان المجتهد إجراؤه والاستناد إليه في إفتاء المكلّف بمضمونه.

ولا شكّ في انعقاد بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل الاستصحاب.

وأمّا النحو الثاني من استصحاب المجعول فهو أن يكون الموضوع مفترض ومقدّر الوجود في عالم التشريع فيكون كليا وحكمه كلي أيضا.

وذلك بأن يلتفت المجتهد - حين استنباطه الحكم الشرعي - إلى الماء المتغيّر فيفترض وجوده ، فيكون الحكم بالنجاسة ثابتا له ، ثمّ يفترض زوال التغيّر عن الماء من نفسه فيحصل له شكّ في بقاء ذاك الحكم ، فيجري استصحابه لتماميّة أركانه ، حيث إنّه يوجد للمجتهد يقين بحدوث الحكم بالنجاسة الكلّي على كلّي الماء المتغيّر ، ثمّ يشكّ في بقاء هذا الحكم الكلّي لزوال التغيّر تقديرا وافتراضا عن ذلك الماء ، فاليقين بالحدوث موجود والشكّ في البقاء موجود والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة ، وهي الماء المفترض الوجود الذي اتّصف بالتغيّر ثمّ زال عنه التغيّر.

وعلى هذا سوف يجري استصحاب المجعول الكلّي سواء وجد في الخارج ماء متغيّر بالفعل أم لا ؛ لأنّ موضوع هذا الاستصحاب هو الماء المقدّر الوجود.

ولذلك يتمكّن المجتهد من إجراء الاستصحاب بنفسه ومن ثمّ إفتاء المكلّف ببقاء المجعول ، ولا يحتاج إلى أن يجري هذا الاستصحاب نفس المكلّف.

والدليل على ذلك : هو البناء الفقهي والارتكاز العرفي على جريان مثل هذا

ص: 295

الاستصحاب ، فإنّ هذا البناء يعتبر دليلا على تماميّة أركان الاستصحاب بحقّ الفقيه.

وهذا النحو هو المراد من استصحاب بقاء المجعول الذي أراده السيّد الخوئي ، حيث أبرز له استصحابا آخر معارضا له وهو استصحاب عدم الجعل لهذا الحكم الكلّي.

غير أنّه قد يستشكل في النحو المذكور بدعوى : أنّ المجعول الفعلي التابع لوجود موضوعه له حدوث وبقاء تبعا لموضوعه ، وأمّا المجعول الكلّي فليس له حدوث وبقاء ، بل تمام حصصه ثابتة ثبوتا عرضيّا آنيّا بنفس الجعل بلا تقدّم وتأخّر زماني.

وهذا يعني أنّا كلّما لاحظنا المجعول على نهج كلّيّ لم يكن هناك يقين بالحدوث وشكّ في البقاء ليجري الاستصحاب. فأركان الاستصحاب إنّما تتمّ في المجعول بالنحو الأوّل لا الثاني.

وقد أشرنا سابقا (1) إلى هذا الاستشكال وعلّقنا عليه بما يوحي بإجراء استصحاب المجعول على النحو الأوّل ، غير أنّ هذا كان تعليقا مؤقّتا إلى أن يحين الوقت المناسب.

إلا أنّ المحقّق العراقي استشكل على إجراء الاستصحاب بالنحو الثاني بدعوى عدم تماميّة أركانه.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا لاحظنا المجعول الفعلي أي الحكم الجزئي فهذا تابع لفعليّة موضوعه ، والفعلية تكون بلحاظ عالم الخارج ، فلا بدّ من وجود ماء في الخارج يتّصف بالتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، فإذا اتّصف بالتغيّر فعلا ثبت له الحكم بالنجاسة ، وهذا حكم جزئي لكون موضوعه جزئيّا ، وإذا زال التغيّر شككنا في بقاء هذا الحكم فيجري استصحابه لتماميّة أركان الاستصحاب فيه من اليقين بحدوث هذا الحكم الجزئي والشكّ في بقائه ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ؛ لأنّ الوحدة إنّما تصدق فيما إذا كان الشكّ شكّا في البقاء والذي يعني كون الحصّة الثانية امتدادا للحصّة الأولى ، وهذا يفترض الطوليّة بين الحصّتين ، فلكي يصدق الشكّ في البقاء لا بدّ من فرض الطوليّة في الزمان بين القضيّتين ، وهذا حاصل في موارد استصحاب المجعول الفعلي الجزئي.

ص: 296


1- تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

وأمّا إذا لاحظنا المجعول على نهج كلّي أي افترضنا الموضوع وافترضنا ثبوت الحكم الكلّي له ، ثمّ افترضنا الشكّ في بقاء هذا الحكم الكلّي نتيجة زوال التغيّر ، فهنا لا يجري الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه ؛ وذلك لأنّ الشكّ المفترض لا يصدق عليه أنّه شكّ في البقاء للحكم المفترض ؛ لأنّ الحكم الكلّي ينصبّ في عالم الجعل على موضوعه الكلّي بتمام حصصه في عرض واحد ، أي أنّ الشارع يتصوّر تمام الحصص من الموضوع في مرتبة واحدة ويجعل الحكم.

فهو إمّا أن يكون قد جعل الحكم على تمام الحصص معا أو لا يكون كذلك ، بل جعله على هذه الحصّة دون تلك.

ولذلك عند ما نشكّ في ثبوت الحكم للحصّة الثانية فهو حكم غير الحكم الثابت للحصة الأولى ؛ لأنّ الثانية ليست بقاء للأولى ؛ لأنّ صدق الشكّ في البقاء يفترض الطوليّة بين الحصّتين ، وهذه الطوليّة لا تصدق إلا في عالم الخارج ؛ لأنّ الماء في الخارج هو الذي يتّصف بالتغيّر وبعدمه.

وأمّا في عالم التصوّر واللحاظ الذهني فنفرض سائر الحصص معا في آن واحد فلا طوليّة بينها ، وإنّما هي في عرض واحد ، ولذلك لا يصدق الشكّ في البقاء والوحدة بين القضيّتين ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا مخالف للوجدان العرفي والفقهي.

وبهذا تحصّل : أنّ إجراء استصحاب الحكم الفعلي تامّ في نفسه ، لكنّه يبتلي بأنّه من حقّ المكلّف لا المجتهد. وأمّا إجراء استصحاب الحكم الكلّي المجعول فهو غير تامّ الأركان.

ونحن قد أشرنا إلى هذا الاستشكال عند الكلام عن الركن الثاني من أركان الاستصحاب ، وهناك قلنا بأنّه يجري استصحاب الحكم المجعول الفعلي الجزئي ، غير أنّ هذا لا يحلّ المشكلة التي أثارها المحقّق العراقي هنا ، ولذلك لا بدّ من تعميق الكلام أكثر فنقول :

وأمّا الصحيح في الجواب فهو : أنّ المجعول الكلّي وهو نجاسة الماء المتغيّر مثلا يمكن أن ينظر إليه بنظرين :

أحدهما : النظر إليه بما هو أمر ذهني مجعول في أفق الاعتبار.

ص: 297

والآخر : النظر إليه بما هو صفة للماء الخارجي.

فهو بالحمل الشائع أمر ذهني وبالحمل الأوّلي صفة للماء الخارجي.

وبالنظر الأوّل ليس له حدوث وبقاء ، لأنّه موجود بتمام حصصه بالجعل في آن واحد.

وبالنظر الثاني له حدوث وبقاء ، وحيث إنّ هذا النظر هو النظر العرفي في مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجري استصحاب المجعول بالنحو الثاني لتماميّة أركانه.

والجواب عن إشكال المحقّق العراقي أن يقال : إنّ المجعول الكلّي ليس شيئا زائدا عن الجعل ، فالمجعول الكلّي هو الجعل نفسه ؛ وذلك لأنّه لا يوجد للحكم حقيقتان إحداهما بلحاظ عالم الجعل والأخرى بلحاظ عالم المجعول ، وإنّما هناك حقيقة واحدة هي الحكم الثابت في عالم الجعل والتشريع ، وهذا قد تتحقّق صغراه في الخارج فيطلق عليه المجعول إلا أنّه لا حقيقة له مستقلّة زائدة عن أصل الجعل.

وعلى هذا الأساس فالمجعول الكلّي الذي هو الجعل عبارة عن تلك القضيّة الحقيقيّة التي بالتحليل ترجع إلى قضيّة تقديريّة شرطيّة ، فإذا قيل : ( الماء المتغيّر نجس ) كان المفاد ( أنّه كلّما وجد ماء متغيّر فهو نجس ).

وهذه القضيّة يمكن النظر إليها بنظرين ولحاظين هما :

1 - أن ينظر إليها بالحمل الشائع أي بلحاظ نفس حقيقة هذا الجعل ، فهي بهذا اللحاظ تكون صورة ذهنيّة موجودة في نفس الشارع ، أي في عالم الاعتبار والتشريع ؛ وذلك لأنّ الحمل الشائع عبارة عن الواقع الذي توجد فيه القضيّة ، وواقع القضيّة المجعولة هو نفس الجعل ؛ لأنّه لا يوجد شيء زائد على الجعل.

2 - أن ينظر إليها بالحمل الأوّلي أي بلحاظ عنوان القضيّة ، فهي بهذا اللحاظ تحكي عن المفاهيم التالية ( الماء والتغيّر والنجاسة ) بحيث تكون النجاسة صفة للماء المتغيّر ، فإنّ الماء المتغيّر الموجود في الخارج يتّصف بالنجاسة ، فتكون هذه القضيّة حاكية عن هذه المفاهيم بما هي موجودة في الخارج بحيث يلحظ الوجود الخارجي سواء وجد فعلا ماء متغيّر أم لا.

فإذا نظرنا إلى القضيّة بالحمل الشائع فهذه القضيّة موجودة دفعة واحدة في نفس الشارع بحيث تلحظ تمام الحصص والأفراد في عرض واحد ، ولذلك لا

ص: 298

يكون هناك حدوث وبقاء ؛ لأنّ هذا الجعل إمّا أن يوجد في نفس الاعتبار والتشريع أو لا يوجد.

وأمّا إذا نظرنا إلى القضيّة بالحمل الأوّلي أي بما هي حاكية عن هذه المفاهيم ، فهذه المفاهيم موجودة في الخارج ، وفي الخارج يكون هناك ماء ثمّ يتّصف بالتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، ولذلك يكون هناك حدوث وبقاء ؛ لأنّ الحصص توجد في طول بعضها فتكون الثانية امتدادا واستمرارا وبقاء للأولى.

ومن هنا كان الاستصحاب تامّ الأركان بلحاظ القضيّة المجعولة بالحمل الأوّلي دون الحمل الشائع.

والمستفاد من دليل الاستصحاب تطبيقه على ما يفهمه العرف ، والعرف إنّما يجري الاستصحاب بلحاظ الحمل الأوّلي ؛ لأنّه يفهم القضيّة المجعولة بما هي حاكية عن المفاهيم بوجوداتها الخارجيّة ، ولا يفهم القضيّة المجعولة بما هي موجودة في واقعها أي نفس عالم الاعتبار والتشريع.

وممّا يدلّ على ذلك أنّ نفس المفصّل لم يدّع أنّ الاستصحاب غير تامّ الأركان ، وإنّما ادّعى أنّه يجري ولكنّه يسقط بالمعارضة.

إذا اتّضح ذلك فنقول لشبهة المعارضة بأنّه في تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي في الشبهة الحكميّة لا يعقل تحكيم كلا النظرين ؛ لتهافتهما.

فإن سلّم بالأخذ بالنظر الثاني تعين إجراء استصحاب المجعول ، ولم يجر استصحاب عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا النظر لا نرى جعلا ومجعولا ولا أمرا ذهنيّا ، بل صفة لأمر خارجي لها حدوث وبقاء.

وإن ادّعي الأخذ بالنظر الأوّل فاستصحاب المجعول بالنحو الثاني الذي يكون من شأن المجتهد إجراؤه لا يجري في نفسه ، لا أنّه يسقط بالمعارضة.

والجواب عن شبهة المعارضة أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب عند تطبيقه على الحكم الكلّي في الشبهات الحكميّة يحتمل فيه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي بلحاظ الحمل الأوّلي والحمل الشائع معا ، وهذا مستحيل ؛ لأنّه يؤدّي إلى التناقض والتهافت ، إذ لا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين معا ؛ لأنّ الملحوظ في أحدهما هو نفس الشارع بينما الملحوظ في

ص: 299

الآخر المفاهيم في واقعها ، فلا يمكن أن يكون دليل الاستصحاب ناظرا إلى الحكم الكلّي بهذين النظرين معا ؛ لأنّ أحدهما تصوّري والآخر تصديقي ، وسيأتي بيانه مفصّلا.

الثاني : أن يطبّق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي بلحاظ الحمل الأوّلي ، فهنا يجري استصحاب المجعول الكلّي ، ولا يجري استصحاب عدم جعل الزائد ؛ لأنّه بهذا اللحاظ لا يوجد إلا المجعول الكلّي الذي هو نفس الجعل ولا يوجد جعل ومجعول كلّ على نحو مستقلّ ، وهذا المجعول الكلّي ينظر إليه بما هو صفة لأمر خارجي ، ولذلك كان هذا الجعل أو المجعول الكلّي يتّصف بالحدوث والبقاء ؛ لأنّ الأمر الخارج له حدوث وبقاء حيث إنّ وجوده في واقعه الذي هو الخارج يكون على أساس الطوليّة بين حصصه.

وأمّا استصحاب عدم جعل الزائد فلا يجري ؛ لأنّ هذا الاستصحاب المنظور فيه القضيّة أي ( المجعول الكلّي ) بلحاظ نفس الاعتبار والتشريع أي الحمل الشائع لا الأوّلي ، وبهذا اللحاظ لا يوجد حدوث وبقاء ، بل إمّا أن يجعل أو لا.

الثالث : أن يطبّق الاستصحاب في الشبهات الحكميّة على المجعول الكلّي بالحمل الشائع ، أي بلحاظ واقع هذه القضيّة المجعولة والذي هو نفس الشارع وعالم الاعتبار والتشريع ، وبهذا اللحاظ سوف لا يجري استصحاب بقاء المجعول الكلّي ؛ لأنّه في هذا اللحاظ توجد الحصص في عرض واحد وليس هناك طوليّة بينهما ليعقل الشكّ في البقاء.

وأمّا استصحاب عدم جعل الزائد فهو يجري هنا ؛ لأنّ الجعل لإحدى الحصّتين معلوم ، بينما الجعل للحصّة الأخرى مشكوك حدوثه فيستصحب عدمه.

وبهذا ظهر : أنّه لا تعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب الجعل ؛ وذلك لأنّ استصحاب المجعول إنّما يكون بلحاظ المجعول الكلّي بالحمل الأوّلي ، بينما استصحاب عدم الجعل يكون بلحاظ المجعول الكلّي بالحمل الشائع.

فإذا جرى استصحاب المجعول لا يجري استصحاب عدم الجعل ، وإذا جرى استصحاب عدم الجعل لا يجري استصحاب المجعول ، إذ جريانهما معا معناه النظر إلى المجعول الكلّي بلحاظين ونظرين معا وهو مستحيل.

ص: 300

وحيث إنّ المرجع هو العرف وهو يرى جريان الاستصحاب بلحاظ الحمل الأوّلي ، فيجري استصحاب المجعول بلا معارض.

إن قيل : لما ذا لا نحكّم كلا النظرين ونلتزم بإجراء استصحاب عدم الجعل الزائد تحكيما للنظر الأوّل في تطبيق دليل الاستصحاب ، وإجراء استصحاب المجعول تحكيما للنظر الثاني ، ويتعارض الاستصحابان؟

إن قيل - كما هي مقالة صاحب التفصيل المذكور - : لما ذا لا يجري كلا الاستصحابين معا؟ وذلك بأن ننظر إلى القضيّة المجعولة تارة بالحمل الأوّلي فيجري استصحاب المجعول ، وأخرى بالحمل الشائع فيجري استصحاب عدم الجعل الزائد ، وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ أحدهما منجّز للحكم والآخر ينفيه ، فيحكم بتساقطهما.

كان الجواب : أنّ التعارض لا نواجهه ابتداء في مرحلة إجراء الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا النظرين ، وإنّما نواجهه في مرتبة أسبق أي في مرحلة تحكيم هذين النظرين ، فإنّهما لتهافتهما ينفي كلّ منهما ما يثبته الآخر من الشكّ في البقاء ، ومع تهافت النظرين في نفسيهما يستحيل تحكيمهما معا على دليل الاستصحاب لكي تنتهي النوبة إلى التعارض بين الاستصحابين ، بل لا بدّ من جري الدليل على أحد النظرين وهو النظر الذي يساعد عليه العرف خاصّة.

كان الجواب : أنّ تحكيم كلا النظرين في نفسه مستحيل بقطع النظر عن المعارضة التي تحصل فيما بعد هذا التحكيم ، بمعنى أنّ المعارضة ثابتة في مرحلة سابقة والتي هي مرحلة المدلول التصوّري ، فلا يمكننا غضّ النظر عن هذه المعارضة والالتزام بإيقاعها في مرحلة متأخّرة ، والتي هي مرحلة المدلول التصديقي أي مرحلة التطبيق.

وحينئذ نقول : إنّ المعارضة لمّا كانت ثابتة في مرحلة المدلول التصوّري ، فهذا يعني أنّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون مفاده ونظره إلى كلا اللحاظين والنظرين ؛ لأنّ شموله لهما معا يؤدّي إلى الاستحالة والتهافت لما تقدّم منّا سابقا ، بأنّ أحدهما ينظر إلى القضيّة المجعولة بما هي في نفس الشارع والآخر ينظر إلى القضيّة في واقعها ، والأخذ بهما يؤدّي إلى التهافت ؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن أو أحدهما ينفي ما يثبته الآخر أو بالعكس.

ص: 301

فلو أخذنا بالنظرين معا كان نفس المدلول التصوّري للاستصحاب يستحيل التعبّد به ؛ لأنّه تعبّد بالمتنافيين ، ولذلك لا تصل النوبة إلى مرحلة المدلول التصديقي التي هي مرحلة تطبيق الاستصحاب.

ومن هنا كان لا بدّ من تعيين أحد النظرين ، وهذا الأمر يلاحظ فيه الفهم العرفي ؛ لأنّ كبرى الاستصحاب كما تقدّم مركوزة في الفهم العرفي ، والعرف هنا يرى تحكيم النظر الأوّلي والحمل الأوّلي دون الحمل الشائع.

* * *

ص: 302

تطبيقات

استصحاب الحكم المعلّق
اشارة

ص: 303

ص: 304

تطبيقات

1 - استصحاب الحكم المعلّق

قد نحرز كون الحكم منوطا في مقام جعله بخصوصيّتين ، وهناك خصوصيّة ثالثة يحتمل دخلها في الحكم أيضا ، وفي هذه الحالة يمكن أن نفترض أنّ إحدى تلك الخصوصيّتين معلومة الثبوت والثانية معلومة الانتفاء ، وأمّا الخصوصيّة الثالثة المحتمل دخلها فهي ثابتة ، وهذا الافتراض يعني أنّ الحكم ليس فعليّا ، ولكنّه يعلم بثبوته على تقدير وجود الخصوصيّة الثانية ، فالمعلوم هو الحكم المعلّق والقضيّة الشرطيّة.

فإذا افترضنا أنّ الخصوصيّة الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت الخصوصيّة الثالثة حصل الشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة ؛ لاحتمال دخل الخصوصيّة الثالثة في الحكم.

وهنا تأتي الحاجة إلى البحث عن إمكان استصحاب الحكم المعلّق.

بيان الحكم المعلّق : تقدّم أنّ الشكّ في الشبهات الحكميّة بالمصطلح المتعارف عليه معناه كون خصوصيّة ما موجودة سابقا ثمّ ارتفعت ، ويشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه من جهة الشكّ في كون هذه الخصوصيّة حيثيّة تقييديّة أو تعليليّة ، وهذا الاستصحاب الحكمي يسمّى باستصحاب الحكم المنجّز ؛ لأنّ الحكم كان ثابتا ومنجّزا في السابق لتحقّق سائر الخصوصيّات فيه ، ثمّ يشكّ في بقائه فيستصحب بقاء الحكم المنجّز.

وهناك نحو آخر من الشكّ في الحكم وهو ما إذا فرض وجود خصوصيّتين يعلم بدخالتهما في الحكم ، وهناك خصوصيّة ثالثة يشكّ في دخالتها ، فهنا نقول :

إذا كانت إحدى الخصوصيّتين - المعلوم كونهما دخيلتين - مرتفعة والأخرى ثابتة ، وفرضنا أنّ الخصوصيّة الثالثة المشكوك دخالتها ثابتة أيضا ، فهنا لا يكون الحكم ثابتا

ص: 305

وفعليّا ؛ لأنّ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة سائر القيود المأخوذة فيه ، وهنا إحدى الخصوصيّتين غير فعليّة ، ولكن هذا الحكم على تقدير ثبوت الخصوصية المرتفعة فعلا يصبح فعليا.

وهذا يعني أنّنا نعلم بثبوت الحكم بنحو القضيّة التعليقيّة أو الشرطيّة حيث نقول : ( لو وجدت تلك الخصوصيّة لصار الحكم فعليّا ) ، فنحن إذن نعلم بهذه القضيّة أو نعلم بالحكم المعلّق.

ثمّ إذا فرضنا بعد ذلك أنّ الخصوصيّة التي كانت مرتفعة قد وجدت ، إلا أنّ الخصوصيّة الثالثة التي نشكّ في كونها دخيلة في الحكم قد ارتفعت ، فهنا سوف نشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة أو ذاك الحكم التعليقي ؛ لأنّنا كنّا على يقين من تلك القضيّة والحكم التعليقي عند ثبوت الخصوصيّة الثالثة ، فلمّا ارتفعت هذه الخصوصيّة المشكوك دخالتها في الحكم شككنا في بقاء ذاك الحكم التعليقي ؛ لأنّها لو كانت دخيلة فحيث إنّها الآن قد ارتفعت فترتفع القضيّة الشرطيّة والحكم التعليقي ، وإن لم تكن دخيلة جرى استصحاب تلك القضيّة.

ومثل هذا الاستصحاب يسمّى باستصحاب الحكم التعليقي ، أي أنّ الحكم الذي كان متيقّنا حدوثه هو الحكم التعليقي لا التنجيزي ، ثمّ يشكّ في بقائه ، فهل يجري استصحابه أم لا؟

ومثال ذلك : حرمة العصير العنبي المنوطة بالعنب وبالغليان ، ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها ، فإذا جفّ العنب ثمّ غلى كان موردا لاستصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان.

مثال ذلك : ما اشتهر عندهم من حرمة العصير العنبي المنوطة بخصوصيّتين معلومتين هما : العنب والغليان ، فلو كان لدينا عنب وغلى كان حراما بلا شكّ.

ولكن لو كان لدينا عنب ولم يغل فهنا الحرمة ليست فعليّة ، وإنّما نعلم بالحرمة التعليقيّة أي على تقدير كون هذا العنب غلى فهو حرام ، فالحرمة المعلومة هنا هي الحرمة التعليقيّة.

ثمّ لو أنّ هذا العنب جفّ بحيث زالت عنه خصوصيّة الرطوبة التي نشكّ في دخالتها في الحكم ، وأغلي هذا العنب الجاف ، فهنا سوف نشكّ في ثبوت تلك

ص: 306

الحرمة التعليقيّة ؛ لأنّها كانت ثابتة للعنب على تقدير غليانه ، والآن قد غلى لكن بعد أن زالت منه الرطوبة سوف نشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة أي الحرمة التعليقيّة ، فهل يجري استصحاب هذه الحرمة التعليقيّة أم لا؟

وبتعبير آخر : نحن نعلم بالقضيّة الشرطيّة والحرمة التعليقيّة في حالة وجود العنب الرطب الذي لم يغل ، ثمّ بعد زوال الرطوبة وصيرورة العنب جافّا لو أغليناه سوف نشكّ في بقاء الحرمة التعليقيّة ، حيث يقال : إنّ هذا العنب الجاف الذي غلى لو كان عنبا رطبا وغلى فهو حرام ، وهذه القضيّة ( أي أنّه لو كان عنبا رطبا وغلى فهو حرام ) معلومة يقينا عند ما كان العنب رطبا ولم يغل ، والآن يشكّ في بقاء هذه القضيّة بعد صيرورة العنب جافّا مع غليانه ، فهل يجري استصحابها أم لا؟

المشهور قبل الميرزا النائيني هو جريان الاستصحاب التعليقي المذكور ، وبالتالي تثبت الحرمة.

إلا أنّ الميرزا وجّه اعتراضا على هذا الاستصحاب فصار المشهور بعده عدم جريان هذا الاستصحاب.

ولذلك لا بدّ من استعراض هذه الاعتراضات لنرى مدى إمكانيّة منعها عن جريان الاستصحاب في نفسه أوّلا ، ثمّ بعد فرض تماميّة هذا الاستصحاب فهل يوجد استصحاب آخر معارض له أم لا؟

ولذلك فالاعتراضات على نحوين :

1 - اعتراضات تمنع من أصل جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه.

2 - اعتراضات تمنع من جريان هذا الاستصحاب ؛ لوجود الاستصحاب المعارض له.

وقد وجّه إلى هذا الاستصحاب ثلاثة اعتراضات :

الاعتراض الأوّل : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة ؛ لأنّ الجعل لا شكّ في بقائه والمجعول لا يقين بحدوثه ، والحرمة على نهج القضيّة الشرطيّة أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود ولا أثر للتعبّد به ، ومن أجل هذا الاعتراض بنت مدرسة المحقّق النائيني على عدم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق.

ص: 307

الاعتراض الأوّل : ما ذهبت إليه مدرسة الميرزا من عدم جريان مثل هذا الاستصحاب هنا ؛ وذلك لأنّه : إن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم الجعل أي استصحاب بقاء الجعل في عالم التشريع ، فهذا الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّنا نعلم بجعل الحرمة في عالم التشريع ، ولا نشكّ في ارتفاع هذا الجعل ، فالركن الثاني غير متحقّق.

وإن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم المجعول ، أي استصحاب بقاء الحرمة الفعليّة المجعولة على العنب المغلي فهذا لا يجري أيضا ؛ لأنّه لم تثبت لنا الحرمة الفعليّة فلا يقين بحدوثها ، حيث إنّ ثبوتها تابع لفعليّة جميع القيود والخصوصيّات المأخوذة والدخيلة في الحكم.

وفي مقامنا لم تتحقّق هذه القيود ، فالركن الأوّل غير متحقّق.

وإن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم على نهج القضيّة الشرطيّة ، أي استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان التي كانت ثابتة حال العنبيّة ويشكّ في بقائها عند جفافه وغليانه ، فهذا الاستصحاب أيضا لا يجري في نفسه ؛ لأنّ هذه القضيّة الشرطيّة أو الحرمة التعليقيّة أثر انتزاعي ينتزعه العقل بعد ملاحظة جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود الذي هو الغليان ؛ لأنّ هذا الجعل وكلّ جعل شرعيّ يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة ، أي يكون الموضوع مقدّر الوجود.

وهذه القضيّة الحقيقيّة ينتزع العقل منها القضيّة الشرطيّة بالتحليل.

فالشارع إنّما جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ، والعقل هو الذي ينتزع القضيّة الشرطيّة.

فاستصحاب القضيّة الشرطيّة لا يفيدنا ولا أثر شرعا للتعبّد بها ؛ لأنّها مستبطنة في نفس القضيّة الجعليّة والتي لا تكون منجّزة لمجرّد العلم بها فضلا عن استصحابها ؛ لما تقدّم من كون المنجّزيّة تابعة للعلم بالكبرى والصغرى لا لإحداهما فقط.

وهنا الكبرى ثابتة لأنّنا نعلم بالقضيّة الجعليّة إلا أنّ الصغرى وهي الموضوع لا علم بتحقّقها ، ولذلك لا يكون هنا أثر ولا فائدة من التعبّد الاستصحابي بها ، فالركن الرابع مختلّ.

وبهذا يظهر أنّه لا يوجد معنى محصّل لإجراء الاستصحاب هنا ، لا في الجعل ؛

ص: 308

لأنّه إنّما يشكّ به بلحاظ النسخ وهذا مقطوع العدم فلا شكّ في البقاء ، ولا في المجعول الفعلي ؛ لأنّه لم يكن متيقّن الحدوث ؛ إذ الحرمة لم تكن فعليّة بحسب الفرض المذكور ، ولا في نفس القضيّة الشرطيّة التعليقية ؛ لأنّها ليست موضوعا للأثر الشرعي التنجيزي أو التعذيري.

وإنّما ما هو موضوع الأثر هو القضيّة الحقيقية أي الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة ؛ لأنّه بهذا اللحاظ يكون أمرا مجعولا من الشارع فيصحّ التعبّد ببقائه ، وأمّا الحكم المجعول على نهج القضيّة الشرطيّة فهو أمر عقلي تحليلي انتزاعي ، وليس موضوعا للأثر التنجيزي أو التعذيري ؛ لأنّه ليس مجعولا للشارع.

وعلى هذا الأساس ذهبت مدرسة الميرزا إلى عدم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق في نفسه ، إمّا لعدم تماميّة الأركان أو لعدم الفائدة منه.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : أنّا نستصحب سببيّة الغليان للحرمة ، وهي حكم وضعي فعلي معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

والردّ على هذا الجواب : أنّه إن أريد باستصحاب السببيّة إثبات الحرمة فعلا ، فهو غير ممكن ؛ لأنّ الحرمة ليست من الآثار الشرعيّة للسببيّة ، بل من الآثار الشرعيّة لذات السبب الذي رتّب الشارع عليه الحرمة.

وإن أريد بذلك الاقتصار على التعبّد بالسببيّة فهو لغو ؛ لأنّها بعنوانها لا تصلح للمنجّزيّة والمعذّريّة.

وأجيب على الاعتراض المذكور بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّا نجري الاستصحاب بلحاظ السببيّة التي هي حكم وضعي كالشرطيّة والمانعيّة والجزئيّة ، وهي واقعة تحت سلطان الشارع جعلا ووضعا ، فيقال :

إنّ سببيّة الغليان للحرمة معلومة حدوثا عند ما كان العنب رطبا ، والآن بعد أن صار جافّا نشكّ في بقاء هذه السببيّة فيجري استصحابها. هذا ما ذكره الشيخ الأنصاري.

ويرد عليه : أنّ استصحاب السببيّة إن أريد به إثبات الحرمة الفعليّة فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الحرمة من اللوازم العقليّة وليست من اللوازم الشرعيّة للسببيّة ؛ لأنّ الشارع جعل الحرمة على الغليان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، والعقل بالتحليل ينتزع عنوان السببيّة

ص: 309

ويجعل هناك ملازمة بين الحرمة والغليان ، وإن أريد إثبات التعبّد الشرعي بهذه السببيّة حيث إنّها كانت معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء فالاستصحاب يجري ، لكنّه لا أثر له شرعا ؛ لأنّ الأثر الشرعي ليس مجعولا على عنوان السببيّة فلا تكون دخيلة في العهدة ، وإنّما الأثر الشرعي مجعول على الغليان.

وبتعبير آخر : أنّ الأحكام الوضعيّة كالسببيّة ونحوها من الأحكام الوضعيّة المنتزعة من أحكام العقل لا الشرع ، فإثبات هذا العنوان بنفسه لا أثر له شرعا لعدم جعله شرعا ، وإثباته للتوصّل به إلى الحكم التكليفي الذي له أثر شرعا لا يتمّ إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

والجواب الآخر لمدرسة المحقّق العراقي (1) ، وهو يقول : إنّ الاعتراض المذكور يقوم على أساس أنّ المجعول لا يكون فعليّا إلا بوجود تمام أجزاء الموضوع خارجا ، فإنّه حينئذ يتعذّر استصحاب المجعول في المقام ، إذ لم يصبح فعليّا ليستصحب.

ولكنّ الصحيح : أنّ المجعول ثابت بثبوت الجعل ؛ لأنّه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع لا بوجوده الخارجي ، فهو فعلي قبل تحقّق الموضوع خارجا.

وقد أردف المحقّق العراقي ناقضا على المحقّق النائيني : بأنّه أليس المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول الكلّي قبل أن يتحقّق الموضوع خارجا؟!

الجواب الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي ، وحاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين :

الأوّل : جواب حلّي ، مفاده : أنّ الاعتراض المذكور مبني على التفكيك بين الجعل والمجعول ، بمعنى وجود نحوين من الحكم : أحدهما في عالم الجعل ، والآخر في عالم المجعول.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لأنّ الجعل والمجعول بالنسبة للحكم شيء واحد ؛ وذلك لأنّ الحكم الشرعي عبارة عن تلك القضيّة الجعليّة التي واقعها عالم الجعل والتشريع ، وهي بهذا المعنى توجد فعلا ؛ لأنّ الشارع حينما يجعل الحكم يجعله على موضوعه الموجود فعلا في لحاظه ونفسه ، فالحكم فعلي تبعا لفعليّة موضوعه في عالم الجعل والتشريع.

ص: 310


1- مقالات الأصول 2 : 400.

ولا تتوقّف فعليّة الحكم على فعليّة الموضوع في الخارج ، إذ لا يوجد في الخارج حكم وراء الحكم في عالم الجعل.

وما ذكره الميرزا نشأ من قياس القضايا الجعليّة على القضايا الحقيقيّة التكوينيّة ، كالحكم على النار بالحرارة ، فإنّه في القضايا التكوينيّة يكون الحكم فعليّا تبعا لفعليّة موضوعه في الخارج ، فالنار لا تتّصف بالحرارة إلا في الخارج لا في الذهن.

إلا أنّ هذا لا يسري إلى القضايا الجعليّة ؛ لأنّ فعليّتها تكون بجعلها وتشريعها على موضوعها الفعلي أيضا في عالم الجعل والتشريع الذي هو وعاء وواقع هذه القضايا.

وعلى هذا يجري الاستصحاب في نفسه فيقال : إنّ الحرمة كانت فعليّة ومتيقّنة للعنب عند ما كان رطبا ، وبعد جفافه يشكّ في بقاء الحرمة له عند غليانه فيجري استصحابها.

والثاني بالنقض ومفاده : أنّه لو كانت فعليّة الحكم تابعة لفعليّة الموضوع في الخارج ، لزم عدم جريان استصحاب الحكم المجعول الكلّي الذي يكون الموضوع فيه مقدّر الوجود.

فمثلا نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر لا يمكن استصحابها ؛ لأنّ الموضوع مقدّر الوجود فيها ، والمفروض أنّ الحكم الفعلي تابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، وهذا يعني أنّه لن يتمكّن المجتهد من إجراء هذا الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب الفعلي الجزئي والذي هو من شئون المكلّف لا المجتهد.

وهذا مخالف للوجدان العرفي والارتكاز الفقهي.

ونلاحظ على الجواب المذكور : أنّ المجعول إذا لوحظ بما هو أمر ذهني فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط وللموضوع على ما تقدّم في الواجب المشروط (1) ، إلا أنّ المجعول حينئذ لا يجري فيه استصحاب الحكم بهذا اللحاظ إذ لا شكّ في البقاء ، وإنّما الشكّ في حدوث الجعل الزائد على ما عرفت سابقا (2).

ص: 311


1- في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.
2- في بيان جريان الاستصحاب في المجعول ، ضمن البحث عن التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.

وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج ، فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديرا وافتراضا لا يرى للمجعول فعليّة لكي يستصحب.

ويرد على جواب المحقّق العراقي أنّ الحكم المجعول يمكن أن ينظر إليه بأحد نظرين :

فتارة ينظر إليه بالحمل الشائع أي ينظر إلى الحكم بما هو أمر ذهني واقعه وموطنه نفس الشارع وعالم الاعتبار ، فهنا الحكم المجعول موجود في نفس الشارع دفعة واحدة ؛ لأنّ الشارع يتصوّر في لحاظه تمام ما له دخل من القيود والخصوصيّات ويجعل الحكم عليها ، فالحكم المجعول فعلي في هذا اللحاظ تبعا لفعليّة الموضوع فيه أيضا.

وحينئذ فالشكّ في الحكم المجعول بهذا اللحاظ والنظر غير معقول ؛ لأنّ الحصص تكون عرضيّة دفعيّة وليس فيها ترتّب وطوليّة ، فلا تتمّ أركان استصحاب الحكم المجعول ؛ لأنّ الحصّة المشكوكة في هذا اللحاظ ليست بقاء للحصّة المتيقّنة ، بل هي حصّة مستقلّة عنها ومغايرة لها ، ولذلك يكون الشكّ في الحكم شكّا في الجعل الزائد ، بمعنى أنّ الشارع هل جعل الحكم على هذه الحصص جميعا أو على هذه الحصّة دون تلك؟ وحينئذ يجري استصحاب عدم الجعل الزائد ، كما تقدّم في الجواب عن التفصيل المتقدّم.

وأخرى ينظر إلى الحكم المجعول بالحمل الأوّلي أي بما هو عنوان ومفهوم ، فإنّ القضيّة الجعليّة إذا نظر إليها كعنوان فهي تحكي عن وصف لأمر خارجي ؛ لأنّ الحرمة تكون صفة للعنب المغلي الموجود في الخارج ؛ لأنّه في عالم الذهن لا يوجد إلا صورة العنب والغليان لا واقعهما ، فلكي تثبت الحرمة لا بدّ من وجود العنب أوّلا ثمّ الغليان ثانيا ، ولذلك يكون هناك ترتّب وطوليّة ، بحيث يكون العنب الجافّ استمرارا وبقاء للعنب عند ما كان رطبا ، ولذلك فالحكم المجعول على العنب الرطب المغلي يتيقّن به إذا كان الغليان متحقّقا ، فإذا شكّ فيما بعد في بقاء هذا الحكم المجعول جرى استصحابه.

وكذلك يجري الاستصحاب فيما لو قدّر وجود الموضوع في الخارج ، وذلك بأن

ص: 312

التفت المجتهد إلى ذهنه ولحاظه وافترض فيه العنب المغلي ، فإنّه يحكم عليه بالغليان ، ويكون الحكم فعليّا بهذا المعنى أيضا ، ويجري استصحاب بقائه عند الشكّ فيه.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره المحقّق العراقي من كون الحكم المجعول فعليّا تبعا لفعليّة موضوعه في عالم الجعل واللحاظ صحيح إن نظرنا إلى الحكم المجعول بالحمل الشائع.

وما ذكره الميرزا من عدم كون الحكم فعليّا إلا بفعليّة موضوعه في الخارج صحيح أيضا إذا نظرنا إلى الحكم بالحمل الأوّلي ، إلا أنّه هنا يكفي افتراض وجود الموضوع في الخارج لا وجوده الفعلي فقط ، كما تقدّم سابقا.

ومن ذلك يعرف حال النقض المذكور ، فإنّ المجتهد يفترض تحقّق الموضوع بالكامل فيشكّ في البقاء مبنيّا على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرّد افتراض جزء الموضوع؟

وبكلمة أخرى : أنّ كفاية ثبوت المجعول بتقدير وجود موضوعه في تصحيح استصحابه شيء ، وكفاية الثبوت التقديري لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام الموضوع لا خارجا ولا تقديرا شيء آخر.

وممّا تقدّم يعرف الجواب عن النقض الذي نقضه المحقّق العراقي على الميرزا.

وحاصله : أنّ المجتهد لا إشكال في إجرائه لاستصحاب الحكم المجعول بمجرّد الافتراض والتقدير ، فيمكن للمجتهد أن يلحظ تحقّق الموضوع في ذهنه ويقدّر وجوده في الخارج فيثبت له الحكم كذلك ، ثمّ إذا شكّ في بقاء هذا الحكم أجرى استصحاب بقائه.

فالماء المتغيّر المحكوم بالنجاسة يكون حكمه فعليّا بمجرّد تصوّر وتقدير وجود الماء المتغيّر في الخارج ، فإذا افترض المجتهد زوال التغيّر حصل له شكّ في بقاء هذا الحكم فيجري استصحاب بقائه.

فهذا الاستصحاب يقول به الميرزا أيضا ، ولا يعتبر نقضا عليه ؛ لأنّه لم يرفض هذا الاستصحاب وإنّما رفض إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقدّر والمفترض وجوده جزء الموضوع لا تمامه.

فالعنب إنّما يتّصف بالحرمة فيما لو غلى ، وأمّا قبل أن يغلي فلا يتّصف بالحرمة ، وعليه فتقدير العنب وافتراض وجوده لا يكفي لثبوت الحكم بالحرمة وفعليّته ، بل لا بدّ

ص: 313

من افتراض الغليان أيضا ، ومع افتراض الغليان للعنب لا يمكن تصوّر الشكّ في البقاء من ناحية العنب ؛ لأنّه لم يعد موجودا بعد الغليان ، إذ الموجود حينئذ هو العصير ، وقبل الغليان الموجود هو العنب فقط ، فلا حرمة.

ولذلك قال الميرزا : إنّ الاستصحاب بالنسبة للحكم المجعول لا يجري ؛ لأنّه بالنسبة للمجعول لا يقين بالحدوث ، أي أنّ الحكم ليس فعليّا لكي يجري استصحابه ، وبالنسبة للجعل فلا شكّ في البقاء ؛ لأنّه يعلم بثبوت الحرمة للعنب المغلي.

وبتعبير آخر : أنّ الاستصحاب الذي نقض به المحقّق العراقي هو استصحاب الحكم المجعول على الموضوع المقدّر الوجود.

بينما الاستصحاب الذي نظر إليه المحقّق النائيني ومنع جريانه هو استصحاب الحكم على مستوى الجعل أو المجعول على جزء الموضوع المقدّر الوجود لا على تمامه.

ففرق بين أن نقول : إنّ الاستصحاب يجري سواء كان الموضوع محقّقا في الخارج أم كان مفترض الوجود في الذهن ، وبين أن نقول : إنّ الاستصحاب لا يجري فيما إذا كان الموجود في الخارج أو المقدّر وجوده هو جزء الموضوع ؛ لأنّ الأوّل معناه ملاحظة الحكم بالحمل الأوّلي ، فهو حكم وصفة لأمر خارجي ، وهذا الأمر الخارجي إمّا أن يكون وجوده محقّقا وإمّا أن يكون مقدّرا ، وفي الحالتين يكون الحكم فعليّا.

وأمّا الثاني فمعناه أنّنا لاحظنا الحكم مع جزء موضوعه ، ومن الواضح أنّ الحكم لا يثبت ولا يكون فعليّا إذا كان الموجود في الخارج أو المقدّر وجوده هو جزء الموضوع لا تمامه.

والتحقيق : أنّ إناطة الحكم بالخصوصيّة الثانية في مقام الجعل ، تارة تكون في عرض إناطته بالخصوصية الأولى بأن قيل : ( العنب المغلي حرام ) ، وأخرى تكون على نحو مترتّب وطولي بمعنى أنّ الحكم يقيّد بالخصوصيّة الثانية ، وبما هو مقيّد بها يناط بالخصوصيّة الأولى بأن قيل : ( العنب إذا غلى حرم ) ، فإنّ العنب هنا يكون موضوعا للحرمة المنوطة بالغليان ، خلافا للفرضيّة الأولى التي كان العنب المغلي بما هو كذلك موضوعا للحرمة.

وتحقيق الجواب على الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ الشارع في مقام الجعل للحكم

ص: 314

على موضوعه إذا كان هذا الموضوع مركّبا من عدّة قيود وخصوصيّات ، يمكنه أن يأخذ هذه القيود كلّها في عرض واحد ، ويمكنه أن يجعلها في طول بعضها ، فهنا نحوان :

الأوّل : أن يأخذ كلّ الخصوصيّات في عرض واحد ثمّ يجعل الحكم عليها ، ففي مقامنا يأخذ العنبيّة والغليان ثمّ يجعل الحرمة عليهما فيقول : ( العنب المغلي حرام ) ، أو يقول : ( إذا كان هناك عنب وغلى فهو حرام ).

الثاني : أن يأخذ بعض الخصوصيّات في طول البعض الآخر ثمّ يجعل الحكم ، فيكون الحكم مقيّدا أوّلا ببعض الخصوصيّات ثمّ يقيّد المجموع بخصوصيّة أخرى ، كأن يقال : ( العنب إذا غلى حرم ) ، فهنا قيّدت الحرمة أوّلا بالغليان ثمّ قيّد المجموع بالعنبيّة.

ففي الفرضيّة الأولى كان الموضوع هو العنب المغلي أي العنب المقيّد بالغليان هو موضوع الحرمة.

بينما في الفرضيّة الثانية كان الموضوع هو العنب والحكم هو الحرمة المقيّدة بالغليان.

وعلى هذا الأساس سوف تختلف النتيجة من جهة جريان الاستصحاب وعدم جريانه على النحو التالي :

ففي الحالة الأولى يتّجه الاعتراض المذكور ، ولا يجري الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة ؛ لأنّها أمر منتزع عن الجعل وليست هي الحكم المجعول.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في نفس القضيّة الشرطيّة التي وقع العنب موضوعا لها ؛ لأنّها مجعولة من قبل الشارع بما هي شرطيّة ومرتّبة على عنوان العنب ، فالعنب موضوع للقضيّة الشرطيّة حدوثا يقينا ويشكّ في استمرار ذلك بقاء فتستصحب.

ففي الحالة الأولى : أي فيما إذا كانت القيود عرضيّة وكان الحكم مجعولا على الموضوع المقيّد ، فهنا لا يجري الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة القائلة : ( إنّ هذا العنب لو غلى لحرم ) ، كما قال الميرزا لا في عالم الجعل ولا في عالم المجعول ولا في نفس هذه القضيّة الشرطيّة.

ص: 315

أمّا في عالم الجعل فلأنّ الحكم قد جعل على ( العنب المغلي ) لا على نفس العنب ، فلم تثبت الحرمة فعلا.

وأمّا في عالم المجعول والفعليّة فلأنّ المتحقّق فعلا هو أحد جزأي الموضوع أي العنب فقط دون الغليان ، فلا ثبوت للحرمة فعلا.

وأمّا نفس هذه القضيّة الشرطيّة فهذه القضيّة ليست مجعولة للشارع ، وإنّما هي أمر منتزع من جعل الشارع يحكم به العقل ، ولا أثر للتعبّد بها لا هي نفسها لأنّه لا أثر لها شرعا ، ولا لازمها أي الحرمة لأنّ الحرمة لم تجعل على هذه القضيّة : ( العنب إذا غلى ) ، وإنّما جعلت على نفس العنب المغلي.

وأمّا في الحالة الثانية : أي فيما إذا كانت القيود طوليّة ، وكان الحكم بما هو مقيّد ببعض هذه القيود مجعولا على الموضوع ، فهنا يجري الاستصحاب سواء في عالم الجعل أم المجعول أم نفس القضيّة الشرطيّة القائلة : ( إنّ هذا العنب لو غلى لحرم ).

أمّا جريان الاستصحاب في عالم الجعل فلأنّ العنب تمام الموضوع المقدّر والمفترض الوجود للحكم ، فيمكن فرض وجوده فيكون الحكم فعليّا له على تقدير الغليان ، فإذا شكّ في بقاء هذا الموضوع لارتفاع خصوصيّة مشكوكة الدخل جرى استصحاب بقاء الحكم الفعلي بهذا اللحاظ.

وأمّا جريانه في عالم المجعول فلأنّ المفروض وجود العنب في الخارج ، فيعلم بثبوت الحكم له على تقدير الغليان ثمّ يشكّ في بقائه لما ذكر ، فيجري استصحاب بقاء هذا الحكم أي الحرمة على تقدير الغليان.

وأمّا نفس هذه القضيّة الشرطيّة : ( العنب إذا غلى حرم ) فيجري استصحابها أيضا ؛ وذلك لأنّها كانت متيقّنة حدوثا عند افتراض وجود العنب أو عند وجود العنب فعلا في الخارج ، ويشكّ في ارتفاعها بسبب ارتفاع خصوصيّة يشكّ في دخالتها فيجري استصحاب بقاء هذه الشرطيّة.

والفرق بين النحوين أنّه على النحو الأوّل لم تكن هذه القضيّة الشرطيّة مجعولة شرعا ، بل كانت منتزعة من الجعل ، أي الذي حكم بها هو العقل ولذلك لا يجري استصحابها لا هي ولا لازمها.

بينما على هذا النحو فهذه القضيّة الشرطيّة مجعولة شرعا ؛ لأنّنا فرضنا أنّ العنب

ص: 316

هو تمام الموضوع والحكم المجعول شرعا هو ( الحرمة على تقدير غليانه ) وهذا هو نفس الشرطيّة المتيقّنة على تقدير وجود العنب أو عند وجوده في الخارج.

وبهذا يظهر أنّه يمكن تصوير جريان الاستصحاب التعليقي أي استصحاب القضيّة الشرطيّة ، سواء في عالم الجعل أو في عالم المجعول ، فيما إذا كانت القيود مأخوذة شرعا بنحو طولي ترتّبي.

الاعتراض الثاني : أنّا إذا سلّمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة فلا نسلّم جريان الاستصحاب مع ذلك ؛ لأنّه إنّما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجّز ، وأمّا ما يقبل التنجّز فهو الحكم الفعلي ، فما لم يكن المجعول فعليّا لا يتنجّز الحكم ، وإثبات فعليّة المجعول عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذّر ؛ لأنّ ترتّب فعليّة المجعول عند وجود الشرط على ثبوت الحكم المشروط عقلي وليس شرعيّا.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني أيضا ، وحاصله : أنّنا لو سلّمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة ، أي اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء بالتصوير المتقدّم ، فإنّه مع ذلك لا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الرابع ؛ إذ لا أثر ولا فائدة من التعبّد بهذه القضيّة.

والوجه في ذلك : أنّه يشترط في الاستصحاب ترتّب أثر تنجيزي أو تعذيري على المستصحب ، فما لم يوجد مثل هذا الأثر يكون التعبّد الاستصحابي لغوا.

ثمّ إنّ ما يكون قابلا للتنجيز أو التعذير إنّما هو الحكم الفعلي لا الحكم التعليقي المشروط.

وفي مقامنا إذا كان لدينا عنب وغلى صارت حرمته فعليّة ، وكذلك لو قدّرنا العنب والغليان ، فعند الشكّ يجري استصحاب الحرمة ؛ لأنّها كانت فعليّة يترتّب عليها الأثر الشرعي أي المنجّزيّة.

وأمّا لو كان لدينا عنب فقط أو قدّرنا وجود العنب فقط فالحرمة لا تكون فعليّة ، وإنّما هي مشروطة بالغليان ، وهذه الحرمة المشروطة لا تكون منجّزة حتّى لو كانت معلومة وجدانا فضلا عن استصحابها ؛ لأنّ هذا العنب يجوز تناوله بلا إشكال ، وإنّما تثبت حرمته لو فرض وجود الغليان أو كان الغليان متحقّقا فعلا ، وعليه فلا أثر شرعا لاستصحاب هذه الحرمة المشروطة.

ص: 317

ومجرّد استصحاب الحكم المشروط لا يثبت فعليّة المشروط عند تحقّق الشرط ، أي أنّ استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان إلى ما بعد جفاف العنب لا يثبت لنا فعليّة الحرمة فيما إذا تحقّق الغليان لهذا العنب الجافّ.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الحرمة المشروطة يثبت لنا بقاء هذه الحرمة المشروطة على تقدير الغليان فقط ، وأمّا صيرورة هذه الحرمة فعليّة فهذا لا يثبت بالاستصحاب وإنّما يثبت على أساس الملازمة العقليّة بين هذه الحرمة المشروطة وبين تحقّق الشرط في الخارج ، فإنّه إذا تحقّق الشرط في الخارج وغلى العنب الجافّ ، حكم العقل بحرمته ، فتكون الحرمة فعليّة على أساس حكم العقل لا على أساس الاستصحاب.

وبتعبير آخر : أنّ ما يثبت لنا باستصحاب الحرمة المشروطة إلى ما بعد الجفاف هو بقاء هذه الحرمة ، وحينئذ فإن اقتصرنا على ذلك لم يكن الاستصحاب جاريا ؛ لأنّ الحرمة المشروطة ليس لها أثر تنجيزي أو تعذيري فيكون التعبّد بها لغوا.

وإن أردنا من استصحابها التوصّل إلى فعليّة الحرمة عند تحقّق الغليان ، فهذا وإن كان معقولا إلا أنّ فعليّة الحرمة لازم عقلي لاستصحاب بقاء الحرمة المشروطة ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بالحرمة الفعليّة فيما إذا تحقّق الغليان فيما بعد.

وأمّا الشارع فهو حكم بالحرمة على تقدير الغليان للعنب ، ولذلك لو كان لدينا عنب وغلى تثبت الحرمة الفعليّة ؛ لأنّها مجعولة من الشارع.

وأمّا هنا فلا يوجد لدينا عنب غلى وإنّما يوجد لدينا عنب جافّ أي ( الزبيب ) ، وهذا العنب الجافّ لا يعلم من الشارع جعل الحرمة له على تقدير الغليان ، وإنّما ثبت بالاستصحاب بقاء الحرمة المشروطة ، والاستصحاب لا يثبت أكثر من هذا المقدار أي بقاء الحرمة المشروطة ، وأمّا صيرورة هذه الحرمة فعليّة عند تحقّق الغليان لهذا العنب الجافّ فهي من حكم العقل ، فيكون من الأصل المثبت.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه يكفي في التنجيز إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط ؛ لأنّ وصول الكبرى والصغرى معا كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال.

والجواب على الاعتراض الثاني :

ص: 318

أوّلا : أنّ ما ذكر من كون المنجّز هو الحكم الفعلي غير صحيح ، إذ هو ناشئ من تصوّرات الميرزا للحكم وكونه ينحلّ إلى الجعل والمجعول ، فالحكم في عالم الجعل ليس منجّزا ؛ لأنّه عبارة عن تلك القضيّة التشريعيّة الجعليّة ، وأمّا في عالم المجعول أي فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع فيكون الحكم منجّزا ، ولذلك يرد إشكال الأصل المثبت والملازمة العقليّة ؛ لأنّ المستصحب هو الحكم المشروط وهو ليس فعليّا ، وإنّما يصبح فعليّا عند تحقّق الشرط بحكم العقل لا الشرع.

إلا أنّ هذا المبنى غير تامّ لما تقدّم منّا من أنّ منجّزيّة الحكم تابعة لوصول الكبرى والصغرى معا ، فإنّه يكفي حينئذ أن تصل إحداهما تعبّدا ، والأخرى وجدانا.

وفي مقامنا حيث يجري استصحاب تلك القضيّة الشرطيّة التعليقيّة - بناء على ما ذكرناه في ردّ الاعتراض الأوّل من كون القيدين طوليّين - فيثبت لنا بالتعبّد الاستصحابي وصول الكبرى أي ( حرمة العنب الجافّ إذا غلى ) ؛ لأنّ هذه الكبرى كانت معلومة وجدانا عند ما كان العنب رطبا وشكّ في بقائها بعد صيرورته جافّا فجرى استصحابها.

وأمّا الصغرى وهي الغليان فالمفروض أنّها ثابتة بالوجدان ؛ لأنّنا وضعنا هذا العنب الجافّ على النار وغلى ، وبذلك تكون الحرمة منجّزة لوصول كبراها بالتعبّد وصغراها بالوجدان.

وثانيا : أنّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفّله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري ، وتحوّل هذا الحكم الظاهري إلى فعليّ عند وجود الشرط لازم عقلي لنفس الحكم الاستصحابي المذكور لا للمستصحب ، وقد مرّ بنا سابقا (1) أنّ اللوازم العقليّة لنفس الاستصحاب تترتّب عليه بلا إشكال.

وثانيا : إذا قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل للحكم الواقعي المشكوك - بناء على مسلك جعل الحكم المماثل - فسوف يثبت لنا عند استصحاب تلك القضيّة التعليقيّة الشرطيّة حكم مشروط ظاهري ، وهو حرمة العنب الجافّ إذا غلى.

ص: 319


1- في نهاية البحث الوارد تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

وهذا الحكم المشروط الظاهري يصبح حكما فعليّا فيما إذا تحقّق الشرط ، أي أنّ الحرمة تصبح فعليّة إذا تحقّق الغليان.

وهذا الحكم الفعلي وإن كان لازما عقليّا ، إلا أنّه لازم عقلي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ، وقد تقدّم سابقا أنّ اللوازم العقليّة إذا كانت لنفس الاستصحاب فهي تثبت بلا إشكال ؛ لأنّ الدليل على الاستصحاب أمارة وهي الإخبار.

ولكنّ الكلام في كيفيّة كون الحرمة الفعليّة لازما عقليّا للاستصحاب لا للمستصحب.

والجواب : أنّ الفعليّة وصيرورة الحكم منجّزا ليست من شئون الثبوت الواقعي للشيء بل من لوازم العلم به ، فالحرمة للعنب الرطب لا تكون فعليّة إذا كان هناك عنب رطب وغلى واقعا من دون أن نعلم بذلك ، وهذا يعني أنّها ليست من لوازم الشيء ، بل من لوازم العلم به.

وهنا الحرمة للعنب الجافّ التي جرى استصحابها لا تكون فعليّة لمجرّد ثبوتها الظاهري ، بل تكون فعليّة لو علمنا بها وعلمنا بتحقّق الغليان أيضا ، وحيث إنّ الغليان ثابت لدينا بالوجدان ؛ لأنّ العنب الجافّ قد وضع فعلا على النار وغلى ، فتكون الحرمة الفعليّة ثابتة للعلم بالحكم المشروط ظاهرا ، إذ من الواضح أنّ غليان العنب الجافّ وحده لا يكفي للحرمة من دون علم بالحكم ولو ظاهرا ، ولذلك تكون الحرمة الفعليّة من شئون العلم بالحكم المستفاد من دليل الاستصحاب ، فهي لازم عقلي لنفس الاستصحاب الذي يولّد لنا هذا الحكم المشروط الظاهري ، وهذا اللازم العقلي حجّة ؛ لأنّ لوازم الاستصحاب العقليّة حجّة لأنّ دليله أمارة.

الاعتراض الثالث : أنّ استصحاب الحكم المعلّق معارض باستصحاب الحكم المنجّز ، ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلّقة على الغليان سابقا كذلك يعلم بالحلّيّة الفعليّة المنجّزة قبل الغليان فتستصحب ، ويتعارض الاستصحابان.

الاعتراض الثالث : يتّجه إلى إبراز المعارض لاستصحاب الحكم المعلّق بعد التسليم والفراغ عن تماميّة أركانه ، فلو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي إلا أنّه مع ذلك لا يمكن الأخذ به لوجود المعارض له ، وهو الاستصحاب التنجيزي أي استصحاب الحكم المنجّز.

ص: 320

ففي مثال العنب المتقدّم ، فكما نعلم بالحرمة التعليقيّة عند تحقّق العنب وكونه رطبا والتي مفادها ( أنّ هذا العنب لو غلى لحرم ) ، فكذلك نعلم بالحلّيّة الفعليّة التنجيزيّة التي مفادها ( إنّ هذا العنب فعلا حلال ) حيث إنّ موضوع الحرمة غير ثابت فعلا ؛ لعدم وجود الغليان فعلا.

وعليه فكما يجري استصحاب الحرمة التعليقيّة فيما بعد جفاف العنب وغليانه ، حيث يشكّ في بقاء تلك الحرمة ، فكذلك يجري استصحاب الحلّيّة المنجّزة الفعليّة فيما بعد الجفاف والغليان للشكّ في ارتفاع هذه الحلّيّة وبقائها.

وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ أحدهما ينفي ما يثبته الآخر عن نفس الموضوع ، فيحكم بتساقطهما ، وبالتالي يرجع إلى الأصول العمليّة الجارية في المقام كأصالة الحلّيّة أو أصالة الطهارة أو أصالة البراءة.

وهذا الاعتراض يظهر من السيّد المجاهد صاحب ( المناهل ) ، حيث قدّم بعد إبراز التعارض استصحاب الحلية الفعلية.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) (1) من أنّه لا معارضة بين الاستصحابين ، إذ كما أنّ الحرمة كانت معلّقة فتستصحب بما هي معلّقة ، كذلك الحلّيّة كانت في العنب مغيّاة بالغليان فتستصحب بما هي مغيّاة ، ولا تنافي بين حلّيّة مغيّاة وحرمة معلّقة على الغاية.

وأجيب على هذا الاعتراض بأجوبة أهمّها :

الجواب الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ هذين الاستصحابين يمكن الأخذ بهما معا ولا تعارض بينهما.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الحلّيّة يثبت لنا الحلّيّة المغيّاة بالغليان ؛ وذلك لأنّنا نعلم بأنّ هذا العنب حلال قبل غليانه ، إلا أنّ هذه الحلّيّة ليست مطلقة ، بل هي مغيّاة إلى حين غليانه ، ثمّ بعد صيرورة العنب جافّا وشككنا في بقاء هذه الحلّيّة جرى استصحابها فتثبت لنا الحلّيّة المغيّاة بالغليان.

وأمّا استصحاب الحرمة المعلّقة التي كانت ثابتة للعنب الرطب والتي يثبت بقاؤها

ص: 321


1- كفاية الأصول : 468 - 469.

للعنب الجافّ ، فهي حرمة معلّقة على الغليان ، وهذا معناه أنه بعد صيرورة العنب جافّا ثبت لنا حلّيّته الفعليّة المنجّزة ولكن قبل غليانه ، أي أنّه ما دام لم يتحقّق الغليان فهذه الحلّيّة ثابتة للعنب الجافّ ، وكذلك تثبت لنا حرمته المعلّقة على الغليان ، ولا يلزم التعارض بينهما ؛ لأنّه قبل الغليان ليس لدينا إلا الحلّيّة ؛ لأنّ قيد الحرمة لم يتحقّق ، وبعد الغليان ليس لدينا إلا الحرمة لتحقّق قيدها وارتفاع الحلّيّة لانتهاء أمدها بتحقّق الغاية.

وبهذا يظهر أنّه يمكن الأخذ بالاستصحابين معا ؛ لأنّهما لن يجتمعا معا وبالتالي لن يحصل التعارض بينهما.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الحلّيّة التي نريد استصحابها هي الحلّيّة الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا علم بأنّها مغيّاة لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، فنستصحب ذات هذه الحلّيّة.

ويرد عليه : أنّ الحلّيّة الفعليّة التي يدّعى معارضتها لاستصحاب الحرمة التعليقيّة ليست هي الحلّيّة الثابتة للعنب حينما كان رطبا ، بل هي الحلّيّة الثابتة للعنب بعد أن جفّ وصار زبيبا ؛ وذلك لأنّ الحلّيّة الثابتة للعنب الرطب يعلم كونها مغيّاة بالغليان ، وأمّا حلّيّة العنب بعد جفافه فهذه لا يعلم كونها مغياة بالغليان ، إذ من المحتمل أن تكون هذه الحلّيّة مطلقة حتّى بعد الغليان.

فلو أريد استصحاب الحلّيّة قبل الجفاف فهي حلّيّة مغيّاة يقينا ، وأمّا إن أريد استصحاب الحلّيّة بعد الجفاف وقبل الغليان فهي حلّيّة فعليّة ومنجّزة ولا يعلم كونها مغيّاة ، ولذلك يرد الإشكال من ناحية استصحاب الحلّيّة الثابتة بعد الجفاف ؛ لأنّها منجّزة وفعليّة ولا يعلم كونها مغيّاة فتتعارض مع استصحاب الحرمة التعليقيّة.

فإن قيل : إنّ الحلّيّة الثابتة قبل الجفاف نعلم بأنّها مغيّاة ، ونشكّ في تبدّلها إلى الحلّيّة غير المغيّاة بالجفاف ، فنستصحب تلك الحلّيّة المغيّاة المعلومة قبل الجفاف.

فإن قيل : لا يوجد لدينا إلا حلّيّة واحدة هي حلّيّة العنب قبل جفافه وقبل غليانه ، وهذه الحلّيّة يعلم كونها مغيّاة بالغليان ؛ لأنّ هذا العنب الرطب لو غلى لحرم ، فحلّيّته الفعليّة مقيّدة ومغيّاة بالغليان ، ثمّ بعد جفاف هذا العنب وصيرورته زبيبا وقبل غليانه

ص: 322

فحلّيّته فعليّة أيضا ، ولكنّنا نشكّ في أنّ هذه الحلّيّة الفعليّة هل هي نفس الحلّيّة التي كانت قبل الجفاف والتي هي الحلّيّة المغياة ، أو أنّها تبدّلت إلى حلّيّة أخرى منجّزة ومطلقة وغير مغيّاة بالغليان؟

ووجه الشكّ هو أنّ الرطوبة هل هي حيثيّة دخيلة على وجه التقييد في ثبوت الحرمة للعنب ، أو أنّها ليست دخيلة كذلك؟

ومع هذا الشكّ نجري استصحاب الحلّيّة المغيّاة ؛ لأنّها كانت متيقّنة قبل الجفاف ونشكّ في زوالها وحدوث حلّيّة أخرى مكانها ، فيثبت لنا الحلّيّة المغيّاة أيضا بعد الجفاف ، فإذا غلى هذا الزبيب جرى استصحاب حلّيّته المغيّاة وحرمته التعليقيّة معا ولا تعارض بينهما.

كان الجواب : أنّ استصحابها لا يعيّن حال الحلّيّة المعلومة بعد الجفاف ، ولا يثبت أنّها مغيّاة إلا بالملازمة ، للعلم بعدم إمكان وجود حلّيّتين ، وما دامت الحلّيّة المعلومة بعد الجفاف لا مثبت لكونها مغيّاة فبالإمكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.

كان الجواب : أنّ استصحاب الحلّيّة المغيّاة الثابتة للعنب قبل جفافه إلى ما بعد جفافه لا يثبت لنا أنّ هذه الحلّيّة مغياة أيضا إلا بضمّ مقدّمة عقليّة ، وهي أنّه لا يوجد لدينا حلّيّتان إحداهما للعنب قبل جفافه والأخرى للعنب بعد جفافه ، إذ لو كان لدينا حلّيّتان فما هو المانع أن تكون الحلّيّة الأولى مغيّاة والثانية غير مغيّاة ، وعليه فإثبات الحلّيّة المغيّاة إلى ما بعد الجفاف والغليان لا يكون إلا بواسطة الملازمة العقليّة بين هذه الحلّيّة والحلّيّة السابقة ، وأنّ الثانية هي نفس الأولى واستمرار لها استنادا إلى ثبوت حكم واحد للشيء الواحد وإن تغيّرت بعض أحواله المشكوك دخالتها كالرطوبة والجفاف.

ومن الواضح أنّ الاستصحاب لا يثبت به اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب كما تقدّم سابقا ، ولذلك فلا تثبت الحلّيّة المغيّاة بعد الجفاف ، وإنّما القدر المتيقّن ثبوت الحلّيّة ، وأمّا كونها مغيّاة أم لا فهذا غير معلوم ، ولذلك فإذا غلى هذا العنب بعد جفافه وشكّ في بقاء حلّيّته جرى استصحاب ذات الحلّيّة المعلومة لا الحلّيّة المغيّاة ، وبالتالي سوف تتعارض مع الحرمة المعلّقة.

ص: 323

والجواب الآخر : ما ذكره الشيخ الأنصاري (1) والمحقّق النائيني (2) من أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي.

ويمكن أن يقال في توجيه ذلك : أنّ استصحاب القضيّة الشرطيّة للحكم إمّا أن يثبت فعليّة الحكم عند تحقّق الشرط ، وإمّا ألاّ يثبت ذلك ، فإن لم يثبت لم يجر في نفسه ، إذ أي أثر لإثبات حكم مشروط لا ينتهي إلى الفعليّة.

وإن أثبت ذلك تمّ الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلّق على استصحاب الحكم المنجّز وحكومته عليه ، وفقا للقاعدة المتقدّمة في الحلقة السابقة (3) القائلة :

إنّه كلّما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الثاني دون العكس قدّم الأصل الأوّل على الثاني.

الجواب الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري والميرزا النائيني من حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي فيقدّم الأوّل على الثاني ، ولا معارضة بينهما.

ووجه الحكومة أن يقال : إنّ استصحاب القضيّة الشرطيّة القائلة : ( بأنّ العنب إذا غلى حرم ) تارة يراد بها إثبات فعليّة الحرمة عند تحقّق الشرط وأخرى لا يراد بها ذلك.

فإن لم يكن المراد بها إثبات الحرمة الفعليّة ، بل اقتصر على إثبات نفس هذه القضيّة التي يستفاد منها الحكم المشروط والمعلّق ، فمثل هذا الاستصحاب لا يجري في نفسه لاختلال ركنه الرابع ؛ لأنّه لا يوجد أثر تنجيزي أو تعذيري مترتّب على الحكم المشروط ؛ لأنّه لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّ ذلك من شئون الحكم الفعلي.

وإن أريد باستصحاب هذه القضيّة الشرطيّة التوصّل إلى إثبات الحكم الفعلي أي الحرمة الفعليّة عند تحقّق الشرط الذي هو الغليان ، فحينئذ يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه كما تقدّم ، وبالتالي يكون هذا الاستصحاب حاكما على استصحاب الحليّة

ص: 324


1- فرائد الأصول 3 : 223.
2- فوائد الأصول 4 : 473.
3- في النقطة الخامسة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : الاستصحاب في حالات الشكّ السببي والمسبّبي.

التنجيزيّة ؛ لأنّ ملاك الحكومة موجود هنا وهو كون أحد الأصلين ينظر إلى موضوع الأصل الآخر وينقّحه إثباتا أو نفيا ، فالاستصحاب التعليقي ينقّح موضوع الاستصحاب التنجيزي فيكون حاكما عليه.

وبيان ذلك :

فإنّ مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ، ومورد استصحاب [ الحكم ] المعلّق مرحلة الثبوت التقديري للحكم ، والمفروض أنّ استصحاب [ الحكم ] المعلّق يثبت حرمة فعليّة ، وهو معنى نفي الحلّيّة الفعليّة ، وأمّا استصحاب الحلّيّة الفعليّة فلا ينفي الحرمة المعلّقة ولا يتعرّض إلى الثبوت التقديري.

توضيح الحكومة : أنّ الاستصحاب التنجيزي يثبت لنا الحرمة الفعليّة بعد الغليان للعنب الجافّ.

والاستصحاب التعليقي يثبت لنا الحرمة الفعليّة بعد الغليان للعنب الجافّ.

إلا أنّ الاستصحاب التعليقي مورده إثبات الحرمة التعليقيّة ، أي أنّه يجري في مرحلة الثبوت التقديري للحرمة ، وهذا يعني أنّه ينظر إلى الحرمة والحلّيّة معا ، بمعنى أنّه إذا تحقّق الغليان فالحرمة ثابتة ، وإذا لم يتحقّق الغليان فلا حرمة بل الحلّيّة ثابتة.

وأمّا الاستصحاب التنجيزي فمورده إثبات الحلّيّة الفعليّة بعد الغليان ، أي أنّه يجري في مرحلة الثبوت الفعلي للحكم فهو ناظر إلى الحلّيّة فقط ، ولا نظر فيه إلى الحرمة التعليقيّة أصلا.

وعليه : فالاستصحاب التعليقي يعالج موضوع الاستصحاب التنجيزي ؛ لأنّه يثبت الحرمة الفعليّة بعد الغليان ، وهذا معناه نفي الحلّيّة الفعليّة بعد الغليان ، بينما الاستصحاب التنجيزي لا يعالج موضوع الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّه لا ينظر إلى الحرمة التعليقيّة لا سلبا ولا إيجابا ، وإنّما يثبت الحلّيّة الفعليّة فقط ، وأمّا هل أنّه توجد حرمة تعليقيّة أو لا؟ فهذا ليس موردا لنظره.

ومن هنا كان الاستصحاب التعليقي مقدّما على الاستصحاب التنجيزي ؛ لأنّه يعالج مورده دون العكس.

وبتعبير آخر أنّ الشكّ الموجود في الاستصحاب التنجيزي مسبّب عن الشكّ في الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّ الاستصحاب التعليقي يثبت الحرمة الفعليّة عند تحقّق

ص: 325

الغليان ، وبذلك يرتفع الشكّ في الحلّيّة التي هي مورد جريان الاستصحاب التنجيزي.

ولا يقال : إنّ الاستصحاب التنجيزي إذا جرى ثبت به الحلّيّة الفعليّة ، وبالتالي لا شكّ في الحرمة التعليقيّة ، لأنّه لا يوجد ملازمة وسببيّة بين ثبوت الحلّيّة الفعليّة وعدم ثبوت الحرمة المعلّقة ، بل يجتمعان معا.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا لا يتمّ عند من لا يثبت الفعليّة باستصحاب القضيّة المشروطة ، ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال ، فإنّ استصحاب الحكم المعلّق على هذا الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكما عليه.

ويرد على ذلك : أنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الفعليّة من شئون الحكم في عالم المجعول دون عالم الجعل ، كما يظهر من مدرسة الميرزا التي فرّقت بين الجعل والمجعول ، واعتبرت الفعليّة للحكم المجعول.

إلا أنّه تصوّر غير صحيح ؛ لأنّ الفعليّة والمنجّزيّة يكفي فيها وصول الكبرى والصغرى معا ، فإذا وصلتا معا وجدانا أو وجدانا وتعبّدا تحقّق موضوع المنجّزيّة وحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال.

وعليه ففي مقامنا : لا يشترط في منجّزيّة الاستصحاب التعليقي أن يثبت لنا الحرمة الفعليّة ، بل يكفي أن يوصل الكبرى وهي القضيّة الشرطيّة التي مفادها : ( أنّ العنب إذا غلى حرم ).

وأمّا المنجّزيّة والفعليّة فهي تابعة لاجتماع الصغرى مع الكبرى لدى المكلّف ، وهذا متحقّق ؛ لأنّ المكلّف يعلم وجدانا بالغليان إذ المفروض أنّ هذا العنب الجافّ قد غلى فعلا ، فالصغرى واصلة إليه وجدانا ، والكبرى وهي الجعل الشرعي تثبت بالاستصحاب ، حيث إنّه يثبت الحرمة التعليقيّة على الغليان ، فإذا ضمّت الصغرى إلى الكبرى تحقّقت المنجّزيّة وحكم العقل بوجوب الامتثال.

ولذلك لا يكون الاستصحاب التعليقي ناظرا إلى مورد الاستصحاب التنجيزي ورافعا له ليكون حاكما ومقدّما عليه ؛ لأنّه لا يثبت لنا الحرمة الفعليّة لترتفع الحلّيّة الفعليّة ، وإنّما يثبت لنا القضيّة الشرطيّة من دون التعرّض للفعليّة والمنجّزيّة أصلا ، فلا نظر فيه إلى مورد الأصل الآخر.

ص: 326

ومن هنا كان كلّ من الأصلين جاريا في مورده ، وبالتالي يقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما (1).

ص: 327


1- ثمّ إنّ السيّد الشهيد قد دفع هذا الاعتراض الثالث وكانت النتيجة عنده أنّ الاستصحاب التعليقي يجري من دون معارض ، فليراجع هناك.

ص: 328

استصحاب عدم النسخ

ص: 329

ص: 330

2 - استصحاب عدم النسخ

تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى مبادئ الحكم ، ومعقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل ، وعليه فالشكّ في النسخ بالنسبة إلى عالم الجعل يتصوّر على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في بقاء نفس الجعل وعدمه بمعنى احتمال إلغاء المولى له.

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانيّة ، بمعنى احتمال أنّ الجعل تعلّق بالحكم المقيّد بزمان قد انتهى أمده.

معنى النسخ : تقدّم في الحلقة السابقة أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بحقّ المولى عزّ وجلّ ؛ لاستلزامه الجهل ؛ وذلك لأنّ معناه أنّه كان يعتقد وجود المصلحة أو المفسدة بلحاظ المبادئ ثمّ ينكشف عدم ذلك ، فهذا المعنى يتصوّر بحقّ الموالي العرفيّين فقط ، هذا بلحاظ الحكم في عالم المبادئ.

نعم ، النسخ بلحاظ الحكم في عالم الجعل والاعتبار معقول بحقّ المولى ، وذلك بأن يجعل الحكم مطلقا ثبوتا لمصلحة في نفس إرادة الحكم بهذا النحو ، ولكنّه يكون مقيّدا في علم اللّه تعالى بأمر محدّد أخفاه اللّه عزّ وجلّ ، ولم يذكره إثباتا لمصلحة وحكمة ولو هي إبراز هيبة الأحكام ولزوم احترامها.

وعلى هذا الأساس سوف يكون الشكّ في النسخ بلحاظ عالم الجعل على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في النسخ بمعنى الشكّ في بقاء الجعل أو إلغائه ، فهل الشارع ألغى هذا الجعل أم لا؟

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانيّة ، بمعنى أنّ ما جعله

ص: 331


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : إمكان النسخ وتصويره.

الشارع هل هو شامل لجميع الأزمنة أم هو مختصّ ببعضها فقط ، فيكون الجعل متعلّقا بالحكم المقيّد بهذا الزمان دون ذاك؟

وحيث إنّ الزمان الذي قيّد به قد انتهى فيشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه ؛ لأنّه لو كان مقيّدا لارتفع الآن ، وإن لم يكن مقيّدا فهو باق ومستمر.

فإذا كان الشك من النحو الأوّل فلا شكّ في إمكان إجراء الاستصحاب ؛ لتماميّة أركانه ، غير أنّ هنا شبهة قد تمنع عن جريانه على أساس أن ترتّب المجعول على الجعل ليس شرعيّا بل عقليّا ، فإثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.

أمّا النحو الأوّل : بأن كان الشكّ في النسخ بلحاظ عالم الجعل مرجعه إلى احتمال إلغاء المولى لهذا الجعل ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ ؛ لتماميّة أركان الاستصحاب حيث يعلم يقينا بثبوت الحكم ويشكّ في بقائه.

وهنا شبهة وهي أنّ استصحاب عدم النسخ بلحاظ عالم الجعل إن أريد به إثبات بقاء الجعل فقط فهذا لا أثر له ؛ لأنّ الحكم بلحاظ عالم الجعل ليس فعليّا ، وما يدخل في العهدة هو الحكم المجعول الفعلي.

وإن أريد به إثبات الحكم المجعول الفعلي فهذا وإن كان ممكنا ولكنّه لا يتمّ إلا على أساس الملازمة العقليّة بين بقاء الجعل وبقاء الحكم الفعلي بعد ثبوت الموضوع وقيوده ، وهذا يجعله من الأصل المثبت.

والحاصل : أنّ إثبات الجعل فقط لا يفيد ؛ لأنّه ليس منجّزا ؛ لأنّ المنجّزيّة من شئون الحكم الفعلي ، وإثبات المجعول وفعليّته باستصحاب الجعل تثبت على أساس الملازمة العقليّة لا الشرعيّة.

والجواب : أنّا لسنا بحاجة إلى إثبات شيء وراء الجعل في مقام التنجيز ؛ لما تقدّم من كفاية وصول الكبرى والصغرى ، وعليه فالاستصحاب يجري خلافا للأصل اللفظي بمعنى إطلاق الدليل ، فإنّه لا يمكن التمسّك به لنفي النسخ بهذا المعنى.

والجواب عن هذه الشبهة : أنّ المنجّزيّة لا تحتاج إلى إثبات المجعول الفعلي ، إذ لا يوجد شيء حقيقي وراء الجعل ، وإنّما المجعول أمر وهمي اعتباري ، ولذلك فيكفي في المنجّزيّة وصول الكبرى أي الجعل والصغرى أي الموضوع.

ص: 332

ولذلك ففي مقامنا يجري الاستصحاب لإثبات الكبرى وعدم النسخ ، والمفروض أنّ الصغرى واصلة للمكلّف وجدانا فتتحقّق المنجّزيّة بذلك ، وهذا ليس على أساس الملازمة العقليّة ، بل من باب تحقّق موضوع المنجّزيّة بجزأيها ، غاية الأمر أنّ الصغرى ثابتة وجدانا والكبرى تعبّدا.

ولا يمكننا أن نتمسّك بإطلاق الدليل الدالّ على الحكم لإثبات بقاء الحكم وعدم نسخه في عالم الجعل ؛ لأنّنا لم نفرض احتمال كون الحكم مقيّدا بزمان أو نحوه من القيود ، وإنّما فرضنا احتمال رفع الشارع يده عن الحكم بعد أن جعله مطلقا وشاملا لكلّ الأزمنة ، فالإطلاق إنّما يصحّ التمسّك به فيما إذا كان أصل الحكم ثابتا وشكّ في وجود قيد فيه ، وهنا الشكّ في أصل ثبوت الحكم وبقائه لا في قيد زائد لينفى بالإطلاق.

وإذا كان الشكّ من النحو الثاني فلا شكّ في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفيه ، ولكنّ جريان الاستصحاب موضع بحث ، وذلك لإمكان دعوى أنّ المتيقّن ثبوت الحكم على المكلّفين في الزمان الأوّل ، والمشكوك ثبوته على أفراد آخرين ، وهم المكلّفون الذين يعيشون في الزمان الثاني ، فمعروض الحكم متعدّد إلا بالنسبة لشخص عاش كلا الزمانين بشخصه.

وأمّا النحو الثاني : بأن كان الشكّ في سعة المجعول وضيقه ، وهذا مرجعه إلى احتمال كون الجعل متعلّقا بالحكم المقيّد بزمان قد انتهى أمده ، فهنا لا إشكال في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفي هذا القيد وإثبات الإطلاق ، بأن يقال : إنّ الجعل مفاده مطلق ، فلو كان مقيّدا بزمان لكان اللازم نصب قرينة على ذلك ، فمع عدم وجودها تنفى بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

والوجه في صحّة هذا الإطلاق : أنّ الشكّ هنا في مفاد الدليل لا في أصل ثبوته ، أي أنّه بعد الفراغ عن ثبوت الدليل وعدم رفع اليد عنه يشكّ في مفاده سعة وضيقا من حيث الزمان ، فيتمسّك بالإطلاق لإثبات العموم والشمول لجميع الأزمنة وعدم اختصاصه بزمان دون آخر ؛ لأنّ ذلك يحتاج إلى مئونة زائدة ، وهي غير موجودة في المقام.

وأمّا الاستصحاب أي استصحاب بقاء الجعل إلى الزمان المشكوك فقد استشكل

ص: 333

فيه الشيخ الأنصاري بدعوى : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة فيه ؛ لأنّ المتيقّن هو ثبوت الحكم على الأشخاص الموجودين في الزمان الأوّل والمشكوك هو ثبوت الحكم على الأشخاص الموجودين في الزمان الثاني ، فالموضوع متعدّد ؛ لأنّ المعروض مختلف ، ومع تعدّد المعروض والموضوع لا يحرز كون الشك متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، فلا يجري الاستصحاب.

نعم ، يجري الاستصحاب بلحاظ الأشخاص الذين عاشوا الزمانين ؛ لأنّ الحكم كان متيقّن الثبوت بالنسبة لهم ، ثمّ يشكّون في بقائه فيستصحب.

وعلاج ذلك : أنّ الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولا على نحو القضيّة الخارجيّة التي تنصبّ على الأفراد المحقّقة خارجا مباشرة ، بل على نحو القضيّة الحقيقيّة التي ينصبّ فيها الحكم على الموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، وفي هذه الحالة لا فارق بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة موضوعا إلا من ناحية الزمان وتأخّر الموضوع للقضيّة المشكوكة زمانا عن الموضوع للقضيّة المتيقّنة ، وهذا يكفي لانتزاع عنواني الحدوث والبقاء عرفا على نحو يعتبر الشكّ المفروض شكّا في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب.

وعلاج هذه الشبهة أن يقال : إنّ الملحوظ في عالم الجعل لو كان الأشخاص والأفراد الموجودين في الخارج فعلا لكان لهذا التوهّم مجالا ، حيث يكون الزمان المتيقّن ثبوت الحكم فيه هو الأشخاص المغايرين للأشخاص الذين يشكّ في ثبوت الحكم بحقّهم ، إلا أنّ الصحيح هو أنّ الحكم يجعل في عالم التشريع على نهج القضيّة الحقيقية لا القضيّة الخارجيّة.

وهذا يعني ملاحظة الموضوع مقدّر ومفترض الوجود ، وهو طبيعي الإنسان المكلّف لا خصوص الأشخاص الذين يعيشون في زمان الجعل والتشريع أو غيرهم.

وعلى هذا فالحكم مجعول على موضوعه المقدّر الوجود والذي يكون مقدّر الوجود في جميع الأزمنة والأمكنة ، ولذلك يرى للقضيّة حدوث وبقاء بهذا اللحاظ ؛ لأنّ موضوعهما واحد ومعروضهما واحد ، وهو طبيعي المكلّف ، غاية الأمر كان يعلم بثبوت هذا الجعل والحكم في زمان ثمّ يشكّ في بقائه في زمان آخر ، فالاختلاف بلحاظ الزمان تقدّما وتأخّرا لا بلحاظ الموضوع والمعروض.

ص: 334

وهذا المقدار من انحفاظ الموضوع يكفي لأن ينتزع عنواني الحدوث والبقاء عرفا ، فيقال : هذا الحكم والجعل كان معلوما حدوثه وثبوته على طبيعي المكلّف في ذاك الزمان ؛ والآن يشكّ في بقائه على طبيعي المكلّف في الزمان اللاحق ، فيستصحب ؛ لأنّ الشكّ المفروض يعتبر شكّا في بقاء الحكم الذي كان متيقّنا ثبوته سابقا.

والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجيزي مفاده التعبّد ببقاء المجعول الكلّي الملحوظ بما هو صفة لطبيعي المكلّف.

وهذا الاستصحاب استصحاب تنجيزي ؛ لأنّه يثبت لنا الحكم المجعول الكلّي بقاء بحقّ طبيعي المكلّف المقدّر الوجود ، فلا إشكال في جريانه.

وبالإمكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلّق ، بأن يشار إلى الفرد المكلّف المتأخّر زمانا ويقال : إنّ هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتمّ التخلّص عن مشكلة تعدّد معروض الحكم.

وهناك علاج آخر : وهو أن نجري الاستصحاب التعليقي حيث إنّ أركانه تامّة ، فيقال : إنّ هذا الشخص الموجود في الزمان اللاحق لو كان موجودا في الزمان السابق لكان الحكم شاملا له وثابتا بحقّه ، والآن حيث إنّه موجود فعلا في الزمان اللاحق فنشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة والحكم التعليقي بالنسبة له فيجري استصحابها ، حيث إنّها كانت متيقّنة الحدوث في الزمان اللاحق لكلّ شخص وجد فيه فعلا أو تقديرا ومشكوكة البقاء في الزمان اللاحق فتستصحب ، فيثبت الحكم المعلّق بشأنه ويصبح منجّزا عند تحقّق الصغرى وجدانا.

وبتعبير آخر : يمكننا أن نشير إلى الفرد المكلّف الموجود في الزمان اللاحق ونقول : إنّ هذا الفرد لو كان موجودا في الزمان السابق فالحكم ثابت بحقّه ، والآن بما أنّ هذا الفرد موجود فعلا في الزمان المتأخّر فيشكّ في بقاء ذلك الحكم المعلّق بشأنه فيجري استصحابه ؛ لأنّ هذا الحكم المعلّق كان معلوم الحدوث سابقا على فرض وجود هذا الشخص سابقا ، ومشكوك البقاء بعد الالتفات إلى وجود ذاك الشخص فعلا ، فالمعروض واحد وهو ذاك الفرد المكلّف ، ولكن يشكّ في الحكم بحقّه نتيجة الاختلال في الزمان بين الحدوث والبقاء.

ص: 335

وهذا العلاج لا يرد عليه الإشكال المتقدّم من تعدّد المعروض في الخارج ؛ لأنّ المعروض في هذا الاستصحاب هو الفرد الخارجي وهو واحد.

ولكن توجد مشكلة أخرى يواجهها الاستصحاب في المقام ، سواء أجري بصيغته التنجيزيّة أو التعليقيّة ، وهي : أنّه معارض باستصحاب العدم المنجّز الثابت لآحاد المكلّفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموما بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي.

ثمّ إنّ استصحاب عدم النسخ بكلتا صيغتيه أي الاستصحاب التنجيزي أو الاستصحاب التعليقي يواجه مشكلة تقدّمت ، وهي أنّه معارض باستصحاب عدم التكليف الثابت لكلّ فرد فرد ولو في فترة ما قبل البلوغ ، وهذا الاستصحاب منجّز ؛ لأنّه يثبت عدم التكليف فعلا لا تعليقا ، حيث إنّ هذا الشخص لم يكن مكلّفا قبل البلوغ فعلا أو قبل تحقّق قيود التكليف في الخارج.

والآن حيث يشكّ في النسخ بعد صيرورته مكلّفا ، أو بعد تحقّق قيود التكليف سوف يشكّ في ارتفاع عدم التكليف وتبدّله إلى التكليف فيستصحب ذلك العدم ، وهذا الاستصحاب يتعارض مع استصحاب عدم النسخ الذي يثبت التكليف.

والجواب ما تقدّم سابقا عند الحديث عن الاعتراض الثالث على الاستصحاب التعليقي ، فإنّ هذا الاعتراض شبيه بذاك.

* * *

ص: 336

استصحاب الكلّي
اشارة

ص: 337

ص: 338

3 - استصحاب الكلّي

استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيّين إذا كان له أثر شرعي ، والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في أصل إجراء استصحاب الكلّي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الأحكام تارة وفي باب الموضوعات أخرى.

المقصود من استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع فيما إذا كان لهذا الجامع على إجماله أثر شرعي تنجيزي أو تعذيري ، سواء كان هذا الجامع بين حكمين أم بين موضوعين.

أمّا الجامع بين الحكمين فمثاله أن يعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، فالجامع بينهما هو كلّي الوجوب.

وأمّا الجامع بين الموضوعين فمثاله أن يعلم بوجوب إكرام إمّا خالد وإمّا زيد ، فإنّه يعلم بالجامع بينهما وهو كلّي الإنسان.

ومن الجامع بين الموضوعين أيضا ما إذا علم بخروج البول أو المني ، فإنّه يعلم بكلّي الحدث.

ومن الجامع بين الحكمين أيضا موارد الأقلّ والأكثر ، كوجوب العتق بنفسه أو وجوبه مخيّرا بينه وبين الإطعام أو الصيام.

والبحث هنا يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في أصل جريان مثل هذا الاستصحاب ، بمعنى أنّه قد يمنع من جريان الاستصحاب في نفسه بدعوى عدم تماميّة أركانه من ناحية الشكّ في البقاء أو من ناحية عدم وجود الأثر.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّه تارة يستشكل في جريان الاستصحاب بالنسبة

ص: 339

للجامع بين الحكمين ، وأخرى بالنسبة للجامع بين الموضوعين ، فالكلام في الجهة الأولى يقع في مقامين :

أمّا في باب الأحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذ : إنّ المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب ، وهو باطل ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يعقل جعله ؛ إذ يستحيل وجود الجامع إلا في ضمن فرده ، والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطّا للاستصحاب ليكون مصبّا للتعبّد الاستصحابي.

المقام الأوّل : في بيان الإشكال على جريان استصحاب الكلّي بين الحكمين ، فإذا علم بوجوب الجمعة أو الظهر أو علم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو استحبابه ، فالجامع على الأوّل هو كلّي الوجوب وعلى الثاني هو كلّي الطلب أو الإرادة أو المحبوبيّة.

وعليه فإذا بنينا على أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب - والذي هو أحد المسالك في تفسير حقيقة الحكم الظاهري - كان المفاد بدليل التعبّد الاستصحابي هو جعل المماثل لهذا الجامع ظاهرا ، وهذا باطل.

والوجه في بطلانه هو أنّه :

إن أريد من جعل المماثل إثبات بقاء الجامع بحدّه الجامعي أي بعنوانه الخاصّ من دون النظر إلى وجوده ضمن الأفراد فهذا مستحيل ؛ لأنّ الجامع لا يوجد أصلا مستقلاّ عن الفرد فكيف يبقى بدونه؟!

وإن أريد منه إثبات بقائه ضمن أحد فرديه فهو معقول ، إلا أنّه لا يثبت بالتعبّد الاستصحابي ؛ لعدم تماميّة أركان الاستصحاب ، إذ لا علم بحدوث هذا الفرد بخصوصه ولا ذاك ، فكيف يجري استصحاب بقاء الجامع ضمن الفرد؟

والحاصل : أنّ إثبات بقاء الجامع مستقلاّ عن الفرد مستحيل ؛ لأنّ الجامع يستحيل وجوده من دون الفرد.

وإثبات بقاء الجامع ضمن الفرد وإن كان معقولا ، إلا أنّه لا يقين بوجود الفرد بخصوصه فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم تماميّة أركانه.

ص: 340

وإثبات بقاء الجامع ضمن أحد الفردين على الترديد محال أيضا ؛ لأنّه لا وجود لأحد الفردين بهذا العنوان ، كما تقدّم سابقا من أنّ الفرد المردّد بمفهومه وبواقعه لا وجود له.

وهذا الاعتراض يتوقّف على قبول المبنى المشار إليه ، أمّا إذا أنكرناه وفرضنا أنّ مفاد دليل الاستصحاب إبقاء اليقين بمعنى من المعاني فيمكن افتراض إبقائه بقدر الجامع ، فيكون بمثابة العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع.

والجواب : أنّ هذا الإشكال وارد على مسلك جعل الحكم المماثل ، وأمّا إذا أنكرنا هذا المسلك كما هو الصحيح ، وبنينا على أنّ المجعول هو إبقاء اليقين بأحد المعاني الثلاثة المتقدّمة فلا يتمّ هذا الإشكال.

فلو قلنا : إنّ المجعول في الاستصحاب هو إبقاء اليقين بمعنى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، أو قلنا : إنّ المجعول هو إبقاء اليقين بمعنى أنّ الشاكّ كالمتيقّن ، أو قلنا : إنّ المجعول هو إبقاء اليقين بلحاظ الجري العملي ، فهذا الإشكال لا يرد ؛ لأنّه يمكن للشارع إبقاء اليقين بلحاظ الجامع من جهة العلميّة والطريقيّة كما هي مقالة الميرزا ، حيث يكون مفاد الاستصحاب التعبّد ببقاء اليقين فالشاكّ عنده كالمتيقّن ، وكذا يمكن إبقاؤه بلحاظ الجامع من جهة المعذّريّة والمنجّزيّة والأثر العملي ، لو كان المفاد هو إبقاء اليقين بلحاظ الأثر العملي.

ويحتمل أن يراد من عبارة ( بمعنى من المعاني ) الإشارة إلى المسالك في حقيقة الحكم الظاهري عموما لا إلى خصوص دليل الاستصحاب ، فيكون المقصود حينئذ أنّه تارة نقول إنّ المجعول في الحكم الظاهري هو العلميّة والطريقيّة ، وأخرى نقول : إنّ المجعول هو المنجّزيّة والمعذّريّة ، وثالثة نقول : إنّ المجعول فيه هو إبراز شدّة الاهتمام المولوي.

فإنّه على هذه المسالك كلّها يمكن التعبّد الاستصحابي بلحاظ الجامع ؛ إذ يعقل التعبّد بالعلم بلحاظ الجامع أو التعبّد بالمنجّزيّة والمعذّريّة بلحاظ الجامع أو إبراز شدّة الاهتمام بلحاظ الجامع.

فيكون التعبّد الاستصحابي بلحاظ الجامع على هذه المسالك كالعلم الإجمالي المتعلّق بالجامع ، فإنّه يكون منجّزا لمقدار الجامع فقط دون الأفراد. وكذلك الحال هنا

ص: 341

يكون الاستصحاب منجّزا لمقدار الجامع فقط دون الأفراد بلا فرق بينهما ، فإذا صحّ هناك يصحّ هنا أيضا.

وأمّا في باب الموضوعات : فالاعتراض ينشأ من أنّ الأثر الشرعي مترتّب على أفراد الجامع لا على الجامع بعنوانه ، فلا يترتّب على استصحابه أثر.

المقام الثاني : في بيان الإشكال الوارد على استصحاب الجامع بين الموضوعين ، فإذا علم مثلا بوجود زيد أو عمرو في المسجد فيعلم بوجود كلّي الإنسان ، فإذا شكّ في بقائه جرى استصحابه ، إلا أنّ هذا الاستصحاب للكلّي ما ذا يراد به؟

فإن أريد به إثبات الكلّي بعنوانه الخاصّ من دون النظر إلى الأفراد ، فهذا وإن كان يجري فيه الاستصحاب ، إلا أنّ المفروض أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما تنصبّ على الموضوعات والطبائع والماهيّات بما هي حاكية عن الخارج لا بما هي موجودة في الذهن.

وهذا يعني أنّ الأثر الشرعي المفروض ترتّبه على هذا الاستصحاب إنّما هو للإنسان الموجود في الخارج لا للإنسان الموجود في الذهن ، وعليه فاستصحاب كلّي الإنسان بما هو كذلك يعني النظر إلى الإنسان بما هو موجود في الذهن لا الخارج ، وهو بهذا اللحاظ ليس موضوعا للأثر الشرعي فلا يجري استصحابه.

وإن أريد به إثبات الكلّي بما هو موجود في الخارج ، فمن الواضح أنّ الكلّي في الخارج لا يوجد مستقلاّ عن الفرد ؛ إذ لا وجود للإنسان في الخارج إلا في أفراده ، فإذا نظر إلى الخارج فلا يرى إلا الفرد لا الإنسان ، فيكون الاستصحاب من استصحاب الفرد وهو لا يقين بحدوثه فلا يجري.

وحاصل الإشكال : أنّ الاستصحاب إنّما يجري لو كان هناك أثر شرعي على المستصحب.

وفي مقامنا المستصحب هو الكلّي والطبيعي والماهيّة ، وهي ليست موضوعا للأثر الشرعي بما هي موجودة في الذهن ، بل بما هي موجودة في الخارج ، وما هو موجود في الخارج إنّما هو الفرد لا الطبيعي ، فاستصحاب الكلّي لا يجري لا بنفسه وعنوانه ؛ لأنّه لا أثر شرعي له. ولا بوجوده الخارجي ؛ لأنّ الكلّي في الخارج موجود ضمن الفرد وهو لا يقين بحدوثه.

ص: 342

والجواب : أنّه إن أريد أنّ الحكم الشرعي في لسان دليله مترتّب على العنوانين التفصيليّين للفردين فيرد عليه : أنّا نفرض الحكم فيما إذا رتّب في لسان الدليل على عنوان الجامع بين الفردين ، كحرمة المسّ المرتّبة على جامع الحدث.

والجواب عن هذا الإشكال أن يقال أوّلا : ما ذا يراد من عدم ترتّب الأثر الشرعي على الجامع؟

فإن كان المراد أنّ الجامع لم يرد في الأدلّة الشرعيّة أثر يترتّب عليه أصلا ، وإنّما الآثار الشرعيّة كلّها مترتّبة على الأفراد بعنوانها التفصيلي ، ولذلك لا يجري الاستصحاب بلحاظه. فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ بعض الأحكام الشرعيّة مترتّبة على نفس عنوان الكلّي والجامع دون الأفراد ، كما هو الحال في حرمة مسّ المصحف وكلماته المترتّبة على نفس عنوان الحدث الكلّي ، لا على الحدث الأصغر بعنوانه ولا على الحدث الأكبر كذلك.

وإن سلّم ترتّب الحكم في دليله على الجامع وادّعي أنّ الجامع إنّما يؤخذ موضوعا بما هو معبّر عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهني ، فلا بدّ من إجراء الاستصحاب فيما أخذ الجامع معبّرا عنه ومرآة له وهو الخارج ، وليس في الخارج إلا الفرد.

وإن كان المراد أنّ الجامع يمكن أن يؤخذ في لسان الدليل موضوعا للأثر ، ولكنّه إنّما يؤخذ كذلك بما هو مرآة وحاك عن الخارج لا بما هو مفهوم في الذهن ؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة تترتّب على ما في الذهن بقصد التوصّل إلى الخارج ، إذ لو كانت مترتّبة على ما في الذهن بقيد الوجود الذهني لم يكن هناك باعثيّة ومحرّكيّة في الخارج.

وعليه فالمقصود من إجراء الاستصحاب للجامع كونه معبّرا وكاشفا وحاكيا عن الخارج ، والحال أنّ الموجود في الخارج ليس إلا الفرد لا الجامع ؛ لأنّه لا وجود للكلّي في الخارج مستقلاّ عن الفرد ، وإنّما وجوده بوجود الأفراد ، والفرد لا يقين بحدوثه فلا يجري الاستصحاب.

فيرد عليه : أنّ موضوع الحكم وإن كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره أمرا ذهنيّا ، إلا أنّ الاستصحاب يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج أيضا ، ولا معنى لجريانه في الخارج ابتداء بلا توسّط عنوان من العناوين ؛ لأنّ

ص: 343

الاستصحاب حكم شرعي ولا بدّ أن ينصبّ التعبّد فيه على عنوان ، وكما أنّ العنوان التفصيلي يجري فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج كذلك العنوان الإجمالي الكلّي.

فجوابه : سلّمنا أنّ الكلّي والجامع إنّما يترتّب عليه الحكم بما هو مرآة للخارج لا بما هو مفهوم ذهني ، إلا أنّه مع ذلك يجري فيه الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب حكم شرعي كغيره من الأحكام الشرعيّة التي تنصبّ على العناوين والمفاهيم الذهنيّة بما هي حاكية عن الخارج لا بما هي أمر ومفهوم ذهني.

وعليه فكما أنّ الاستصحاب يجري بلحاظ العناوين الجزئيّة التفصيليّة بقصد حكايتها عن الخارج ، فكذلك يجري بلحاظ العناوين الكلّيّة الإجماليّة بقصد حكايتها عن الخارج أيضا ، ولا فرق بين العنوان التفصيلي وبين العنوان الكلّي الإجمالي من هذه الناحية.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا علمنا بعدالة زيد ثمّ شككنا في بقائه جرى استصحاب بقاء العدالة ، ولكنّ استصحاب العدالة هذا يجري بلحاظ الصورة الذهنيّة للعدالة الحاكية عن الخارج ، لا بلحاظ العدالة الموجودة في الخارج ؛ إذ لا يمكن أن ينصبّ الاستصحاب مباشرة وابتداء على الخارج من دون توسّط عنوان ومفهوم ؛ لأنّ الاستصحاب حكم شرعي والأحكام الشرعيّة تنصبّ على الصور الذهنيّة الحاكية عن الخارج ، لا على الصور الذهنيّة بما هي أمر ذهني ولا على الخارج مباشرة.

وهكذا الحال لو علمنا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد فعلمنا بجامع الإنسان ، فإنّ استصحاب بقاء كلّي الإنسان في المسجد يجري بلحاظ الإنسان الكلّي بما هو حاك عن الخارج ، لا بما هو أمر ذهني ، ولا بالخارج مباشرة الذي يحكي عنه هذا الكلّي ليشكل بأنّه ليس متيقّنا.

وبهذا يظهر أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من جريانه بلحاظ العنوان والمفهوم ، سواء كان هذا العنوان تفصيليّا أم كان عنوانا إجماليّا ، ما دام كلا العنوانين يحكيان عن الخارج ، ويراد بإجراء الاستصحاب فيهما التوصّل إلى الخارج ؛ لأنّه يمتنع جريان الاستصحاب بلحاظ الخارج ابتداء ؛ لأنّ الاحكام لا تتعلّق بالخارج مباشرة ، بل بالصور الذهنيّة الحاكية والكاشفة والتي تكون مرآة عن الخارج.

ص: 344

وبما ذكرناه ظهر الفارق الحقيقي بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي ، مع أنّ التوجّه في كلّ منهما إلى إثبات واقع خارجي واحد حيث إنّ الكلّي موجود بعين وجود الفرد.

وهذا الفارق هو أنّ الاستصحاب باعتباره حكما منجّزا وموصّلا للواقع فهو إنّما يتعلّق به بتوسّط عنوان من عناوينه وصورة من صوره ، فإن كان مصبّ التعبّد هو الواقع المرئي بعنوان تفصيلي مشير إليه فهذا استصحاب الفرد ، وإن كان مصبّه الواقع المرئي بعنوان جامع مشير إليه فهذا هو استصحاب الكلّي ، على الرغم من وحدة الواقع المشار إليه بكلا العنوانين.

والذي يحدّد إجراء الاستصحاب بهذا النحو أو بذاك كيفيّة أخذ الأثر الشرعي في لسان دليله.

وأمّا الفارق بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي فقد ظهر ممّا تقدّم ، وحاصله : أنّ الاستصحاب بما أنّه حكم شرعي فلا بدّ أن يتعلّق بالعنوان الحاكي عن الخارج ، غير أنّ العنوان الذي كان مصبّ الاستصحاب تارة تكون حكايته عن الخارج حكاية تفصيليّة وأخرى تكون حكاية إجماليّة.

فإن كانت حكايته تفصيليّة ، فهذا معناه أنّ العنوان الذي كان مصبّا للاستصحاب يشير إلى الواقع المرئي به إشارة تامّة تفصيليّة بكلّ خصوصيّاته ومشخّصاته التي يتميّز بها عن غيره.

وإن كانت حكايته إجماليّة ، فهذا يعني أنّ العنوان الذي كان مصبّا للاستصحاب يشير إلى الواقع المرئي به إشارة إجماليّة عنوانيّة لا نظر فيها إلى المشخّصات والخصوصيّات.

وهذا يعني أنّ الفارق بينهما هو في كيفيّة الإشارة إلى الواقع المرئي بهما.

ولكنّهما مع ذلك يشتركان في حكايتهما عن الواقع الخارجي ، فالواقع الخارجي واحد فيهما بمعنى أنّهما يحكيان عنه ، ولكنّهما يختلفان في كيفيّة هذه الحكاية من حيث التفصيل والإجمال أو الوضوح في الرؤية والغموض فيها.

وأمّا أنّه متى يجري استصحاب الفرد أو استصحاب الكلّي؟

فهذا يرتبط بالأثر الشرعي وكيفيّة أخذه في لسان الدليل ، فإنّه إن كان منصبّا على

ص: 345

الواقع الخارجي بمشخّصاته جرى استصحاب الفرد دون الكلّي ، وإن كان منصبّا عليه على إجماله جرى استصحاب الكلّي دون الفرد.

وعلى هذا الضوء يتّضح أنّ التفرقة بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي لا تتوقّف على دعوى التعدّد في الواقع الخارجي ، وأنّ للكلّي واقعا وسيعا منحازا عن واقعيّات الأفراد - على طريقة الرجل الهمداني في تصوّر الكلّي الطبيعي - وهي دعوى باطلة ؛ لما ثبت في محلّه من أنّ الكلّي موجود بعين وجود الأفراد.

وبما ذكرناه من تفسير لحقيقة الكلّي يتّضح بطلان التفسيرات الأخرى المدّعاة وهي :

التفسير الأوّل الكلّي الهمداني : والمقصود به أنّ الكلّي الطبيعي له وجود مستقلّ عن وجود أفراده لا في عالم الخارج ، بل في عالم آخر ، وله وجود مع أفراده في الخارج أيضا ، ويقال : إنّ هذا الرجل الهمداني قد ادّعى رؤية الإنسان الكلّي يمشي في جبال همدان.

فعلى هذا المسلك تكون نسبة الكلّي إلى أفراده كنسبة الأب الواحد إلى أبنائه المتعدّدين ، أي أنّه موجود مستقلّ عن الأفراد بوجود منحاز في واقعه وعالمه.

وبالتالي يتمّ تخريج استصحاب الكلّي من دون إشكال ؛ وذلك لأنّ الكلّي موجود في نفسه لا في أفراده لكي يشكل بأنّه لا يقين بالحدوث.

إلا أنّ أصل هذا المبنى باطل وفاسد لما تقدّم في مباحث الكلّي من الحكمة من أنّ الكلّي لا وجود له إلا ضمن أفراده ، فنسبته إليها نسبة الآباء إلى الأبناء فكلّ أب مختصّ بابن موجود بوجوده.

كما أنّه لا موجب لإرجاع الكلّي في مقام التفرقة المذكورة إلى الحصّة ، ودعوى أنّ كلّ فرد يشتمل على حصّة من الكلّي ومشخّصات عرضيّة ، واستصحاب الكلّي عبارة عن استصحاب ذات الحصّة ، واستصحاب الفرد عبارة عن استصحاب الحصّة مع المشخّصات ، بل الصحيح في التفرقة ما ذكرناه.

التفسير الثاني الكلّي برأي المحقّق العراقي : والمقصود به الحصّة الموجودة مع الفرد ، فإنّ كلّ فرد موجود في الخارج يشتمل على الحصّة من الجامع ، ويشتمل على الخصوصيّات والمشخّصات التي تميّزه عن غيره من الأفراد.

ص: 346

وعليه ، فإذا لوحظ الفرد بتمام مشخّصاته فهو من استصحاب الفرد ، وإذا جرّد عن هذه الخصوصيّات فلا يوجد إلا الحصّة من الجامع فيكون من استصحاب الكلّي ، ولذلك فاستصحاب الكلّي مغاير لاستصحاب الفرد من جهة ملاحظة المشخّصات وعدمها ، ولا يتوقّف استصحاب الكلّي على ملاحظة المشخّصات ، بل على ملاحظة الحصّة فقط.

وفيه ، أنّ الحصّة أيضا مغايرة للكلّي ؛ لأنّ الكلّي عبارة عن صرف الوجود للجامع ، والحصّة عبارة عن وجود الجامع في الخارج ولكن مجرّدا عن المشخّصات ، وهذا يعني أنّه يوجد في الحصّة شيء زائد وهو التعيّن للجامع في الخارج وإن كان مجرّدا عن المشخّصات.

الجهة الثانية : في أقسام استصحاب الكلّي :

يمكن تقسيم الشكّ في بقاء الكلّي إلى قسمين :

أحدهما : الشكّ في بقاء الكلّي غير الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

والآخر : الشكّ في بقائه الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

ومثال الأوّل : أن يعلم بدخول الإنسان ضمن زيد في المسجد ويشكّ في خروجه.

ومثال الثاني : أن يعلم بحدث مردّد بين الأصغر والأكبر ، ويشكّ في ارتفاعه بعد الوضوء ، فإنّ الشكّ مسبّب عن الشكّ في حدوث الأكبر.

الجهة الثانية في بيان أقسام استصحاب الكلّي :

يمكن تقسيم الشكّ في بقاء الكلّي إلى قسمين رئيسين بحسب التقسيم المنطقي ، هما :

الأوّل : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي غير ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد ، بل يكون الفرد معلوم الحدوث ولكنّه مشكوك البقاء ، ولذلك يشكّ في بقاء الكلّي.

مثاله : أن يعلم بدخول زيد إلى المسجد فيعلم بدخول الإنسان أيضا ؛ لأنّ الكلّي كما تقدّم يوجد في الخارج ضمن أفراده ولا وجود له مستقلّ عن وجود الأفراد ، ثمّ يشكّ في خروج زيد من المسجد ، وهذا الشكّ يسبّب الشكّ في بقاء الكلّي ؛ لأنّه لو

ص: 347

كان خارجا فلا وجود للكلّي في المسجد ، وإن كان لا يزال في المسجد فالكلّي موجود أيضا.

الثاني : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي ناشئا من الشكّ في حدوث الفرد ، بمعنى أنّه يعلم بوجود الكلّي ضمن أحد الفردين أو الأفراد ، ثمّ يعلم بارتفاع أحد الفردين ويشكّ في بقاء الكلّي ضمن الفرد الآخر على تقدير كونه هو الحادث ، فهنا الشكّ في البقاء كان لأجل الشكّ في الفرد الحادث ، فإنّه إذا كان الفرد الحادث هو الفرد الذي علم بارتفاعه فلا بقاء للكلّي ، وإذا كان الفرد الحادث هو الفرد الآخر فالكلّي موجود.

مثاله : أن يعلم بالحدث ضمن أحد فرديه أي الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر ، ثمّ بعد الوضوء يشكّ في بقاء كلّي الحدث من جهة أنّ الحادث لو كان هو الحدث الأصغر فقد ارتفع بالوضوء فيرتفع الكلّي ، ولو كان هو الحدث الأكبر فالكلّي لا يزال موجودا ؛ لأنّه لا يرتفع بالوضوء.

وسوف نتكلّم عن كلا هذين القسمين بالتفصيل فنقول :

أمّا القسم الأوّل فله حالتان :

الأولى : أن يكون الكلّي معلوما تفصيلا ويشكّ في بقائه ، كما في المثال المذكور حيث يعلم بوجود زيد تفصيلا. وهنا إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على الجامع جرى استصحاب الكلّي.

أمّا القسم الأوّل من الشكّ في بقاء الكلّي - وهو الشكّ غير الناشئ من حدوث الفرد - فهو على نحوين ، أو له حالتان :

الحالة الأولى : أن يكون الكلّي معلوما تفصيلا ويشكّ في بقائه ، كما إذا علم بدخول زيد إلى المسجد ثمّ يشكّ في خروجه ، فإنّه يعلم بدخول كلّي الإنسان على وجه تفصيلي من دون ترديد بين أفراده حيث يعلم بوجوده ضمن زيد ، ثمّ يشكّ في بقائه من أجل الشكّ في خروج زيد من المسجد.

وهنا إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الفرد جرى استصحاب الفرد ؛ لأنّه يعلم بدخول زيد ويشكّ في خروجه فيستصحب.

وإذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الكلّي كأن قيل مثلا : ( إذا كان في

ص: 348

المسجد إنسان فيجب التصدّق ) ، فهنا يجري استصحاب الكلّي أيضا ؛ لأنّه كان معلوم الحدوث تفصيلا ويشكّ في ارتفاعه فيستصحب.

واستصحاب الكلّي في هذه الحالة جار على كلّ حال ، سواء فسّرنا استصحاب الكلّي وفرّقنا بينه وبين استصحاب الفرد على أساس كون المستصحب الوجود السعي للكلّي على طريقة الرجل الهمداني ، أو الحصّة ، أو الخارج بمقدار مرآتيّة العنوان الكلّي ، على ما تقدّم في الجهة السابقة ، إذ على كلّ هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامّة.

وهذا الاستصحاب للكلّي يجري على جميع المسالك في تفسير الكلّي لتماميّة أركانه.

أمّا على مسلك الرجل الهمداني لتفسير الكلّي من كونه الوجود السعي والمنحاز فواضح ؛ لأنّ الكلّي له وجود سعي مستقلّ عن وجود الأفراد ، والمفروض أنّ الكلّي يعلم بحدوثه ويشكّ في بقائه فيستصحب.

وأمّا على مسلك المحقّق العراقي لتفسير الكلّي وكونه عبارة عن الحصّة ، فحيث يعلم بدخول زيد يعلم بدخول حصّة من الإنسان أيضا ، فإذا شكّ في الخروج يشكّ في ارتفاع هذه الحصّة فتستصحب.

وأمّا على المسلك المختار من كون الكلّي عبارة عن المفهوم والعنوان الذي يكون مرآة وحاكيا عن الخارج ، فحيث إنّ هذا العنوان معلوم الحدوث عند دخول زيد ومشكوك البقاء للشكّ في خروجه ، فيجري الاستصحاب بلحاظ هذا العنوان الذي يحكي عن الخارج.

ولذلك فهذا النحو ممّا لا إشكال فيه على جميع المباني المتصوّرة في حقيقة الحكم الظاهري وفي ما هو المجعول في الاستصحاب.

الثانية : أن يكون الكلّي معلوما إجمالا ويشكّ في بقائه على كلا تقديريه ، كما إذا علم بوجود زيد أو خالد في المسجد ، ويشكّ في بقائه - سواء كان زيدا أو خالدا - فيجري استصحاب الجامع إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا عليه.

الحالة الثانية : أن يكون الكلّي معلوما إجمالا ضمن أحد فردين ، ثمّ يشكّ في بقائه لا من أجل الشكّ في حدوث الفرد ، بل من أجل الشكّ في بقاء الفرد ، كما إذا

ص: 349

علم بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا يعلم بدخول كلّي الإنسان ثمّ يشكّ في بقائه لأجل الشكّ في بقاء الفرد حيث لا يعلم بخروجه ، بل هو مشكوك البقاء والخروج ، فالشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في بقاء الفرد على كلا التقديرين ، أي أنّه سواء كان زيد هو الداخل فهو مشكوك الخروج أم كان الداخل هو عمرو فهو مشكوك الخروج أيضا.

وهنا يجري استصحاب الكلّي إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا عليه لتماميّة أركانه فيه.

ولا إشكال في ذلك بناء على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الوجود السعي له على طريقة الرجل الهمداني ، وبناء على المختار من إرجاعه إلى استصحاب الواقع بمقدار مرآتيّة العنوان الإجمالي.

وأمّا بناء على إرجاعه إلى استصحاب الحصّة فقد يستشكل بأنّه لا يقين بحدوث أيّ واحدة من الحصّتين ، فكيف يجري استصحابها؟

اللّهم إلا أن تلغى ركنيّة اليقين وتستبدل بركنيّة الحدوث.

واستصحاب الكلّي في هذه الحالة يجري بلا إشكال على مبنى الرجل الهمداني وعلى المبنى المختار.

أمّا على مبنى الرجل الهمداني فيجري استصحاب الكلّي ؛ لأنّه موجود بوجود منحاز عن الأفراد ، فهو موجود مستقلّ عن الأفراد.

وأمّا على المبنى المختار فلأنّ الكلّي عبارة عن العنوان الإجمالي للواقع ، فيمكن أن يشار إلى الواقع الإجمالي بهذا العنوان ، وحيث إنّه معلوم حدوثا على إجماله ويشكّ في بقائه كذلك ، فيجري استصحابه ؛ لأنّه لا يشترط العلم بالخصوصيّات والمشخّصات الفرديّة.

وأمّا على مبنى المحقّق العراقي فقد يستشكل في جريان استصحاب الكلّي بمعنى الحصّة ؛ وذلك لأنّ هذه الحصّة لا يعلم بحدوثها ضمن زيد ولا يعلم بحدوثها ضمن عمرو ، والمفروض أنّ الحصّة من الكلّي الموجودة في زيد مغايرة للحصّة من الكلّي الموجودة ضمن عمرو ، فلا يقين بحدوث الحصّة فكيف يجري استصحابها؟

ص: 350

ولكن يجاب عن ذلك : أنّه إذا أنكرنا ركنيّة اليقين بالحدوث وقلنا بكفاية الحدوث ، فهنا الحصّة موجودة وحادثة على كلّ حال ، أي سواء كانت ضمن زيد أم ضمن عمرو ، ويشكّ في بقائها فتستصحب.

وكذا لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي متعلّق بالواقع لا بالجامع ، فإنّه يعلم بدخول واقع الفرد والحصّة في المسجد ويشكّ في بقائها فتستصحب.

ويسمّى هذا القسم في كلماتهم بكلتا حالتيه بالقسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

وهذا القسم بكلا نحويه يسمّى عندهم بالقسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الكلّي يجري على كلّ المسالك والمباني المتصوّرة في حقيقة الحكم الظاهري وفي حقيقة المجعول في الاستصحاب.

وكذا يجري استصحاب الفرد أمّا في النحو الأوّل فواضح ؛ لأنّه معلوم تفصيلا حدوثا ومشكوك بقاء.

وأمّا في النحو الثاني فيجري استصحاب الفرد الواقعي بأن يشار إلى الفرد الحادث واقعا فيقال : يعلم بحدوث الفرد الواقعي ويشكّ في بقائه فيستصحب ، هذا إذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع.

وإذا قلنا : إنّ العلم الإجمالي متعلّق بالجامع فيجري استصحاب الفرد بناء على إلغاء ركنيّة اليقين بالحدوث والاكتفاء بالحدوث ، فإنّه حينئذ يعلم بحدوث الفرد ويشكّ في بقائه فيستصحب ، وأمّا إذا احتفظنا بركنيّة اليقين فيشكل جريان استصحاب الفرد بمعنى المشخّصات كما هو مبنى المحقّق العراقي ، ولكنّه يجري بناء على أنّ الفرد هو الحصّة على مبنى المشهور كما هو الصحيح في معنى الفرد.

وأمّا القسم الثاني فله حالتان أيضا :

الأولى : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبّب للشكّ في بقاء الكلّي مقرونا بالعلم الإجمالي ، كما في المثال المتقدّم لهذا القسم ، فإنّ الشكّ في الحدث الأكبر مقرون بالعلم الإجمالي بأحد الحدثين.

والصحيح : جريان الاستصحاب في هذه الحالة إذا كان للجامع أثر شرعي ، ويسمّى في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي.

ص: 351

أمّا القسم الثاني من الشكّ في بقاء الكلّي - وهو الشكّ الناشئ من حدوث الفرد - فهذا له حالتان :

الحالة الأولى : أن يعلم إجمالا بحدوث أحد الفردين ، وأحدهما طويل من حيث البقاء والآخر قصير ، فلو كان الكلّي حادثا بحدوث الفرد القصير فهو مرتفع للعلم بارتفاع الفرد القصير ، وإن كان حادثا ضمن الفرد الطويل فهو لا يزال باقيا ، فيشكّ في بقاء الكلّي نتيجة الشكّ في حدوث الفرد إجمالا.

مثاله : ما إذا علم بالحدث المردّد بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، ثمّ يتوضّأ ، فإنّه إذا كان كلّي الحدث متحقّقا ضمن الحدث الأصغر فقد ارتفع بسبب الوضوء الرافع للحدث الأصغر ، وإذا كان كلّي الحدث متحقّقا ضمن الحدث الأكبر فهو لا يزال باقيا ؛ لأنّه لا يرتفع بالوضوء.

ومثّلوا له بالعلم بدخول حيوان إلى الغرفة ذي خرطوم المردّد بين البقّ والفيل ، وبعد ثلاثة أيّام يشكّ في بقاء كلّي الحيوان في الغرفة ؛ لأنّه لو كان حادثا في البقّ فهو لا يعيش أكثر من ثلاثة أيّام ، وأمّا لو كان حادثا في الفيل فهو لا يزال باقيا ، فيشكّ في بقاء الكلّي وهذا الشكّ مسبّب عن حدوث الفرد إذ لا يعلم أي الفردين هو الحادث.

وهذا القسم اصطلحوا عليه في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي.

والكلام هنا في جريان استصحاب الكلّي حيث إنّ استصحاب الفرد لا يجري لعدم اليقين بالحدوث.

والصحيح هو جريان استصحاب الكلّي وفاقا للمشهور ، حيث يعلم بحدوث الكلّي ويشكّ في بقائه فيستصحب.

وقد يعترض على جريان هذا الاستصحاب بوجوه :

منها : أنّه لا يقين بالحدوث ، وهو اعتراض مبنيّ على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة ، وحيث لا علم بالحصّة حدوثا فلا يجري الاستصحاب لعدم اليقين بالحدوث ، بل لعدم الشكّ في البقاء إذ لا شكّ في الحصّة بقاء ، بل إحدى الحصّتين معلومة الانتفاء ، والأخرى معلومة البقاء.

الاعتراض الأوّل : أنّ الاستصحاب لا يجري لاختلال ركنه الأوّل وهو اليقين بالحدوث ؛ وذلك لأنّ الكلّي إن كان بمعنى الحصّة فهذا معناه أنّ الكلّي في هذه

ص: 352

الحصّة غير الكلّي في تلك الحصّة ، وعليه فالحصّة ضمن الفرد القصير غير معلومة الحدوث ، والحصّة ضمن الفرد الطويل غير معلومة الحدوث أيضا ، فلا يجري استصحاب الحصّة في أيّ منهما ؛ لعدم اليقين بحدوثها ؛ لأنّ الحدوث مردّد بين هذه أو تلك.

بل يمكن أن يقال : إنّ الركن الثاني مختلّ أيضا ؛ لأنّ الحصة لا شكّ في بقائها ، بل هي إمّا معلومة الارتفاع أو معلومة البقاء ، وحيث لا شكّ فلا يجري الاستصحاب.

والوجه في ذلك : هو أنّ الحصّة ضمن الفرد القصير معلومة الارتفاع ؛ لأنّ المفروض أنّه توضّأ فارتفع الحدث الأصغر ، والحصّة ضمن الفرد الطويل لا تزال باقية ؛ لأنّ الحدث الأكبر لا يرتفع بالوضوء.

وقد تقدّم أنّ استصحاب الكلّي ليس بمعنى استصحاب الحصّة ، بل هو استصحاب للواقع بمقدار ما يرى بالعنوان الإجمالي للجامع ، وهذا معلوم بالعلم الإجمالي حدوثا.

والجواب : أنّ هذا الاعتراض إنّما يرد على تفسير الكلّي بالحصّة كما هي مقالة المحقّق العراقي.

وأمّا على التفسير الصحيح للكلّي من كونه العنوان الإجمالي الذي يحكي عن الواقع ، فلا يرد هذا الاعتراض ؛ وذلك لأنّ الواقع الذي يريه هذا العنوان ويحكي عنه معلوم حدوثا ؛ لأنّه يحكي عن الفرد الخارجي حكاية إجماليّة مطابقة للجامع دون الخصوصيّات والمشخّصات ، وهذا الواقع الخارجي بهذا المقدار - أي بمقدار الجامع - معلوم حدوثا ومشكوك بقاء فيستصحب.

وبتعبير آخر : أنّ ما نراه كصورة ذهنيّة حاكية عن الخارج ليس هو إلا العنوان الإجمالي ، ككون ما في الخارج حيوانا ذا خرطوم ، أو لكون ما في الخارج حدثا ، وهذا المقدار هو الجامع والكلّي وهو معلوم حدوثا ومشكوك بقاء فيستصحب.

وأمّا الفرد بمشخّصاته أو الحصّة ضمن أحد الفردين ، فهذا لا علم بحدوثه تفصيلا فلا يجري استصحابه.

ومنها : أنّه لا شكّ في البقاء ؛ لأنّ الشكّ ينبغي أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، ولمّا كان اليقين هنا علما إجماليّا ، والعلم الإجمالي يتعلّق بالمردّد ، فلا بدّ أن

ص: 353

يتعلّق الشكّ بالواقع على ترديده أيضا ، وهذا إنّما يتواجد فيما إذا كان الواقع مشكوك البقاء على كلّ تقدير ، مع أنّه ليس كذلك ؛ لأنّ الفرد القصير من الجامع لا شكّ في بقائه.

الاعتراض الثاني : أنّ الاستصحاب لا يجري لاختلال الركن الثاني ، وهو الشكّ في البقاء ؛ وذلك لأنّه يشترط في الاستصحاب أن يكون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، واليقين هنا متعلّق بالفرد المردّد حيث يعلم إجمالا بحدوث أحد الفردين ، والعلم الإجمالي معناه العلم بالواقع على ترديده ، فاللازم أيضا أن يكون الشكّ في البقاء متعلّقا بالواقع المردّد أيضا ، والشكّ في الواقع المردّد معناه الشكّ في البقاء على كلا التقديرين ، أي سواء كان الحادث هذا الفرد فيشكّ في بقائه أم كان ذاك فيشكّ في بقائه ، إلا أنّه في مقامنا لا يكون الشكّ مردّدا ؛ لأنّه على تقدير حدوث الفرد القصير فيعلم بالارتفاع ، وعلى تقدير حدوث الفرد الطويل فيعلم بالبقاء ، فيكون الشكّ في البقاء مسبّبا عن الشكّ في حدوث أحد الفردين فقط وهو الفرد الطويل دون الفرد القصير.

وبذلك لا يكون الشكّ في البقاء متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين بالحدوث.

والجواب : أنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع المردّد ، بل بالجامع وهو مشكوك ، إذ يكفي في الشكّ في بقاء الجامع التردّد في كيفيّة حدوثه.

والجواب : أنّ هذا الاعتراض مبني على كون العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع كما هي مقالة المحقّق العراقي.

والصحيح : أنّ العلم الإجمالي متعلّق بالجامع ، وعليه فالجامع معلوم الحدوث إجمالا ضمن أحد فرديه ، ويشكّ في بقائه لأجل الشكّ في أيّ الفردين هو الحادث فيستصحب ؛ لأنّه يكفي لتحقّق الركن الثاني كون الشكّ في البقاء متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين بالحدوث ، وهذا المقدار من الحدوث أي حدوث الجامع معلوم ، ويشكّ في بقائه فيستصحب.

ولا يشترط في الشكّ في البقاء أكثر من ذلك.

وبتعبير آخر : أنّ الشكّ في البقاء يشترط فيه أن يكون شكّا في بقاء ما تعلّق به اليقين ، واليقين هنا متعلّق بحدوث الجامع فقط من دون تعيين لحدوثه ضمن هذا الفرد

ص: 354

أو ذاك ، ولذلك يكفي أن يشكّ في بقاء الجامع بسبب الشكّ في كيفيّة حدوث الجامع ، وأنّه هل هو حادث ضمن هذا أو ذاك؟ ولا يشترط أن يشكّ في البقاء ضمن أحد الفردين بخصوصه ؛ لأنّ هذا المقدار ممّا لا يقين بحدوثه.

ومنها : أنّ الوجود القصير للكلّي لا يحتمل بقاؤه ، والوجود الطويل له لا يحتمل ارتفاعه ، وليس هناك في مقابلهما إلا المفهوم الذهني الذي لا معنى لاستصحابه.

الاعتراض الثالث : أنّ الاستصحاب للكلّي لا يجري ؛ وذلك لأنه إن أريد استصحاب الكلّي ضمن الفرد القصير ، فهذا الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّه يقطع بارتفاع الفرد القصير وبالتالي يقطع بارتفاع الكلّي ، فلا شكّ في البقاء.

وإن أريد استصحاب الكلّي ضمن الفرد الطويل ، فهذا الفرد يعلم ببقائه فلا يجري الاستصحاب فيه ؛ إذ لا شكّ في البقاء أيضا.

وإن أريد استصحاب الكلّي ضمن أحد الفردين ، فهذا العنوان بواقعه لا وجود له ، إذ لا وجود في الخارج لأحد الفردين كما هو مردّد ، وإنّما الموجود في الخارج هذا الفرد أو ذاك ، ومفهوم هذا العنوان وهو الصورة الذهنيّة لأحد الفردين ليس مصبّا للاستصحاب ؛ لما تقدّم من أنّ الاستصحاب لا يجري في المفهوم الذهني بما هو أمر ذهني من دون أن يكون حاكيا ومرآة عن الخارج.

والحاصل : أنّ استصحاب الكلّي هنا ليس له معنى محصّل ؛ لأنّ استصحابه ضمن هذه الحصّة القصيرة لا يجري للعلم بارتفاعه فيها ، واستصحابه ضمن الحصّة الطويلة لا يجري للعلم ببقائه فيها على تقدير حدوثها ، واستصحابه ضمن الصورة الذهنيّة لا يجري ؛ لأنّها بواقعها لا تحكي عن شيء وبمفهومها ليست محطّا للاستصحاب.

والجواب : أنّ الشكّ واليقين إنّما يعرضان [ على ] الواقع الخارجي بتوسّط العناوين الحاكية عنه ، فلا محذور في أن يكون الواقع بتوسّط العنوان التفصيلي مقطوع البقاء أو الانتفاء ، وبتوسّط العنوان الإجمالي مشكوك البقاء ، ومصبّ التعبّد الاستصحابي دائما العنوان بما هو حاك عن الواقع تبعا لأخذه موضوعا للأثر الشرعي بما هو كذلك.

نعم إذا أرجعنا استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة أمكن المنع عن

ص: 355

جريانه في المقام ؛ لأنّه يكون من استصحاب الفرد المردّد نظرا إلى أنّ إحدى الحصّتين مقطوعة الانتفاء فعلا.

والجواب : أنّ هذا الاعتراض إنّما يتمّ لو كان المراد من الكلّي الحصّة كما هي مقالة المحقّق العراقي ، فإنّه على هذا المبنى حيث لا يوجد لنا علم بحدوث الفرد القصير بخصوصه ولا بحدوث الفرد الطويل كذلك ، فلا يعلم بحدوث الحصّة لا ضمن هذا بخصوصه ولا ضمن ذاك كذلك ، فلا يجري استصحاب الكلّي عندئذ.

وأمّا جريان الاستصحاب بلحاظ الحصّة المعلومة إجمالا ضمن أحد الفردين فهو من استصحاب الفرد المردّد ؛ لأنّ إحدى الحصّتين يعلم بارتفاعها على تقدير حدوثها ، والأخرى يعلم ببقائها على تقدير حدوثها ، فإن كان المقصود من استصحاب الحصّة واقع الحصّة المردّدة فهذه لا وجود لها في الخارج ؛ لأنّ الحصّة في الخارج معيّنة ، وإن كان المقصود منها مفهوم الحصّة المردّدة فقد تقدّم أنّ الاستصحاب لا يجري في المفاهيم الذهنيّة بما هي كذلك ، بل بما هي حاكية عن الخارج.

إلا أنّ الصحيح كما تقدّم أنّ الكلّي معناه العنوان الإجمالي الذي يحكي عن الواقع بهذا المقدار ، وعليه فاليقين والشكّ إنّما يتعلّقان ويعرضان على الواقع الخارجي بتوسّط عنوان ومفهوم ذهنيّ حاك عن الخارج ، ولا يعرضان على الخارج مباشرة وابتداء ؛ لأنّ ما في الذهن لا يعرض على الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ واليقين اذا لوحظ فيهما العنوان التفصيلي فلا مجال لإجراء الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ اليقين على تقدير تعلّقه بالعنوان التفصيلي الحاكي عن الحصّة القصيرة فهو معلوم الارتفاع فلا شكّ في البقاء ، وإن لوحظ تعلّقه بالعنوان التفصيلي الحاكي عن الحصّة الطويلة فهو معلوم البقاء فلا شكّ أيضا.

إلا أنّه لا مانع من أن يتعلّقا بالعنوان الإجمالي الذي هو الكلّي والجامع كما تقدّم سابقا ، وهنا اليقين بلحاظ العنوان الإجمالي معلوم الحدوث ، إذ يعلم بالحدث على إجماله أو بالحيوان ذي الخرطوم على إجماله ، والشكّ في البقاء متعلّق بهذا العنوان الإجمالي أيضا ؛ لأنّه على تقدير كون الحادث هو الفرد القصير فهو مرتفع وعلى

ص: 356

تقدير كون الحادث هو الفرد الطويل فهو باق ، وبذلك يصدق عنوان الشكّ في البقاء بلحاظ الجامع ، فيجري الاستصحاب فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الجامع لا الفرد.

وبهذا يظهر أنّ العنوان الإجمالي الذي هو مجرى الاستصحاب معلوم الحدوث على إجماله ومشكوك البقاء كذلك فيجري استصحابه.

ومنها : أنّ استصحاب الكلّي يحكم عليه استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل الأمد ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث هذا الفرد.

الاعتراض الرابع : أنّ استصحاب الكلّي لو سلّم جريانه ، فمع ذلك لا يمكن الأخذ به لكونه معارضا بما هو حاكم عليه.

وتوضيحه : أنّ استصحاب الكلّي مسبّب عن الشكّ في كون الفرد الحادث هو الفرد الطويل ، إذ لو كان الفرد الحادث هو الفرد القصير فهو مقطوع الارتفاع فلا يجري الاستصحاب من ناحيته ، فالشكّ في بقاء الكلّي إذن مسبّب عن الشكّ في الفرد الحادث وكونه الطويل لا القصير.

إلا أنّ هذا الاستصحاب معارض ومحكوم لاستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل ؛ لأنّه مشكوك الحدوث فيستصحب عدم حدوثه الثابت ولو في الأزل ، وهذا الاستصحاب ينقّح لنا موضوع استصحاب الكلّي ؛ لأنّ الفرد القصير مرتفع وجدانا للعلم بانتهاء أمده ، والفرد الطويل مرتفع تعبّدا بهذا الاستصحاب ، وعليه فلا يجري استصحاب الكلّي إذ لا موضوع له - وهو الشكّ في البقاء - حيث يعلم بانتفاء الفردين معا ، والكلّي لا يوجد في الخارج مستقلاّ عن الأفراد.

وبتعبير آخر : أنّ استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل ينقّح موضوع استصحاب الكلّي وينفيه ؛ لأنّ الشكّ الذي هو مورد استصحاب الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل فهو أصل مسبّبي ، بينما الشكّ في استصحاب عدم الفرد الطويل ليس مسبّبا عن ذاك الشكّ ، بل هو يعالج ذاك الشكّ فهو أصل سببي ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي ، إمّا للحكومة كما هي مقالة الميرزا أو للقرينيّة كما سيأتي في محلّه.

ص: 357

والجواب : أنّ التلازم بين حدوث الفرد الطويل الأمد وبقاء الكلّي عقلي وليس شرعيّا ، فلا يثبت باستصحاب عدم الأوّل نفي بقاء الثاني.

والجواب : أنّ الأصل السببي إنّما يكون مقدّما على الأصل المسبّبي فيما إذا كانت السببيّة والملازمة بينهما شرعيّة لا عقليّة ، وإلا فيكون من الأصل المثبت ، وهو ليس حجّة في نفسه فضلا عن تقدّمه على غيره.

ففي مثال الثوب المتنجّس المغسول بالماء المستصحب الطهارة يكون استصحاب طهارة الماء أصلا سببيّا مقدّما على استصحاب بقاء نجاسة الثوب ؛ لأنّ طهارة الماء سبب ولازم شرعي لطهارة المغسول به.

وأمّا هنا فبقاء الكلّي أو انتفاؤه ليس مسبّبا شرعيّا عن حدوث الفرد الطويل أو عدم حدوثه ، وإنّما الملازمة بينهما إثباتا أو انتفاء عقليّة ؛ لأنّ إثبات الكلّي بقاء فرع إثبات كون الفرد الطويل هو الحادث لا القصير ، وإثبات انتفائه فرع إثبات كون الفرد الطويل ليس هو الحادث بل القصير ، وهذا الإثبات إن كان وجدانيّا فالملازمة تثبت للعلم الوجداني بها ، وأمّا إن كان تعبّديّا كما في مقامنا فلا تثبت ؛ لأنّها تكون من اللوازم العقليّة للمستصحب ، والذي هو من الأصل المثبت.

وعليه فاستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل لا يمكنه إثبات انتفاء الجامع ؛ لأنّ هذا الانتفاء مستند إلى الملازمة العقليّة لا الشرعيّة ، ومع كون الملازمة عقليّة فلا يكون الأصل السببي مقدّما على الأصل المسبّبي ؛ لأنّ سببيّته لا تثبت في نفسها. ولذلك لا يكون استصحاب عدم الفرد الطويل معارضا لاستصحاب بقاء الكلّي.

ومنها : أنّ استصحاب الكلّي معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل إلى ظرف الشكّ في بقاء الكلّي ؛ لأنّ عدم الكلّي عبارة عن عدم كلا فرديه ، والفرد القصير الأمد معلوم الانتفاء فعلا بالوجدان والفرد الطويل الأمد محرز الانتفاء فعلا باستصحاب عدمه ، فهذا الاستصحاب بضمّه إلى الوجدان المذكور حجّة على عدم الكلّي فعلا ، فيعارض الحجّة على بقائه المتمثّلة في استصحاب الكلّي.

الاعتراض الخامس : أنّ استصحاب بقاء الكلّي معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل من جهة الأثر الشرعي المفروض ترتّبه على الكلّي ؛ وذلك لأنّ استصحاب الكلّي نريد به إثبات بقاء الكلّي في ظرف ارتفاع الفرد القصير من أجل إثبات الأثر

ص: 358

الشرعي المترتّب على الكلّي ، والمفروض أنّ الكلّي إنّما يثبت بقاؤه بإثبات بقاء أحد فرديه ؛ لأنّ الكلّي لا يوجد ولا يبقى إلا ضمن الفرد ، ولكن انتفاء الكلّي لا يكون إلا بانتفاء كلا فرديه في الخارج.

وعليه فإثبات بقاء الكلّي غير ممكن لعدم العلم بحدوث الفرد الطويل ، وأمّا إثبات انتفائه فهو ممكن ؛ لأنّ كلا فرديه منتفيان.

أمّا الفرد القصير فهو منتف وجدانا لانتهاء أمده.

وأمّا الفرد الطويل فهو منتف تعبّدا بالاستصحاب أي باستصحاب عدم الفرد الطويل ، فإذا ضممنا الوجدان إلى التعبّد كانت النتيجة أنّه لا وجود للأفراد في الخارج ، ومع عدم وجودها لا يمكن بقاء الكلّي ؛ لأنّ وجوده في نفسه مستقلاّ عن الأفراد مستحيل.

وبذلك يكون استصحاب عدم الفرد الطويل محقّقا لموضوع عدم الكلّي بعد ضمّه إلى الوجدان ، فيكون معارضا لاستصحاب بقاء الكلّي ؛ لأنّ الأوّل ينفي وجود الكلّي وبالتالي ينفي موضوع الأثر الشرعي ، بينما الثاني يثبت موضوع الأثر الشرعي ، ومع التعارض يحكم بالتساقط.

وبتعبير آخر : إنّ انتفاء الكلّي يتحقّق بانتفاء كلا فرديه ، وهنا الفرد القصير منتف بالوجدان والفرد الطويل منتف بالتعبّد الاستصحابي ، فإذا ضممنا الوجدان إلى التعبّد تنقّح عدم الكلّي ، وبذلك يرتفع موضوع الأثر الشرعي المترتّب على الكلّي ، وبالتالي يكون استصحاب الكلّي معارضا بهذا الاستصحاب ؛ لأنّ هذا يثبت موضوع الأثر وذاك ينفيه ومع التعارض يحكم بالتساقط.

والتحقيق : أنّه تارة يكون وجود الكلّي بما هو وجود له كافيا في ترتّب الأثر على نحو لو فرض - ولو محالا - وجود الكلّي لا في ضمن حصّة خاصّة لترتّب عليه الأثر.

وأخرى لا يكون الأثر مترتّبا على وجود الكلّي إلا بما هو وجود لهذه الحصّة ولتلك الحصّة على نحو تكون كلّ حصّة موضوعا للأثر الشرعي بعنوانها.

والتحقيق في الجواب : أنّ استصحاب الكلّي واستصحاب عدم الفرد الطويل لا معارضة بينهما ؛ وذلك لعدم وحدة الموضوع فيهما ، فإنّ مورد جريان أحدهما

ص: 359

يختلف عن مورد جريان الآخر ، فإذا جرى استصحاب الكلّي لم يجر استصحاب عدم الفرد الطويل من جهة عدم تحقّق موضوعه ، وكذا العكس ، ولا حكومة بينهما أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّ الأثر الشرعي المترتّب على الكلّي يمكن تصوّره بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الكلّي بما هو في نفسه ، أي على نحو صرف الوجود ، سواء كان موجودا في الفرد والحصّة أم لم يكن موجودا فيهما ، وإن كان وجوده لا في ضمن الفرد أو الحصّة محالا ، إلا أنّ الغرض هو بيان أنّ الأثر تابع للكلّي بصرف وجوده وليس مترتّبا على الكلّي الموجود في الفرد أو الحصّة بهذا القيد.

الثاني : أن يكون الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الكلّي بما هو في الحصّة والفرد أي على نحو مطلق الوجود ، فكلّ فرد أو حصّة من الكلّي تكون موضوعا للأثر الشرعي تبعا لوجود الكلّي فيها أي تبعا لمطلق وجوده فيها.

والفرق بين النحوين أنّ الأثر الشرعي على الأوّل واحد ؛ لأنّه مترتّب على الكلّي بنحو صرف وجوده ، وصرف الوجود لا يتعدّد ولا يتكثّر ، وبالتالي لا يتعدّد الحكم والأثر ؛ لعدم تعدّد معروضه ، بينما على الثاني يكون الأثر الشرعي متعدّدا ومتكثّرا ؛ لأنّه تابع لمطلق وجود الكلّي فكلّ وجود للكلّي له أثر ، وهذا يعني أنّ كلّ فرد وحصّة له أثر شرعي لوجود الكلّي فيه ، فيتعدّد الحكم والأثر لتعدّد المعروض.

وعلى هذا نقول :

فعلى الأوّل يجري استصحاب الكلّي لإثبات موضوع الأثر ، ولا يمكن نفي صرف الوجود للكلّي باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضمّه إلى الوجدان ؛ لأنّ انتفاء صرف الوجود للكلّي بانتفاء هذه الحصّة وتلك عقلي وليس شرعيّا.

وعلى الثاني لا يجري استصحاب الكلّي في نفسه ؛ لأنّه لا ينقّح موضوع الأثر ، بل بالإمكان نفي هذا الموضوع باستصحاب عدم الفرد الطويل الأمد مع ضمّه إلى الوجدان القاضي بعدم الفرد الآخر ؛ لأنّ الأثر أثر للحصص فينفى بإحراز عدمها ولو بالتلفيق من التعبّد والوجدان.

أمّا النحو الأوّل : وهو ما إذا كان الأثر مترتّبا على الكلّي بنحو صرف الوجود ،

ص: 360

فهنا يجري استصحاب الكلّي لإثبات موضوع الأثر وهو صرف الوجود ؛ لتماميّة أركان الاستصحاب فيه من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء والأثر الشرعي.

ولا يجري استصحاب عدم الفرد الطويل في نفسه ؛ لأنّ الأثر الشرعي ليس مترتّبا على هذه الحصّة بالخصوص ليكون استصحاب عدمها منقّحا لعدم موضوع الأثر ، بل الأثر مترتّب على صرف الوجود وهو غير هذه الحصّة أو تلك.

ولا يمكن أيضا نفي موضوع الأثر بضمّ استصحاب عدم الفرد الطويل إلى عدم الفرد القصير الثابت بالوجدان ؛ لأنّ انتفاء صرف الوجود بانتفاء كلا الفردين لازم عقلي وليس لازما شرعيّا ، فيكون انتفاؤه من الأصل المثبت وهو ليس حجّة.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان الأثر مترتّبا على الكلّي بنحو مطلق الوجود ، فهنا لا يجري استصحاب الكلّي لعدم تماميّة أركانه ؛ وذلك لأنّ موضوع الأثر الشرعي هو الكلّي الموجود في هذه الحصّة أو تلك ، لا الكلّي بنحو صرف الوجود ، وهذا يعني أنّ الحصّة هي موضوع الأثر ، والمفروض أنّ الحصّة ضمن الفرد القصير يعلم بارتفاعها وجدانا ، والحصّة ضمن الفرد الطويل يعلم بارتفاعها تعبّدا بالتعبّد الاستصحابي.

ولذلك يكون استصحاب عدم الفرد الطويل منقّحا لنفي موضوع الأثر بعد ضمّ الوجدان إليه ؛ لأنّه إذا لفّقنا بينهما سوف ينتفي وجود الكلّي بنحو مطلق الوجود في هذه الحصّة وتلك ، وبالتالي ينتفي الأثر الشرعي لانتفاء موضوعه.

وأمّا استصحاب الكلّي بنحو صرف الوجود فهو لا ينقّح موضوع الأثر ، إذ لا يثبت الكلّي لا ضمن هذه الحصّة ولا ضمن تلك.

وبهذا يظهر : أنّنا إذا لاحظنا الكلّي بنحو صرف الوجود جرى استصحاب الكلّي وترتّب عليه الأثر ، وإذا لاحظناه بنحو مطلق الوجود جرى استصحاب عدم الفرد الطويل لنفي موضوع الأثر بعد ضمّ الوجدان إليه.

وبذلك يتّضح أنّه لا وجه للمعارضة أو لحكومة أحد الاستصحابين على الآخر ؛ لأنّهما لن يجتمعا معا في مورد واحد.

وأمّا الحالة الثانية من القسم الثاني فهي : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبّب للشكّ في بقاء الكلّي شكّا بدويّا.

ص: 361

ومثاله : أن يعلم بوجود الكلّي ضمن فرد ويعلم بارتفاعه تفصيلا ، ويشكّ في انحفاظ وجود الكلّي في ضمن فرد آخر يحتمل حدوثه حين ارتفاع الفرد الأوّل أو قبل ذلك ، ويسمّى هذا في كلماتهم بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي ، وقد يتخيّل جريانه على أساس تواجد أركانه في العنوان الكلّي ، وإن لم تكن متواجدة في كلّ من الفردين بالخصوص.

الحالة الثانية : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي مسبّبا عن الشكّ في حدوث الفرد ، ولكنّ الشكّ في حدوث الفرد ليس شكّا مقرونا بالعلم الإجمالي ، بل شكّ بدوي بالحدوث.

مثاله : أن يعلم بدخول زيد إلى المسجد فيعلم بدخول كلّي الإنسان ، ثمّ يعلم بخروج زيد من المسجد ، ولكن يشكّ في ارتفاع كلّي الإنسان وبقائه من أجل الشكّ في أنّ عمرا هل دخل المسجد أيضا مع زيد أو قبله أو لم يدخل المسجد أصلا؟ فيشكّ في بقاء الكلّي ضمن فرد آخر غير الفرد الذي علم حدوثه ضمنه.

وهذا الشكّ في البقاء مسبّب عن الشكّ البدوي في الفرد ؛ إذ لا علم تفصيلا ولا إجمالا بدخول عمرو أيضا إلى المسجد.

وهذا القسم يسمّى في كلمات الأصوليّين بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وقد يقال : إنّ استصحاب الكلّي في هذا القسم يجري لتماميّة أركانه بلحاظ الكلّي ، إذ هو معلوم الحدوث ومشكوك البقاء فيستصحب ، نعم بلحاظ الفرد لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه بلحاظ الفرد الأوّل لا شكّ في البقاء للعلم بارتفاعه ، وبلحاظ الفرد الثاني لا يقين بالحدوث إذ هو مشكوك الحدوث ابتداء.

وهذا القول إنّما يتصوّر بناء على كون الكلّي له وجود مستقلّ عن الأفراد كما هي مقالة الرجل الهمداني ، ولذلك عبّر السيّد الشهيد عنه بالتخيّل.

ولكن يندفع هذا التخيّل بأنّ العنوان الكلّي وإن كان هو مصبّ الاستصحاب ولكن بما هو مرآة للواقع ، فلا بدّ أن يكون متيقّن الحدوث مشكوك البقاء بما هو فان في واقعه ومرآة للوجود الخارجي.

ومن الواضح أنّه بما هو كذلك ليس جامعا للأركان ، إذ ليس هناك واقع خارجي يمكن أن نشير إليه بهذا العنوان الكلّي ونقول بأنّه متيقّن الحدوث مشكوك

ص: 362

البقاء لنستصحبه بتوسّط العنوان الحاكي عنه وبمقدار حكايته ، خلافا للحالة السابقة التي كانت تشتمل على واقع من هذا القبيل.

والصحيح : عدم جريان الاستصحاب حتّى على ما اخترناه في حقيقة الكلّي من كونه العنوان الحاكي عن الواقع ، فضلا عن كون الكلّي هو الحصّة.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا قلنا : إنّ الكلّي عبارة عن الحصّة فالحصّة التي يعلم بحدوث الكلّي فيها يعلم بارتفاعها ، والحصّة التي يشكّ في بقاء الكلّي فيها مشكوكة الحدوث ، فلم تتمّ أركان الاستصحاب لا في هذه الحصّة ولا في تلك.

وأمّا على ما ذكرناه من كون الكلّي هو العنوان الحاكي إجمالا عن الواقع ، فالاستصحاب إنّما يجري فيه بقدر حكاية هذا العنوان عن الواقع ، إذ من الواضح أنّ الاستصحاب لا يجري بلحاظ العنوان بما هو أمر ذهني كما تقدّم سابقا.

وعليه فالعنوان الكلّي يحكي حدوثا عن الفرد الذي علم تفصيلا بارتفاعه ، وهذا يعني أنّ حكايته بلحاظ الحدوث لا شكّ في بقائها ؛ لأنّه يعلم بارتفاعها ، وأمّا حكايته عن الفرد المشكوك حدوثه فهي غير معلومة الحدوث ؛ لأنّ هذا الفرد لا يقين بحدوثه.

ولذلك فلا يصدق على المقام أنّه يوجد حكاية معلومة الحدوث ومشكوكة البقاء ليجري استصحابها.

وبتعبير آخر : إنّ العنوان الكلّي الذي يكون مجرى للاستصحاب هو العنوان الحاكي عن الخارج ، فلا بدّ أن تكون الحكاية متيقّنة الحدوث ومشكوكة البقاء لكي تستصحب ، وهنا الحكاية بمقدار الحدوث وإن كانت معلومة إلا أنّها معلومة الارتفاع أيضا ؛ لأنّ الفرد الذي علم بحدوثه علم بارتفاعه أيضا ، فلم يبق إلا الفرد الآخر والحكاية عنه مشكوكة الحدوث ابتداء ، فلم يصدق أنّه يوجد عنوان متيقّن الحدوث مشكوك البقاء.

وهذا خلافا للحالة السابقة فإنّه كان يصدق لدينا وجود عنوان متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء ، إذ لا علم بارتفاع الفرد الذي كان حادثا تفصيلا ؛ لأنّه لا يعلم أيّ الفردين هو الحادث ، ولذلك يعلم بأصل الحدوث إجمالا ضمن أحد الفردين ، ويشكّ في ارتفاعه عند ارتفاع أحد الفردين وبقاء الآخر ، فيستصحب لتماميّة أركان الاستصحاب بلحاظ العنوان الكلّي دون الفرد ، كما تقدّم.

* * *

ص: 363

ص: 364

الاستصحاب في الموضوعات المركّبة
اشارة

ص: 365

ص: 366

4 - الاستصحاب في الموضوعات المركّبة

إذا كان الموضوع للحكم الشرعي بسيطا وتمّت فيه أركان الاستصحاب جرى استصحابه بلا إشكال. وأمّا إذا كان الموضوع مركّبا من عناصر متعدّدة ، فتارة نفترض أنّ هذه العناصر لوحظت بنحو التقيّد أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعا للحكم كعنوان ( المجموع ) أو ( اقتران هذا بذاك ) ، ونحو ذلك.

وأخرى نفترض أنّ هذه العناصر بذواتها أخذت موضوعا للحكم الشرعي بدون أن يدخل في الموضوع أيّ عنوان من ذلك القبيل.

تارة يكون الموضوع بسيطا أي ليس أمرا مركّبا من أجزاء كالعدالة مثلا ، وأخرى يكون الموضوع مركّبا من أجزاء كطهارة الماء ونجاسته والصلاة ، ونحو ذلك.

فإن كان الموضوع بسيطا جرى الاستصحاب لتماميّة أركانه ، فعدالة زيد إن كانت متيقّنة الثبوت وشكّ في بقائها جرى استصحابها ، وإن كانت متيقّنة الارتفاع وشكّ في حدوثها جرى استصحاب عدمها. وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أصوليّا.

وإن كان الموضوع مركّبا من أجزاء وعناصر متعدّدة ومتغايرة كطهارة الماء ونجاسته ، فإنّ موضوع الحكم بالنجاسة مركّب من جزءين الماء والملاقاة ، وكذا الحكم بالانفعال للماء القليل فإنّه مركّب من الملاقاة والرطوبة ، وهكذا.

فهنا توجد حالتان :

الأولى : أن تكون هذه العناصر والأجزاء لوحظت بنحو التقيّد والاتّصاف ، أي تقيّد هذا الجزء بذاك ، أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعا للحكم كعنوان اقتران هذا بذاك ، أو عنوان مجموع الجزءين أو الأجزاء ، والتي هي نسبة منتزعة من ضمّ هذا الجزء إلى ذاك أو انضمامه إليه.

كأن يقال مثلا : إنّ ملاقاة الماء للرطب النجس توجب الانفعال.

ص: 367

الثانية : أن تكون هذه العناصر والأجزاء لوحظت بذواتها أي بما هي في نفسها من دون ملاحظة اتّصافها بالجزء الآخر أو اقترانها به ، وإنّما كان وجود هذا الجزء بذاته ووجود ذاك الجزء الآخر بذاته في زمان واحد تمام الموضوع للحكم الشرعي ، كأن يقال : إن وجد ماء قليل وكانت الملاقاة مع النجس متحقّقة أيضا في نفس الزمان فيحكم بالانفعال.

والحاصل : أنّ تركّب الموضوع على نحوين :

1 - أن تلحظ الأجزاء بما هي مقترنة ومتّصفة ومقيّدة بعضها بالبعض الآخر.

2 - أن تلحظ الأجزاء بما هي في نفسها من دون ملاحظة اتّصافها واقترانها بالأجزاء الأخرى.

ففي الحالة الأولى لا مجال لإجراء الاستصحاب في ذوات الأجزاء ؛ لأنّه إن أريد به إثبات الحكم مباشرة فهو متعذّر ؛ لترتّبه على العنوان البسيط المتحصّل ، وإن أريد به إثبات الحكم بإثبات ذلك العنوان المتحصّل فهو غير ممكن ؛ لأنّ عنوان الاجتماع والاقتران ونحوه لازم عقلي لثبوت ذوات الأجزاء فلا يثبت باستصحابها.

فالاستصحاب في هذه الحالة يجري في نفس العنوان البسيط المتحصّل ، فمتى شكّ في حصوله جرى استصحاب عدمه حتّى ولو كان أحد الجزءين محرزا وجدانا ، والآخر معلوم الثبوت سابقا ومشكوك البقاء فعلا.

أمّا في الحالة الأولى : وهي حالة أخذ الاقتران أو التقيّد أو الاتّصاف بين الجزءين أو الأجزاء موضوعا للحكم - فهنا لا يجري استصحاب ذات الجزء ، والوجه في ذلك هو : أنّه إن أريد باستصحاب ذات الجزء إثبات الحكم الشرعي ابتداء ومباشرة من دون إثبات ذلك العنوان البسيط المنتزع والمتحصّل من مجموع الأجزاء والذي هو عنوان الاتصاف أو الاقتران أو التقيّد ، فهذا غير ممكن بحسب الفرض ؛ إذ المفروض أنّ الحكم مترتّب على العنوان البسيط المنتزع والمتحصّل لا على ذوات الأجزاء ، فاستصحاب الجزء بذاته لا يجري ؛ لأنّه لا يترتّب عليه أثر تنجيزي أو تعذيري.

وإن أريد بذلك إثبات ذاك العنوان البسيط المتحصّل الذي هو موضوع الحكم فهذا معقول في نفسه ، إلا أنّ ترتّب ذلك العنوان على استصحاب ذات الجزء لازم عقلي

ص: 368

وليس لازما شرعيّا ، فيكون ثبوته على أساس الملازمة العقليّة من الأصل المثبت ، حيث إنّ انضمام هذا الجزء إلى ذاك ينتزع منه عقلا عنوان الاقتران والاتّصاف والتقيّد.

نعم ، يمكن جريان الاستصحاب بلحاظ نفس العنوان المتحصّل ، أي عنوان الاتّصاف والتقيّد بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الاتّصاف والتقيّد ثابتا سابقا وشكّ في بقائه وارتفاعه فيستصحب بقاؤه.

الثاني : ألاّ يكون هذا العنوان ثابتا في السابق وشكّ في حصوله فيستصحب عدمه.

وبذلك ظهر أنّه لو كان أحد الجزءين ثابتا بالوجدان فلا يكفي ثبوت الجزء الآخر بالتعبّد الاستصحابي حتّى لو كانت أركانه فيه تامّة من اليقين بالحدوث سابقا والشكّ في البقاء لاحقا ؛ وذلك لأنّ الحكم ليس مترتّبا على نفس عنوان الجزءين بذاتيهما ، وإنّما مترتّب على عنوان الاتّصاف والاقتران والتقيّد المنتزع من ضمّ هذا إلى ذاك ، وهذا العنوان لازم عقلي لثبوت ذات الجزءين.

فمثلا إذا كان لدينا ماء قليل وشكّ في الملاقاة للنجس جرى استصحاب عدمها ، وكذا لو كان لدينا شيء ملاق للنجس وشكّ في كون الملاقاة مع الرطوبة جرى استصحاب عدمها ، وبالتالي لا يحكم بالانفعال والتنجّس ، وإنّما يحكم بالطهارة على أساس قاعدة الطهارة أو على أساس استصحاب الطهارة إن كانت متيقّنة سابقا.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في الجزء ثبوتا أو عدما إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها.

وأمّا في الحالة الثانية : وهي حالة ما إذا كان الحكم مترتّبا على نفس عنوان الأجزاء - أي ذات الأجزاء - فهنا يجري الاستصحاب بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون أحد الجزءين معلوما وجدانا والجزء الآخر مشكوك ، ويفترض أنّ حالته السابقة هي عدم الثبوت ، فهنا يجري استصحاب عدم حصوله ، وبالتالي ينتفي الحكم لانتفاء موضوعه.

الثاني : أن يكون أحد الجزءين معلوما وجدانا والجزء الآخر مشكوك ، ولكن حالته السابقة هي الثبوت والشكّ في بقائه ، فهنا يجري استصحاب بقائه ، وبالتالي يثبت

ص: 369

الحكم لثبوت موضوعه المركّب من جزءين ، حيث إنّ أحدهما ثابت بالوجدان والآخر ثابت بالتعبّد ، فبضمّ الوجدان إلى التعبّد يثبت الموضوع ويترتّب عليه حكمه ، حيث إنّ الحكم مترتّب على ذات الجزءين لا على ذاك العنوان المتحصّل منهما كعنوان الاتّصاف أو التقيّد أو الاقتران.

ومن هنا يعلم بأنّ الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع المركّب وعناصره بشرط ترتّب الحكم على ذوات الأجزاء أوّلا ، وتوفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ثانيا.

وبهذا يعلم أنّ جريان الاستصحاب في الأجزاء بالنسبة للموضوع المركّب أو بالنسبة للعناصر التي تركّب منها الموضوع موقوف على تحقّق أمرين :

1 - أن يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء لا على العنوان المنتزع منها.

2 - أن يكون لهذا الجزء حالة سابقة متيقّنة ويشكّ في بقائها.

فإذا تحقّق هذان الأمران جرى الاستصحاب ، وتنقّح بذلك الموضوع للحكم نفيا أو إثباتا ، وإذا اختلّ أحدهما لم يجر الاستصحاب.

هذا على نحو الإجمال ، وأمّا تحقيق المسألة على وجه كامل فالبحث في ثلاث نقاط :

إحداهما : في أصل هذه الكبرى القائلة بجريان الاستصحاب في أجزاء الموضوع ضمن الشرطين.

والنقطة الثانية : في تحقيق صغرى الشرط الأوّل ، وأنّه متى يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء؟

والنقطة الثالثة : في تحقيق صغرى الشرط الثاني ، وأنّه متى يكون الشكّ في البقاء محفوظا؟

وتحقيق الحال بالنسبة للحالة الثانية يقع ضمن ثلاث نقاط :

النقطة الأولى : في أصل الكبرى القائلة بأنّ الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع ضمن الشرطين السابقين ، أي :

1 - أن يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء.

2 - أن يكون للجزء المشكوك حالة سابقة متيقّنة ويشكّ في بقائها.

ص: 370

والبحث هنا في أصل إثبات هذه الكبرى في مقابل إنكارها ، حيث توجد شبهة تعترض هذه الكبرى لا بدّ من حلّها أوّلا.

النقطة الثانية : في تحقيق حال صغرى الشرط الأوّل أي كون الموضوع هو ذوات الأجزاء ، فالبحث هنا يقع في إعطاء الضابطة الكلّيّة التي على أساسها نميّز كون الموضوع هو ذوات الأجزاء ، وهذا البحث صغروي.

النقطة الثالثة : في تحقيق حال صغرى الشرط الثاني - أي تماميّة أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء - حيث يقع البحث هنا حول انحفاظ الشكّ في البقاء وعدمه ، وهذا بحث صغروي أيضا.

أمّا النقطة الأولى : فالمعروف بين المحقّقين أنّه متى كان الموضوع مركّبا وافترضنا أنّ أحد جزأيه محرز

بالوجدان أو بتعبّد ما ، فبالإمكان إجراء الاستصحاب في الجزء الآخر ؛ لأنّه ينتهي إلى أثر عملي وهو تنجيز الحكم المترتّب على الموضوع المركّب.

أمّا النقطة الأولى : فالمعروف بين الأصوليّين جريان الاستصحاب هنا ، أي فيما إذا كان الموضوع مركّبا وكان الحكم منصبّا على ذوات الأجزاء ، فإذا افترضنا أنّ أحد جزأي الموضوع ثابت ومحرز إمّا وجدانا وإمّا بتعبّد ما جرى الاستصحاب في الجزء الآخر ؛ لتماميّة أركانه فيه من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، والانتهاء إلى أثر عملي وهو تنجيز الحكم الشرعي في المقام ، حيث إنّ المفروض أنّ الحكم مترتّب على الموضوع المركّب من ذوات الأجزاء.

فمثلا إذا أحرز كون الماء قليلا إمّا وجدانا بأن علمنا بذلك ، وإمّا تعبّدا بأن أخبر الثقة بذلك ، وشككنا في حصول الجزء الآخر كالملاقاة وكانت متيقّنة سابقا جرى استصحابها ، ويترتّب على ذلك تنجّز الحكم بالانفعال والنجاسة.

وقد يواجه ذلك باعتراض وهو : أنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل الحكم المماثل للمستصحب ، والمستصحب هنا - وهو الجزء - ليس له حكم ليجعل في دليل الاستصحاب مماثله ، وما له حكم - وهو المركّب - ليس مصبّا للاستصحاب.

ويشكل على استصحاب الجزء - بناء على أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل للمستصحب - بأنّ المستصحب - وهو الجزء - لا يترتّب عليه حكم

ص: 371

لكي يجعل حكم مماثل له بدليل الاستصحاب ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم مترتّب على الموضوع المركّب من الجزءين لا على خصوص هذا الجزء أو ذاك ، وهذا يعني أنّ المستصحب ليس فيه أثر عملي فلا يجري استصحابه.

وما يترتّب عليه الحكم - وهو الموضوع المركّب - لم يجر استصحابه بحسب الفرض ؛ لأنّه غير متيقّن سابقا.

والحاصل : أنّ ما جرى استصحابه ليس له أثر عملي ، وما له أثر عملي لم يجر استصحابه.

وهذا الاعتراض يقوم على الأساس القائل بجعل الحكم المماثل للمستصحب في دليل الاستصحاب ، ولا موضع له على الأساس القائل بأنّه يكفي في تنجيز الحكم وصول كبراه ( الجعل ) وصغراه ( الموضوع ) كما عرفت سابقا ، إذ على هذا لا نحتاج في جعل استصحاب الجزء ذا أثر عمليّ إلى التعبّد بالحكم المماثل ، بل مجرّد وصول أحد الجزءين تعبّدا مع وصول الجزء الآخر بالوجدان كاف في تنجيز الحكم الواصلة كبراه ؛ لأنّ إحراز الموضوع بنفسه منجّز لا بما هو طريق إلى إثبات فعليّة الحكم المترتّب عليه ، وبهذا نجيب على الاعتراض المذكور.

والجواب : أنّ هذا الإشكال نشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل ، فإنّه على هذا المبنى لا بدّ أن يكون للمستصحب أثر عملي يترتّب عليه لكي يعقل جعل الحكم المماثل له بدليل الاستصحاب ، وحيث إنّ الجزء وحده لا يترتّب عليه أثر فالتعبّد الاستصحابي به غير ممكن ؛ إذ لا يمكن جعل حكم مماثل للحكم المجعول على هذا الجزء ؛ لأنّ المفروض أنّه لا يترتّب على هذا الجزء أيّ حكم ، وإنّما الحكم مترتّب على الموضوع المركّب من الجزءين.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ، بل الصحيح ما تقدّم من أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو التعبّد ببقاء اليقين بأحد المعاني الثلاثة المتقدّمة ، وعليه فيكفي الانتهاء إلى الأثر العملي التنجيزي أو التعذيري على المستصحب.

مضافا إلى أنّ التنجيز يكفي فيه وصول الكبرى والصغرى ، أي الجعل والموضوع.

وفي مقامنا الكبرى واصلة أي ( الجعل ) حيث نعلم بأنّ الماء القليل إذا لاقى النجاسة فإنّه ينفعل بملاقاتها ، يبقى وصول الصغرى أي ( الموضوع ) وهنا أحد جزأي

ص: 372

الموضوع واصل إمّا وجدانا وإمّا تعبّدا ككون الماء قليلا إمّا بالعلم وإمّا بالأمارة ، والجزء الآخر ثابت ومحرز بالاستصحاب ، وبذلك يتحقّق وصول الموضوع ، والمفروض أنّ الجعل واصل فتتحقّق المنجّزيّة.

ولا نحتاج إلى أن يكون المستصحب ذا أثر عمليّ لكي يجعل حكم مماثل له.

وبهذا يظهر : أنّ وصول الموضوع كاف لحصول المنجّزيّة ، ولكن وصول الموضوع كذلك إنّما يثبت المنجّزيّة لأنّ الكبرى واصلة أيضا ، لا أنّ الموضوع نفسه هو الذي يثبت المنجّزيّة والفعليّة للحكم ، وإلا لكان الاستصحاب بالنسبة للجزء الآخر من الأصل المثبت ؛ لأنّ الفعليّة لا تترتّب على هذا الجزء بخصوصه ، بل بعد ضمّ الجزء الآخر إليه يحكم العقل بالفعليّة ، كما هو مسلك المحقّق النائيني.

وأمّا إذا أخذنا بفكرة جعل الحكم المماثل في دليل الاستصحاب فقد يصعب التخلّص الفنّي من الاعتراض المذكور ، وهناك ثلاثة أجوبة على هذا الأساس :

وأمّا إذا أخذنا بمسلك جعل الحكم المماثل ، فيشترط أن يكون المستصحب ذا أثر عمليّ يترتّب عليه لكي يؤدّي التعبّد الاستصحابي به إلى جعل حكم مماثل للحكم المترتّب عليه ، وبذلك يكون الاعتراض واردا على هذا المسلك ، ويصعب التخلص منه فنّيّا.

وما ذكر جوابا على ذلك غير تامّ ، ونذكر هنا ثلاثة أجوبة على أساس هذا المسلك هي :

الجواب الأوّل : أن الحكم بعد وجود أحد جزأي موضوعه وجدانا لا يكون موقوفا شرعا إلا على الجزء الآخر ، فيكون حكما له ، ويثبت باستصحاب هذا الجزء ما يماثل حكمه ظاهرا.

ونلاحظ على ذلك : أنّ مجرّد تحقّق أحد الجزءين وجدانا لا يخرجه عن الموضوعيّة وإناطة الحكم به شرعا ؛ لأنّ وجود الشرط للحكم لا يعني بطلان الشرطيّة ، فلا ينقلب الحكم إلى كونه حكما للجزء الآخر خاصّة.

الجواب الأوّل : أنّ الحكم الشرعي وإن كان مترتّبا على ذات الجزءين لا على أحدهما بالخصوص ، إلا أنّه بعد أن كان أحد الجزءين ثابتا ومحرزا بالوجدان أو بالتعبّد صار الحكم الشرعي موقوفا على حصول الجزء الآخر ، فيكون الحكم حكما للجزء

ص: 373

الآخر ، وعليه فباستصحاب الجزء الآخر يثبت الحكم المماثل لهذا الحكم الموقوف على هذا الجزء ، فكان الاستصحاب ممّا يمكن جعل الحكم المماثل على المستصحب.

وفيه : أنّ هذا مبني على أنّ الحكم المشروط ينقلب إلى الحكم المطلق بعد تحقّق شرطه ، وهذا باطل كما تقدّم بيانه في بحث الحكم المشروط ، وعليه فمجرّد ثبوت أحد الجزءين بالوجدان لا يعني أنّ هذا الجزء خرج عن كونه جزءا من موضوع الحكم الشرعي ، وبالتالي فالحكم الشرعي لا يزال مترتّبا على ذات الجزءين لا على الجزء الآخر فقط ، فاستصحاب الجزء الآخر ممّا لا يترتّب عليه حكم شرعي فكيف يجعل الحكم المماثل له بالاستصحاب؟!

الجواب الثاني : أنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب ينحل تبعا لأجزاء موضوعه ، فينال كلّ جزء مرتبة وحصّة من وجود الحكم ، واستصحاب الجزء يقتضي جعل الحكم المماثل لتلك المرتبة التي ينالها ذلك الجزء بالتحليل.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا التقسيط تبعا لأجزاء الموضوع غير معقول ؛ لوضوح أنّ الحكم ليس له إلا وجود واحد لا يتحقّق إلا عند تواجد تلك الأجزاء جميعا.

الجواب الثاني : أنّ الحكم وإن كان مترتّبا على الموضوع المركّب ، إلا أنّه ينحلّ تبعا لأجزاء الموضوع ، فكلّ جزء من الموضوع يناله حصّة ومرتبة من الحكم ، وعليه فالجزء الآخر الذي يراد إجراء استصحابه - بناء على جعل الحكم المماثل - يثبت باستصحابه مرتبة من الحكم مماثلة لتلك المرتبة التي حصل عليها عند انحلال الحكم.

وفيه : أنّه وقع خلط بين انحلال الحكم بلحاظ الموضوع وبلحاظ المتعلّق ، فالحكم ينحلّ إلى أحكام متعدّدة بلحاظ المتعلّق أي أنّه كلّما تحقّق المتعلّق كان له حكم خاصّ به ، ففي قولنا : ( أكرم العالم ) يتعدّد وجوب الإكرام بتعدّد وجود العالم في الخارج ، وكذا في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) تتعدّد الحرمة بتعدّد الشرب.

وأمّا بلحاظ الموضوع فلا يتعدّد الحكم ؛ لأنّ الحكم واحد وهو بحسب الفرض مترتّب على ذات الجزءين لا على أحدهما بالخصوص ، وهذا يعني أنّه إذا وجدت الأجزاء جميعا ثبت الحكم وإن لم تثبت لم يكن للحكم وجود أصلا ، لا أنّه يوجد بعض الحصص والمراتب من الحكم ، وإلا لصار الحكم مترتّبا على كلّ جزء جزء بخصوصه وهو خلف المفروض.

ص: 374

الجواب الثالث : أنّ كلّ جزء موضوع لحكم مشروط ، وهو الحكم بالوجوب مثلا على تقدير تحقّق الجزء الآخر ، فاستصحاب الجزء يتكفّل جعل الحكم المماثل لهذا الحكم المشروط.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا الحكم المشروط ليس مجعولا من قبل الشارع ، وإنّما هو منتزع عن جعل الحكم على الموضوع المركّب ، فيواجه نفس الاعتراض الذي واجهه الاستصحاب في الأحكام المعلّقة.

الجواب الثالث : أنّ الحكم وإن كان مترتّبا على الموضوع المركّب ، إلا أنّه ينحلّ إلى الحكم المشروط بتعدّد الأجزاء ، فيقال : إنّ الملاقاة توجب النجاسة بشرط كون الماء قليلا ، والماء القليل يحكم بانفعاله بشرط تحقّق الملاقاة للنجس ، وهكذا. فكلّ جزء من أجزاء الموضوع يثبت له حكم مشروط.

وعليه ، فاستصحاب الجزء الآخر يترتّب عليه حكم مماثل لهذا الحكم المشروط فيجري استصحابه.

وفيه : أوّلا : أنّ الحكم المشروط هنا ليس مجعولا من الشارع ، بل هو أمر منتزع من جعل الحكم على موضوعه المركّب ، وهذا يعني أنّه لم يثبت الحكم المشروط لكلّ جزء من الأجزاء شرعا.

وثانيا : لو سلّمنا بالحكم المشروط لكلّ جزء من الأجزاء إلا أنّ ترتّب الحكم الفعلي على استصحاب الجزء يبتلي بنفس الإشكال المتقدّم في الاستصحاب التعليقي - بناء على كون الفعليّة والمنجّزيّة تابعة لتحقّق الموضوع في الخارج - حيث إنّه باستصحاب الجزء يثبت الحكم المشروط فقط ، وهذا وحده لا يكفي للمنجّزيّة والفعليّة ، وإنّما تثبت المنجّزيّة والفعليّة بعد ضمّ الجزء الآخر إليه فينتزع من المجموع تحقّق الموضوع والفعليّة ، وهذا لازم عقلي فيكون من الأصل المثبت.

وبهذا يظهر أنّ هذا الإشكال لا يمكن الجواب عنه إلا بإنكار مسلك جعل الحكم المماثل.

وأمّا النقطة الثانية : فقد ذكر المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) : أنّ الموضوع تارة يكون مركّبا من العرض ومحلّه كالإنسان العادل ، وأخرى مركّبا من عدم العرض

ص: 375


1- فوائد الأصول 4 : 504 - 505.

ومحلّه كعدم القرشيّة والمرأة ، وثالثة مركّبا على نحو آخر كالعرضين لمحلّ واحد مثل الاجتهاد والعدالة في المفتي ، أو العرضين لمحلّين كموت الأب وإسلام الابن.

وأمّا النقطة الثانية - وهي إعطاء الضابط الكلّي لكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء لا على العنوان الانتزاعي المتحصّل منها - فقد ذكر المحقّق النائيني أنّ النسبة بين الأجزاء لا تخلو من أحد أمور ثلاثة هي :

أوّلا : أن تكون النسبة بين الجزءين نسبة العرض إلى محلّه ، كالإنسان العالم أو العادل ، كما إذا قيل : أكرم الإنسان العالم أو العادل ، فهنا الحكم منصبّ على الموضوع المركّب من الجزءين ، والنسبة بينهما نسبة العرض إلى محلّه ؛ لأنّ الإنسان محلّ لعروض العلم والعدالة.

ثانيا : أن تكون النسبة بين الجزءين نسبة عدم العرض إلى محلّه ، كالمرأة وعدم القرشيّة بالنسبة للحيض ورؤية الدم بعد الخمسين ، فالحكم بعدم كون ما يخرج من الدم بعد الخمسين حيضا موضوعه المرأة وعدم القرشيّة ، وهنا المرأة محلّ لعروض عدم القرشيّة.

ثالثا : أن تكون النسبة بين الجزءين أو الأجزاء نسبة العرضين لمحلّ واحد ، أو نسبة العرضين لمحلّين مختلفين.

أمّا الأوّل فمثاله اشتراط العدالة والاجتهاد في المفتي ، فإنّ العدالة والاجتهاد عرضان على المفتي.

أمّا الثاني فمثاله اشتراط موت الأب وإسلام الابن للحكم بإرث الولد من أبيه ، فهنا الموت عرض على الأب والإسلام عرض على الابن ، فهما عرضان لمحلّين مختلفين ، وهكذا بالنسبة للبلوغ ووقت الصلاة على المكلّف ، فإنّ البلوغ عرض للمكلّف ووقت الصلاة كزوال الشمس عرض على الزمان ، فهنا ثلاث حالات من التركيب بين الأجزاء.

ففي الحالة الأولى : يكون التقيّد مأخوذا ؛ لأنّ العرض يلحظ بما هو وصف لمحلّه ومعروضه وحالة قائمة به ، فالاستصحاب يجري في نفس التقيّد إذا كان له حالة سابقة.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كانت النسبة بين الأجزاء نسبة العرض إلى محلّه

ص: 376

كالعدالة والإنسان ، فهنا يكون الموضوع المركّب مأخوذا بنحو التقيّد والاتّصاف.

والوجه في ذلك : أنّ العرض يلحظ في معروضه بما هو حالة قائمة به ووصف يحلّ فيه ، فلا يرى ذات العرض وذات المعروض ، وإنّما يرى التقيّد والاتّصاف المنتزع منهما وهو الإنسان العادل لا الإنسان بذاته ولا العدالة بذاتها ، بل الحصّة الخاصّة من الإنسان والعدالة ، فلا الإنسان بأيّ وصف كان ولا العدالة في أيّ محلّ كانت.

ومن هنا لا يجري الاستصحاب بلحاظ ذات الجزء ؛ لأنّه ليس هو موضوع الحكم ، إذ الموضوع هو ذاك العنوان المنتزع والمتحصّل ، وهذا لا يثبت باستصحاب ذات الجزء إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

نعم ، إذا كان التقيّد له حالة سابقة متيقّنة ثمّ شكّ في بقائها وارتفاعها جرى استصحابها ، كما إذا كانت عدالة زيد متيقّنة وشكّ في بقائها فيجري استصحاب اتّصاف زيد بالعدالة ويترتّب عليها الحكم ؛ لأنّ المستصحب هو اتّصاف زيد بالعدالة وتقيّده بها لا العدالة ذاتها ولا زيد ذاته.

وفي الحالة الثانية : يكون تقيّد المحلّ بعدم العرض مأخوذا في الموضوع ؛ لأنّ عدم العرض إذا أخذ مع موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف له ، وهو ما يسمّى بالعدم النعتي تمييزا له عن العدم المحمولي الذي يلاحظ فيه العدم بما هو ، ويترتّب على ذلك أنّ الاستصحاب إنّما يجري في نفس التقيّد والعدم النعتي ؛ لأنّه الدخيل في موضوع الحكم ، فإذا لم يكن العدم النعتي واجدا لركني اليقين والشكّ ، وكان الركنان متوفّرين في العدم المحمولي لم يجر استصحابه ؛ لأنّ العدم المحمولي لا أثر شرعي له بحسب الفرض.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كانت النسبة بين الجزءين نسبة عدم العرض إلى محلّه ، كالمرأة مع عدم القرشيّة ، فهنا أيضا يكون الموضوع المركّب مأخوذا بنحو التقيّد والاتّصاف.

والوجه في ذلك هو : أنّ عدم العرض كعدم القرشيّة إذا أخذ قيدا في الموضوع الذي يحلّ فيه العرض وهو المرأة التي تعرض عليها القرشيّة ، فهذا معناه أنّ عدم العرض مأخوذ وصفا ونعتا للمحلّ ، فكما تلحظ المرأة مع العرض ويكون العرض وصفا لها كذلك عند ما تلحظ المرأة مع عدم العرض يكون العدم وصفا لها ، وهذا ما يسمّى بالعدم النعتي.

ص: 377

وهناك عدم آخر يسمّى بالعدم المحمولي ، والفرق بينهما هو : أنّ العدم النعتي يلحظ فيه العدم بما هو وصف للمحلّ ، ولذلك لا بدّ من افتراض الموضوع والمحلّ أوّلا ثمّ يعرض عليه العدم ، من باب القضيّة المعدولة المحمول ، فيقال : المرأة غير القرشيّة ، وهذا العدم لا يثبت إلا بعد فرض تحقّق الموضوع.

وأمّا العدم المحمولي فهو ملاحظة العدم بما هو في نفسه غير مأخوذ وصفا للمحلّ ، وبذلك يثبت هذا العدم سواء كان الموضوع متحقّقا أم لا ، فيقال : ليست المرأة قرشيّة بنحو القضيّة السالبة التي تصدق حتّى مع عدم وجود الموضوع ، ولذلك يكون مرادفا للعدم الأزلي الثابت منذ القدم.

ويترتّب على ذلك : أنّ الاستصحاب إنّما يجري في نفس التقيّد والاتّصاف بالعدم النعتي ؛ لأنّه هو الدخيل في موضوع الحكم ، ولا يجري في العدم المحمولي أو العدم الأزلي.

فإذا كانت أركان الاستصحاب متوفّرة بلحاظ العدم النعتي جرى الاستصحاب ويترتّب عليه الحكم لثبوت موضوعه.

كما إذا قيل : أكرم الإنسان غير الفاسق ، وكان زيد متّصفا بعدم الفسق سابقا وشكّ في بقائه وارتفاعه ، فهنا يستصحب اتّصافه بعدم الفسق والذي هو العدم النعتي ، ويترتّب عليه وجوب الإكرام.

وأمّا إذا لم تكن أركان الاستصحاب متوفّرة في العدم النعتي فلا يجري استصحاب اتّصافه بهذا العدم ، كما إذا لم يكن عدم الفسق متيقّنا سابقا بل كان مشكوكا ، فهنا لا يجري استصحاب العدم النعتي لعدم اليقين بحدوثه.

وأمّا العدم المحمولي فاستصحابه لا يجري سواء كانت أركان الاستصحاب فيه تامّة أم لا ، أمّا إذا لم تكن تامّة فواضح ، وأمّا إذا كانت تامّة فلأنّ المفروض أنّ الأثر الشرعي مترتّب على العدم النعتي لا العدم المحمولي فيختلّ الركن الرابع.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني (1) إلى عدم جريان استصحاب عدم العرض المتيقّن قبل وجود الموضوع ، ويسمى باستصحاب العدم الأزلي.

فإذا شكّ في نسب المرأة وقرشيّتها لم يجر استصحاب عدم قرشيّتها الثابت

ص: 378


1- فوائد الأصول 4 : 507.

قبل وجودها ؛ لأنّ هذا عدم محمولي وليس عدما نعتيّا ؛ إذ إنّ العدم النعتي وصف والوصف لا يثبت إلا عند ثبوت الموصوف ، فإذا أريد إجراء استصحاب العدم المحمولي لترتيب الحكم عليه مباشرة فهو متعذّر ؛ لأنّ الحكم مترتّب بحسب الفرض على العدم النعتي لا المحمولي ، وإذا أريد بذلك إثبات العدم النعتي - لأنّ استمرار العدم المحمولي بعد وجود المرأة ملازم للعدم النعتي - فهذا أصل مثبت.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني إلى عدم جريان استصحاب العدم النعتي ، وإلى عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان عدم العرض متيقّنا قبل وجود الموضوع.

ففي مثال المرأة وعدم القرشيّة بحيث كان عدم القرشيّة وصفا ونعتا للمرأة ، فالحكم مترتّب على الموضوع الموصوف بهذا العدم ، فإذا فرضنا عدم القرشيّة قبل وجود المرأة فهذا العدم لا يجري استصحابه لا بلحاظ العدم النعتي ولا بلحاظ العدم المحمولي.

أمّا عدم جريان الاستصحاب بلحاظ العدم النعتي فلأنّ المفروض أنّ العدم النعتي لا يثبت إلا بعد ثبوت الموضوع ووجوده ، فقبل وجود الموضوع لا يكون هذا العدم نعتيّا ، بل يكون أزليّا وهو مرادف للعدم المحمولي.

والوجه في ذلك : أنّ العدم النعتي وصف للموضوع والوصف لا يثبت إلا بعد ثبوت الموصوف لا قبله ، كما هو الحال بالنسبة للقضيّة المعدولة : ( المرأة غير القرشيّة ) ، فإنّ ثبوت ( غير القرشيّة ) يفترض مسبقا ثبوت المرأة ، وهي في الفرض غير ثابتة.

وأمّا عدم جريان الاستصحاب بلحاظ العدم الأزلي فلأنّ هذا العدم الأزلي يثبت لنا العدم المحمولي ، أي يثبت لنا تحقّق العدم في نفسه من دون ملاحظة الموضوع ، أي سواء كان الموضوع موجودا أم لا.

وحينئذ نتساءل عن الأثر المترتّب عليه ، وعمّا يراد بالعدم المحمولي الذي ثبت باستصحاب العدم الأزلي الثابت قبل ثبوت الموضوع؟ فإن أريد به إثبات الحكم الشرعي مباشرة وابتداء فهو خلف المفروض ؛ إذ المفروض أنّ الحكم مترتّب على العدم النعتي لا على العدم المحمولي فلا يجري استصحابه ؛ لأنّه لا أثر شرعي له.

وإن أريد باستصحاب العدم الأزلي وثبوت العدم المحمولي التوصّل بذلك إلى إثبات العدم النعتي ، على أساس أنّ العدم إذا كان ثابتا قبل ثبوت الموضوع فهو مستمرّ

ص: 379

أيضا حتّى بعد ثبوته تعبّدا ، فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ ثبوت العدم النعتي بعد تحقّق الموضوع بهذا الاستصحاب لازم عقلي ، إذ ما دام العدم ثابتا منذ الأزل فباستصحابه يثبت أيضا إلى ما بعد تحقّق الموضوع ؛ لأنّه عند تحقّق الموضوع لا يعلم بارتفاع هذا العدم فيبقى ، ولازم بقائه إلى حين تحقّق الموضوع كون الموضوع متّصفا به.

وهذه الملازمة عقليّة لما تقدّم من كون الملازمة بين مفاد كان التامّة وكان الناقصة عقليّة لا شرعيّة.

وأمّا في الحالة الثالثة : فلا موجب لافتراض أخذ التقيّد واتّصاف أحد جزأي الموضوع بالآخر ؛ لأنّ أحدهما ليس محلاّ وموضوعا للآخر ، بل بالإمكان أن يفرض ترتّب الحكم على ذات الجزءين ، وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجزء لتوفّر الشرط الأوّل.

وأمّا الحالة الثالثة : وهي ما إذا كانت النسبة بين الأجزاء أو الجزءين نسبة العرضين إلى المحلّ الواحد أو نسبة العرضين إلى المحلّين المختلفين ، فهنا كما يمكننا فرض أخذ التقيّد والاتّصاف في الموضوع المركّب من الأجزاء ، كذلك يمكننا فرض كون ذوات الأجزاء هي تمام الموضوع المركّب من دون أخذ الاتّصاف والتقيّد.

والوجه في ذلك : أنّ العرضين الملحوظين في محلّ واحد أو في محلّين ليس أحدهما محلاّ للآخر ، فالعدالة ليست محلاّ للاجتهاد ولا العكس ، وكذا الموت والإسلام ليس أحدهما محلاّ للآخر ، ولذلك لا موجب للتقيّد والاتّصاف بل هو أمر ممكن ، بأن كان أحد العرضين مأخوذا في طول اتّصاف المحلّ بالعرض الأوّل فيكون العرض الثاني وصفا وقيدا للمحلّ المتّصف والمقيّد بالعرض الأوّل ، ويمكن أن يكون الموضوع مركّبا من ذوات الأجزاء أيضا بأن كانت في عرض واحد جميعا حين عروضها على المحلّ ، فيكون المحلّ مركّبا من ذوات الأجزاء.

وبذلك يكون جريان الاستصحاب في الجزء وعدم جريانه متوقّفا على استظهار التقيّد والاتّصاف أو عدم استظهار ذلك.

فإن استظهر التقيّد والاتّصاف لم يجر استصحاب ذات الجزء ؛ لأنّه لا يثبت الاتّصاف والتقيّد إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

وإن استظهر التركيب من ذوات الأجزاء جرى استصحاب ذات الجزء إذا كانت

ص: 380

له حالة سابقة متيقّنة ثبوتيّة أو عدميّة ، لترتّب الحكم أو نفيه ؛ لأنّ المفروض حينئذ كون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء.

هذا موجز عمّا أفاده المحقّق النائيني رحمه اللّه نكتفي به على مستوى هذه الحلقة ، تاركين التفاصيل والمناقشات إلى مستوى أعلى من الدراسة.

هذا كلّه على طبق تصوّرات الميرزا النائيني ، وهناك مناقشات وتفاصيل لا داعي للتعرّض لها الآن.

وأمّا النقطة الثالثة فتوضيح الحال فيها : أنّ الجزء الذي يراد إجراء الاستصحاب فيه تارة يكون معلوم الثبوت سابقا ويشكّ في بقائه إلى حين إجراء الاستصحاب.

وأخرى يكون معلوم الثبوت سابقا ويعلم بارتفاعه فعلا ، ولكن يشكّ في بقائه في فترة سابقة هي فترة تواجد الجزء الآخر من الموضوع.

ومثاله : الحكم بانفعال الماء ، فإنّ موضوعه مركّب من ملاقاة النجس للماء وعدم كريّته ، فنفترض أنّ الماء كان مسبوقا بعدم الكرّيّة ويعلم الآن بتبدّل هذا العدم وصيرورته كرّا ، ولكن يحتمل بقاء عدم الكرّيّة في فترة سابقة ، هي فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء.

وأمّا النقطة الثالثة : وهي إعطاء الضابط الكلّي لمعرفة متى يكون الشكّ في البقاء محفوظا فيبحث حول تماميّة أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء وعدم تماميّتها.

وتوضيح الحال هنا أن يقال : إنّ الجزء الذي يراد إجراء الاستصحاب بلحاظه على نحوين :

فتارة يكون هذا الجزء معلوم الثبوت سابقا ومشكوك البقاء لاحقا أي إلى حين إجراء الاستصحاب.

مثاله : أن يعلم بكون الماء قليلا ثمّ يشكّ في بقائه على القلّة أو صيرورته كرّا ، والمفروض أنّ الحكم بانفعال الماء بالنجاسة يشترط فيه أن يكون الماء قليلا وإن تتحقّق الملاقاة للنجس ، وهنا نفترض تحقّق الملاقاة وجدانا أو تعبّدا أي بالعلم أو بالأمارة ، وأمّا الجزء الآخر فهو متيقّن سابقا ومشكوك لاحقا إلى حين إجراء الاستصحاب.

ص: 381

وأخرى يكون الجزء معلوم الثبوت سابقا ومعلوم الارتفاع فعلا ، ولكنّه مشكوك الارتفاع في فترة سابقة محدّدة هي الفترة التي تحقّق فيها الجزء الأوّل.

مثاله : انفعال الماء بالنجاسة الذي موضوعه الماء القليل والملاقاة للنجاسة ، فهنا يعلم بتحقق الملاقاة في فترة معيّنة ، ولكن يشكّ في كون الماء قليلا حين الملاقاة أي في تلك الفترة ، مع أنّه يعلم بثبوت القلّة سابقا ويعلم بارتفاعها فعلا.

فالحالة السابقة التي كانت متيقّنة - وهي كون الماء قليلا - يعلم بارتفاعها فعلا الآن ، ولكن يشكّ فيها في فترة محدّدة سابقة وهي فترة تحقّق الملاقاة ، فهل كانت الملاقاة متحقّقة عند ما كان الماء قليلا أو أنّها تحقّقت بعد تبدّلها وصيرورته كرّا؟

ولذلك يشكّ في الحكم ؛ لأنّه إن كانت الملاقاة متحقّقة عند كونه قليلا فيحكم بالانفعال ، وإن تحقّقت عند صيرورته كرّا فيحكم بالاعتصام.

ففي الحالة الأولى لا شكّ في توفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، فيجري الاستصحاب.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان الجزء متيقّنا سابقا ومشكوكا لاحقا إلى زمان إجراء الاستصحاب ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب لتوفّر أركانه من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، فيستصحب بقاء القلّة ويحكم بالانفعال.

وأمّا في الحالة الثانية فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الجزء بدعوى عدم توفّر الركن الثاني وهو الشكّ في البقاء ؛ لأنّه معلوم الارتفاع فعلا بحسب الفرض ، فكيف يجري استصحابه؟

وقد اتّجه المحقّقون في دفع هذا الاستشكال إلى التمييز بين الزمان في نفسه والزمان النسبي ، أي زمان الجزء الآخر ، فيقال : إنّ الجزء المراد استصحابه إذا لوحظ حاله في عمود الزمان المتّصل إلى الآن فهو غير محتمل البقاء للعلم بارتفاعه فعلا.

وإذا لوحظ حاله بالنسبة إلى زمان الجزء الآخر فقد يكون مشكوك البقاء إلى ذلك الزمان ، مثلا عدم الكرّيّة في المثال المذكور لا يحتمل بقاؤه إلى الآن ، ولكن يشكّ في بقائه إلى حين وقوع الملاقاة فيجري استصحابه إلى زمان وقوعها.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الجزء المراد استصحابه معلوم الثبوت سابقا

ص: 382

ومعلوم الارتفاع فعلا ، ولكنّه مشكوك البقاء في فترة وجود الجزء الآخر - فهنا قد يقال بعدم جريان الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه ، حيث إنّ الركن الثاني وهو الشكّ في البقاء غير محفوظ ؛ لأنّه يعلم بارتفاع الحالة السابقة الآن بالفعل ، فلا موجب لاستصحابها ، إذ كيف يجري استصحابها مع العلم بارتفاعها؟

وقد أجاب المحقّقون عن هذا الاستشكال بالتمييز بين نحوين من الزمان :

1 - الزمان المطلق ، وهو ملاحظة الزمان في نفسه على امتداده ، أي ملاحظة عمود الزمان.

2 - الزمان النسبي ، وهو ملاحظة الزمان بالنسبة للجزء الآخر ، أي أنّه في زمن تحقّق الجزء الآخر هل كان الجزء المعلوم ارتفاعه الآن متحقّقا أم لا؟

فإذا لوحظ الزمان في نفسه على امتداده فهو متّصل إلى الآن الفعلي ، وفي هذا الآن الفعلي لا يشكّ في بقاء الجزء ، بل يعلم بارتفاعه فلا يجري استصحابه.

وأمّا إذا لوحظ الزمان النسبي أي لوحظ الشكّ في زمن حصول ذاك الجزء ، فهذا غير معلوم الارتفاع ؛ لأنّه من المحتمل أن يكون الجزء الثاني متحقّقا عند تحقّق الجزء الأوّل ، فيكون الشكّ في البقاء محفوظا.

ففي مثال الملاقاة وعدم الكرّيّة ، فصحيح أنّ عدم الكرّيّة الذي كان معلوما قبل تحقّق الملاقاة قد ارتفع الآن ، إلا أنّ هذا معناه ملاحظة الزمان في نفسه وعلى امتداده ، وأمّا إذا لاحظنا زمان تحقّق الملاقاة ففي هذه الزمان يحتمل بقاء عدم الكرّيّة فيه ويحتمل ارتفاعها أيضا ، ولكن لا يعلم ببقائها أو ارتفاعها وبذلك يكون الشكّ في البقاء محفوظا فيجري الاستصحاب.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه - وهو عدم الكرّيّة في المثال - معلوما ، وكان زمان تواجد الجزء الآخر - وهو الملاقاة في المثال - معلوما أيضا ، فلا شكّ لكي يجري الاستصحاب.

ولهذا لا بدّ أن يفرض الجهل بكلا الزمانين ، أو بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصّة ، أو بزمان تواجد الجزء الآخر خاصّة ، فهذه ثلاث صور ، وقد اختلف المحقّقون في حكمها.

والتحقيق في هذه الحالة أن يقال : إنّ زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه وهو عدم

ص: 383

الكرّيّة في المثال المذكور إن كان معلوما ، وكان زمان الملاقاة أيضا معلوما ، فلا يوجد لدينا شكّ لكي يجري الاستصحاب بل نعمل بحسب علمنا على النحو التالي :

فتارة يفترض كون الملاقاة في الساعة الأولى وارتفاع الكرّيّة إمّا قبلها أو بعدها ، فإن كان ارتفاع عدم الكرّيّة في الثانية فهذا يعني أنّه في الساعة الأولى يحكم بالانفعال وفي الساعة الثانية يحكم بالاعتصام ، وتترتّب الآثار الشرعيّة عليهما.

وإن كان الارتفاع قبل تحقّق الملاقاة فيحكم بالاعتصام في كلّ الساعات ، وهذا واضح ؛ ولذلك لا بدّ من افتراض الجهل لكي يصدق عنوان الشكّ ، والجهل هنا يتصوّر على ثلاث صور :

الصورة الأولى : أن يفرض الجهل بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة ، والجهل بزمان الملاقاة أيضا.

الصورة الثانية : أن يفرض العلم بزمان الملاقاة كالساعة الواحدة مثلا ، ويجهل تاريخ ارتفاع عدم الكرّيّة فهل هو قبل الواحدة أو بعدها أو معها؟

الصورة الثالثة : أن يفرض العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة كالساعة الواحدة مثلا ، ولكن زمان الملاقاة مجهول هل هو قبل أو بعد أو مع زمان الارتفاع؟

فهذه ثلاث صور تفترض للشكّ في البقاء ، وأمّا حكمها فهو :

فذهب جماعة من المحقّقين منهم السيّد الأستاذ (1) إلى جريان الاستصحاب في الصور الثلاث ، وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة.

وذهب بعض المحقّقين إلى جريان الاستصحاب في صورتين ، وهما :

وذهب بعض المحقّقين (2) إلى جريان الاستصحاب في صورتين ، وهما :

صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، وعدم جريانه في صورة العلم بزمان الارتفاع.

وذهب صاحب ( الكفاية ) (3) إلى جريان الاستصحاب في صورة واحدة ، وهي صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان تواجد الجزء الآخر ، وأمّا في صورتي الجهل بكلا الزمانين أو العلم بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب.

ص: 384


1- مصباح الأصول 3 : 177.
2- منهم المحقّق النائيني في فوائد الأصول 4 : 508 - 510.
3- كفاية الأصول : 477 - 478.
فهذه أقوال ثلاثة :

وأمّا حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدم جريانه كلاّ أو بعضا فهو على أقوال ثلاثة ، هي :

القول الأوّل : ما ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه اللّه من جريان الاستصحاب في جميع الصور الثلاث وإذا كان لهذا الاستصحاب معارض سقط بالمعارضة.

ففي الصورة الأولى - أي الجهل بزمان الملاقاة والجهل بزمان الارتفاع - يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى حين ارتفاع عدم الكرّيّة ، ويجري استصحاب عدم ارتفاع عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة ، وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ استصحاب عدم الملاقاة يثبت أنّ الملاقاة حصلت بعد الكرّيّة لا قبلها ، واستصحاب عدم الارتفاع يثبت أنّ الارتفاع حصل بعد الملاقاة لا قبلها ، فالأوّل يترتّب عليه الحكم بالطهارة والثاني يترتّب عليه الحكم بالنجاسة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويرجع إلى أصالة الطهارة.

وفي الصورة الثانية - أي الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه مع العلم بزمان الملاقاة - يجري استصحاب عدم ارتفاع القلّة ، ويحكم بالنجاسة والانفعال حيث يتحقّق كلا الجزءين أي الملاقاة والقلّة.

وفي الصورة الثالثة - أي الجهل بزمان الملاقاة مع العلم بزمان الارتفاع - يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى حين العلم بالارتفاع ، ويحكم بالطهارة حيث تكون الملاقاة متحقّقة بعد ارتفاع القلّة وتحقّق الكرّيّة.

القول الثاني : ما ذهب إليه جملة ممّن علّق على ( الكفاية ) من جريان الاستصحاب في صورتين هما :

صورة الجهل بالزمانين وصورة الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، فيجري كلا الاستصحابين في الصورة الأولى ويحكم بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة الطهارة ، ويجري في الصورة الثانية استصحاب عدم الارتفاع إلى حين تحقّق الجزء المعلوم فيحكم بالانفعال لتوفّر كلا الجزءين.

وأمّا في صورة العلم بزمان الارتفاع والجهل بزمان الملاقاة فلا يجري الاستصحاب لكونه من الأصل المثبت ، أي أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الارتفاع لا يجري في نفسه ؛ لأنّه من الأصل المثبت.

ص: 385

القول الثالث : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من جريان الاستصحاب في صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة خاصّة ، فيستصحب القلّة أو عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة ويحكم بالانفعال لتوفّر كلا الجزءين.

وأمّا في صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان الملاقاة مع العلم بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب في نفسه ، لعدم اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ كما سيأتي لاحقا.

أمّا القول الأوّل : فقد علّله أصحابه بما أشرنا إليه آنفا ، من أنّ بقاء الجزء المراد استصحابه إلى زمان تواجد الجزء الآخر مشكوك ، حتّى لو لم يكن هناك شكّ في بقائه إذا لوحظت قطعات الزمان بما هي ، كما إذا كان زمان الارتفاع معلوما ، ويكفي في جريان الاستصحاب تحقّق الشكّ في البقاء بلحاظ الزمان النسبي ؛ لأنّ الأثر الشرعي مترتّب على وجوده في زمان وجود الجزء الآخر لا على وجوده في ساعة كذا بعنوانها.

أمّا القول الأوّل : وهو ما ذهب إليه السيّد الخوئي من جريان الاستصحاب في الجزء المراد استصحابه في جميع الصور.

فدليله ما تقدّم منّا سابقا ، حيث ذكرنا أنّه لا بدّ من ملاحظة الزمان النسبي لا الزمان في نفسه بما هو ، وعليه فالجزء المراد استصحابه وهو عدم الكرّيّة إذا لوحظ بالنسبة إلى الجزء الآخر أي الملاقاة فهو مشكوك البقاء في الصور الثلاث فيجري استصحابه.

أمّا في صورة الجهل بالزمانين فواضح ، حيث يصدق الشكّ في بقاء القلّة بلا إشكال.

وأمّا في صورة الجهل بتاريخ ارتفاع القلّة وتحقّق الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة ، فأيضا يصدق الشكّ في بقاء القلّة وعدم الكرّيّة بالنسبة إلى زمان تحقّق الملاقاة ، حيث إنّه في زمان تحقّق الملاقاة لا يعلم ببقاء القلّة أو ارتفاعها فيستصحب بقاؤها.

وأمّا في صورة العلم بتاريخ الارتفاع مع الجهل بتاريخ الملاقاة ، فهنا وإن كان الشكّ لا يصدق إذا لوحظ الزمان في نفسه أي إذا لوحظت القطعات الزمانيّة ، حيث إنّ هذا الشكّ يعلم بارتفاعه في تلك القطعات ، إلا أنّه بلحاظ زمان الملاقاة يصدق

ص: 386

عنوان الشكّ لأنّ زمان الملاقاة لمّا لم يكن معلوما فيحتمل تقدّمه أو تأخّره عن زمان الارتفاع ، ومع هذا الاحتمال يصدق عنوان الشكّ في بقاء القلّة وعدم الكرّيّة بالنسبة إلى زمان الملاقاة المجهول ، وهذا المقدار من الشكّ كاف لجريان الاستصحاب.

وبهذا يظهر أنّ استصحاب عدم الكرّيّة يجري في جميع الصور إلا أنّه في بعضها يكون معارضا كما في الصورة الأولى ؛ وذلك لأنّ الحكم الشرعي مترتّب على وجود هذا الجزء في زمان وجود الجزء الآخر ، أي لا بدّ من ملاحظة الزمان النسبي ، وليس الأثر الشرعي مترتّبا على وجود الجزء في نفس عمود الزمان بعنوانه الخاصّ.

ونلاحظ على هذا القول : إنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة في المثال إذا كان معلوما فلا يمكن أن يجري استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة ؛ لأنّ الحكم الشرعي إمّا أن يكون مترتّبا على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، أو على عدم الكرّيّة في واقع زمان الملاقاة ، بمعنى أنّ كلا الجزءين لوحظا في زمان واحد دون أو يقيّد أحدهما بزمان الآخر بعنوانه.

ويرد على هذا القول : إنّ الاستصحاب لا يجري في الصورة الثالثة وهي صورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة مع الجهل بزمان الملاقاة.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب عدم ارتفاع عدم الكرّيّة أي استصحاب بقاء القلّة ، لا يجري إلا إذا كان هناك أثر شرعي يترتّب عليه ، وهنا الحكم الشرعي وهو الانفعال المنصب على الموضوع المركّب من الجزءين أي القلّة والملاقاة ، يحتمل فيه وجهان :

الوجه الأوّل : إن يكون الحكم الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة الثابت في زمان الملاقاة بما هو كذلك ، أي بلحاظ الزمان المتّصف والمقيّد بأنّه زمان الملاقاة ، فيقال : ( إذا أحرز عدم الكرّيّة وأحرز كونها ثابتة في نفس الزمان الذي ثبتت فيه الملاقاة فيحكم بالانفعال ) ، وهذا معناه أنّ الحكم منصبّ على العنوان المنتزع والمتحصّل وهو كون هذا الجزء متّصفا ومقيّدا بذاك.

الوجه الثاني : أن يكون الحكم الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة الثابت في واقع زمان الملاقاة ، أي بلحاظ الزمان الواقعي للملاقاة يكون عدم الكرّيّة ثابتا من دون أن يتّصف أو يقيّد به ، بمعنى أنّه يكفي ثبوت الجزءين - عدم الكرّيّة والملاقاة - في

ص: 387

زمان واحد واقعا ، وإن لم يصدق بحسب الظاهر عنوان الاتّصاف والتقيّد بين الجزء ، فيقال : ( إذا ثبت عدم الكرّيّة وثبتت الملاقاة في زمان واحد واقعا فيحكم بالانفعال ).

فعلى الأوّل : لا يجري استصحاب بقاء الجزء في جميع الصور ؛ لأنّه يفترض تقيّده بزمان الجزء الآخر بهذا العنوان ، وهذا التقيّد لا يثبت بالاستصحاب ، وقد شرطنا منذ البداية في جريان استصحاب الجزء في باب الموضوعات المركّبة عدم أخذ التقيّد بين أجزائها في موضوع الحكم.

فعلى الأوّل بأن كان الحكم الشرعي مترتّبا على عنوان اتّصاف وتقيّد عدم الكرّيّة بزمان الملاقاة ، فهذا لا ينفع فيه إجراء استصحاب ذات الجزء في الصور الثلاث ؛ وذلك لأنّ استصحاب ذات الجزء إنّما يثبت به الجزء فقط ، أي عدم الكرّيّة ولا يثبت به عدم الكرّيّة المتّصف والمقيّد بزمان الملاقاة ، والمفروض أنّ الحكم مترتّب على عنوان التقيّد والاتّصاف لا على ذات الجزء ، وهذا معناه أنّه لا أثر شرعي لاستصحاب ذات الجزء فلا يجري.

وإن أريد التوصّل باستصحاب ذات الجزء إلى إثبات كون هذا الجزء متّصفا ومقيّدا بزمان الملاقاة ، فهذا يتمّ من خلال الملازمة العقليّة فيكون الاستصحاب من الأصل المثبت فلا يجري.

وهذا تقدّم سابقا حيث اشترطنا في جريان استصحاب الجزء في الموضوعات المركّبة ألاّ يكون الحكم مترتّبا على العنوان المنتزع والمتحصّل الذي هو عنوان الاتّصاف أو التقيّد.

وعلى الثاني : لا يجري استصحاب بقاء الجزء فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوما ولنفرضه الظهر ؛ لأنّ استصحاب بقائه إلى زمان وجود الملاقاة - التي هي الجزء الآخر في المثال - إن أريد به استصحاب بقائه إلى الزمان المعنون بأنّه زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، فهذا الزمان بهذا العنوان وإن كان يشكّ في بقاء عدم الكرّيّة إلى حينه ، ولكنّ المفروض أنّه لم يؤخذ عدم الكرّيّة في موضوع الحكم مقيّدا بالوقوع في زمان الجزء الآخر بما هو كذلك.

وعلى الثاني بأن كان الحكم مترتّبا على عدم الكرّيّة الثابت في واقع زمان الملاقاة

ص: 388

من دون تقيّد واتّصاف أحدهما بالآخر ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّ استصحاب عدم الكرّيّة في صورة العلم بزمان ارتفاعه لا يجري.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب بقاء القلّة أو عدم الكرّيّة - الذي يعلم بزمان ارتفاعه كالظهر مثلا - إن أريد به إثبات بقاء القلّة وعدم الكرّيّة إلى الزمان المتّصف والمقيّد بأنّه زمان الملاقاة واقعا والذي يشكّ فيه لأنّه مجهول ، فزمان الملاقاة - حيث إنّه مجهول فيحتمل تقدّمه أو تأخّره أو مقارنته لزمان ارتفاع القلّة وعدم الكرّيّة - وإن كان يصدق عنوان الشكّ في بقاء عدم الكرّيّة إلى حين تحقّق الملاقاة واقعا ، إلا أنّ رفع اليد عن عدم الكرّيّة يحتمل فيه أن يكون من باب رفع اليد عن اليقين باليقين لا الشكّ من جهة العلم بزمان ارتفاعه المحتمل أن يكون قبل تحقّق الملاقاة ، وبالتالي لا يصدق كونه من باب رفع اليد عن اليقين بالشكّ ، وقد تقدّم سابقا أنّه إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة باليقين ولو احتمالا كفى ذلك في المنع عن جريان الاستصحاب.

ولا يمكننا هنا أن نجري استصحاب عدم الكرّيّة إلى حين زمان الملاقاة بما هو مقيّد ومتّصف به ؛ لأنّه خلاف الفرض ، إذ المفروض هنا أنّ الحكم ليس مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بالآخر.

وإن أريد به استصحاب بقائه إلى واقع زمان الملاقاة على نحو يكون قولنا : ( زمان الملاقاة ) مجرّد مشير إلى واقع ذلك الزمان ، فهذا هو موضوع الحكم ، ولكن واقع هذا الزمان يحتمل أن يكون هو الزوال للتردّد في زمان الملاقاة ، والزوال زمان يعلم فيه بارتفاع عدم الكرّيّة ، فلا يقين إذن بثبوت الشكّ في البقاء في الزمان الذي يراد جرّ المستصحب إليه.

وإن أريد باستصحاب عدم الكرّيّة أو القلّة إلى واقع زمان الملاقاة من دون التقيّد والاتّصاف بينهما ، فهذا وإن كان صحيحا في نفسه لأنّ موضوع الحكم الشرعي هو ثبوت عدم الكرّيّة في واقع زمان الملاقاة بحيث يكون عنوان ( زمان الملاقاة ) عنوانا مشيرا إلى الزمان الواقعي ، إلا أنّ واقع زمان الملاقاة مردّد بين زمانين قبل الزوال وبعده ، وهذا التردّد يعني أنّ زمان الملاقاة لو فرض كونه هو الزوال أيضا فهذا معناه عدم تحقّق موضوع الحكم الشرعي ؛ لأنّ الزوال هو الزمان الذي يعلم فيه بارتفاع عدم الكرّيّة ،

ص: 389

وبالتالي لا يصدق عنوان الشكّ في البقاء ولا يجري الاستصحاب للعلم بالارتفاع حين الزوال ، فيصدق عنوان نقض الحالة السابقة المتيقّنة باليقين لا بالشكّ.

ولو فرض أنّ زمان الملاقاة هو قبل الزوال فاستصحاب عدم الكرّيّة إلى هذا الزمان الواقعي تامّ الأركان ؛ لأنّه يصدق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ.

وحيث إنّ الأمر مردّد بين نقض اليقين باليقين أو نقضه بالشكّ ، فلا يصدق جزما نقض اليقين بالشكّ والذي هو مورد جريان الاستصحاب ؛ لاحتمال كونه من نقض اليقين باليقين ، وقد تقدّم أنّ شرط جريان الاستصحاب كون رفع اليد عن الحالة السابقة من باب نقض اليقين بالشكّ لا باليقين ولو احتمالا أيضا.

وعلى هذا الضوء نعرف : أنّ ما ذهب إليه القول الثاني من عدم جريان استصحاب بقاء الجزء في صورة العلم بزمان ارتفاعه هو الصحيح بالبيان الذي حقّقناه.

ولكنّ هذا البيان يجري بنفسه أيضا في بعض صور مجهولي التاريخ ، كما إذا كان زمان التردّد فيهما متطابقا ، كما إذا كانت الملاقاة مردّدة بين الساعة الواحدة والثانية ، وكذلك ارتفاع عدم الكرّيّة بحدوث الكرّيّة ، فإنّ هذا يعني أنّ ارتفاع عدم الكرّيّة بحدوث الكرّيّة مردّد بين الساعة الأولى والثانية ، ولازم ذلك أن تكون الكرّيّة معلومة في الساعة الثانية على كلّ حال ، وإنّما يشكّ في حدوثها وعدمه في الساعة الأولى ، ويعني أيضا أنّ الملاقاة متواجدة إمّا في الساعة الأولى أو في الساعة الثانية ، فإذا استصحبت عدم الكرّيّة إلى واقع زمان تواجد الملاقاة فحيث إنّ هذا الواقع يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية ، يلزم على هذا التقدير أن نكون قد تعبّدنا ببقاء عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية مع أنّه معلوم الانتفاء في هذه الساعة.

وأمّا القول الثاني : الذي يرى جريان الاستصحاب في صورتين هما : صورة الجهل بتاريخ الملاقاة والارتفاع وصورة الجهل بتاريخ الارتفاع مع العلم بتاريخ الملاقاة ، وعدم جريانه في صورة العلم بزمان الارتفاع مع الجهل بزمان الملاقاة. فهو صحيح بالنسبة إلى عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوما وكان زمان الملاقاة مجهولا ، لنفس البيان الذي تقدّم في القول الأوّل.

ص: 390

وأمّا بالنسبة لجريان الاستصحاب في الصورتين الأوّليّين فلا يتمّ ؛ إذ في بعض شقوق مجهولي التاريخ لا يجري استصحاب عدم الكرّيّة ، كما اذا كان كلا الزمانين مجهولين ولكن نفرض أنّ زمان الملاقاة يحتمل تطابقه مع زمان الارتفاع ، كما إذا كان زمان الملاقاة مردّدا بين الساعة الأولى والثانية وكان زمان الارتفاع مردّدا أيضا بين هاتين الساعتين ، فإنّه يلزم من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الملاقاة إمّا متواجدة في الساعة الأولى وإمّا في الساعة الثانية.

الثاني : أنّ ارتفاع عدم الكرّيّة يعلم به في الساعة الثانية على كلّ تقدير ، أي سواء حصلت في الساعة الأولى أو في الثانية ، وهذا معناه أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة صار معلوما.

وحينئذ نقول : إنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة على نحوين :

فتارة يراد استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، فيكون الاتّصاف والتقيّد مأخوذا في الموضوع المركّب ، وفي مثل ذلك لا يجري استصحاب ذات الجزء كما تقدّم في بداية هذا البحث.

وأخرى يراد استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة من دون التقيّد والاتّصاف بهذا الزمان ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ، إلا أنّه يلزم منه أنّنا إذا أجرينا استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة فحيث من المحتمل أن يكون واقع زمان الملاقاة هو الساعة الثانية ؛ لأنّه مردّد بين الأولى والثانية ، وحيث إنّ الساعة الثانية يعلم فيها بارتفاع عدم الكرّيّة وحدوث الكرّيّة فيها ، فيكون هذا الاستصحاب يعبّدنا ببقاء عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية مع أنّه في هذه الساعة يعلم وجدانا بارتفاع عدم الكرّيّة وحدوث الكرّيّة فيها.

وبالتالي لا يكون رفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة - أي عدم الكرّيّة - من باب رفع اليد عن اليقين بالشكّ ، بل يحتمل أن يكون من باب رفع اليد عن اليقين باليقين ، وهذا الاحتمال كاف للمنع من جريان الاستصحاب كما تقدّم في محلّه.

وبذلك لا يمكن إجراء الاستصحاب بالنسبة لعدم الكرّيّة في مثل هذا الفرض ، والوجه في ذلك : كون الزمانين من المحتمل تطابقهما معا.

ومن هنا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه القول الثالث - من عدم جريان استصحاب بقاء

ص: 391

عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع هذا العدم معا - هو الصحيح.

وأمّا صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة فلا بأس بجريان استصحاب عدم الكرّيّة فيها إلى واقع زمان الملاقاة ، إذ لا علم بارتفاع هذا العدم في واقع هذا الزمان جزما.

وأمّا القول الثالث : الذي ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين أي زمان الملاقاة وزمان الارتفاع ، وفي صورة العلم بارتفاع عدم الكرّيّة مع الجهل بزمان الملاقاة هو الصحيح ؛ لما تقدّم آنفا من أنّ استصحاب عدم الكرّيّة في الصورتين المذكورتين إن أريد به إثبات عدم الكرّيّة المتّصف بزمان الملاقاة فهو لا يجري ؛ لأنّه من الأصل المثبت ، وإن أريد به إثبات عدم الكرّيّة في واقع زمان الملاقاة فهو لا يجري ؛ لأنّه من باب نقض اليقين باليقين ولو احتمالا.

وأمّا في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان عدم الكرّيّة فلا بأس بجريان استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة أي زمان الملاقاة بما هو كذلك ، وإلا لكان من الأصل المثبت ، وأمّا إثباته إلى واقع زمان الملاقاة فيجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّه لا يصدق عليه نقض اليقين باليقين ولو احتمالا ، بل هو من باب نقض اليقين بالشكّ قطعا ؛ لأنّ زمان الارتفاع أوسع من زمان الملاقاة ؛ إذ يحتمل أن يكون قبله أو بعده أو معه ، وحينئذ يكون رفع اليد عنه إلى زمان واقع الملاقاة من باب رفع اليد عن اليقين بالشكّ.

ولكنّنا نختلف عن القول الثالث في بعض النقاط ، فنحن مثلا نرى جريان استصحاب عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين ، مع افتراض أنّ فترة تردّد زمان الارتفاع أوسع من فترة تردّد حدوث الملاقاة في المثال المذكور ، فإذا كانت الملاقاة مردّدة بين الساعة الأولى والثانية ، وكان تبدّل عدم الكرّيّة بالكرّيّة مردّدا بين الساعات الأولى والثانية والثالثة ، فلا محذور في إجراء استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة ؛ لأنّه على أبعد تقدير هو الساعة الثانية ولا علم بالارتفاع في هذه الساعة لاحتمال حدوث الكرّيّة في الساعة الثالثة ، فليس من المحتمل أن

ص: 392

يكون جرّ بقاء الجزء إلى واقع زمان الجزء الآخر جرّا له إلى زمان اليقين بارتفاعه أبدا.

ولكن هناك اختلاف في بعض الشقوق والنقاط بين القول الثالث وبين ما نختاره.

فمثلا في صورة الجهل بالزمانين قلنا بعدم جريان الاستصحاب إلا أنّه في بعض الشقوق والفروض يمكن إجراؤه ، وذلك فيما إذا افترضنا أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة أوسع من زمان الملاقاة.

وتوضيحه : أنّنا إذا فرضنا أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة مردّد بين الساعة الأولى والثانية والثالثة ، وفرضنا أنّ زمان الملاقاة مردّد بين الساعة الأولى والثانية فقط ، أمكن جريان استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة ؛ وذلك لأنّ واقع زمان الملاقاة على أبعد تقدير هو الساعة الثانية ، وفي هذا الزمان لا يعلم بارتفاع عدم الكرّيّة ، لاحتمال أن يكون الارتفاع قد حدث في الساعة الثالثة ، فيكون رفع اليد عن عدم الكرّيّة يصدق عليه أنّه من باب نقض اليقين بالشكّ لا باليقين ولو احتمالا.

وحينئذ يجري الاستصحاب في صورة مجهولي التاريخ في بعض شقوقها.

والحاصل : أنّ استصحاب عدم الكرّيّة لا يجري حتما في صورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة مع الجهل بزمان الملاقاة ، ويجري حتما في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة.

وأمّا في صورة الجهل بالزمانين فيجري في بعض الفروض ولا يجري في البعض الآخر ، والضابط لذلك أنّ زمان الارتفاع أنّ فرض كونه أوسع من زمان الملاقاة جرى الاستصحاب ، وأنّ فرض كونه أضيق أو مساويا لزمان الملاقاة لم يجر الاستصحاب.

* * *

ص: 393

ص: 394

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين

اشارة

ص: 395

ص: 396

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين

بقي علينا أن نشير إلى أنّ ما اخترناه وإن كان قريبا جدّا من القول الثالث الذي ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) ، غير أنّه - قدّس اللّه نفسه - قد فسّر موقفه واستدلّ على قوله ببيان يختلف بظاهره عمّا ذكرناه ، إذ قال : ( بأنّ استصحاب عدم الكرّيّة إنّما لا يجري في حالة الجهل بالزمانين ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ).

تنبيه : هذا التنبيه يعقده السيّد الشهيد لبيان الشبهة التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) وهي التي تسمّى بشبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين.

وحاصله أن يقال : تقدّم أنّ الصحيح عندنا هو عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة ، وأمّا في صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، وهذا كان رأي صاحب ( الكفاية ) ولكنّنا نختلف معه في بعض النقاط والشقوق كما ذكرنا آنفا.

إلا أنّ هناك فارقا آخر بين مختارنا ومختار صاحب ( الكفاية ) ، فإنّه ذهب إلى مختاره بناء منه على أنّ عدم جريان الاستصحاب في صورة الجهل بالزمانين كان لأجل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين حيث قال : ( إنّ استصحاب عدم الكرّيّة إنّما لا يجري في حالة الجهل بالزمانين ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ) بخلاف ما ذكرناه نحن من توجيه عدم جريان الاستصحاب في هذه الحالة ؛ لأنّه إما يكون من الأصل المثبت أو من باب نقض اليقين باليقين ولو احتمالا ، ولهذا يمكننا جعل ضابطة عامّة وهي : أنّ زمان الارتفاع إذا كان أوسع من زمان التردّد جرى الاستصحاب بخلاف ما إذا كان مساويا أو أقلّ.

ص: 397

وعلى كلّ حال فقد وقع كلامه محلاّ للأخذ والردّ بينهم ، نتيجة الاختلاف في تفسير مراده من ذلك ، وهنا يوجد تفسيران لكلامه ، أو بتعبير آخر يوجد توضيحان لتطبيق كلامه على صورة الجهل بالزمانين ، وإلا فإن ثبت كون الزمانين منفصلين تماما فلا معنى لجريان الاستصحاب ، ولذلك فالكلام إنّما هو في الصغرى والتطبيق ، بمعنى أنّ انفصال الزمانين هل هو متحقّق في محلّ كلامنا أو لا؟

وقد فسّر هذا الكلام بما يمكن توضيحه كما يلي :

إذا افترضنا أنّ الماء كان قليلا قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان ، حدثت في إحداهما الكرّيّة وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة ، فهذا يعني أنّ كلاّ من حدوث الكرّيّة والملاقاة معلوم في إحدى الساعتين بالعلم الاجمالي ، فهناك معلومان إجماليّان وإحدى الساعتين زمان أحدهما والساعة الأخرى زمان الآخر.

وعليه فالملاقاة المعلومة إذا كان قد حدثت في الساعة الثانية فقد حدثت الكرّيّة المعلومة في الساعة الأولى ، واستصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة على هذا التقدير يعني أنّ زمان الشكّ الذي يراد جرّ عدم الكرّيّة إليه هو الساعة الثانية ، وزمان اليقين بعدم الكرّيّة هو ما قبل الزوال ، وأمّا الساعة الأولى فهي زمان الكرّيّة المعلومة إجمالا.

وهذا يؤدّي إلى انفصال زمان اليقين بعدم الكرّيّة عن زمان الشكّ فيه بزمان اليقين بالكرّيّة ، وما دام هذا التقدير محتملا فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

التفسير الأوّل لكلام صاحب ( الكفاية ) : ففي مثال الكرّيّة والملاقاة نقول : إذا علمنا بعدم الكرّيّة أو بقلّة الماء عند الزوال ، ثمّ مرّت ساعتان على الزوال حصل فيهما الكرّيّة والملاقاة ولكنّنا لا نعلم متى حصلت كلّ واحدة منهما؟ فالكرّيّة والملاقاة معلومتان ولكن تاريخهما مجهول ، فإحدى الساعتين زمان للكرّيّة والساعة الأخرى زمان للملاقاة ، وهذا معلوم إجمالا ؛ لأنّه لا يعلم الزمان بالتحديد.

وفي مثل هذه الحالة يوجد لنا احتمالان :

الأوّل : أن يكون زمان الملاقاة في الساعة الأولى بعد الزوال وزمان الكرّيّة في الساعة الثانية ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة أو القلّة المعلومة يقينا قبل الزوال وعنده

ص: 398

إلى زمان الملاقاة ، ينتج أثرا شرعيّا وهو انفعال الماء بالنجاسة ، ومثل هذا الاستصحاب لا إشكال في جريانه لاتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ إذ لم يفصل شيء بين الزمانين.

الثاني : أن يكون زمان الملاقاة في الساعة الثانية من الزوال وزمان الكرّيّة الساعة الأولى ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة المتيقّنة عند الزوال إلى حين الملاقاة في الساعة الثانية لا يجري ؛ وذلك لأنّه قد فصل بين هذين الزمانين بحدوث الكرّيّة في الساعة الأولى للزوال ، ممّا يعني عدم اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ ، ومع انفصالهما وعدم اتّصالهما لا يجري الاستصحاب.

وحيث إنّ كلا الاحتمالين وارد للعلم الإجمالي وعدم وجود المرجّح ، فلا أقلّ من احتمال عدم اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ ، وهذا يكفي لمنع جريان الاستصحاب ؛ لأنّه يشترط فيه إحراز اتّصال الزمانين ليصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ ، فمع هذا الاحتمال يكون المورد من موارد الشبهة المصداقيّة.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ الساعة الأولى على هذا التقدير هي زمان الكرّيّة واقعا لا زمان الكرّيّة المعلومة بما هي معلومة ؛ لأنّ العلم بالكرّيّة كان على نحو العلم الإجمالي من ناحية الزمان وهو علم بالجامع ، فلا احتمال للانفصال إطلاقا.

ويرد على هذا التفسير إشكالان :

الأوّل : أنّ ما ذكر من احتمال الانفصال لو كانت الملاقاة في الساعة الثانية والكرّيّة في الساعة الأولى غير تامّ ، وذلك لأنّ الانفصال الذي يكون مانعا هو الوجود الواقعي مع العلم به لا الوجود الواقعي فقط.

فمثلا إذا علمنا تفصيلا بكون زمان الكرّيّة هو الساعة الأولى فيكون زمان الشكّ منفصلا عن زمان اليقين ؛ لأنّ عدم الكرّيّة الثابتة قبل الزوال أو عنده عند ما يراد استصحاب بقائها إلى الساعة الثانية التي هي ساعة الملاقاة ، فهذا سوف يتخلّله العلم بالكرّيّة في الساعة الأولى ؛ لأنّها موجودة واقعا ويعلم بها ، وبذلك ينقطع استصحاب عدم الكرّيّة عند الساعة الأولى للعلم بوجودها الواقعي.

وأمّا إذا كانت الكرّيّة موجودة واقعا ولكنّ المكلّف لم يعلم بها ، فهنا لا مانع عنده

ص: 399

من جريان استصحاب عدم الكرّيّة الثابت قبل الزوال إلى زمان الملاقاة أي إلى الساعة الثانية ، وهذا سوف يتخلّله الوجود الواقعي للكرّيّة إلا أنّه لا يضر في الاستصحاب ؛ لأنّ الوجود الواقعي يجتمع مع الشكّ ، فيصدق أنّه في الساعة الأولى شاكّ في الكرّيّة أيضا ، ولذلك لا يكون هناك انفصال ، بل الاتّصال موجود حتّى لو كانت الكرّيّة موجودة واقعا ما دام لم يعلم بها.

ففي مقامنا العلم الإجمالي ليس علما تفصيلا ؛ لأنّه علم بالجامع وشكّ في الفرد ، فهو علم يجتمع مع الشكّ ؛ لأنّ العلم متعلّق بالجامع والشكّ متعلّق بالواقع أي بالفرد ، وعليه فالكرّيّة على الفرض المذكور وإن كانت موجودة في الساعة الأولى ، إلا أنّها ليست معلومة بالتفصيل في هذه الساعة ؛ لأنّ العلم هنا إجمالي لا تفصيلي ، وهذا يعني أنّ العلم بها إجمالا في هذه الساعة يجتمع مع الشكّ بها أيضا ، ولذلك لن يتحقّق الانفصال بل الاتّصال موجود.

وبتعبير آخر : أنّ العلم التفصيلي بوجود الكرّيّة في الساعة الأولى يزيل الشكّ بها ، ومع زوال الشك ينقطع الاتّصال بين زمان المتيقّن وزمان المشكوك ، ولكنّ العلم الإجمالي بوجودها في هذه الساعة لا يزيل الشكّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي يجتمع مع الشكّ والتردّد والحيرة ، ومع عدم زوال الشكّ فالاتّصال بين الزمانين لا ينقطع أصلا ، وهذا الإيراد حلّي.

وثانيا : أنّ البيان المذكور لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتّى في الصورة التي اختار صاحب ( الكفاية ) جريان الاستصحاب فيها ، وهي صورة الجهل بزمان حدوث الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة وأنّه الساعة الثانية مثلا ؛ لأنّ الكرّيّة معلومة بالإجمال في هذه الصورة ويحتمل انطباقها على الساعة الأولى ، فإذا كان انطباق الكرّيّة المعلومة بالإجمال على زمان يوجب تعذّر استصحاب عدم الكرّيّة إلى ما بعد ذلك الزمان ، جرى ذلك في هذه الصورة أيضا وتعذّر استصحاب عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية ، لاحتمال الفصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ بزمان العلم بالكرّيّة.

ويرد ثانيا بالنقض :

فإنّنا لو قبلنا مقالة صاحب ( الكفاية ) في مجهولي التاريخ ومنعنا من جريان

ص: 400

الاستصحاب بسبب وجود احتمال انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ وعدم إحراز اتّصالهما ، للزم المنع عن جريان الاستصحاب أيضا في صورة الجهل بزمان الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة ، وهي الصورة التي

اختار فيها صاحب ( الكفاية ) جريان استصحاب عدم الكرّيّة فيها إلى زمان الملاقاة.

والوجه في ذلك هو : أنّه في صورة الجهل بزمان الكريّة مع العلم بزمان الملاقاة ، وأنّه في الساعة الثانية مثلا ، فهنا لدينا احتمالان :

الأوّل : أن تكون الكرّيّة المجهولة حادثة فيما بعد الساعة الثانية أي بعد زمان الملاقاة ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب عدم الكرّيّة الثابت قبل أو عند الزوال إلى زمان الملاقاة فيحكم بالانفعال ، وهذا الاستصحاب يجري لأنّ زمان اليقين متّصل بزمان الشكّ.

الثاني : أن تكون الكرّيّة المجهولة حادثة قبل الساعة الثانية أي قبل زمان الملاقاة ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية قد تخلّله وجود الكرّيّة ، فينقطع الاتّصال بين الزمانين ، وما دام كلا الاحتمالين واردا فلا يعلم بالاتّصال بين الزمانين فيكون من الشبهة المصداقيّة.

ولكنّ صاحب ( الكفاية ) قبل في هذه الصورة جريان استصحاب عدم الكرّيّة بينما لم يقبله في مجهولي التاريخ ، مع أنّ المانع لو كان هو وجود الكرّيّة الواقعي فهو مانع في المقامين ؛ لأنّ احتمال سبق وجودها الواقعي على زمان الملاقاة موجود في الصورتين ، ومع الاحتمال لا يحرز الاتّصال ، ولو كان المانع هو الوجود الواقعي المعلوم فهو غير موجود في الصورتين معا ؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع لا بالواقع ولذلك فهو يجتمع مع الشكّ والتردّد دون العلم التفصيلي.

وهناك تفسير آخر لكلام صاحب ( الكفاية ) أكثر انسجاما مع عبارته :

ولنأخذ المثال السابق لتوضيحه ، وهو الماء الذي كان قليلا قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان حدثت في إحداهما الكرّيّة وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة ، وحاصل التفسير : أنّ ظرف اليقين بعدم الكرّيّة في هذا المثال هو ما قبل الزوال ، وظرف الشكّ مردّد بين الساعة الأولى بعد الزوال والساعة الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّيّة له اعتباران :

ص: 401

فتارة نأخذه بما هو مقيس إلى قطعات الزمان وبصورة مستقلّة عن الملاقاة ، وأخرى نأخذه بما هو مقيس إلى زمان الملاقاة ومقيّد به.

التفسير الثاني لكلام صاحب ( الكفاية ) : أنّنا إذا أخذنا المثال السابق أي العلم بعدم الكرّيّة قبل الزوال ثمّ العلم بعد الزوال بحصول الكرّيّة وبحصول الملاقاة ، ولكن لا يعلم زمانهما بالتحديد ، ولا يعلم المتقدّم منهما والمتأخّر ، فأحدهما حدث إمّا الساعة الأولى وإمّا الساعة الثانية ، والآخر كذلك ، فهنا لدينا يقين وشكّ.

أمّا اليقين فهو اليقين بعدم الكرّيّة وهذا ظرفه قبل الزوال.

وأمّا الشكّ فهو مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية بعد الزوال ، فظرف الشكّ وإن كان بعد الزوال يقينا لكنّه مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّيّة له اعتباران :

أحدهما : أن يؤخذ عدم الكرّيّة بما هو في عمود الزمان ، أي بما هو مضاف إلى عمود الزمان والقطعات الزمانيّة بقطع النظر عن الملاقاة ، فهنا عدم الكرّيّة مقيس إلى الزمان مطلقا.

والآخر : أن يؤخذ عدم الكرّيّة بما هو مضاف إلى الملاقاة ومقيّد بزمان الملاقاة ، وهنا عدم الكرّيّة مضاف إلى حصّة خاصّة من الزمان وهي زمان الملاقاة.

والاستصحاب الذي نريد إجراءه هو استصحاب عدم الكرّيّة الذي يترتّب عليه الأثر الشرعي ويكون منجّزا لا مطلقا حتّى ولو لم يكن له أثر أصلا.

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة الاستصحاب في كلّ من هذين الاحتمالين ، فنقول :

فإذا أخذناه بالاعتبار الأوّل ، وجدنا أنّ الشكّ فيه موجود في الساعة الأولى وهي متّصلة بزمان اليقين مباشرة ، فبالإمكان أن نستصحب عدم الكرّيّة إلى نهاية الساعة الأولى ، ولكن هذا لا يفيدنا شيئا ؛ لأنّ الحكم الشرعي وهو انفعال الماء ليس مترتّبا على مجرّد عدم الكرّيّة ، بل على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة.

أمّا الاحتمال الأوّل : وهو ما إذا لاحظنا عدم الكرّيّة منسوبا ومضافا ومقيسا إلى قطعات الزمان أي إلى عمود الزمان بقطع النظر عن الملاقاة ، فهنا نجد أنّ الشكّ في عدم الكرّيّة موجود في الساعة الأولى ؛ لأنّنا لا نعلم بحدوث الكرّيّة في هذه الساعة ، وإنّما نعلم إجمالا بحدوث الكرّيّة المردّد بين الساعة الأولى والثانية ، فحدوثها في

ص: 402

الساعة الأولى إذن مشكوك ، والساعة الأولى متّصلة بما قبلها ، أي أنّ زمان الشكّ وهو الساعة الأولى متّصل بزمان اليقين وهو عدم الكرّيّة إلى الزوال ، وحينئذ لا مانع من جريان الاستصحاب لإثبات عدم الكرّيّة تعبّدا في الساعة الأولى بعد الزوال.

إلا أنّ هذا الاستصحاب لا يفيد في ترتيب الأثر الشرعي وهو انفعال الماء وتنجّسه ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على الانفعال إنّما يفترضه في صورة عدم الكرّيّة مع الملاقاة لا في صورة عدم الكرّيّة مطلقا وإن لم يكن هناك ملاقاة أصلا ، وهذا معناه أنّ هذا الاستصحاب لا يترتّب عليه أثر شرعي فيمتنع جريانه لذلك.

وهكذا أيضا لا يمكننا ترتيب الأثر الشرعي من جهة استصحاب عدم الملاقاة في الساعة الأولى ؛ وذلك لأنّ زمان الملاقاة وإن كان معلوما يقينا في الساعة الثانية ؛ لأنّ الملاقاة مردّدة بين الساعة الأولى أو الثانية بنحو مانعة الخلو ، فإذا كانت في الأولى فهي موجودة في الثانية بقاء ، وإذا كانت في الثانية فهي موجودة فيها حدوثا ، ولذلك فهي معلومة يقينا في الساعة الثانية ، ولكنّ هذا المقدار لا يفيد ؛ لأنّه قبل الساعة الثانية يفترض الشكّ فيها فيجري استصحاب عدمها ، وهذا معناه أنّه في الساعة الأولى تثبت عدم الملاقاة بالاستصحاب ، ويثبت بالاستصحاب الذي ذكرناه قبل قليل عدم الكرّيّة ، فلم يتحقّق موضوع الحكم الشرعي أيضا.

وإذا أخذنا عدم الكرّيّة بالاعتبار الثاني أي مقيسا ومنسوبا إلى زمان الملاقاة ، فمن الواضح أنّ الشكّ فيه إنّما يكون في زمان الملاقاة ، إذ لا يمكن الشكّ قبل زمان الملاقاة في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة ، وإذا تحقّق أنّ زمان الملاقاة هو زمان الشكّ ترتّب على ذلك أنّ زمان الشكّ مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية تبعا لتردّد نفس زمان الملاقاة في الساعتين ، وهذا يعني عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ؛ لأنّ زمان اليقين ما قبل الزوال وزمان الشكّ محتمل الانطباق على الساعة الثانية ، ومع انطباقه عليها يكون مفصولا عن زمان اليقين بالساعة الأولى.

وأمّا الاحتمال الثاني : وهو ملاحظة عدم الكرّيّة مضافا ومقيسا إلى زمان الملاقاة ، والذي هو موضوع الحكم الشرعي بالانفعال ؛ لأنّه متى ما تحقّقت الملاقاة وعدم الكرّيّة معا حصل الانفعال.

ص: 403

فهنا نجد أنّ تحقّق الشكّ في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة لا يمكن أن يتحقّق قبل زمان الملاقاة ، بل لا بدّ من تحقّقه في ظرفه لكي يترتّب الأثر الشرعي المطلوب ، وهذا معناه أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة لا بدّ أن يكون موجودا في زمان الملاقاة ، ولكن زمان الملاقاة مردّد بين الساعة الأولى والثانية ، ممّا يعني أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة مردّد أيضا في هذين الزمانين أيضا تبعا لتردّد زمان الملاقاة فيهما.

وحينئذ يحتمل أن يكون زمان الملاقاة وبالتالي زمان الشكّ في عدم الكرّيّة هو الساعة الأولى ، كما يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية.

فإن كان زمانهما الساعة الأولى فهذا معناه أنّ زمان الشكّ متّصل بزمان اليقين ولم يفصل بينهما شيء ، فيجري استصحاب عدم الكرّيّة المضاف والمنسوب إلى الملاقاة في الساعة الأولى ، فيثبت أنّ الملاقاة حصلت في الساعة الأولى وعدم الكرّيّة بالاستصحاب أيضا موجود في الساعة الأولى.

وأمّا إن كان زمانهما الساعة الثانية فهذا يعني أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة قد انفصل عن زمان اليقين بها ؛ لأنّ اليقين بعدم الكرّيّة إنّما هو إلى الزوال فقط والشكّ فيها في الساعة الثانية ، ممّا يعني أنّه في الساعة الأولى قد حصلت الكرّيّة فانفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين.

وبما أنّنا نحتمل كلا هذين الأمرين بسبب التردّد في حدوث الكرّيّة والملاقاة بين الساعة الأولى والثانية ، وحيث إنّ أحد الاحتمالين على تقديره لا يجري الاستصحاب ، فنحن نحتمل عدم جريان الاستصحاب من جهة عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين على أحد التقديرين.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ الأثر الشرعي إذا كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بالملاقاة أي على اجتماع أحدهما بالآخر ، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ الشكّ في هذا العدم المقيّد بالملاقاة لا يكون إلا في زمان الملاقاة ، وأمّا الشكّ - قبل زمان الملاقاة - في عدم الكرّيّة فهو ليس شكّا في عدم الكرّيّة المقيّد بالملاقاة.

ولكنّ الصحيح أنّ الأثر الشرعي مترتّب على عدم الكرّيّة والملاقاة بنحو

ص: 404

التركيب بدون أخذ التقيّد والاجتماع ، وإلا لما جرى استصحاب عدم الكرّيّة رأسا كما تقدّم ، وهذا يعني أنّ عدم الكرّيّة بذاته جزء الموضوع.

الإيراد الأوّل على التفسير الثاني :

أنّنا نسلّم كون الأثر الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ، أي بما هو مضاف ومنسوب ومقيس إلى الملاقاة لا في مطلق الزمان ، وهذا معناه أنّه لا بدّ من اجتماع عدم الكرّيّة والملاقاة معا.

ومن هنا قد يقال بأنّ معنى اجتماعهما معا هو كون عدم الكرّيّة مقيّدا بالملاقاة ، وحينئذ يأتي ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمان الملاقاة لا يمكن أن يتحقّق إلا في زمان الملاقاة لا قبلها.

فإذا شكّ في عدم الكرّيّة قبل زمان الملاقاة ، فهذا الشكّ ليس شكّا في عدم الكرّيّة المقيّد في زمان الملاقاة ليجري استصحابه ؛ لأنّ عدم الكرّيّة إن لم يكن في زمان الملاقاة فلا يترتّب عليه الأثر الشرعي.

وإذا كان عدم الملاقاة مشكوكا في نفس زمان الملاقاة ، فحيث إنّ زمان الملاقاة مردّد بين الساعتين الأولى والثانية فيحتمل حينئذ انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ ، وبالتالي لا يحرز الاتّصال فلا يجري الاستصحاب أيضا.

إلا أنّ هذا القول مبني على أن يكون اجتماع عدم الكرّيّة مع الملاقاة بنحو التقييد والتقيّد ، وهذا غير تامّ في نفسه ، وإنّما هو بمعنى التركيب بين الجزءين ، أي وجود الجزءين ذاتهما من دون تقيّد أحدهما بالآخر.

والوجه في ذلك : ما تقدّم سابقا من أنّه لو كان عنوان التقيّد أو أي عنوان انتزاعي آخر مأخوذا في الموضوع ، فلا يمكن إثباته باستصحاب ذات الجزء ؛ لأنّه لا يثبت التقيّد إلا بالملازمة فيكون من الأصل المثبت ، أو من نقض اليقين باليقين كما تقدّم ، وحينئذ يمتنع جريان الاستصحاب في تمام الصور والفروض.

فالصحيح إذن كون ذات عدم الكرّيّة أحد الجزءين وذات الملاقاة الجزء الآخر من دون أخذ شيء آخر معهما.

وعلى هذا فنقول :

[ و ] لا فرق في ذلك بين ما كان منه في زمان الملاقاة أو قبل زمانها ، غير أنّه في

ص: 405

زمانها يكون الجزء الآخر موجودا أيضا ، وعليه فعدم الكريّة مشكوك منذ الزوال وإلى زمان الملاقاة.

وإن كان الأثر الشرعي لا يترتّب فعلا إلا إذا استمرّ هذا العدم إلى زمان الملاقاة ، فيجري استصحاب عدم الكرّيّة من حين ابتداء الشكّ في ذلك الزمان الواقعي للملاقاة ، وبهذا نثبت بالاستصحاب عدما للكرّيّة متّصلا بالعدم المتيقّن ، وإن كان الأثر الشرعي لا يترتّب على هذا العدم إلا في مرحلة زمنيّة معيّنة قد تكون متأخّرة عن زمان اليقين.

بعد أن أثبتنا أنّ ذات الجزءين هو الموضوع للأثر الشرعي فنقول : إنّ عدم الكرّيّة لمّا كان بذاته جزء الموضوع ، فلا فرق فيه بين ما إذا كان في زمان الملاقاة ابتداء ، وبين ما إذا كان سابقا على زمان الملاقاة ولكنّه يبقى إلى زمان الملاقاة ، فهنا نحوان :

الأوّل : أن يثبت عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ابتداء ، إمّا بالعلم به وإمّا بالاستصحاب.

الثاني : أن يثبت عدم الكرّيّة قبل زمان الملاقاة ولكنّنا نجري الاستصحاب فيه إلى زمان الملاقاة فيكون في زمان الملاقاة موجودا أيضا.

وفي هذين النحوين يترتّب الأثر الشرعي ، غاية الأمر أنّه يترتّب في النحو الأوّل مباشرة ومن دون فاصل زمني ، بينما يترتّب في النحو الثاني في حين حصول الملاقاة لا من حين جريان استصحاب عدم الكرّيّة.

فمثلا عدم الكرّيّة الثابت قبل الزوال يمكن جريان استصحابه ؛ لأنّه مشكوك بعد الزوال ، وهذا يعني أنّنا نجرّ بقاء عدم الكرّيّة إلى حين تحقّق الملاقاة واقعا ، وحينئذ سوف يترتّب الأثر الشرعي بعد العلم بالملاقاة والذي يفرض كونه متأخّرا إلى الساعة الثانية ؛ لأنّه يعلم بالملاقاة فيها يقينا إمّا الآن وإمّا من الساعة الأولى وإلى الآن أيضا ، وباستصحاب عدم الكرّيّة إلى الزمان الواقعي للملاقاة سوف نثبت عدما للكرّيّة متّصلا بزمان العدم المتيقّن ؛ لأنّ زمان العدم المتيقّن هو ما قبل الزوال وهذا لم يفصل بينه وبين عدم الكرّيّة شيء ؛ لأنّها مشكوكة بعد الزوال من دون أن يفصل بينهما شيء ، وهذا العدم نجرّه ونبقيه إلى زمان الملاقاة ، فيتحقّق الأثر الشرعي من حين العلم بالملاقاة ، وهو وإن كان متأخّرا إلا أنّه لا يضرّ.

ص: 406

والوجه في ذلك هو :

فإنّ المناط اتّصال المشكوك الذي يراد إثباته استصحابا بالمتيقّن ، لا اتّصال فترة ترتب الأثر بالمتيقّن ، فإذا كنت على يقين من اجتهاد زيد فجرا ، وشككت في بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس ، ولم يكن الأثر الشرعي مترتّبا على اجتهاده عند الطلوع ، إذ لم يكن عادلا وإنّما أصبح عادلا بعد ساعتين ، أفلا يجري استصحاب الاجتهاد إلى ساعتين بعد طلوع الشمس؟ فكذلك في المقام.

وبعد أن جرى الاستصحاب سوف يتأخّر ترتّب الأثر الشرعي عن الجزء المستصحب بانتظار حصول الجزء الآخر إلا أنّ هذا لا يضرّ ؛ وذلك لأنّ المناط في جريان الاستصحاب هو اتّصال المشكوك بالمتيقّن أي اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، لا اتّصال الأثر بالمتيقّن ؛ لأنّه مع انفصال المشكوك عن المتيقّن وعدم اتّصالهما فلن نحرز وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وأمّا الأثر فيشترط وجوده ، وأمّا كونه يترتّب مباشرة أو يتأخّر إلى حين حصول الجزء الآخر فهذا ليس شرطا.

ويدلّ على ذلك : أنّ الاستصحاب يجري في كثير من الأحيان مع كون الأثر متأخّرا عن المستصحب ، فمثلا إذا كنّا على يقين من اجتهاد زيد في الفجر ثمّ بعد طلوع الشمس شككنا في بقاء اجتهاده ، ولكن نفرض أنّ الأثر الشرعي المطلوب من استصحاب بقاء اجتهاده لا يترتّب إلا بعد ساعتين من طلوع الشمس ؛ لأنّه بعد ساعتين نعلم بأنّه عادل ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب بقاء الاجتهاد ، وبضمّه إلى العدالة الحاصلة بعد ساعتين يترتّب الأثر الشرعي كجواز تقليده مثلا ، مع أنّ هذا الأثر لم يترتّب على المستصحب مباشرة أي عند طلوع الشمس ؛ لأنّه زمان جريان الاستصحاب وإنّما يترتّب بعد ذلك بساعتين.

وفي مقامنا يقال كذلك ، فإنّ استصحاب عدم الكرّيّة وإن كان يثبت عدم الكرّيّة بعد الزوال ، إلا أنّ الأثر الشرعي لا يترتّب إلا بعد العلم بحصول الملاقاة ، وهذا إنّما يكون في الساعة الثانية ، وهذا لا مانع منه ما دام زمان المشكوك متّصلا بزمان المتيقّن حين إجراء الاستصحاب ، وهو هنا كذلك ، فإنّ عدم الكرّيّة المتيقّنة قبل الزوال والمشكوكة بعد الزوال زمانهما متّصل ولا انفصال فيه.

ثانيا : أنّ ما ذكر لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرّيّة فيما إذا كان

ص: 407

زمان حدوثها مجهولا مع العلم بتاريخ الملاقاة ، كما إذا كان عدم الكرّيّة وعدم الملاقاة معلومين عند الزوال وحدثت الملاقاة بعد ساعة ، ولا يدرى متى حدثت الكرّيّة ، فإنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة يجري عند صاحب ( الكفاية ) ، مع أنّه يواجه نفس الشبهة الآنفة الذكر ؛ لأنّ الشكّ في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة إنّما هو في زمان الملاقاة بحسب تصوّر هذه الشبهة أي بعد ساعة من الزوال ، مع أنّ زمان اليقين بعدم الكرّيّة هو الزوال.

الإيراد الثاني على التفسير الثاني :

أنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) على هذا التفسير لو تمّ فهو يتمّ أيضا في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان عدم الكرّيّة ، مع أنّه بنى فيها على جريان الاستصحاب ، والحال أنّ نفس الشبهة التي صوّرها هناك تأتي هنا أيضا.

وبيانه : أنّنا إذا كنّا نعلم بعدم الكرّيّة وبعدم الملاقاة قبل الزوال ، ثمّ عند الزوال حدثت الكرّيّة والملاقاة ولكن تاريخ الملاقاة معلوم وهو بعد الزوال بساعة مثلا ، وأمّا تاريخ الكرّيّة فهو مجهول ومردّد بين أن يكون قبل زمان الملاقاة أو بعده.

فهنا إذا كان زمان حدوث الكرّيّة بعد الملاقاة ، سوف يجري استصحاب عدم الكريّة المتيقّن قبل الزوال إلى زمان حدوث الملاقاة ؛ لأنّه في فترة الزوال وإلى ساعة حصول الملاقاة فهو مشكوك فيجري استصحابه ؛ لأنّ زمانه متّصل بزمان المتيقّن.

ولكن إذا كان زمان حدوث الكرّيّة قبل الملاقاة ، فهنا لن يجري استصحاب عدم الكريّة ؛ لأنّ هذا العدم يعلم بانتقاضه يقينا بحدوث الكرّيّة قبل الملاقاة ، واستصحابه في أوائل الزوال لا يفيد ؛ لأنّ الذي يفيد هو عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ، وهذا يحتمل انتقاضه بطروّ الكرّيّة فلم يتحقّق استصحاب عدم الكرّيّة المقيّد أو المنسوب إلى الملاقاة.

أو يقال بأنّ زمان الكرّيّة لمّا كان مجهولا ومردّدا بين كونه قبل زمان الملاقاة أو بعده ، فالذي ينفع استصحابه هو عدم الكرّيّة المنسوب والمقيّد بالملاقاة ، وهذا لا يكون إلا في زمان العلم بالملاقاة ، وهو بعد ساعة من الزوال ، وأمّا من حين الزوال وإلى تمام الساعة الأولى منه فهذا الزمان وإن كان يجري فيه استصحاب عدم الكرّيّة ، إلا أنّه لا يفيد ؛ لأنّه في هذه الفترة لا يترتّب الأثر الشرعي وإنّما يترتّب بعد الساعة الأولى الذي هو زمان الملاقاة.

ص: 408

وبهذا ظهر أنّ هذه الشبهة تمنع من جريان الاستصحاب في تمام الصور لو قيل بها.

ولا نرى حاجة للتوسّع أكثر من هذا في استيعاب نكات الاستصحاب في الموضوعات المركّبة.

كما أنّ ما تقدّم من بحوث الاستصحاب أحاط بالمهمّ من مسائله ، وهناك مسائل في الاستصحاب لم نتناولها بالبحث هنا - كالاستصحاب في الأمور التدريجيّة والأصل السببي والمسبّبي - وذلك اكتفاء بما تقدّم من حديث عن ذلك في الحلقة السابقة.

وبذلك نختم الكلام عن الأصول العمليّة.

* * *

ص: 409

ص: 410

الفهرس

الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر... 5

التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر... 7

1 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء... 11

البرهان الأوّل ... 14

البرهان الثاني ... 25

البرهان الثالث ... 29

البرهان الرابع ... 33

البرهان الخامس ... 36

البرهان السادس ... 39

2 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط... 43

3 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي... 53

4 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي... 61

5 - ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر... 71

1 - دور الاستصحاب في هذا الدوران... 73

2 - الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة... 76

3 - الأقلّ والأكثر في المحرّمات... 80

4 - الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر... 84

5 - الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط... 86

أ - الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان... 88

ب - الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر... 100

ص: 411

الاستصحاب... 107

أدلّة الاستصحاب... 109

الرواية الأولى ... 111

الرواية الثانية ... 113

الرواية الثالثة ... 141

الرواية الرابعة ... 162

الاستصحاب أصل أو أمارة... 165

كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب... 172

أركان الاستصحاب... 177

أ - اليقين بالحدوث... 180

ب - الشكّ في البقاء... 205

الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني ... 221

ج - وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة... 227

د - الأثر العملي... 247

مقدار ما يثبت الاستصحاب... 261

الأصل المثبت... 275

عموم جريان الاستصحاب... 283

تطبيقات استصحاب الحكم المعلّق... 303

1 - استصحاب الحكم المعلّق... 305

الاعتراض الأول... 308

الاعتراض الثاني ... 317

الاعتراض الثالث ... 320

2 - استصحاب عدم النسخ... 331

3 - استصحاب الكلّي... 339

القسم الأوّل له حالتان ... 348

القسم الثاني له حالتان أيضا ... 351

ص: 412

4 - الاستصحاب في الموضوعات المركّبة... 367

النقطة الأولى ... 371

النقطة الثانية ... 375

النقطة الثالثة ... 381

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين... 395

الفهرس... 411

ص: 413

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.